ج5.كتاب السيرة النبوية لابن كثير
= يا خير من حملت على أوصالها *
عيرانة سرح اليدين غشوم (1) إنى لمعتذر إليك من الذى * أسديت إذ أنا في الضلال
أهيم أيام تأمرني بأغوى خطة * سهم وتأمرني بها مخزوم وأمد أسباب الردى ويقودنى *
أمر الغواة وأمرهم مشئوم فاليوم آمن بالنبي محمد * قلبى ومخطئ هذه محروم مضت
العداوة وانقضت أسبابها * ودعت أواصر بيننا وحلوم فاغفر فدى لك والدى كلاهما *
زللي فإنك راحم مرحوم وعليك من علم المليك علامة * نور أغر وخاتم مختوم أعطاك بعد
محبة برهانه * شرفا وبرهان الاله عظيم ولقد شهدت بأن دينك صادق * حق وأنك في
المعاد جسيم والله يشهد أن أحمد مصطفى * مستقبل في الصالحين كريم قرم علا بنيانه
من هاشم * فرع تمكن في الذرى وأروم قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكرها
له.
قلت: كان عبدالله بن الزبعرى السهمى من أكبر أعداء الاسلام ومن الشعراء الذين
استعملوا قواهم في هجاء المسلمين، ثم من الله عليه بالتوبة والانابة والرجوع إلى
الاسلام والقيام بنصره والذب عنه.
فصل قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، من بنى سليم
سبعمائة.
ويقول بعضهم: ألف، ومن بنى غفار أربعمائة [ ومن أسلم أربعمائة ]
__________
(1) العيرانة من الابل: الناجية في نشاط.
(*)
ومن مزينة ألف وثلاثة نفر،
وسائرهم من قريش والانصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد.
وقال عروة والزهرى وموسى بن عقبة: كان المسلمون يوم الفتح الذين مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم اثنى عشر ألفا.
فالله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الشعر في يوم الفتح قول حسان بن ثابت: عفت
ذات الاصابع فالجواء * إلى عذراء منزلها خلاء (1) ديار من بنى الحسحاس قفر *
تعفيها الروامس والسماء (2) وكانت لا يزال بها أنيس * خلال مروجها نعم وشاء فدع
هذا ولكن من لطيف * يؤرقني إذا ذهب العشاء لشعثاء التى قد تيمته * فليس لقلبه منها
شفاء كأن خبيئة من بيت رأس * يكون مزاجها عسل وماء (3) إذا ما الاشربات ذكرن يوما
* فهن لطيب الراح الفداء نوليها الملامة إن ألمنا * إذا ما كان مغت أو لحاء (4)
ونشر بها فتتركنا ملوكا * وأسدا ما ينهنهها اللقاء عدمنا خيلنا إن لم تروها * تثير
النقع موعدها كداء ينازعن الاعنة مصغيات * على أكتافها الاسل الظماء (5) تظل
جيادنا متمطرات * يلطمهن بالخمر النساء
__________
(1) الجواء والعذراء: مواضع بالشام.
(2) الروامس: الرياح.
والسماء: المطر.
(3) الخبيئة: الخمر المصونة.
وبيت رأس: موضع بالاردن.
(4) ألمنا: فعلنا ما نستحق عليه اللوم.
والمغت: الضرب باليد.
واللحاء: الملاحاة باللسان.
(5) مصغيات: موائل منحرفات.
والاسل: الرماح.
(*)
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا *
وكان الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لجلاد يوم * يعز الله فيه من يشاء وجبريل
رسول الله فينا * وروح القدس ليس له كفاء وقال الله قد أرسلت عبدا * يقول الحق إن
نفع البلاء شهدت به فقوموا صدقوه * فقلتم لا نقوم ولا نشاء وقال الله قد سيرت جندا
* هم الانصار عرضتها اللقاء لنا في كل يوم من معد * سباب أو قتال أو هجاء فنحكم
بالقوافى من هجانا * ونضرب حين تختلط الدماء ألا أبلغ أبا سفيان عنى * مغلغلة فقد
برح الخفاء بأن سيوفنا تركتك عبدا * وعبد الدار سادتها الاماء هجوت محمدا فأجبت
عنه * وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء هجوت
مباركا برا حنيفا * أمين الله شيمته الوفاء أمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه
وينصره سواء فإن أبى ووالده وعرضى * لعرض محمد منكم وقاء لساني صارم لا عيب فيه *
وبحري لا تكدره الدلاء قال ابن هشام: قالها حسان قبل الفتح.
قلت: والذى قاله متوجه لما في أثناء هذه القصيدة، مما يدل على ذلك، وأبو سفيان
المذكور في البيت هو أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب.
قال ابن هشام: وبلغني عن الزهري أنه قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
النساء يلطمن الخيل بالخمر تبسم إلى أبى بكر رضى الله عنه.
قال ابن إسحاق: وقال أنس بن
زنيم الديلى يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان قال فيهم عمرو بن
سالم الخزاعى - يعنى لما جاء يستنصر عليهم - كما تقدم: أأنت الذى تهدى معد بأمره *
بل الله يهديهم وقال لك اشهد وما حملت من ناقة فوق رحلها * أبر وأوفى ذمة من محمد
أحث على خير وأسبغ نائلا * إذا راح كالسيف الصقيل المهند وأكسى لبرد الخال قبل
ابتذاله * وأعطى لرأس السابق المتجرد (1) تعلم رسول الله أنك مدركى * وأن وعيدا
منك كالاخذ باليد تعلم رسول الله أنك قادر * على كل صرم متهمين ومنجد (2) تعلم بأن
الركب ركب عويمر * هم الكاذبون المخلفو كل موعد ونبوا رسول الله أنى هجوته * فلا
حملت سوطي إلى إذن يدى سوى أننى قد قلت ويل ام فتية * أصيبوا بنحس لا بطلق وأسعد
(3) أصابهم من لم يكن لدمائهم * كفاء فعزت عبرتي وتبلدى وإنك قد أخبرت أنك ساعيا *
بعبد بن عبدالله وابنة مهود (4) ذؤيب وكلثوم وسلمى تتابعوا * جميعا فإن لا تدمع
العين أكمد وسلمى وسلمى ليس حى كمثله * وإخوته وهل ملوك كأعبد فإنى لا ذنبا (5)
فتقت ولا دما * هرقت تبين عالم الحق واقصد قال ابن إسحاق: وقال بجير بن زهير بن
أبى سلمى في يوم الفتح: نفى أهل الحبلق (1) كل فج * مزينة غدوة وبنو خفاف ضربناهم
بمكة يوم فتح النبي * الخير بالبيض الخفاف
صبحناهم بسبع من سليم * وألف من بنى عثمان واف نطا أكتافهم ضربا وطعنا * ورشقا
بالمريشة اللطاف
__________
(1) الخال: برد من برود اليمن، وهو من رفيع الثياب.
(2) الصرم: الطائفة من البيوت.
(3) الطلق: الايام الطيبة.
(4) ابن هشام: فإنك قد أخفرت إن كنت ساعيا.
(5) ابن هشام: فإنى لا دينا.
(6) الحبلق: أرض يسكنها قبائل من مزينة وقيس.
والحبلق.
الغنم الصغار ولعله أراد أصحاب الغنم.
(*)
ترى بين الصفوف لها حفيفا * كما
انصاع الفواق من الرصاف فرحنا والجياد تجول فيهم * بأرماح مقومة الثقاف فأبنا
غانمين بما اشتهينا * وآبوا نادمين على الخلاف وأعطينا رسول الله منا * مواثقنا
على حسن التصافى وقد سمعوا مقالتنا فهموا * غداة الروع منا بانصراف وقال ابن هشام:
وقال عباس بن مرداس السلمى في فتح مكة: منا بمكة يوم فتح محمد * ألف تسيل به
البطاح مسوم نصروا الرسول وشاهدوا آياته (1) * وشعارهم يوم اللقاء مقدم في منزل
ثبتت به أقدامهم * ضنك كأن الهام فيه الحنتم (2) جرت سنابكها بنجد قبلها * حتى
استقام لها الحجاز الادهم الله مكنه له وأذله * حكم السيوف لنا وجد مزحم عود
الرياسة شامخ عرنينه * متطلع ثغر المكارم خضرم (3) وذكر ابن هشام في سبب إسلام
عباس بن مرداس أن أباه كان يعبد صنما من حجارة يقال له ضمار، فلما حضرته الوفاة
أوصاه به، فبينما هو يوما يخدمه إذ سمع صوتا من جوفه وهو يقول: قل للقبائل من سليم
كلها * أودى ضمار وعاش أهل المسجد
إن الذى ورث النبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتدى أودى ضمار وكان يعبد مدة
* قبل الكتاب إلى النبي محمد قال: فحرق عباس ضمار ثم لحق برسول الله صلى الله عليه
وسلم فأسلم، وقد تقدمت هذه القصة بكمالها في باب هواتف الجان (4)، مع أمثالها
وأشكالها ولله الحمد والمنة.
__________
(1) ابن هشام: وشاهدوا أيامه.
(2) الحنتم: الحنظل.
(3) العود: يريد الرجل المسن والعرنين: الانف.
والخضرم: الجواد المعطاء.
(4) تقدم ذلك في الجزء الاول ص 385، 359.
(*)
بعثه عليه السلام خالد بن
الوليد بعد الفتح إلى بنى جذيمة من كنانة قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم بن
عباد بن حنيف، عن أبى جعفر محمد بن على، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعيا ولم يبعثه مقاتلا.
ومعه قبائل من العرب وسليم بن منصور ومدلج ابن مرة، فوطئوا بنى جذيمة بن عامر بن
عبد مناة بن كنانة فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس
قد أسلموا.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بنى جذيمة قال: لما أمرنا خالد
أن نضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم: ويلكم يا بنى جذيمة إنه خالد ! والله ما
بعد وضع السلاح إلا الاسار، وما بعد الاسار إلا ضرب الاعناق، والله لا أضع سلاحي
أبدا.
قال: فأخذه رجال من قومه فقالوا: يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا ؟ ! إن الناس قد
أسلموا ووضعت الحرب وآمن الناس.
فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم سلاحهم لقول خالد.
قال ابن إسحاق: فقال حكيم بن حكيم عن أبى جعفر قال: فلما وضعوا السلاح أمر بهم
خالد فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم.
فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال.
" اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ".
قال ابن هشام: حدثنى بعض أهل العلم أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبره
الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل أنكر عليه أحد ؟ "
فقال: نعم قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة فنهمه (1) خالد فسكت عنه، وأنكر عليه رجل
آخر طويل مضطرب فاشتدت مراجعتهما.
فقال عمر بن الخطاب: أما الاول يا رسول الله فابنى عبدالله، وأما الآخر فسالم مولى
أبى حذيفة.
قال ابن إسحاق: فحدثني حكيم بن حكيم، عن أبى جعفر قال: ثم دعا رسول الله صلى الله
عليه وسلم على بن أبى طالب فقال: " يا على اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في
أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك ".
فخرج على حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فودى لهم
الدماء وما أصيب لهم من الاموال، حتى إنه ليدى ميلغة (2) الكلب ! حتى إذا لم يبق
شئ من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقية من المال، فقال لهم على حين فرغ منهم: هل
بقى لكم دم أو مال لم يود لكم ؟ قالوا: لا.
قال: فإنى أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
مما لا يعلم ولا تعلمون.
ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال: " أصبت
وأحسنت ".
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى إنه
ليرى ما تحت منكبيه يقول: " اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد
" ثلاث مرات.
قال ابن إسحاق: وقد قال بعض من يعذر خالدا أنه قال: ما قاتلت حتى أمرنى بذلك
عبدالله بن حذافة السهمى وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرك أن
تقاتلهم لامتناعهم من الاسلام.
قال ابن هشام: قال أبو عمرو المدينى: لما أتاهم خالد بن الوليد قالوا: صبأنا
صبأنا.
__________
(1) نهمه: زجره.
(2) الميلغة: ما يحفر من الخشب ليلغ فيه الكلب، ويكون عند أصحاب الغنم.
(*)
وهذه مرسلات ومنقطعات.
* * * وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن سالم بن
عبدالله بن عمر، عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد
إلى بنى - أحسبه قال - جذيمة فدعاهم إلى الاسلام فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا.
فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، وخالد يأخذ بهم أسرا وقتلا.
قال: ودفع إلى كل رجل منا أسيرا، حتى إذا أصبح يوما أمر خالد أن يقتل كل رجل منا
أسيره.
قال ابن عمر: فقلت: والله لا أقتل أسيرى ولا يقتل أحد من أصحابي أسيره.
قال: فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا صنيع خالد فقال النبي صلى الله
عليه وسلم ورفع يديه: " اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد " مرتين.
ورواه البخاري والنسائي من حديث عبد الرزاق به نحوه.
قال ابن إسحاق: وقد قال لهم جحدم لما رأى ما يصنع خالد: يا بنى جذيمة ضاع الضرب،
قد كنت حذرتكم مما وقعتم فيه.
قال ابن إسحاق: وقد كان بين خالد وبين عبدالرحمن بن عوف - فيما بلغني - كلام في
ذلك، فقال له عبدالرحمن: عملت بأمر الجاهلية في الاسلام ؟ فقال: إنما ثأرت بأبيك.
فقال عبدالرحمن: كذبت قد قتلت قاتل أبى، ولكنك ثأرت لعمك الفاكه بن المغيرة.
حتى كان بينهما شر.
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " مهلا يا خالد دع عنك أصحابي،
فوالله لو كان لك أحد ذهبا ثم أنفقته في سبيل الله ما أدركت غدوة رجل من أصحابي
ولا روحته ".
* * * (38 - السيرة 3)
ثم ذكر ابن إسحاق قصة الفاكه
بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم عم خالد ابن الوليد، في خروجه هو وعوف بن
عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة، ومعه ابنه عبدالرحمن وعفان بن أبى العاص بن أمية
بن عبد شمس ومعه ابنه عثمان، في تجارة إلى اليمن ورجوعهم ومعهم مال لرجل من بنى
جذيمة كان هلك باليمن، فحملوه إلى ورثته فادعاه رجل منهم يقال له خالد بن هشام ولقيهم
بأرض بنى جذيمة فطلبه منهم [ قبل أن يصلوا إلى أهل الميت ] فأبوا عليه فقاتلهم
فقاتلوه حتى قتل عوف والفاكه وأخذت أموالهما.
وقتل عبدالرحمن قاتل أبيه خالد بن هشام وفر منهم عفان ومعه ابنه عثمان إلى مكة،
فهمت قريش بغزو بنى جذيمة، فبعث بنو جذيمة يعتذرون إليهم بأنه لم يكن عن ملا منهم
وودوا لهم القتيلين وأموالهما ووضعوا الحرب بينهم.
يعنى فلهذا قال خالد لعبد الرحمن: إنما ثأرت بأبيك، يعنى حين قتلته بنو جذيمة.
فأجابه بأنه قد أخذ ثأره وقتل قاتله، ورد عليه بأنه إنما ثأر بعمه الفاكه بن
المغيرة حين قتلوه وأخذوا أمواله.
