الي بلوجر

الي بلوجر في أي شريعة تهدر حقي كمدون بحذفك من مدونات {12} صفحة وبأي حق تسلك هذا المسلك في كل مدوناتي  كف عن ذلك وخاف من الله العلي القدير  وكفي اهدار لجهودي بغير وجه حق// To blogger, in what law do you waste my right as a blogger by deleting you from the blogs of {12} pages, and by what right do you take this path in all my blogs?

الخميس، 24 مارس 2022

3.تفسير ابن كثير/سورة آل عمران -١-

تفسير ابن كثير/سورة آل عمران 

{بسم الله الرحمن الرحيم}   [الم (1) ] قال الحافظ ابن كثير :
الم
وَصَدْرُهَا إِلَى ثَلَاث وَثَمَانِينَ آيَة مِنْهَا نَزَلَ فِي وَفْد نَجْرَان وَكَانَ قُدُومهمْ فِي سَنَة تِسْع مِنْ الْهِجْرَة كَمَا سَيَأْتِي بَيَان ذَلِكَ عِنْد تَفْسِير آيَة الْمُبَاهَلَة مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا وَرَدَ مِنْ فَضْلهَا مَعَ سُورَة الْبَقَرَة أَوَّل الْبَقَرَة. قَدْ اِخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة الَّتِي فِي أَوَائِل السُّوَر فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ مِمَّا اِسْتَأْثَرَ اللَّه بِعِلْمِهِ فَرَدُّوا عِلْمهَا إِلَى اللَّه وَلَمْ يُفَسِّرهَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره عَنْ أَبِي بَكْر وَعُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيّ وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَقَالَهُ عَامِر الشَّعْبِيّ وَسُفْيَان الثَّوْرِيّ وَالرَّبِيع بْن خُثَيْم وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِم بْن حِبَّان. وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا وَاخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَاهَا فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَم إِنَّمَا هِيَ أَسْمَاء السُّوَر . قَالَ الْعَلَّامَة أَبُو الْقَاسِم مَحْمُود بْن عُمَر الزَّمَخْشَرِيّ فِي تَفْسِيره وَعَلَيْهِ إِطْبَاق الْأَكْثَر وَنُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِ وَيُعْتَضَد لِهَذَا بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأ فِي صَلَاة الصُّبْح يَوْم الْجُمْعَة" الم " السَّجْدَة وَ " هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَان " وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَالَ : الم وحم والمص وص فَوَاتِح اِفْتَتَحَ اللَّه بِهَا الْقُرْآن وَكَذَا قَالَ غَيْره عَنْ مُجَاهِد وَقَالَ مُجَاهِد فِي رِوَايَة أَبِي حُذَيْفَة مُوسَى بْن مَسْعُود عَنْ شِبْل عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ الم اِسْم مِنْ أَسْمَاء الْقُرْآن وَهَكَذَا وَقَالَ قَتَادَةُ وَزَيْد بْن أَسْلَم وَلَعَلَّ هَذَا يَرْجِع إِلَى مَعْنَى قَوْل عَبْد الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن أَسْلَم أَنَّهُ اِسْم مِنْ أَسْمَاء السُّوَر فَإِنَّ كُلّ سُورَة يُطْلَق عَلَيْهَا اِسْم الْقُرْآن فَإِنَّهُ يَبْعُد أَنْ يَكُون المص اِسْمًا لِلْقُرْآنِ كُلّه لِأَنَّ الْمُتَبَادِر إِلَى فَهْمِ سَامِع مَنْ يَقُول قَرَأْت المص إِنَّمَا ذَلِكَ عِبَارَة عَنْ سُورَة الْأَعْرَاف لَا لِمَجْمُوعِ الْقُرْآن وَاَللَّه أَعْلَم . وَقِيلَ هِيَ اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى فَقَالَ عَنْهَا فِي فَوَاتِح السُّوَر مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَالَ سَالِم بْن عَبْد اللَّه وَإِسْمَاعِيل بْن عَبْد الرَّحْمَن السُّدِّيّ الْكَبِير وَقَالَ شُعْبَة عَنْ السُّدِّيّ بَلَغَنِي أَنَّ اِبْن عَبَّاس قَالَ الم اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه الْأَعْظَم . هَكَذَا رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ حَدِيث شُعْبَة وَرَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ بُنْدَار عَنْ اِبْن مَهْدِيّ عَنْ شُعْبَة قَالَ سَأَلْت السُّدِّيّ عَنْ حم وطس والم فَقَالَ قَالَ اِبْن عَبَّاس هِيَ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم وَقَالَ اِبْن جَرِير وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَان حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ إِسْمَاعِيل السُّدِّيّ عَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ قَالَ : قَالَ عَبْد اللَّه فَذَكَرَ نَحْوه . وَحُكِيَ مِثْله عَنْ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّه بِهِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى وَرَوَى اِبْن أَبِي حَاتِم وَابْن جَرِير مِنْ حَدِيث اِبْن عُلَيَّة عَنْ خَالِد الْحَذَّاء عَنْ عِكْرِمَة أَنَّهُ قَالَ الم قَسَم . وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ حَدِيث شَرِيك بْن عَبْد اللَّه بْن عَطَاء بْن السَّائِب عَنْ أَبَى الضُّحَى عَنْ اِبْن عَبَّاس : الم قَالَ أَنَا اللَّه أَعْلَم وَكَذَا قَالَ سَعِيد بْن جُبَيْر وَقَالَ السُّدِّيّ عَنْ أَبِي مَالِك وَعَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس وَعَنْ مُرَّة الْهَمْدَانِيّ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَعَنْ نَاس مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الم قَالَ أَمَّا الم فَهِيَ حُرُوف اُسْتُفْتِحَتْ مِنْ حُرُوف هِجَاء أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى . قَالَ وَأَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أَبِي الْعَالِيَة فِي قَوْله تَعَالَى الم قَالَ هَذِهِ الْأَحْرُف الثَّلَاثَة مِنْ التِّسْعَة وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا دَارَتْ فِيهَا الْأَلْسُن كُلّهَا لَيْسَ مِنْهَا حَرْف إِلَّا وَهُوَ مِفْتَاح اِسْم مِنْ أَسْمَائِهِ وَلَيْسَ مِنْهَا حَرْف إِلَّا وَهُوَ مِنْ آلَائِهِ وَبِأَلَائِهِ لَيْسَ مِنْهَا حَرْف إِلَّا وَهُوَ فِي مُدَّة أَقْوَام وَآجَالهمْ . قَالَ عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام وَعَجِبَ : فَقَالَ أَعْجَب أَنَّهُمْ يَظُنُّونَ بِأَسْمَائِهِ وَيَعِيشُونَ فِي رِزْقه فَكَيْفَ يَكْفُرُونَ بِهِ فَالْأَلِف مِفْتَاح اللَّه وَاللَّام مِفْتَاح اِسْمه لَطِيف وَالْمِيم مِفْتَاح اِسْمه مَجِيد فَالْأَلِف آلَاء اللَّه وَاللَّام لُطْف اللَّه وَالْمِيم مَجْدُ اللَّه وَالْأَلِف سَنَة وَاللَّام ثَلَاثُونَ سَنَة وَالْمِيم أَرْبَعُونَ سَنَة . هَذَا لَفْظ اِبْن أَبِي حَاتِم وَنَحْوه رَوَاهُ اِبْن جَرِير ثُمَّ شَرَعَ يُوَجِّه كُلّ وَاحِد مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَال وَيُوَفِّق بَيْنهَا وَأَنَّهُ لَا مُنَافَاة بَيْن كُلّ وَاحِد مِنْهَا وَبَيْن الْآخَر وَأَنَّ الْجَمْع مُمْكِن فَهِيَ أَسْمَاء لِلسُّوَرِ وَمِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى يَفْتَتِح بِهَا السُّوَر فَكُلّ حَرْف مِنْهَا دَلَّ عَلَى اِسْم مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَة مِنْ صِفَاته كَمَا اِفْتَتَحَ سُوَرًا كَثِيرَة بِتَحْمِيدِهِ وَتَسْبِيحه وَتَعْظِيمه قَالَ وَلَا مَانِع مِنْ دَلَالَة الْحَرْف مِنْهَا عَلَى اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه وَعَلَى صِفَة مِنْ صِفَاته وَعَلَى مُدَّة وَغَيْر ذَلِكَ كَمَا ذَكَرَهُ الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ أَبِي الْعَالِيَة لِأَنَّ الْكَلِمَة الْوَاحِدَة تُطْلَق عَلَى مَعَانِيَ كَثِيرَة كَلَفْظَةِ الْأُمَّة فَإِنَّهَا تُطْلَق وَيُرَاد بِهِ الدِّين كَقَوْلِهِ تَعَالَى " إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة " وَتُطْلَق وَيُرَاد بِهَا الرَّجُل الْمُطِيع لِلَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى " إِنَّ إِبْرَاهِيم كَانَ أُمَّة قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ " وَتُطْلَق وَيُرَاد بِهَا الْجَمَاعَة كَقَوْلِهِ تَعَالَى " وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّة مِنْ النَّاس يَسْقُونَ " وَقَوْله تَعَالَى " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّة رَسُولًا " وَتُطْلَق وَيُرَاد بِهَا الْحِين مِنْ الدَّهْر كَقَوْلِهِ تَعَالَى " وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْد أُمَّة " أَيْ بَعْد حِين عَلَى أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ قَالَ فَكَذَلِكَ هَذَا . هَذَا حَاصِل كَلَامه مُوَجَّهًا وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَالِيَة فَإِنَّ أَبَا الْعَالِيَة زَعَمَ أَنَّ الْحَرْف دَلَّ عَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا وَعَلَى هَذَا مَعًا وَلَفْظَة الْأُمَّة وَمَا أَشْبَهَهَا مِنْ الْأَلْفَاظ الْمُشْتَرَكَة فِي الِاصْطِلَاح إِنَّمَا دَلَّ فِي الْقُرْآن فِي كُلّ مَوْطِن عَلَى مَعْنًى وَاحِد دَلَّ عَلَيْهِ سِيَاق الْكَلَام فَأَمَّا حَمْله عَلَى مَجْمُوع مَحَامِله إِذَا أَمْكَنَ فَمَسْأَلَة مُخْتَلَف فِيهَا بَيْن عُلَمَاء الْأُصُول لَيْسَ هَذَا مَوْضِع الْبَحْث فِيهَا وَاَللَّه أَعْلَم . ثُمَّ إِنَّ لَفْظَة الْأُمَّة تَدُلّ عَلَى كُلّ مِنْ مَعَانِيهَا فِي سِيَاق الْكَلَام بِدَلَالَةِ الْوَضْع فَأَمَّا دَلَالَة الْحَرْف الْوَاحِد عَلَى اِسْم يُمْكِن أَنْ يَدُلّ عَلَى اِسْم آخَر مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون أَحَدهمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَر فِي التَّقْدِير أَوْ الْإِضْمَار بِوَضْعٍ وَلَا بِغَيْرِهِ فَهَذَا مِمَّا لَا يُفْهَم إِلَّا بِتَوْقِيفٍ وَالْمَسْأَلَة مُخْتَلَف فِيهَا وَلَيْسَ فِيهَا إِجْمَاع حَتَّى يُحْكَم بِهِ وَمَا أَنْشَدُوهُ مِنْ الشَّوَاهِد عَلَى صِحَّة إِطْلَاق الْحَرْف الْوَاحِد عَلَى بَقِيَّة الْكَلِمَة فَإِنَّ فِي السِّيَاق مَا يَدُلّ عَلَى مَا حُذِفَ بِخِلَافِ هَذَا كَمَا قَالَ الشَّاعِر : قُلْنَا قِفِي لَنَا فَقَالَتْ قَاف ... لَا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الْإِيجَاف تَعْنِي وَقَفْت . وَقَالَ الْآخَر : مَا لِلظَّلِيمِ عَالٍ كَيْفَ لَا يَ ... يَنْقُد عَنْهُ جِلْده إِذَا يَ فَقَالَ اِبْن جَرِير كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُول إِذَا يَفْعَل كَذَا وَكَذَا فَاكْتَفَى بِالْيَاءِ مَنْ يَفْعَل وَقَالَ الْآخَر : بِالْخَيْرِ خَيْرَات وَإِنْ شَرًّا فَا ... وَلَا أُرِيد الشَّرّ إِلَّا أَنْ تَ يَقُول وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا وَلَا أُرِيد الشَّرّ إِلَّا أَنْ تَشَاء فَاكْتَفَى بِالْفَاءِ وَالتَّاء مِنْ الْكَلِمَتَيْنِ عَنْ بَقِيَّتهمَا وَلَكِنَّ هَذَا ظَاهِر مِنْ سِيَاق الْكَلَام وَاَللَّه أَعْلَم . قَالَ الْقُرْطُبِيّ وَفِي الْحَدِيث " مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِم بِشَطْرِ كَلِمَة " الْحَدِيث قَالَ سُفْيَان هُوَ أَنْ يَقُول فِي اُقْتُلْ " اُقْ " وَقَالَ خُصَيْف عَنْ مُجَاهِد أَنَّهُ قَالَ فَوَاتِح السُّوَر كُلّهَا " ق وص وحم وَطسم والر " وَغَيْر ذَلِكَ هِجَاء مَوْضُوع وَقَالَ بَعْض أَهْل الْعَرَبِيَّة هِيَ حُرُوف مِنْ حُرُوف الْمُعْجَم اِسْتَغْنَى بِذِكْرِ مَا ذُكِرَ مِنْهَا فِي أَوَائِل السُّوَر عَنْ ذِكْر بِوَاقِيهَا الَّتِي هِيَ تَتِمَّة الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ حَرْفًا كَمَا يَقُول الْقَائِل اِبْنِي يَكْتُب فِي - ا ب ت ث - أَيْ فِي حُرُوف الْمُعْجَم الثَّمَانِيَة وَالْعِشْرِينَ فَيَسْتَغْنِي بِذِكْرِ بَعْضهَا عَنْ مَجْمُوعهَا حَكَاهُ اِبْن جَرِير . قُلْت مَجْمُوع الْحُرُوف الْمَذْكُورَة فِي أَوَائِل السُّوَر بِحَذْفِ الْمُكَرَّر مِنْهَا أَرْبَعَة عَشَر حَرْفًا وَهِيَ - ا ل م ص ر ك ه ي ع ط س ح ق ن - يَجْمَعهَا قَوْلك : نَصّ حَكِيم قَاطِع لَهُ سِرّ. وَهِيَ نِصْف الْحُرُوف عَدَدًا وَالْمَذْكُور مِنْهَا أَشْرَف مِنْ الْمَتْرُوك وَبَيَان ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَة التَّصْرِيف . قَالَ الزَّمَخْشَرِي وَهَذِهِ الْحُرُوف الْأَرْبَعَة عَشَر مُشْتَمِلَة عَلَى أَصْنَاف أَجْنَاس الْحُرُوف يَعْنِي مِنْ الْمَهْمُوسَة وَالْمَجْهُورَة وَمِنْ الرَّخْوَة وَالشَّدِيدَة وَمِنْ الْمُطْبَقَة وَالْمَفْتُوحَة وَمِنْ الْمُسْتَعْلِيَة وَالْمُنْخَفِضَة وَمِنْ حُرُوف الْقَلْقَلَة . وَقَدْ سَرَدَهَا مُفَصَّلَة ثُمَّ قَالَ : فَسُبْحَان الَّذِي دَقَّتْ فِي كُلّ شَيْء حِكْمَته .

 

= وَهَذِهِ الْأَجْنَاس الْمَعْدُودَة مَكْثُورَة بِالْمَذْكُورَةِ مِنْهَا وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مُعْظَم الشَّيْء وَجُلّه يُنَزَّل مَنْزِلَة كُلّه وَهَهُنَا هَهُنَا لَخَّصَ بَعْضهمْ فِي هَذَا الْمَقَام كَلَامًا فَقَالَ : لَا شَكّ أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوف لَمْ يُنْزِلهَا سُبْحَانه وَتَعَالَى عَبَثًا وَلَا سُدًى وَمَنْ قَالَ مِنْ الْجَهَلَة إِنَّ فِي الْقُرْآن مَا هُوَ تَعَبُّد لَا مَعْنَى لَهُ بِالْكَلِمَةِ فَقَدْ أَخْطَأَ خَطَأً كَبِيرًا فَتَعَيَّنَ أَنَّ لَهَا مَعْنًى فِي نَفْس الْأَمْر فَإِنْ صَحَّ لَنَا فِيهَا عَنْ الْمَعْصُوم شَيْء قُلْنَا بِهِ وَإِلَّا وَقَفْنَا حَيْثُ وَقَفْنَا وَقُلْنَا " آمَنَّا بِهِ كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا " وَلَمْ يُجْمِع الْعُلَمَاء فِيهَا عَلَى شَيْء مُعَيَّن وَإِنَّمَا اِخْتَلَفُوا فَمَنْ ظَهَرَ لَهُ بَعْض الْأَقْوَال بِدَلِيلٍ فَعَلَيْهِ اِتِّبَاعه وَإِلَّا فَالْوَقْف حَتَّى يَتَبَيَّن هَذَا الْمَقَام . الْمَقَام الْآخَر فِي الْحِكْمَة الَّتِي اِقْتَضَتْ إِيرَاد هَذِهِ الْحُرُوف فِي أَوَائِل السُّوَر مَا هِيَ مَعَ قَطْعِ النَّظَر عَنْ مَعَانِيهَا فِي أَنْفُسهَا فَقَالَ بَعْضهمْ إِنَّمَا ذُكِرَتْ لِيُعْرَف بِهَا أَوَائِل السُّوَر حَكَاهُ اِبْن جَرِير وَهَذَا ضَعِيف لِأَنَّ الْفَصْل حَاصِل بِدُونِهَا فِيمَا لَمْ تُذْكَر فِيهِ وَفِيمَا ذُكِرَتْ فِيهِ الْبَسْمَلَة تِلَاوَة وَكِتَابَة وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ اُبْتُدِئَ بِهَا لِتُفْتَح لِاسْتِمَاعِهَا أَسْمَاع الْمُشْرِكِينَ إِذْ تَوَاصَوْا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الْقُرْآن حَتَّى إِذَا اِسْتَمَعُوا لَهُ تَلَا عَلَيْهِمْ الْمُؤَلَّف مِنْهُ حَكَاهُ اِبْن جَرِير أَيْضًا وَهُوَ ضَعِيف أَيْضًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ فِي جَمِيع السُّوَر لَا يَكُون فِي بَعْضهَا بَلْ غَالِبهَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ أَيْضًا لَانْبَغَى الِابْتِدَاء بِهَا فِي أَوَائِل الْكَلَام مَعَهُمْ سَوَاء كَانَ اِفْتِتَاح سُورَة أَوْ غَيْر ذَلِكَ ثُمَّ إِنَّ هَذِهِ السُّورَة وَاَلَّتِي تَلِيهَا أَعْنِي الْبَقَرَة وَآل عِمْرَان مَدَنِيَّتَانِ لَيْسَتَا خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ فَانْتَقَضَ مَا ذَكَرُوهُ بِهَذِهِ الْوُجُوه . وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ إِنَّمَا ذُكِرَتْ هَذِهِ الْحُرُوف فِي أَوَائِل السُّوَر الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا بَيَانًا لِإِعْجَازِ الْقُرْآن وَأَنَّ الْخَلْق عَاجِزُونَ عَنْ مُعَارَضَته بِمِثْلِهِ هَذَا مَعَ أَنَّهُ مُرَكَّب مِنْ هَذِهِ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة الَّتِي يَتَخَاطَبُونَ بِهَا وَقَدْ حَكَى هَذَا الْمَذْهَب الرَّازِيّ فِي تَفْسِيره عَنْ الْمُبَرِّد وَجَمْع مِنْ الْمُحَقِّقِينَ وَحَكَى الْقُرْطُبِيّ عَنْ الْفَرَّاء وَقُطْرُب نَحْو هَذَا وَقَرَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ فِي كَشَّافه وَنَصَرَهُ أَتَمّ نَصْر وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخ الْإِمَام الْعَلَّامَة أَبُو الْعَبَّاس اِبْن تَيْمِيَةَ وَشَيْخنَا الْحَافِظ الْمُجْتَهِد أَبُو الْحَجَّاج الْمِزِّيّ وَحَكَاهُ لِي عَنْ اِبْن تَيْمِيَةَ . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وَلَمْ تَرِد كُلّهَا مَجْمُوعَة فِي أَوَّل الْقُرْآن وَإِنَّمَا كُرِّرَتْ لِيَكُونَ أَبْلَغ فِي التَّحَدِّي وَالتَّبْكِيت كَمَا كُرِّرَتْ قِصَص كَثِيرَة وَكَرَّرَ التَّحَدِّي بِالصَّرِيحِ فِي أَمَاكِن قَالَ وَجَاءَ مِنْهَا عَلَى حَرْف وَاحِد كَقَوْلِهِ - ص ن ق - وَحَرْفَيْنِ مِثْل " حم " وَثَلَاثَة مِثْل " الم " وَأَرْبَعَة مِثْل " المر " وَ " المص " وَخَمْسَة مِثْل " كهيعص - وَ - حم عسق " لِأَنَّ أَسَالِيب كَلَامهمْ عَلَى هَذَا مِنْ الْكَلِمَات مَا هُوَ عَلَى حَرْف وَعَلَى حَرْفَيْنِ وَعَلَى ثَلَاثَة وَعَلَى أَرْبَعَة وَعَلَى خَمْسَة لَا أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ " قُلْت " وَلِهَذَا كُلّ سُورَة اُفْتُتِحَتْ بِالْحُرُوفِ فَلَا بُدّ أَنْ يُذْكَر فِيهَا الِانْتِصَار لِلْقُرْآنِ وَبَيَان إِعْجَازه وَعَظَمَته وَهَذَا مَعْلُوم بِالِاسْتِقْرَاءِ وَهُوَ الْوَاقِع فِي تِسْع وَعِشْرِينَ سُورَة وَلِهَذَا يَقُول تَعَالَى " الم ذَلِكَ الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ " " الم اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم نَزَّلَ عَلَيْك الْكِتَاب بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ " " المص كِتَاب أُنْزِلَ إِلَيْك فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرك حَرَج مِنْهُ " " الر كِتَاب أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْك لِتُخْرِج النَّاس مِنْ الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذْنِ رَبّهمْ " " الم تَنْزِيل الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ مِنْ رَبّ الْعَالَمِينَ " " حم تَنْزِيل مِنْ الرَّحْمَن الرَّحِيم " " حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْك وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلك اللَّه الْعَزِيز الْحَكِيم " وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآيَات الدَّالَّة عَلَى صِحَّة مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَر وَاَللَّه أَعْلَم . وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ أَنَّهَا دَالَّة عَلَى مَعْرِفَة الْمُدَد وَأَنَّهُ يُسْتَخْرَج مِنْ ذَلِكَ أَوْقَات الْحَوَادِث وَالْفِتَن وَالْمَلَاحِم فَقَدْ اِدَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ وَطَارَ فِي غَيْر مَطَاره وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيث ضَعِيف وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ أَدَلّ عَلَى بُطْلَان هَذَا الْمَسْلَك مِنْ التَّمَسُّك بِهِ عَلَى صِحَّته وَهُوَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَق بْن يَسَار صَاحِب الْمَغَازِي حَدَّثَنِي الْكَلْبِيّ عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ جَابِر بْن عَبْد اللَّه بْن رَبَاب قَالَ مَرَّ أَبُو يَاسِر بْن أَخْطَبَ فِي رِجَال مِنْ يَهُود بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَة سُورَة الْبَقَرَة " الم ذَلِكَ الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ " فَأَتَى أَخَاهُ بْن أَخْطَب فِي رِجَال مِنْ الْيَهُود فَقَالَ تَعْلَمُونَ وَاَللَّه لَقَدْ سَمِعْت مُحَمَّدًا يَتْلُو فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ " الم ذَلِكَ الْكِتَاب لَا رَيْب فِيهِ " فَقَالَ أَنْتَ سَمِعْته قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَشَى حُيَيّ بْن أَخْطَبَ فِي أُولَئِكَ النَّفَر مِنْ الْيَهُود إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا مُحَمَّد أَلَم يُذْكَر أَنَّك تَتْلُو فِيمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْك " الم ذَلِكَ الْكِتَاب " ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بَلَى " فَقَالُوا جَاءَك بِهَذَا جِبْرِيل مِنْ عِنْد اللَّه ؟ فَقَالَ " نَعَمْ " قَالُوا لَقَدْ بَعَثَ اللَّه قَبْلك أَنْبِيَاء مَا نَعْلَمهُ بَيَّنَ لِنَبِيٍّ مِنْهُمْ مَا مُدَّة مُلْكه وَمَا أَجَل أُمَّته غَيْرك . فَقَامَ حُيَيّ بْن أَخْطَب وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ الْأَلِف وَاحِدَة وَاللَّام ثَلَاثُونَ وَالْمِيم أَرْبَعُونَ فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَة أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِين نَبِيّ إِنَّمَا مُدَّة مُلْكه وَأَجَل أُمَّته إِحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَة ؟ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّد هَلْ مَعَ هَذَا غَيْره فَقَالَ " نَعَمْ " قَالَ مَا ذَاكَ ؟ قَالَ " المص " قَالَ هَذَا أَثْقَل وَأَطْوَل الْأَلِف وَاحِد وَاللَّام ثَلَاثُونَ وَالْمِيم أَرْبَعُونَ وَالصَّاد تِسْعُونَ فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَة سَنَة . هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّد غَيْره ؟ قَالَ " نَعَمْ " قَالَ مَا ذَاكَ ؟ قَالَ " الر " قَالَ هَذَا أَثْقَل وَأَطْوَل الْأَلِف وَاحِدَة وَاللَّام ثَلَاثُونَ وَالرَّاء مِائَتَانِ فَهَذِهِ إِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَا سَنَة . فَهَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمَّد غَيْره ؟ قَالَ " نَعَمْ " قَالَ مَاذَا قَالَ " المر " قَالَ هَذِهِ أَثْقَل وَأَطْوَل الْأَلِف وَاحِدَة وَاللَّام ثَلَاثُونَ وَالْمِيم أَرْبَعُونَ وَالرَّاء مِائَتَانِ فَهَذِهِ إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ ثُمَّ قَالَ : لَقَدْ لُبِّسَ عَلَيْنَا أَمْرُك يَا مُحَمَّد حَتَّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلًا أُعْطِيت أَمْ كَثِيرًا. ثُمَّ قَالَ قُومُوا عَنْهُ ثُمَّ قَالَ أَبُو يَاسِر لِأَخِيهِ حُيَيّ بْن أَخْطَب وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْأَحْبَار مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا لِمُحَمَّدِ كُلّه إِحْدَى وَسَبْعُونَ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَة وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ فَذَلِكَ سَبْعمِائَةٍ وَأَرْبَع سِنِينَ ؟ فَقَالُوا لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ فَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْآيَات نَزَلَتْ فِيهِمْ " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمّ الْكِتَاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَات " فَهَذَا الْحَدِيث مَدَاره عَلَى مُحَمَّد بْن السَّائِب الْكَلْبِيّ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُحْتَجّ بِمَا اِنْفَرَدَ بِهِ ثُمَّ كَانَ مُقْتَضَى هَذَا الْمَسْلَك إِنْ كَانَ صَحِيحًا أَنْ يُحْسَب مَا لِكُلِّ حَرْف مِنْ الْحُرُوف الْأَرْبَعَة عَشَر الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَذَلِكَ يَبْلُغ مِنْهُ جُمْلَة كَثِيرَة وَإِنْ حُسِبَتْ مَعَ التَّكَرُّر فَأَطَمّ وَأَعْظَم وَاَللَّه أَعْلَم .
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ

قَدْ ذَكَرْنَا الْحَدِيث الْوَارِد فِي أَنَّ اِسْم اللَّه الْأَعْظَم فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ " اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم " وَ " الم اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم " عِنْد تَفْسِير آيَة الْكُرْسِيّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى قَوْله " الم " فِي أَوَّل سُورَة الْبَقَرَة بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَته وَتَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى قَوْله " اللَّه لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْحَيّ الْقَيُّوم " فِي تَفْسِير آيَة الْكُرْسِيّ.
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ

وَقَوْله تَعَالَى " نَزَّلَ عَلَيْك الْكِتَاب بِالْحَقِّ " يَعْنِي نَزَّلَ عَلَيْك الْقُرْآن يَا مُحَمَّد بِالْحَقِّ أَيْ لَا شَكّ فِيهِ وَلَا رَيْب بَلْ هُوَ مُنَزَّل مِنْ عِنْد اللَّه أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَة يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا وَقَوْله " مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ " أَيْ مِنْ الْكُتُب الْمُنَزَّلَة قَبْله مِنْ السَّمَاء عَلَى عِبَاد اللَّه وَالْأَنْبِيَاء فَهِيَ تُصَدِّقهُ بِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَبَشَّرَتْ فِي قَدِيم الزَّمَان وَهُوَ يُصَدِّقهَا لِأَنَّهُ طَابَق مَا أَخْبَرَتْ بِهِ وَبَشَّرَتْ مِنْ الْوَعْد مِنْ اللَّه بِإِرْسَالِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْزَال الْقُرْآن الْعَظِيم عَلَيْهِ. وَقَوْله " وَأَنْزَلَ التَّوْرَاة " أَيْ عَلَى مُوسَى بْن عِمْرَان " وَالْإِنْجِيل" أَيْ عَلَى عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام .
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)

مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ

" مِنْ قَبْل " أَيْ مِنْ قَبْل هَذَا الْقُرْآن " هُدًى لِلنَّاسِ " أَيْ فِي زَمَانهمَا " وَأَنْزَلَ الْفُرْقَان " وَهُوَ الْفَارِق بَيْن الْهُدَى وَالضَّلَال وَالْحَقّ وَالْبَاطِل وَالْغَيّ وَالرَّشَاد بِمَا يَذْكُرهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ الْحِجَج وَالْبَيِّنَات وَالدَّلَائِل الْوَاضِحَات وَالْبَرَاهِين الْقَاطِعَات وَيُبَيِّنهُ وَيُوَضِّحهُ وَيُفَسِّرهُ وَيُقَرِّرهُ وَيُرْشِد إِلَيْهِ وَيُنَبِّه عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيع بْن أَنَس : الْفُرْقَان هَهُنَا الْقُرْآن . وَاخْتَارَ اِبْن جَرِير أَنَّهُ مَصْدَر هَهُنَا لِتَقَدُّمِ ذِكْر الْقُرْآن فِي قَوْله " نَزَّلَ عَلَيْك الْكِتَاب بِالْحَقِّ " وَهُوَ الْقُرْآن . وَأَمَّا مَا رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ أَبِي صَالِح أَنَّ الْمُرَاد بِالْفُرْقَانِ هَهُنَا التَّوْرَاة فَضَعِيف أَيْضًا لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ التَّوْرَاة وَاَللَّه أَعْلَم. وَقَوْله تَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّه " أَيْ جَحَدُوا بِهَا وَأَنْكَرُوهَا وَرَدُّوهَا بِالْبَاطِلِ " لَهُمْ عَذَاب شَدِيد " أَيْ يَوْم الْقِيَامَة " وَاَللَّه عَزِيز " أَيْ مَنِيع الْجَنَاب عَظِيم السُّلْطَان " ذُو اِنْتِقَام " أَيْ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ وَخَالَفَ رُسُلَهُ الْكِرَام وَأَنْبِيَاءَهُ الْعِظَام .
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)

إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ

يُخْبِر تَعَالَى أَنَّهُ يَعْلَم غَيْب السَّمَاء وَالْأَرْض لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْء مِنْ ذَلِكَ .
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

" هُوَ الَّذِي يُصَوِّركُمْ فِي الْأَرْحَام كَيْفَ يَشَاء " أَيْ يَخْلُقُكُمْ فِي الْأَرْحَام كَمَا يَشَاء مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَحَسَن وَقَبِيح وَشَقِيّ وَسَعِيد " لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم " أَيْ هُوَ الَّذِي خَلَقَ وَهُوَ الْمُسْتَحِقّ لِلْإِلَهِيَّةِ وَحْده لَا شَرِيك لَهُ وَلَهُ الْعِزَّة الَّتِي لَا تُرَام وَالْحِكْمَة وَالْأَحْكَام وَهَذِهِ الْآيَة فِيهَا تَعْرِيض بَلْ تَصْرِيح بِأَنَّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَبْد مَخْلُوق كَمَا خَلَقَ اللَّه سَائِر الْبَشَر لِأَنَّ اللَّه صَوَّرَهُ فِي الرَّحِم وَخَلَقَهُ كَيْفَ يَشَاء فَكَيْفَ يَكُون إِلَهًا كَمَا زَعَمَتْهُ النَّصَارَى عَلَيْهِمْ لَعَائِن اللَّه وَقَدْ تَقَلَّبَ فِي الْأَحْشَاء وَتَنَقَّلَ مِنْ حَال إِلَى حَال كَمَا قَالَ تَعَالَى " يَخْلُقكُمْ فِي بُطُون أُمَّهَاتكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْد خَلْق فِي ظُلُمَات ثَلَاث " .
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ

يُخْبِر تَعَالَى أَنَّ فِي الْقُرْآن آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمّ الْكِتَاب أَيْ بَيِّنَات وَاضِحَات الدَّلَالَة لَا اِلْتِبَاس فِيهَا عَلَى أَحَد وَمِنْهُ آيَات أُخَر فِيهَا اِشْتِبَاه فِي الدَّلَالَة عَلَى كَثِير مِنْ النَّاس أَوْ بَعْضهمْ فَمَنْ رَدَّ مَا اِشْتَبَهَ إِلَى الْوَاضِح مِنْهُ وَحَكَّمَ مُحْكَمَهُ عَلَى مُتَشَابِهه عِنْده فَقَدْ اِهْتَدَى وَمَنْ عَكَسَ اِنْعَكَسَ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " هُنَّ أُمّ الْكِتَاب " أَيْ أَصْله الَّذِي يُرْجَع إِلَيْهِ عِنْد الِاشْتِبَاه " وَأُخَر مُتَشَابِهَات " أَيْ تَحْتَمِل دَلَالَتهَا مُوَافَقَة الْمُحْكَم وَقَدْ تَحْتَمِل شَيْئًا آخَر مِنْ حَيْثُ اللَّفْظ وَالتَّرْكِيب لَا مِنْ حَيْثُ الْمُرَاد وَقَدْ اِخْتَلَفُوا فِي الْمُحْكَم وَالْمُتَشَابِه فَرُوِيَ عَنْ السَّلَف عِبَارَات كَثِيرَة فَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : الْمُحْكَمَات نَاسِخَةٌ وَحَلَاله وَحَرَامه وَأَحْكَامه مَا يُؤْمَر بِهِ وَيُعْمَل بِهِ وَعَنْ اِبْن عَبَّاس أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : الْمُحْكَمَات قَوْله تَعَالَى " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " وَالْآيَات بَعْدهَا وَقَوْله تَعَالَى " وَقَضَى رَبّك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ " إِلَى ثَلَاث آيَات بَعْدهَا وَرَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم وَحَكَاهُ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر بِهِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن حَرْب حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن زَيْد عَنْ إِسْحَاق بْن سُوَيْد أَنَّ يَحْيَى بْن يَعْمُر وَأَبَا فَاخِتَة تَرَاجَعَا فِي هَذِهِ الْآيَة " هُنَّ أُمّ الْكِتَاب وَأُخَر مُتَشَابِهَات " فَقَالَ أَبُو فَاخِتَة : فَوَاتِح السُّوَر . وَقَالَ يَحْيَى بْن يَعْمَر : الْفَرَائِض وَالْأَمْر وَالنَّهْي وَالْحَلَال وَالْحَرَام . وَقَالَ اِبْن لَهِيعَة عَنْ عَطَاء بْن دِينَار عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر : " هُنَّ أَمُّ الْكِتَاب " لِأَنَّهُنَّ مَكْتُوبَات فِي جَمِيع الْكُتُب وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْل دِين إِلَّا يَرْضَى بِهِنَّ وَقِيلَ فِي الْمُتَشَابِهَات : الْمَنْسُوخَة وَالْمُقَدَّم وَالْمُؤَخَّر وَالْأَمْثَال فِيهِ وَالْأَقْسَام وَمَا يُؤْمَن بِهِ وَلَا يُعْمَل بِهِ رَوَاهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقِيلَ هِيَ الْحُرُوف الْمُقَطَّعَة فِي أَوَائِل السُّوَر قَالَهُ مُقَاتِل بْن حَيَّانَ وَعَنْ مُجَاهِد الْمُتَشَابِهَات يُصَدِّق بَعْضهَا بَعْضًا وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي تَفْسِير قَوْله " كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ " هُنَاكَ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُتَشَابِه هُوَ الْكَلَام الَّذِي يَكُون فِي سِيَاق وَاحِد وَالْمَثَانِي هُوَ الْكَلَام فِي شَيْئَيْنِ مُتَقَابِلَيْنِ كَصِفَةِ الْجَنَّة وَصِفَة النَّار وَذِكْرِ حَال الْأَبْرَار وَحَال الْفُجَّار وَنَحْو ذَلِكَ. وَأَمَّا هَاهُنَا فَالْمُتَشَابِه هُوَ الَّذِي يُقَابِل الْمُحْكَم وَأَحْسَن مَا قِيلَ فِيهِ هُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّد بْن إِسْحَق بْن يَسَار رَحِمَهُ اللَّه حَيْثُ قَالَ " مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات " فَهُنَّ حُجَّة الرَّبّ وَعِصْمَة الْعِبَاد وَدَفْع الْخُصُوم الْبَاطِل لَيْسَ لَهُنَّ تَصْرِيف وَلَا تَحْرِيف عَمَّا وُضِعْنَ عَلَيْهِ . قَالَ : وَالْمُتَشَابِهَات فِي الصِّدْق لَيْسَ لَهُنَّ تَصْرِيف وَتَحْرِيف وَتَأْوِيل اِبْتَلَى اللَّه فِيهِنَّ الْعِبَاد كَمَا اِبْتَلَاهُمْ فِي الْحَلَال وَالْحَرَام أَلَّا يُصْرَفْنَ إِلَى الْبَاطِل وَيُحَرَّفْنَ عَنْ الْحَقّ . وَلِهَذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى " فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ " أَيْ ضَلَال وَخُرُوج عَنْ الْحَقّ إِلَى الْبَاطِل " فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ " أَيْ إِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ بِالْمُتَشَابِهِ الَّذِي يُمْكِنهُمْ أَنْ يُحَرِّفُوهُ إِلَى مَقَاصِدهمْ الْفَاسِدَة وَيُنْزِلُوهُ عَلَيْهَا لِاحْتِمَالِ لَفْظه لِمَا يَصْرِفُونَهُ فَأَمَّا الْمُحْكَم فَلَا نَصِيب لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُ دَافِع لَهُمْ وَحُجَّة عَلَيْهِمْ وَلِهَذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى " اِبْتِغَاء الْفِتْنَة " أَيْ الْإِضْلَال لِأَتْبَاعِهِمْ إِيهَامًا لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى بِدْعَتهمْ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ حُجَّة عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ كَمَا لَوْ اِحْتَجَّ النَّصَارَى بِأَنَّ الْقُرْآن قَدْ نَطَقَ بِأَنَّ عِيسَى رُوح اللَّه وَكَلِمَته أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وَرُوح مِنْهُ وَتَرَكُوا الِاحْتِجَاج بِقَوْلِهِ " إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْد أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ " وَبِقَوْلِهِ " إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون " وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآيَات الْمُحْكَمَة الْمُصَرِّحَة بِأَنَّهُ خَلْق مِنْ مَخْلُوقَات اللَّه وَعَبْد وَرَسُول مِنْ رُسُل اللَّه . وَقَوْله تَعَالَى " وَابْتِغَاء تَأْوِيله " أَيْ تَحْرِيفه عَلَى مَا يُرِيدُونَ وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان وَالسُّدِّيّ يَبْتَغُونَ أَنْ يَعْلَمُوا مَا يَكُون وَمَا عَوَاقِب الْأَشْيَاء مِنْ الْقُرْآن وَقَدْ قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل حَدَّثَنَا يَعْقُوب عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : قَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات هُنَّ أُمّ الْكِتَاب وَأُخَر مُتَشَابِهَات " إِلَى قَوْله " أُولُوا الْأَلْبَاب " فَقَالَ " إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيهِ فَهُمْ الَّذِينَ عَنَى اللَّه فَاحْذَرُوهُمْ " هَكَذَا وَقَعَ هَذَا الْحَدِيث فِي مُسْنَد الْإِمَام أَحْمَد مِنْ رِوَايَة اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا لَيْسَ بَيْنهمَا أَحَد وَهَكَذَا رَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ مِنْ طَرِيق إِسْمَاعِيل بْن عُلَيَّة وَعَبْد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ كِلَاهُمَا عَنْ أَيُّوب بِهِ وَرَوَاهُ مُحَمَّد بْن يَحْيَى الْعَبْدِيّ فِي مُسْنَده عَنْ عَبْد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ بِهِ وَكَذَا رَوَاهُ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ أَيُّوب وَكَذَا رَوَاهُ غَيْر وَاحِد عَنْ أَيُّوب وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن حِبَّان فِي صَحِيحه مِنْ حَدِيث أَيُّوب بِهِ وَرَوَاهُ أَبُو بَكْر بْن الْمُنْذِر فِي تَفْسِيره مِنْ طَرِيقَيْنِ عَنْ أَبِي النُّعْمَان مُحَمَّد بْن الْفَضْل السَّدُوسِيّ وَلَقَبه عَارِم حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن زَيْد حَدَّثَنَا أَيُّوب عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ عَائِشَة بِهِ وَتَابَعَ أَيُّوب أَبُو عَامِر الْخَرَّاز وَغَيْره عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَنْ بُنْدَار عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَنْ أَبِي عَامِر الْخَرَّاز فَذَكَرَهُ وَرَوَاهُ سَعِيد بْن مَنْصُور فِي سُنَنه عَنْ حَمَّاد بْن يَحْيَى عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ عَائِشَة وَرَوَاهُ اِبْن جَرِير مِنْ حَدِيث رَوْح بْن الْقَاسِم وَنَافِع بْن عُمَر الْجُمَحِيّ كِلَاهُمَا عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ عَائِشَة وَقَالَ نَافِع فِي رِوَايَته عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة حَدَّثَتْنِي عَائِشَة فَذَكَرَهُ وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيث الْبُخَارِيّ عِنْد تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة وَمُسْلِم فِي كِتَاب الْقَدَر مِنْ صَحِيحه وَأَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَّة مِنْ سُنَنه ثَلَاثَتهمْ عَنْ الْقَعْنَبِيّ عَنْ يَزِيد بْن إِبْرَاهِيم التُّسْتَرِيّ عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : تَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَة " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَاب مِنْهُ آيَات مُحْكَمَات " إِلَى قَوْله " وَمَا يَذَّكَّر إِلَّا أُولُو الْأَلْبَاب " قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَإِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّه فَاحْذَرُوهُمْ " لَفْظ الْبُخَارِيّ وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضًا عَنْ بُنْدَار عَنْ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ عَنْ يَزِيد بْن إِبْرَاهِيم بِهِ وَقَالَ حَسَن صَحِيح وَذَكَرَ أَنَّ يَزِيد بْن إِبْرَاهِيم التُّسْتَرِيّ تَفَرَّدَ بِذِكْرِ الْقَاسِم فِي هَذَا الْإِسْنَاد وَقَدْ رَوَاهُ غَيْر وَاحِد عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ عَائِشَة وَلَمْ يَذْكُر الْقَاسِم كَذَا قَالَ وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم فَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ حَدَّثَنَا يَزِيد بْن إِبْرَاهِيم التُّسْتَرِيّ وَحَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ اِبْن أَبِي مُلَيْكَة عَنْ الْقَاسِم بْن مُحَمَّد عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى " فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّه فَاحْذَرُوهُمْ " وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن سُهَيْل حَدَّثَنَا الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْقَاسِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : نَزَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَة " فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ اِبْتِغَاء الْفِتْنَة " فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قَدْ حَذَّرَكُمْ اللَّه فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاحْذَرُوهُمْ " وَرَوَاهُ اِبْن مَرْدُوَيه مِنْ طَرِيق أُخْرَى عَنْ الْقَاسِم عَنْ عَائِشَة بِهِ وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا أَبُو كَامِل حَدَّثَنَا حَمَّاد عَنْ أَبِي غَالِب قَالَ : سَمِعْت أَبَا أُمَامَةَ يُحَدِّث عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى " فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ " قَالَ " هُمْ الْخَوَارِج " وَفِي قَوْله تَعَالَى " يَوْم تَبْيَضّ وُجُوه وَتَسْوَدّ وُجُوه " قَالَ : " هُمْ الْخَوَارِج " وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن مَرْدُوَيه مِنْ غَيْر وَجْه عَنْ أَبِي غَالِب عَنْ أَبِي أُمَامَةَ فَذَكَرَهُ وَهَذَا الْحَدِيث أَقَلّ أَقْسَامه أَنْ يَكُون مَوْقُوفًا مِنْ كَلَام الصَّحَابِيّ وَمَعْنَاهُ صَحِيح فَإِنَّ أَوَّل بِدْعَة وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَام فِتْنَة الْخَوَارِج وَكَانَ مَبْدَؤُهُمْ بِسَبَبِ الدُّنْيَا حِين قَسَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِم حُنَيْن فَكَأَنَّهُمْ رَأَوْا فِي عُقُولهمْ الْفَاسِدَة أَنَّهُ لَمْ يَعْدِل فِي الْقِسْمَة فَفَاجَئُوهُ بِهَذِهِ الْمَقَالَة فَقَالَ قَائِلهمْ : وَهُوَ ذُو الْخَُوَيْصِرَة بَقَرَ اللَّه خَاصِرَته اِعْدِلْ فَإِنَّك لَمْ تَعْدِل فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَقَدْ خِبْت وَخَسِرْت إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِل أَيَأْمَنُنِي عَلَى أَهْل الْأَرْض وَلَا تَأْمَنُونِي " فَلَمَّا قَفَا الرَّجُل اِسْتَأْذَنَ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَفِي رِوَايَة خَالِد بْن الْوَلِيد فِي قَتْله فَقَالَ " دَعْهُ فَإِنَّهُ يَخْرُج مِنْ ضِئْضِئ هَذَا أَيْ مِنْ جِنْسه قَوْم يُحَقِّر أَحَدكُمْ صَلَاته مَعَ صَلَاتهمْ وَقِرَاءَته مَعَ قِرَاءَتهمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّين كَمَا يَمْرُق السَّهْم مِنْ الرَّمِيَّة فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ فِي قَتْلهمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ " ثُمَّ كَانَ ظُهُورهمْ أَيَّام عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَتَلَهُمْ بِالنَّهْرَوَانِ ثُمَّ تَشَعَّبَتْ مِنْهُمْ شُعُوب وَقَبَائِل وَآرَاء وَأَهْوَاء وَمَقَالَات وَنِحَلٌ كَثِيرَة مُنْتَشِرَة ثُمَّ اِنْبَعَثَتْ الْقَدَرِيَّة ثُمَّ الْمُعْتَزِلَة ثُمَّ الْجَهْمِيّة وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ الْبِدَع الَّتِي أَخْبَرَ عَنْهَا الصَّادِق الْمَصْدُوق صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله " وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّة عَلَى ثَلَاث وَسَبْعِينَ فِرْقَة كُلّهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَة " قَالُوا وَمَا هُمْ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ " مَنْ كَانَ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي " أَخْرَجَهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْرَكه بِهَذِهِ الزِّيَادَة . وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو يَعْلَى : حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَاصِم حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِر عَنْ أَبِيهِ عَنْ قَتَادَة عَنْ الْحَسَن بْن جُنْدُب بْن عَبْد اللَّه أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ حُذَيْفَة أَوْ سَمِعَهُ مِنْهُ يُحَدِّث عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ " إِنَّ فِي أُمَّتِي قَوْمًا يَقْرَؤُنَّ الْقُرْآن يَنْثُرُونَهُ نَثْرَ الدَّقْل يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله " لَمْ يُخْرِجُوهُ . وَقَوْله تَعَالَى " وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه " اِخْتَلَفَ الْقُرَّاء فِي الْوَقْف هَهُنَا فَقِيلَ عَلَى الْجَلَالَة كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : التَّفْسِير عَلَى أَرْبَعَة أَنْحَاء فَتَفْسِير لَا يُعْذَر أَحَد فِي فَهْمِهِ وَتَفْسِير تَعْرِفهُ الْعَرَب مِنْ لُغَاتهَا وَتَفْسِير يَعْلَمهُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم وَتَفْسِير لَا يَعْلَمهُ إِلَّا اللَّه وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْل عَنْ عَائِشَة وَعُرْوَة وَأَبِي الشَّعْثَاء وَأَبِي نَهِيك وَغَيْرهمْ . وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم فِي الْمُعْجَم الْكَبِير : حَدَّثَنَا هَاشِم بْن مَرْثَد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل بْن عَيَّاش حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي ضَمْضَم بْن زُرْعَة عَنْ شُرَيْح بْن عُبَيْد عَنْ أَبِي مَالِك الْأَشْعَرِيّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول : " لَا أَخَاف عَلَى أُمَّتِي إِلَّا ثَلَاث خِلَال أَنْ يَكْثُر لَهُمْ الْمَال فَيَتَحَاسَدُوا فَيَقْتَتِلُوا وَأَنْ يُفْتَح لَهُمْ الْكِتَاب فَيَأْخُذهُ الْمُؤْمِن يَبْتَغِي تَأْوِيله " وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ " الْآيَة وَأَنْ يَزْدَاد عِلْمهمْ فَيُضَيِّعُوهُ وَلَا يُبَالُونَ عَنْهُ " غَرِيب جِدًّا . وَقَالَ اِبْن مَرْدُوَيه : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَمْرو حَدَّثَنَا هُشَام بْن عَمَّار حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْن الْعَاصِ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِنَّ الْقُرْآن لَمْ يَنْزِل لِيُكَذِّب بَعْضه بَعْضًا فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ وَمَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَآمِنُوا بِهِ " . وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاق أَنْبَأَنَا مَعْمَر عَنْ اِبْن طَاوُوس عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ اِبْن عَبَّاس يَقْرَأ : وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله إِلَّا اللَّه وَيَقُول الرَّاسِخُونَ آمَنَّا بِهِ . وَكَذَا رَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَمَالِك بْن أَنَس أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا يَعْلَمُونَ تَأْوِيله . وَحَكَى اِبْن جَرِير أَنَّ فِي قِرَاءَة عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود إِنْ تَأْوِيله إِلَّا عِنْد اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَكَذَا عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب وَاخْتَارَ اِبْن جَرِير هَذَا الْقَوْل . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِف عَلَى قَوْله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم وَتَبِعَهُمْ كَثِير مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَأَهْل الْأُصُول وَقَالُوا الْخِطَاب بِمَا لَا يُفْهَم بَعِيد وَقَدْ رَوَى اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ : أَنَا مِنْ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيله وَقَالَ اِبْن أَبِي نَجِيح عَنْ مُجَاهِد وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَعْلَمُونَ تَأْوِيله وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وَكَذَا قَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَق عَنْ مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر : وَمَا يَعْلَم تَأْوِيله الَّذِي أَرَادَ مَا أَرَادَ إِلَّا اللَّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ثُمَّ رَدُّوا تَأْوِيل الْمُتَشَابِهَات عَلَى مَا عَرَفُوا مِنْ تَأْوِيل الْمُحْكَمَة الَّتِي لَا تَأْوِيل لِأَحَدٍ فِيهَا إِلَّا تَأْوِيل وَاحِد فَاتَّسَقَ بِقَوْلِهِمْ الْكِتَاب وَصَدَّقَ بَعْضه بَعْضًا فَنَفَذَتْ الْحُجَّة وَظَهَرَ بِهِ الْعُذْر وَزَاحَ بِهِ الْبَاطِل وَدَفَعَ بِهِ الْكُفْر وَفِي الْحَدِيث أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا لِابْنِ عَبَّاس فَقَالَ " اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّين وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيل " وَمِنْ الْعُلَمَاء مَنْ فُصِّلَ وَهَذَا الْمَقَام قَالَ : التَّأْوِيل يُطْلَق وَيُرَاد بِهِ فِي الْقُرْآن مَعْنَيَانِ أَحَدهمَا التَّأْوِيل بِمَعْنَى حَقِيقَة الشَّيْء وَمَا يَئُول أَمْرُهُ إِلَيْهِ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى " وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيل رُؤْيَايَ مِنْ قَبْل " وَقَوْله " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيله يَوْم يَأْتِي تَأْوِيله " أَيْ حَقِيقَة مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ أَمْر الْمَعَاد فَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّأْوِيلِ هَذَا فَالْوَقْف عَلَى الْجَلَالَة لِأَنَّ حَقَائِق الْأُمُور وَكُنْهَهَا لَا يَعْلَمهُ عَلَى الْجَلِيَّة إِلَّا اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَيَكُون قَوْله " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم " مُبْتَدَأ وَ " يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ " خَبَره وَأَمَّا إِنْ أُرِيد بِالتَّأْوِيلِ الْمَعْنَى الْآخَر وَهُوَ التَّفْسِير وَالْبَيَان وَالتَّعْبِير عَنْ الشَّيْء كَقَوْلِهِ " نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ " أَيْ بِتَفْسِيرِهِ فَإِنْ أُرِيد بِهِ هَذَا الْمَعْنَى فَالْوَقْف عَلَى " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم " لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ وَيَفْهَمُونَ مَا خُوطِبُوا بِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَار وَإِنْ لَمْ يُحِيطُوا عِلْمًا بِحَقَائِق الْأَشْيَاء عَلَى كُنْهِ مَا هِيَ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا فَيَكُون قَوْله " يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ " حَال مِنْهُمْ وَسَاغَ هَذَا وَأَنْ يَكُون مِنْ الْمَعْطُوف دُون الْمَعْطُوف عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ " لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ - إِلَى قَوْله - " يَقُولُونَ رَبّنَا اِغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا " الْآيَة وَقَوْله تَعَالَى " وَجَاءَ رَبّك وَالْمَلَك صَفًّا صَفًّا " أَيْ وَجَاءَ الْمَلَائِكَة صُفُوفًا صُفُوفًا. وَقَوْله إِخْبَارًا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ أَيْ الْمُتَشَابِه كُلّ مِنْ عِنْد رَبّنَا أَيْ الْجَمِيع مِنْ الْمُحْكَم وَالْمُتَشَابِه حَقّ وَصِدْق وَكُلّ وَاحِد مِنْهُمَا يُصَدِّق الْآخَر وَيَشْهَد لَهُ لِأَنَّ الْجَمِيع مِنْ عِنْد اللَّه وَلَيْسَ شَيْء مِنْ عِنْد اللَّه بِمُخْتَلِفٍ وَلَا مُتَضَادّ كَقَوْلِهِ " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْد غَيْر اللَّه لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلَافًا كَثِيرًا " وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَمَا يَذَّكَّر إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَاب " أَيْ إِنَّمَا يَفْهَم وَيَعْقِل وَيَتَدَبَّر الْمَعَانِي عَلَى وَجْهِهَا أُولُو الْعُقُول السَّلِيمَة وَالْفُهُوم الْمُسْتَقِيمَة وَقَدْ قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَوْف الْحِمْصِيّ حَدَّثَنَا نُعَيْم بْن حَمَّاد حَدَّثَنَا فَيَّاض الرَّقِّيّ حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّه بْن يَزِيد وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَسًا وَأَبَا أُمَامَةَ وَأَبَا الدَّرْدَاء أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْم فَقَالَ " مَنْ بَرَّتْ يَمِينه وَصَدَقَ لِسَانه وَاسْتَقَامَ قَلْبه وَمَنْ عَفَّ بَطْنه وَفَرْجه فَذَلِكَ مِنْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْم " . وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ : سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا يَتَدَارَءُونَ فَقَالَ " إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلكُمْ بِهَذَا ضَرَبُوا كِتَاب اللَّه بَعْضه بِبَعْضٍ وَإِنَّمَا أُنْزِلَ كِتَاب اللَّه لِيُصَدِّق بَعْضه بَعْضًا فَلَا تُكَذِّبُوا بَعْضه بِبَعْضٍ فَمَا عَلِمْتُمْ مِنْهُ فَقُولُوا بِهِ , وَمَا جَهِلْتُمْ فَكِلُوهُ إِلَى عَالِمه " وَتَقَدَّمَ رِوَايَة اِبْن مَرْدُوَيه لِهَذَا الْحَدِيث مِنْ طَرِيق هِشَام بْن عَمَّار عَنْ أَبِي حَازِم عَنْ عَمْرو بْن شُعَيْب بِهِ وَقَدْ قَالَ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيّ فِي مُسْنَده : حَدَّثَنَا زُهَيْر بْن حَرْب حَدَّثَنَا أَنَس بْن عِيَاض عَنْ أَبِي حَازِم عَنْ أَبِي سَلَمَة قَالَ : لَا أَعْلَمهُ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " نَزَلَ الْقُرْآن عَلَى سَبْعَة أَحْرُف وَالْمِرَاء فِي الْقُرْآن كُفْرٌ - قَالَهَا ثَلَاثًا - مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمه جَلَّ جَلَاله " وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح وَلَكِنْ فِيهِ عِلَّة بِسَبَبِ قَوْل الرَّاوِي لَا أَعْلَمهُ إِلَّا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة . وَقَالَ اِبْن الْمُنْذِر فِي تَفْسِيره : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الْحَكَم : حَدَّثَنَا اِبْن وَهْبٍ أَخْبَرَنِي نَافِع بْن يَزِيد قَالَ : يُقَال الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم الْمُتَوَاضِعُونَ لِلَّهِ الْمُتَذَلِّلُونَ لِلَّهِ فِي مَرْضَاته لَا يَتَعَاظَمُونَ عَلَى مَنْ فَوْقهمْ وَلَا يُحَقِّرُونَ مَنْ دُونهمْ . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ مُخْبِرًا أَنَّهُمْ دَعَوْا رَبّهمْ قَائِلِينَ " رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا بَعْد إِذْ هَدَيْتنَا " .
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)

رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ أَيْ لَا تُمِلْهَا عَنْ الْهُدَى بَعْد إِذْ أَقَمْتهَا عَلَيْهِ وَلَا تَجْعَلْنَا كَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبهمْ زَيْغ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْ الْقُرْآن وَلَكِنْ ثَبِّتْنَا عَلَى صِرَاطك الْمُسْتَقِيم وَدِينك الْقَوِيم" وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْك رَحْمَة " تُثَبِّت بِهَا قُلُوبنَا وَتَجْمَع بِهَا شَمْلنَا وَتَزِيدنَا بِهَا إِيمَانًا وَإِيقَانًا " إِنَّك أَنْتَ الْوَهَّاب " قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا عَمْرو بْن عَبْد اللَّه الْأَوْدِيّ وَقَالَ اِبْن جَرِير حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب قَالَا جَمِيعًا حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن بَهْرَام عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ أُمّ سَلَمَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُول " يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك " ثُمَّ قَرَأَ " رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا بَعْد إِذْ هَدَيْتنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْك رَحْمَة إِنَّك أَنْتَ الْوَهَّاب " رَوَاهُ اِبْن مَرْدُوَيه مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن بَكّار عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن بَهْرَام عَنْ شَهْر بْن حَوْشَب عَنْ أُمّ سَلَمَة عَنْ أَسْمَاء بِنْت يَزِيد بْن السَّكَن سَمِعْتهَا تُحَدِّث أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكْثِر مِنْ دُعَائِهِ " اللَّهُمَّ مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك " قَالَتْ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه وَإِنَّ الْقَلْب لَيَتَقَلَّب ؟ قَالَ " نَعَمْ مَا خَلَقَ اللَّه مِنْ بَنِي آدَم مِنْ بَشَر إِلَّا إِنَّ قَلْبه بَيْن أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِع اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ " فَنَسْأَل اللَّه رَبّنَا أَنْ لَا يُزِيغ قُلُوبنَا بَعْد إِذْ هَدَانَا وَنَسْأَلهُ أَنْ يَهَب لَنَا مِنْ لَدُنْه رَحْمَة إِنَّهُ هُوَ الْوَهَّاب - وَهَكَذَا رَوَاهُ اِبْن جَرِير مِنْ حَدِيث أَسَد بْن مُوسَى عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن بَهْرَام بِهِ مِثْله وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ الْمُثَنَّى عَنْ الْحَجَّاج بْن مِنْهَال عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن بَهْرَام بِهِ مِثْله وَزَادَ قُلْت : يَا رَسُول اللَّه أَلَا تُعَلِّمنِي دَعْوَة أَدْعُو بِهَا لِنَفْسِي قَالَ " بَلَى قُولِي اللَّهُمَّ رَبّ مُحَمَّد النَّبِيّ اِغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَذْهِبْ غَيْظ قَلْبِي وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّات الْفِتَن " ثُمَّ قَالَ اِبْن مَرْدُوَيه حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن أَحْمَد حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن هَارُون بْن بَكّار الدِّمَشْقِيّ حَدَّثَنَا الْعَبَّاس بْن الْوَلِيد الْخَلَّال أَنَا يَزِيد بْن يَحْيَى بْن عُبَيْد اللَّه أَنَا سَعِيد بْن بَشِير عَنْ قَتَادَة عَنْ حَسَّان الْأَعْرَج عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا مَا يَدْعُو " يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك " قُلْت يَا رَسُول اللَّه مَا أَكْثَر مَا تَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاء فَقَالَ " لَيْسَ مِنْ قَلْب إِلَّا وَهُوَ بَيْن أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِع الرَّحْمَن إِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِذَا شَاءَ أَنْ يُزِيغهُ أَزَاغَهُ أَمَا تَسْمَعِي قَوْله " رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا بَعْد إِذْ هَدَيْتنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْك رَحْمَة إِنَّك أَنْتَ الْوَهَّاب " غَرِيب مِنْ هَذَا الْوَجْه وَلَكِنْ أَصْلُهُ ثَابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا مِنْ طُرُق كَثِيرَة بِدُونِ زِيَادَةِ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيث أَبِي عَبْد الرَّحْمَن الْمَقْبُرِيّ زَادَ النَّسَائِيّ وَابْن حِبَّان وَعَبْد اللَّه بْن وَهْب كِلَاهُمَا عَنْ سَعِيد بْن أَبِي أَيُّوب حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن الْوَلِيد التُجِيبِيّ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اِسْتَيْقَظَ مِنْ اللَّيْل قَالَ " لَا إِلَه إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانك أَسْتَغْفِرك لِذَنْبِي وَأَسْأَلك رَحْمَتك اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْد إِذْ هَدَيْتنِي وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك رَحْمَة إِنَّك أَنْتَ الْوَهَّاب " لَفْظ اِبْن مَرْدُوَيه . وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَالِك عَنْ أَبِي عُبَيْد مَوْلَى سُلَيْمَان بْن عَبْد الْمَلِك عَنْ عُبَادَة بْن نَسِيّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ قَيْس بْن الْحَارِث يَقُول : أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْد اللَّه الصُّنَابِحِيّ أَنَّهُ صَلَّى وَرَاء أَبِي بَكْر الصِّدِّيق رَضِيَ اللَّه عَنْهُ الْمَغْرِب فَقَرَأَ أَبُو بَكْر فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآن وَسُورَتَيْنِ مِنْ قِصَار الْمُفَصَّل وَقَرَأَ مِنْ الرَّكْعَة الثَّالِثَة قَالَ : دَنَوْت مِنْهُ حَتَّى إِنَّ ثِيَابِي لَتَكَاد تَمَسّ ثِيَابه فَسَمِعْته يَقْرَأ بِأُمِّ الْقُرْآن وَهَذِهِ الْآيَة " رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا بَعْد إِذْ هَدَيْتنَا " الْآيَة قَالَ أَبُو عُبَيْد : وَأَخْبَرَنِي عُبَادَة بْن نَسِيّ أَنَّهُ كَانَ عِنْد عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز فِي خِلَافَته فَقَالَ عُمَر لِقَيْسٍ : كَيْفَ أَخْبَرْتنِي عَنْ أَبِي عَبْد اللَّه قَالَ عُمَر : فَمَا تَرَكْنَاهَا مُنْذُ سَمِعْنَاهَا مِنْهُ وَإِنْ كُنْت قَبْل ذَلِكَ لَعَلَى غَيْر ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ رَجُل عَلَى أَيّ شَيْء كَانَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ قَبْل ذَلِكَ قَالَ كُنْت أَقْرَأ " قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد " وَقَدْ رَوَى هَذَا الْأَثَر الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ مَالِك وَالْأَوْزَاعِيّ كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي عُبَيْد بِهِ : وَرَوَى هَذَا الْأَثَر الْوَلِيد أَيْضًا عَنْ اِبْن جَابِر عَنْ يَحْيَى بْن يَحْيَى الْغَسَّانِيّ عَنْ مَحْمُود بْن لَبِيد عَنْ الصُّنَابِحِيّ أَنَّهُ صَلَّى خَلْف أَبِي بَكْر الْمَغْرِب فَقَرَأَ فِي الْأُولَيَيْنِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَاب وَسُورَة قَصِيرَة يَجْهَر بِالْقِرَاءَةِ فَلَمَّا قَامَ إِلَى الثَّالِثَة اِبْتَدَأَ الْقِرَاءَة فَدَنَوْت مِنْهُ حَتَّى إِنَّ ثِيَابِي لَتَمَسُّ ثِيَابه فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَة " رَبّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبنَا " الْآيَة.
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)

رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ

أَيْ يَقُولُونَ فِي دُعَائِهِمْ إِنَّك يَا رَبّنَا سَتَجْمَعُ بَيْن خَلْقك يَوْم مَعَادهمْ وَتَفْصِل بَيْنهمْ وَتَحْكُم فِيهِمْ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَتَجْزِي كُلًّا بِعَمَلِهِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الدِّينَا مِنْ خَيْر وَشَرّ .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ

يُخْبِر تَعَالَى عَنْ الْكُفَّار بِأَنَّهُمْ وَقُود النَّار " يَوْم لَا يَنْفَع الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتهمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَة وَلَهُمْ سُوء الدَّار " وَلَيْسَ مَا أُوتُوهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد بِنَافِعٍ لَهُمْ عِنْد اللَّه وَلَا بِمُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابه وَأَلِيم عِقَابه كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَلَا تُعْجِبك أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ إِنَّمَا يُرِيد اللَّه لِيُعَذِّبهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَتَزْهَق أَنْفُسهمْ وَهُمْ كَافِرُونَ " وَقَالَ تَعَالَى " لَا يَغُرّنّك تَقَلُّب الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَاد مَتَاع قَلِيل ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَنَّهُمْ وَبِئْسَ الْمِهَاد " وَقَالَ هَهُنَا " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا " أَيْ بِآيَاتِ اللَّه وَكَذَّبُوا رُسُله وَخَالَفُوا كِتَابه وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِوَحْيِهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ " لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالهمْ وَلَا أَوْلَادهمْ مِنْ اللَّه شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُود النَّار " أَيْ حَطَبهَا الَّذِي تُسْجَر بِهِ وَتُوقَد بِهِ كَقَوْلِهِ " إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُون اللَّه حَصَبُ جَهَنّمَ " الْآيَة . قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا اِبْن أَبِي مَرْيَم حَدَّثَنَا اِبْن لَهِيعَة أَخْبَرَنِي اِبْن الْهَادِ عَنْ هِنْد بِنْت الْحَارِث عَنْ أُمّ الْفَضْل أُمّ عَبْد اللَّه بْن عَبَّاس قَالَتْ : بَيْنَمَا نَحْنُ بِمَكَّةَ قَامَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ اللَّيْل فَنَادَى " هَلْ بَلَّغْت اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْت " ثَلَاثًا فَقَامَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ نَعَمْ ثُمَّ أَصْبَحَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيَظْهَرَنَّ الْإِسْلَام حَتَّى يُرَدَّ الْكُفْر إِلَى مَوَاطِنه وَلَيَخُوضَنَّ رِجَال الْبِحَار بِالْإِسْلَامِ وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاس زَمَان يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآن وَيَقْرَؤُنَهُ ثُمَّ يَقُولُونَ قَرَأْنَا وَعَلِمْنَا فَمَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ خَيْر مِنَّا فَهَلْ فِي أُولَئِكَ مِنْ خَيْر " ؟ قَالُوا يَا رَسُول اللَّه فَمَنْ أُولَئِكَ ؟ قَالَ " أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَهُمْ وَقُود النَّار " وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن مَرْدُوَيه مِنْ حَدِيث يَزِيد بْن عَبْد اللَّه بْن الْهَادِ عَنْ هِنْد بِنْت الْحَارِث اِمْرَأَة عَبْد اللَّه بْن شَدَّاد عَنْ أُمّ الْفَضْل أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ لَيْلَة بِمَكَّةَ فَقَالَ " هَلْ بَلَّغْت " يَقُولهَا ثَلَاثًا فَقَامَ عُمَر بْن الْخَطَّاب وَكَانَ أَوَّاهًا فَقَالَ اللَّهُمَّ نَعَمْ وَحَرَصْت وَجَهِدْت وَنَصَحْت فَاصْبِرْ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيَظْهَرَنَّ الْإِيمَان حَتَّى يُرَدّ الْكُفْر إِلَى مَوَاطِنه وَلَيَخُوضَنَّ رِجَال الْبِحَار بِالْإِسْلَامِ وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاس زَمَان يَقْرَؤُنَ الْقُرْآن فَيُقْرِؤُنَهُ وَيُعَلِّمُونَهُ فَيَقُولُونَ قَدْ قَرَأْنَا وَقَدْ عَلَّمْنَا فَمَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ خَيْر مِنَّا ؟ فَمَا فِي أُولَئِكَ مِنْ خَيْر " قَالُوا يَا رَسُول اللَّه فَمَنْ أُولَئِكَ ؟ قَالَ " أُولَئِكَ مِنْكُمْ أُولَئِكَ هُمْ وَقُود النَّار " ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيق مُوسَى بْن عُبَيْدَة عَنْ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم عَنْ بِنْت الْهَادِ عَنْ الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِب بِنَحْوِهِ.
كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ

وَقَوْله تَعَالَى " كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْن " قَالَ الضَّحَّاك عَنْ اِبْن عَبَّاس : كَصَنِيعِ آلِ فِرْعَوْن وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَأَبِي مَالِك وَالضَّحَّاك وَغَيْر وَاحِد وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول : كَسُنَّةِ آلِ فِرْعَوْن وَكَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْن وَكَشَبَهِ آلِ فِرْعَوْن وَالْأَلْفَاظ مُتَقَارِبَة وَالدَّأْب بِالتَّسْكِينِ وَالتَّحْرِيك أَيْضًا كَنَهْرٍ وَنَهَرٍ هُوَ الصَّنِيع وَالْحَال وَالشَّأْن وَالْأَمْر وَالْعَادَة كَمَا يُقَال لَا يَزَال هَذَا دَأْبِي وَدَأْبك وَقَالَ اِمْرُؤُ الْقِيس : وُقُوفًا بِهَا صَحْبِي عَلَى مَطِيّهمْ ... يَقُولُونَ لَا تَأْسَف أَسًى وَتَجَمَّلِ كَدَأْبِك مِنْ أُمّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلهَا ... جَارَتهَا أُمّ الرَّبَاب بِمَأْسَلِ وَالْمَعْنَى كَعَادَتِك فِي أُمّ الْحُوَيْرِثِ حِين أَهْلَكْت نَفْسك فِي حُبّهَا وَبَكَيْت دَارهَا وَرَسْمهَا وَالْمَعْنَى فِي الْآيَة أَنَّ الْكَافِرِينَ لَا تُغْنِي عَنْهُمْ الْأَمْوَال وَلَا الْأَوْلَاد بَلْ يَهْلِكُونَ وَيُعَذَّبُونَ كَمَا جَرَى لِآلِ فِرْعَوْن وَمَنْ قَبْلهمْ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ فِيمَا جَاءُوا مِنْ آيَات اللَّه وَحُجَجه " وَاَللَّه شَدِيد الْعِقَاب " أَيْ شَدِيد الْأَخْذ أَلِيم الْعَذَاب لَا يَمْتَنِع مِنْهُ أَحَد وَلَا يَفُوتهُ شَيْء بَلْ هُوَ الْفَعَّال لِمَا يُرِيد الَّذِي قَدْ غَلَبَ كُلّ شَيْء لَا إِلَه غَيْره وَلَا رَبّ سِوَاهُ .
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ

يَقُول تَعَالَى : قُلْ يَا مُحَمَّد لِلْكَافِرِينَ سَتُغْلَبُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا وَتُحْشَرُونَ أَيْ يَوْم الْقِيَامَة إِلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَاد . وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن يَسَار عَنْ عَاصِم بْن عَمْرو بْن قَتَادَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَصَابَ مِنْ أَهْل بَدْر مَا أَصَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة جَمَعَ الْيَهُود فِي سُوق بَنِي قَيْنُقَاع وَقَالَ " يَا مَعْشَر الْيَهُود أَسْلِمُوا قَبْل أَنْ يُصِيبكُمْ اللَّه بِمَا أَصَابَ قُرَيْشًا " فَقَالُوا يَا مُحَمَّد لَا يَغُرَّنَّك مِنْ نَفْسك أَنْ قَتَلْت نَفَرًا مِنْ قُرَيْش كَانُوا أَغْمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَال إِنَّك وَاَللَّه لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْت أَنَّا نَحْنُ النَّاس وَإِنَّك لَمْ تَلْقَ مِثْلنَا فَأَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَاد " إِلَى قَوْله " لَعِبْرَة لِأُولِي الْأَبْصَار " وَقَدْ رَوَاهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق أَيْضًا عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد عَنْ سَعِيد وَعِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس فَذَكَرَ وَهُوَ لِهَذَا قَالَ تَعَالَى " قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَة ".
قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)

قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ

" قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَة " أَيْ قَدْ كَانَ لَكُمْ أَيّهَا الْيَهُود الْقَائِلُونَ مَا قُلْتُمْ آيَة أَيْ دَلَالَة عَلَى أَنَّ اللَّه مُعِزّ دِينه وَنَاصِر رَسُوله وَمُظْهِر كَلِمَته وَمُعْلٍ أَمْره " فِي فِئَتَيْنِ " أَيْ طَائِفَتَيْنِ " اِلْتَقَتَا " أَيْ لِلْقِتَالِ " فِئَة تُقَاتِل فِي سَبِيل اللَّه وَأُخْرَى كَافِرَة " وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيْش يَوْم بَدْر وَقَوْله " يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأَى الْعَيْن " قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء فِيمَا حَكَاهُ اِبْن جَرِير يَرَى الْمُشْرِكُونَ يَوْم بَدْر الْمُسْلِمِينَ مِثْلَيْهِمْ فِي الْعَدَد رَأْيَ أَعْيُنهمْ أَيْ جَعَلَ اللَّه ذَلِكَ فِيمَا رَأَوْهُ سَبَبًا لِنُصْرَةِ الْإِسْلَام عَلَيْهِمْ وَهَذَا لَا إِشْكَال عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَة وَاحِدَة وَهِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعَثُوا عُمَر بْن سَعْد يَوْمئِذٍ قَبْل الْقِتَال يَحْزِر لَهُمْ الْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُمْ ثَلَاثُمِائَةٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَ قَلِيلًا وَهَكَذَا كَانَ الْأَمْر . كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَة عَشَر رَجُلًا ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ الْقِتَال أَمَدَّهُمْ اللَّه بِأَلْفٍ مِنْ خَوَاصّ الْمَلَائِكَة وِسَادَاتهمْ. " وَالْقَوْل الثَّانِي " أَنَّ الْمَعْنَى فِي قَوْله تَعَالَى " يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْن " أَيْ يَرَى الْفِئَة الْمُسْلِمَة الْفِئَة الْكَافِرَة مِثْلَيْهِمْ أَيْ ضِعْفَيْهِمْ فِي الْعَدَد وَمَعَ هَذَا نَصَرَهُمْ اللَّه عَلَيْهِمْ وَهَذَا لَا إِشْكَال فِيهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا يَوْم بَدْر ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَة عَشَر رَجُلًا وَالْمُشْرِكِينَ كَانُوا سِتّمِائَةٍ وَسِتَّة وَعِشْرِينَ وَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْل مَأْخُوذ مِنْ ظَاهِر هَذِهِ الْآيَة وَلَكِنَّهُ خِلَاف الْمَشْهُور عِنْد أَهْل التَّوَارِيخ وَالسِّيَر وَأَيَّام النَّاس وَخِلَاف الْمَعْرُوف عِنْد الْجُمْهُور أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا بَيْن تِسْعمِائَةٍ إِلَى أَلْف كَمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَق عَنْ يَزِيد بْن رُومَان عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَ ذَلِكَ الْعَبْد الْأَسْوَد لِبَنِي الْحَجَّاج عَنْ عِدَّة قُرَيْش قَالَ : كَثِير . قَالَ " كَمْ يَنْحَرُونَ كُلّ يَوْم " ؟ قَالَ : يَوْمًا تِسْعًا وَيَوْمًا عَشْرًا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْقَوْم مَا بَيْن تِسْعمِائَةٍ إِلَى أَلْف " . وَرَوَى أَبُو إِسْحَق السَّبِيعِيّ عَنْ جَارِيَة عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : كَانُوا أَلْفًا وَكَذَا قَالَ اِبْن مَسْعُود . وَالْمَشْهُور أَنَّهُمْ كَانُوا مَا بَيْن التِّسْعمِائَةِ إِلَى الْأَلْف وَعَلَى كُلّ تَقْدِير فَقَدْ كَانُوا ثَلَاثَة أَمْثَال الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى هَذَا فَيُشْكِل هَذَا الْقَوْل وَاَللَّه أَعْلَم لَكِنْ وَجَّهَ اِبْن جَرِير هَذَا وَجَعَلَهُ صَحِيحًا كَمَا تَقُول عِنْدِي أَلْف وَأَنَا مُحْتَاج إِلَى مِثْلَيْهَا وَتَكُون مُحْتَاجًا إِلَى ثَلَاثَة آلَاف وَكَذَا قَالَ وَعَلَى هَذَا فَلَا إِشْكَال لَكِنْ بَقِيَ سُؤَال آخَر وَهُوَ وَارِد عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ أَنْ يُقَال مَا الْجَمْع بَيْن هَذِهِ الْآيَة وَبَيْن قَوْله تَعَالَى فِي قِصَّة بَدْر " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلكُمْ فِي أَعْيُنهمْ لِيَقْضِيَ اللَّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا " فَالْجَوَاب أَنَّ هَذَا كَانَ فِي حَالَة وَالْآخَر كَانَ فِي حَالَة أُخْرَى كَمَا قَالَ السُّدِّيّ عَنْ الطَّيِّب عَنْ اِبْن مَسْعُود فِي قَوْله تَعَالَى " قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَة فِي فِئَتَيْنِ اِلْتَقَتَا " الْآيَة قَالَ : هَذَا يَوْم بَدْر . قَالَ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود : وَقَدْ نَظَرْنَا إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَرَأَيْنَاهُمْ يُضْعَفُونَ عَلَيْنَا ثُمَّ نَظَرْنَا إِلَيْهِمْ فَمَا رَأَيْنَاهُمْ يَزِيدُونَ عَلَيْنَا رَجُلًا وَاحِدًا وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى " وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلكُمْ فِي أَعْيُنهمْ " الْآيَة وَقَالَ أَبُو إِسْحَق عَنْ أَبِي عَبْدَة عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : لَقَدْ قُلِّلُوا فِي أَعْيُننَا حَتَّى قُلْت لِرَجُلٍ إِلَى جَانِبِي : تَرَاهُمْ سَبْعِينَ قَالَ : أَرَاهُمْ مِائَة. قَالَ : فَأَسَرْنَا رَجُلًا مِنْهُمْ فَقُلْنَا كَمْ كُنْتُمْ ؟ قَالَ : أَلْفًا فَعِنْدَمَا عَايَنَ كُلّ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَر رَأَى الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ مِثْلَيْهِمْ أَيْ أَكْثَر مِنْهُمْ بِالضِّعْفِ لِيَتَوَكَّلُوا وَيَتَوَجَّهُوا وَيَطْلُبُوا الْإِعَانَة مِنْ رَبّهمْ عَزَّ وَجَلَّ وَرَأَى الْمُشْرِكُونَ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ لِيَحْصُل لَهُمْ الرُّعْب وَالْخَوْف وَالْجَزَع وَالْهَلَع ثُمَّ لَمَّا حَصَلَ التَّصَافّ وَالْتَقَى الْفَرِيقَانِ قَلَّلَ اللَّه هَؤُلَاءِ فِي أَعْيُن هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي أَعْيُن هَؤُلَاءِ لَيُقْدِمَ كُلّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَر " لِيَقْضِيَ اللَّه أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا " أَيْ لِيُفَرَّقَ بَيْن الْحَقّ وَالْبَاطِل فَيُظْهِر كَلِمَة الْإِيمَان عَلَى الْكُفْر وَالطُّغْيَان وَيُعِزّ الْمُؤْمِنِينَ وَيُذِلّ الْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّه بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّة " وَقَالَ هَهُنَا " وَاَللَّه يُؤَيِّد بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَار " أَيْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَة لِمَنْ لَهُ بَصِيرَة وَفَهْم لِيَهْتَدِيَ بِهِ إِلَى حُكْم اللَّه وَأَفْعَاله وَقَدَرِهِ الْجَارِي بِنَصْرِ عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يَقُوم الْأَشْهَاد .
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ

يُخْبِر تَعَالَى عَمَّا زُيِّنَ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا مِنْ أَنْوَاع الْمَلَاذّ مِنْ النِّسَاء وَالْبَنِينَ فَبَدَأَ بِالنِّسَاءِ لِأَنَّ الْفِتْنَة بِهِنَّ أَشَدّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَة أَضَرّ عَلَى الرِّجَال مِنْ النِّسَاء " فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْقَصْد بِهِنَّ الْإِعْفَاف وَكَثْرَة الْأَوْلَاد فَهَذَا مَطْلُوب مَرْغُوب فِيهِ مَنْدُوب إِلَيْهِ كَمَا وَرَدَتْ الْأَحَادِيث بِالتَّرْغِيبِ فِي التَّزْوِيج وَالِاسْتِكْثَار مِنْهُ وَإِنَّ خَيْر هَذِهِ الْأُمَّة مَنْ كَانَ أَكْثَرهَا نِسَاء وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الدُّنْيَا مَتَاع وَخَيْر مَتَاعهَا الْمَرْأَة الصَّالِحَة إِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ وَإِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسهَا وَمَاله " وَقَوْله فِي الْحَدِيث الْآخَر " حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاء وَالطِّيب وَجُعِلَتْ قُرَّة عَيْنِي فِي الصَّلَاة " وَقَالَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا : لَمْ يَكُنْ شَيْء أَحَبّ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النِّسَاء إِلَّا الْخَيْل وَفِي رِوَايَة : مِنْ الْخَيْل إِلَّا النِّسَاء . وَحُبّ الْبَنِينَ تَارَة يَكُون لِلتَّفَاخُرِ وَالزِّينَة فَهُوَ دَاخِل فِي هَذَا وَتَارَة يَكُون لِتَكْثِيرِ النَّسْل وَتَكْثِير أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ يَعْبُد اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ فَهَذَا مَحْمُود مَمْدُوح كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيث " تَزَوَّجُوا الْوَدُود الْوَلُود فَإِنِّي مُكَاثِر بِكُمْ الْأُمَم يَوْم الْقِيَامَة " وَحُبّ الْمَال كَذَلِكَ تَارَة يَكُون لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاء وَالتَّكَبُّر عَلَى الضُّعَفَاء وَالتَّجَبُّر عَلَى الْفُقَرَاء فَهَذَا مَذْمُوم وَتَارَة يَكُون لِلنَّفَقَةِ فِي الْقُرُبَات وَصِلَة الْأَرْحَام وَالْقَرَابَات وَوُجُوه الْبِرّ وَالطَّاعَات فَهَذَا مَمْدُوح مَحْمُود شَرْعًا . وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مِقْدَار الْقِنْطَار عَلَى أَقْوَال وَحَاصِلهَا أَنَّهُ الْمَال الْجَزِيل كَمَا قَالَهُ الضَّحَّاك وَغَيْره وَقِيلَ : أَلْف دِينَار وَقِيلَ أَلْف وَمِائَتَا دِينَار وَقِيلَ اِثْنَا عَشَرَ أَلْفًا وَقِيلَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا وَقِيلَ سِتُّونَ أَلْفًا وَقِيلَ سَبْعُونَ أَلْفًا وَقِيلَ ثَمَانُونَ أَلْفًا وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ : وَقَدْ قَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا عَبْد الصَّمَد حَدَّثَنَا حَمَّاد عَنْ عَاصِم عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْقِنْطَار اِثْنَا عَشَر أَلْف أُوقِيَّة كُلّ أُوقِيَّة خَيْر مِمَّا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض " وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي شَيْبَة عَنْ عَبْد الصَّمَد بْن عَبْد الْوَارِث عَنْ حَمَّاد بْن سَلَمَة بِهِ وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ بُنْدَار عَنْ اِبْن مَهْدِيّ عَنْ حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَاصِم بْن بَهْدَلَة عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مَوْقُوفًا كَرِوَايَةِ وَكِيع فِي تَفْسِيره حَيْثُ قَالَ : حَدَّثَنَا حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَاصِم بْن بَهْدَلَة عَنْ ذَكْوَان أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ " الْقِنْطَار اِثْنَا عَشَر أَلْف أُوقِيَّة الْأُوقِيَّة خَيْر مِمَّا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض " هَذَا أَصَحّ وَهَكَذَا رَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ مُعَاذ بْن جَبَل وَابْن عُمَر وَحَكَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَأَبِي الدَّرْدَاء أَنَّهُمْ قَالُوا : الْقِنْطَار أَلْف وَمِائَتَا أُوقِيَّة . ثُمَّ قَالَ اِبْن جَرِير رَحِمَهُ اللَّه : حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْن يَحْيَى الضَّرِير حَدَّثَنَا شَبَابَة حَدَّثَنَا مَخْلَد بْن عَبْد الْوَاحِد عَنْ عَلِيّ بْن زَيْد عَنْ عَطَاء بْن أَبِي مَيْمُونَة عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش عَنْ أُبَيّ بْن كَعْب قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْقِنْطَار أَلْف أُوقِيَّة وَمِائَتَا أُوقِيَّة" وَهَذَا حَدِيث مُنْكَر أَيْضًا وَالْأَقْرَب أَنْ يَكُون مَوْقُوفًا عَلَى أُبَيّ بْن كَعْب كَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَة . وَقَدْ رَوَى اِبْن مَرْدُوَيه مِنْ طَرِيق مُوسَى بْن عُبَيْدَة الرَّبَذِيّ عَنْ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم عَنْ مُوسَى عَنْ أُمّ الدَّرْدَاء عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ قَرَأَ مِائَة آيَة لَمْ يُكْتَب مِنْ الْغَافِلِينَ وَمَنْ قَرَأَ مِائَة آيَة إِلَى أَلْف أَصْبَحَ لَهُ قِنْطَار مِنْ الْأَجْر عِنْد اللَّه الْقِنْطَار مِنْهُ مِثْل الْجَبَل الْعَظِيم " وَرَوَاهُ وَكِيع عَنْ مُوسَى بْن عُبَيْدَة بِمَعْنَاهُ. وَقَالَ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْرَكه : حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَعْقُوب حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عِيسَى بْن زَيْد اللَّخْمِيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن أَبِي سَلَمَة حَدَّثَنَا زُهَيْر بْن مُحَمَّد حَدَّثَنَا حُمَيْد الطَّوِيل وَرَجُل آخَر عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : سُئِلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْل اللَّه تَعَالَى " وَالْقَنَاطِير الْمُقَنْطَرَة " ؟ قَالَ : " الْقِنْطَار أَلْفَا أُوقِيَّة " صَحِيح عَلَى شَرْط الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ هَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِم وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم بِلَفْظٍ آخَر فَقَالَ أَنْبَأَنَا أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَن الرَّقِّيّ أَنْبَأَنَا عَمْرو بْن أَبِي سَلَمَة أَنْبَأَنَا زُهَيْر يَعْنِي اِبْن مُحَمَّد أَنْبَأَنَا حُمَيْد الطَّوِيل وَرَجُل آخَر قَدْ سَمَّاهُ يَعْنِي يَزِيد الرَّقَاشِيّ عَنْ أَنَس عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ فِي قَوْله " قِنْطَار يَعْنِي أَلْف دِينَار " وَهَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن أَبِي مَرْيَم عَنْ عَمْرو بْن أَبِي سَلَمَة فَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ مِثْله سَوَاء . وَرَوَى اِبْن جَرِير عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَنْهُ مُرْسَلًا أَوْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ : الْقِنْطَار أَلْف وَمِائَتَا دِينَار وَهُوَ رِوَايَة الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس . وَقَالَ الضَّحَّاك : مِنْ الْعَرَب مَنْ يَقُول الْقِنْطَار أَلْف وَمِائَتَا دِينَار وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول : اِثْنَا عَشَر أَلْفًا . وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَارِم عَنْ حَمَّاد عَنْ سَعِيد الْحَرَسِيّ عَنْ أَبِي نَضْرَة عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ : الْقِنْطَار مِلْء مَسْك الثَّوْر ذَهَبًا قَالَ أَبُو مُحَمَّد : وَرَوَاهُ مُحَمَّد بْن مُوسَى الْحَرَسِيّ عَنْ حَمَّاد بْن زَيْد مَرْفُوعًا وَالْمَوْقُوف أَصَحّ . " وَحُبّ الْخَيْل عَلَى ثَلَاثَة أَقْسَام " تَارَة يَكُون رَبَطَهَا أَصْحَابهَا مُعَدَّة لِسَبِيلِ اللَّه مَتَى اِحْتَاجُوا إِلَيْهَا غَزَوْا عَلَيْهَا فَهَؤُلَاءِ يُثَابُونَ وَتَارَة تُرْبَط فَخْرًا وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَام فَهَذِهِ عَلَى صَاحِبهَا وِزْر وَتَارَة لِلتَّعَفُّفِ وَاقْتِنَاء نَسْلهَا وَلَمْ يَنْسَ حَقّ اللَّه فِي رِقَابهَا فَهَذِهِ لِصَاحِبِهَا سِتْر كَمَا سَيَأْتِي الْحَدِيث بِذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى عِنْد قَوْله تَعَالَى " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّة وَمِنْ رِبَاط الْخَيْل " الْآيَة : وَأَمَّا الْمُسَوَّمَة فَعَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا : الْمُسَوَّمَة الرَّاعِيَة وَالْمُطَهَّمَة الْحِسَان وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّه بْن أَبْزَى وَالسُّدِّيّ وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَأَبِي سِنَان وَغَيْرهمْ . وَقَالَ مَكْحُول : الْمُسَوَّمَة الْغُرَّة وَالتَّحْجِيل وَقِيلَ غَيْر ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ عَبْد الْحَمِيد بْن جَعْفَر عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب عَنْ سُوَيْد بْن قَيْس عَنْ مُعَاوِيَة بْن خَدِيج عَنْ أَبِي ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْسَ مِنْ فَرَس عَرَبِيّ إِلَّا يُؤْذَن لَهُ مَعَ كُلّ فَجْر يَدْعُو بِدَعْوَتَيْنِ يَقُول : اللَّهُمَّ إِنَّك خَوَّلْتنِي مَنْ خَوَّلْتنِي مِنْ بَنِي آدَم فَاجْعَلْنِي مِنْ أَحَبّ مَاله وَأَهْله إِلَيْهِ أَوْ أَحَبّ أَهْله وَمَاله إِلَيْهِ " وَقَوْله تَعَالَى " وَالْأَنْعَام " يَعْنِي الْإِبِل وَالْبَقَر وَالْغَنَم " وَالْحَرْث " يَعْنِي الْأَرْض الْمُتَّخَذَة لِلْغِرَاسِ وَالزِّرَاعَة . وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا رَوْح بْن عُبَادَة حَدَّثَنَا أَبُو نَعَامَة الْعَدَوِيّ عَنْ مُسْلِم بْن بُدَيْل عَنْ إِيَاس بْن زُهَيْر عَنْ سُوَيْد بْن هُبَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ قَالَ " خَيْر مَال اِمْرِئٍ لَهُ مُهْرَة مَأْمُورَة أَوْ سِكَّة مَأْبُورَة " الْمَأْمُورَة الْكَثِيرَة النَّسْل وَالسِّكَّة النَّخْل الْمُصْطَفّ وَالْمَأْبُورَة الْمُلَقَّحَة. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " ذَلِكَ مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا " أَيْ إِنَّمَا هَذَا زَهْرَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزِينَتهَا الْفَانِيَة الزَّائِلَة " وَاَللَّه عِنْده حُسْنُ الْمَآب " أَيْ حُسْن الْمَرْجِع وَالثَّوَاب . وَقَدْ قَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا اِبْن حُمَيْد حَدَّثَنَا جَرِير عَنْ عَطَاء عَنْ أَبِي بَكْر بْن حَفْص بْن عُمَر بْن سَعْد قَالَ : قَالَ عُمَر بْن الْخَطَّاب لَمَّا نَزَلَتْ " زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبّ الشَّهَوَات " قُلْت : الْآنَ يَا رَبّ حِينَ زَيَّنَتْهَا لَنَا فَنَزَلَتْ " قُلْ أَؤُنَبّئُكُم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اِتَّقُوا " الْآيَة .
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)

قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ

وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " قُلْ أَؤُنَبّئُكُم بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ " أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد لِلنَّاسِ أَؤُخْبِرُكُم بِخَيْرٍ مِمَّا زُيِّنَ لِلنَّاسِ فِي هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا مِنْ زَهْرَتهَا وَنَعِيمهَا الَّذِي هُوَ زَائِل لَا مَحَالَة ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ " لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْد رَبّهمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتهَا الْأَنْهَار " أَيْ تَنْخَرِق بَيْن جَوَانِبهَا وَأَرْجَائِهَا الْأَنْهَار مِنْ أَنْوَاع الْأَشْرِبَة مِنْ الْعَسَل وَاللَّبَن وَالْخَمْر وَالْمَاء وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَا عَيْن رَأَتْ وَلَا أُذُن سَمِعْت وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ " خَالِدِينَ فِيهَا " أَيْ مَاكِثِينَ فِيهَا أَبَد الْآبَاد لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا " وَأَزْوَاج مُطَهَّرَة " أَيْ مِنْ الدَّنَس وَالْخَبَث وَالْأَذَى وَالْحَيْض وَالنِّفَاس وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِي نِسَاء الدُّنْيَا " وَرِضْوَان مِنْ اللَّه " أَيْ يَحِلّ عَلَيْهِمْ رِضْوَانه فَلَا يَسْخَط عَلَيْهِمْ بَعْده أَبَدًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَة الْأُخْرَى الَّتِي فِي بَرَاءَة " وَرِضْوَان مِنْ اللَّه أَكْبَر " أَيْ أَعْظَم مِمَّا أَعْطَاهُمْ مِنْ النَّعِيم الْمُقِيم ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " وَاَللَّه بَصِير بِالْعِبَادِ " أَيْ يُعْطِي كُلًّا بِحَسَبِ مَا يَسْتَحِقّهُ مِنْ الْعَطَاء .
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ

يَصِف تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَاده الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ الثَّوَاب الْجَزِيل فَقَالَ تَعَالَى " الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إِنَّنَا آمَنَّا " أَيْ بِك وَبِكِتَابِك وَبِرَسُولِك " فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبنَا " أَيْ بِإِيمَانِنَا بِك وَبِمَا شَرَعْته لَنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبنَا وَتَقْصِيرنَا مِنْ أَمَرْنَا بِفَضْلِك وَرَحْمَتك " وَقِنَا عَذَاب النَّار " .
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)

الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " الصَّابِرِينَ " أَيْ فِي قِيَامهمْ بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكهمْ الْمُحَرَّمَات " وَالصَّادِقِينَ " فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ إِيمَانهمْ بِمَا يَلْتَزِمُونَهُ مِنْ الْأَعْمَال الشَّاقَّة " وَالْقَانِتِينَ " وَالْقُنُوت الطَّاعَة وَالْخُضُوع " وَالْمُنْفِقِينَ " أَيْ مِنْ أَمْوَالهمْ فِي جَمِيع مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ الطَّاعَات وَصِلَة الْأَرْحَام وَالْقَرَابَات وَسَدّ الْخَلَّات وَمُوَاسَاة ذَوِي الْحَاجَات " وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ " دَلَّ عَلَى فَضِيلَة الِاسْتِغْفَار وَقْت الْأَسْحَار وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا قَالَ لِبَنِيهِ " سَوْفَ أَسْتَغْفِر لَكُمْ رَبِّي" أَنَّهُ أَخَّرَهُمْ إِلَى وَقْت السَّحَر . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا مِنْ الْمَسَانِيد وَالسُّنَن مِنْ غَيْر وَجْه مِنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ " يَنْزِل اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي كُلّ لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا حِين يَبْقَى ثُلُث اللَّيْل الْأَخِير فَيَقُول : هَلْ مِنْ سَائِل فَأُعْطِيه ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيب لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِر فَأَغْفِر لَهُ ؟ " الْحَدِيث . وَقَدْ أَفْرَدَ الْحَافِظ أَبُو الْحَسَن الدَّارَقُطْنِيّ فِي ذَلِكَ جُزْءًا عَلَى حِدَة فَرَوَاهُ مِنْ طُرُق مُتَعَدِّدَة . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : مِنْ كُلّ اللَّيْل قَدْ أَوْتَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِهِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَر. وَكَانَ عَبْد اللَّه بْن عُمَر يُصَلِّي مِنْ اللَّيْل ثُمَّ يَقُول : يَا نَافِع هَلْ جَاءَ السَّحَر ؟ فَإِذَا قَالَ : نَعَمْ أَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاء وَالِاسْتِغْفَار حَتَّى يُصْبِح رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم . وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا اِبْن وَكِيع حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ حُرَيْث بْن أَبِي مَطَر عَنْ إِبْرَاهِيم بْن حَاطِب عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت رَجُلًا فِي السَّحَر فِي نَاحِيَة الْمَسْجِد وَهُوَ يَقُول : يَا رَبّ أَمَرْتنِي فَأَطَعْتُك وَهَذَا السَّحَر فَاغْفِرْ لِي فَنَظَرْت فَإِذَا هُوَ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . وَرَوَى اِبْن مَرْدُوَيه عَنْ أَنَس بْن مَالِك قَالَ : كُنَّا نُؤْمَر إِذَا صَلَّيْنَا مِنْ اللَّيْل أَنْ نَسْتَغْفِر فِي آخِر السَّحَر سَبْعِينَ مَرَّة .
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ شَهِدَ تَعَالَى وَكَفَى بِهِ شَهِيدًا وَهُوَ أَصْدَق الشَّاهِدِينَ وَأَعْدَلهمْ وَأَصْدَق الْقَائِلِينَ " أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ " أَيْ الْمُنْفَرِد بِالْإِلَهِيَّةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِق وَأَنَّ الْجَمِيع عَبِيده وَخَلْقه وَفُقَرَاء إِلَيْهِ وَهُوَ الْغَنِيّ عَمَّا سِوَاهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى " لَكِنْ اللَّه يَشْهَد بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْك " الْآيَة ثُمَّ قَرَنَ شَهَادَة مَلَائِكَته وَأُولِي الْعِلْم بِشَهَادَتِهِ فَقَالَ " شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُوا الْعِلْم " وَهَذِهِ خُصُوصِيَّة عَظِيمَة لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْمَقَام " قَائِمًا بِالْقِسْطِ " مَنْصُوب عَلَى الْحَال وَهُوَ فِي جَمِيع الْأَحْوَال كَذَلِكَ " لَا إِلَه إِلَّا هُوَ " تَأْكِيد لِمَا سَبَقَ " الْعَزِيز الْحَكِيم " الْعَزِيز الَّذِي لَا يُرَام جَنَابه عَظَمَة وَكِبْرِيَاء الْحَكِيم فِي أَقْوَاله وَأَفْعَاله وَشَرْعه وَقَدَره وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا يَزِيد بْن عَبْد رَبّه حَدَّثَنَا بَقِيَّة بْن الْوَلِيد حَدَّثَنِي جُبَيْر بْن عَمْرو الْقُرَشِيّ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الْأَنْصَارِيّ عَنْ أَبِي يَحْيَى مَوْلَى آل الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام عَنْ الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام قَالَ : سَمِعْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ يَقْرَأ هَذِهِ الْآيَة " شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُوا الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم " وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الشَّاهِدِينَ يَا رَبّ وَقَدْ رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم مِنْ وَجْه آخَر فَقَالَ : حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن حُسَيْن حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الْمُتَوَكِّل الْعَسْقَلَانِيّ حَدَّثَنَا عُمَر بْن حَفْص بْن ثَابِت أَبُو سَعِيد الْأَنْصَارِيّ حَدَّثَنَا عَبْد الْمَلِك بْن يَحْيَى بْن عَبَّاد بْن عَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه عَنْ الزُّبَيْر قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِين قَرَأَ هَذِهِ الْآيَة " شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة " قَالَ : قَالَ " وَأَنَا أَشْهَد أَيْ رَبّ " وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ فِي الْمُعْجَم الْكَبِير حَدَّثَنَا عَبْدَانِ بْن أَحْمَد وَعَلِيّ بْن سَعِيد الرَّازِيّ قَالَا : حَدَّثَنَا عَمَّار بْن عُمَر الْمُخْتَار حَدَّثَنِي أَبِي حَدَّثَنِي غَالِب الْقَطَّان قَالَ : أَتَيْت الْكُوفَة فِي تِجَارَة فَنَزَلْت قَرِيبًا مِنْ الْأَعْمَش فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَة أَرَدْت أَنْ أَنْحَدِر قَامَ فَتَهَجَّدَ مِنْ اللَّيْل فَمَرَّ بِهَذِهِ الْآيَة " شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُوا الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام " ثُمَّ قَالَ الْأَعْمَش : وَأَنَا أَشْهَد بِمَا شَهِدَ اللَّه بِهِ وَأَسْتَوْدِع اللَّه هَذِهِ الشَّهَادَة وَهِيَ لِي عِنْد اللَّه وَدِيعَة " إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام " قَالَهَا مِرَارًا قُلْت : لَقَدْ سَمِعَ فِيهَا شَيْئًا فَغَدَوْت إِلَيْهِ فَوَدَّعْته ثُمَّ قُلْت يَا أَبَا مُحَمَّد إِنِّي سَمِعْتُك تُرَدِّد هَذِهِ الْآيَة قَالَ : أَوَمَا بَلَغَك مَا فِيهَا قُلْت : أَنَا عِنْدك مُنْذُ شَهْر لَمْ تُحَدِّثنِي قَالَ : وَاَللَّه لَا أُحَدِّثك بِهَا إِلَى سَنَة فَأَقَمْت سَنَة فَكُنْت عَلَى بَابه فَلَمَّا مَضَتْ السَّنَة قُلْت يَا أَبَا مُحَمَّد قَدْ مَضَتْ السَّنَة قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو وَائِل عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يُجَاء بِصَاحِبِهَا يَوْم الْقِيَامَة فَيَقُول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ وَأَنَا أَحَقّ مَنْ وَفَّى بِالْعَهْدِ أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّة " .
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ

وَقَوْله تَعَالَى " إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام " إِخْبَارًا مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا دِين عِنْده يَقْبَلهُ مِنْ أَحَد سِوَى الْإِسْلَام وَهُوَ اِتِّبَاع الرُّسُل فِيمَا بَعَثَهُمْ اللَّه بِهِ فِي كُلّ حِين حَتَّى خُتِمُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي سَدّ جَمِيع الطُّرُق إِلَيْهِ إِلَّا مِنْ جِهَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ لَقِيَ اللَّه بَعْد بَعْثَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِينٍ عَلَى غَيْر شَرِيعَته فَلَيْسَ بِمُتَقَبَّلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ " الْآيَة . وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَة مُخْبِرًا بِانْحِصَارِ الدِّين الْمُتَقَبَّل مِنْهُ عِنْده فِي الْإِسْلَام " إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام " وَذَكَرَ اِبْن جَرِير : أَنَّ اِبْن عَبَّاس قَرَأَ " شَهِدَ اللَّه أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُوا الْعِلْم قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم إِنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام " بِكَسْرِ إِنَّهُ وَفَتْح أَنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام أَيْ شَهِدَ هُوَ وَالْمَلَائِكَة وَأُولُو الْعِلْم مِنْ الْبَشَر بِأَنَّ الدِّين عِنْد اللَّه الْإِسْلَام وَالْجُمْهُور قَرَءُوهَا بِالْكَسْرِ عَلَى الْخَبَر وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ صَحِيح وَلَكِنَّ هَذَا عَلَى قَوْل الْجُمْهُور أَظْهَر وَاَللَّه أَعْلَم ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب الْأَوَّل إِنَّمَا اِخْتَلَفُوا بَعْدَمَا قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّة بِإِرْسَالِ الرُّسُل إِلَيْهِمْ وَإِنْزَال الْكُتُب عَلَيْهِمْ فَقَالَ " وَمَا اِخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب إِلَّا مِنْ بَعْدَمَا جَاءَهُمْ الْعِلْم بَغْيًا بَيْنهمْ " أَيْ بَغَى بَعْضهمْ عَلَى بَعْض فَاخْتَلَفُوا فِي الْحَقّ لِتَحَاسُدِهِمْ وَتَبَاغُضهمْ وَتَدَابُرهمْ فَحَمَلَ بَعْضهمْ بُغْض الْبَعْض الْآخَر عَلَى مُخَالَفَته فِي جَمِيع أَقْوَاله وَأَفْعَاله وَإِنْ كَانَتْ حَقًّا ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " وَمَنْ يَكْفُر بِآيَاتِ اللَّه " أَيْ مَنْ جَحَدَ مَا أَنْزَلَ اللَّه فِي كِتَابه " فَإِنَّ اللَّه سَرِيع الْحِسَاب " أَيْ فَإِنَّ اللَّه سَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ وَيُحَاسِبهُ عَلَى تَكْذِيبه وَيُعَاقِبهُ عَلَى مُخَالَفَته كِتَابه.
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " فَإِنْ حَاجُّوك " أَيْ جَادَلُوك فِي التَّوْحِيد " فَقُلْ أَسْلَمْت وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِ " أَيْ فَقُلْ أَخْلَصْت عِبَادَتِي لِلَّهِ وَحْده لَا شَرِيك لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا وَلَد وَلَا صَاحِبَة لَهُ " وَمَنْ اتَّبَعَنِ " أَيْ عَلَى دِينِي يَقُول كَمَقَالَتِي كَمَا قَالَ " قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنْ اِتَّبَعَنِي " الْآيَة ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِعَبْدِهِ وَرَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى طَرِيقَته وَدِينه وَالدُّخُول فِي شَرْعِهِ وَمَا بَعَثَهُ اللَّه بِهِ : الْكِتَابِيِّينَ مِنْ الْمِلِّيِّينَ وَالْأُمِّيِّينَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ تَعَالَى " وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَاب وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اِهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ " أَيْ وَاَللَّه عَلَيْهِ حِسَابهمْ وَإِلَيْهِ مَرْجِعهمْ وَمَآبهمْ وَهُوَ الَّذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاء وَيُضِلّ مَنْ يَشَاء وَلَهُ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْحُجَّة الدَّامِغَة وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَاَللَّه بَصِير بِالْعِبَادِ " أَيْ هُوَ عَلِيم بِمَنْ يَسْتَحِقّ الْهِدَايَة مِمَّنْ يَسْتَحِقّ الضَّلَالَة وَهُوَ الَّذِي " لَا يُسْأَل عَمَّا يَفْعَل وَهُمْ يُسْأَلُونَ " وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِحِكْمَتِهِ وَرَحْمَته وَهَذِهِ الْآيَة وَأَمْثَالهَا مِنْ أَصْرَح الدَّلَالَات عَلَى عُمُوم بَعْثَته صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ إِلَى جَمِيع الْخَلْق كَمَا هُوَ مَعْلُوم مِنْ دِينه ضَرُورَة وَكَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَاب وَالسُّنَّة فِي غَيْر مَا آيَة وَحَدِيث فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى " قُلْ يَا أَيّهَا النَّاس إِنِّي رَسُول اللَّه إِلَيْكُمْ جَمِيعًا " وَقَالَ تَعَالَى " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَان عَلَى عَبْده لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرهمَا مِمَّا ثَبَتَ تَوَاتُره بِالْوَقَائِعِ الْمُتَعَدِّدَة أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ كُتُبَهُ يَدْعُو إِلَى اللَّه مُلُوك الْآفَاق وَطَوَائِف بَنِي آدَم مِنْ عَرَبهمْ وَعَجَمهمْ كِتَابِيّهمْ وَأُمِّيِّهِمْ اِمْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّه لَهُ بِذَلِكَ . وَقَدْ رَوَى عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ هَمَّام عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَع بِي أَحَد مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ وَمَاتَ وَلَمْ يُؤْمِن بِاَلَّذِي أُرْسِلْت بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَهْل النَّار " رَوَاهُ مُسْلِم وَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بُعِثْت إِلَى الْأَحْمَر وَالْأَسْوَد " وَقَالَ " كَانَ النَّبِيّ يُبْعَث إِلَى قَوْمه خَاصَّة وَبُعِثْت إِلَى النَّاس عَامَّة " . وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا مُؤَمِّل حَدَّثَنَا حَمَّاد حَدَّثَنَا ثَابِت عَنْ أَنَس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَنَّ غُلَامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَضَع لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضُوءَهُ وَيُنَاوِلهُ نَعْلَيْهِ فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَأَبُوهُ قَاعِد عِنْد رَأْسه فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَا فُلَان قُلْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه " فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ فَسَكَتَ أَبُوهُ فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ فَقَالَ أَبُوهُ : أَطِعْ أَبَا الْقَاسِم فَقَالَ الْغُلَام : أَشْهَد أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَأَنَّك رَسُول اللَّه فَخَرَجَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُول " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِي مِنْ النَّار " رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي الصَّحِيح إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْآيَات وَالْأَحَادِيث.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ

هَذَا ذَمّ مِنْ اللَّه تَعَالَى لِأَهْلِ الْكِتَاب بِمَا اِرْتَكَبُوهُ مِنْ الْمَآثِم وَالْمَحَارِم فِي تَكْذِيبهمْ بِآيَاتِ اللَّه قَدِيمًا وَحَدِيثًا الَّتِي بَلَّغَتْهُمْ إِيَّاهَا الرُّسُل اِسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ وَعِنَادًا لَهُمْ وَتَعَاظُمًا عَلَى الْحَقّ وَاسْتِنْكَافًا عَنْ اِتِّبَاعه وَمَعَ هَذَا قَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنْ النَّبِيِّينَ حِين بَلَّغُوهُمْ عَنْ اللَّه شَرْعه بِغَيْرِ سَبَب وَلَا جَرِيمَة مِنْهُمْ إِلَيْهِمْ إِلَّا لِكَوْنِهِمْ دَعَوْهُمْ إِلَى الْحَقّ " وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاس " وَهَذَا هُوَ غَايَة الْكِبْر كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْكِبْر بَطَر الْحَقّ وَغَمْط النَّاس " . وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْر الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن مُسْلِم النَّيْسَابُورِيّ نَزِيل مَكَّة حَدَّثَنِي أَبُو حَفْص عُمَر بْن حَفْص يَعْنِي اِبْن ثَابِت بْن زُرَارَة الْأَنْصَارِيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن حَمْزَة حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَن مَوْلًى لِبَنِي أَسَد عَنْ مَكْحُول عَنْ أَبِي قَبِيصَة بْن ذِئْب الْخُزَاعِيّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه أَيّ النَّاس أَشَدّ عَذَابًا يَوْم الْقِيَامَة ؟ قَالَ " رَجُل قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ مَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَر " ثُمَّ قَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاس فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم " الْآيَة ثُمَّ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَا أَبَا عُبَيْدَة قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيل ثَلَاثَة وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّل النَّهَار فِي سَاعَة وَاحِدَة فَقَامَ مِائَة وَسَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَأَمَرُوا مَنْ قَتَلَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْهُمْ عَنْ الْمُنْكَر فَقَتَلُوهُمْ جَمِيعًا مِنْ آخِر النَّهَار مِنْ ذَلِكَ الْيَوْم فَهُمْ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَهَكَذَا رَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ أَبِي عُبَيْد الْوَصَّابِيّ مُحَمَّد بْن حَفْص عَنْ اِبْن حِمْيَر عَنْ أَبِي الْحَسَن مَوْلَى بَنِي أَسَد عَنْ مَكْحُول بِهِ وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيل ثَلَاثمِائَةِ نَبِيّ مِنْ أَوَّل النَّهَار وَأَقَامُوا سُوق بَقْلِهِمْ مِنْ آخِره رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم وَلِهَذَا لَمَّا أَنْ تَكَبَّرُوا عَنْ الْحَقّ وَاسْتَكْبَرُوا عَلَى الْخَلْق قَابَلَهُمْ اللَّه عَلَى ذَلِكَ بِالذِّلَّةِ وَالصَّغَار فِي الدُّنْيَا وَالْعَذَاب الْمُهِين فِي الْآخِرَة فَقَالَ تَعَالَى " فَبِشَرِّهِمْ بِعَذَابٍ أَلِيم " أَيْ مُوجِع مُهِين.
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)

لا إلَهَ إلا الله وأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، فَخَرَجَ النَّبَيُّ (1) ﷺ وَهُوَ يَقُولُ: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أخْرَجَهُ بِي مِنِ النَّارِ" أخرجه البخاري في الصحيح (2) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) } هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب فيما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديما وحديثا، التي بلغتهم إياها الرسل، استكبارًا عليهم وعنادًا لهم، وتعاظما على الحق واستنكافا عن اتباعه، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم، إلا لكونهم دعوهم إلى الحقّ { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } وهذا هو غاية الكبر، كما قال النبي (3) ﷺ: "الْكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وَغَمْط النَّاسِ". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو الزُّبَيْر الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري، نزيل مكة، حدثني أبو حفص عمر بن حفص -يعني ابن ثابت بن زرارة الأنصاري-حدثنا محمد بن حمزة، حدثني أبو الحسن مولى لبني أسد، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: "رَجلٌ قَتَلَ نَبِيا أوْ مَنْ أمر بِالمْعْرُوفِ ونَهَى عَنِ المُنْكَر". ثم قرأ رسول الله ﷺ: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [إلى قوله: { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] } (4) الآية. ثم قال رسول الله ﷺ: "يا أبَا عُبَيَدَةَ، قَتَلَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ثَلاثَةً وأَرْبَعين نَبيا، من أوَّلِ النّهَارِ في ساعةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَامَ مِائَة (5) وسَبْعُونَ رَجُلا مِنْ بَني إسْرائيلَ، فأمَرُوا مَنْ قَتَلَهُم بالْمَعْرُوفِ ونَهَوْهُمْ عَنِ المنكرِ، فقتلوا جَمِيعًا مِنْ آخِرِ النَّهارِ مِنْ ذَلكَ اليَوْمِ، فَهُم الذِينَ ذَكَرَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ". وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عبيد الوصّابي محمد بن حفص، عن ابن حُمَيْر، عن أبي الحسن مولى بني أسد، عن مكحول، به (6) . وعن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار، وأقاموا سوق بَقْلِهِمْ من آخره. رواه ابن أبي حاتم. ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق، قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة، فقال: { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي: موجع مهين. { أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ

يَقُول تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى الْمُتَمَسِّكِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَ بِكِتَابَيْهِمْ اللَّذَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ وَهُمَا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَإِذَا دُعُوا إِلَى التَّحَاكُم إِلَى مَا فِيهِمَا مِنْ طَاعَة اللَّه فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِيهِمَا مِنْ اِتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْهُمَا وَهَذَا فِي غَايَة مَا يَكُون مِنْ ذَمّهمْ وَالتَّنْوِيه بِذَكَرِهِمْ بِالْمُخَالَفَةِ وَالْعِنَاد .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ

قَالَ تَعَالَى " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسّنَا النَّار إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات " أَيْ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ وَجَرَّأَهُمْ عَلَى مُخَالَفَة الْحَقّ اِفْتِرَاؤُهُمْ عَلَى اللَّه فِيمَا اِدَّعَوْهُ لِأَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعَذَّبُونَ فِي النَّار سَبْعَة أَيَّام عَنْ كُلّ أَلْف سَنَة فِي الدُّنْيَا يَوْمًا وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِير ذَلِكَ فِي سُورَة الْبَقَرَة . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " وَغَرَّهُمْ فِي دِينهمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ " أَيْ ثَبَّتَهُمْ عَلَى دِينهمْ الْبَاطِل مَا خَدَعُوا بِهِ أَنْفُسهمْ مِنْ زَعْمهمْ أَنَّ النَّار لَا تَمَسّهُمْ بِذُنُوبِهِمْ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَات وَهُمْ الَّذِينَ اِفْتَرَوْا هَذَا مِنْ تِلْقَاء أَنْفُسهمْ وَاخْتَلَقُوهُ وَلَمْ يُنْزِل اللَّه بِهِ سُلْطَانًا .
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)

فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ

قَالَ اللَّه تَعَالَى مُتَهَدِّدًا لَهُمْ وَمُتَوَعِّدًا " فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْب فِيهِ " أَيْ كَيْفَ يَكُون حَالهمْ وَقَدْ اِفْتَرَوْا عَلَى اللَّه وَكَذَّبُوا رُسُله وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَهُ وَالْعُلَمَاء مِنْ قَوْمهمْ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِينَ عَنْ الْمُنْكَر وَاَللَّه تَعَالَى سَائِلهمْ عَنْ ذَلِكَ كُلّه وَحَاكِم عَلَيْهِمْ وَمُجَازِيهمْ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْب فِيهِ " أَيْ لَا شَكّ فِي وُقُوعه وَكَوْنه " وَوُفِّيَت كُلّ نَفْس مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ " .
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

يَقُول تَبَارَكَ وَتَعَالَى " قُلْ " يَا مُحَمَّد مُعَظِّمَا لِرَبِّك وَشَاكِرًا لَهُ وَمُفَوِّضًا إِلَيْهِ وَمُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ " اللَّهُمَّ مَالِك الْمُلْك " أَيْ لَك الْمُلْك كُلّه " تُؤْتِي الْمُلْك مَنْ تَشَاء وَتَنْزِع الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء وَتُعِزّ مَنْ تَشَاء وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء " أَيْ أَنْتَ الْمُعْطِي وَأَنْتَ الْمَانِع وَأَنْتَ الَّذِي مَا شِئْت كَانَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ . وَفِي هَذِهِ الْآيَة تَنْبِيه وَإِرْشَاد إِلَى شُكْرِ نِعْمَة اللَّه تَعَالَى عَلَى رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ الْأُمَّة لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى حَوَّلَ النُّبُوَّة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل إِلَى النَّبِيّ الْعَرَبِيّ الْقُرَشِيّ الْأُمِّيّ الْمَكِّيّ خَاتَم الْأَنْبِيَاء عَلَى الْإِطْلَاق وَرَسُول اللَّه إِلَى جَمِيع الثَّقَلَيْنِ الْإِنْس وَالْجِنّ الَّذِي جَمَعَ اللَّه فِيهِ مَحَاسِن مَنْ كَانَ قَبْله وَخَصَّهُ بِخَصَائِصَ لَمْ يُعْطِهَا نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاء وَلَا رَسُولًا مِنْ الرُّسُل فِي الْعِلْم بِاَللَّهِ وَشَرِيعَته وَاطِّلَاعه عَلَى الْغُيُوب الْمَاضِيَة وَالْآتِيَة وَكَشْفِهِ لَهُ عَنْ حَقَائِق الْآخِرَة وَنَشْرِ أُمَّته فِي الْآفَاق فِي مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبهَا وَإِظْهَار دِينه وَشَرْعِهِ عَلَى سَائِر الْأَدْيَان وَالشَّرَائِع فَصَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْم الدِّين مَا تَعَاقَبَ اللَّيْل وَالنَّهَار وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " قُلْ اللَّهُمَّ مَالِك الْمُلْك " الْآيَة أَيْ أَنْتَ الْمُتَصَرِّف فِي خَلْقك الْفَعَّال لِمَا تُرِيد كَمَا رَدَّ تَعَالَى عَلَى مَنْ يَحْكُم عَلَيْهِ فِي أَمْرِهِ حَيْثُ قَالَ " وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآن عَلَى رَجُل مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم " قَالَ اللَّه رَدًّا عَلَيْهِمْ " أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَة رَبّك " الْآيَة أَيْ نَحْنُ نَتَصَرَّف فِيمَا خَلَقْنَا كَمَا نُرِيد بِلَا مُمَانِع وَلَا مُدَافِع وَلَنَا الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَالْحُجَّة التَّامَّة فِي ذَلِكَ وَهَكَذَا يُعْطِي النُّبُوَّة لِمَنْ يُرِيد كَمَا قَالَ تَعَالَى " اللَّه أَعْلَم حَيْثُ يَجْعَل رِسَالَته " وَقَالَ تَعَالَى " اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضهمْ عَلَى بَعْض " الْآيَة وَقَدْ رَوَى الْحَافِظ اِبْن عَسَاكِر فِي تَرْجَمَة إِسْحَق بْن أَحْمَد مِنْ تَارِيخه عَنْ الْمَأْمُون الْخَلِيفَة أَنَّهُ رَأَى فِي قَصْر بِبِلَادِ الرُّوم مَكْتُوبًا بِالْحِمْيَرِيَّةِ فَعُرِّبَ لَهُ فَإِذَا هُوَ بِسْمِ اللَّه مَا اِخْتَلَفَ اللَّيْل وَالنَّهَار وَلَا دَارَتْ نُجُوم السَّمَاء فِي الْفَلَك إِلَّا بِنَقْلِ النَّعِيم عَنْ مَلِك قَدْ زَالَ سُلْطَانه إِلَى مَلِك , وَمَلِك ذِي الْعَرْش دَائِم أَبَدًا لَيْسَ بِفَانٍ وَلَا بِمُشْتَرَكٍ .
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ

وَقَوْله تَعَالَى " تُولِج اللَّيْل فِي النَّهَار وَتُولِج النَّهَار فِي اللَّيْل " أَيْ تَأْخُذ مِنْ طُول هَذَا فَتَزِيدهُ فِي قِصَرِ هَذَا فَيَعْتَدِلَانِ ثُمَّ تَأْخُذ مِنْ هَذَا فِي هَذَا فَيَتَفَاوَتَانِ ثُمَّ يَعْتَدِلَانِ وَهَكَذَا فِي فُصُول السَّنَة رَبِيعًا وَصَيْفًا وَخَرِيفًا وَشِتَاء وَقَوْله تَعَالَى " وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنْ الْمَيِّت وَتُخْرِج الْمَيِّت مِنْ الْحَيّ " أَيْ تُخْرِج الزَّرْع مِنْ الْحَبّ وَالْحَبّ مِنْ الزَّرْع وَالنَّخْلَة مِنْ النَّوَاة وَالنَّوَاة مِنْ النَّخْلَة وَالْمُؤْمِن مِنْ الْكَافِر وَالْكَافِر مِنْ الْمُؤْمِن وَالدَّجَاجَة مِنْ الْبَيْضَة وَالْبَيْضَة مِنْ الدَّجَاجَة . وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى فِي جَمِيع الْأَشْيَاء " وَتَرْزُق مَنْ تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب " أَيْ تُعْطِي مَنْ شِئْت مِنْ الْمَال مَا لَا يَعُدّهُ وَلَا يَقْدِر عَلَى إِحْصَائِهِ وَتُقَتِّر عَلَى آخَرِينَ لِمَا لَك فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة وَالْإِرَادَة وَالْمَشِيئَة . قَالَ الطَّبَرَانِيّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زَكَرِيَّا الْعَلَائِيّ حَدَّثَنَا جَعْفَر بْن حَسَن بْن فَرْقَد حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عُمَر بْن مَالِك عَنْ أَبِي الْجَوْزَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " اِسْم اللَّه الْأَعْظَم الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي هَذِهِ الْآيَة مِنْ آل عِمْرَان " قُلْ اللَّهُمَّ مَالِك الْمُلْك تُؤْتِي الْمُلْك مَنْ تَشَاء وَتَنْزِع الْمُلْك مِمَّنْ تَشَاء وَتُعِزّ مَنْ تَشَاء وَتُذِلّ مَنْ تَشَاء بِيَدِك الْخَيْر إِنَّك عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " .
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ

نَهَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَاده الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُوَالُوا الْكَافِرِينَ وَأَنْ يَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاء يُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى " وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّه فِي شَيْء " أَيْ وَمَنْ يَرْتَكِب نَهْي اللَّه فِي هَذَا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّه كَمَا قَالَ تَعَالَى " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - إِلَى أَنْ قَالَ - وَمَنْ يَفْعَلهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيل " وَقَالَ تَعَالَى " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِنْ دُون الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا " وَقَالَ تَعَالَى " يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ " الْآيَة . وَقَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى بَعْد ذِكْر مُوَالَاة الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار وَالْأَعْرَاب " وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضهمْ أَوْلِيَاء بَعْض إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَة فِي الْأَرْض وَفَسَاد كَبِير " وَقَوْله تَعَالَى " إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة " أَيْ مَنْ خَافَ فِي بَعْض الْبُلْدَان وَالْأَوْقَات مِنْ شَرّهمْ فَلَهُ أَنْ يَتَّقِيَهِمْ بِظَاهِرِهِ لَا بِبَاطِنِهِ وَنِيَّته كَمَا قَالَ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاء أَنَّهُ قَالَ : إِنَّا لَنُكَشِّر فِي وُجُوه أَقْوَام وَقُلُوبنَا تَلْعَنهُمْ . وَقَالَ الثَّوْرِيّ : قَالَ اِبْن عَبَّاس : لَيْسَ التَّقِيَّة بِالْعَمَلِ إِنَّمَا التَّقِيَّة بِاللِّسَانِ وَكَذَا رَوَاهُ الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس إِنَّمَا التَّقِيَّة بِاللِّسَانِ وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَأَبُو الشَّعْثَاء وَالضَّحَّاك وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَيُؤَيِّد مَا قَالُوهُ قَوْل اللَّه تَعَالَى " مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْد إِيمَانه إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبه مُطْمَئِنَّ بِالْإِيمَانِ " الْآيَة وَقَالَ الْبُخَارِيّ : قَالَ الْحَسَن التَّقِيَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " وَيُحَذِّركُمْ اللَّه نَفْسه " أَيْ يُحَذِّركُمْ نِقْمَتَهُ فِي مُخَالَفَته وَسَطْوَته وَعَذَابه لِمَنْ وَالَى أَعْدَاءَهُ وَعَادَى أَوْلِيَاءَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " وَإِلَى اللَّه الْمَصِير " أَيْ إِلَيْهِ الْمَرْجِع وَالْمُنْقَلَب لِيُجَازِيَ كُلّ عَامِل بِعَمَلِهِ. قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا سُوَيْد بْن سَعِيد حَدَّثَنَا مُسْلِم بْن خَالِد عَنْ اِبْن أَبِي حُسَيْن عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن سَابِط عَنْ مَيْمُون بْن مِهْرَان قَالَ : قَامَ فِينَا مُعَاذ فَقَالَ : يَا بَنِي أَوْد إِنِّي رَسُول رَسُول اللَّه إِلَيْكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَعَاد إِلَى اللَّه إِلَى الْجَنَّة أَوْ إِلَى النَّار .
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ

يُخْبِر تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَاده أَنَّهُ يَعْلَم السَّرَائِر وَالضَّمَائِر وَالظَّوَاهِر وَأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَة بَلْ عِلْمه مُحِيط بِهِمْ فِي سَائِر الْأَحْوَال وَالْأَزْمَان وَالْأَيَّام وَاللَّحَظَات وَجَمِيع الْأَوْقَات وَجَمِيع مَا فِي الْأَرْض وَالسَّمَوَات لَا يَغِيب عَنْهُ مِثْقَال ذَرَّة وَلَا أَصْغَر مِنْ ذَلِكَ فِي جَمِيع أَقْطَار الْأَرْض وَالْبِحَار وَالْجِبَال " وَاَللَّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير " أَيْ وَقُدْرَته نَافِذَة فِي جَمِيع ذَلِكَ وَهَذَا تَنْبِيه مِنْهُ لِعِبَادِهِ عَلَى خَوْفه وَخَشْيَته لِئَلَّا يَرْتَكِبُوا مَا نَهَى عَنْهُ وَمَا يُبْغِضهُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عَالِم بِجَمِيعِ أُمُورهمْ وَهُوَ قَادِر عَلَى مُعَاجَلَتهمْ بِالْعُقُوبَةِ وَإِنْ أَنْظَرَ مَنْ أَنْظَرَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ يُمْهِل ثُمَّ يَأْخُذ أَخْذَ عَزِيز مُقْتَدِر . وَلِهَذَا قَالَ بَعْد هَذَا " يَوْم تَجِد كُلّ نَفْس مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْر مَحْضَرًا " الْآيَة .
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ

يَعْنِي يَوْم الْقِيَامَة يُحْضِر لِلْعَبْدِ جَمِيع أَعْمَاله مِنْ خَيْر وَشَرّ كَمَا قَالَ تَعَالَى " يُنَبَّأ الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ " فَمَا رَأَى مِنْ أَعْمَاله حَسَنًا سَرَّهُ ذَلِكَ وَأَفْرَحَهُ وَمَا رَأَى مِنْ قَبِيح سَاءَهُ وَغَصَّهُ وَوَدَّ لَوْ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَأَنْ يَكُون بَيْنهمَا أَمَد بَعِيد كَمَا يَقُول لِشَيْطَانِهِ الَّذِي كَانَ مَقْرُونًا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الَّذِي جَرَّأَهُ عَلَى فِعْلِ السُّوء " يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنك بُعْد الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِين " ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُؤَكِّدًا وَمُهَدِّدًا وَمُتَوَعِّدًا " وَيُحَذِّركُمْ اللَّه نَفْسه " أَيْ يُخَوِّفكُمْ عِقَابه ثُمَّ قَالَ جَلَّ جَلَاله مُرْجِيًا لِعِبَادِهِ لِئَلَّا يَيْأَسُوا مِنْ رَحْمَته وَيَقْنَطُوا مِنْ لُطْفه " وَاَللَّه رَءُوف بِالْعِبَادِ " قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : مِنْ رَأْفَته بِهِمْ حَذَّرَهُمْ نَفْسه وَقَالَ غَيْره : أَيْ رَحِيم بِخَلْقِهِ يُحِبّ لَهُمْ أَنْ يَسْتَقِيمُوا عَلَى صِرَاطه الْمُسْتَقِيم وَدِينه الْقَوِيم وَأَنْ يَتَّبِعُوا رَسُوله الْكَرِيم .
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

هَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة حَاكِمَة عَلَى كُلّ مَنْ اِدَّعَى مَحَبَّة اللَّه وَلَيْسَ هُوَ عَلَى الطَّرِيقَة الْمُحَمَّدِيَّة فَإِنَّهُ كَاذِب فِي دَعْوَاهُ فِي نَفْس الْأَمْر حَتَّى يَتَّبِع الشَّرْع الْمُحَمَّدِيّ وَالدِّين النَّبَوِيّ فِي جَمِيع أَقْوَاله وَأَفْعَاله كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرنَا فَهُوَ رَدّ " وَلِهَذَا قَالَ " إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبَعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه " أَيْ يَحْصُل لَكُمْ فَوْق مَا طَلَبْتُمْ مِنْ مَحَبَّتكُمْ إِيَّاهُ وَهُوَ مَحَبَّته إِيَّاكُمْ وَهُوَ أَعْظَم مِنْ الْأَوَّل كَمَا قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء الْحُكَمَاء : لَيْسَ الشَّأْن أَنْ تُحِبّ إِنَّمَا الشَّأْن أَنْ تُحَبّ . وَقَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَغَيْره مِنْ السَّلَف : زَعَمَ قَوْم أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ اللَّه فَابْتَلَاهُمْ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَة فَقَالَ " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه " وَقَدْ قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن مُحَمَّد الطَّنَافِسِيّ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مُوسَى بْن عَبْد الْأَعْلَى بْن أَعْيَن عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير عَنْ عُرْوَة عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَهَلْ الدِّين إِلَّا الْحُبّ فِي اللَّه وَالْبُغْض فِي اللَّه " ؟ قَالَ اللَّه تَعَالَى : " قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي " وَقَالَ أَبُو زُرْعَة عَبْد الْأَعْلَى هَذَا مُنْكَر الْحَدِيث . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبكُمْ وَاَللَّه غَفُور رَحِيم " أَيْ بِاتِّبَاعِكُمْ الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْصُل لَكُمْ هَذَا مِنْ بَرَكَة سِفَارَته.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا لِكُلِّ أَحَد مِنْ خَاصّ وَعَامّ " قُلْ أَطِيعُوا اللَّه وَالرَّسُول فَإِنْ تَوَلَّوْا " أَيْ تُخَالِفُوا عَنْ أَمْره " فَإِنَّ اللَّه لَا يُحِبّ الْكَافِرِينَ " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَته فِي الطَّرِيقَة كُفْر وَاَللَّه لَا يُحِبّ مَنْ اِتَّصَفَ بِذَلِكَ وَإِنْ اِدَّعَى وَزَعَمَ فِي نَفْسه أَنَّهُ مُحِبّ لِلَّهِ وَيَتَقَرَّب إِلَيْهِ حَتَّى يُتَابِع الرَّسُول النَّبِيّ الْأُمِّيّ خَاتَم الرُّسُل وَرَسُول اللَّه إِلَى جَمِيع الثَّقَلَيْنِ الْجِنّ وَالْإِنْس الَّذِي لَوْ كَانَ الْأَنْبِيَاء بَلْ الْمُرْسَلُونَ بَلْ أُولُو الْعَزْم مِنْهُمْ فِي زَمَانه مَا وَسِعَهُمْ إِلَّا اِتِّبَاعه وَالدُّخُول فِي طَاعَته وَاتِّبَاع شَرِيعَته كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيره عِنْد قَوْله تَعَالَى " وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ " الْآيَة إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ

يُخْبِر تَعَالَى أَنَّهُ اِخْتَارَ هَذِهِ الْبُيُوت عَلَى سَائِر أَهْل الْأَرْض فَاصْطَفَى آدَم عَلَيْهِ السَّلَام خَلَقَهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحه وَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَته وَعَلَّمَهُ أَسْمَاء كُلّ شَيْء وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّة ثُمَّ أَهْبَطَهُ مِنْهَا لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة وَاصْطَفَى نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَام وَجَعَلَهُ أَوَّل رَسُول بَعَثَهُ إِلَى أَهْل الْأَرْض لَمَّا عَبَدَ النَّاس الْأَوْثَان وَأَشْرَكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلْطَانًا وَانْتَقَمَ لَهُ لَمَّا طَالَتْ مُدَّته بَيْن ظَهَرَانَيْ قَوْمه يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّه لَيْلًا وَنَهَارًا سِرًّا وَجِهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ ذَلِكَ إِلَّا فِرَارًا فَدَعَا عَلَيْهِمْ فَأَغْرَقَهُمْ اللَّه عَنْ آخِرهمْ وَلَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ اِتَّبَعَهُ عَلَى دِينه الَّذِي بَعَثَهُ اللَّه بِهِ وَاصْطَفَى آلَ إِبْرَاهِيم وَمِنْهُمْ سَيِّد الْبَشَر خَاتَم الْأَنْبِيَاء عَلَى الْإِطْلَاق مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآلَ عِمْرَان وَالْمُرَاد بِعِمْرَانَ هَذَا هُوَ وَالِد مَرْيَم بِنْت عِمْرَان أُمّ عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام .
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن يَسَار رَحِمَهُ اللَّه : هُوَ عِمْرَان بْن ياشم بْن ميشا بْن حزقيا بْن إِبْرَاهِيم بْن غرايا اِبْن ناوش بْن أجر بْن بهوا بْن نازم بْن مقاسط بْن إيشا بْن إياذ بْن رخيعم بْن سُلَيْمَان بْن دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَام فَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام مِنْ ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي سُورَة الْأَنْعَام إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَة .
إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)

إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

اِمْرَأَة عِمْرَان هَذِهِ هِيَ أُمّ مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام وَهِيَ حنة بِنْت فاقوذ . قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَق : وَكَانَتْ اِمْرَأَة لَا تَحْمِل فَرَأَتْ يَوْمًا طَائِرًا يَزُقّ فَرْخه فَاشْتَهَتْ الْوَلَد فَدَعَتْ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَهَبهَا وَلَدًا فَاسْتَجَابَ اللَّه دُعَاءَهَا فَوَاقَعَهَا زَوْجهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَلَمَّا تَحَقَّقَتْ الْحَمْل نَذَرَتْ أَنْ يَكُون مُحَرَّرًا أَيْ خَالِصًا مُفَرَّغًا لِلْعِبَادَةِ لِخِدْمَةِ بَيْت الْمَقْدِس فَقَالَتْ : يَا رَبّ " إِنِّي نَذَرْت لَك مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّك أَنْتَ السَّمِيع الْعَلِيم " أَيْ السَّمِيع لِدُعَائِي الْعَلِيم بِنِيَّتِي وَلَمْ تَكُنْ تَعْلَم مَا فِي بَطْنهَا أَذَكَرًا أَمْ أُنْثَى .
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ

" فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ : رَبّ إِنِّي وَضَعْتهَا أُنْثَى وَاَللَّه أَعْلَم بِمَا وَضَعَتْ " قُرِئَ بِرَفْعِ التَّاء عَلَى أَنَّهَا تَاء الْمُتَكَلِّم وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَام قَوْلهَا وَقُرِئَ بِتَسْكِينِ التَّاء عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " وَلَيْسَ الذَّكَر كَالْأُنْثَى " أَيْ فِي الْقُوَّة وَالْجَلَد فِي الْعِبَادَة وَخِدْمَة الْمَسْجِد الْأَقْصَى " وَإِنِّي سَمَّيْتهَا مَرْيَم " فِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز التَّسْمِيَة يَوْم الْوِلَادَة كَمَا هُوَ الظَّاهِر مِنْ السِّيَاق لِأَنَّهُ شَرْع مَنْ قَبْلنَا وَقَدْ حُكِيَ مُقَرَّرًا وَبِذَلِكَ ثَبَتَتْ السُّنَّة عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ " وُلِدَ لِي اللَّيْلَة وَلَد سَمَّيْته بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيم " أَخْرَجَاهُ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِيهِمَا أَنَّ أَنَس بْن مَالِك ذَهَبَ بِأَخِيهِ حِين وَلَدَتْهُ أُمّه إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ فَحَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ عَبْد اللَّه . وَفِي صَحِيح الْبُخَارِيّ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُول اللَّه وُلِدَ لِي اللَّيْلَة وَلَد فَمَا أُسَمِّيه ؟ قَالَ " سَمِّ اِبْنك عَبْد الرَّحْمَن " وَثَبَتَ فِي الصَّحِيح أَيْضًا : أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ أَبُو أَسِيد بِابْنِهِ لِيُحَنِّكَهُ فَذَهِلَ عَنْهُ فَأَمَرَ بِهِ أَبُوهُ فَرُدَّ إِلَى مَنْزِلهمْ فَلَمَّا ذَكَرَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَجْلِس سَمَّاهُ الْمُنْذِر فَأَمَّا حَدِيث قَتَادَة عَنْ الْحَسَن الْبَصْرِيّ عَنْ سَمُرَة بْن جُنْدُب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " كُلّ غُلَام مُرْتَهِن بِعَقِيقَتِهِ يُذْبَح عَنْهُ يَوْم السَّابِع وَيُسَمَّى وَيُحْلَق رَأْسه " فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد وَأَهْل السُّنَن وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيّ وَرَوَى وَيُدَمَّى وَهُوَ أَثْبَت وَأَحْفَظ وَاَللَّه أَعْلَم . وَكَذَا مَا رَوَاهُ الزُّبَيْر بْن بَكّار فِي كِتَاب النَّسَب أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقَّ عَنْ وَلَده إِبْرَاهِيم وَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيم فَإِسْنَاده لَا يَثْبُت وَهُوَ مُخَالِف لِمَا فِي الصَّحِيح وَلَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ اُشْتُهِرَ اِسْمه بِذَلِكَ يَوْمئِذٍ وَاَللَّه أَعْلَم وَقَوْله إِخْبَارًا عَنْ أُمّ مَرْيَم أَنَّهَا قَالَتْ " وَإِنِّي أُعِيذهَا بِك وَذُرِّيَّتهَا مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم " أَيْ عَوَّذْتهَا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَرّ الشَّيْطَان وَعَوَّذْت ذُرِّيَّتهَا وَهُوَ وَلَدهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَاسْتَجَابَ اللَّه لَهَا ذَلِكَ كَمَا قَالَ عَبْد الرَّزَّاق أَنْبَأَنَا مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ اِبْن الْمُسَيِّب عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى " مَا مِنْ مَوْلُود يُولَد إِلَّا مَسَّهُ الشَّيْطَان حِين يُولَد فَيَسْتَهِلّ صَارِخًا مِنْ مَسّه إِيَّاهُ إِلَّا مَرْيَم وَابْنهَا " ثُمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة اِقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ " وَإِنِّي أُعِيذهَا بِك وَذُرِّيَّتهَا مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم " أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّزَّاق وَرَوَاهُ اِبْن جَرِير عَنْ أَحْمَد بْن الْفَرَج عَنْ بَقِيَّة عَنْ الزُّبَيْدِيّ عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ وَرُوِيَ مِنْ حَدِيث قَيْس عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا مِنْ مَوْلُود إِلَّا وَقَدْ عَصَرَهُ الشَّيْطَان عَصْرَة أَوْ عَصْرَتَيْنِ إِلَّا عِيسَى اِبْن مَرْيَم وَمَرْيَم " ثُمَّ قَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَإِنِّي أُعِيذهَا بِك وَذُرِّيَّتهَا مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيم " وَمِنْ حَدِيث الْعَلَاء عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَرَوَاهُ مُسْلِم عَنْ أَبِي الطَّاهِر عَنْ اِبْن وَهْب عَنْ عَمْرو بْن الْحَارِث عَنْ أَبِي يُونُس عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب أَيْضًا عَنْ اِبْن أَبِي ذِئْب عَنْ عَجْلَان مَوْلَى الْمِشْعَل عَنْ أَبِي هُرَيْرَة وَرَوَاهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَق عَنْ يَزِيد بْن عَبْد اللَّه بْن قُسَيْط عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ بِأَصْلِ الْحَدِيث وَهَكَذَا رَوَاهُ اللَّيْث بْن سَعْد عَنْ جَعْفَر بْن رَبِيعَة عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن هُرْمُز الْأَعْرَج قَالَ : قَالَ أَبُو هُرَيْرَة قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى " كُلّ بَنِي آدَم يَطْعُن الشَّيْطَان فِي جَنْبه حِين تَلِدهُ أُمّه إِلَّا عِيسَى اِبْن مَرْيَم ذَهَبَ يَطْعُن فَطَعَنَ بِالْحِجَابِ " .
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ يُخْبِر رَبّنَا أَنَّهُ تَقَبَّلَهَا مِنْ أُمّهَا نَذِيرَة وَأَنَّهُ أَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أَيْ جَعَلَهَا شَكْلًا مَلِيحًا وَنَظَرًا بَهِيجًا وَيَسَّرَ لَهَا أَسْبَاب الْقَبُول وَقَرَنَهَا بِالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَاده تَتَعَلَّم مِنْهُمْ الْعِلْم وَالْخَيْر وَالدِّين فَلِهَذَا قَالَ " وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا " بِتَشْدِيدِ الْفَاء وَنَصْبِ زَكَرِيَّا عَلَى الْمَفْعُولِيَّة أَيْ جَعَلَهُ كَافِلًا لَهَا قَالَ اِبْن إِسْحَق : وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهَا كَانَتْ يَتِيمَة وَذَكَرَ غَيْره : إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيل أَصَابَتْهُمْ سَنَة جَدْب فَكَفلَ زَكَرِيَّا مَرْيَم لِذَلِكَ وَلَا مُنَافَاة بَيْن الْقَوْلَيْنِ وَاَللَّه أَعْلَم وَإِنَّمَا قَدَّرَ اللَّه كَوْنَ زَكَرِيَّا كَفَلَهَا لِسَعَادَتِهَا لِتَقْتَبِس مِنْهُ عِلْمًا جَمًّا نَافِعًا وَعَمَلًا صَالِحًا وَلِأَنَّهُ كَانَ زَوْج خَالَتهَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَق وَابْن جَرِير وَغَيْرهمَا وَقِيلَ : زَوْج أُخْتهَا كَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيح " فَإِذَا بِيَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا اِبْنَا الْخَالَة " وَقَدْ يُطْلَق عَلَى مَا ذَكَرَهُ اِبْن إِسْحَق ذَلِكَ أَيْضًا تَوَسُّعًا فَعَلَى هَذَا كَانَتْ فِي حَضَانَة خَالَتهَا وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح : أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي عُمَارَة بِنْت حَمْزَة أَنْ تَكُون فِي حَضَانَة خَالَتهَا اِمْرَأَة جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب وَقَالَ : " الْخَالَة بِمَنْزِلَةِ الْأُمّ " ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ سِيَادَتهَا وَجَلَادَتهَا فِي مَحَلّ عِبَادَتهَا فَقَالَ " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَاب وَجَدَ عِنْدهَا رِزْقًا قَالَ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو الشَّعْثَاء وَإِبْرَاهِيم النَّخَعِيّ وَالضَّحَّاك وَقَتَادَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ وَالسُّدِّيّ : يَعْنِي وَجَدَ عِنْدهَا فَاكِهَة الصَّيْف فِي الشِّتَاء وَفَاكِهَة الشِّتَاء فِي الصَّيْف وَعَنْ مُجَاهِد " وَجَدَ عِنْدهَا رِزْقًا " أَيْ عِلْمًا أَوْ قَالَ : صُحُفًا فِيهَا عِلْم رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم وَالْأَوَّل أَصَحّ وَفِيهِ دَلَالَة عَلَى كَرَامَات الْأَوْلِيَاء وَفِي السُّنَّة لِهَذَا نَظَائِر كَثِيرَة فَإِذَا رَأَى زَكَرِيَّا هَذَا عِنْدهَا " قَالَ يَا مَرْيَم أَنَّى لَك هَذَا " أَيْ يَقُول مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا ؟ " قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه إِنَّ اللَّه يَرْزُق مَنْ يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب " وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو يَعْلَى : حَدَّثَنَا سَهْل بْن زَنْجَلَة حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن صَالِح حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن لَهِيعَة عَنْ مُحَمَّد بْن الْمُنْكَدِر عَنْ جَابِر أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ أَيَّامًا لَمْ يَطْعَم طَعَامًا حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَطَافَ فِي مَنَازِل أَزْوَاجه فَلَمْ يَجِد عِنْد وَاحِدَة مِنْهُنَّ شَيْئًا فَأَتَى فَاطِمَة فَقَالَ " يَا بُنَيَّة هَلْ عِنْدك شَيْء آكُلهُ فَإِنِّي جَائِع ؟ " قَالَتْ : لَا وَاَللَّه بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدهَا بَعَثَتْ إِلَيْهَا جَارَة لَهَا بِرَغِيفَيْنِ وَقِطْعَة لَحْم فَأَخَذَتْهُ مِنْهَا فَوَضَعَتْهُ فِي جَفْنَة لَهَا وَقَالَتْ : وَاَللَّه لَأُوثِرَنَّ بِهَذَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفْسِي وَمَنْ عِنْدِي وَكَانُوا جَمِيعًا مُحْتَاجِينَ إِلَى شِبْعَة طَعَام فَبَعَثَتْ حَسَنًا أَوَحُسَيْنًا إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَتْ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي قَدْ أَتَى اللَّه بِشَيْءٍ فَخَبَّأْته لَك قَالَ " هَلُمِّي يَا بُنَيَّة " قَالَتْ فَأَتَيْته بِالْجَفْنَةِ فَكَشَفْت عَنْهَا فَإِذَا هِيَ مَمْلُوءَة خُبْزًا وَلَحْمًا فَلَمَّا نَظَرْت إِلَيْهَا بُهِتّ وَعَرَفْت أَنَّهَا بَرَكَة مِنْ اللَّه فَحَمِدْت اللَّه وَصَلَّيْت عَلَى نَبِيّه وَقَدَّمْته إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآهُ حَمِدَ اللَّه وَقَالَ" مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا يَا بُنَيَّة " ؟ قَالَتْ : يَا أَبَت " هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه إِنَّ اللَّه يَرْزُق مَنْ يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب " فَحَمِدَ اللَّه وَقَالَ " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَك يَا بُنَيَّة شَبِيهَة بِسَيِّدَةِ نِسَاء بَنِي إِسْرَائِيل فَإِنَّهَا كَانَتْ إِذَا رَزَقَهَا اللَّه شَيْئًا وَسُئِلَتْ عَنْهُ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه إِنَّ اللَّه يَرْزُق مِنْ يَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب " فَبَعَثَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَلِيّ ثُمَّ أَكَلَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلَ عَلِيّ وَفَاطِمَة وَحَسَن وَحُسَيْن وَجَمِيع أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْل بَيْته حَتَّى شَبِعُوا جَمِيعًا قَالَتْ : وَبَقِيَتْ الْجَفْنَة كَمَا هِيَ قَالَتْ : فَأَوْسَعْت بِبَقِيَّتِهَا عَلَى جَمِيع الْجِيرَان وَجَعَلَ اللَّه فِيهَا بَرَكَة وَخَيْرًا كَثِيرًا .
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ

لَمَّا رَأَى زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّ اللَّه يَرْزُق مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام فَاكِهَة الشِّتَاء فِي الصَّيْف وَفَاكِهَة الصَّيْف فِي الشِّتَاء طَمِعَ حِينَئِذٍ فِي الْوَلَد وَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ وَهَنَ مِنْهُ الْعَظْم وَاشْتَعَلَ الرَّأْس شَيْبًا وَكَانَتْ اِمْرَأَته مَعَ ذَلِكَ كَبِيرَة وَعَاقِرًا لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا كُلّه سَأَلَ رَبّه وَنَادَاهُ نِدَاء خَفِيًّا وَقَالَ " رَبّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْك " أَيْ مِنْ عِنْدك ذُرِّيَّة طَيِّبَة أَيْ وَلَدًا صَالِحًا إِنَّك سَمِيع الدُّعَاء .
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)

فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ

قَالَ اللَّه تَعَالَى " فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَة وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب " أَيْ خَاطَبَتْهُ الْمَلَائِكَة شِفَاهًا خِطَابًا أَسْمَعَتْهُ وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فِي مِحْرَاب عِبَادَته وَمَحَلّ خَلْوَته وَمَجْلِس مُنَاجَاته وَصَلَاته . ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَمَّا بَشَّرَتْهُ بِهِ الْمَلَائِكَة " أَنَّ اللَّه يُبَشِّرك بِيَحْيَى " أَيْ بِوَلَدٍ يُوجَد لَك مِنْ صُلْبك اِسْمه يَحْيَى . قَالَ قَتَادَة وَغَيْره : إِنَّمَا سُمِّيَ يَحْيَى لِأَنَّ اللَّه أَحْيَاهُ بِالْإِيمَانِ . وَقَوْله " مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّه " . رَوَى الْعَوْفِيّ وَغَيْره عَنْ اِبْن عَبَّاس وَقَالَ الْحَسَن وَقَتَادَة وَعِكْرِمَة وَمُجَاهِد وَأَبُو الشَّعْثَاء وَالسُّدِّيّ وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَالضَّحَّاك وَغَيْره فِي هَذِهِ الْآيَة " مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّه " أَيْ عِيسَى اِبْن مَرْيَم . وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس : هُوَ أَوَّل مَنْ صَدَّقَ بِعِيسَى اِبْن مَرْيَم . وَقَالَ قَتَادَةُ : وَعَلَى سُنَّته وَمِنْهَاجه . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : قَالَ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّه قَالَ : كَانَ يَحْيَى وَعِيسَى اِبْنَيْ خَالَة وَكَانَتْ أُمّ يَحْيَى تَقُول لِمَرْيَمَ : إِنِّي أَجِد الَّذِي فِي بَطْنِي يَسْجُد لِلَّذِي فِي بَطْنك فَذَلِكَ تَصْدِيقه لَهُ فِي بَطْن أُمّه وَهُوَ أَوَّل مَنْ صَدَّقَ عِيسَى وَكَلِمَة اللَّه عِيسَى , وَهُوَ أَكْبَر مِنْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَهَكَذَا قَالَ السُّدِّيّ أَيْضًا . وَقَوْله " وَسَيِّدًا " . قَالَ أَبُو الْعَالِيَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَقَتَادَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَغَيْرهمْ : الْحَلِيم وَقَالَ قَتَادَة : سَيِّدًا فِي الْعِلْم وَالْعِبَادَة. وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَالثَّوْرِيّ وَالضَّحَّاك السَّيِّد الْحَلِيم التَّقِيّ : قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب : هُوَ الْفَقِيه الْعَالِم وَقَالَ عَطِيَّة : السَّيِّد فِي خُلُقه وَدِينه وَقَالَ عِكْرِمَة : هُوَ الَّذِي لَا يَغْلِبهُ الْغَضَب وَقَالَ اِبْن زَيْد : هُوَ الشَّرِيف وَقَالَ مُجَاهِد وَغَيْره هُوَ الْكَرِيم عَلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ . وَقَوْله " وَحَصُورًا " رُوِيَ عَنْ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبِي الشَّعْثَاء وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ أَنَّهُمْ قَالُوا : الَّذِي لَا يَأْتِي النِّسَاء . وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس : هُوَ الَّذِي لَا يُولَد لَهُ وَلَا مَاء لَهُ . وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن الْمُغِيرَة أَنْبَأَنَا جَرِير عَنْ قَابُوس عَنْ أَبِيهِ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي الْحَصُور : الَّذِي لَا يُنْزِل الْمَاء وَقَدْ رَوَى اِبْن أَبِي حَاتِم فِي هَذَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا فَقَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن غَالِب الْبَغْدَادِيّ حَدَّثَنِي سَعِيد بْن سُلَيْمَان حَدَّثَنَا عَبَّاد يَعْنِي اِبْن الْعَوَّام عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ الْمُسَيِّب عَنْ اِبْن الْعَاصِ - لَا يَدْرِي عَبْد اللَّه أَوْ عَمْرو - عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله " وَسَيِّدًا وَحَصُورًا " قَالَ : ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْض فَقَالَ " كَانَ ذَكَرُهُ مِثْل هَذَا " . وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن سِنَان حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيد الْقَطَّان عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد الْأَنْصَارِيّ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ يَقُول : لَيْسَ أَحَد مِنْ خَلْق اللَّه لَا يَلْقَاهُ بِذَنْبٍ غَيْر يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا ثُمَّ قَرَأَ سَعِيد " وَسَيِّدًا وَحَصُورًا " ثُمَّ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْض فَقَالَ : الْحَصُور مَنْ ذَكَرُهُ مِثْل ذَا وَأَشَارَ يَحْيَى بْن سَعِيد الْقَطَّان بِطَرَفِ أُصْبُعه السَّبَّابَة فَهَذَا مَوْقُوف أَصَحّ إِسْنَادًا مِنْ الْمَرْفُوع وَرَوَاهُ اِبْن الْمُنْذِر فِي تَفْسِيره : حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن دَاوُدَ السَّمْنَانِيّ حَدَّثَنَا سُوَيْد بْن سَعِيد حَدَّثَنَا عَلِيّ بْن مُسْهِر عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب قَالَ : سَمِعْت عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا مِنْ عَبْد يَلْقَى اللَّه إِلَّا ذَا ذَنْبٍ إِلَّا يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا فَإِنَّ اللَّه يَقُول " وَسَيِّدًا وَحَصُورًا " - قَالَ - : وَإِنَّمَا ذَكَرُهُ مِثْل هُدْبَة الثَّوْب " وَأَشَارَ بِأُنْمُلَتِهِ وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عِيسَى بْن حَمَّاد وَمُحَمَّد بْن سَلَمَة الْمُرَادِيّ قَالَا : حَدَّثَنَا حَجَّاج بْن سُلَيْمَان الْمُقْرِي عَنْ اللَّيْث بْن سَعْد عَنْ مُحَمَّد بْن عَجْلَان عَنْ الْقَعْقَاع عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " كُلّ اِبْن آدَم يَلْقَى اللَّه بِذَنْبٍ يُعَذِّبهُ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ أَوْ يَرْحَمهُ إِلَّا يَحْيَى بْن زَكَرِيَّا فَإِنَّهُ كَانَ سَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ " ثُمَّ أَهْوَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قَذَاة مِنْ الْأَرْض فَأَخَذَهَا وَقَالَ : " وَكَانَ ذَكَره مِثْل هَذِهِ الْقَذَاة " . وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض فِي كِتَابه الشِّفَاء : اِعْلَمْ أَنَّ ثَنَاء اللَّه تَعَالَى عَلَى يَحْيَى أَنَّهُ كَانَ " حَصُورًا " لَيْسَ كَمَا قَالَهُ بَعْضهمْ إِنَّهُ كَانَ هَيُوبًا أَوْ لَا ذَكَرَ لَهُ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ هَذَا حُذَّاق الْمُفَسِّرِينَ وَنُقَّاد الْعُلَمَاء وَقَالُوا : هَذِهِ نَقِيصَة وَعَيْب وَلَا يَلِيق بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَام وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَعْصُوم مِنْ الذُّنُوب أَيْ لَا يَأْتِيهَا كَأَنَّهُ حَصُور عَنْهَا وَقِيلَ : مَانِعًا نَفْسه مِنْ الشَّهَوَات وَقِيلَ لَيْسَتْ لَهُ شَهْوَة فِي النِّسَاء وَقَدْ بَانَ لَك مِنْ هَذَا أَنَّ عَدَم الْقُدْرَة عَلَى النِّكَاح نَقْصٌ وَإِنَّمَا الْفَضْل فِي كَوْنهَا مَوْجُودَة ثُمَّ يَمْنَعهَا إِمَّا بِمُجَاهَدَةٍ كَعِيسَى أَوْ بِكِفَايَةٍ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ كَيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ هِيَ فِي حَقّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا وَقَامَ بِالْوَاجِبِ فِيهَا وَلَمْ تَشْغَلهُ عَنْ رَبّه : دَرَجَة عُلْيَا وَهِيَ دَرَجَة نَبِيّنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي لَمْ يَشْغَلهُ كَثْرَتهنَّ عَنْ عِبَادَة رَبّه بَلْ زَادَهُ ذَلِكَ عِبَادَة بِتَحْصِينِهِنَّ وَقِيَامه عَلَيْهِنَّ وَإِكْسَابه لَهُنَّ وَهِدَايَته إِيَّاهُنَّ بَلْ قَدْ صَرَّحَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُظُوظ دُنْيَاهُ هُوَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُظُوظ دُنْيَا غَيْره فَقَالَ : " حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ " هَذَا لَفْظه. وَالْمَقْصُود أَنَّهُ مَدْح لِيَحْيَى بِأَنَّهُ حَصُور لَيْسَ أَنَّهُ لَا يَأْتِي النِّسَاء بَلْ مَعْنَاهُ كَمَا قَالَهُ هُوَ وَغَيْره : أَنَّهُ مَعْصُوم مِنْ الْفَوَاحِش وَالْقَاذُورَات وَلَا يَمْنَع ذَلِكَ مِنْ تَزْوِيجه بِالنِّسَاءِ الْحَلَال وَغِشْيَانهنَّ وَإِيلَادهنَّ بَلْ قَدْ يُفْهَم وُجُود النَّسْل لَهُ مِنْ دُعَاء زَكَرِيَّا الْمُتَقَدِّم حَيْثُ قَالَ : " هَبْ لِي مِنْ لَدُنْك ذُرِّيَّة طَيِّبَة " كَأَنَّهُ قَالَ وَلَدًا لَهُ ذُرِّيَّة وَنَسْل وَعَقِب وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم . وَقَوْله " وَنَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ " هَذِهِ بِشَارَة ثَانِيَة بِنُبُوَّةِ يَحْيَى بَعْد الْبِشَارَة بِوِلَادَتِهِ وَهِيَ أَعْلَى مِنْ الْأُولَى كَقَوْلِهِ لِأُمِّ مُوسَى " إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْك وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ " .
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ

فَلَمَّا تَحَقَّقَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَام هَذِهِ الْبِشَارَة وَأَخَذَ يَتَعَجَّب مِنْ وُجُود الْوَلَد مِنْهُ بَعْد الْكِبَر " قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُون لِي غُلَام وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَر وَامْرَأَتِي عَاقِر قَالَ " أَيْ الْمَلَك " كَذَلِكَ اللَّه يَفْعَل مَا يَشَاء " أَيْ هَكَذَا أَمْر اللَّه عَظِيم لَا يُعْجِزهُ شَيْء وَلَا يَتَعَاظَمهُ أَمْر .
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ

" قَالَ رَبّ اِجْعَلْ لِي آيَة " أَيْ عَلَامَة أَسْتَدِلّ بِهَا عَلَى وُجُود الْوَلَد مِنِّي " قَالَ آيَتك أَلَّا تُكَلِّم النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا رَمْزًا " أَيْ إِشَارَة لَا تَسْتَطِيع النُّطْق مَعَ أَنَّك سَوِيّ صَحِيح كَمَا فِي قَوْله " ثَلَاث لَيَالٍ سَوِيًّا " ثُمَّ أُمِرَ بِكَثْرَةِ الذِّكْر وَالتَّكْبِير وَالتَّسْبِيح فِي هَذِهِ الْحَال فَقَالَ تَعَالَى " اُذْكُرْ رَبّك كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَار " وَسَيَأْتِي طَرَف آخَر فِي بَسْطِ هَذَا الْمَقَام فِي أَوَّل سُورَة مَرْيَم إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ

هَذَا إِخْبَار مِنْ اللَّه تَعَالَى بِمَا خَاطَبَتْ بِهِ الْمَلَائِكَة مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام عَنْ أَمْر اللَّه لَهُمْ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّه قَدْ اِصْطَفَاهَا أَيْ اِخْتَارَهَا لِكَثْرَةِ عِبَادَتهَا وَزَهَادَتهَا وَشَرَفهَا وَطَهَارَتهَا مِنْ الْأَكْدَار وَالْوَسَاوِس وَاصْطَفَاهَا ثَانِيًا مَرَّة بَعْد مَرَّة لِجَلَالَتِهَا عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ . قَالَ عَبْد الرَّزَّاق : أَنْبَأَنَا مَعْمَر عَنْ الزُّهْرِيّ عَنْ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب فِي قَوْله تَعَالَى " إِنَّ اللَّه اِصْطَفَاك وَطَهَّرَك وَاصْطَفَاك عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ " قَالَ : كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يُحَدِّث عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خَيْر نِسَاء رَكِبْنَ الْإِبِل نِسَاء قُرَيْش أَحَنَاهُ عَلَى وَلَد فِي صِغَره وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْج فِي ذَات يَده وَلَمْ تَرْكَب مَرْيَم بِنْت عِمْرَان بَعِيرًا قَطُّ " وَلَمْ يُخَرِّجهُ مِنْ هَذَا الْوَجْه سِوَى مُسْلِم فَإِنَّهُ رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّد بْن رَافِع وَعَبْد بْن حُمَيْد كِلَاهُمَا عَنْ عَبْد الرَّزَّاق بِهِ . وَقَالَ هِشَام بْن عُرْوَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْد اللَّه بْن جَعْفَر عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى يَقُول : " خَيْر نِسَائِهَا مَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَخَيْر نِسَائِهَا خَدِيجَة بِنْت خُوَيْلِد " . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيث هِشَام بِهِ مِثْله وَقَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن زَنْجُوَيْه حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق حَدَّثَنَا مَعْمَر عَنْ قَتَادَة عَنْ أَنَس أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " حَسْبك مِنْ نِسَاء الْعَالَمِينَ مَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَخَدِيجَة بِنْت خُوَيْلِد وَفَاطِمَة بِنْت مُحَمَّد وَآسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن " تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيّ صَحَّحَهُ . وَقَالَ عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر الرَّازِيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ ثَابِت الْبُنَانِيّ يُحَدِّث أَنَس بْن مَالِك أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " خَيْر نِسَاء الْعَالَمِينَ أَرْبَع مَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَآسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن وَخَدِيجَة بِنْت خُوَيْلِد وَفَاطِمَة بِنْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " رَوَاهُ اِبْن مَرْدُوَيه أَيْضًا وَمِنْ طَرِيق شُعْبَة عَنْ مُعَاوِيَة بْن قُرَّة عَنْ أَبِيهِ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَمُلَ مِنْ الرِّجَال كَثِير وَلَمْ يَكْمُل مِنْ النِّسَاء إِلَّا ثَلَاث : مَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَآسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن وَخَدِيجَة بِنْت خُوَيْلِد وَفَضْلُ عَائِشَة عَلَى النِّسَاء كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِر الطَّعَام " وَقَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا آدَم الْعَسْقَلَانِيّ حَدَّثَنَا شُعْبَة حَدَّثَنَا عَمْرو بْن مُرَّة سَمِعْت مُرَّة الْهَمْدَانِيّ يُحَدِّث عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَمُلَ مِنْ الرِّجَال كَثِير وَلَمْ يَكْمُل مِنْ النِّسَاء إِلَّا مَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَآسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن " . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَة إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ طَرِيق عَنْ شُعْبَة بِهِ وَلَفْظ الْبُخَارِيّ " كَمُلَ مِنْ الرِّجَال كَثِير وَلَمْ يَكْمُل مِنْ النِّسَاء إِلَّا آسِيَة اِمْرَأَة فِرْعَوْن وَمَرْيَم بِنْت عِمْرَان وَإِنَّ فَضْل عَائِشَة عَلَى النِّسَاء كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِر الطَّعَام " وَقَدْ اِسْتَقْصَيْت طُرُق هَذَا الْحَدِيث وَأَلْفَاظه فِي قِصَّة عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام فِي كِتَابنَا الْبِدَايَة وَالنِّهَايَة وَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْمِنَّة ثُمَّ أَخْبَرَنَا تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَة أَنَّهُمْ أَمَرُوهَا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَة وَالْخُشُوع وَالرُّكُوع وَالسُّجُود وَالدَّأْب فِي الْعَمَل لِمَا يُرِيد اللَّه بِهَا مِنْ الْأَمْر الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّه وَقَضَاهُ مِمَّا فِيهِ مِحْنَة لَهَا وَرِفْعَة فِي الدَّارَيْنِ بِمَا أَظْهَرَ اللَّه فِيهَا مِنْ قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَة حَيْثُ خَلَقَ مِنْهَا وَلَدًا مِنْ غَيْر أَب فَقَالَ تَعَالَى " يَا مَرْيَم اُقْنُتِي لِرَبِّك وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ " .
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ

أَمَّا الْقُنُوت فَهُوَ الطَّاعَة فِي خُشُوع كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض كُلّ لَهُ قَانِتُونَ " وَقَدْ قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا يُونُس بْن عَبْد الْأَعْلَى أَخْبَرَنَا اِبْن وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرو بْن الْحَارِث أَنَّ دَرَّاجًا أَبَا السَّمْح حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي الْهَيْثَم عَنْ أَبِي سَعِيد عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " كُلّ حَرْف فِي الْقُرْآن يُذْكَر فِيهِ الْقُنُوت فَهُوَ الطَّاعَة " وَرَوَاهُ اِبْن جَرِير مِنْ طَرِيق اِبْن لَهِيعَة عَنْ دَرَّاج بِهِ وَفِيهِ نَكَارَة . وَقَالَ مُجَاهِد : كَانَتْ مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام تَقُوم حَتَّى تَتَوَرَّم كَعْبَاهَا وَالْقُنُوت هُوَ طُول الرُّكُوع فِي الصَّلَاة يَعْنِي اِمْتِثَالًا لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى " يَا مَرْيَم اُقْنُتِي لِرَبِّك " قَالَ الْحَسَن : يَعْنِي اُعْبُدِي لِرَبِّك " وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ " أَيْ كُونِي مِنْهُمْ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ : رَكَدَتْ فِي مِحْرَابهَا رَاكِعَة وَسَاجِدَة وَقَائِمَة حَتَّى نَزَلَ مَاء الْأَصْفَر فِي قَدَمَيْهَا رَضِيَ اللَّه عَنْهَا وَأَرْضَاهَا . وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظ اِبْن عَسَاكِر فِي تَرْجَمَتهَا مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن يُونُس الْكُدَيْمِيّ وَفِيهِ مَقَال : ثَنَا عَلِيّ بْن بَحْر بْن بَرِّيّ ثَنَا الْوَلِيد بْن مُسْلِم عَنْ الْأَوْزَاعِيّ عَنْ يَحْيَى بْن أَبِي كَثِير فِي قَوْله : " يَا مَرْيَم اُقْنُتِي لِرَبِّك وَاسْجُدِي " قَالَ : سَجَدَتْ حَتَّى نَزَلَ الْمَاء الْأَصْفَر فِي عَيْنَيْهَا وَذَكَرَ اِبْن أَبِي الدُّنْيَا ثَنَا الْحَسَن اِبْن عَبْد الْعَزِيز ثَنَا ضَمْرَة عَنْ أَبِي شَوْذَب قَالَ : كَانَتْ مَرْيَم عَلَيْهَا السَّلَام تَغْتَسِل فِي كُلّ لَيْلَة .
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ

ثُمَّ قَالَ لِرَسُولِهِ بَعْدَمَا أَطْلَعَهُ عَلَى جَلِيَّة الْأَمْر : " ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاء الْغَيْب نُوحِيه إِلَيْك " أَيْ نَقُصّهُ عَلَيْك " وَمَا كُنْت لَدَيْهِمْ " أَيْ مَا كُنْت عِنْدهمْ يَا مُحَمَّد فَتُخْبَرهُمْ عَنْ مُعَايَنَة عَمَّا جَرَى بَلْ أَطْلَعَك اللَّه عَلَى ذَلِكَ كَأَنَّك حَاضِر وَشَاهِد لِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حِين اِقْتَرَعُوا فِي شَأْن مَرْيَم أَيّهمْ يَكْفُلهَا وَذَلِكَ لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْأَجْر قَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا الْقَاسِم حَدَّثَنَا الْحُسَيْن حَدَّثَنِي حَجَّاج عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ الْقَاسِم بْن أَبِي بَزَّة أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ عِكْرِمَة وَأَبِي بَكْر عَنْ عِكْرِمَة قَالَ : ثُمَّ خَرَجَتْ بِهَا يَعْنِي مَرْيَم فِي خَرْقهَا إِلَى بَنِي الْكَاهِن بْن هَارُون أَخِي مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام قَالَ : وَهُمْ يَوْمئِذٍ يَلُونَ فِي بَيْت الْمَقْدِس مَا يَلِي الْحَجَبَة مِنْ الْكَعْبَة فَقَالَتْ لَهُمْ : دُونكُمْ هَذِهِ النَّذِيرَة فَإِنِّي حَرَّرْتهَا وَهِيَ أُنْثَى وَلَا يَدْخُل الْكَنِيسَة حَائِض وَأَنَا لَا أَرُدّهَا إِلَى بَيْتِي فَقَالُوا : هَذِهِ اِبْنَة إِمَامنَا وَكَانَ عِمْرَان يَؤُمّهُمْ فِي الصَّلَاة وَصَاحِب قُرْبَاننَا فَقَالَ زَكَرِيَّا : اِدْفَعُوهَا لِي فَإِنَّ خَالَتهَا تَحْتِي فَقَالُوا : لَا تَطِيب أَنْفُسنَا هِيَ اِبْنَة إِمَامنَا فَذَلِكَ حِين اِقْتَرَعُوا عَلَيْهَا بِأَقْلَامِهِمْ الَّتِي يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاة فَقَرَعَهُمْ زَكَرِيَّا فَكَفَلَهَا وَقَدْ ذَكَرَ عِكْرِمَة أَيْضًا وَالسُّدِّيّ وَقَتَادَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَغَيْر وَاحِد دَخَلَ حَدِيث بَعْضهمْ فِي بَعْض : أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى نَهَر الْأُرْدُنَّ وَاقْتَرَعُوا هُنَالِكَ عَلَى أَنْ يُلْقُوا أَقْلَامهمْ فَأَيّهمْ يَثْبُت فِي جِرْيَة الْمَاء فَهُوَ كَافِلهَا فَأَلْقَوْا أَقْلَامهمْ فَاحْتَمَلَهَا الْمَاء إِلَّا قَلَم زَكَرِيَّا فَإِنَّهُ ثَبَتَ وَيُقَال : إِنَّهُ ذَهَبَ صَاعِدًا يَشُقّ جِرْيَة الْمَاء وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ كَبِيرهمْ وَسَيِّدهمْ وَعَالِمهمْ وَإِمَامهمْ وَنَبِيّهمْ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِر النَّبِيِّينَ .
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ

هَذِهِ بِشَارَة مِنْ الْمَلَائِكَة لِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَام بِأَنْ سَيُوجَدُ مِنْهَا وَلَد عَظِيم لَهُ شَأْن كَبِير قَالَ اللَّه تَعَالَى " إِذْ قَالَتْ الْمَلَائِكَة يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّه يُبَشِّرك بِكَلِمَةٍ مِنْهُ " أَيْ بِوَلَدٍ يَكُون وُجُوده بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّه أَيْ يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون وَهَذَا تَفْسِير قَوْله " مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنْ اللَّه " كَمَا ذَكَرَهُ الْجُمْهُور عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانه " اِسْمه الْمَسِيح عِيسَى اِبْن مَرْيَم " أَيْ يَكُون هَذَا مَشْهُورًا فِي الدُّنْيَا يَعْرِفهُ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ وَسُمِّيَ الْمَسِيح قَالَ بَعْض السَّلَف : لِكَثْرَةِ سِيَاحَته وَقِيلَ : لِأَنَّهُ كَانَ مَسِيح الْقَدَمَيْنِ لَا أَخْمَص لَهُمَا وَقِيلَ : لِأَنَّهُ كَانَ إِذَا مَسَحَ أَحَدًا مِنْ ذَوِي الْعَاهَات بَرِئَ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى وَقَوْله تَعَالَى " عِيسَى اِبْن مَرْيَم " نِسْبَة إِلَى أُمّه حَيْثُ لَا أَب لَهُ " وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ " أَيْ لَهُ وَجَاهَة وَمَكَانَة عِنْد اللَّه فِي الدُّنْيَا بِمَا يُوحِيه اللَّه إِلَيْهِ مِنْ الشَّرِيعَة وَيُنْزِلهُ عَلَيْهِ مِنْ الْكِتَاب وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا مَنَحَهُ اللَّه بِهِ وَفِي الدَّار الْآخِرَة يَشْفَع عِنْد اللَّه فِيمَنْ يَأْذَن لَهُ فِيهِ فَيَقْبَل مِنْهُ أُسْوَة بِإِخْوَانِهِ مِنْ أُولِي الْعَزْم صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)

وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ

قَوْله " وَيُكَلِّم النَّاس فِي الْمَهْد وَكَهْلًا " أَيْ يَدْعُو إِلَى عِبَادَة اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ فِي حَال صِغَره مُعْجِزَة وَآيَة وَفِي حَال كُهُولَته حِين يُوحِي اللَّه إِلَيْهِ " وَمِنْ الصَّالِحِينَ " أَيْ فِي قَوْله وَعَمَله لَهُ عِلْم صَحِيح وَعَمَل صَالِح قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَق : عَنْ يَزِيد بْن عَبْد اللَّه بْن قُسَيْط عَنْ مُحَمَّد بْن شُرَحْبِيل عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا تَكَلَّمَ أَحَد فِي صِغَره إِلَّا عِيسَى وَصَاحِب جُرَيْج " وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبُو الصَّقْر يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن قَزَعَة حَدَّثَنَا الْحُسَيْن يَعْنِي الْمَرْوَزِيّ حَدَّثَنَا جَرِير يَعْنِي اِبْن أَبِي حَازِم عَنْ مُحَمَّد عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لَمْ يَتَكَلَّم فِي الْمَهْد إِلَّا ثَلَاث : عِيسَى وَصَبِيّ كَانَ فِي زَمَن جُرَيْج وَصَبِيّ آخَر ".
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)

قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِشَارَة الْمَلَائِكَة لَهَا بِذَلِكَ عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَالَتْ فِي مُنَاجَاتهَا : " رَبّ أَنَّى يَكُون لِي وَلَد وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَر " تَقُول كَيْفَ يُوجَد هَذَا الْوَلَد مِنِّي وَأَنَا لَسْت بِذَاتِ زَوْج وَلَا مِنْ عَزْمِي أَنْ أَتَزَوَّج وَلَسْت بَغِيًّا حَاشَا لِلَّهِ فَقَالَ لَهَا الْمَلَك عَنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي جَوَاب ذَلِكَ السُّؤَال " كَذَلِكِ اللَّه يَخْلُق مَا يَشَاء " أَيْ هَكَذَا أَمْر اللَّه عَظِيم لَا يُعْجِزهُ شَيْء وَصَرَّحَ هَهُنَا بِقَوْلِهِ " يَخْلُق مَا يَشَاء " وَلَمْ يَقُلْ يَفْعَل كَمَا فِي قِصَّة زَكَرِيَّا بَلْ نَصَّ هَهُنَا عَلَى أَنَّهُ يَخْلُق لِئَلَّا يَبْقَى لِمُبْطِلٍ شُبْهَة وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ " إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون " أَيْ فَلَا يَتَأَخَّر شَيْئًا بَلْ يُوجَد عَقِيب الْأَمْر بِلَا مُهْلَة كَقَوْلِهِ " وَمَا أَمْرنَا إِلَّا وَاحِدَة كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ " أَيْ إِنَّمَا نَأْمُر مَرَّة لَا مَثْنَوِيَّة فِيهَا فَيَكُون ذَلِكَ الشَّيْء سَرِيعًا كَلَمْحِ الْبَصَر .
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)

وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ

يَقُول تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَمَام بِشَارَة الْمَلَائِكَة لِمَرْيَم بِابْنِهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام : إِنَّ اللَّه " يُعَلِّمهُ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة " الظَّاهِر الْمُرَاد بِالْكِتَابِ هَاهُنَا الْكِتَابَة وَالْحِكْمَة تَقَدَّمَ تَفْسِيرهَا فِي سُورَة الْبَقَرَة وَالتَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل : فَالتَّوْرَاة الْكِتَاب الَّذِي نَزَلَ عَلَى مُوسَى بْن عِمْرَان وَالْإِنْجِيل الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِمَا السَّلَام . وَقَدْ كَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام يَحْفَظ هَذَا وَهَذَا.
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)

وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

قَوْله " وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل " قَائِلًا لَهُمْ " أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ أَنِّي أَخْلُق لَكُمْ مِنْ الطِّين كَهَيْئَةِ الطَّيْر فَأَنْفُخ فِيهِ فَيَكُون طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّه " وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَل يُصَوِّر مِنْ الطِّين شَكْل طَيْر ثُمَّ يَنْفُخ فِيهِ فَيَطِير عِيَانًا بِإِذْنِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي جَعَلَ هَذَا مُعْجِزَة لَهُ تَدُلّ عَلَى أَنَّهُ أَرْسَلَهُ " وَأُبْرِئُ الْأَكْمَه " قِيلَ : إِنَّهُ الَّذِي يُبْصِر نَهَارًا وَلَا يُبْصِر لَيْلًا وَقِيلَ بِالْعَكْسِ وَقِيلَ : الْأَعْشَى وَقِيلَ : الْأَعْمَش وَقِيلَ : هُوَ الَّذِي يُولَد أَعْمَى وَهُوَ أَشْبَه لِأَنَّهُ أَبْلَغ فِي الْمُعْجِزَة وَأَقْوَى فِي التَّحَدِّي " وَالْأَبْرَص" مَعْرُوف " وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّه " قَالَ كَثِير مِنْ الْعُلَمَاء : بَعَثَ اللَّه كُلّ نَبِيّ مِنْ الْأَنْبِيَاء بِمَا يُنَاسِب أَهْل زَمَانه فَكَانَ الْغَالِب عَلَى زَمَان مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام السِّحْر وَتَعْظِيم السَّحَرَة فَبَعَثَهُ اللَّه بِمُعْجِزَةٍ بَهَرَتْ الْأَبْصَار وَحَيَّرَتْ كُلّ سَحَّار فَلَمَّا اِسْتَيْقَنُوا أَنَّهَا مِنْ عِنْد الْعَظِيم الْجَبَّار اِنْقَادُوا لِلْإِسْلَامِ وَصَارُوا مِنْ عِبَاد اللَّه الْأَبْرَار وَأَمَّا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَبُعِثَ فِي زَمَن الْأَطِبَّاء وَأَصْحَاب عِلْم الطَّبِيعَة فَجَاءَهُمْ مِنْ الْآيَات بِمَا لَا سَبِيل لِأَحَدٍ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَكُون مُؤَيَّدًا مِنْ الَّذِي شَرَّعَ الشَّرِيعَة فَمِنْ أَيْنَ لِلطَّبِيبِ قُدْرَة عَلَى إِحْيَاء الْجَمَاد أَوْ عَلَى مُدَاوَاة الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَبَعْث مَنْ هُوَ فِي قَبْره رَهِين إِلَى يَوْم التَّنَاد . وَكَذَلِكَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ فِي زَمَان الْفُصَحَاء وَالْبُلَغَاء وَتَجَارِيد الشُّعَرَاء فَأَتَاهُمْ بِكِتَابٍ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَلَوْ اِجْتَمَعَتْ الْإِنْس وَالْجِنَّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ أَوْ بِعَشْرِ سُوَر مِنْ مِثْله أَوْ بِسُورَةٍ مِنْ مِثْله لَمْ يَسْتَطِيعُوا أَبَدًا وَلَوْ كَانَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ كَلَام الرَّبّ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُشْبِه كَلَام الْخَلْق أَبَدًا وَقَوْله " وَأُنَبِّئكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتكُمْ " أَيْ أُخْبِركُمْ بِمَا أَكَلَ أَحَدكُمْ الْآن وَمَا هُوَ مُدَّخَر لَهُ فِي بَيْته لِغَدٍ " إِنَّ فِي ذَلِكَ " أَيْ فِي ذَلِكَ كُلّه " لَآيَة لَكُمْ " أَيْ عَلَى صِدْقِي فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ .
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50)

وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ

"وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاة " أَيْ مُقِرًّا لَهُمْ وَمُثْبِتًا " وَلِأُحِلّ لَكُمْ بَعْض الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ " فِيهِ دَلَالَة عَلَى أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام نَسَخَ بَعْض شَرِيعَة التَّوْرَاة وَهُوَ الصَّحِيح مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَمِنْ الْعُلَمَاء مَنْ قَالَ : لَمْ يَنْسَخ مِنْهَا شَيْئًا وَإِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ بَعْض مَا كَانُوا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ خَطَأ وَانْكَشَفَ لَهُمْ عَنْ الْغِطَاء فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ فِي الْآيَة الْأُخْرَى " وَلِأُبَيِّن لَكُمْ بَعْض الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ " وَاَللَّه أَعْلَم . ثُمَّ قَالَ " وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبّكُمْ " أَيْ بِحُجَّةٍ وَدَلَالَة عَلَى صِدْقِي فِيمَا أَقُولهُ لَكُمْ .
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ

" فَاتَّقُوا اللَّه وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّه رَبِّي وَرَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ " أَيْ أَنَا وَأَنْتُمْ سَوَاء فِي الْعُبُودِيَّة لَهُ وَالْخُضُوع وَالِاسْتِكَانَة إِلَيْهِ " هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم " .
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ

يَقُول تَعَالَى " فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى " أَيْ اِسْتَشْعَرَ مِنْهُمْ التَّصْمِيم عَلَى الْكُفْر وَالِاسْتِمْرَار عَلَى الضَّلَال قَالَ : " مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّه " قَالَ مُجَاهِد : أَيْ مَنْ يَتْبَعنِي إِلَى اللَّه وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَغَيْره : أَيْ مَنْ أَنْصَارِي مَعَ اللَّه وَقَوْل مُجَاهِد أَقْرَب . وَالظَّاهِر أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ أَنْصَارِي فِي الدَّعْوَة إِلَى اللَّه كَمَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول فِي مَوَاسِم الْحَجّ قَبْل أَنْ يُهَاجِر " مَنْ رَجُل يُؤْوِينِي حَتَّى أُبَلِّغ كَلَام رَبِّي فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغ كَلَام رَبِّي " حَتَّى وَجَدَ الْأَنْصَار فَأَوَوْهُ وَنَصَرُوهُ وَهَاجَرَ إِلَيْهِمْ فَوَاسُوهُ وَمَنَعُوهُ مِنْ الْأَسْوَد وَالْأَحْمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ . وَهَكَذَا عِيسَى اِبْن مَرْيَم عَلَيْهِ السَّلَام اِنْتَدَبَ لَهُ طَائِفَة مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل فَآمَنُوا بِهِ وَوَازَرُوه وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّور الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ " قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَار اللَّه آمَنَّا بِاَللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْت وَاتَّبَعْنَا الرَّسُول فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ " الْحَوَارِيُّونَ قِيلَ : كَانُوا قَصَّارِينَ وَقِيلَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِبَيَاضِ ثِيَابهمْ وَقِيلَ : صَيَّادِينَ . وَالصَّحِيح أَنَّ الْحَوَارِيّ النَّاصِر كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَدَبَ النَّاس يَوْم الْأَحْزَاب فَانْتَدَبَ الزُّبَيْر ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْر رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لِكُلِّ نَبِيّ حَوَارِيّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْر " .
رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)

رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ

وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الْأَشَجّ حَدَّثَنَا وَكِيع حَدَّثَنَا إِسْرَائِيل عَنْ سِمَاك عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا فِي قَوْله " فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ " قَالَ : مَعَ أُمَّة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا إِسْنَاد جَيِّد .
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)

وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مَلَإِ بَنِي إِسْرَائِيل فِيمَا هَمُّوا بِهِ مِنْ الْفَتْك بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَإِرَادَته بِالسُّوءِ وَالصَّلْب حِين تَمَالَئُوا عَلَيْهِ وَوَشَوْا بِهِ إِلَى مَلِك ذَلِكَ الزَّمَان وَكَانَ كَافِرًا أَنَّ هُنَا رَجُلًا يُضِلّ النَّاس وَيَصُدّهُمْ عَنْ طَاعَة الْمَلِك وَيُفْسِد الرَّعَايَا وَيُفَرِّق بَيْن الْأَب وَابْنه إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِمَّا تَقَلَّدُوهُ فِي رِقَابهمْ وَرَمَوْهُ بِهِ مِنْ الْكَذِب وَأَنَّهُ وَلَد زِنْيَة حَتَّى اِسْتَثَارُوا غَضَب الْمَلِك فَبَعَثَ فِي طَلَبه مَنْ يَأْخُذهُ وَيَصْلُبهُ وَيُنَكِّل بِهِ فَلَمَّا أَحَاطُوا بِمَنْزِلِهِ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ظَفِرُوا بِهِ نَجَّاهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ بَيْنهمْ وَرَفَعَهُ مِنْ رَوْزَنَة ذَلِكَ الْبَيْت إِلَى السَّمَاء وَأَلْقَى اللَّه شَبَهه عَلَى رَجُل مِمَّنْ كَانَ عِنْده فِي الْمَنْزِل فَلَمَّا دَخَلَ أُولَئِكَ اِعْتَقَدُوهُ فِي ظُلْمَة اللَّيْل عِيسَى فَأَخَذُوهُ وَأَهَانُوهُ وَصَلَبُوهُ وَوَضَعُوا عَلَى رَأْسِهِ الشَّوْك . وَكَانَ هَذَا مِنْ مَكْر اللَّه بِهِمْ فَإِنَّهُ نَجَّى نَبِيّه وَرَفَعَهُ مِنْ بَيْن أَظْهُرِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ضَلَالهمْ يَعْمَهُونَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ قَدْ ظَفِرُوا بِطِلْبَتِهِمْ وَأَسْكَنَ اللَّه فِي قُلُوبهمْ قَسْوَة وَعِنَادًا لِلْحَقِّ مُلَازِمًا لَهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ ذِلَّة لَا تُفَارِقهُمْ إِلَى يَوْم التَّنَاد وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاَللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ " .
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ

اِخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى " إِنِّي مُتَوَفِّيك وَرَافِعك إِلَيَّ " فَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْره : هَذَا مِنْ الْمُقَدَّم وَالْمُؤَخَّر تَقْدِيره إِنِّي رَافِعك إِلَيَّ وَمُتَوَفِّيك يَعْنِي بَعْد ذَلِكَ وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : إِنِّي مُتَوَفِّيك أَيْ مُمِيتك . وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَق عَمَّنْ لَا يُتَّهَم عَنْ وَهْب بْن مُنَبِّه قَالَ : تَوَفَّاهُ اللَّه ثَلَاث سَاعَات مِنْ أَوَّل النَّهَار حِين رَفَعَهُ إِلَيْهِ قَالَ اِبْن إِسْحَق : وَالنَّصَارَى يَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّه تَوَفَّاهُ سَبْع سَاعَات ثُمَّ أَحْيَاهُ قَالَ إِسْحَق بْن بَشْر عَنْ إِدْرِيس عَنْ وَهْب : أَمَاتَهُ اللَّه ثَلَاثَة أَيَّام ثُمَّ بَعَثَهُ ثُمَّ رَفَعَهَا قَالَ مَطَر الْوَرَّاق : إِنِّي مُتَوَفِّيك مِنْ الدُّنْيَا وَلَيْسَ بِوَفَاةِ مَوْت وَكَذَا قَالَ اِبْن جَرِير تَوَفِّيه هُوَ رَفْعُهُ . وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : الْمُرَاد بِالْوَفَاةِ هَهُنَا النَّوْم كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ " الْآيَة . وَقَالَ تَعَالَى " اللَّه يَتَوَفَّى الْأَنْفُس حِين مَوْتهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامهَا " الْآيَة وَكَانَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول إِذَا قَامَ مِنْ النَّوْم : " الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا " الْحَدِيث وَقَالَ تَعَالَى : " وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلهمْ عَلَى مَرْيَم بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلهمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيح عِيسَى اِبْن مَرْيَم رَسُول اللَّه وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ - إِلَى قَوْله - وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّه إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّه عَزِيزًا حَكِيمًا وَإِنْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْل مَوْته وَيَوْم الْقِيَامَة يَكُون عَلَيْهِمْ شَهِيدًا " وَالضَّمِير فِي قَوْله قَبْل مَوْته عَائِد عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام أَيْ وَإِنْ مِنْ أَهْل الْكِتَاب إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى وَذَلِكَ حِين يَنْزِل إِلَى الْأَرْض قَبْل يَوْم الْقِيَامَة عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانه فَحِينَئِذٍ يُؤْمِن بِهِ أَهْل الْكِتَاب كُلّهمْ لِأَنَّهُ يَضَع الْجِزْيَة وَلَا يَقْبَل إِلَّا الْإِسْلَام. وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَبْد الرَّحْمَن حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أَبِي جَعْفَر عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنَا الرَّبِيع بْن أَنَس عَنْ الْحَسَن أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى " إِنِّي مُتَوَفِّيك " يَعْنِي وَفَاة الْمَنَام رَفَعَهُ اللَّه فِي مَنَامه قَالَ الْحَسَن : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ " إِنَّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ وَإِنَّهُ رَاجِع إِلَيْكُمْ قَبْل يَوْم الْقِيَامَة " وَقَوْله تَعَالَى " وَمُطَهِّرك مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا " أَيْ بِرَفْعِي إِيَّاكَ إِلَى السَّمَاء " وَجَاعِل الَّذِينَ اِتَّبَعُوك فَوْق الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " . وَهَكَذَا وَقَعَ ; فَإِنَّ الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا رَفَعَهُ اللَّه إِلَى السَّمَاء تَفَرَّقَتْ أَصْحَابه شِيَعًا بَعْده فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِمَا بَعَثَهُ اللَّه بِهِ عَلَى أَنَّهُ عَبْد اللَّه وَرَسُوله وَابْن أَمَته وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَا فِيهِ فَجَعَلَهُ اِبْن اللَّه وَآخَرُونَ قَالُوا هُوَ اللَّه وَآخَرُونَ قَالُوا هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة . وَقَدْ حَكَى اللَّه مَقَالَتهمْ فِي الْقُرْآن وَرَدَّ عَلَى كُلّ فَرِيق فَاسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَة ثُمَّ نَبَغَ لَهُمْ مَلِك مِنْ مُلُوك الْيُونَان يُقَال لَهُ قُسْطَنْطِين فَدَخَلَ فِي دِين النَّصْرَانِيَّة قِيلَ : حِيلَة لِيُفْسِدَهُ فَإِنَّهُ كَانَ فَيْلَسُوفًا وَقِيلَ : جَهْلًا مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ بَدَّلَ لَهُمْ دِين الْمَسِيح وَحَرَّفَهُ وَزَادَ فِيهِ وَنَقَصَ مِنْهُ وَوُضِعَتْ لَهُ الْقَوَانِين وَالْأَمَانَة الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ الْخِيَانَة الْحَقِيرَة وَأُحِلَّ فِي زَمَانه لَحْم الْخِنْزِير وَصَلَّوْا إِلَى الْمَشْرِق وَصَوَّرُوا لَهُ الْكَنَائِس وَالْمَعَابِد وَالصَّوَامِع وَزَادَ فِي صِيَامهمْ عَشَرَة أَيَّام مِنْ أَجْلِ ذَنْب اِرْتَكَبَهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ وَصَارَ دِين الْمَسِيح دِين قُسْطَنْطِين إِلَّا أَنَّهُ بَنَى لَهُمْ مِنْ الْكَنَائِس وَالْمَعَابِد وَالصَّوَامِع وَالدِّيَارَات مَا يَزِيد عَلَى اِثْنَيْ عَشَر أَلْف مَعْبَد وَبَنَى الْمَدِينَة الْمَنْسُوبَة إِلَيْهِ وَاتَّبَعَهُ طَائِفَة الْمَلَكِيَّة مِنْهُمْ وَهُمْ فِي هَذَا كُلّه قَاهِرُونَ لِلْيَهُودِ أَيَّدَهُ اللَّه عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ أَقْرَب إِلَى الْحَقّ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ الْجَمِيع كُفَّارًا عَلَيْهِمْ لَعَائِن اللَّه فَلَمَّا بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مَنْ آمَنَ بِهِ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَته وَكُتُبه وَرُسُله عَلَى الْوَجْه الْحَقّ فَكَانُوا هُمْ أَتْبَاع كُلّ نَبِيّ عَلَى وَجْه الْأَرْض إِذْ قَدْ صَدَّقُوا الرَّسُول النَّبِيّ الْأُمِّيّ الْعَرَبِيّ خَاتَم الرُّسُل وَسَيِّد وَلَد آدَم عَلَى الْإِطْلَاق الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى التَّصْدِيق بِجَمِيعِ الْحَقّ فَكَانُوا أَوْلَى بِكُلِّ نَبِيّ مِنْ أُمَّته الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّته وَطَرِيقَته مِمَّا قَدْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْء مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ قَدْ نَسَخَ اللَّه شَرِيعَة جَمِيع الرُّسُل بِمَا بَعَثَ اللَّه بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدِّين الْحَقّ الَّذِي لَا يُبَدَّل وَلَا يُغَيَّر إِلَى قِيَام السَّاعَة وَلَا يَزَال قَائِمًا مَنْصُورًا ظَاهِرًا عَلَى كُلّ دِين فَلِهَذَا فَتَحَ اللَّه لِأَصْحَابِهِ مَشَارِق الْأَرْض وَمَغَارِبهَا وَاجْتَازُوا جَمِيع الْمَمَالِك وَدَانَتْ لَهُمْ جَمِيع الدُّوَل وَكَسَرُوا كِسْرَى وَقَصَرُوا قَيْصَر وَسَلَبُوهُمَا كُنُوزهمَا وَأُنْفِقَتْ فِي سَبِيل اللَّه كَمَا أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ نَبِيّهمْ عَنْ رَبّهمْ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْله " وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَات لَيَستَخْلِفَنّهم فِي الْأَرْض كَمَا اِسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلهمْ وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينهمْ الَّذِي اِرْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّهم مِنْ بَعْد خَوْفهمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا " الْآيَة فَلِهَذَا لَمَّا كَانُوا هُمْ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمَسِيحِ حَقًّا سَلَبُوا النَّصَارَى بِلَاد الشَّام وَأَلْجَئُوهُمْ إِلَى الرُّوم فَلَجَئُوا إِلَى مَدِينَتهمْ الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَلَا يَزَال الْإِسْلَام وَأَهْله فَوْقهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِق الْمَصْدُوق صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّته بِأَنَّ آخِرهمْ سَيَفْتَحُونَ الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَيَسْتَفِيئُون مَا فِيهَا مِنْ الْأَمْوَال وَيَقْتُلُونَ الرُّوم مَقْتَلَة عَظِيمَة جِدًّا لَمْ يَرَ النَّاس مِثْلهَا وَلَا يَرَوْنَ بَعْدهَا نَظِيرهَا وَقَدْ جَمَعْت فِي هَذَا جُزْءًا مُفْرَدًا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى وَجَاعِل الَّذِينَ اِتَّبَعُوك فَوْق الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعكُمْ فَأَحْكُم بَيْنكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ.
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56)

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ

وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِمَنْ كَفَرَ بِالْمَسِيحِ مِنْ الْيَهُود أَوْ غَلَا فِيهِ أَوْ أَطْرَاهُ مِنْ النَّصَارَى عَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْي وَأَخْذ الْأَمْوَال وَإِزَالَة الْأَيْدِي عَنْ الْمَمَالِك وَفِي الدَّار الْآخِرَة عَذَابهمْ أَشَدّ وَأَشَقّ " وَمَا لَهُمْ مِنْ اللَّه مِنْ وَاقٍ " .
وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)

وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ

" وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات فَيُوفِيهِمْ أُجُورهمْ " أَيْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فِي الدُّنْيَا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَر وَفِي الْآخِرَة بِالْجَنَّاتِ الْعَالِيَات " وَاَللَّه لَا يُحِبّ الظَّالِمِينَ " .
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآَيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْك مِنْ الْآيَات وَالذِّكْر الْحَكِيم " أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْك يَا مُحَمَّد فِي أَمْر عِيسَى وَمَبْدَأ مِيلَاده وَكَيْفِيَّة أَمْره هُوَ مِمَّا قَالَهُ تَعَالَى وَأَوْحَاهُ إِلَيْك وَنَزَّلَهُ عَلَيْك مِنْ اللَّوْح الْمَحْفُوظ فَلَا مِرْيَة فِيهِ وَلَا شَكّ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة مَرْيَم " ذَلِكَ عِيسَى اِبْن مَرْيَم قَوْل الْحَقّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذ مِنْ وَلَد سُبْحَانه إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون " وَهَهُنَا قَالَ تَعَالَى : " إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون " .
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

يَقُول جَلَّ وَعَلَا " إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْد اللَّه " فِي قُدْرَة اللَّه حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْر أَب " كَمَثَلِ آدَم " حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْر أَب وَلَا أُمّ بَلْ " خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون " فَاَلَّذِي خَلَقَ آدَم مِنْ غَيْر أَب قَادِر عَلَى أَنْ يَخْلُق عِيسَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَإِنْ جَازَ اِدِّعَاء الْبُنُوَّة فِي عِيسَى لِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ غَيْر أَب فَجَوَّزَ ذَلِكَ فِي آدَم بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى وَمَعْلُوم بِالِاتِّفَاقِ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِل فَدَعْوَاهُ فِي عِيسَى أَشَدّ بُطْلَانًا وَأَظْهَر فَسَادًا وَلَكِنَّ الرَّبّ جَلَّ جَلَاله أَرَادَ أَنْ يُظْهِر قُدْرَتَهُ لِخَلْقِهِ حِين خَلَقَ آدَم لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا مِنْ أُنْثَى وَخَلَقَ حَوَّاء مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى وَخَلَقَ عِيسَى مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ كَمَا خَلَقَ بَقِيَّة الْبَرِيَّة مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَة مَرْيَم " وَلِنَجْعَلهُ آيَة لِلنَّاسِ " وَقَالَ هَهُنَا " الْحَقّ مِنْ رَبّك فَلَا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ " .
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