والمظنون بكل منهما أنه لم يقصد شيئا من ذلك، وإنما يقال هذا في وقت المخاصمة،
فإنما أراد خالد بن الوليد نصرة الاسلام وأهله، وإن كان قد أخطأ في أمر واعتقد
أنهم
ينتقصون الاسلام بقولهم: صبأنا صبأنا.
ولم يفهم عنهم أنهم أسلموا، فقتل طائفة كثيرة منهم وأسر بقيتهم، وقتل أكثر الاسرى
أيضا، ومع هذا لم يعزله رسول الله صلى الله عليه وسلم بل استمر به أميرا، وإن كان
قد تبرأ منه في صنيعه ذلك وودى ما كان جناه خطأ من دم أو مال.
ففيه دليل لاحد القولين بين العلماء في أن خطأ الامام يكون في بيت المال لا في
ماله.
والله أعلم.
ولهذا لم يعزله الصديق حين قتل مالك بن نويرة أيام الردة، وتأول عليه ما تأول
حين ضرب عنقه واصطفى امرأته
أم تميم، فقال له عمر بن الخطاب: اعزله فإن في سيفه رهقا.
فقال الصديق: لا أغمد سيفا سله الله على المشركين.
وقال ابن إسحاق: حدثنى يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الاخنس، عن الزهري، عن ابن أبى
حدرد الاسلمي قال: كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد فقال فتى من بنى جذيمة، وهو في
سنى وقد جمعت يداه إلى عنقه برمة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه: يا فتى.
قلت: ما تشاء ؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضى
إليهن حاجة ثم تردتى بعد فتصنعوا ما بدا لكم.
قال: قلت: والله ليسير ما طلبت.
فأخذت برمته فقدته بها حتى وقفته عليهن فقال اسلمي حبيش على نفد (1) العيش: أريتك
إذ طالبتكم فوجدتكم * بحلية أو ألفيتكم بالخوانق (2) ألم يك أهلا أن ينول عاشق *
تكلف إدلاج السرى والودائق (3) فلا ذنب لى قد قلت إذ أهلنا معا * أثيبي بود قبل
إحدى الصفائق (4) أثيبي بود قبل أن تشحط النوى * وينأى الامير بالحبيب المفارق (5)
فإنى لا ضيعت سر أمانة * ولا راق عينى عنك بعدك رائق (6)
سوى أن ما نال العشيرة شاغل * عن الود إلا أن يكون التوامق (7) قالت: وأنت فحييت
عشرا وتسعا وترا وثمانية تترى.
قال: ثم انصرفت (8) به فضربت عنقه.
قال ابن إسحاق: فحدثني أبو فراس بن أبى سنبلة الاسلمي، عن أشياخ منهم،
__________
(1) النفد: الانقضاء.
(2) حلية والخوانق: موضعان بتهامة.
(3) السرى: سير عامة الليل.
والودائق: جمع وديقة وهى شدة الحر في نصف النهار.
(4) الصفائق: الدواهي.
(5) تشحط: تبعد.
(6) وتروى: فإنى لاسر لدى أضعته.
ذم الهوى لابن الجوزى: 496.
(7) التوامق: التحاب.
(8) ت: ثم قالت: انصرف به.
فضربت عنقه.
(*)
عمن كان حضرها منهم قالوا:
فقامت إليه حين ضربت عنقه فأكبت عليه فما زالت تقبله حتى ماتت عنده ! وروى الحافظ
البيهقى من طريق الحميدى، عن سفيان بن عيينة، عن عبدالملك بن نوفل بن مساحق، أنه
سمع رجلا من مزينة يقال له ابن عصام عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا بعث سرية قال: " إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا
".
قال: فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا بذلك، فخرجنا قبل تهامة،
فأدركنا رجلا يسوق بظعائن فقلنا له: أسلم.
فقال: وما الاسلام ؟ فأخبرناه به، فإذا هو لا يعرفه، قال: أفرأيتم إن لم أفعل ما
أنتم صانعون ؟ قال: قلنا نقتلك.
فقال: فهل أنتم منظري حتى أدرك الظعائن ؟ قال: قلنا نعم ونحن مدركوك.
قال: فأدرك الظعائن فقال: اسلمي حبيش قبل نفاد العيش.
فقالت الاخرى: اسلم عشرا وتسعا وترا وثمانيا تترى.
ثم ذكر الشعر المتقدم إلى قوله: وينأى الامير بالحبيب المفارق.
ثم رجع إلينا فقال: شأنكم.
قال: فقدمناه فضربنا عنقه.
قال: فانحدرت الاخرى من هودجها فجثث عليه حتى ماتت.
ثم روى البيهقى من طريق أبى عبدالرحمن النسائي، حدثنا محمد بن على بن حرب المروزى،
حدثنا على بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فغنموا وفيهم رجل، فقال لهم: إنى لست منهم،
إنى عشقت امرأة فلحقتها فدعوني أنظر إليها نظرة ثم اصنعوا بى ما بدا لكم.
فإذا امرأة أدماء طويلة فقال لها: اسلمي حبيش قبل نفاد العيش.
ثم ذكر البيتين بمعناهما.
قال: فقالت: نعم فديتك ! قال: فقدموه فضربوا عنقه، فجاءت المرأة فوقعت عليه فشهقت
شهقة أو شهقتين ثم ماتت.
فلما قدموا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم أخبروه الخبر فقال: " أما كان فيكم رجل رحيم ! ".
بعث خالد بن الوليد لهدم العزى قال ابن جرير: وكان هدمها لخمس بقين من رمضان
عامئذ.
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى العزى،
وكانت بيتا بنخلة يعظمه قريش وكنانة ومضر، وكان سدنتها وحجابها من بنى شيبان من
بنى سليم حلفاء بنى هاشم، فلما سمع حاجبها (1) السلمى بمسير خالد بن الوليد إليها
علق سيفه عليها ثم اشتد (2) في الجبل الذى هي فيه وهو يقول: أيا عز شدى شدة لا شوى
لها * على خالد ألقى القناع وشمرى (3) أيا عز إن لم تقتلي المرء خالدا * فبوئى
بإثم عاجل أو تنصري قال: فلما انتهى خالد إليها هدمها ثم رجع إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
وقد روى الواقدي وغيره أنه لما قدمها خالد لخمس بقين من رمضان فهدمها
ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما رأيت ؟ " قال: لم
أر شيئا.
فأمره بالرجوع، فلما رجع خرجت إليه من ذلك البيت امرأة سوداء ناشرة شعرها تولول
فعلاها بالسيف وجعل يقول: يا عزى كفرانك لا سبحانك * إنى رأيت الله قد أهانك ثم
خرب ذلك البيت الذى كانت فيه، وأخذ ما كان فيه من الاموال رضى الله عنه وأرضاه، ثم
رجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " تلك العزى ولا تعبد أبدا
".
__________
(1) ابن هشام: صاحبها.
(2) ابن هشام: أسند.
(3) الشوى: أن يصيب غير المقاتل يريد أنها لا تبقى على شئ.
(*)
وقال البيهقى: أنبأنا محمد بن
أبى بكر الفقيه، أنبأنا محمد بن أبى جعفر، أنبأنا أحمد ابن على، حدثنا أبو كريب،
عن ابن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن أبى الطفيل قال: لما فتح رسول الله صلى الله
عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى، فأتاها، وكانت على
ثلاث سمرات، فقطع السمرات وهدم البيت الذى كان عليها، ثم أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأخبره فقال: " ارجع فإنك لم تصنع شيئا ".
فرجع خالد فلما نظرت إليه السدنة وهم حجابها أمعنوا هربا في الجبل وهم يقولون: يا
عزى خبليه، يا عزى عوريه، وإلا فموتى برغم ! قال: فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة
ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها، ووجهها، فعممها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: " تلك العزى ".
فصل في مدة إقامته عليه السلام بمكة
لا خلاف أنه عليه الصلاة والسلام أقام بقية شهر رمضان يقصر الصلاة ويفطر.
وهذا دليل من قال من العلماء إن المسافر إذا لم يجمع الاقامة فله أن يقصر ويفطر
إلى ثمانى عشر يوما في أحد القولين، وفى القول الآخر كما هو مقرر في موضعه.
قال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان ح.
وحدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن يحيى بن أبى إسحاق، عن أنس بن مالك قال: أقمنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة.
وقد رواه بقية الجماعة من طرق متعددة، عن يحيى بن أبى إسحاق الحضرمي البصري، عن
أنس به نحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا عبدان،
حدثنا عبدالله، أنبأنا عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم تسعة عشر يوما يصلى ركعتين.
ورواه البخاري أيضا من وجه آخر، زاد البخاري وأبو حصين كلاهما.
وأبو داود الترمذي وابن ماجه، من حديث عاصم بن سليمان الاحول، عن عكرمة، عن ابن
عباس به.
في لفظ لابي داود: سبعة عشر يوما.
وحدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أحمد بن شهاب، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:
أقمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة.
قال ابن عباس: فنحن نقصر ما بيننا وبين (1) تسع عشرة، فإذا زدنا (2) أتممنا.
وقال أبو داود: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا ابن علية، أنبأنا على بن زيد، عن أبى
نضرة، عن عمران بن حصين ما قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه
الفتح، فأقام ثمانى عشرة ليلة لا يصلى إلا ركعتين يقول: " يا أهل البلد
صلوا أربعا فإنا سفر ".
وهكذا رواه الترمذي من حديث على بن زيد بن جدعان، وقال: هذا حديث حسن.
ثم روى أبو داود من حديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن
ابن عباس، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح خمس عشرة ليلة يقصر
الصلاة.
ثم قال: رواه غير واحد، عن ابن إسحاق لم يذكروا ابن عباس.
__________
(1) غير أ: نقصر ما بقينا بين تسع عشرة.
(2) ت: فإذا أردنا.
(*)
وقال ابن إدريس، عن محمد بن
إسحاق، عن الزهري، ومحمد بن على بن الحسين، وعاصم بن عمرو بن قتادة، وعبد الله بن
أبى بكر وعمرو بن شعيب وغيرهم قالوا: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة خمس
عشرة ليلة.
فصل ومما حكم عليه السلام بمكة من الاحكام قال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة
(1)، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال
الليث: حدثنى يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، أن عائشة قالت: كان عتبة
بن أبى وقاص عهد إلى أخيه سعد أن يقبض ابن وليدة زمعة، وقال عتبة: إنه ابني: فلما
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في الفتح أخذ سعد بن أبى وقاص ابن وليدة
زمعة فأقبل به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه عبد بن زمعة، فقال سعد
بن أبى وقاص: هذا ابن أخى عهد إلى أنه ابنه قال عبد بن زمعة: يا رسول الله: هذا
أخى، هذا ابن زمعة، ولد على فراشه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن
وليدة زمعة فإذا هو أشبه الناس بعتبة بن أبى وقاص، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " هو لك، هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فراشه ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " احتجبي منه يا سودة " لما رأى من
شبه عتبة بن أبى وقاص.
قال ابن شهاب: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش
وللعاهر الحجر ".
قال ابن شهاب: وكان أبو هريرة يصرح (2) بذلك.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والترمذي جميعا عن قتيبة عن الليث به.
وابن ماجه من حديثه.
وانفرد البخاري بروايته له من حديث مالك عن الزهري.
* * *
__________
(1) الاصل: ابن مسلم.
وما أثبته عن صحيح البخاري.
(2) البخاري: يصيح.
(*)
ثم قال البخاري: حدثنا محمد
بن مقاتل، أنبأنا عبدالله، أنبأنا يونس، عن ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، أن
امرأة سرقت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح ففزع قومها إلى
أسامة بن زيد يستشفعونه.
قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها تلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
" أتكلمني في حد من حدود الله ؟ " فقال أسامة: استغفر لى يا رسول الله.
فلما كان العشى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأثنى على الله بما هو
أهله، ثم قال: " أما بعد فإنما هلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم
الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذى نفس محمد بيده لو أن
فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ! ".
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد
ذلك وتزوجت.
قالت عائشة: كانت تأتى بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه البخاري في موضع آخر، ومسلم من حديث ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة،
عن عائشة به.
وفى صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهنى قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالمتعة عام الفتح حين دخل مكة، ثم لم يخرج حتى نهى عنها.
وفى رواية فقال: " ألا إنها حرام حرام من يومكم هذا إلى يوم القيامة ".
وفى رواية في مسند أحمد والسنن، أن ذلك كان في حجة الوداع.
فالله أعلم.
وفى صحيح مسلم، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن يونس بن محمد، عن عبد الواحد ابن زياد،
عن أبى العميس عن إياس بن سلمة بن الاكوع، عن أبيه أنه قال: رخص
لنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم عام أوطاس في متعة النساء ثلاثا ثم نهانا عنه.
قال البيهقى: وعام أوطاس هو عام الفتح.
فهو وحديث سبرة سواء.
قلت: من أثبت النهى عنها في غزوة خيبر قال: إنها أبيحت مرتين، وحرمت مرتين.
وقد نص على ذلك الشافعي وغيره.
وقد قيل: إنها أبيحت وحرمت أكثر من مرتين.
فالله أعلم.
وقيل: إنها إنما حرمت مرة واحدة، وهى هذه المرة في غزوة الفتح.
وقيل: إنها إنما أبيحت للضرورة، فعلى هذا إذا وجدت ضرورة أبيحت.
وهذا رواية عن الامام أحمد.
وقيل: بل لم تحرم مطلقا، وهى على الاباحة.
هذا هو المشهور عن ابن عباس وأصحابه وطائفة من الصحابة.
وموضع تحرير ذلك في الاحكام.
فصل قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، أنبأنا عبدالله بن عثمان
ابن خثيم، أن محمد بن الاسود بن خلف أخبره أن أباه الاسود رأى رسول الله صلى الله
عليه وسلم يبايع الناس يوم الفتح، قال: جلس عند قرن مستقبله، فبايع الناس على
الاسلام والشهادة.
قلت: وما الشهادة ؟ قال: أخبرني محمد بن الاسود بن خلف أنه بايعهم على الايمان
بالله وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
تفرد به أحمد.
وعند البيهقى: فجاءه الناس الكبار والصغار والرجال والنساء فبايعهم على الاسلام
والشهادة.
وقال ابن جرير: ثم اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الاسلام، فجلس لهم - فيما
بلغني - على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل من مجلسه فأخذ على الناس السمع والطاعة لله
ولرسوله فيما استطاعوا.
قال: فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء، وفيهن هند بنت عتبة متنقبة متنكرة
بحديثها (1) لما كان من صنيعها بحمزة.
[ فهى تخاف أن يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدثها ذلك، فلما دنين من رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليبايعهن قال: " بايعننى على ألا تشركن بالله شيئا
" فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال.
" ولا تسرقن " فقالت: والله إنى كنت أصبت من مال أبى سفيان الهنة بعد
الهنة، وما كنت أدرى أكان ذلك علينا حلالا أم لا ؟ فقال أبو سفيان - وكان شاهدا
لما تقول -: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وإنك لهند بنت عتبة ؟ " قالت: نعم
فاعف عما سلف، عفا الله عنك.
ثم قال: " ولا يزنين " فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة ! ثم قال:
" ولا تقتلن أولادكن " قالت: قد ربيناهم صغارا أفنقتلهم كبارا ؟ فأنت
وهم أعلم ! فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرق.
ثم قال: " ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن " فقالت: والله
إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.
ثم قال: " ولا يعصيننى " فقالت: في معروف.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " بايعهن واستغفر لهن الله، إن الله
غفور رحيم ".
__________
(1) ت: لحدثها.
(*)
فبايعهن عمر وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء ولا يمس إلا امرأة أحلها الله له أو ذات محرم
منه.
وثبت في الصحيحين، عن عائشة رضى الله عنها، أنها قالت: لا والله ما مست يد رسول
الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط.
وفى رواية: ما كان يبايعهن إلا كلاما ويقول: " إنما قولى لامرأة واحدة كقولي
لمائة امرأة ".
وفى الصحيحين عن عائشة، أن هندا بنت عتبة امرأة أبى سفيان أتت رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينى من النفقة ما
يكفيني ويكفى بنى، فهل على من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه ؟ قال: خذى من ماله
بالمعروف ما يكفيك ويكفى بنيك ] (1).
[ وروى البيهقى من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن عروة،
عن عائشة أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله ما كان مما على وجه الارض أخباء أو
خباء - الشك من أبى بكر - أحب إلى من أن يذلوا من أهل أخبائك - أو خبائك - ثم ما
أصبح اليوم على ظهر الارض أهل أخباء أو خباء أحب إلى من أن يعزوا من أهل أخبائك أو
خبائك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأيضا والذى نفس محمد بيده "
قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل على حرج أن
أطعم من الذى له ؟ قال: " لا، بالمعروف ".
ورواه البخاري، عن يحيى بن بكير بنحوه.
وتقدم ما يتعلق بإسلام أبى سفيان ] (2).
* * * وقال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبى شيبة، حدثنا جرير، عن منصور، عن
__________
(1) سقط من ا.
(2) من ت.
(*)
مجاهد، عن طاووس، عن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " لا هجرة ولكن جهاد
ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ".
ورواه البخاري، عن عثمان بن أبى شيبة، ومسلم، عن يحيى بن يحيى عن جرير.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهب، حدثنا ابن طاووس، عن أبيه، عن صفوان بن
أمية، أنه قيل له: إنه لا يدخل الجنة إلا من هاجر.
فقلت له: لا أدخل منزلي حتى أسأل رسول الله ما سأله.
فأتيته فذكرت له فقال: " لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم
فانفروا ".
تفرد به أحمد.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن أبى بكر، حدثنا الفضيل بن سليمان، حدثنا عاصم، عن أبى
عثمان النهدي، عن مجاشع بن مسعود، قال: انطلقت بأبى معبد إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ليبايعه على الهجرة فقال: " مضت الهجرة لاهلها، أبايعه على الاسلام
والجهاد ".
فلقيت أبا معبد فسألته فقال: صدق مجاشع.
وقال خالد، عن أبى عثمان، عن مجاشع، أنه جاء بأخيه مجالد.
وقال البخاري: حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير، حدثنا عاصم، عن أبى عثمان،
قال: حدثنى مجاشع قال: أتيت رسول الله بأخى بعد يوم الفتح فقلت: يا رسول الله جئتك
بأخى لتبايعه على الهجرة، قال: " ذهب أهل الهجرة بما فيها " فقلت: على
أي شئ تبايعه ؟ قال: " أبايعه على الاسلام والايمان والجهاد ".
فلقيت أبا معبد بعد وكان أكبرهما سنا فسألته فقال: صدق مجاشع.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى بشر،
عن مجاهد، قال: قلت لابن عمر:
أريد أن أهاجر إلى الشام ؟ فقال: لا هجرة ولكن انطلق فاعرض نفسك، فإن وجدت شيئا
وإلا رجعت.
وقال أبو النضر: أنبأنا شعبة، أنبأنا أبو بشر، سمعت مجاهدا قال: قلت لابن عمر
فقال: لا هجرة اليوم - أو بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم - مثله.
حدثنا إسحاق بن يزيد، حدثنا يحيى بن حمزة، حدثنى أبو عمرو الاوزاعي، عن عبدة بن
أبى لبابة، عن مجاهد بن جبير، أن عبد الله بن عمر قال: لا هجرة بعد الفتح.
وقال البخاري: حدثنا إسحاق بن يزيد، أنبأنا يحيى بن حمزة، أنبأنا الاوزاعي، عن
عطاء بن أبى رباح، قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير فسألها عن الهجرة فقالت: لا
هجرة اليوم.
ولا المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله عزوجل وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما
اليوم فقد أظهر الله الاسلام فالمؤمن يعبد ربه حيث يشاء، ولكن جهاد ونية.
* * * وهذه الاحاديث والآثار دالة على أن الهجرة، إما الكاملة أو مطلقا، قد انقطعت
بعد فتح مكة، لان الناس دخولا في دين الله أفواجا وظهر الاسلام وثبتت أركانه
ودعائمه، فلم تبق هجرة.
اللهم إلا أن يعرض حال يقتضى الهجرة بسبب مجاورة أهل الحرب وعدم القدرة على إظهار
الدين عندهم، فتجب الهجرة إلى دار الاسلام.
وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء.
ولكن هذه الهجرة ليست كالهجرة قبل الفتح، كما أن كلا من الجهاد والانفاق في
سبيل الله مشروع ورغب فيه إلى
يوم القيامة، وليس كالانفاق ولا الجهاد قبل الفتح فتح مكة.
قال الله تعالى: " لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم
درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى (1) " الآية.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبى البخترى
الطائى، عن أبى سعيد الخدرى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما نزلت
هذه السورة " إذا جاء نصر الله والفتح " قرأها رسول الله حتى ختمها
وقال: " الناس خير وأنا وأصحابي خير " وقال: " لا هجرة بعد الفتح
ولكن جهاد ونية ".
فقال له مروان: كذبت.
وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت قاعدان معه على السرير، فقال أبو سعيد: لو شاء
هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة
! فرفع مروان عليه الدرة ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا: صدق.
تفرد به أحمد.
* * * وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبى بشر، عن سعيد
بن جبير عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلنى مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم
وجد في نفسه، فقال: لم تدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال عمر: إنه ممن قد
علمتم.
فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه أدخلني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال: ما
تقولون في قول الله عزوجل: " إذا جاء نصر الله والفتح " ؟ فقال بعضهم:
أمرنا * (هامس) * (1) سورة الحديد.
(*)
أن نحمد الله ونستغفره إذا
نصرنا وفتح علينا.
وسكت بعضهم فلم يقل شيئا.
فقال لى: أكذاك تقول يا بن عباس ؟ فقلت: لا.
فقال: ما تقول ؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: "
إذا جاء نصر الله والفتح " فذلك علامة أجلك " فسبح بحمد ربك واستغفره
إنه كان توابا " قال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما يقول.
تفرد به البخاري.
وهكذا روى من غير وجه عن ابن عباس، أنه فسر ذلك بنعى رسول الله صلى الله عليه وسلم
في أجله، وبه قال مجاهد وأبو العالية والضحاك وغير واحد، كما قال ابن عباس وعمر بن
الخطاب رضى الله عنهما.
فأما الحديث الذى قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا عطاء، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: " إذا جاء نصر الله والفتح " قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " نعيت إلى نفسي " بأنه مقبوض في تلك السنة.
تفرد به الامام أحمد وفى إسناده عطاء بن أبى مسلم الخراساني، وفيه ضعف تكلم فيه
غير واحد من الائمة، وفى لفظه نكارة شديدة وهو قوله: بأنه مقبوض في تلك السنة.
وهذا باطل، فإن الفتح كان في سنة ثمان في رمضان منها كما تقدم بيانه، وهذا مالا
خلاف فيه.
وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الاول من سنة إحدى عشرة بلا
خلاف أيضا.
وهكذا الحديث الذى رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني رحمه الله، حدثنا إبراهيم ابن
أحمد بن عمر الوكيعى، حدثنا أبى، حدثنا جعفر بن عون، عن أبى العميس، عن
أبى بكر بن أبى الجهم، عن
عبدالله بن عبيدالله بن عتبة، عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعا:
" إذا جاء نصر الله والفتح ".
فيه نكارة أيضا، وفى إسناده نظر أيضا، ويحتمل أن يكون أنها آخر سورة نزلت جميعا كما
قال والله أعلم.
وقد تكلمنا على تفسير هذه السورة الكريمة بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.
وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب عن أبى قلابة، عن
عمرو بن سلمة - قال لى أبو قلابة: ألا تلقاه فتسأله ؟ فلقيته فسألته - قال: كنا
بماء ممر الناس، وكان يمر بنا الركبان فنسألهم: ما للناس ما للناس ؟ ما هذا الرجل
؟ فيقولون: يزعم أن الله أرسله وأوحى إليه كذا، فكنت أحفظ ذاك الكلام، فكأنما يغرى
(1) في صدري، وكانت العرب تلوم (2) بإسلامهم الفتح فيقولون: أتركوه وقومه، فإن إن
ظهر عليهم فهو نبى صادق.
فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبى قومي بإسلامهم فلما قدم
قال: جئتكم والله من عند النبي حقا.
قال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن
أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنا منى لما كنت أتلقى من
الركبان.
فقدموني بين أيديهم وأنا ابن ست أو سبع سنين، وكانت على بردة إذا سجدت تقلصت عنى،
فقلت امرأة من الحى: ألا تغطون عنا است قارئكم ؟ فاشتروا فقطعوا لى قميصا، فما
فرحت بشى فرحى بذلك القميص.
تفرد به البخارث دون مسلم.
__________
(1) يغرى: يلصق.
(2) تلوم: تنتظر.
(39 - السيرة 3) (*)
بسم الله الرحمن الرحيم غزوة
هوازن يوم حنين قال الله تعالى: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرة، ويوم حنين
إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت عليكم الارض بما رحبت ثم وليتم
مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب
الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين.
ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ".
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في كتابه: أن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى هوازن بعد الفتح في خامس شوال سنة ثمان، وزعم أن الفتح كان لعشر بقين من شهر
رمضان قبل خروجه إليهم خمس عشرة ليلة.
وهكذا روى عن ابن مسعود.
وبه قال عروة بن الزبير واختاره أحمد وابن جرير في تاريخه.
وقال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوازن لست خلون من شوال،
فانتهى إلى حنين في عاشره.
وقال أبو بكر الصديق: لن نغلب اليوم من قلة ! فانهزموا فكان أول من انهزم بنو
سليم، ثم أهل مكة ثم بقية الناس.
قال ابن إسحاق: ولما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وسلم وما فتح الله عليه
من مكة جمعها ملكها مالك بن عوف النصرى، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها واجتمعت
نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بنى هلال، وهم قليل، ولم
يشهدها من قيس عيلان إلا
هؤلاء.
وغاب عنها ولم يحضرها من هوازن كعب وكلاب، ولم يشهدها منهم أحد له اسم، وفى بنى
جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شئ إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان
شيخا مجربا، وفى ثقيف سيدان لهم، وفى الاحلاف قارب بن الاسود بن مسعود بن معتب،
وفى بنى مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث، وجماع أمر الناس إلى
مالك بن عوف النصرى.
فلما أجمع المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أحضر (1) مع الناس أموالهم
ونساءهم وأبناءهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة في شجار
(2) له يقاد به، فلما نزل قال: بأى واد أنتم ؟ قالوا: بأوطاس.
قال: نعم مجال الخيل لاحزن ضرس ولا سهل دهس (3)، مالى أسمع رغاء البعير، ونهاق
الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء ؟ قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم
ونساءهم وأبناءهم.
قال: أين مالك ؟ قالوا: هذا مالك.
ودعى له.
قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كأن له ما بعده من الايام، مالى
أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء ؟ قال: سقت مع الناس
أبناءهم وأموالهم.
قال: ولم ؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم.
قال: فانقض (4) به، ثم قال: راعى ضأن والله ! هل يرد المنهزم شئ ؟ ! إنها إن كانت
لك لم ينفعك (5) إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليا فضحت في أهلك ومالك.
__________
(1) ت: حط مع الناس.
(2) الشجار: مركب شبه الهودج.
(3) الحزن: ما غلظ من الارض، والضرس: الخشن.
والدهس: اللين (4) انقض به: زجره.
(5) ت: لا ينفعك.
(*)
ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب ؟
قال: لم يشهدها منهم أحد.
قال: غاب الحد والجد لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت أنكم
فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم ؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر.
قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران.
ثم قال: يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا.
ثم قال دريد لمالك بن عوف: ارفعهم إلى متمنع (1) بلادهم وعلياء قومهم ثم الق
الصباء على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد
أحرزت أهلك ومالك.
قال: والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك ! ثم قال مالك: والله لتطيعننى يا معشر
هوازن أو لاتكئن على هذا لسيف حتى يخرج من ظهرى.
وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأى.
فقالوا: أطعناك.
فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتنى: يا ليتنى فيها جذع * أخب فيها وأضع (2)
أقود وطفاء الزمع * كأنها شاة صدع (3) ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا
جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني أمية بن عبدالله بن عثمان، أنه حدث أن مالك بن عوف
بعث عيونا من رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم فقال: ويلكم ما شأنكم ؟ قالوا:
__________
(1) ا: ممتنع.
(2) الجذع: الشاب.
وأخب: أسرع.
(3) الوطفاء: الطويلة الشعر.
والزمع: جمع زمعة وهى هنة زائدة وراء الظلف.
والشاة: حمار
الوحش.
والصدع: الفتى القوى.
(*)
رأينا رجالا بيضا على خيل
بلق، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى.
فوالله ما رده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد.
قال ابن إسحاق: ولما سمع بهم نبى الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم عبدالله ابن
أبى حدرد الاسلمي، وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه
بخبرهم.
فانطلق ابن أبى حدرد فدخل فيهم حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه، ثم أقبل حتى أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر.
فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان ابن
أمية أدراعا له وسلاحا فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك فقال: " يا أبا أمية أعرنا
سلاحك هذا نلقى فيه عدونا غدا ".
فقال صفوان: أغصبا يا محمد ؟ قال: " بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك "
قال: ليس بهذا بأس.
فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سأله أن يكفيهم حملها ففعل.
هكذا أورد هذا ابن إسحاق من غير إسناد.
وقد روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن
جابر بن عبدالله، عن أبيه، وعن عمرو بن شعيب والزهرى وعبد الله (1) ابن أبى بكر بن
عمرو بن حزم وغيرهم قصة حنين فذكر نحو ما تقدم، وقصة الادراع كما تقدم، وفيه أن
ابن أبى حدرد لما رجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ا: عن ابن أبى بكر.
(*)
خبر هوازن كذبه عمر بن
الخطاب، فقال له ابن أبى حدرد: لئن (1) كذبتني يا عمر فربما كذبت بالحق.
فقال عمر: ألا تسمع ما يقول يا رسول الله ؟ فقال: " قد كنت ضالا فهداك الله
".
وقد قال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شريك، عن عبد العزيز بن رفيع،
عن أمية بن صفوان بن أمية، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من
أمية يوم حنين أدراعا فقال: أغصبا يا محمد ؟ فقال: " بل عارية مضمونة "
قال: فضاع بعضها فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له فقال: أنا
اليوم يا رسول الله في الاسلام أرغب.