" الْحَقّ مِنْ رَبّك فَلَا تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ " أَيْ هَذَا هُوَ الْقَوْل الْحَقّ فِي عِيسَى الَّذِي لَا مَحِيد عَنْهُ وَلَا صَحِيح سِوَاهُ وَمَاذَا بَعْد الْحَقّ إِلَّا الضَّلَال .
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى آمِرًا رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاهِل مَنْ عَانَدَ الْحَقّ فِي أَمْر عِيسَى بَعْد ظُهُور الْبَيَان " فَمَنْ حَاجَّك فِيهِ مِنْ بَعْد مَا جَاءَك مِنْ الْعِلْم فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسنَا وَأَنْفُسكُمْ " أَيْ نُحْضِرهُمْ فِي حَال الْمُبَاهَلَة " ثُمَّ نَبْتَهِل " أَيْ نَلْتَعِن " فَنَجْعَل لَعْنَة اللَّه عَلَى الْكَاذِبِينَ " أَيْ مِنَّا وَمِنْكُمْ . وَكَانَ سَبَب نُزُول هَذِهِ الْمُبَاهَلَة وَمَا قَبْلهَا مِنْ أَوَّل السُّورَة إِلَى هُنَا فِي وَفْد نَجْرَان : أَنَّ النَّصَارَى لَمَّا قَدِمُوا فَجَعَلُوا يُحَاجُّونَ فِي عِيسَى وَيَزْعُمُونَ فِيهِ مَا يَزْعُمُونَ مِنْ الْبُنُوَّة وَالْإِلَهِيَّة فَأَنْزَلَ اللَّه فِي صَدْر هَذِهِ السُّورَة رَدًّا عَلَيْهِمْ كَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَام مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن يَسَار وَغَيْره : قَالَ اِبْن إِسْحَاق فِي سِيرَته الْمَشْهُورَة وَغَيْره : وَقَدِمَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفْد نَصَارَى نَجْرَان سِتُّونَ رَاكِبًا فِيهِمْ أَرْبَعَة عَشَر رَجُلًا مِنْ أَشْرَافهمْ يَئُول أَمْرهمْ إِلَيْهِمْ وَهُمْ : الْعَاقِب وَاسْمه عَبْد الْمَسِيح وَالسَّيِّد وَهُوَ الْأَيْهَم وَأَبُو حَارِثَة بْن عَلْقَمَة أَخُو بَكْر بْن وَائِل وَأُوَيْس بْن الْحَارِث وَزَيْد وَقَيْس وَيَزِيد وَابْنَاهُ وَخُوَيْلِد وَعَمْرو وَخَالِد وَعَبْد اللَّه وَمُحْسِن وَأَمْر هَؤُلَاءِ يَئُول إِلَى ثَلَاثَة مِنْهُمْ وَهُمْ الْعَاقِب وَكَانَ أَمِير الْقَوْم وَذَا رَأْيهمْ وَصَاحِب مَشُورَتهمْ وَاَلَّذِي لَا يَصْدُرُونَ إِلَّا عَنْ رَأْيه وَالسَّيِّد وَكَانَ عَالِمهمْ وَصَاحِب رَحْلهمْ وَمُجْتَمَعهمْ وَأَبُو حَارِثَة بْن عَلْقَمَة وَكَانَ أُسْقُفهمْ صَاحِب مُدَارَسَتهمْ وَكَانَ رَجُلًا مِنْ الْعَرَب مِنْ بَنِي بَكْر بْن وَائِل وَلَكِنَّهُ تَنَصَّرَ فَعَظَّمَتْهُ الرُّوم وَمُلُوكهَا وَشَرَّفُوهُ وَبَنَوْا لَهُ الْكَنَائِس وَأَخْدَمُوهُ لِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ صَلَابَته فِي دِينهمْ وَقَدْ كَانَ يَعْرِف أَمْر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَته وَشَأْنه مَا عَلِمَهُ مِنْ الْكُتُب الْمُتَقَدِّمَة وَلَكِنْ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِمْرَار فِي النَّصْرَانِيَّة لِمَا يَرَى مِنْ تَعْظِيمه فِيهَا وَجَاهه عِنْد أَهْلهَا . قَالَ اِبْن إِسْحَاق : وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن جَعْفَر بْن الزُّبَيْر قَالَ : قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مَسْجِده حِين صَلَّى الْعَصْر عَلَيْهِمْ ثِيَاب الْحِبَرَات جُبَب وَأَرْدِيَة مِنْ جَمَال رِجَال بَنِي الْحَارِث بْن كَعْب قَالَ : يَقُول مَنْ رَآهُمْ مِنْ أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَيْنَا بَعْدهمْ وَفْدًا مِثْلهمْ وَقَدْ حَانَتْ صَلَاتهمْ فَقَامُوا فِي مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعُوهُمْ " فَصَلَّوْا إلَى الْمَشْرِق قَالَ : فَكَلَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو حَارِثَة بْن عَلْقَمَة وَالْعَاقِب عَبْد الْمَسِيح وَالسَّيِّد الْأَيْهَم وَهُمْ مِنْ النَّصْرَانِيَّة عَلَى دِين الْمَلِك مَعَ اِخْتِلَاف أَمْرهمْ يَقُولُونَ : هُوَ اللَّه وَيَقُولُونَ : هُوَ وَلَد اللَّه وَيَقُولُونَ : هُوَ ثَالِث ثَلَاثَة تَعَالَى اللَّه عَنْ قَوْلهمْ عُلُوًّا كَبِيرًا . وَكَذَلِكَ النَّصْرَانِيَّة فَهُمْ يَحْتَجُّونَ فِي قَوْلهمْ هُوَ اللَّه بِأَنَّهُ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَيُبْرِئ الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص وَالْأَسْقَام وَيُخْبِر بِالْغُيُوبِ وَيَخْلُق مِنْ الطِّين كَهَيْئَةِ الطَّيْر فَيَنْفُخ فِيهِ فَيَكُون طَيْرًا وَذَلِكَ كُلّه بِأَمْرِ اللَّه وَلِيَجْعَلهُ اللَّه آيَة لِلنَّاسِ وَيَحْتَجُّونَ فِي قَوْلهمْ بِأَنَّهُ اِبْن اللَّه يَقُولُونَ : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَب يُعْلَم وَقَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْد بِشَيْءٍ لَمْ يَصْنَعهُ أَحَد مِنْ بَنِي آدَم قَبْله . وَيَحْتَجُّونَ عَلَى قَوْلهمْ بِأَنَّهُ ثَالِث ثَلَاثَة بِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى فَعَلْنَا وَأَمَرْنَا وَخَلَقْنَا وَقَضَيْنَا فَيَقُولُونَ : لَوْ كَانَ وَاحِدًا مَا قَالَ إِلَّا فَعَلْت وَأَمَرْت وَقَضَيْت وَخَلَقْت وَلَكِنَّهُ هُوَ وَعِيسَى وَمَرْيَم - تَعَالَى اللَّه وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهْ عَمَّا يَقُول الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا - وَفِي كُلّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ قَدْ نَزَلَ الْقُرْآن . فَلَمَّا كَلَّمَهُ الْحَبْرَانِ قَالَ لَهُمَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَسْلِمَا " قَالَا قَدْ أَسْلَمْنَا قَالَ " إِنَّكُمَا لَمْ تُسْلِمَا فَأَسْلِمَا " قَالَا : بَلَى قَدْ أَسْلَمْنَا قَبْلك قَالَ " كَذَبْتُمَا يَمْنَعكُمَا مِنْ الْإِسْلَام اِدِّعَاؤُكُمَا لِلَّهِ وَلَدًا وَعِبَادَتكُمَا الصَّلِيب وَأَكْلكُمَا الْخِنْزِير " قَالَا : فَمَنْ أَبُوهُ يَا مُحَمَّد ؟ فَصَمَتَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا فَلَمْ يُجِبْهُمَا فَأَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمْ وَاخْتِلَاف أَمْرهمْ صَدْر سُورَة آل عِمْرَان إِلَى بِضْع وَثَمَانِينَ آيَة مِنْهَا ثُمَّ تَكَلَّمَ اِبْن إِسْحَاق عَلَى تَفْسِيرهَا إِلَى أَنْ قَالَ : فَلَمَّا أَتَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَر مِنْ اللَّه وَالْفَصْل مِنْ الْقَضَاء بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ وَأُمِرَ بِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ مُلَاعَنَتهمْ أَنْ رَدُّوا ذَلِكَ عَلَيْهِ دَعَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِم دَعْنَا نَنْظُر فِي أَمَرْنَا ثُمَّ نَأْتِيك بِمَا نُرِيد أَنْ نَفْعَل فِيمَا دَعَوْتنَا إِلَيْهِ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا عَنْهُ ثُمَّ خَلَوْا بِالْعَاقِبِ وَكَانَ ذَا رَأْيهمْ فَقَالُوا : يَا عَبْد الْمَسِيح مَاذَا تَرَى ؟ فَقَالَ : وَاَللَّه يَا مَعْشَر النَّصَارَى لَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَنَبِيّ مُرْسَل وَلَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْفَصْلِ مِنْ خَبَر صَاحِبكُمْ . وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ مَا لَاعَنَ قَوْم نَبِيًّا قَطُّ فَبَقِيَ كَبِيرهمْ وَلَا نَبَتَ صَغِيرهمْ وَإِنَّهُ لِلِاسْتِئْصَالِ مِنْكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ فَإِنْ كُنْتُمْ أَبَيْتُمْ إِلَّا إِلْفَ دِينكُمْ وَالْإِقَامَة عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْقَوْل فِي صَاحِبكُمْ فَوَادِعُوا الرَّجُل وَانْصَرِفُوا إِلَى بِلَادكُمْ . فَأَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِم قَدْ رَأَيْنَا أَنْ لَا نُلَاعِنك وَنَتْرُكك عَلَى دِينك وَنَرْجِع عَلَى دِيننَا وَلَكِنْ اِبْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابك تَرْضَاهُ لَنَا يَحْكُم بَيْننَا فِي أَشْيَاء اِخْتَلَفْنَا فِيهَا فِي أَمْوَالنَا فَإِنَّكُمْ عِنْدنَا رِضَا قَالَ مُحَمَّد بْن جَعْفَر : فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اِئْتُونِي الْعَشِيَّة أَبْعَث مَعَكُمْ الْقَوِيّ الْأَمِين " فَكَانَ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ يَقُول : مَا أَحْبَبْت الْإِمَارَة قَطُّ حُبِّي إِيَّاهَا يَوْمئِذٍ رَجَاء أَنْ أَكُون صَاحِبهَا فَرُحْت إِلَى الظُّهْر مُهَجِّرًا فَلَمَّا صَلَّى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْر سَلَّمَ ثُمَّ نَظَرَ عَنْ يَمِينه وَشِمَاله فَجَعَلْت أَتَطَاوَل لَهُ لِيَرَانِي فَلَمْ يَزَلْ يَلْتَمِس بِبَصَرِهِ حَتَّى رَأَى أَبَا عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح فَدَعَاهُ فَقَالَ " اُخْرُجْ مَعَهُمْ فَاقْضِ بَيْنهمْ بِالْحَقِّ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ " قَالَ عُمَر : فَذَهَبَ بِهَا أَبُو عُبَيْدَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَقَدْ رَوَى اِبْن مَرْدُوَيه مِنْ طَرِيق مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَنْ عَاصِم بْن عُمَر بْن قَتَادَة عَنْ مَحْمُود بْن لَبِيد عَنْ رَافِع بْن خَدِيج : أَنَّ وَفْد أَهْل نَجْرَان قَدِمُوا عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ نَحْوه إِلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَشْرَاف : كَانُوا اِثْنَيْ عَشَر وَذَكَرَ بَقِيَّته بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا السِّيَاق وَزِيَادَات أُخَر. وَقَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن الْحُسَيْن حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن آدَم عَنْ إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَق عَنْ صِلَة بْن زُفَر عَنْ حُذَيْفَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : جَاءَ الْعَاقِب وَالسَّيِّد صَاحِبَا نَجْرَان إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ قَالَ : فَقَالَ أَحَدهمَا لِصَاحِبِهِ : لَا تَفْعَل فَوَاَللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّاهُ لَا نُفْلِح نَحْنُ وَلَا عَقِبنَا مِنْ بَعْدنَا قَالَا : إِنَّا نُعْطِيك مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا وَلَا تَبْعَث مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا فَقَالَ " لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقّ أَمِين " فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ " قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح " فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَذَا أَمِين هَذِهِ الْأُمَّة" . رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَق عَنْ صِلَة عَنْ حُذَيْفَة بِنَحْوِهِ وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَهْ مِنْ حَدِيث إِسْرَائِيل عَنْ أَبِي إِسْحَق عَنْ صِلَة عَنْ اِبْن مَسْعُود بِنَحْوِهِ . وَقَالَ الْبُخَارِيّ : حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيد حَدَّثَنَا شُعْبَة عَنْ خَالِد عَنْ أَبِي قِلَابَة عَنْ أَنَس عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لِكُلِّ أُمَّة أَمِين وَأَمِين هَذِهِ الْأُمَّة أَبُو عُبَيْدَة بْن الْجَرَّاح " . وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن يَزِيد الرَّقِّيّ أَبُو يَزِيد حَدَّثَنَا قُرَّة عَنْ عَبْد الْكَرِيم بْن مَالِك الْجَزَرِيّ عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْل قَبَّحَهُ اللَّه إِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْد الْكَعْبَة لَآتِيَنّه حَتَّى أَطَأ عَلَى رَقَبَته قَالَ : فَقَالَ " لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَة عِيَانًا وَلَوْ أَنَّ الْيَهُود تَمَنَّوْا الْمَوْت لَمَاتُوا وَلَرَأَوْا مَقَاعِدهمْ مِنْ النَّار وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا " وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ عَبْد الْكَرِيم بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ : حَسَن صَحِيح وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيّ فِي دَلَائِل النُّبُوَّة قِصَّة وَفْد نَجْرَان مُطَوَّلَة جِدًّا وَلِنَذْكُرَهُ فَإِنَّ فِيهِ فَوَائِد كَثِيرَة وَفِيهِ غَرَابَة وَفِيهِ مُنَاسَبَة لِهَذَا الْمَقَام قَالَ الْبَيْهَقِيّ : حَدَّثَنَا أَبُو عَبْد اللَّه الْحَافِظ أَبُو سَعِيد وَمُحَمَّد بْن مُوسَى بْن الْفَضْل قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن يَعْقُوب حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن عَبْد الْجَبَّار حَدَّثَنَا يُونُس بْن بُكَيْر عَنْ سَلَمَة بْن عَبْد يَسُوع عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه قَالَ يُونُس - وَكَانَ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ - أَنَّ رَسُول اللَّه صَلِّي اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى أَهْل نَجْرَان قَبْل أَنْ يَنْزِل عَلَيْهِ طس سُلَيْمَان " بِاسْمِ إِلَه إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعْقُوب مِنْ مُحَمَّد النَّبِيّ رَسُول اللَّه إِلَى أُسْقُف نَجْرَان وَأَهْل نَجْرَان أَسْلِمْ أَنْتُمْ فَإِنِّي أَحْمَد إِلَيْكُمْ إِلَه إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعْقُوب أَمَّا بَعْد فَإِنِّي أَدْعُوكُمْ إِلَى عِبَادَة اللَّه مِنْ عِبَادَة الْعِبَاد وَأَدْعُوكُمْ إِلَى وِلَايَة اللَّه مِنْ وِلَايَة الْعِبَاد فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَالْجِزْيَة فَإِنْ أَبَيْتُمْ فَقَدْ آذَنْتُكُمْ بِحَرْبٍ وَالسَّلَام " فَلَمَّا أَتَى الْأُسْقُف الْكِتَاب وَقَرَأَهُ فَظِعَ بِهِ وَذَعَرَهُ ذُعْرًا شَدِيدًا وَبَعَثَ إِلَى رَجُل مِنْ أَهْل نَجْرَان يُقَال لَهُ شُرَحْبِيل بْن وَدَاعَة وَكَانَ مِنْ هَمْدَان وَلَمْ يَكُنْ أَحَد يُدْعَى إِذَا نَزَلَتْ مُعْضِلَة قَبْله لَا الْأَيْهَم وَلَا السَّيِّد وَلَا الْعَاقِب فَدَفَعَ الْأُسْقُف كِتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى إِلَى شُرَحْبِيل فَقَرَأَهُ فَقَالَ الْأُسْقُف : يَا أَبَا مَرْيَم مَا رَأْيك ؟ فَقَالَ شُرَحْبِيل : قَدْ عَلِمْت مَا وَعَدَ اللَّه إِبْرَاهِيم فِي ذُرِّيَّة إِسْمَاعِيل مِنْ النُّبُوَّة فَمَا يُؤْمَن أَنْ يَكُون هَذَا هُوَ ذَاكَ الرَّجُل لَيْسَ لِي فِي أَمْر النُّبُوَّة رَأْي وَلَوْ كَانَ فِي أَمْر مِنْ أُمُور الدُّنْيَا لَأَشَرْت عَلَيْك فِيهِ بِرَأْيِي وَاجْتَهَدْت لَك فَقَالَ الْأُسْقُف : تَنَحَّ فَاجْلِسْ فَتَنَحَّى شُرَحْبِيل فَجَلَسَ نَاحِيَة فَبَعَثَ الْأُسْقُف إِلَى رَجُل مِنْ أَهْل نَجْرَان يُقَال لَهُ عَبْد اللَّه بْن شُرَحْبِيل وَهُوَ مِنْ ذِي أَصْبَح مِنْ حِمْيَر فَأَقْرَأهُ الْكِتَاب وَسَأَلَهُ عَنْ الرَّأْي فِيهِ فَقَالَ مِثْل قَوْل شُرَحْبِيل فَقَالَ لَهُ الْأُسْقُف : تَنَحَّ فَاجْلِسْ فَتَنَحَّى عَبْد اللَّه فَجَلَسَ نَاحِيَة فَبَعَثَ الْأُسْقُف إِلَى رَجُل مِنْ أَهْل نَجْرَان يُقَال لَهُ جَبَّار بْن فَيْض مِنْ بَنِي الْحَارِث بْن كَعْب أَحَد بَنِي الْحَمَاس فَأَقْرَأَهُ الْكِتَاب وَسَأَلَهُ عَنْ الرَّأْي فِيهِ ؟ فَقَالَ لَهُ مِثْل قَوْل شُرَحْبِيل وَعَبْد اللَّه فَأَمَرَهُ الْأُسْقُف فَتَنَحَّى فَجَلَسَ نَاحِيَة فَلَمَّا اِجْتَمَعَ الرَّأْي مِنْهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَة جَمِيعًا أَمَرَ الْأُسْقُف بِالنَّاقُوسِ فَضُرِبَ بِهِ وَرُفِعَتْ النِّيرَان وَالْمُسُوح فِي الصَّوَامِع وَكَذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا فَزِعُوا بِالنَّهَارِ وَإِذَا كَانَ فَزَعهمْ لَيْلًا ضَرَبُوا بِالنَّاقُوسِ وَرُفِعَتْ النِّيرَان فِي الصَّوَامِع فَاجْتَمَعُوا حِين ضُرِبَ بِالنَّاقُوسِ وَرَفَعَتْ الْمُسُوح أَهْل الْوَادِي أَعْلَاهُ وَأَسْفَله وَطُول الْوَادِي مَسِيرَة يَوْم لِلرَّاكِبِ السَّرِيع وَفِيهِ ثَلَاث وَسَبْعُونَ قَرْيَة وَعِشْرُونَ وَمِائَة أَلْف مُقَاتِل فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَهُمْ عَنْ الرَّأْي فِيهِ فَاجْتَمَعَ رَأْي أَهْل الرَّأْي مِنْهُمْ عَلَى أَنْ يَبْعَثُوا شُرَحْبِيل بْن وَدَاعَة الْهَمْدَانِىّ وَعَبْد اللَّه بْن شُرَحْبِيل الْأَصْبَحِيّ وَجَبَّار بْن فَيْض الْحَارِثِيّ فَيَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ الْوَفْد حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْمَدِينَةِ وَضَعُوا ثِيَاب السَّفَر عَنْهُمْ وَلَبِسُوا حُلَلًا لَهُمْ يَجُرُّونَهَا مِنْ حِبَرَة وَخَوَاتِيم الذَّهَب ثُمَّ اِنْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ وَتَصَدَّوْا لِكَلَامِهِ نَهَارًا طَوِيلًا فَلَمْ يُكَلِّمهُمْ وَعَلَيْهِمْ تِلْكَ الْحُلَل وَخَوَاتِيم الذَّهَب فَانْطَلَقُوا يَتَّبِعُونَ عُثْمَان بْن عَفَّان وَعَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف وَكَانَا مَعْرِفَة لَهُمْ فَوَجَدُوهُمَا فِي نَاس مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار فِي مَجْلِس فَقَالُوا يَا عُثْمَان وَيَا عَبْد الرَّحْمَن إِنَّ نَبِيّكُمْ كَتَبَ إِلَيْنَا كِتَابًا فَأَقْبَلْنَا مُجِيبِينَ لَهُ فَأَتَيْنَاهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدّ سَلَامنَا وَتَصَدَّيْنَا لِكَلَامِهِ نَهَارًا طَوِيلًا فَأَعْيَانَا أَنْ يُكَلِّمنَا فَمَا الرَّأْي مِنْكُمَا أَتَرَوْنَ أَنْ نَرْجِع ؟ فَقَالَا لِعَلِيِّ بْن أَبِي طَالِب وَهُوَ فِي الْقَوْم : مَا تَرَى يَا أَبَا الْحَسَن فِي هَؤُلَاءِ الْقَوْم ؟ فَقَالَ عَلِيّ لِعُثْمَانَ وَعَبْد الرَّحْمَن : أَرَى أَنْ يَضَعُوا حُلَلهمْ هَذِهِ وَخَوَاتِيمهمْ وَيَلْبَسُوا ثِيَاب سَفَرهمْ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهِ فَفَعَلُوا فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ سَلَامهمْ ثُمَّ قَالَ " وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَقَدْ أَتَوْنِي الْمَرَّة الْأُولَى وَإِنَّ إِبْلِيس لَمَعَهُمْ " ثُمَّ سَأَلَهُمْ وَسَأَلُوهُ فَلَمْ تَزَلْ بِهِ وَبِهِمْ الْمَسْأَلَة حَتَّى قَالُوا لَهُ : مَا تَقُول فِي عِيسَى فَإِنَّا نَرْجِع إِلَى قَوْمنَا وَنَحْنُ نَصَارَى يَسُرّنَا إِنْ كُنْت نَبِيًّا أَنْ نَسْمَع مَا تَقُول فِيهِ ؟ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا عِنْدِي فِيهِ شَيْء يَوْمِي هَذَا فَأَقِيمُوا حَتَّى أُخْبِركُمْ بِمَا يَقُول لِي رَبِّي فِي عِيسَى " فَأَصْبَحَ الْغَد وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَة " إِنَّ مَثَل عِيسَى عِنْد اللَّه كَمَثَلِ آدَم - إِلَى قَوْله - الْكَاذِبِينَ " فَأَبَوْا أَنْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ فَلَمَّا أَصْبَحَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَد بَعْدَمَا أَخْبَرَهُمْ الْخَبَر أَقْبَلَ مُشْتَمِلًا عَلَى الْحَسَن وَالْحُسَيْن فِي خَمِيل لَهُ وَفَاطِمَة تَمْشِي عِنْد ظَهْره لِلْمُلَاعَنَةِ وَلَهُ يَوْمئِذٍ عِدَّة نِسْوَة فَقَالَ شُرَحْبِيل لِصَاحِبَيْهِ : لَقَدْ عَلِمْتُمَا أَنَّ الْوَادِي إِذَا اِجْتَمَعَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَله لَمْ يَرِدُوا وَلَمْ يَصْدُرُوا إِلَّا عَنْ رَأْيِي وَإِنِّي وَاَللَّه أَرَى أَمْرًا ثَقِيلًا وَاَللَّه لَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُل مَبْعُوثًا فَكُنَّا أَوَّل الْعَرَب طَعْنًا فِي عَيْنَيْهِ وَرَدًّا عَلَيْهِ أَمْره لَا يَذْهَب لَنَا مِنْ صَدْره وَلَا مِنْ صُدُور أَصْحَابه حَتَّى يُصِيبنَا بِجَائِحَةٍ وَأَنَا لِأَدْنَى الْعَرَب مِنْهُمَا جِوَارًا وَلَئِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُل نَبِيًّا مُرْسَلًا فَلَاعَنَّاهُ لَا يَبْقَى مِنَّا عَلَى وَجْه الْأَرْض شَعْر وَلَا ظُفْر إِلَّا هَلَكَ فَقَالَ صَاحِبَاهُ : فَمَا الرَّأْي يَا أَبَا مَرْيَم ؟ فَقَالَ : أَرَى أَنْ أُحَكِّمهُ فَإِنِّي أَرَى رَجُلًا لَا يَحْكُم شَطَطًا أَبَدًا فَقَالَا لَهُ : أَنْتَ وَذَاكَ قَالَ : فَتَلَقَّى شُرَحْبِيل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : إِنِّي قَدْ رَأَيْت خَيْرًا مِنْ مُلَاعَنَتك فَقَالَ " وَمَا هُوَ ؟ " فَقَالَ : حُكْمك الْيَوْم إِلَى اللَّيْل وَلَيْلَتك إِلَى الصَّبَاح فَمَهْمَا حَكَمْت فِينَا فَهُوَ جَائِز فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَعَلَّ وَرَاءَك أَحَدًا يُثَرِّب عَلَيْك " ؟ فَقَالَ شُرَحْبِيل : سَلْ صَاحِبِي فَسَأَلَهُمَا فَقَالَا : مَا يَرِد الْوَادِي وَلَا يَصْدُر إِلَّا عَنْ رَأْي شُرَحْبِيل فَرَجَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُلَاعِنهُمْ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ الْغَد أَتَوْهُ فَكَتَبَ لَهُمْ هَذَا الْكِتَاب بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا كَتَبَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَجْرَانَ - إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ حُكْمه - فِي كُلّ ثَمَرَة وَكُلّ صَفْرَاء وَبَيْضَاء وَسَوْدَاء وَرَقِيق فَاضِل عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ ذَلِكَ كُلّه لَهُمْ عَلَى أَلْفَيْ حُلَّة فِي كُلّ رَجَب أَلْف حُلَّة وَفِي كُلّ صَفَر أَلْف حُلَّة " وَذَكَرَ تَمَام الشُّرُوط وَبَقِيَّة السِّيَاق وَالْغَرَض أَنَّ وُفُودهمْ كَانَ فِي سَنَة تِسْع لِأَنَّ الزُّهْرِيّ قَالَ : كَانَ أَهْل نَجْرَان أَوَّل مَنْ أَدَّى الْجِزْيَة إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَة الْجِزْيَة إِنَّمَا أُنْزِلَتْ بَعْد الْفَتْح وَهِيَ قَوْله تَعَالَى قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِر الْآيَة وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن مَرْدُوَيه : حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن أَحْمَد حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن دَاوُدَ الْمَكِّيّ حَدَّثَنَا بِشْر بْن مِهْرَان حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن دِينَار عَنْ دَاوُدَ بْن أَبِي هِنْد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ جَابِر قَالَ : قَدِمَ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَاقِب وَالطَّيِّب فَدَعَاهُمَا إِلَى الْمُلَاعَنَة فَوَاعَدَاهُ عَلَى أَنْ يُلَاعِنَاهُ الْغَدَاة قَالَ : فَغَدَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِ عَلِيّ وَفَاطِمَة وَالْحَسَن وَالْحُسَيْن ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَأَبَيَا أَنْ يُجِيبَا وَأَقَرَّا لَهُ بِالْخَرَاجِ قَالَ : فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ " وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَوْ قَالَا : لَا لَأُمْطِرَ عَلَيْهِمْ الْوَادِي نَارًا " قَالَ جَابِر : وَفِيهِمْ نَزَلَتْ " نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسنَا وَأَنْفُسكُمْ " قَالَ جَابِر " أَنْفُسنَا وَأَنْفُسكُمْ " رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيّ بْن أَبِي طَالِب" وَأَبْنَاءَنَا " الْحَسَن وَالْحُسَيْن " وَنِسَاءَنَا " فَاطِمَة. وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْرَكه عَنْ عَلِيّ بْن عِيسَى عَنْ أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الْأَزْهَرِيّ عَنْ عَلِيّ بْن حَجَر عَنْ عَلِيّ بْن مُسْهِر عَنْ دَاوُدَ بْن أَبِي هِنْد بِهِ بِمَعْنَاهُ . ثُمَّ قَالَ : صَحِيح عَلَى شَرْط مُسْلِم وَلَمْ يُخْرِجَاهُ هَكَذَا . قَالَا : وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيّ عَنْ شُعْبَة عَنْ الْمُغِيرَة عَنْ الشَّعْبِيّ مُرْسَلًا وَهَذَا أَصَحّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَالْبَرَاء نَحْو ذَلِكَ .
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62)

إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ

ثُمَّ قَالَ اللَّه تَعَالَى " إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَص الْحَقّ " أَيْ هَذَا الَّذِي قَصَصْنَاهُ عَلَيْك يَا مُحَمَّد فِي شَأْن عِيسَى هُوَ الْحَقّ الَّذِي لَا مَعْدِل عَنْهُ وَلَا مَحِيد " وَمَا مِنْ إِلَه إِلَّا اللَّه وَإِنَّ اللَّه لَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم فَإِنْ تَوَلَّوْا " . أَيْ عَنْ هَذَا إِلَى غَيْره .
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ

" فَإِنَّ اللَّه عَلِيم بِالْمُفْسِدِينَ " أَيْ مَنْ عَدَلَ عَنْ الْحَقّ إِلَى الْبَاطِل فَهُوَ الْمُفْسِد وَاَللَّه عَلِيم بِهِ وَسَيَجْزِيهِ عَلَى ذَلِكَ شَرّ الْجَزَاء وَهُوَ الْقَادِر الَّذِي لَا يَفُوتهُ شَيْء سُبْحَانه وَبِحَمْدِهِ وَنَعُوذ بِهِ مِنْ حُلُول نِقْمَته .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا

هَذَا الْخِطَاب يَعُمّ أَهْل الْكِتَاب مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ " قُلْ يَا أَهْل الْكِتَاب تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة " وَالْكَلِمَة تُطْلَق عَلَى الْجُمْلَة الْمُفِيدَة كَمَا قَالَ هَهُنَا ثُمَّ وَصَفَهَا بِقَوْلِهِ " سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُمْ " أَيْ عَدْل وَنِصْف نَسْتَوِي نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ " أَنْ لَا نَعْبُد إِلَّا اللَّه وَلَا نُشْرِك بِهِ شَيْئًا " لَا وَثَنًا وَلَا صَلِيبًا وَلَا صَنَمًا وَلَا طَاغُوتًا وَلَا نَارًا وَلَا شَيْئًا بَلْ نُفْرِد الْعِبَادَة لِلَّهِ وَحْده لَا شَرِيك لَهُ وَهَذِهِ دَعْوَة جَمِيع الرُّسُل قَالَ اللَّه تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ " وَقَالَ تَعَالَى" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّة رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت " ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " وَلَا يَتَّخِذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه " . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج : يَعْنِي يُطِيع بَعْضنَا بَعْضًا فِي مَعْصِيَة اللَّه . وَقَالَ عِكْرِمَة : يَسْجُد بَعْضنَا لِبَعْضٍ " فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ " أَيْ فَإِنْ تَوَلَّوْا عَنْ هَذَا النِّصْف وَهَذِهِ الدَّعْوَة فَاشْهَدُوا أَنْتُمْ عَلَى اِسْتِمْرَاركُمْ عَلَى الْإِسْلَام الَّذِي شَرَعَهُ اللَّه لَكُمْ . وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ عِنْد رِوَايَته مِنْ طَرِيق الزُّهْرِيّ عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُتْبَةَ بْن مَسْعُود عَنْ اِبْن عَبَّاس عَنْ أَبِي سُفْيَان فِي قِصَّته حِين دَخَلَ عَلَى قَيْصَر فَسَأَلَهُ عَنْ نَسَبِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ صِفَته وَنَعْته وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى الْجَلِيَّة مَعَ أَنَّ أَبَا سُفْيَان إِذْ ذَاكَ كَانَ مُشْرِكًا لَمْ يُسْلِم إِلَّا بَعْد وَكَانَ ذَلِكَ بَعْد صُلْحِ الْحُدَيْبِيَة وَقَبْل الْفَتْح كَمَا هُوَ مُصَرَّح بِهِ فِي الْحَدِيث وَلِأَنَّهُ لَمَّا سَأَلَهُ : هَلْ يَغْدِر ؟ قَالَ : فَقُلْت لَا وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّة لَا نَدْرِي مَا هُوَ صَانِع فِيهَا قَالَ : وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَة أَزِيد فِيهَا شَيْئًا سِوَى هَذِهِ وَالْغَرَض أَنَّهُ قَالَ ثُمَّ جِيءَ بِكِتَابِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ : بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم : مِنْ مُحَمَّد رَسُول اللَّه إِلَى هِرَقْل عَظِيم الرُّوم سَلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْد فَأَسْلِمْ تَسْلَم وَأَسْلِمْ يُؤْتِك أَجْرك مَرَّتَيْنِ فَإِنْ تَوَلَّيْت فَإِنَّمَا عَلَيْك إِثْم الْأَرِيسِيِّينَ وَ " يَا أَهْل الْكِتَاب تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُمْ أَنْ لَا نَعْبُد إِلَّا اللَّه وَلَا نُشْرِك بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذ بَعْضنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ . وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّد بْن إِسْحَق وَغَيْر وَاحِد أَنْ صَدْر سُورَة آل عِمْرَان إِلَى بِضْع وَثَمَانِينَ آيَة مِنْهَا نَزَلَتْ فِي وَفْد نَجْرَان . وَقَالَ الزُّهْرِيّ : هُمْ أَوَّل مَنْ بَذَلَ الْجِزْيَة وَلَا خِلَاف أَنَّ آيَة الْجِزْيَة نَزَلَتْ بَعْد الْفَتْح فَمَا الْجَمْع بَيْن كِتَابَة هَذِهِ الْآيَة قَبْل الْفَتْح إِلَى هِرَقْل فِي جُمْلَة الْكِتَاب وَبَيْن مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّد بْن إِسْحَق وَالزُّهْرِيّ ؟ وَالْجَوَاب مِنْ وُجُوه . " أَحَدهَا " يَحْتَمِل أَنَّ هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّة قَبْل الْحُدَيْبِيَة وَمَرَّة بَعْد الْفَتْح . " الثَّانِي " يَحْتَمِل أَنَّ صَدْر سُورَة آل عِمْرَان نَزَلَ فِي وَفْد نَجْرَان إِلَى هَذِهِ الْآيَة وَتَكُون هَذِهِ الْآيَة نَزَلَتْ قَبْل ذَلِكَ وَيَكُون قَوْل اِبْن إِسْحَق إِلَى بِضْع وَثَمَانِينَ آيَة لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ لِدَلَالَةِ حَدِيث أَبِي سُفْيَان . " الثَّالِث " يَحْتَمِل أَنَّ قُدُوم وَفْد نَجْرَان كَانَ قَبْل الْحُدَيْبِيَة وَأَنَّ الَّذِي بَذَلُوهُ مُصَالَحَة عَنْ الْمُبَاهَلَة لَا عَلَى وَجْه الْجِزْيَة بَلْ يَكُون مِنْ بَاب الْمُهَادَنَة وَالْمُصَالَحَة وَوَافَقَ نُزُول آيَة الْجِزْيَة بَعْد ذَلِكَ عَلَى وَفْق ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فَرْضُ الْخُمُس وَالْأَرْبَعَة أَخْمَاس وَفْق مَا فَعَلَهُ عَبْد اللَّه بْن جَحْش فِي تِلْكَ السَّرِيَّة قَبْل بَدْر ثُمَّ نَزَلَتْ فَرِيضَة الْقَسْم عَلَى وَفْق ذَلِكَ . " الرَّابِع " يَحْتَمِل أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِكَتْبِ هَذَا فِي كِتَابه إِلَى هِرَقْل لَمْ يَكُنْ نَزَلَ بَعْد ثُمَّ أُنْزِلَ الْقُرْآن مُوَافَقَة لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَزَلَ بِمُوَافَقَةِ عُمَر بْن الْخَطَّاب فِي الْحِجَاب وَفِي الْأُسَارَى وَفِي عَدَم الصَّلَاة عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَفِي قَوْله " وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَام إِبْرَاهِيم مُصَلَّى " وَفِي قَوْله " عَسَى رَبّه إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ " الْآيَة.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا

يُنْكِر تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الْيَهُود وَالنَّصَارَى فِي مُحَاجَّتهمْ فِي إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَدَعْوَى كُلّ طَائِفَة مِنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ كَمَا قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَق بْن يَسَار حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد مَوْلَى زَيْد بْن ثَابِت حَدَّثَنِي سَعِيد بْن جُبَيْر أَوْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : اِجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَان وَأَحْبَار يَهُود عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنَازَعُوا عِنْده فَقَالَتْ الْأَحْبَار : مَا كَانَ إِبْرَاهِيم إِلَّا يَهُودِيًّا وَقَالَتْ النَّصَارَى : مَا كَانَ إِبْرَاهِيم إِلَّا نَصْرَانِيًّا فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " يَا أَهْل الْكِتَاب لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيم " الْآيَة أَيْ كَيْفَ تَدَّعُون أَيّهَا الْيَهُود أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا وَقَدْ كَانَ زَمَنه قَبْل أَنْ يُنَزِّل اللَّه التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى وَكَيْفَ تَدَّعُون أَيّهَا النَّصَارَى أَنَّهُ كَانَ نَصْرَانِيًّا وَإِنَّمَا حَدَثَتْ النَّصْرَانِيَّة بَعْد زَمَنه بِدَهْرٍ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ .
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)

هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا

قَالَ تَعَالَى " هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْم فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم " الْآيَة . هَذَا إِنْكَار عَلَى مَنْ يُحَاجّ فِيمَا لَا عِلْم لَهُ بِهِ فَإِنَّ الْيَهُود وَالنَّصَارَى تَحَاجَّوْا فِي إِبْرَاهِيم بِلَا عِلْم وَلَوْ تَحَاجَّوْا فِيمَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْهُ عِلْم مِمَّا يَتَعَلَّق بِأَدْيَانِهِمْ الَّتِي شُرِعَتْ لَهُمْ إِلَى حِين بَعْثَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ وَإِنَّمَا تَكَلَّمُوا فِيمَا لَا يَعْلَمُونَ فَأَنْكَرَ اللَّه عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُمْ بِرَدِّ مَا لَا عِلْم لَهُمْ بِهِ إِلَى عَالِم الْغَيْب وَالشَّهَادَة الَّذِي يَعْلَم الْأُمُور عَلَى حَقَائِقهَا وَجَلِيَّاتهَا وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَاَللَّه يَعْلَم وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " .
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

قَالَ تَعَالَى " مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا " أَيْ مُتَحَنِّفًا عَنْ الشِّرْك قَاصِدًا إِلَى الْإِيمَان " وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ " وَهَذِهِ الْآيَة كَاَلَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي سُورَة الْبَقَرَة " وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا " الْآيَة . ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاَللَّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ " يَقُول تَعَالَى : أَحَقّ النَّاس بِمُتَابَعَةِ إِبْرَاهِيم الْخَلِيل الَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ عَلَى دِينه وَهَذَا النَّبِيّ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ أَصْحَابه الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار وَمَنْ تَبِعَهُمْ بَعْدهمْ . قَالَ سَعِيد بْن مَنْصُور حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص عَنْ سَعِيد بْن مَسْرُوق عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوق عَنْ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " لِكُلِّ نَبِيّ وُلَاة مِنْ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ أَبِي وَخَلِيل رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ " .
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ

" إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ " الْآيَة . وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالْبَزَّار مِنْ حَدِيث أَبِي أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ عَنْ أَبِيهِ بِهِ . ثُمَّ قَالَ الْبَزَّار : وَرَوَاهُ غَيْر أَبِي أَحْمَد عَنْ سُفْيَان عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ عَبْد اللَّه وَلَمْ يَذْكُر مَسْرُوقًا وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيق وَكِيع عَنْ سُفْيَان ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا أَصَحّ لَكِنْ رَوَاهُ وَكِيع فِي تَفْسِيره فَقَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَق عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيّ وِلَايَة مِنْ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّي مِنْهُمْ أَبِي وَخَلِيل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام " ثُمَّ قَرَأَ " إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا " الْآيَة وَقَوْله " وَاَللَّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ " أَيْ وَلِيّ جَمِيع الْمُؤْمِنِينَ بِرُسُلِهِ .
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ

يُخْبِر تَعَالَى عَنْ حَسَدِ الْيَهُود لِلْمُؤْمِنِينَ وَبَغْيهمْ إِيَّاهُمْ بِالْإِضْلَالِ وَأَخْبَرَ أَنَّ وَبَال ذَلِكَ إِنَّمَا يَعُود عَلَى أَنْفُسهمْ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ مَمْكُور بِهِمْ .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ

قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ " يَا أَهْل الْكِتَاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ " أَيْ تَعْلَمُونَ صِدْقهَا وَتَتَحَقَّقُونَ حَقّهَا.
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ

" يَا أَهْل الْكِتَاب لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " أَيْ تَكْتُمُونَ مَا فِي كُتُبكُمْ مِنْ صِفَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ ذَلِكَ وَتَتَحَقَّقُونَهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آَمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آَخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

" وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب آمِنُوا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْه النَّهَار وَاكْفُرُوا آخِره لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " الْآيَة . هَذِهِ مَكِيدَة أَرَادُوهَا لِيُلْبِسُوا عَلَى الضُّعَفَاء مِنْ النَّاس أَمْرَ دِينهمْ وَهُوَ أَنَّهُمْ اِشْتَوَرُوا بَيْنهمْ أَنْ يُظْهِرُوا الْإِيمَان أَوَّل النَّهَار وَيُصَلُّوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ صَلَاة الصُّبْح فَإِذَا جَاءَ آخِر النَّهَار اِرْتَدُّوا إِلَى دِينهمْ لِيَقُولَ الْجَهَلَة مِنْ النَّاس إِنَّمَا رَدَّهُمْ إِلَى دِينهمْ اِطِّلَاعهمْ عَلَى نَقِيصَة وَعَيْب فِي دِين الْمُسْلِمِينَ وَلِهَذَا قَالُوا " لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " وَقَالَ اِبْن أَبِي نَجِيح : عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ الْيَهُود بِهَذِهِ الْآيَة يَعْنِي يَهُودًا صَلَّتْ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ صَلَاة الصُّبْح وَكَفَرُوا آخِر النَّهَار مَكْرًا مِنْهُمْ لِيُرُوا النَّاس أَنْ قَدْ بَدَتْ لَهُمْ الضَّلَالَة مِنْهُ بَعْد أَنْ كَانُوا اِتَّبَعُوهُ. وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : قَالَتْ طَائِفَة مِنْ أَهْل الْكِتَاب إِذَا لَقِيتُمْ أَصْحَاب مُحَمَّد أَوَّل النَّهَار فَآمِنُوا وَإِذَا كَانَ آخِره فَصَلُّوا صَلَاتكُمْ لَعَلَّهُمْ يَقُولُونَ هَؤُلَاءِ أَهْل الْكِتَاب وَهُمْ أَعْلَم مِنَّا وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَالرَّبِيع وَأَبِي مَالِك .
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)

وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ

وَقَوْله تَعَالَى " وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينكُمْ " أَيْ تَطْمَئِنُّوا وَتُظْهِرُوا سِرّكُمْ وَمَا عِنْدكُمْ إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينكُمْ وَلَا تُظْهِرُوا مَا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ وَيَحْتَجُّوا بِهِ عَلَيْكُمْ . قَالَ اللَّه تَعَالَى " قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّه " أَيْ هُوَ الَّذِي يَهْدِي قُلُوب الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَتَمّ الْإِيمَان بِمَا يُنْزِلهُ عَلَى عَبْده وَرَسُوله مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْآيَات الْبَيِّنَات وَالدَّلَائِل الْقَاطِعَات وَالْحُجَج الْوَاضِحَات وَإِنْ كَتَمْتُمْ أَيّهَا الْيَهُود مَا بِأَيْدِيكُمْ مِنْ صِفَة مُحَمَّد النَّبِيّ الْأُمِّيّ فِي كُتُبكُمْ الَّتِي نَقَلْتُمُوهَا عَنْ الْأَنْبِيَاء الْأَقْدَمِينَ وَقَوْله " أَنْ يُؤْتَى أَحَد مِثْل مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْد رَبّكُمْ " يَقُولُونَ لَا تُظْهِرُوا مَا عِنْدكُمْ مِنْ الْعِلْم لِلْمُسْلِمِينَ فَيَتَعَلَّمُوهُ مِنْكُمْ وَيُسَاوُونَكُمْ فِيهِ وَيَمْتَازُونَ بِهِ عَلَيْكُمْ لِشِدَّةِ الْإِيمَان بِهِ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْد رَبّكُمْ أَيْ يَتَّخِذُوهُ حُجَّة عَلَيْكُمْ بِمَا فِي أَيْدِيكُمْ فَتَقُوم بِهِ عَلَيْكُمْ الدَّلَالَة وَتُرْتَكَب الْحُجَّة فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالَ اللَّه تَعَالَى " قُلْ إِنَّ الْفَضْل بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيه مَنْ يَشَاء " أَيْ الْأُمُور كُلّهَا تَحْت تَصَرُّفه وَهُوَ الْمُعْطِي الْمَانِع يَمُنَّ عَلَى مَنْ يَشَاء بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْم وَالتَّصَرُّف التَّامّ وَيُضِلّ مَنْ يَشَاء فَيُعْمِي بَصَرَهُ وَبَصِيرَته وَيَخْتِم عَلَى قَلْبه وَسَمْعِهِ وَيَجْعَل عَلَى بَصَره غِشَاوَة وَلَهُ الْحُجَّة التَّامَّة وَالْحِكْمَة الْبَالِغَة .
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

" وَاَللَّه وَاسِع عَلِيم يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء وَاَللَّه ذُو الْفَضْل الْعَظِيم " أَيْ اِخْتَصَّكُمْ أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْفَضْل بِمَا لَا يُحَدّ وَلَا يُوصَف بِمَا شَرَّفَ بِهِ نَبِيّكُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِر الْأَنْبِيَاء وَهَدَاكُمْ بِهِ إِلَى أَكْمَلِ الشَّرَائِعِ .
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

يُخْبِر تَعَالَى عَنْ الْيَهُود بِأَنَّ مِنْهُمْ الْخَوَنَة وَيُحَذِّر الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الِاغْتِرَار بِهِمْ فَإِنَّ مِنْهُمْ " مَنْ إِنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطَارٍ " أَيْ مِنْ الْمَال " يُؤَدِّهِ إِلَيْك " أَيْ وَمَا دُونه بِطَرِيقِ الْأَوْلَى أَنْ يُؤَدِّهِ إِلَيْك " وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْك إِلَّا مَا دُمْت عَلَيْهِ قَائِمًا " أَيْ بِالْمُطَالَبَةِ وَالْمُلَازَمَة وَالْإِلْحَاح فِي اِسْتِخْلَاص حَقّك وَإِذَا كَانَ هَذَا صَنِيعه فِي الدِّينَار فَمَا فَوْقه أَوْلَى أَنْ لَا يُؤَدِّيه إِلَيْك . وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَام عَلَى الْقِنْطَار فِي أَوَّل السُّورَة وَأَمَّا الدِّينَار فَمَعْرُوف . وَقَدْ قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا سَعِيد بْن عَمْرو السَّكُونِيّ حَدَّثَنَا بَقِيَّة عَنْ زِيَاد بْن الْهَيْثَم حَدَّثَنِي مَالِك بْن دِينَار قَالَ : إِنَّمَا سُمِّيَ الدِّينَار لِأَنَّهُ دَيْن وَنَار . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَهُوَ دَيْنه . وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقّه فَلَهُ النَّار وَمُنَاسِب أَنْ يَذْكُر هَهُنَا الْحَدِيث الَّذِي عَلَّقَهُ الْبُخَارِيّ فِي غَيْر مَوْضِع مِنْ صَحِيحه وَمِنْ أَحْسَنهَا سِيَاقه فِي كِتَاب الْكَفَالَة حَيْثُ قَالَ : وَقَالَ اللَّيْث حَدَّثَنِي جَعْفَر بْن رَبِيعَة عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن هُرْمُز الْأَعْرَج عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّه عَنْهُ عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيل سَأَلَ بَعْض بَنِي إِسْرَائِيل أَنْ يُسَلِّفهُ أَلْف دِينَار فَقَالَ : اِئْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدهُمْ فَقَالَ : كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا فَقَالَ : اِئْتِنِي بِالْكَفِيلِ قَالَ : كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا قَالَ : صَدَقْت فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى فَخَرَجَ فِي الْبَحْر فَقَضَى حَاجَته ثُمَّ اِلْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبهَا لِيَقْدَم عَلَيْهِ فِي الْأَجَل الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ يَجِد مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَة فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْف دِينَار وَصَحِيفَة مِنْهُ إِلَى صَاحِبه ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعهَا ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْر فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّك تَعْلَم أَنَّى اسْتَسْلَفْتُ فُلَانًا أَلْف دِينَار فَسَأَلَنِي شَهِيدًا فَقُلْت كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا وَسَأَلَنِي كَفِيلًا فَقُلْت كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا فَرَضِيَ بِك وَإِنِّي جَهَدْت أَنْ أَجِد مَرْكَبًا أَبْعَث إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِر وَإِنِّي اِسْتَوْدَعْتُكَهَا فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْر حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ثُمَّ اِنْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِس مَرْكَبًا يَخْرُج إِلَى بَلَده فَخَرَجَ الرَّجُل الَّذِي كَانَ سَلَّفَهُ لِيَنْظُرَ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيئهُ بِمَالِهِ فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَال فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَال وَالصَّحِيفَة ثُمَّ قَدِمَ الرَّجُل الَّذِي كَانَ تَسَلَّفَ مِنْهُ فَأَتَاهُ بِأَلْفِ دِينَار وَقَالَ : وَاَللَّه مَا زِلْت جَاهِدًا فِي طَلَب مَرْكَب لِآتِيَك بِمَالِك فَمَا وَجَدْت مَرْكَبًا قَبْل الَّذِي أَتَيْت فِيهِ قَالَ : هَلْ كُنْت بَعَثْت إِلَى بِشَيْءٍ ؟ قَالَ : أَلَم أُخْبِرك أَنَّى لَمْ أَجِد مَرْكَبًا قَبْل هَذَا قَالَ : فَإِنَّ اللَّه قَدْ أَدَّى عَنْك الَّذِي بَعَثْت فِي الْخَشَبَة فَانْصَرَفَ بِأَلْفِ دِينَار رَاشِدًا " هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي مَوْضِع مُعَلَّقًا بِصِيغَةِ الْجَزْم وَأَسْنَدَهُ فِي بَعْض الْمَوَاضِع مِنْ الصَّحِيح عَبْد اللَّه بْن صَالِح كَاتِب اللَّيْث عَنْهُ . وَرَوَاهُ الْإِمَام أَحْمَد فِي مُسْنَده هَكَذَا مُطَوَّلًا عَنْ يُونُس بْن مُحَمَّد الْمُؤَدِّب عَنْ اللَّيْث بِهِ . وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنَده عَنْ الْحَسَن بْن مُدْرِك عَنْ يَحْيَى بْن حَمَّاد عَنْ أَبِي عَوَانَة عَنْ عُمَر بْن أَبِي سَلَمَة عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ ثُمَّ قَالَ : لَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْه بِهَذَا الْإِسْنَاد كَذَا قَالَ وَهُوَ خَطَأ لِمَا تَقَدَّمَ وَقَوْله " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل " أَيْ إِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى جُحُود الْحَقّ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : لَيْسَ عَلَيْنَا فِي دِيننَا حَرَج فِي أَكْل أَمْوَال الْأُمِّيِّينَ وَهُمْ الْعَرَب فَإِنَّ اللَّه قَدْ أَحَلَّهَا لَنَا قَالَ اللَّه تَعَالَى " وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب وَهُمْ يَعْلَمُونَ " أَيْ وَقَدْ اِخْتَلَقُوا هَذِهِ الْمَقَالَة وَائْتَفَكُوهَا بِهَذِهِ الضَّلَالَة فَإِنَّ اللَّه حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْل الْأَمْوَال إِلَّا بِحَقِّهَا وَإِنَّمَا هُمْ قَوْم بُهُتٌ . قَالَ عَبْد الرَّزَّاق أَنْبَأَنَا مَعْمَر عَنْ أَبِي إِسْحَق الْهَمْدَانِيّ عَنْ أَبِي صَعْصَعَة بْن يَزِيد أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ اِبْن عَبَّاس فَقَالَ : إِنَّا نُصِيب فِي الْغَزْو مِنْ أَمْوَال أَهْل الذِّمَّة الدَّجَاجَة وَالشَّاة قَالَ اِبْن عَبَّاس : فَتَقُولُونَ مَاذَا ؟ قَالَ : نَقُول لَيْسَ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بَأْس قَالَ : هَذَا كَمَا قَالَ أَهْل الْكِتَاب لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل إِنَّهُمْ إِذَا أَدَّوْا الْجِزْيَة لَمْ تَحِلَّ لَكُمْ أَمْوَالهمْ إِلَّا بِطِيبِ أَنْفُسهمْ . وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَق بِنَحْوِهِ وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن يَحْيَى حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيع الزَّهْرَانِيّ حَدَّثَنَا يَعْقُوب حَدَّثَنَا جَعْفَر عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر قَالَ : لَمَّا قَالَ أَهْل الْكِتَاب لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيل قَالَ نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَذَبَ أَعْدَاء اللَّه مَا مِنْ شَيْء كَانَ فِي الْجَاهِلَة إِلَّا وَهُوَ تَحْت قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا الْأَمَانَة فَإِنَّهَا مُؤَدَّاة إِلَى الْبَرّ وَالْفَاجِر " .
بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ

قَالَ تَعَالَى " بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى " أَيْ لَكِنْ مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى مِنْكُمْ يَا أَهْل الْكِتَاب الَّذِي عَاهَدَكُمْ اللَّه عَلَيْهِ مِنْ الْإِيمَان بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بُعِثَ كَمَا أَخَذَ الْعَهْد وَالْمِيثَاق عَلَى الْأَنْبِيَاء وَأُمَمهمْ بِذَلِكَ وَاتَّقَى مَحَارِم اللَّه وَاتَّبَعَ طَاعَته وَشَرِيعَته الَّتِي بَعَثَ بِهَا خَاتَم رُسُله وَسَيِّدهمْ فَإِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُتَّقِينَ .
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ

يَقُول تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يَعْتَاضُون عَمَّا عَاهَدُوا اللَّه عَلَيْهِ مِنْ اِتِّبَاع مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْر صِفَته لِلنَّاسِ وَبَيَان أَمْره وَعَنْ أَيْمَانهمْ الْكَاذِبَة الْفَاجِرَة الْآثِمَة بِالْأَثْمَانِ الْقَلِيلَة الزَّهِيدَة وَهِيَ عُرُوض هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا الْفَانِيَة الزَّائِلَة " أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَة " أَيْ لَا نَصِيب لَهُمْ فِيهَا وَلَا حَظّ لَهُمْ مِنْهَا " وَلَا يُكَلِّمهُمْ اللَّه وَلَا يَنْظُر إِلَيْهِمْ يَوْم الْقِيَامَة " أَيْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ لَهُمْ يَعْنِي لَا يُكَلِّمهُمْ اللَّه كَلَام لُطْف بِهِمْ وَلَا يَنْظُر إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ الرَّحْمَة " وَلَا يُزَكِّيهِمْ " أَيْ مِنْ الذُّنُوب وَالْأَدْنَاس بَلْ يَأْمُر بِهِمْ إِلَى النَّار " وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم " . وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيث تَتَعَلَّق بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا مَا تَيَسَّرَ " الْحَدِيث الْأَوَّل " قَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا عَفَّان حَدَّثَنَا شُعْبَة قَالَ عَلِيّ بْن مُدْرِك أَخْبَرَنِي قَالَ : سَمِعْت أَبَا زُرْعَة عَنْ خَرَشَة بْن الْحُرّ عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثَلَاثَة لَا يُكَلِّمهُمْ اللَّه وَلَا يَنْظُر إلَيْهِمْ يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم " قُلْت : يَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هُمْ ؟ خَسِرُوا وَخَابُوا قَالَ : وَأَعَادَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاث مَرَّات قَالَ " الْمُسْبِل وَالْمُنْفِق سِلْعَته بِالْحَلِفِ الْكَاذِب وَالْمَنَّان " . وَرَوَاهُ مُسْلِم وَأَهْل السُّنَن مِنْ حَدِيث شُعْبَة بِهِ " طَرِيق أُخْرَى " قَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل عَنْ الْجَرِيرِيّ عَنْ أَبِي الْعَلَاء بْن الشِّخِّير عَنْ أَبِي الْأَحْمَس قَالَ : لَقِيت أَبَا ذَرّ فَقُلْت لَهُ بَلَغَنِي عَنْك أَنَّك تُحَدِّث حَدِيثًا عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَمَا إِنَّهُ لَا يَخَالُنِي أَنْ كَذَبَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا سَمِعْته مِنْهُ فَمَا الَّذِي بَلَغَك عَنِّي ؟ قُلْت بَلَغَنِي أَنَّك تَقُول : ثَلَاثَة يُحِبّهُمْ اللَّه وَثَلَاثَة يَشْنَؤُهُمْ اللَّه قَالَ : قُلْته سَمِعْته قُلْت : فَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُحِبّهُمْ اللَّه ؟ قَالَ : " الرَّجُل يَلْقَى الْعَدُوّ فِي فِئَة فَيَنْصِب لَهُمْ نَحْره حَتَّى يُقْتَل أَوْ يُفْتَح لِأَصْحَابِهِ وَالْقَوْم يُسَافِرُونَ فَيَطُول سَرَاهُمْ حَتَّى يُحِبُّوا أَنْ يَمَسُّوا الْأَرْض فَيَنْزِلُونَ فَيَتَنَحَّى أَحَدهمْ فَيُصَلِّي حَتَّى يُوقِظهُمْ لِرَحِيلِهِمْ وَالرَّجُل يَكُون لَهُ الْجَار يُؤْذِيه فَيَصْبِر عَلَى أَذَاهُ حَتَّى يُفَرِّق بَيْنهمَا مَوْت أَوْ ظَعْن " قُلْت : وَمَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشْنَؤُهُمْ اللَّه ؟ قَالَ " التَّاجِر الْحَلَّاف - أَوْ قَالَ الْبَائِع الْحَلَّاف - وَالْفَقِير الْمُحْتَال وَالْبَخِيل الْمَنَّان " . غَرِيب مِنْ هَذَا الْوَجْه . " الْحَدِيث الثَّانِي " قَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ جَرِير بْن حَازِم حَدَّثَنَا عَدِيّ بْن عَدِيّ أَخْبَرَنِي رَجَاء بْن حَيْوَةَ وَالْعُرْس بْن عَمِيرَة عَنْ أَبِيهِ عَدِيٍّ هُوَ اِبْن عَمِيرَة الْكِنْدِيّ قَالَ : خَاصَمَ رَجُل مِنْ كِنْدَة يُقَال لَهُ اِمْرُؤُ الْقِيس بْن عَامِر رَجُلًا مِنْ حَضْرَمَوْت إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْض فَقَضَى عَلَى الْحَضْرَمِيّ بِالْبَيِّنَةِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَة فَقَضَى عَلَى اِمْرِئِ الْقِيس بِالْيَمِينِ فَقَالَ الْحَضْرَمِيّ : أَمْكَنْته مِنْ الْيَمِين يَا رَسُول اللَّه ؟ ذَهَبَتْ وَرَبّ الْكَعْبَة أَرْضِي فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين كَاذِبَة لِيَقْتَطِع بِهَا مَال أَحَد لَقِيَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان " قَالَ رَجَاء : وَتَلَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه وَأَيْمَانهمْ ثَمَنًا قَلِيلًا " فَقَالَ اِمْرُؤُ الْقِيس : مَاذَا لِمَنْ تَرَكَهَا يَا رَسُول اللَّه ؟ فَقَالَ " الْجَنَّة " قَالَ : فَاشْهَدْ أَنِّي قَدْ تَرَكْتهَا لَهُ كُلّهَا وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث عَدِيّ بْن عَدِيّ بِهِ . " الْحَدِيث الثَّالِث " قَالَ أَحْمَد حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَة حَدَّثَنَا الْأَعْمَش عَنْ شَقِيق عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِين هُوَ فِيهَا فَاجِر لِيَقْتَطِع بِهَا مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم لَقِيَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان " فَقَالَ الْأَشْعَث : فِيَّ وَاَللَّه كَانَ ذَلِكَ كَانَ بَيْنِي وَبَيْن رَجُل مِنْ الْيَهُود أَرْض فَجَحَدَنِي أَرْضِي فَقَدَّمْته إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى فَقَالَ لِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَلَكَ بَيِّنَة " ؟ قُلْت : لَا فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ : " اِحْلِفْ ". فَقُلْت يَا رَسُول اللَّه إِذًا يَحْلِف فَيَذْهَب مَالِي فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه وَأَيْمَانهمْ ثَمَنًا قَلِيلًا " الْآيَة أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيث الْأَعْمَش " طَرِيق أُخْرَى " قَالَ أَحْمَد حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن آدَم حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن عَيَّاش عَنْ عَاصِم بْن أَبِي النُّجُود عَنْ شَقِيق بْن سَلَمَة حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ اِقْتَطَعَ مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم بِغَيْرِ حَقّ لَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان " قَالَ : فَجَاءَ الْأَشْعَث بْن قَيْس فَقَالَ : مَا يُحَدِّثكُمْ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن ؟ فَحَدَّثَنَاهُ فَقَالَ : كَانَ فِي هَذَا الْحَدِيث خَاصَمْت اِبْن عَمّ لِي إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بِئْر كَانَتْ لِي فِي يَده فَجَحَدَنِي فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بَيِّنَتك أَنَّهَا بِئْرك وَإِلَّا فَيَمِينه " قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه مَالِي بَيِّنَة وَإِنْ تَجْعَلهَا بِيَمِينِهِ تَذْهَب بِئْرِي إِنَّ خَصْمِي اِمْرُؤُ فَاجِر فَقَالَ : رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ اِقْتَطَعَ مَال اِمْرِئٍ مُسْلِم بِغَيْرِ حَقّ لَقِيَ اللَّه وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان " قَالَ : وَقَرَأَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَة " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه وَأَيْمَانهمْ ثَمَنًا قَلِيلًا " الْآيَة . " الْحَدِيث الرَّابِع " قَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْن غَيْلَان قَالَ حَدَّثَنَا رِشْدِين عَنْ زِيَاد عَنْ سَهْل بْن مُعَاذ عَنْ أَنَس عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادًا لَا يُكَلِّمهُمْ يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُر إِلَيْهِمْ " قِيلَ : وَمَنْ أُولَئِكَ يَا رَسُول اللَّه ؟ قَالَ " مُتَبَرِّئٌ مِنْ وَالِدَيْهِ رَاغِب عَنْهُمَا وَمُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَده وَرَجُل أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْم فَكَفَرَ نِعْمَتهمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ " . " الْحَدِيث الْخَامِس " قَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عَرَفَة حَدَّثَنَا هُشَيْم أَنْبَأَنَا الْعَوَّام يَعْنِي اِبْن حَوْشَب عَنْ إِبْرَاهِيم بْن عَبْد الرَّحْمَن يَعْنِي السَّكْسَكِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن أَبِي أَوْفَى أَنَّ رَجُلًا أَقَامَ سِلْعَة لَهُ فِي السُّوق فَحَلَفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ أُعْطَى بِهَا مَا لَمْ يُعْطَهُ لِيُوقِع فِيهَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّه وَأَيْمَانهمْ ثَمَنًا قَلِيلًا " الْآيَة . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيّ مِنْ غَيْر وَجْه عَنْ الْعَوَّام. " الْحَدِيث السَّادِس " قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا وَكِيع عَنْ الْأَعْمَش عَنْ أَبِي صَالِح عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ثَلَاثَة لَا يُكَلِّمهُمْ اللَّه يَوْم الْقِيَامَة وَلَا يَنْظُر إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم رَجُل مَنَعَ اِبْن السَّبِيل فَضْل مَاء عِنْده وَرَجُل حَلَفَ عَلَى سِلْعَة بَعْد الْعَصْر يَعْنِي كَاذِبًا وَرَجُل بَايَعَ إِمَامًا فَإِنْ أَعْطَاهُ وَفَّى لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث وَكِيع وَقَالَ التِّرْمِذِيّ : حَدِيث حَسَن صَحِيح .
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

يُخْبِر تَعَالَى عَنْ الْيَهُود عَلَيْهِمْ لَعَائِن اللَّه أَنَّ مِنْهُمْ فَرِيقًا يُحَرِّفُونَ الْكَلِم عَنْ مَوَاضِعه وَيُبَدِّلُونَ كَلَام اللَّه وَيُزِيلُونَهُ عَنْ الْمُرَاد بِهِ لِيُوهِمُوا الْجَهَلَة أَنَّهُ فِي كِتَاب اللَّه كَذَلِكَ وَيَنْسُبُونَهُ إِلَى اللَّه وَهُوَ كَذِب عَلَى اللَّه وَهُمْ يَعْلَمُونَ مِنْ أَنْفُسهمْ أَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا وَافْتَرَوْا فِي ذَلِكَ كُلّه وَلِهَذَا قَالَ اللَّه تَعَالَى" وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّه الْكَذِب وَهُمْ يَعْلَمُونَ " وَقَالَ مُجَاهِد وَالشَّعْبِيّ وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالرَّبِيع بْن أَنَس : " يَلْوُونَ أَلْسِنَتهمْ بِالْكِتَابِ " يُحَرِّفُونَهُ وَهَكَذَا رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ وَيُزِيلُونَ وَلَيْسَ أَحَد مِنْ خَلْق اللَّه يُزِيل لَفْظ كِتَاب مِنْ كُتُب اللَّه لَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ وَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْر تَأْوِيله . وَقَالَ وَهْب بْن مُنَبِّه : إِنَّ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل كَمَا أَنْزَلَهُمَا اللَّه تَعَالَى لَمْ يُغَيَّر مِنْهُمَا حَرْف وَلَكِنَّهُمْ يُضِلُّونَ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيل وَكُتُب كَانُوا يَكْتُبُونَهَا مِنْ عِنْد أَنْفُسهمْ " وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه وَمَا هُوَ مِنْ عِنْد اللَّه " فَأَمَّا كُتُب اللَّه فَإِنَّهَا مَحْفُوظَة وَلَا تُحَوَّل رَوَاهُ اِبْن أَبِي حَاتِم فَإِنْ عَنَى وَهْب مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَكّ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَهَا التَّبْدِيل وَالتَّحْرِيف وَالزِّيَادَة وَالنَّقْص . وَأَمَّا تَعْرِيب ذَلِكَ الْمُشَاهَد بِالْعَرَبِيَّةِ فَفِيهِ خَطَأ كَبِير وَزِيَادَات كَثِيرَة وَنُقْصَان وَوَهْم فَاحِش وَهُوَ مِنْ بَاب تَفْسِير الْمُعَرَّب الْمُعَبَّر وَفَهْم كَثِير مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرهمْ بَلْ جَمِيعهمْ فَاسِد وَأَمَّا إِنْ عَنَى كُتُب اللَّه الَّتِي هِيَ كُتُبه مِنْ عِنْده فَتِلْكَ كَمَا قَالَ مَحْفُوظَة لَمْ يَدْخُلهَا شَيْء .
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ

قَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي مُحَمَّد عَنْ عِكْرِمَة أَوْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : قَالَ أَبُو رَافِع الْقَرَظِيّ حِين اِجْتَمَعَتْ الْأَحْبَار مِنْ الْيَهُود وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْل نَجْرَان عِنْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَام : أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّد أَنْ نَعْبُدك كَمَا تَعْبُد النَّصَارَى عِيسَى اِبْن مَرْيَم ؟ فَقَالَ رَجُل مِنْ أَهْل نَجْرَان نَصْرَانِيّ يُقَال لَهُ الرَّئِيس : أَوَ ذَاكَ تُرِيد مِنَّا يَا مُحَمَّد وَإِلَيْهِ تَدْعُونَا ؟ أَوْ كَمَا قَالَ : فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلِّلِيهِ وَسَلَّمَ" مَعَاذ اللَّه أَنْ نَعْبُد غَيْر اللَّه أَوْ أَنْ نَأْمُر بِعِبَادَةِ غَيْر اللَّه مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي وَلَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي " أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّه فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلهمَا " مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّه الْكِتَاب وَالْحُكْم وَالنُّبُوَّة - إِلَى قَوْله - بَعْد إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " فَقَوْله " مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيه اللَّه الْكِتَاب وَالْحُكْم وَالنُّبُوَّة ثُمَّ يَقُول لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُون اللَّه " أَيْ مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ آتَاهُ اللَّه الْكِتَاب وَالْحِكْمَة وَالنُّبُوَّة أَنْ يَقُول لِلنَّاسِ اُعْبُدُونِي مِنْ دُون اللَّه أَيْ مَعَ اللَّه فَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يَصْلُح لِنَبِيٍّ وَلَا لِمُرْسَلٍ فَلَأَنْ لَا يَصْلُح لِأَحَدٍ مِنْ النَّاس غَيْرهمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ : لَا يَنْبَغِي هَذَا لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَأْمُر النَّاس بِعِبَادَتِهِ قَالَ : ذَلِكَ أَنَّ الْقَوْم كَانَ يَعْبُد بَعْضهمْ بَعْضًا يَعْنِي أَهْل الْكِتَاب كَانُوا يَعْبُدُونَ أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى " اِتَّخَذُوا أَحْبَارهمْ وَرُهْبَانهمْ أَرْبَابًا مِنْ دُون اللَّه " الْآيَة . وَفِي الْمُسْنَد وَالتِّرْمِذِيّ كَمَا سَيَأْتِي أَنْ عَدِيّ بْن حَاتِم قَالَ : يَا رَسُول اللَّه مَا عَبَدُوهُمْ قَالَ " بَلَى إِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمْ الْحَرَام وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ الْحَلَال فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتهمْ إِيَّاهُمْ " فَالْجَهَلَة مِنْ الْأَحْبَار وَالرُّهْبَان وَمَشَايِخ الضَّلَال يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الذَّمّ وَالتَّوْبِيخ بِخِلَافِ الرُّسُل وَأَتْبَاعهمْ مِنْ الْعُلَمَاء الْعَامِلِينَ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِمَا يَأْمُر اللَّه بِهِ وَبَلَّغَتْهُمْ إِيَّاهُ رُسُله الْكِرَام وَإِنَّمَا يَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ اللَّه عَنْهُ وَبَلَّغَتْهُمْ إِيَّاهُ رُسُله الْكِرَام. فَالرُّسُل صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ هُمْ السُّفَرَاء بَيْن اللَّه وَبَيْن خَلْقه فِي أَدَاء مَا حُمِّلُوهُ مِنْ الرِّسَالَة وَإِبْلَاغ الْأَمَانَة فَقَامُوا بِذَلِكَ أَتَمَّ الْقِيَام وَنَصَحُوا الْخَلْق وَبَلَّغُوهُمْ الْحَقّ وَقَوْله " وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ " أَيْ وَلَكِنْ يَقُول الرَّسُول لِلنَّاسِ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ قَالَ اِبْن عَبَّاس وَأَبُو رَزِين وَغَيْر وَاحِد أَيْ حُكَمَاء عُلَمَاء حُلَمَاء وَقَالَ الْحَسَن وَغَيْر وَاحِد : فُقَهَاء وَكَذَا رُوِيَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَقَتَادَة وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ وَالرَّبِيع بْن أَنَس . وَعَنْ الْحَسَن أَيْضًا يَعْنِي أَهْل عِبَادَة وَأَهْل تَقْوَى . وَقَالَ الضَّحَّاك فِي قَوْله " بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ " حَقّ عَلَى مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآن أَنْ يَكُون فَقِيهًا . تَعْلَمُونَ أَيْ تَفْهَمُونَ مَعْنَاهُ وَقُرِئَ تُعَلِّمُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ التَّعْلِيم " وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ " تَحْفَظُونَ أَلْفَاظه .
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

ثُمَّ قَالَ اللَّه تَعَالَى " وَلَا يَأْمُركُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَة وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا " أَيْ وَلَا يَأْمُركُمْ بِعِبَادَةِ أَحَد غَيْر اللَّه لَا نَبِيّ مُرْسَل وَلَا مَلَك مُقَرَّب " أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْد إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " أَيْ لَا يَفْعَل ذَلِكَ إِلَّا مَنْ دَعَا إِلَى عِبَادَة غَيْر اللَّه وَمَنْ دَعَا إِلَى عِبَادَة غَيْر اللَّه فَقَدْ دَعَا إِلَى الْكُفْر وَالْأَنْبِيَاء إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ عِبَادَة اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ " وَقَالَ تَعَالَى " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّة رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت " الْآيَة وَقَالَ " وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رُسُلنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُون الرَّحْمَن آلِهَة يُعْبَدُونَ " وَقَالَ إِخْبَارًا عَنْ الْمَلَائِكَة " وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَه مِنْ دُونه فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّم كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ " .
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ

يُخْبِر تَعَالَى أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاق كُلّ نَبِيّ بَعَثَهُ مِنْ لَدُنْ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَمَهْمَا آتَى اللَّه أَحَدهمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة وَبَلَّغَ أَيّ مُبَلِّغ ثُمَّ جَاءَ رَسُول مِنْ بَعْده لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَلَا يَمْنَعهُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعِلْم وَالنُّبُوَّة مِنْ اِتِّبَاع مَنْ بُعِثَ بَعْده وَنُصْرَته وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ " وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة " أَيْ لَمَهْمَا أَعْطَيْتُكُمْ مِنْ كِتَاب وَحِكْمَة " ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُول مُصَدِّق لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي " وَقَالَ اِبْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَالرَّبِيع بْن أَنَس وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ : يَعْنِي عَهْدِي وَقَالَ مُحَمَّد بْن إِسْحَق " إِصْرِي " أَيْ ثِقَل مَا حُمِّلْتُمْ مِنْ عَهْدِي أَيْ مِيثَاقِي الشَّدِيد الْمُؤَكَّد " قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ " .
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)

فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ

" فَمَنْ تَوَلَّى بَعْد ذَلِكَ " أَيْ عَنْ هَذَا الْعَهْد وَالْمِيثَاق " فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ " . قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَابْن عَمّه اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مَا بَعَثَ اللَّه نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاء إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاق لَئِنْ بَعَثَ اللَّه مُحَمَّدًا وَهُوَ حَيّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذ الْمِيثَاق عَلَى أُمَّته لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّد وَهُمْ أَحْيَاء لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرَنّه. وَقَالَ طَاوُوس وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَقَتَادَة : أَخَذَ اللَّه مِيثَاق النَّبِيِّينَ أَنْ يُصَدِّق بَعْضهمْ بَعْضًا وَهَذَا لَا يُضَادّ مَا قَالَهُ عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَلَا يَنْفِيه بَلْ يَسْتَلْزِمهُ وَيَقْتَضِيه وَلِهَذَا رَوَى عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ اِبْن طَاوُوس عَنْ أَبِيهِ مِثْل قَوْل عَلِيّ وَابْن عَبَّاس وَقَدْ قَالَ الْإِمَام أَحْمَد حَدَّثَنَا عَبْد الرَّزَّاق أَنْبَأَنَا سُفْيَان عَنْ جَابِر عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن ثَابِت قَالَ : جَاءَ عُمَر إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُول اللَّه إِنِّي أَمَرْت بِأَخٍ لِي يَهُودِيّ مِنْ قُرَيْظَة فَكَتَبَ لِي جَوَامِع مِنْ التَّوْرَاة أَلَا أَعْرِضهَا عَلَيْك ؟ قَالَ : فَتَغَيَّرَ وَجْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَبْد اللَّه بْن ثَابِت قُلْت لَهُ أَلَا تَرَى مَا بِوَجْهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ عُمَر : رَضِيت بِاَللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا قَالَ : فَسُرِّيَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ " وَاَلَّذِي نَفْسِيّ بِيَدِهِ لَوْ أَصْبَحَ فِيكُمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام ثُمَّ اِتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ إِنَّكُمْ حَظِّي مِنْ الْأُمَم وَأَنَا حَظّكُمْ مِنْ النَّبِيِّينَ " " حَدِيث آخَر " قَالَ الْحَافِظ أَبُو يَعْلَى حَدَّثَنَا إِسْحَق حَدَّثَنَا حَمَّاد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ جَابِر قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تَسْأَلُوا أَهْل الْكِتَاب عَنْ شَيْء فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ وَإِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ وَإِنَّهُ وَاَللَّه لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْن أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا أَنْ يَتْبَعنِي " وَفِي بَعْض الْأَحَادِيث " لَوْ كَانَ مُوسَى وَعِيسَى حَيَّيْنِ لَمَا وَسِعَهُمَا إِلَّا اِتِّبَاعِي " فَالرَّسُول مُحَمَّد خَاتَم الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ دَائِمًا إِلَى يَوْم الدِّين هُوَ الْإِمَام الْأَعْظَم الَّذِي لَوْ وُجِدَ فِي أَيّ عَصْر وُجِدَ لَكَانَ هُوَ الْوَاجِب الطَّاعَة الْمُقَدَّم عَلَى الْأَنْبِيَاء كُلّهمْ وَلِهَذَا كَانَ إِمَامهمْ لَيْلَة الْإِسْرَاء لَمَّا اِجْتَمَعُوا بِبَيْتِ الْمَقْدِس : وَكَذَلِكَ هُوَ الشَّفِيع فِي الْمَحْشَر فِي إِتْيَان الرَّبّ جَلَّ جَلَاله لِفَصْلِ الْقَضَاء بَيْن عِبَاده وَهُوَ الْمَقَام الْمَحْمُود الَّذِي لَا يَلِيق إِلَّا لَهُ وَاَلَّذِي يَحِيد عَنْهُ أُولُو الْعَزْم مِنْ الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسَلِينَ حَتَّى تَنْتَهِيَ النَّوْبَة إِلَيْهِ فَيَكُون هُوَ الْمَخْصُوص بِهِ صَلَوَات اللَّه وَسَلَامه عَلَيْهِ .
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ

يَقُول تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ أَرَادَ دِينًا سِوَى دِين اللَّه الَّذِي أَنْزَلَ بِهِ كُتُبه وَأَرْسَلَ بِهِ رُسُله وَهُوَ عِبَادَة اللَّه وَحْده لَا شَرِيك لَهُ الَّذِي لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض أَيْ اِسْتَسْلَمَ لَهُ مَنْ فِيهِمَا طَوْعًا وَكَرْهًا كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَلِلَّهِ يَسْجُد مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكَرْهًا " الْآيَة وَقَالَ تَعَالَى " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّه مِنْ شَيْء يَتَفَيّؤُ ظِلَاله عَنْ الْيَمِين وَالشَّمَائِل سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُد مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض مِنْ دَابَّة وَالْمَلَائِكَة وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبّهمْ مِنْ فَوْقهمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ " فَالْمُؤْمِن مُسْتَسْلِم بِقَلْبِهِ وَقَالَبه لِلَّهِ وَالْكَافِر مُسْتَسْلِم لِلَّهِ كَرْهًا فَإِنَّهُ تَحْت التَّسْخِير وَالْقَهْر وَالسُّلْطَان الْعَظِيم الَّذِي لَا يُخَالَف وَلَا يُمَانَع . وَقَدْ وَرَدَ حَدِيث فِي تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة عَلَى مَعْنَى آخَر فِيهِ غَرَابَة فَقَالَ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم الطَّبَرَانِيّ حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن النَّضْر الْعَسْكَرِيّ حَدَّثَنَا سَعِيد بْن حَفْص النُّفَيْلِيّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن مِحْصَن الْعُكَّاشِيّ حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيّ عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكَرْهًا " " أَمَّا مَنْ فِي السَّمَوَات فَالْمَلَائِكَة وَأَمَّا مَنْ فِي الْأَرْض فَمَنْ وُلِدَ عَلَى الْإِسْلَام وَأَمَّا كَرْهًا فَمَنْ أُتِيَ بِهِ مِنْ سَبَايَا الْأُمَم فِي السَّلَاسِل وَالْأَغْلَال يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّة وَهُمْ كَارِهُونَ " وَقَدْ وَرَدَ فِي الصَّحِيح " عَجِبَ رَبّك مِنْ قَوْم يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّة فِي السَّلَاسِل " وَسَيَأْتِي لَهُ شَاهِد مِنْ وَجْه آخَر وَلَكِنَّ الْمَعْنَى الْأَوَّل لِلْآيَةِ أَقْوَى . وَقَدْ قَالَ وَكِيع فِي تَفْسِيره : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ مَنْصُور عَنْ مُجَاهِد " وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكْرهَا " قَالَ : هُوَ كَقَوْلِهِ " وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض لَيَقُولُنَّ اللَّه " وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ الْأَعْمَش عَنْ مُجَاهِد عَنْ اِبْن عَبَّاس " وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكَرْهًا " قَالَ : حِين أَخَذَ الْمِيثَاق " وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ " أَيْ يَوْم الْمَعَاد فَيُجَازِي كُلًّا بِعَمَلِهِ .
قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