ورواه أبو داود والنسائي من حديث يزيد بن هارون به.
وأخرجه النسائي من رواية إسرائيل، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبى مليكة عن
عبدالرحمن بن صفوان بن أمية، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان
دروعا.
فذكره.
ورواه من حديث هشيم، عن حجاج، عن عطاء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعار من
صفوان أدراعا وأفراسا.
وساق الحديث.
وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن
أناس من آل عبدالله بن صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا
صفوان هل عندك من سلاح ؟ " قال: عارية أم غصبا ؟ قال: " بل عارية "
فأعاره ما بين الثلاثين إلى الاربعين درعا، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم
حنينا فلما هزم المشركون جمعت دروع صفوان ففقد منها أدراعا، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم
__________
(1) ت: ولئن.
(*)
لصفوان: " قد فقدنا من
أدراعك أدراعا فهل نغرم لك ؟ " قال: لا يا رسول الله إن في قلبى ما لم يكن
يومئذ.
وهذا مرسل أيضا.
* * * قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ألفان من أهل مكة
مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة، فكانوا اثنى عشر ألفا.
قلت: وعلى قول عروة والزهرى وموسى بن عقبة يكون مجموع الجيشين (1) اللذين سار بهم إلى
هوازن أربعة عشر ألفا، لانه قدم باثنى عشر ألفا إلى مكة على قولهم، وأضيف إليهم
ألفان من الطلقاء.
وذكر ابن إسحاق أنه خرج من مكة في خامس شوال.
قال: واستخلف على أهل مكة عتاب بن أسيد بن أبى العيص بن أمية بن عبد شمس الاموى.
قلت: وكان عمره إذ ذاك قريبا من عشرين سنة.
قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد لقاء هوازن.
ثم ذكر قصيدة العباس بن مرداس السلمى [ في ذلك منها قوله: (2) ] أبلغ هوازن أعلاها
وأسفلها * منى رسالة نصح فيه تبيان إنى أظن رسول الله صابحكم * جيشا له في فضاء
الارض أركان فيهم سليم أخوكم غير تارككم * والمسلمون عباد الله غسان وفى عضادته
اليمنى بنو أسد * والاجربان بنو عبس وذبيان تكاد ترجف منه الارض رهبته * وفى مقدمه
أوس وعثمان
__________
(1) ت: الجيش الذى سار بهم.
(2) سقط من ا.
(*)
قال ابن إسحاق: أوس وعثمان
قبيلا مزينة.
* * * قال: وحدثني الزهري، عن سنان بن أبى سنان الديلى، عن أبى واقد الليثى، أن
الحارث بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حديثو
عهد بالجاهلية.
قال: فسرنا معه إلى حنين، قال: وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة
خضراء يقال لها ذات أنواط، يأتونها كل سنة فيعلقون أسلحتهم عليها ويذبحون عندها
ويعكفون عليها يوما.
قال: فرأينا ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سدرة خضراء عظيمة، قال:
فتنادينا من جنبات الطريق: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر ! قلتم والذى نفسي (1) بيده
كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون.
إنها السنن ! لتركبن سنن من كان قبلكم ".
وقد روى هذا الحديث الترمذي، عن سعيد بن عبدالرحمن المخزومى عن سفيان، والنسائي عن
محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر كلاهما عن الزهري، كما رواه ابن إسحاق عنه،
وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه ابن أبى حاتم في تفسيره، من طريق كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف، عن أبيه
عن جده، مرفوعا.
وقال أبو داود: حدثنا أبو توبة، حدثنا معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، أنه سمع
أبا سلام عن السلولى، أنه حدثه سهل بن الحنظلية، أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى كان العشية، فحضرت صلاة الظهر عند رسول الله
__________
(1) ا: والذى نفس محمد.
(*)
صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل
فارس فقال: يا رسول الله إنى انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا فإذا أنا
بهوازن عن بكرة أبيهم بظعنهم وبنعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء
الله " ثم قال: " من يحرسنا الليلة ؟ " قال أنس بن أبى مرثد: أنا
يا رسول الله.
قال: فاركب.
فركب فرسا له وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة
".
فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال:
" هل أحسستم فارسكم ؟ " قالوا: يا رسول الله ما أحسسناه.
فثوب (1) بالصلاة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى ويلتفت إلى الشعب حتى
إذا قضى صلاته قال: " أبشروا فقد جاءكم فارسكم " فجعل ينظر إلى خلال
الشجر في الشعب، وإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
إنى انطلقت حتى إذا كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرنى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما، فنظرت فلم أر أحدا.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل نزلت الليلة ؟ " قال: لا،
إلا مصليا أو قاضى حاجة.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد أوجبت، فلا عليك ألا تعمل بعدها
! ".
وهكذا رواه النسائي، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن كثير الحرانى، عن أبى توبة
الربيع بن نافع به.
__________
(1) ثوب: دعا إلى الصلاة.
(*)
فصل في كيفية الوقعة، وما كان
في أول الامر من الفرار ثم كانت العاقبة للمتقين قال يونس بن بكير وغيره عن محمد
بن إسحاق: حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن جابر بن عبدالله عن أبيه
قال: فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها،
فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه.
وأقبل رسول الله وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح، فلما انحط الناس
ثارت في وجوهم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد.
وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول: " أين أيها الناس ؟
هلموا إلى أنا رسول الله، أنا رسول الله أنا محمد بن عبدالله ".
قال: فلا شئ، وركبت الابل بعضها بعضا، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر
الناس ومعه رهط من أهل بيته: على بن أبى طالب، وأبو سفيان بن الحارث ابن
عبدالمطلب، وأخوه ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، والفضل بن العباس.
وقيل الفضل بن أبى سفيان، وأيمن بن أم أيمن، وأسامة بن زيد، ومن الناس من يزيد
فيهم قثم بن العباس، ورهط من المهاجرين منهم أبو بكر وعمر، والعباس آخذ بحكمة (1)
بغلته البيضاء وهو عليها قد شجرها (2)، قال: ورجل من هوازن على جمل له أحمر بيده
راية سوداء في رأس رمح طويل أمام هوازن وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن (3) برمحه وإذا
فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه.
__________
(1) الحكمة: ما أحاط بحنكى الفرس.
(2) شجر الدابة: ضرب لجامها فيكفها حتى فتحت فاها.
(3) ا: طفر برمحه.
(*)
قال: فبينما هو كذلك إذ هوى
له على بن أبى طالب ورجل من الانصار يريدانه، قال: فيأتى على من خلفه فضرب عرقوبى
الجمل فوقع على عجزه، ووثب الانصاري على الرجل فضربه ضربة أطن قدمه بنصف ساقه
فانجعف عن رحله.
قال: واجتلد الناس، فوالله ما رجعت راجعة الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الاسارى
مكتفين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه الامام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم الزهري، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق.
* * * قال ابن إسحاق: والتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى سفيان بن
الحارث ابن عبدالمطلب، وكان ممن صبر يومئذ وكان حسن الاسلام حين أسلم، وهو آخذ
بثفر (1) بغلة (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من هذا ؟ " قال
ابن أمك يا رسول الله.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم الناس تكلم رجال من جفاة الاعراب بما في أنفسهم من
الضغن فقال أبو سفيان صخر بن حرب - يعنى وكان إسلامه بعد مدخولا وكانت الازلام بعد
معه يومئذ - قال: لا تنتهى هزيمتهم دون البحر ! وصرخ (3) كلدة جبلة بن الحنبل وهو
مع أخيه صفوان بن أمية - يعنى لامه - وهو مشرك، في المدة التى جعل له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ألا بطل السحر اليوم، فقال له صفوان: اسكت فض الله فاك،
فوالله لان يربنى (4) رجل من قريش أحب إلى من أن يربنى رجل من هوازن.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا إسحاق بن
__________
(1) الثفر: السير في مؤخر السرج.
(2) ا: بغلته فقال.
(3) ت: وخرج جبلة بن الحنبل كما في ابن هشام
(4) يربنى: يملكني.
(*)
عبدالله بن أبى طلحة، عن أنس
بن مالك، أن هوازن جاءت يوم حنين بالنساء والصبيان والابل والغنم، فجعلوها صفوفا،
يكثرون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما التقوا ولى المسلمون مدبرين، كما
قال الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عباد الله أنا
عبدالله ورسوله " ثم قال: " يا معشر الانصار، أنا عبدالله ورسوله
".
قال: فهزم الله المشركين ولم يضرب بسيف ولم يطعن برمح.
قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: " من قتل كافرا فله سلبه
".
قال: فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم.
وقال أبو قتادة: يا رسول الله إنى ضربت رجلا على حبل العاتق وعليه درع له فأجهضت
عنه فانظر من أخذها.
قال: فقام رجل فقال: أنا أخذتها فأرضه منها وأعطنيها، قال: وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم لا يسأل شيئا ألا أعطاه أو سكت.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: والله لا يفيئها الله على أسد من
أسد الله (1) ويعطيكها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدق عمر
".
قال ولقى أبو طلحة أم سليم ومعها خنجر، فقال أبو طلحة: ما هذا ؟ فقالت: إن دنا منى
بعض المشركين أن أبعج في بطنه، فقال أبو طلحة: أما تسمع ما تقول أم سليم ؟ فضحك
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله أقتل من بعدنا (2) من الطلقاء
انهزموا بك، فقال: " إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم ".
وقد روى مسلم منه قصة خنجر أم سليم، وأبو داود قوله: " من قتل قتيلا فله سلبه
" كلاهما من حديث حماد بن سلمة به.
وقول عمر في هذا مستغرب، والمشهور أن ذلك أبو بكر الصديق.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا أبى حدثنا نافع
__________
(1) ا: أسده.
(2) ت: من بعدها.
(*)
أبو غالب، شهد أنس بن مالك
فقال العلاء بن زياد العدوى: يا أبا حمزة بسن أي الرجال كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذ بعث ؟ فقال: ابن أربعين سنة قال: ثم كان ماذا ؟ قال: ثم كان بمكة عشر
سنين وبالمدينة عشر سنين فتمت له ستون سنة، ثم قبضه الله إليه.
قال: بسن أي الرجال هو يومئذ ؟ قال: كأشب الرجال وأحسنه وأجمله وألحمه.
قال: يا أبا حمزة وهل غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم غزوت معه
يوم حنين فخرج المشركون بكرة فحملوا علينا، حتى رأينا خيلنا وراء ظهورنا وفى
المشركين رجل يحمل علينا فيدقنا ويحطمنا، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم نزل فهزمهم الله فولوا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى الفتح
فجعل يجاء بهم أسارى رجلا رجلا فيبايعونه على الاسلام، فقال رجل من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم: إن على نذرا لئن جئ بالرجل الذى كان منذ اليوم يحطمنا لاضربن
عنقه، قال: فسكت نبى الله صلى الله عليه وسلم وحئ بالرجل، فلما رأى نبى الله صلى
الله عليه وسلم قال: يا نبى الله تبت إلى الله.
قال: وأمسك نبى الله صلى الله عليه وسلم أن يبايعه ليوفى الآخر نذره، قال: وجعل
ينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليأمره بقتله ويهاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يصنع شيئا بايعه، فقال: يا نبى
الله نذري ؟ قال: " لم أمسك عنه منذ اليوم إلا لتوفى نذرك " فقال: يا
رسول الله ألا أومأت إلى ؟ قال: " إنه ليس لنبى أن يومئ ".
تفرد به أحمد.
وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: كان من دعاء
النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين: اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الارض بعد اليوم
".
إسناده ثلاثى على شرط الشيخين، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن
بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق سمع البراء بن عازب - وسأله رجل من
قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ؟ - فقال: لكن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا
على الغنائم فاستقبلتنا بالسهام.
ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وإن أبا سفيان آخذ
بزمامها وهو يقول: أنا النبي لا كذب.
ورواه البخاري عن أبى الوليد عن شعبة به وقال: أنا النبي لا كذب * أنا ابن
عبدالمطلب قال البخاري: وقال إسرائيل وزهير يعنى عن أبى إسحاق، عن البراء، ثم نزل
عن بلغته.
ورواه مسلم والنسائي عن بندار.
زاد مسلم: وأبى موسى.
كلاهما عن غندر به.
وروى مسلم من حديث زكريا بن أبى زائدة، عن أبى إسحاق، عن البراء قال: ثم نزل
فاستنصر وهو يقول: أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبدالمطلب " اللهم نزل نصرك
" قال البراء: ولقد كنا إذا حمى البأس نتقى برسول الله صلى الله عليه وسلم،
وإن الشجاع الذى يحاذي به.
وروى البيهقى من طرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: " أنا ابن
العواتك ".
[ وقال الطبراني: حدثنا عباس بن الفضل الاسفاطى، حدثنا عمرو بن عوف الواسطي، حدثنا
هشيم، أنبأنا يحيى بن سعيد، عن عمرو بن سعيد بن العاص، عن شبابة، عن
ابن عاصم السلمى، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: " أنا ابن العواتك " ] (1) وقال
البخاري: حدثنا عبدالله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن كثير
بن أفلح، عن أبى محمد مولى أبى قتادة، عن أبى قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلا من
المشركين قد علا رجلا من المسلمين فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف فقطعت الدرع
وأقبل على فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر،
فقلت: ما بال الناس ؟ فقال: أمر الله.
ورجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " من قتل قتيلا له عليه بينة
فله سلبه " فقمت فقلت: من يشهد لى ؟ ثم جلست فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم مثله.
فقلت: من يشهد لى ؟ ثم جلست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
فقلت: من يشهد لى ثم جلست: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
فقمت فقال: " مالك يأبا قتادة ؟ " فأخبرته فقال رجل: صدق، سلبه عندي
فأرضه منى.
فقال أبو بكر: لاها الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله
فيعطيك سلبه ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدق فأعطه ".
فأعطانيه فابتعت به مخرفا (2) في بنى سلمة فإنه لاول مال تأثلته في الاسلام.
ورواه بقية الجماعة إلا النسائي، من حديث يحيى بن سعيد به.
قال البخاري: وقال الليث بن سعد: حدثنى يحيى بن سعيد، عن عمرو بن كثير ابن أفلح،
عن أبى محمد مولى أبى قتادة، أن أبا قتادة قال: لما كان يوم حنين نظرت
__________
(1) من ت.
(2) المخرف: السكة بين صفين من النخل.
(*)
إلى رجل من المسلمين يقاتل
رجلا من المشركين وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله، فأسرعت إلى الذى يختله
فرفع يده ليضربني فأضرب يده فقطعتها، ثم أخذني فضمني ضما شديدا حتى تخوفت، ثم نزل
(1) فتحلل فدفعته، ثم قتلته، وانهزم المسلمون فانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب
في الناس فقلت له: ما شأن الناس ؟ قال: أمر الله ! ثم تراجع الناس إلى رسول الله
فقال رسول الله: " من أقام بينة على قتيل فله سلبه " فقمت لالتمس بينة
على قتيلى فلم أر أحدا يشهد لى فجلست، ثم بدا لى فذكرت أمره لرسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذى يذكر عندي فأرضه منى.
فقال أبو بكر: كلا لا يعطه أضيبع (2) من قريش ويدع أسدا من أسد الله يقاتل عن الله
ورسوله.