قَالَ تَعَالَى " قُلْ آمَنَّا بِاَللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا " يَعْنِي الْقُرْآن " وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب " أَيْ مِنْ الصُّحُف وَالْوَحْي " وَالْأَسْبَاط " وَهُمْ بُطُون بَنِي إِسْرَائِيل الْمُتَشَعِّبَة مِنْ أَوْلَاد إِسْرَائِيل - وَهُوَ يَعْقُوب الِاثْنَى عَشَر " وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى " يَعْنِي بِذَلِكَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل " وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبّهمْ " وَهَذَا يَعُمّ جَمِيع الْأَنْبِيَاء جُمْلَة " لَا نُفَرِّق بَيْن أَحَد مِنْهُمْ " يَعْنِي بَلْ نُؤْمِن بِجَمِيعِهِمْ " وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ " فَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّة يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ نَبِيّ أُرْسِل وَبِكُلِّ كِتَاب أُنْزِل لَا يَكْفُرُونَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَلْ هُمْ يُصَدِّقُونَ بِمَا أُنْزِلَ مِنْ عِنْد اللَّه وَبِكُلِّ نَبِيّ بَعَثَهُ اللَّه .
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ " الْآيَة . أَيْ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا سِوَى مَا شَرَعَهُ اللَّه فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ " وَهُوَ فِي الْآخِرَة مِنْ الْخَاسِرِينَ " كَمَا قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث الصَّحِيح " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرنَا فَهُوَ رَدّ " وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد مَوْلَى بَنِي هَاشِم حَدَّثَنَا عَبَّاد بْن رَاشِد حَدَّثَنَا الْحَسَن حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَة إِذْ ذَاكَ وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تَجِيء الْأَعْمَال يَوْم الْقِيَامَة فَتَجِيء الصَّلَاة فَتَقُول يَا رَبّ أَنَا الصَّلَاة فَيَقُول إِنَّك عَلَى خَيْر وَتَجِيء الصَّدَقَة فَتَقُول يَا رَبّ أَنَا الصَّدَقَة فَيَقُول إِنَّك عَلَى خَيْر ثُمَّ يَجِيء الصِّيَام فَيَقُول يَا رَبّ أَنَا الصِّيَام فَيَقُول إِنَّك عَلَى خَيْر ثُمَّ تَجِيء الْأَعْمَال كُلّ ذَلِكَ يَقُول اللَّه إِنَّك عَلَى خَيْر ثُمَّ يَجِيء الْإِسْلَام فَيَقُول يَا رَبّ أَنْتَ السَّلَام وَأَنَا الْإِسْلَام فَيَقُول اللَّه تَعَالَى إِنَّك عَلَى خَيْر بِك الْيَوْم آخُذ وَبِك أُعْطِي . قَالَ اللَّه فِي كِتَابه " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْر الْإِسْلَام دِينًا فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة مِنْ الْخَاسِرِينَ " تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَد قَالَ أَبُو عَبْد الرَّحْمَن عَبْد اللَّه بْن الْإِمَام أَحْمَد : عَبَّاد بْن رَاشِد ثِقَة وَلَكِنَّ الْحَسَن لَمْ يَسْمَع مِنْ أَبِي هُرَيْرَة.
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86)

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ

قَالَ اِبْن جَرِير : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن بُزَيْع الْبَصْرِيّ حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع حَدَّثَنَا دَاوُدَ بْن أَبِي هِنْد عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : كَانَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار أَسْلَمَ ثُمَّ اِرْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ ثُمَّ نَدِمَ فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمه أَنْ سَلُوا رَسُول اللَّه هَلْ لِي مِنْ تَوْبَة ؟ فَنَزَلَتْ " كَيْفَ يَهْدِي اللَّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْد إِيمَانهمْ - إِلَى قَوْله - فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم " فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ قَوْمه فَأَسْلَمَ وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالْحَاكِم وَابْن حِبَّان مِنْ طَرِيق دَاوُدَ بْن أَبِي هِنْد بِهِ . وَقَالَ الْحَاكِم : صَحِيح الْإِسْنَاد يُخَرِّجَاهُ . وَقَالَ عَبْد الرَّزَّاق أَنْبَأَنَا جَعْفَر بْن سُلَيْمَان حَدَّثَنَا حُمَيْد الْأَعْرَج عَنْ مُجَاهِد قَالَ : جَاءَ الْحَارِث بْن سُوَيْد فَأَسْلَمَ مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ كَفَرَ الْحَارِث فَرَجَعَ إِلَى قَوْمه فَأَنْزَلَ اللَّه فِيهِ " كَيْفَ يَهْدِي اللَّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْد إِيمَانهمْ - إِلَى قَوْله - غَفُور رَحِيم " . قَالَ : فَحَمَلَهَا إِلَيْهِ رَجُل مِنْ قَوْمه فَقَرَأَ عَلَيْهِ فَقَالَ الْحَارِث : إِنَّك - وَاَللَّه مَا عَلِمْت - لَصَدُوق وَإِنَّ رَسُول اللَّه لَأَصْدَق مِنْك وَإِنَّ اللَّه لَأَصْدَق الثَّلَاثَة قَالَ : فَرَجَعَ الْحَارِث فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إِسْلَامه فَقَوْله تَعَالَى " كَيْفَ يَهْدِي اللَّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْد إِيمَانهمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُول حَقّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَات " أَيْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَج وَالْبَرَاهِين عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُول وَوَضَّحَ لَهُمْ الْأَمْر ثُمَّ اِرْتَدُّوا إِلَى ظُلْمَة الشِّرْك فَكَيْفَ يَسْتَحِقّ هَؤُلَاءِ الْهِدَايَة بَعْدَ مَا تَلَبَّسُوا بِهِ مِنْ الْعِمَايَة ؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَاَللَّه لَا يَهْدِي الْقَوْم الظَّالِمِينَ " .
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87)

أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَة اللَّه وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " أَيْ يَلْعَنهُمْ اللَّه وَيَلْعَنهُمْ خَلْقُهُ .
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88)

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ

" خَالِدِينَ فِيهَا " أَيْ فِي اللَّعْنَة " لَا يُخَفَّف عَنْهُمْ الْعَذَاب وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ " أَيْ لَا يُفَتَّر عَنْهُمْ الْعَذَاب وَلَا يُخَفَّف عَنْهُمْ سَاعَة وَاحِدَة .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْد ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم " وَهَذَا مِنْ لُطْفه وَبِرّه وَرَأْفَته وَرَحْمَته وَعَائِدَته عَلَى خَلْقه أَنَّ مَنْ تَابَ إِلَيْهِ تَابَ عَلَيْهِ .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ

يَقُول تَعَالَى مُتَوَعِّدًا وَمُهَدِّدًا لِمَنْ كَفَرَ بَعْد إِيمَانه ثُمَّ اِزْدَادَ كُفْرًا أَيْ اِسْتَمَرَّ إِلَى الْمَمَات وَمُخْبِرًا بِأَنَّهُمْ لَنْ تُقْبَل لَهُمْ تَوْبَة عِنْد الْمَمَات كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَلَيْسَتْ التَّوْبَة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَات حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدهمْ الْمَوْت " الْآيَة وَلِهَذَا قَالَ هَهُنَا " لَنْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ وَأُولَئِكَ هُمْ الضَّالُّونَ " أَيْ الْخَارِجُونَ عَنْ الْمَنْهَج الْحَقّ إِلَى طَرِيق الْغَيّ . قَالَ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَزَّار : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن بُزَيْع حَدَّثَنَا يَزِيد بْن زُرَيْع حَدَّثَنَا دَاوُدَ بْن أَبِي هِنْد عَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس : أَنَّ قَوْمًا أَسْلَمُوا ثُمَّ اِرْتَدُّوا ثُمَّ أَسْلَمُوا ثُمَّ اِرْتَدُّوا فَأَرْسَلُوا إِلَى قَوْمهمْ يَسْأَلُونَ لَهُمْ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْد إِيمَانهمْ ثُمَّ اِزْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَل تَوْبَتهمْ " هَكَذَا رَوَاهُ وَإِسْنَاده جَيِّد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار فَلَنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدهمْ مِلْء الْأَرْض ذَهَبًا وَلَوْ اِفْتَدَى بِهِ " أَيْ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ خَيْر أَبَدًا وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ مِلْء الْأَرْض ذَهَبًا فِيمَا يَرَاهُ قُرْبَة كَمَا سُئِلَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْد اللَّه بْن جُدْعَان وَكَانَ يُقْرِي الضَّيْف وَيَفُكّ الْعَانِيَ وَيُطْعِم الطَّعَام هَلْ يَنْفَعهُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ " لَا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْر رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين " وَكَذَلِكَ لَوْ اِفْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْض أَيْضًا ذَهَبًا مَا قُبِلَ مِنْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَلَا يُقْبَل مِنْهَا عَدْل وَلَا يَنْفَعهَا شَفَاعَة " وَقَالَ " لَا بَيْع فِيهِ وَلَا خِلَال " وَقَالَ " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا وَمِثْله مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيم " وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى هَهُنَا " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار فَلَنْ يُقْبَل مِنْ أَحَدهمْ مِلْء الْأَرْض ذَهَبًا وَلَوْ اِفْتَدَى بِهِ " فَعَطَفَ وَلَوْ اِفْتَدَى بِهِ عَلَى الْأَوَّل فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْره . وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَحْسَن مِنْ أَنْ يُقَال إِنَّ الْوَاو زَائِدَة وَاَللَّه أَعْلَم وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُنْقِذهُ مِنْ عَذَاب اللَّه شَيْء وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ مِثْل الْأَرْض ذَهَبًا وَلَوْ اِفْتَدَى نَفْسه مِنْ اللَّه بِمِلْءِ الْأَرْض ذَهَبًا بِوَزْنِ جِبَالهَا وَتِلَالهَا وَتُرَابهَا وَرِمَالهَا وَسَهْلهَا وَوَعْرهَا وَبَرّهَا وَبَحْرهَا . وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا حَجَّاج حَدَّثَنِي شُعْبَة عَنْ أَبِي عِمْرَان الْجَوْنِيّ عَنْ أَنَسْ بْنِ مَالِك أَنَّ النَّبِيّ صَلّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يُقَالُ لِلرَّجُلِ مِن أَهْل النَّارِيَوْمَ الْقِيَامِة أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِن شَيْءٍ أَكُنْت مُفْتَدِيًا بِهِ ؟ قَالَ : فَيَقُول نَعَمْ فَيَقُول اللَّه قَدْ أَرَدْت مِنْك أَهْوَن مِنْ ذَلِكَ قَدْ أَخَذْت عَلَيْك فِي ظَهْر أَبِيك آدَم أَنْ لَا تُشْرِك بِي شَيْئًا فَأَبَيْت إِلَّا أَنْ تُشْرِك" . وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم " طَرِيق أُخْرَى " وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا رَوْح حَدَّثَنَا حَمَّاد عَنْ ثَابِت عَنْ أَنَس قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْل الْجَنَّة فَيَقُول لَهُ يَا اِبْن آدَم كَيْفَ وَجَدْت مَنْزِلك ؟ فَيَقُول : أَيْ رَبّ خَيْر مَنْزِل فَيَقُول : سَلْ وَتَمَنَّ فَيَقُول : مَا أَسْأَل وَلَا أَتَمَنَّى إِلَّا أَنْ تَرُدّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَل فِي سَبِيلك عَشْر مِرَار لِمَا يَرَى مِنْ فَضْل الشَّهَادَة وَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ مِنْ أَهْل النَّار فَيَقُول لَهُ يَا اِبْن آدَم كَيْفَ وَجَدْت مَنْزِلك ؟ فَيَقُول : يَا رَبّ شَرّ مَنْزِل فَيَقُول لَهُ أَتَفْتَدِي مِنِّي بِطِلَاعِ الْأَرْض ذَهَبًا ؟ فَيَقُول أَيْ رَبّ نَعَمْ فَيَقُول : " كَذَبْت قَدْ سَأَلْتُك أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ وَأَيْسَر فَلَمْ تَفْعَل فَيُرَدّ إِلَى النَّار " وَلِهَذَا قَالَ " أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَاب أَلِيم وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ " أَيْ وَمَا لَهُمْ مِنْ أَحَد يُنْقِذهُمْ مِنْ عَذَاب اللَّه وَلَا يُجِيرهُمْ مِنْ أَلِيم عِقَابَة .
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ

رَوَى وَكِيع فِي تَفْسِيره عَنْ شَرِيك عَنْ أَبِي إِسْحَق عَنْ عَمْرو بْن مَيْمُون " لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ " قَالَ الْجَنَّة وَقَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا رَوْح حَدَّثَنَا مَالِك عَنْ أَبِي إِسْحَق بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي طَلْحَة سَمِعَ أَنَس بْن مَالِك يَقُول : كَانَ أَبُو طَلْحَة أَكْثَر الْأَنْصَار بِالْمَدِينَةِ مَالًا وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَاله إِلَيْهِ بَيْرُحَاء وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَة الْمَسْجِد وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلهَا وَيَشْرَب مِنْ مَاء فِيهَا طَيِّب قَالَ أَنَس : فَلَمَّا نَزَلَتْ " لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ " قَالَ أَبُو طَلْحَة : يَا رَسُول اللَّه إِنَّ اللَّه يَقُول " لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ " وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاء وَإِنَّهَا صَدَقَة لِلَّهِ أَرْجُو بِهَا بِرّهَا وَذُخْرهَا عِنْد اللَّه تَعَالَى يَا رَسُول اللَّه حَيْثُ أَرَاك اللَّه فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَخٍ بَخٍ ذَاكَ مَال رَابِح ذَاكَ مَال رَابِح وَقَدْ سَمِعْت وَأَنَا أَرَى أَنْ تَجْعَلهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فَقَالَ أَبُو طَلْحَة : أَفْعَل يَا رَسُول اللَّه فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَة فِي أَقَارِبه وَبَنِي عَمّه أَخْرَجَاهُ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عُمَر قَالَ : يَا رَسُول اللَّه لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ هُوَ أَنْفَس عِنْدِي مِنْ سَهْمِي الَّذِي هُوَ بِخَيْبَرَ فَمَا تَأْمُرنِي بِهِ ؟ قَالَ " فَاحْبِسْ الْأَصْل وَسَبِّلْ الثَّمَرَة " وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بَكْر الْبَزَّار : حَدَّثَنَا أَبُو الْخَطَّاب زِيَاد بْن يَحْيَى الْحَسَّانِيّ حَدَّثَنَا يَزِيد بْن هَارُون حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَمْرو عَنْ أَبِي عَمْرو بْن حَمَاس عَنْ حَمْزَة بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : قَالَ عَبْد اللَّه حَضَرَتْنِي هَذِهِ الْآيَة " لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ " فَذَكَرْت مَا أَعْطَانِي اللَّه فَلَمْ أَجِد شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ جَارِيَة لِي رُومِيَّة فَقُلْت : هِيَ حُرَّة لِوَجْهِ اللَّه فَلَوْ أَنِّي أَعُود فِي شَيْء جَعَلْته لِلَّهِ لَنَكَحْتهَا يَعْنِي تَزَوَّجْتهَا.
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا هَاشِم بْن الْقَاسِم حَدَّثَنَا عَبْد الْحَمِيد حَدَّثَنَا شَهْر قَالَ : قَالَ اِبْن عَبَّاس : حَضَرَتْ عِصَابَة مِنْ الْيَهُود نَبِيّ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : حَدِّثْنَا عَنْ خِلَال نَسْأَلك عَنْهُنَّ لَا يَعْلَمهُنَّ إِلَّا نَبِيّ قَالَ " سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ وَلَكِنْ اِجْعَلُوا لِي ذِمَّة اللَّه وَمَا أَخَذَ يَعْقُوب عَلَى بَنِيهِ لَئِنْ أَنَا حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الْإِسْلَام " قَالُوا فَذَلِكَ لَك قَالُوا : أَخْبِرْنَا عَلَى أَرْبَع خِلَال أَخْبِرْنَا أَيّ الطَّعَام حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه ؟ وَكَيْفَ مَاء الْمَرْأَة وَمَاء الرَّجُل ؟ وَكَيْفَ يَكُون الذَّكَر مِنْهُ وَالْأُنْثَى وَأَخْبِرْنَا بِهَذَا النَّبِيّ الْأُمِّيّ فِي النَّوْم وَمَنْ وَلِيّه مِنْ الْمَلَائِكَة ؟ فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ الْعَهْد لَئِنْ أَخْبَرَهُمْ لَيُتَابِعُنَّهُ فَقَالَ " أَنْشُدكُمْ بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيل مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا وَطَالَ سَقَمه فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّه مِنْ سَقَمه لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبّ الطَّعَام وَالشَّرَاب إِلَيْهِ وَكَانَ أَحَبّ الطَّعَام إِلَيْهِ لَحْم الْإِبِل وَأَحَبّ الشَّرَاب إِلَيْهِ أَلْبَانهَا " فَقَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ فَقَالَ " اللَّهُمَّ اِشْهَدْ عَلَيْهِمْ " وَقَالَ " أَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاء الرَّجُل أَبْيَض غَلِيظ وَمَاء الْمَرْأَة أَصْفَر رَقِيق فَأَيّهمَا عَلَا كَانَ لَهُ الْوَلَد وَالشَّبَه بِإِذْنِ اللَّه إِنْ عَلَا مَاء الرَّجُل مَاء الْمَرْأَة كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّه وَإِنْ عَلَا مَاء الْمَرْأَة مَاء الرَّجُل كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّه " قَالُوا : نَعَمْ قَالَ " اللَّهُمَّ اِشْهَدْ عَلَيْهِمْ " قَالَ " وَأَنْشُدكُمْ بِاَلَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيّ الْأُمِّيّ تَنَام عَيْنَاهُ وَلَا يَنَام قَلْبه " قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ قَالَهُ " اللَّهُمَّ اِشْهَدْ " قَالَ " وَإِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيل وَلَمْ يَبْعَث اللَّه نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيّه " قَالُوا : فَعِنْد ذَلِكَ نُفَارِقك وَلَوْ كَانَ وَلِيّك غَيْره لَتَابَعْنَاك فَعِنْد ذَلِكَ قَالَ اللَّه تَعَالَى " قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ " الْآيَة وَرَوَاهُ أَحْمَد أَيْضًا عَنْ حُسَيْن بْن مُحَمَّد عَنْ عَبْد الْحَمِيد بِهِ " طَرِيق أُخْرَى " قَالَ أَحْمَد : حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزُّبَيْرِيّ حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن الْوَلِيد الْعِجْلِيّ عَنْ بُكَيْر بْن شِهَاب عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : أَقْبَلَتْ يَهُود إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا أَبَا الْقَاسِم إِنَّا نَسْأَلك عَنْ خَمْسَة أَشْيَاء فَإِنْ أَنْبَأْتنَا بِهِنَّ عَرَفْنَا أَنَّك نَبِيّ وَاتَّبَعْنَاك فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إِسْرَائِيل عَلَى بَنِيهِ إِذْ قَالَ " وَاَللَّه عَلَى مَا نَقُول وَكِيل " قَالَ " هَاتُوا " قَالُوا : أَخْبِرْنَا عَنْ عَلَامَة النَّبِيّ ؟ قَالَ " تَنَام عَيْنَاهُ وَلَا يَنَام قَلْبه " قَالُوا : أَخْبِرْنَا كَيْفَ تُؤْنِث الْمَرْأَة وَكَيْفَ تُذْكِر قَالَ " يَلْتَقِي الْمَاءَانِ فَإِذَا عَلَا مَاء الرَّجُل مَاء الْمَرْأَة أَذْكَرَتْ وَإِذَا عَلَا مَاء الْمَرْأَة أَنَّثَتْ " قَالُوا أَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه ؟ قَالَ " كَانَ يَشْتَكِي عِرْق النِّسَاء فَلَمْ يَجِد شَيْئًا يُلَائِمهُ إِلَّا أَلْبَان كَذَا وَكَذَا - قَالَ أَحْمَد : قَالَ بَعْضهمْ يَعْنِي الْإِبِل - فَحَرَّمَ لُحُومهَا " قَالُوا : صَدَقْت قَالُوا : أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْد ؟ قَالَ " مَلَك مِنْ مَلَائِكَة اللَّه عَزَّ وَجَلَّ مُوَكَّل بِالسَّحَابِ بِيَدِهِ - أَوْ فِي يَدَيْهِ - مِخْرَاق مِنْ نَار يَزْجُر بِهِ السَّحَاب يَسُوقهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ " قَالُوا : فَمَا هَذَا الصَّوْت الَّذِي يُسْمَع ؟ قَالَ " صَوْته " قَالُوا : صَدَقْت إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاحِدَة وَهِيَ الَّتِي نُتَابِعك إِنْ أَخْبَرْتنَا بِهَا : إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيّ إِلَّا لَهُ مَلَك يَأْتِيه بِالْخَبَرِ فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبك ؟ قَالَ " جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام " قَالُوا : جِبْرِيل ذَاكَ يَنْزِل بِالْحَرْبِ وَالْقِتَال وَالْعَذَاب عَدُوّنَا لَوْ قُلْت مِيكَائِيل الَّذِي يَنْزِل بِالرَّحْمَةِ وَالنَّبَات وَالْقَطْر لَكَانَ فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبك بِإِذْنِ اللَّه مُصَدِّقًا لِمَا بَيْن يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ " وَالْآيَة بَعْدهَا وَقَدْ رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث عَبْد اللَّه بْن الْوَلِيد الْعِجْلِيّ بِهِ نَحْوه وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حَسَن غَرِيب . وَقَالَ اِبْن جُرَيْج وَالْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس : كَانَ إِسْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام - وَهُوَ يَعْقُوب - يَعْتَرِيه عِرْق النِّسَا بِاللَّيْلِ . وَكَانَ يُقْلِقهُ وَيُزْعِجهُ عَنْ النَّوْم وَيُقْلِع الْوَجَع عَنْهُ بِالنَّهَارِ فَنَذَرَ لِلَّهِ لَئِنْ عَافَاهُ اللَّه لَا يَأْكُل عَرْقًا وَلَا يَأْكُل وَلَد مَا لَهُ عَرْق وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاك وَالسُّدِّيّ كَذَا رَوَاهُ وَحَكَاهُ اِبْن جَرِير فِي تَفْسِيره قَالَ : فَاتَّبَعَهُ بَنُوهُ فِي تَحْرِيم ذَلِكَ اِسْتِنَانًا بِهِ وَاقْتِدَاء بِطَرِيقِهِ قَالَ : وَقَوْله " مِنْ قَبْل أَنْ تُنَزّلَ التَّوْرَاة " أَيْ حَرَّمَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسه مِنْ قَبْل أَنْ تُنَزّلَ التَّوْرَاة قُلْت : وَلِهَذَا السِّيَاق بَعْد مَا تَقَدَّمَ مُنَاسَبَتَانِ . " إِحْدَاهُمَا " أَنَّ إِسْرَائِيل عَلَيْهِ السَّلَام حَرَّمَ أَحَبّ الْأَشْيَاء إِلَيْهِ وَتَرَكَهَا لِلَّهِ وَكَانَ هَذَا سَائِغًا فِي شَرِيعَتهمْ فَلَهُ مُنَاسَبَة بَعْد قَوْله " لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ " . فَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوع عِنْدَنَا وَهُوَ الْإِنْفَاق فِي طَاعَة اللَّه مِمَّا يُحِبّهُ الْعَبْد وَيَشْتَهِيه كَمَا قَالَ تَعَالَى " وَآتَى الْمَال عَلَى حُبّه " وَقَالَ تَعَالَى " وَيُطْعِمُونَ الطَّعَام عَلَى حُبّه " الْآيَة " الْمُنَاسَبَة الثَّانِيَة " لَمَّا تَقَدَّمَ بَيَان الرَّدّ عَلَى النَّصَارَى وَاعْتِقَادهمْ الْبَاطِل فِي الْمَسِيح وَتَبْيِين زَيْف مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَظُهُور الْحَقّ وَالْيَقِين فِي عِيسَى وَأُمّه كَيْفَ خَلَقَهُ اللَّه بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَته وَبَعَثَهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيل يَدْعُو إِلَى عِبَادَة رَبّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى شَرَعَ فِي الرَّدّ عَلَى الْيَهُود قَبَّحَهُمْ اللَّه تَعَالَى وَبَيَان أَنَّ النَّسْخ الَّذِي أَنْكَرُوا وُقُوعه وَجَوَازه قَدْ وَقَعَ فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ نَصَّ فِي كِتَابهمْ التَّوْرَاة أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَام لَمَّا خَرَجَ مِنْ السَّفِينَة أَبَاحَ اللَّه لَهُ جَمِيع دَوَابّ الْأَرْض يَأْكُل مِنْهَا ثُمَّ بَعْد هَذَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه لُحُوم الْإِبِل وَأَلْبَانهَا فَاتَّبَعَهُ بَنُوهُ فِي ذَلِكَ وَجَاءَتْ التَّوْرَاة بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَأَشْيَاء أُخْرَى زِيَادَة عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذِنَ لِآدَمَ فِي تَزْوِيج بَنَاته مِنْ بَنِيهِ وَقَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ بَعْد ذَلِكَ وَكَانَ التَّسَرِّي عَلَى الزَّوْجَة مُبَاحًا فِي شَرِيعَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام وَقَدْ فَعَلَهُ إِبْرَاهِيم فِي هَاجَرَ لَمَا تَسَرَّى بِهَا عَلَى سَارَّة . وَقَدْ حُرِّمَ مِثْل هَذَا فِي التَّوْرَاة عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ كَانَ الْجَمْع بَيْن الْأُخْتَيْنِ سَائِغًا وَقَدْ فَعَلَهُ يَعْقُوب عَلَيْهِ السَّلَام جَمَعَ بَيْن الْأُخْتَيْنِ ثُمَّ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي التَّوْرَاة . وَهَذَا كُلّه مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاة عِنْدهمْ وَهَذَا هُوَ النَّسْخ بِعَيْنِهِ . فَكَذَلِكَ فَلْيَكُنْ مَا شَرَعَهُ اللَّه لِلْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَام فِي إِحْلَاله بَعْض مَا حَرَّمَ فِي التَّوْرَاة فَمَا بَالهمْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ بَلْ كَذَّبُوهُ وَخَالَفُوهُ ؟ وَكَذَلِكَ مَا بَعَثَ اللَّه بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدِّين الْقَوِيم وَالصِّرَاط الْمُسْتَقِيم وَمِلَّة أَبِيهِ إِبْرَاهِيم فَمَا بَالهمْ لَا يُؤْمِنُونَ ؟ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " كُلّ الطَّعَام كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه مِنْ قَبْل أَنْ تُنَزّلَ التَّوْرَاة " أَيْ كَانَ حِلًّا لَهُمْ جَمِيع الْأَطْعِمَة قَبْل نُزُول التَّوْرَاة إِلَّا مَا حَرَّمَهُ إِسْرَائِيل ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " فَإِنَّهَا نَاطِقَة بِمَا قُلْنَاهُ.
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)

فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ

أَيْ فَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّه وَادَّعَى أَنَّهُ شَرَّعَ لَهُمْ السَّبْت وَالتَّمَسُّك بِالتَّوْرَاةِ دَائِمًا وَإِنَّهُ لَمْ يَبْعَث نَبِيًّا آخَر يَدْعُو إِلَى اللَّه تَعَالَى بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَج بَعْد هَذَا الَّذِي بَيَّنَاهُ مِنْ وُقُوع النَّسْخ وَظُهُور مَا ذَكَرْنَا " فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ " .
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

قَالَ تَعَالَى " قُلْ صَدَقَ اللَّه " أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّد صَدَقَ اللَّه فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ وَفِيمَا شَرَعَهُ فِي الْقُرْآن " فَاتَّبِعُوا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ " أَيْ اِتَّبِعُوا مِلَّة إِبْرَاهِيم الَّتِي شَرَعَهَا اللَّه فِي الْقُرْآن عَلَى لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ الْحَقّ الَّذِي لَا شَكّ فِيهِ وَلَا مِرْيَة وَهِيَ الطَّرِيقَة الَّتِي لَمْ يَأْتِ نَبِيّ بِأَكْمَلَ مِنْهَا وَلَا أَبَيْن وَلَا أَوْضَح وَلَا أَتَمّ كَمَا قَالَ تَعَالَى " قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دِينًا قِيَمًا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ " وَقَالَ تَعَالَى " ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْك أَنْ اِتَّبَعَ مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ " .
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ

يُخْبِر تَعَالَى أَنَّ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ أَيْ لِعُمُومِ النَّاس لِعِبَادَتِهِمْ وَنُسُكهمْ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُصَلُّونَ إِلَيْهِ وَيَعْتَكِفُونَ عِنْده لَلَّذِي بِبَكَّةَ " يَعْنِي الْكَعْبَة الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيم الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام الَّذِي يَزْعُم كُلّ مِنْ طَائِفَتِي النَّصَارَى وَالْيَهُود أَنَّهُمْ عَلَى دِينه وَمَنْهَجه وَلَا يَحُجُّونَ إِلَى الْبَيْت الَّذِي بَنَاهُ عَنْ أَمْر اللَّه لَهُ فِي ذَلِكَ وَنَادَى النَّاس إِلَى حَجّه وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " مُبَارَكًا " أَيْ وُضِعَ مُبَارَكًا " وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ " وَقَدْ قَالَ الْإِمَام أَحْمَد : حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ الْأَعْمَش عَنْ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قُلْت يَا رَسُول اللَّه أَيّ مَسْجِد وُضِعَ أَوَّل ؟ قَالَ " الْمَسْجِد الْحَرَام " قُلْت : ثُمَّ أَيّ ؟ قَالَ " الْمَسْجِد الْأَقْصَى " قُلْت : كَمْ بَيْنهمَا ؟ قَالَ " أَرْبَعُونَ سَنَة " قُلْت : ثُمَّ أَيّ ؟ قَالَ " ثُمَّ حَيْثُ أَدْرَكَتْك الصَّلَاة فَصَلِّ فَكُلّهَا مَسْجِد " وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِم مِنْ حَدِيث الْأَعْمَش بِهِ . وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد بْن الصَّبَّاح حَدَّثَنَا سَعِيد بْن سُلَيْمَان عَنْ شَرِيك عَنْ مُجَالِد عَنْ الشَّعْبِيّ عَنْ عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى " إِنَّ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا " قَالَ : كَانَتْ الْبُيُوت قَبْله وَلَكِنَّهُ أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللَّه . وَحَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن الرَّبِيع حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَص عَنْ سِمَاك عَنْ خَالِد بْن عَرْعَرَة قَالَ : قَامَ رَجُل إِلَى عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فَقَالَ : أَلَا تُحَدِّثنِي عَنْ الْبَيْت أَهُوَ أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِي الْأَرْض ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنَّهُ أَوَّل بَيْت وُضِعَ فِيهِ الْبَرَكَة مَقَام إِبْرَاهِيم وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَذَكَرَ تَمَام الْخَبَر فِي كَيْفِيَّة بِنَاء إِبْرَاهِيم الْبَيْت وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي أَوَّل سُورَة الْبَقَرَة فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَته هُنَا . وَزَعَمَ السُّدِّيّ أَنَّهُ أَوَّل بَيْت وُضِعَ عَلَى وَجْه الْأَرْض مُطْلَقًا وَالصَّحِيح قَوْل عَلِيّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ . فَأَمَّا الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي بِنَاء الْكَعْبَة فِي كِتَابه دَلَائِل النُّبُوَّة مِنْ طَرِيق اِبْن لَهِيعَة عَنْ يَزِيد بْن أَبِي حَبِيب عَنْ أَبِي الْخَيْر عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاص مَرْفُوعًا " بَعَثَ اللَّه جِبْرِيل إِلَى آدَم وَحَوَّاء فَأَمَرَهُمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَة فَبَنَاهُ آدَم ثُمَّ أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِهِ وَقِيلَ لَهُ : أَنْتَ أَوَّل النَّاس وَهَذَا أَوَّل بَيْت وُضِعَ لِلنَّاسِ " فَإِنَّهُ كَمَا تَرَى مِنْ مُفْرَدَات اِبْن لَهِيعَة وَهُوَ ضَعِيف وَالْأَشْبَه وَاَللَّه أَعْلَم أَنْ يَكُون هَذَا مَوْقُوفًا عَلَى عَبْد اللَّه بْن عَمْرو وَيَكُون مِنْ الزَّامِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَصَابَهُمَا يَوْم الْيَرْمُوك مِنْ كَلَام أَهْل الْكِتَاب . وَقَوْله تَعَالَى " لَلَّذِي بِبَكَّةَ " بَكَّة مِنْ أَسْمَاء مَكَّة عَلَى الْمَشْهُور قِيلَ : سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَبُكّ أَعْنَاق الظَّلَمَة وَالْجَبَابِرَة بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَذِلُّونَ بِهَا وَيَخْضَعُونَ عِنْدهَا وَقِيلَ : لِأَنَّ النَّاس يَتَبَاكُّونَ فِيهَا أَيْ يَزْدَحِمُونَ . قَالَ قَتَادَةُ : إِنَّ اللَّه بَكَّ بِهِ النَّاس جَمِيعًا فَيُصَلِّي النِّسَاء أَمَام الرِّجَال وَلَا يُفْعَل ذَلِكَ بِبَلَدٍ غَيْرهَا . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِد وَعِكْرِمَة وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَعَمْرو بْن شُعَيْب وَمُقَاتِل بْن حَيَّان . وَذَكَرَ حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ عَطَاء بْن السَّائِب عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : مَكَّة مِنْ الْفَجّ إِلَى التَّنْعِيم وَبَكَّة مِنْ الْبَيْت إِلَى الْبَطْحَاء . وَقَالَ شُعْبَة عَنْ الْمُغِيرَة عَنْ إِبْرَاهِيم : بَكَّة الْبَيْت وَالْمَسْجِد وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيّ . وَقَالَ عِكْرِمَة فِي رِوَايَة وَمَيْمُون بْن مِهْرَان : الْبَيْت وَمَا حَوْله بَكَّة وَمَا وَرَاء ذَلِكَ مَكَّة وَقَالَ أَبُو مَالِك وَأَبُو صَالِح وَإِبْرَاهِيم النَّخَِيّ وَعَطِيَّة الْعَوْفِيّ وَمُقَاتِل بْن حَيَّان : بَكَّة مَوْضِع الْبَيْت وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَكَّة . وَقَدْ ذَكَرُوا لِمَكَّةَ أَسْمَاء كَثِيرَة مَكَّة وَبَكَّة وَالْبَيْت الْعَتِيق وَالْبَيْت الْحَرَام وَالْبَلَد الْأَمِين وَالْمَأْمُون وَأُمّ رَحِم وَأُمّ الْقُرَى وَصَلَاح وَالْعَرْش عَلَى وَزْن بَدْر وَالْقَادِس لِأَنَّهَا تُطَهِّر مِنْ الذُّنُوب وَالْمُقَدِّسَة وَالنَّاسَّة بِالنُّونِ وَبِالْبَاءِ أَيْضًا وَالْبَاسَّة وَالْحَاطِمَة وَالرَّأْس وَكَوْثَاء وَالْبَلْدَة وَالْبُنَيَّة وَالْكَعْبَة .
فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ

قَوْله تَعَالَى " فِيهِ آيَات بَيِّنَات " أَيْ دَلَالَات ظَاهِرَة أَنَّهُ مِنْ بِنَاء إِبْرَاهِيم وَأَنَّ اللَّه عَظَّمَهُ وَشَرَّفَهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى " مَقَام إِبْرَاهِيم " يَعْنِي الَّذِي لَمَّا اِرْتَفَعَ الْبِنَاء اِسْتَعَانَ بِهِ عَلَى رَفْع الْقَوَاعِد مِنْهُ وَالْجُدَرَان حَيْثُ كَانَ يَقِف عَلَيْهِ وَيُنَاوِلهُ وَلَده إِسْمَاعِيل وَقَدْ كَانَ مُلْتَصِقًا بِجِدَارِ الْبَيْت حَتَّى أَخَّرَهُ عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ فِي إِمَارَته إِلَى نَاحِيَة الشَّرْق بِحَيْثُ يَتَمَكَّن الطُّوَّاف مِنْهُ وَلَا يُشَوِّشُونَ عَلَى الْمُصَلِّينَ عِنْده بَعْد الطَّوَاف. لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَدْ أَمَرَك بِالصَّلَاةِ عِنْده حَيْثُ قَالَ " وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَام إِبْرَاهِيم مُصَلَّى " وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيث فِي ذَلِكَ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَته هَهُنَا وَلِلَّهِ الْحَمْد وَالْمِنَّة وَقَالَ الْعَوْفِيّ عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله " فِيهِ آيَات بَيِّنَات مَقَام إِبْرَاهِيم " أَيْ فَمِنْهُنَّ مَقَام إِبْرَاهِيم وَالْمَشَاعِر وَقَالَ مُجَاهِد أَثَر قَدَمَيْهِ فِي الْمَقَام آيَة بَيِّنَة وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَالسُّدِّيّ وَمُقَاتِل بْن حَيَّان وَغَيْرهمْ . وَقَالَ أَبُو طَالِب فِي قَصِيدَته اللَّامِيَّة الْمَشْهُورَة : وَمَوْطِئ إِبْرَاهِيم فِي الصَّخْر رَطْبَة ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْر نَاعِل وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد وَعَمْرو الْأَوْدِيّ قَالَا : حَدَّثَنَا وَكِيع حَدَّثَنَا سُفْيَان عَنْ اِبْن جُرَيْج عَنْ عَطَاء عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى " مَقَام إِبْرَاهِيم " قَالَ : الْحَرَم كُلّه مَقَام إِبْرَاهِيم وَلَفْظ عَمْرو : الْحِجْر كُلّه مَقَام إِبْرَاهِيم : وَرُوِيَ عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر أَنَّهُ قَالَ : الْحَجّ مَقَام إِبْرَاهِيم هَكَذَا رَأَيْته فِي النُّسْخَة وَلَعَلَّهُ الْحِجْر كُلّه مَقَام إِبْرَاهِيم . وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ مُجَاهِد وَقَوْله تَعَالَى " وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا " يَعْنِي حَرَم مَكَّة إِذَا دَخَلَهُ الْخَائِف يَأْمَن مِنْ كُلّ سُوء وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْر فِي حَال الْجَاهِلِيَّة كَمَا قَالَ الْحَسَن الْبَصْرِيّ وَغَيْره : كَانَ الرَّجُل يَقْتُل فَيَضَع فِي عُنُقه صُوفَة وَيَدْخُل الْحَرَم فَيَلْقَاهُ اِبْن الْمَقْتُول فَلَا يُهَيِّجهُ حَتَّى يَخْرُج. وَقَالَ اِبْن أَبِي حَاتِم : حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيد الْأَشَجّ حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى التَّمِيمِيّ عَنْ عَطَاء عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر عَنْ اِبْن عَبَّاس فِي قَوْله تَعَالَى " وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا " قَالَ : مَنْ عَاذَ بِالْبَيْتِ أَعَاذَهُ الْبَيْت وَلَكِنْ لَا يُؤْوَى وَلَا يُطْعَم وَلَا يُسْقَى فَإِذَا خَرَجَ أُخِذَ بِذَنْبِهِ . وَقَالَ اللَّه تَعَالَى " أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّف النَّاس مِنْ حَوْلهمْ " الْآيَة . وَقَالَ تَعَالَى " فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْت الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف " وَحَتَّى إِنَّهُ مِنْ جُمْلَة تَحْرِيمهَا حُرْمَة اِصْطِيَاد صَيْدهَا وَتَنْفِيره عَنْ أَوْكَاره وَحُرْمَة قَطْع شَجَرهَا وَقَلْع حَشِيشهَا كَمَا ثَبَتَتْ الْأَحَادِيث وَالْآثَار فِي ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَة مِنْ الصَّحَابَة مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ عَنْ اِبْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم فَتْح مَكَّة " لَا هِجْرَة وَلَكِنْ جِهَاد وَنِيَّة وَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا " وَقَالَ يَوْم فَتْح مَكَّة " إِنَّ هَذَا الْبَلَد حَرَّمَهُ اللَّه يَوْم خَلَقَ السَّمَوَات وَالْأَرْض فَهُوَ حَرَام بِحُرْمَةِ اللَّه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلّ الْقِتَال فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ يَحِلّ لِي إِلَّا فِي سَاعَة مِنْ نَهَار فَهُوَ حَرَام بِحُرْمَةِ اللَّه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا يُعْضَد شَوْكه وَلَا يُنَفَّر صَيْده وَلَا تُلْتَقَط لُقَطَته إِلَّا مَنْ عَرَّفَهَا وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا " فَقَالَ الْعَبَّاس : يَا رَسُول اللَّه إِلَّا الْإِذْخِر فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِم وَلِبُيُوتِهِمْ فَقَالَ " إِلَّا الْإِذْخِر " وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَة مِثْله أَوْ نَحْوه وَلَهُمَا وَاللَّفْظ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي شُرَيْح الْعَدَوِيّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْن سَعِيد وَهُوَ يَبْعَث الْبُعُوث إِلَى مَكَّة : اِئْذَنْ لِي أَيّهَا الْأَمِير أَنْ أُحَدِّثك قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَد مِنْ يَوْم الْفَتْح سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِين تَكَلَّمَ بِهِ : أَنَّهُ حَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ " إِنَّ مَكَّة حَرَّمَهَا اللَّه وَلَمْ يُحَرِّمهَا النَّاس فَلَا يَحِلّ لِامْرِئٍ يُؤْمِن بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر أَنْ يَسْفِك بِهَا دَمًا أَوْ يَعْضِد بِهَا شَجَرَة فَإِنْ أَحَد تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَقُولُوا لَهُ إِنَّ اللَّه أَذِنَ لِنَبِيِّهِ وَلَمْ يَأْذَن لَكُمْ وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَة مِنْ نَهَار وَقَدْ