قال: فقام رسول الله فأداه إلى فاشتريت به مخرفا، فكان أول مال تأثلته.
وقد رواه البخاري في مواضع أخر ومسلم، كلاهما عن قتيبة، عن الليث ابن سعد به.
وقد تقدم من رواية نافع أبى غالب، عن أنس، أن القائل لذلك عمر بن الخطاب فلعله
قاله متابعة لابي بكر الصديق ومساعدة وموافقة له، أو قد اشتبه على الراوى.
والله أعلم.
* * * وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الاصم، أنبأنا أحمد بن عبد
الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنى عاصم بن عمر عن عبدالرحمن بن
جابر،
عن أبيه جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين حين رأى
__________
(1) ت: ترك.
(2) الاضيبع: تصغير أضبع، وهو القصير الضبع، ويكنى به عن الضعيف.
وتروى: أصيبغ.
وهو نوع من الطيور.
القسطلانى 6 / 407.
(*)
من الناس ما رأى: " يا
عباس ناد: يا معشر الانصار يا أصحاب الشجرة " فأجابوه: لبيك لبيك.
فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه عن عنقه ويأخذ سيفه
وترسه ثم يؤم الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة،
فاستعرض الناس فاقتتلوا، وكانت الدعوة أول ما كانت للانصار، ثم جعلت آخر للخزرج،
وكانو صبرا عند الحرب، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه فنظر إلى
مجتلد القوم فقال: " الآن حمى الوطيس ".
قال: فوالله ما راجعه الناس إلا والاسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكتفون، فقتل الله منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم، وأفاء الله على رسوله صلى
الله عليه وسلم أموالهم وأبناءهم.
* * * وقال ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة.
وذكر موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح
الله عليه مكة وأقر بها عينه، خرج إلى هوازن وخرج معه أهل مكة لم يغادر منهم أحدا
ركبانا ومشاة، حتى خرج النساء يمشين على غير دين نظارا ينظرون ويرجون الغنائم، ولا
يكرهون مع ذلك أن تكون الصدمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قالوا: وكان (1) معه أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية، وكانت امرأته مسلمة وهو
مشرك لم يفرق بينهما.
قالوا: وكان رئيس المشركين يومئذ مالك بن عوف النصرى ومعه دريد بن الصمة
يرعش من الكبر، ومعه النساء والذراري والنعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
عبدالله بن أبى حدرد عينا، فبات فيهم فسمع مالك بن عوف يقول لاصحابه: إذا
__________
(1) ت: وقالوا: كان.
(40 - السيرة 3) (*)
أصبحتم فاحملو عليهم حملة رجل
واحد، واكسروا أغماد سيوفكم، واجعلوا مواشيكم صفا ونساءكم صفا.
فلما أصبحوا اعتزل أبو سفيان وصفوان وحكيم بن حزام وراءهم ينظرون لمن تكون
الدائرة، وصف الناس بعضهم لبعض، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة له شهباء،
فاستقبل الصفوف فأمرهم وحضهم على القتال وبشرهم بالفتح - إن صبروا - فبينما هم
كذلك إذ حمل المشركون على المسلمين حملة رجل واحد، فجال المسلمون جولة ثم ولوا
مدبرين، فقال حارثة بن النعمان: لقد حزرت من بقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
أدبر الناس فقلت: مائة رجل.
قالوا: ومر رجل من قريش بصفوان بن أمية فقال: أبشر بهزيمة محمد وأصحابه، فوالله لا
يجتبرونها أبدا.
فقال له صفوان: تبشرني بظهور الاعراب ؟ فوالله لرب من قريش أحب إلى من رب من
الاعراب.
وغضب صفوان لذلك.
قال عروة: وبعث صفوان غلاما له فقال: اسمع لمن الشعار ؟ فجاءه فقال: سمعتهم
يقولون: يا بنى عبدالرحمن يا بنى عبدالله، يا بنى عبيدالله.
فقال: ظهر محمد.
وكان ذلك شعارهم في الحرب.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما غشيه القتال قام في الركابين وهو
على البغلة فرفع يديه إلى الله يدعوه ويقول: " اللهم إنى أنشدك ما وعدتني،
اللهم لا ينبغى
لهم أن يظهروا علينا " ونادى أصحابه وزمرهم (1): " يا أصحاب البيعة يوم
الحديبية الله الله الكرة على نبيكم " ويقال حرضهم فقال: " يا أنصار
الله وأنصار رسوله، يا بنى الخزرج يا أصحاب سورة البقرة " وأمر من أصحابه من
ينادى بذلك.
__________
(1) زمرهم: أغراهم بأعدائهم.
(*)
وقالوا: وقبض قبضة من الحصباء
فحصب بها وجوه المشركين ونواصيهم كلها وقال: " شاهت الوجوه ".
وأقبل أصحابه إليه سراعا يبتدرون، وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" الآن حمى الوطيس " فهزم الله أعداءه من كل ناحية حصبهم منها، واتبعهم
المسلمون يقتلونهم، وغنمهم الله نساءهم وذراريهم، وفر مالك بن عوف حتى دخل حصن
الطائف هو وأناس من أشراف قومه.
وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم
وإعزازه دينه.
رواه البيهقى.
وقال ابن وهب: أخبرني يونس، عن الزهري، أخبرني كثير بن العباس بن عبدالمطلب، قال:
قال العباس: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمته أنا وأبو سفيان
بن الحارث لا نفارقه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي،
فلما التقى الناس ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض
بغلته قبل الكفار، قال العباس: وأنا آخذ بلجامها أكفها إرادة ألا تسرع، وأبو سفيان
آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي عباس، ناد أصحاب السمرة " قال:
فوالله لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ! فقالوا: يا لبيكاه
يا لبيكاه !.
قال: فاقتتلوا هم والكفار، والدعوة في الانصار يقولون: يا معشر الانصار.
ثم قصرت الدعوة على بنى الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بنى الحارث بن الخزرج.
فنظر رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال: " هذا حين حمى الوطيس
" ثم أخذ حصيات فرمى بهن في وجوه الكفار، ثم قال: " انهزموا ورب محمد
" قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلى أن
رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم
مدبرا.
ورواه مسلم عن أبى الطاهر، عن ابن وهب به نحوه.
ورواه أيضا عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري نحوه.
وروى مسلم من حديث عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الاكوع، عن أبيه قال: غزونا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فلما واجهنا العدو تقدمت فأعلو ثنية
فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه بسهم، وتوارى عنى فما دريت ما صنع، ثم نظرت إلى
القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة رسول الله صلى الله عليه
وسلم فولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرجع منهزما وعلى بردتان متزر
بإحداهما مرتد بالاخرى، قال: فاستطلق إزارى فجمعتهما جميعا، ومررت على النبي صلى
الله عليه وسلم وأنا منهزم وهو على بغلته الشهباء، فقال: " لقد رأى ابن
الاكوع فزعا ".
فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب من
الارض واستقبل به وجوههم وقال: " شاهت الوجوه " فما خلق الله منهم
إنسانا إلا ملا
عينيه ترابا من تلك القبضة، فولوا مدبرين، فهزمهم الله وقسم رسول الله صلى الله
عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن عبد
الله بن يسار، عن أبى عبدالرحمن الفهرى قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في
حنين فسرنا في يوم قائظ شديد
الحر، فنزلنا تحت ظلال السمر، فلما زالت الشمس لبست لامتي وركبت فرسى، فأتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله
وبركاته، قد حان الرواح يا رسول الله ؟ قال: " أجل " ثم قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " يا بلال " فثار من تحت سمرة كأن ظله ظل طائر،
فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك ! فقال: " أسرج لى فرسى " فأتاه بدفتين من
ليف ليس فيهما أشر ولا بطر.
قال: فركب فرسه فسرنا يومنا فلقينا العدو وتسامت الخيلان فقاتلناهم فولى المسلمون
مدبرين كما قال الله تعالى، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا
عباد الله أنا عبد الله ورسوله " واقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
فرسه، وحدثني من كان أقرب إليه منى أنه أخذ حفنة من التراب فحثا بها وجوه العدو
وقال: " شاهت الوجوه ".
قال يعلى بن عطاء: فحدثنا أبناؤهم عن آبائهم قالوا: ما بقى أحد إلا امتلات عيناه
وفمه من التراب، وسمعنا صلصلة من السماء كمر الحديد على الطست الحديد، فهزمهم الله
عزوجل.
ورواه أبو داود السجستاني في سننه عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة به نحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا الحارث بن حصين،
حدثنا القاسم بن عبدالرحمن بن عبدالله بن مسعود، عن أبيه قال: قال عبدالله
ابن مسعود: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وثبت معه
ثمانون رجلا من المهاجرين والانصار، فنكصنا على أعقابنا نحوا من ثمانين قدما ولم
نولهم الدبر، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة، قال: ورسول الله صلى الله عليه
وسلم على بغلته يمضى قدما، فحادت به بغلته فمال عن السرج فقلت له: ارتفع رفعك
الله.
فقال: " ناولنى
كفا من تراب " فضرب به
وجوههم فامتلات أعينهم ترابا.
قال: " أين المهاجرون والانصار ؟ " قلت: هم أولاء.
قال: " اهتف بهم " فهتفت بهم فجاءوا سيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب، وولى
المشركون أدبارهم.
تفرد به أحمد.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو الحسين محمد بن أحمد بن
تميم القنطرى، حدثنا أبو قلابة، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن
الطائفي، أخبرني عبدالله بن عياض بن الحارث الانصاري، عن أبيه، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أتى هوازن في اثنى عشر ألفا، فقتل من أهل الطائف يوم حنين مثل من
قتل يوم بدر، قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من حصى فرمى بها في
وجوهنا فانهزمنا.
ورواه البخاري في تاريخه ولم ينسب عياضا.
وقال مسدد: حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا عوف بن عبدالرحمن مولى أم برثن، عن من شهد
حنينا كافرا قال: لما التقينا نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقوموا لنا
حلب شاة، فجئنا نهش سيوفنا بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا غشيناه
فإذا بيننا وبينه رجال حسان الوجوه فقالوا: شاهت الوجوه فارجعوا.
فهزمنا من ذلك الكلام.
رواه البيهقى.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو سفيان، حدثنا أبو سعيد عبدالرحمن بن إبراهيم،
حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنى محمد بن عبدالله الشعبى، عن الحارث بن بدل النصرى، عن
رجل من قومه شهد ذلك يوم حنين وعمرو بن سفيان الثقفى قالا: انهزم المسلمون يوم
حنين فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عباس وأبو سفيان بن الحارث.
قال: فقبض رسول الله صلى الله
عليه وسلم قبضة من الحصباء فرمى بها في وجوههم.
قال: فانهزمنا فما خيل إلينا إلا أن كل حجر أو شجر فارس يطلبنا، قال الثقفى:
فأعجرت (1) على فرسى حتى دخلت الطائف.
وروى يونس بن بكير في مغازيه، عن يوسف بن صهيب بن عبدالله، أنه لم يبق مع رسول
الله يوم حنين إلا رجل واحد اسمه زيد.
وروى البيهقى من طريق الكديمى، حدثنا موسى بن مسعود، حدثنا سعيد بن السائب بن يسار
الطائفي، عن السائب بن يسار، عن يزيد بن عامر السوائى أنه قال عند انكشافة انكشفها
المسلمون يوم حنين: فتبعهم الكفار وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من
الارض، ثم أقبل على المشركين فرمى بها وجوههم وقال: " ارجعوا شاهت الوجوه
" فما أحد يلقى أخاه إلا وهو يشكو قذى في عينيه.
ثم روى من طريقين آخرين عن أبى حذيفة، حدثنا سعيد بن السائب بن يسار الطائفي،
حدثنى أبى السائب بن يسار، سمعت يزيد بن عامر السوائى - وكان شهد حنينا مع
المشركين ثم أسلم بعد - قال: فنحن نسأله عن الرعب الذى ألقى الله في قلوب المشركين
يوم حنين: كيف كان ؟ قال: فكان يأخذ لنا بحصاة فيرمى بها في الطست فيطن، قال: كنا
نجد في أجوافنا مثل هذا.
* * * وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ومحمد بن موسى بن الفضل قالا:
حدثنا
أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد بن بكير الحضرمي، حدثنا أبو أيوب
ابن جابر، عن صدقة بن سعيد، عن مصعب بن شيبة، عن أبيه قال: خرجت مع
__________
(1) أعجرت: أسرعت (*)
رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم حنين والله ما أخرجنى إسلام ولا معرفة به، ولكن أبيت أن تظهر هوازن على قريش !
فقلت وأنا واقف معه: يا رسول الله إنى أرى خيلا بلقا، فقال: " يا شيبة إنه لا
يراها إلا كافر " فضرب يده في صدري ثم قال: " اللهم اهد شيبة " ثم
ضربها الثانية فقال: " اللهم اهد شيبة " ثم ضربها الثالثة ثم قال:
" اللهم اهد شيبة ".
قال: فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلى
منه.
ثم ذكر الحديث في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله
صلى الله عليه وسلم، حتى هزم الله المشركين.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبدالله
المزني، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنى
عبدالله ابن المبارك، عن أبى بكر الهذلى، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن شيبة بن عثمان
قال: لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قد عرى، ذكرت أبى وعمى وقتل
على وحمزة إياهما، فقلت: اليوم أدرك ثأري من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فذهبت لاجيئه عن يمينه، فإذا بالعباس بن عبدالمطلب قائم عليه درع بيضاء كأنها
فضة ينكشف عنها العجاج، فقلت: عمه ولن يخذله.
قال: ثم جئته عن يساره فإذا أنا بأبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فقلت: ابن
عمه ولن يخذله.
قال: ثم جئته من خلفه فلم يبق إلا أن أساوره سورة بالسيف إذ رفع شواظ من نار بينى
وبينه كأنه برق، فخفت أن يمحشنى (1)، فوضعت يدى على بصرى ومشيت القهقرى،
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا شيب ادن منى، اللهم أذهب عنه
__________
(1) يمحشنى: يحرقنى.
(*)
الشيطان " قال: فرفعت
إليه بصرى ولهو أحب إلى من سمعي وبصرى.
فقال: " يا شيب قاتل الكفار ".
وقال ابن إسحاق: وقال شيبة بن عثمان بن أبى طلحة أخو بنى عبد الدار قلت: اليوم
أدرك ثأري - وكان أبوه قد قتل يوم أحد - اليوم أقتل محمد.
قال: فأدرت برسول الله صلى الله عليه وسلم لاقتله فأقبل شئ حتى تغشى فؤادى فلم أطق
ذاك وعلمت أنه ممنوع منى.
وقال محمد بن إسحاق: وحدثني والدى إسحاق بن يسار، عمن حدثه، عن جبير ابن مطعم قال:
إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والناس يقتتلون إذ نظرت إلى مثل
البجاد (1) الاسود يهوى من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم، فإذا نمل منثور قد
ملا الوادي، فلم يكن إلا هزيمة القوم، فما كنا نشك أنها الملائكة.
ورواه البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن
ابن إسحاق به.
وزاد فقال: خديج بن العرجاء (2) النصرى - يعنى في ذلك -: ولما دنونا من حنين ومائه
* رأينا سوادا منكر اللون أخصفا (3) بملمومة شهباء لو قذفوا بها * شماريخ من عروى
إذا عاد صفصفا (4) ولو أن قومي طاوعتني سراتهم * إذا ما لقينا العارض المتكشفا إذا
ما لقينا جند آل محمد * ثمانين ألفا واستمدوا بخندفا
__________
(1) البجاد: كساء من صوف.
(2) ت: العوجاء.
(3) الاخصف: الذى فيه بياض (4) الملمومة: الكتيبة.
والبيضاء: الكثيرة السلاح.
والشماريخ: الاعالى.
وفى ابن هشام: شماريخ من عزوى.
(*)
وقد ذكر ابن إسحاق من شعر
مالك بن عوف النصرى رئيس هوازن يوم القتال وهو في حومة الوغا يرتجز ويقول: أقدم
محاج إنه يوم نكر * مثلى على مثلك يحمى ويكر إذا أضيع الصف يوما والدبر * ثم
احزألت زمر بعد زمر (1) كتائب يكل فيهن البصر * قد أطعن الطعنة تقذى بالسبر (2)
حين يذم المستكن المنجحر * وأطعن النجلاء تعوى وتهر (3) لها من الجوف رشاش منهمر *
تفهق تارات وحينا تنفجر وثعلب العامل فيها منكسر * يا زيد يابن همهم أين تفر (4)
قد نفد الضرس وقد طال العمر * قد علم البيض الطويلات الخمر أنى في أمثالها غير غمر
* إذ تخرج الحاصن من تحت الستر وذكر البيهقى من طريق يونس بن بكير عن ابن إسحاق
أنه أنشد من شعر مالك أيضا حين ولى أصحابه منهزمين وذلك قوله بعد ما أسلم وقيل هي
لغيره: اذكر مسيرهم والناس كلهم * ومالك فوقه الرايات تختفق ومالك مالك ما فوقه
أحد * يوم حنين عليه التاج يأتلق حتى لقوا الناس حين البأس يقدمهم * عليهم البيض
والابدان والدرق فضاربوا الناس حتى لم يروا أحدا * حول النبي وحتى جنه الغسق حتى
تنزل جبريل بنصرهم * فالقوم منهزم منا ومعتلق
__________
(1) احزألت: ارتفعت.
والزمر: الجماعات.
(2) تقذى: تقذف: والسبر: جمع سبار وم الفتيل يسبر به الجرح.
(3) المنجحر: المستتر.
والنجلاء: الطعنة المتسعة.
تعوى وتهر: ينزف منها الدم بصوت.
(4) الثعلب: ما دخل من عصا الرمح في جبة السنان.
والعامل: أعلى الرمح.
(*)
منا ولو غير جبريل يقاتلنا *
لمنعتنا إذا أسيافنا الفلق وقد وفى عمر الفاروق إذ هزموا * بطعنة كان منها سرجه
العلق قال ابن إسحاق: ولما هزم المشركون وأمكن الله رسوله منهم قالت امرأة من
المسلمين: قد غلبت خيل الله خيل اللات * والله أحق بالثبات قال ابن هشام: وقد
أنشدنيه بعض أهل الرواية للشعر: قد غلبت خيل الله خيل اللات * وخيله أحق بالثبات
قال ابن إسحاق: فلما انهزمت هوازن استحر القتل من ثقيف في بنى مالك، فقتل منهم
سبعون رجلا تحت رايتهم، وكانت مع ذى الخمار، فلما قتل أخذها عثمان ابن عبدالله بن
ربيعة بن الحارث بن حبيب فقاتل بها حتى قتل، فأخبرني عامر بن وهب بن الاسود أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتله قال: " أبعده الله فإنه كان يبغض
قريشا ".
وذكر ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة، أنه قتل مع عثمان هذا غلام له نصراني، فجاء رجل
من الانصار ليسلبه فإذا هو أغرل، فصاح بأعلى صوته: يا معشر العرب إن ثقيفا غرل !
قال المغيرة بن شعبة الثقفى: فأخذت بيده وخشيت أن تذهب عنا في العرب، فقلت: لا تقل
كذلك فداك أبى وأمى، إنما هو غلام لنا نصراني.
ثم جعلت أكشف له القتلى فأقول له: ألا تراهم مختتنين كما ترى ؟ قال ابن إسحاق:
وكانت راية الاحلاف مع قارب بن الاسود، فلما انهزم الناس أسند
رايته إلى شجرة وهرب هو وبنو عمه وقومه، فلم يقتل من الاحلاف غير رجلين: رجل من
بنى غيرة يقال له وهب، ورجل من كبة يقال له الجلاح، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين بلغه قتل الجلاح:
" قتل اليوم سيد شباب ثقيف إلا ما كان من ابن هنيدة " يعنى الحارث بن
أوبس.
قال ابن إسحاق: فقال العباس بن مرداس يذكر قارب بن الاسود وفراره من بنى أبيه وذا
الخمار وحبسه نفسه وقومه للموت: ألا من مبلغ غيلان عنى * وسوف إخال يأتيه الخبير
وعروة إنما أهدى جوابا * وقولا غير قولكما يسير بأن محمدا عبد رسول * لرب لا يضل
ولا يجور وجدناه نبيا مثل موسى * فكل فتى يخايره مخير (1) وبئس الامر أمر بنى قسى
* بوج إذا تقسمت الامور أضاعوا أمرهم ولكل قوم * أمير والدوائر قد تدور فجئنا أسد
غابات إليهم * جنود الله ضاحية تسير نؤم الجمع جمع بنى قسى * على حنق نكاد له نطير
وأقسم لو هم مكثوا لسرنا * إليهم بالجنود ولم يغوروا فكنا أسد لية ثم حتى *
أبحناها وأسلمت النصور (2) ويوم كان قبل لدى حنين * فأقلع والدماء به تمور من
الايام لم تسمع كيوم * ولم يسمع به قوم ذكور قتلنا في الغبار بنى حطيط * على
راياتها والخيل زور (3) ولم يك ذو الخمار رئيس قوم * لهم عقل يعاقب أو نكير أقام
بهم على سنن المنايا * وقد بانت لمبصرها الامور
__________
(1) يخايره: يزعم أنه خير منه.
ومخير: مغلوب في مخايرته.
(2) لية: موضع قريب من الطائف.
والنصور: رهط مالك بن عوف النصرى.
(3) زور: جمع أزور وهو المائل.
(*)
فأفلت من نجا منهم حريضا *
وقتل منهم بشر كثير (1) ولا يغنى الامور أخو التوانى * ولا الغلق الصريرة الحصور
(2) أحانهم وحان وملكوه * أمورهم وأفلتت الصقور بنو عوف تميح بهم جياد * أهين لها
الفصافص والشعير (3) فلولا قارب وبنو أبيه * تقسمت المزارع والقصور ولكن الرياسة
عمموها * على يمن أشار به المشير أطاعوا قاربا ولهم جدود * وأحلام إلى عز تصير فإن
يهدوا إلى الاسلام يلفوا * أنوف الناس ما سمر السمير فإن لم يسلموا فهم أذان *
بحرب الله ليس لهم نصير كما حكت بنى سعد وجرت * برهط بنى غزية عنقفير (4) كأن بنى
معاوية بن بكر * إلى الاسلام ضائنة تخور فقلنا أسلموا إنا أخوكم * وقد برئت من
الاحن الصدور كأن القوم إذ جاءوا إلينا * من البغضاء بعد السلم عور فصل ولما
انهزمت هوازن وقف ملكهم مالك بن عوف النصرى على ثنية مع طائفة من أصحابه فقال:
قفوا حتى تجوز ضعفاؤكم وتلحق أخراكم.
قال ابن إسحاق: فبلغني أن خيلا طلعت ومالك وأصحابه على التثنية فقال لاصحابه: ماذا
ترون ؟ قالوا: نرى قوما واضعى رماحهم بين آذان خيلهم طويلة بوادهم (5).
فقال:
__________
(1) الحريض: المشرف على الهلاك.
(2) الغلق: القليل الحيلة.
(3) الفصافص: جمع فصفصة وهى البقلة التى تأكلها الدواب.
(4) العنققير: الداهية.
(5) البواد: جمع باد وهو بطن الفخذ.
(*)
هؤلاء بنو سليم ولا بأس عليكم
منهم.
فلما أقبلوا سلكوا بطن الوادي، ثم طلعت خيل أخرى تتبعها، فقال لاصحابه: ماذا ترون
؟ قالوا: نرى قوما عارضي رماحهم أغفالا على خيلهم.
فقال: هؤلاء الاوس والخزرج، ولا بأس عليكم منهم.
فلما انتهوا إلى أصل الثنية سلكوا طريق بنى سليم، ثم طلع فارس فقال لاصحابه: ماذا
ترون ؟ فقالوا: نرى فارسا طويل الباد واضعا رمحه على عاتقه عاصبا رأسه بملاءة
حمراء.
قال: هذا الزبير ابن العوام، وأقسم باللات ليخالطنكم فاثبتوا له.
فلما انتهى الزبير إلى أصل الثنية أبصر القوم فصمد لهم فلم يزل يطاعنهم حتى أزاحهم
عنها.
فصل وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغنائم فجمعت من الابل والغنم والرقيق،
وأمر أن تساق إلى الجعرانة فتحبس هناك.
قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم مسعود بن عمرو
الغفاري.
فصل قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر يومئذ
بامرأة قتلها خالد بن الوليد والناس متقصفون (1) عليها، فقال لبعض أصحابه "
أدرك خالدا فقل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاك أن تقتل وليدا أو
امرأة أو عسيفا ".
هكذا رواه ابن إسحاق منقطعا.
__________
(1) متقصفون: مجتمعون.
(*)
وقد قال الامام أحمد: حدثنا
أبو عامر عبدالملك بن عمرو، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبى الزناد، حدثنى
المرقع بن صيفي، عن جده رباح بن ربيع أخى بنى حنظلة الكاتب، أنه أخبره أنه رجع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رباح
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا
ينظرون إليها ويتعجبون من خلقها، حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على
راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ما
كانت هذه لتقاتل ! " فقال لاحدهم: " الحق خالدا فقل له: " لا يقتلن
ذرية ولا عسيفا ".
وكذلك رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث المرقع بن صيفي به نحوه.
غزوة أوطاس وكان سببها أن
هوازن لما انهزمت ذهبت فرقة منهم فيهم الرئيس مالك بن عوف النصرى فلجأوا إلى
الطائف فتحصنوا بها، وسارت فرقة فعسكروا بمكان يقال له أوطاس، فبعث إليهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم سرية من أصحابه عليهم أبو عامر الاشعري فقاتلوهم فغلبوهم،
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة فحاصر أهل الطائف.
كما سيأتي.
قال ابن إسحاق: ولما انهزم المشركون يوم حنين أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف،
وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة، ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو
غيرة من ثقيف، وتبعت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم من
سلك الثنايا.
قال: فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهان السلمى ويعرف بابن الدغنة - وهى أمه - دريد ابن
الصمة فأخذ بخطام جمله وهو يظن أنه امرأة وذلك أنه في شجار لهم، فإذا برجل، فأناخ
به فإذا شيخ كبير وإذا دريد بن الصمة ولا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ماذا تريد
بى ؟ قال: أقتلك.
قال: ومن أنت ؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السلمى.
ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئا، قال: بئس ما سلحتك أمك ! خذ سيفى هذا من مؤخر رحلى في
الشجار، ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإنى كذلك كنت أضرب الرجال !
ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة فرب والله يوم منعت فيه نساءك !
فزعم بنو سليم أن ربيعة قال: لما ضربته فوقع تكشف فإذا عجانه (1) وبطون فخذيه مثل
القراطيس من ركوب الخيل إعراء.
__________
(1) العجان: ما بين الخصية والدبر.
(*)
فلما رجع ربيعة إلى أمه
أخبرها بقتله إياه فقالت: أما والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثا.
ثم ذكر ابن إسحاق ما رثت به عمرة بنت دريد أباها فمن ذلك قولها: قالوا قتلنا دريدا
قلت قد صدقوا * فظل دمعى على السربال ينحدر (1) لولا الذى قهر الاقوام كلهم * رأت
سليم وكعب كيف يأتمر إذن لصبحهم غبا وظاهرة * حيث استقرت نواهم جحفل ذفر (2) قال
ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثار من توجه قبل أوطاس أبا عامر
الاشعري، فأدرك من الناس بعض من انهزم فناوشوه القتال فرمى أبو عامر فقتل، فأخذ
الراية أبو موسى الاشعري وهو ابن عمه فقاتلهم ففتح الله عليه وهزمهم الله عزوجل،
ويزعمون أن سلمة بن دريد هو الذى رمى أبا عامر الاشعري بسهم فأصاب
ركبته فقتله وقال: إن تسألوا عنى فإنى سلمه * ابن سمادير لمن توسمه (3) أضرب
بالسيف رءوس المسلمه قال ابن إسحاق: وحدثني من أثق به من أهل العلم بالشعر وحديثه
أن أبا عامر الاشعري لقى يوم أوطاس عشرة إخوة من المشركين، فحمل عليه أحدهم فحمل
عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الاسلام ويقول: اللهم اشهد عليه.
فقتله أبو عامر.
ثم حمل عليه آخر فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الاسلام ويقول: اللهم اشهد.
عليه.
فقتله أبو عامر، ثم جعلوا يحملون عليه وهو يقول ذلك حتى قتل تسعة وبقى العاشر،
__________
(1) السربال: القميص.
(2) غبا: يوما بعد يوم.
والظاهرة: أن يصبحهم كل يوم.
والجحفل: الجيش الكثيف.
والذفر: المتغير الرائحة من صدأ الحديد.
(3) السمادير: ضعف البصر أو شئ يتراءى للانسان من ضعف بصره.
(41 - السيرة - 3) (*)
فحمل على أبى عامر وحمل عليه
أبو عامر وهو يدعوه إلى الاسلام ويقول: اللهم اشهد عليه.
فقال الرجل: اللهم لا تشهد على.
فكف عنه أبو عامر فأفلت فأسلم بعد فحسن إسلامه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
رآه قال: " هذا شريد أبى عامر ".
قال: ورمى أبا عامر أخوان: العلاء وأوفى ابنا الحارث من بنى جشم بن معاوية، فأصاب
أحدهما قلبه والآخر ركبته فقتلاه، وولى الناس أبو موسى فحمل عليهما فقتلهما، فقال
رجل من بنى جشم [ بن معاوية ] (1) يرثيهما: إن الرزية قتل العلا * ء وأوفى جميعا
ولم يسندا
هما القاتلان أبا عامر * وقد كان داهية أربدا (2) هما تركاه لدى معرك * كأن على
عطفه مجسدا (3) فلم ير في الناس مثليهما * أقل عثارا وأرمى يدا وقال البخاري: حدثنا
محمد بن العلاء، وحدثنا أبو أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن أبى بردة، عن أبى موسى
قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى
أوطاس فلقى دريد بن الصمة فقتل دريد وهزم الله أصحابه.
قال أبو موسى: وبعثنى مع أبى عامر، فرمى أبو عامر في ركبته، رماه جشمى بسهم فأثبته
في ركبته.
قال: فانتهيت إليه فقلت: يا عم من رماك ؟ فأشار إلى أبى موسى فقال: ذاك قاتلي الذى
رماني.
فقصدت له فلحقته، فلما رأني ولى فاتبعته وجعلت أقول له: ألا تستحى ألا تثبت ؟ فكف
فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لابي عامر: قتل الله صاحبك، قال: فانتزع
هذا السهم.
فنزعته فنزا منه الماء.
قال: يابن أخى أقرئ
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الاربد: الاسد أو الحية الخبيثة.
(3) المجسد: الثوب المصبوغ بالزعفران.
(*)
رسول الله صلى الله عليه وسلم
السلام وقل له: استغفر لى.
واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرا ثم مات.
فرجعت فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته على سرير مزمل وعليه فراش
قد أثر رمال السرير بظهره وجنبيه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبى عامر وقوله: قل له:
استغفر لى.
قال: فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: " اللهم اغفر لعبيد أبى عامر "
ورأيت بياض إبطيه ثم قال: " اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك - أو
من الناس " فقلت: ولى فاستغفر.
فقال: " اللهم اغفر لعبدالله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما
".
قال أبو بردة: إحداهما لابي عامر والاخرى لابي موسى رضى الله عنهما.
ورواه مسلم عن أبى كريب محمد بن العلاء، وعبد الله بن أبى براد، عن أبى أسامة به
نحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان - هو الثوري - عن عثمان البتى،
عن أبى الخليل، عن أبى سعيد الخدرى، قال: أصبنا نساء من سبى أوطاس ولهن أزواج،
فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه
الآية: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " قال: فاستحللنا بها
فروجهن.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث عثمان البتى به.
وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث شعبة، عن قتادة عن أبى الخليل، عن أبى سعيد الخدرى.
وقد رواه الامام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبى عروبة، زاد
مسلم وشعبة والترمذي من حديث همام عن يحيى، ثلاثتهم عن قتادة، عن أبى الخليل، عن
أبى علقمة الهاشمي عن أبى سعيد، أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا
سبايا يوم أوطاس لهن
أزواج من أهل الشرك، فكان
أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا من غشيانهن، فنزلت هذه
الآية في ذلك: " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ".
وهذا لفظ أحمد بن حنبل.
فزاد في هذا الاسناد أبا علقمة الهاشمي، وهو ثقة وكان هذا هو المحفوظ والله أعلم.
وقد استدل جماعة من السلف بهذه الآية الكريمة على أن بيع الامة طلاقها.
روى ذلك عن ابن مسعود وأبى بن كعب وجابر بن عبدالله وابن عباس وسعيد بن المسيب
والحسن البصري.
وخالفهم الجمهور مستدلين بحديث بريرة حيث بيعت ثم خيرت في فسخ نكاحها أو
إبقائه، فلو كان بيعها طلاقا لها لما خيرت.
وقد تقصينا الكلام على ذلك في التفسير بما فيه كفاية.
وسنذكره إن شاء الله في الاحكام الكبير.
وقد استدل جماعة من السلف على إباحة الامة المشركة بهذا الحديث في سبايا أوطاس.
وخالفهم الجمهور وقالوا: هذه قضية عين، فلعلهن أسلمن أو كن كتابيات.
وموضع تقرير ذلك في الاحكام الكبير إن شاء الله تعالى.
فصل فيمن استشهد يوم حنين وبسرية أوطاس أيمن ابن أم أيمن مولى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو أيمن بن عبيد، وزيد بن زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد، جمح به
فرسه الذى يقال له الجناح فمات، وسراقة ابن مالك بن الحارث بن عدى الانصاري من بنى
العجلان، وأبو عامر الاشعري أمير سرية أوطاس، فهؤلاء أربعة رضى الله عنهم.
فصل فيما قيل من الاشعار في
غزوة هوازن فمن ذلك قول بجير بن زهير بن أبى سلمى: لولا الاله وعبده وليتم * حين
استخف الرعب كل جبان بالجزع يوم حيالنا أقراننا * وسوابح يكبون للاذقان من بين ساع
ثوبه في كفه * ومقطر بسنابك ولبان (1) والله أكرمنا وأظهر ديننا * وأعزنا بعبادة
الرحمن والله أهلكهم وفرق جمعهم * وأذلهم بعبادة الشيطان قال ابن هشام: ويروى فيها
بعض الرواة: إذ قام عم نبيكم ووليه * يدعون يالكتيبة الايمان أين الذين هم أجابوا
ربهم * يوم العريض وبيعة الرضوان
وقال عباس بن مرداس السلمى: فإنى والسوابح يوم جمع * وما يتلو الرسول من الكتاب
لقد أحببت ما لقيت ثقيف * بجنب الشعب أمس من العذاب هم رأس العدو من أهل نجد *
فقتلهم ألذ من الشراب هزمنا الجمع جمع بنى قسى * وحكت بركها ببنى ئاب (2) وصرما من
هلال غادرتهم * بأوطاس تعفر بالتراب ولو لاقين جمع بنى كلاب * لقام نساؤهم والنقع
كابى (3) ركضنا الخيل فيهم بين بس * إلى الاورال تنحط بالنهاب (4)
__________
(1) المقطر: الملقى على أحد قطريه، أي أحد جانبيه.
والسنابك: أطراف الحوافر.
واللبان: الصدر.
(2) البرك: الصدر.
وحكت بركها: كناية عن شدة الحرب.
(3) النقع: الغبار.
والكابى: المرتفع.
(4) بس: جبل قرب ذات عرق.
والاورال: أجبل ثلاثة سود في جوف الرمل وتنحط: تخرج صوتا من الثقل والاعياء
والنهاب: الغنائم.
(*)
بذى لجب رسول الله فيهم * كتيبته
تعرض للضراب وقال عباس بن مرداس أيضا: يا خاتم النباء إنك مرسل * بالحق كل هدى
السبيل هداكا إن الاله بنى عليك محبة * في خلقه ومحمدا سماكا ثم الذين وفوا بما
عاهدتهم * جند بعثت عليهم الضحاكا رجلا به ذرب السلاح كأنه * لما تكنفه العدو
يراكا (1) يغشى ذوى النسب القريب وإنما * يبغى رضا الرحمن ثم رضاكا أنبئك أنى قد
رأيت مكره * تحت العجاجة يدمغ الاشراكا
طورا يعانق باليدين وتارة * يفرى الجماجم صارما فتاكا [ يغشى به هام الكماة ولو
ترى * منه الذى عاينت كان شفاكا ] (2) وبنو سليم معنقون أمامه * ضربا وطعنا في
العدو دراكا (3) يمشون تحت لوائه وكأنهم * أسد العرين أردن ثم عراكا ما يرتجون من
القريب قرابة * إلا لطاعة ربهم وهواكا هذى مشاهدنا التى كانت لنا * معروفة وولينا
مولاكا وقال عباس بن مرداس أيضا (4): عفا مجدل من أهله فمتالع * فمطلى أريك قد خلا
فالمصانع (5) ديار لنا يا جمل إذ جل عيشنا * رخى وصرف الدهر للحى جامع حبيبة ألوت
بها غربة النوى * لبين فهل ماض من العيش راجع
__________
(1) الذرب: الحدة والمضاء.
وتكنفه: أحاط به.
(2) من ابن هشام.
(3) معنقون: مسرعون.
والدراك: الطعن المتتابع.
(4) من هنا إلى آخر هذا الفصل سقط من ت.
(5) مجدل ومتالع: موضعان.
والمطلى، يقصر ويمد: مسيل ضيق من الارض.
أو الارض السهلة وأريك: واد.
(*)
فإن تبتغى الكفار غير ملومة *
فإنى وزير للنبى وتابع دعانا إليه خير وفد علمتهم * خزيمة والمرار منهم وواسع
فجئنا بألف من سليم عليهم * لبوس لهم من نسج داود رائع نبايعه بالاخشبين وإنما *
يد الله بين الاخشبين نبايع فجسنا مع المهدى مكة عنوة * بأسيافنا والنقع كاب وساطع
علانية والخيل يغشى متونها * حميم وآن من دم الجوف ناقع
ويوم حنين حين سارت هوازن * إلينا وضاقت بالنفوس الاضالع صبرنا مع الضحاك لا
يستفزنا * قراع الاعادي منهم والوقائع أمام رسول الله يخفق فوقنا * لواء كخذروف
السحابة لامع (1) عشية ضحاك بن سفيان معتص * بسيف رسول الله والموت كانع (2) نذود
أخانا عن أخينا ولو نرى * مصالا لكنا الاقربين نتابع (3) ولكن دين الله دين محمد *
رضينا به فيه الهدى والشرائع أقام به بعد الضلالة أمرنا * وليس لامر حمه الله دافع
وقال عباس أيضا: تقطع باقى وصل أم مؤمل * بعاقبة واستبدلت نية خلفا (4) وقد حلفت
بالله لا تقطع القوى * فما صدقت فيه ولا برت الحلفا خفافية بطن العقيق مصيفها *
وتحتل في البادين وجرة فالعرفا (5) فإن تتبع الكفار أم مؤمل * فقد زودت قلبى على
نأيها شغفا
__________
(1) الخذروف: برق لامع في السحاب.
(2) معتص: ضارب.
والكانع: القريب.
(3) يريد أنه من بنى سليم، وسليم من قيس كما أن هوازن من قيس.
والمصال: مفعل من الصولة.
(4) نية: من النوى وهو البعد.
(5) الخفافية: نسبة إلى خفاف: حى من سليم والبادون: المقيمون في البادية.
(*)
وسف ينبئها الخبير بأننا *
أبينا ولم نطلب سوى ربنا حلفا وأنا مع الهادى النبي محمد * وفينا ولم يستوفها معشر
ألفا بفتيان صدق من سليم أعزة * أطاعوا فما يعصون من أمره حرفا خفاف وذكوان وعوف
تخالهم * مصاعب زافت في طروقتها كلفا
كأن نسيج الشهب والبيض ملبس * أسودا تلاقت في مراصدها غضفا (1) بنا عز دين الله
غير تنحل * وزدنا على الحى الذى معه ضعفا بمكة إذ جئنا كأن لواءنا * عقاب أرادت
بعد تحليقها خطفا على شخص الابصار تحسب بينها * إذا هي جالت في مراودها عزفا غداة
وطئنا المشركين ولم نجد * لامر رسول الله عدلا ولا صرفا بمعترك لا يسمع القوم وسطه
* لنا زجمة إلا التذامر والنقفا (2) ببيض نطير الهام عن مستقرها * وتقطف أعناق
الكماة بها قطفا فكائن تركنا من قتيل ملحب * وأرملة تدعو على بعلها لهفا (3) رضا
الله ننوى لا رضا الناس نبتغى * ولله ما يبدو جميعا وما يخفى وقال عباس أيضا رضى
الله عنه: ما بال عينك فيها عائر سهر * مثل الحماطة أغضى فوقها الشفر (4) عين
تأوبها من شجوها أرق * فالماء يغمرها طورا وينحدر كأنه نظم در عند ناظمه * تقطع
السلك منه فهو منتثر يا بعد منزل من ترجو مودته * ومن أتى دونه الصمان فالحفر (5)
__________
(1) الغصف: المسترخية أجفانها على أعينها غضبا وكبرا.
(2) الزجمة: النبسة بكلمة.
والنقف: كسر الهامة عن الدماغ أو ضربها أشد الضرب.
(3) الملحب: المقطع (4) العائر: كل ما أعل العين: والحماطة: عشب خشن المس أو تبن
الذرة.
والشفر: أصل منبت الشعر في الجفن (5) الصمان والحفر موضعان.
(*)
دع ما تقدم من عهد الشباب فقد
* ولى الشباب وزار الشيب والزعر (1) واذ كربلاء سليم في مواطنها * وفى سليم لاهل
الفخر مفتخر
قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا * دين الرسول وأمر الناس مشتجر لا يغرسون فسيل النخل
وسطهم * ولا تخاور في مشتاهم البقر (2) إلا سوابح كالعقبان مقربة * في دارة حولها
الاخطار والعكر (3) تدعى خفاف عوف في جوانبها * وحى ذكوان لا ميل ولا ضجر الضاربون
جنود الشرك ضاحية * ببطن مكة والارواح تبتدر حتى رفعنا وقتلاهم كأنهم * نخل بظاهرة
البطحاء منقعر ونحن يوم حنين كان مشهدنا * للدين عزا وعند الله مدخر إذ نركب الموت
مخضرا بطائنه * والخيل ينجاب عنها ساطع كدر تحت اللواء مع الضحاك يقدمنا * كما مشى
الليث في غاباته الخدر في مأزق من مجر الحرب كلكلها * تكاد تأفل منه الشمس والقمر
وقد صبرنا بأوطاس أسنتنا * لله ننصر من شئنا وننتصر حتى تأوب أقوام منازلهم * لولا
المليك ولولا نحن ما صدروا فما ترى معشرا قلوا ولا كثروا * إلا قد اصبح منا فيهم
أثر وقال عباس أيضا رضى الله عنه: يا أيها الرجل الذى تهوى به * وجناء مجمرة
المناسم عرمس (4)
__________
(1) الزعر: قلة الشعر.
(2) الفسيل: صغار النخل: والتحاور: ارتفاع أصوات البقر من الخوار.
(3) المقربة: التى تدنى وتقرب وتكرم ولا تترك.
والدارة: العرصة، وكل أرض واسعة بين جبال والعكر والاخطار: الابل الكثيرة.
(4) الوجناء: البارزة الوجنات، والمناسم: أطراف خف البعير والمجمرة: المستوية.
والعرمس: الناقة الشابة.
(*)
إما أتيت على النبي فقل له *
حقا عليك إذا اطمأن المجلس يا خير من ركب المطى ومن مشى * فوق التراب إذا تعد
الانفس إنا وفينا بالذى عاهدتنا * والخيل تقدع بالكماة وتضرس (1) إذ سال من أفناء
بهثة كلها * جمع تظل به المخارم ترجس (2) حتى صبحنا أهل مكة فيلقا * شهباء يقدمها
الهمام الاشوس (3) من كل أغلب من سليم فوقه * بيضاء محكمة الدخال وقونس (4) يروى
القناة إذا تجاسر في الوغى * وتخاله أسدا إذا ما يعبس يغشى الكتيبة معلما وبكفه *
عضب يقد به ولدن مدعس (5) وعلى حنين قد وفى من جمعنا * ألف أمد به الرسول عرندس
كانوا أمام المؤمنين دريئة * والشمس يومئذ عليهم أشمس (6) نمضى ويحرسنا الاله
بحفظه * والله ليس بضائع من يحرس ولقد حبسنا بالمناقب محبسا * رضى الاله به فنعم
المحبس وغداة أوطاس شددنا شدة * كفت العدو وقيل منها يا احبسوا تدعو هوازن بالاخوة
بيننا * ثدى تمد به هوازن أيبس حتى تركنا جمعهم وكأنه * عير تعاقبه السباع مفرس
وقال أيضا رضى الله عنه: من مبلغ الاقوام أن محمدا * رسول الاله راشد حيث يمما
__________
(1) تقدع: تكبح.
وتضرس: تجرح.
(2) بهثة: حى من سليم.
والمخارم: الطرق في الجبال.
وترجس: تهتز.
(3) الاشوس: المتكبر.
(4) الدخال: نسج الدرع.
(5) المدعس: السريع الطعن.
(6) الدريئة: الكتيبة المدافعة.
(*)
دعا ربه واستنصر الله وحده *
فأصبح قد وفى إليه وأنعما سرينا وواعدنا قديدا محمدا * يؤم بنا أمرا من الله محكما
تماروا بنا في الفجر حتى تبينوا * مع الفجر فتيانا وغابا مقوما على الخيل مشدودا
علينا دروعنا * ورجلا كدفاع الاتى عرمرما (1) فإن سراة الحى إن كنت سائلا * سليم
وفيهم منهم من تسلما وجند من الانصار لا يخذلونه * أطاعوا فما يعصونه ما تكلما فإن
تك قد أمرت في القوم خالدا * وقدمته فإنه قد تقدما بجند هداه الله أنت أميره *
تصيب به في الحق من كان أظلما حلفت يمينا برة لمحمد * فأكملتها ألفا من الخيل
ملجما وقال نبى المؤمنين تقدموا * وحب إلينا أن نكون المقدما وبتنا بنهي المستدير
ولم يكن * بنا الخوف إلا رغبة وتحزما (2) أطعناك حتى أسلم الناس كلهم * وحتى صبحنا
الجمع أهل يلملما يضل الحصان الابلق الورد وسطه * ولا يطمئن الشيخ حتى يسوما سمونا
لهم ورد القطا زفه ضحى * وكل تراه عن أخيه قد احجما لدن غدوة حتى تركنا عشية *
حنينا وقد سالت دوامعه دما إذا شئت من كل رأيت طمرة * وفارسها يهوى ورمحا محطما
(3) وقد أحرزت منا هوازن سربها * وحب إليها أن نخيب ونحرما هكذا أورد الامام محمد
بن إسحاق هذه القصائد من شعر عباس بن مرداس السلمى رضى الله عنه، وقد تركنا بعض ما
أورده من القصائد خشية الاطالة وخوف الملالة، ثم أورد من شعر غيره أيضا، وقد حصل
ما فيه كفاية من ذلك.
والله أعلم.
__________
(1) الرجل: المشاة.
والاتي: السيل الغريب والدفاع: ما يدفعه السيل.
(2) النهى: الغدير.
(3) الطمرة: الفرس السريعة الجرى.
(*)
بسم الله الرحمن الرحيم غزوة
الطائف قال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
حنين وحاصر الطائف في شوال سنة ثمان.
وقال محمد بن إسحاق: ولما قدم فل ثقيف الطائف أغلقوا عليهم أبواب مدينتها وصنعوا
الصنائع للقتال.
ولم يشهد حنينا ولا حصار الطائف عروة بن مسعود ولا غيلان بن سلمة، كانا بجرش
يتعلمان صنعة الدبابات والمجانيق والضبور (1).
قال: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف حين فرغ من حنين، فقال كعب
بن مالك في ذلك: قضينا من تهامة كل ريب * وخيبر ثم أجممنا السيوفا نخيرها ولو نطقت
لقالت * قواطعهن: دوسا أو ثقيفا فلست لحاضن إن لم تروها * بساحة داركم منا ألوفا
وننتزع العروش ببطن وج * وتصبح دوركم منكم خلوفا ويأتيكم لنا سرعان خيل * يغادر
خلفه جمعا كثيفا إذا نزلوا بساحتكم سمعتم * لها مما أناخ بها رجيفا بأيديهم قواضب
مرهفات * يزرن المصطلين بها الحتوفا
__________
(1) الضبور: الدبابات التى تقرب للحصون لتنقب من تحتها (*)
كأمثال العقائق أخلصتها *
قيون الهند لم تضرب كتيفا (1) تخال جدية الابطال فيها * غداة الزحف جاديا مدوفا
(2) أجدهم أليس لهم نصيح * من الاقوام كان بنا عريفا يخبرهم بأنا قد جمعنا * عتاق
الخيل والنجب الطروفا (3) وأنا قد أتيناهم بزحف * يحيط بسور حصنهم صفوفا رئيسهم
النبي وكان صلبا * نقى القلب مصطبرا عزوفا رشيد الامر ذا حكم وعلم * وحلم لم يكن
نزقا خفيفا نطيع نبينا ونطيع ربا * هو الرحمن كان بنا رؤوفا فإن تلقوا إلينا السلم
نقبل * ونجعلكم لنا عضدا وريفا وإن تابوا نجاهدكم ونصبر * ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا
نجالد ما بقينا أو تنيبوا * إلى الاسلام إذعانا مضيفا نجاهد لا نبالي ما لقينا *
أأهلكنا التلاد أم الطريفا (4) وكم من معشر ألبوا علينا * صميم الجذم منهم
والحليفا (5) أتونا لا يرون لهم كفاء * فجدعنا المسامع والانوفا بكل مهند لين صقيل
* نسوقهم بها سوقا عنيفا لامر الله والاسلام حتى * يقوم الدين معتدلا حنيفا وتنسى
اللات والعزى وود * ونسلبها القلائد والشنوفا فأمسوا قد أقروا واطمأنوا * ومن لا
يمتنع يقبل خسوفا
__________
(1) الكتيف: الضبة.
قال السهيلي: وهى صفيحة صغيرة.
(2) الجدية: الدم السائل.
والجادى: الزعفران.
والمدوف: المبلول.
(3) الطروف: الكرام من الخيل.
(4) التلاد: القديم.
والطريف: الجديد.
(5) الجذم: الاصل.
(*)
وقال ابن إسحاق: فأجابه كنانة
بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفى: قلت: قد وفد على رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعد ذلك في وفد ثقيف فأسلم معهم.
قاله موسى بن عقبة وأبو إسحاق وأبو عمر بن عبد البر وابن الاثير وغير واحد، وزعم
المدائني أنه لم يسلم بل صار إلى بلاد الروم فتنصر ومات بها: من كان يبغينا يريد
قتالنا * فإنا بدار معلم لا نريمها (1) وجدنا بها الآباء من قبل ما ترى * وكانت
لنا أطواؤها وكرومها (2) وقد جربتنا قبل عمرو بن عامر * فأخبرها ذو رأيها وحليمها
وقد علمت - إن قالت الحق - أننا * إذا ما أتت صعر الخدود نقيمها نقومها حتى يلين
شريسها * ويعرف للحق المبين ظلومها علينا دلاص من تراث محرق * كلون السماء زينتها
نجومها (3) نرفعها عنا ببيض صوارم * إذا جردت في غمرة لا نشيمها (4) قال ابن
إسحاق: وقال شداد بن عارض الجشمى في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
الطائف: لا تنصروا اللات إن الله مهلكها * وكيف ينصر من هو ليس ينتصر إن التى حرقت
بالسد فاشتعلت * ولم تقاتل لدى أحجارها هدر إن الرسول متى ينزل بلادكم * يظعن وليس
بها من أهلها بشر قال ابن إسحاق: فسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعنى من
حنين إلى الطائف - على نخلة اليمانية، ثم على قرن ثم على المليح ثم على بحرة
الرغاء من لية، فابتنى بها مسجدا فصلى فيه.
__________
(1) المعلم: المشهورة.
(2) أطواؤها: آبارها، جمع طوى.
(3) الدلاص: الدروع الملساء اللينة.
ومحرق: يريد عمرو بن عامر وهو أول من حرق العرب بالنار.
(4) لا نشيمها: لا نغمدها.
(*)
قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو
بن شعيب، أنه عليه السلام أقاد يومئذ ببحرة الرغاء حين نزلها بدم، وهو أول دم أقيد
به في الاسلام، رجل من بنى ليث قتل رجلا من هذيل فقتله به.
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بلية بحصن مالك بن عوف فهدم.
قال ابن إسحاق: ثم سلك في طريق يقال لها الضيقة، فلما توجه رسول الله صلى الله
عليه وسلم سأل عن اسمها فقال: ما اسم هذه الطريق ؟ فقيل: الضيقة.
فقال: بل هي اليسرى.
ثم خرج منها على نخب حتى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة قريبا من مال رجل ثقيف،
فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن تخرج إلينا وإما أن نخرب عليك
حائطك.
فأبى أن يخرج، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخرابه.
وقال ابن إسحاق: عن إسماعيل بن أمية، عن بجير بن أبى بجير، سمعت عبدالله بن عمرو،
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا قبر أبى رغال وهو أبو ثقيف، وكان
من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة التى أصابت قومه بهذا
المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه
".
قال: فابتدره الناس فاستخرجوا معه الغصن.
ورواه أبو داود، عن يحيى بن معين، عن وهب ابن جرير بن حازم، عن أبيه، عن محمد بن
إسحاق به.
ورواه البيهقى من حديث يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن إسماعيل بن أمية به.
* * *
قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل قريبا من الطائف فضرب به عسكره، فقتل ناس من
أصحابه بالنبل، وذلك أن العسكر اقترب من حائط الطائف، فتأخروا إلى موضع مسجده عليه
السلام اليوم بالطائف الذى بنته ثقيف بعد إسلامها، بناه عمرو بن أمية بن وهب،
وكانت فيه سارية لا تطلع عليها الشمس صبيحة كل يوم إلا سمع لها نقيض فيما يذكرون.
قال: فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة.
قال ابن هشام: ويقال سبع عشرة ليلة.
وقال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري: ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
الطائف وترك السبى بالجعرانة وملئت عرش (1) مكة منهم، فنزل رسول الله صلى عليه
وسلم بالاكمة عند حصن الطائف بضع عشرة ليلة يقاتلهم ويقاتلونه من وراء حصنهم، ولم
يخرج إليه أحد منهم غير أبى بكرة بن مسروح أخى زياد لامه، فأعتقه رسول الله صلى
الله عليه وسلم وكثرت الجراح وقطعوا طائفة من أعنابهم ليغيظوهم بها، فقالت لهم
ثقيف: لا تفسدوا الاموال فإنها لنا أو لكم.
وقال عروة: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رجل من المسلمين أن يقطع خمس
نخلات وخمس حبلات (2)، وبعث مناديا ينادى: من خرج إلينا فهو حر.
فاقتحم إليه نفر منهم فيهم أبو بكرة بن مسروح أخو زياد بن أبى سفيان لامه، فأعتقهم
ودفع كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يعوله ويحمله.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتق من جاءه من العبيد قبل مواليهم إذا أسلموا،
وقد أعتق يوم الطائف رجلين.
وقال أحمد: حدثنا عبد القدوس بن بكر بن خنيس، حدثنا الحجاج، عن الحكم،
__________
(1) العرش: الخيام والبيوت التى يستظل بها.
(2) الحبلة: الكرمة.
(*)
عن مقسم عن ابن عباس، قال:
حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف، فخرج إليه عبدان فأعتقهما، أحدهما
أبو بكرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتق العبيد إذا خرجوا إليه.
وقال أحمد أيضا: حدثنا نصر بن رئاب، عن حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف: " من خرج إلينا من العبيد
فهو حر ".
فخرج عبيد من العبيد فيهم أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث تفرد به أحمد، ومداره على الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف.
لكن ذهب الامام أحمد إلى هذا، فعنده أن كل عبد جاء من دار الحرب إلى دار الاسلام
عتق حكما شرعيا مطلقا عاما.
وقال آخرون: إنما كان هذا شرطا لا حكما عاما.
ولو صح الحديث لكان التشريع العام أظهر، كما في قوله عليه السلام: " من قتل
قتيلا فله سلبه ".
وقد قال يونس [ بن بكير ] (1)، عن محمد بن إسحاق، حدثنى عبدالله بن المكرم الثقفى،
قال: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف خرج إليه رقيق من رقيقهم،
أبو بكرة عبد للحارث بن كلدة، والمنبعث، وكان اسمه المضطجع فسماه رسول الله صلى
الله عليه وسلم المنبعث، ويحنس، ووردان، في رهط من رقيقهم فأسلموا، فلما قدم وفد
أهل الطائف فأسلموا قالوا: يا رسول الله رد علينا رقيقنا الذين أتوك.
قال: " لا، أولئك عتقاء الله " ورد على ذلك الرجل ولاء عبده فجعله إليه.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن عاصم، سمعت
أبا عثمان قال: سمعت سعدا - وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله وأبا بكرة، وكان
__________
(1) سقطت من ا.
(42 - السيرة 3) (*)
تسور حصن الطائف في أناس فجاء
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه فالجنة عليه حرام ".
ورواه مسلم من حديث عاصم به.
قال البخاري: وقال هشام: أنبأنا معمر، عن عاصم، عن أبى العالية، أو أبى عثمان
النهدي، قال: سمعت سعدا وأبا بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عاصم: قلت: لقد شهد عندك رجلان حسبك بهما.
قال: أجل: أما أحدهما فأول من رمى بسهم في سبيل الله، وأما الآخر فنزل إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف.
* * * قال محمد بن إسحاق: وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأتان من نسائه،
إحداهما أم سلمة فضرب لهما قبتين، فكان يصلى بينهما، فحاصرهم وقاتلهم قتالا شديدا
وتراموا بالنبل.
قال ابن هشام: ورماهم بالمنجنيق.
فحدثني من أثق به أن النبي صلى الله عليه وسلم أول من رمى في الاسلام بالمنجنيق،
رمى به أهل الطائف.
وذكر ابن إسحاق أن نفرا من الصحابة دخلوا تحت دبابة ثم زحفوا ليحرقوا جدار أهل الطائف،
فأرسلت عليهم سكك الحديد محماة، فخرجوا من تحتها فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلوا منهم
رجالا، فحينئذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع أعناب ثقيف
فوقع الناس فيها يقطعون.
قال: وتقدم أبو سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فناديا ثقيفا بالامان حتى يكلموهم
فأمنوهم فدعوا نساء من قريش وبنى كنانة ليخرجن إليهم، وهما يخافان عليهن السباء
إذا
فتح الحصن، فأبين، فقال لهما
أبو الأسود بن مسعود: ألا أدلكما على خير مما جئتما له ؟ إن مال أبى الاسود حيث قد
علمتما.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم نازلا بواد يقال له العقيق، وهو بين مال بنى
الاسود وبين الطائف، وليس بالطائف مال أبعد رشاء (1) ولا أشد مؤنة ولا أبعد عمارة
منه، وإن محمدا إن قطعه لم يعمر أبدا، فكلماه فليأخذه لنفسه أو ليدعه لله وللرحم.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تركه لهم.
وقد روى الواقدي عن شيوخه نحو هذا وعنده أن سلمان الفارسى هو الذى أشار بالمنجنيق
وعمله بيده.
وقيل قدم به وبدبابتين فالله أعلم.
وقد أورد البيهقى من طريق ابن لهيعة عن أبى الاسود، عن عروة، أن عيينة بن حصن
استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يأتي أهل الطائف فيدعوهم إلى الاسلام
فأذن له، فجاءهم فأمرهم بالثبات في حصنهم وقال: لا يهولنكم قطع ما قطع من الاشجار
في كلام طويل.
فلما رجع قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قلت لهم " ؟ قال:
دعوتهم إلى الاسلام وأنذرتهم النار وذكرتهم بالجنة.
فقال: " كذبت بل قلت لهم كذا وكذا " فقال: صدقت يا رسول الله، أتوب إلى
الله وإليك من ذلك.
وقد روى البيهقى، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس ابن بكير،
عن هشام الدستوائى، عن قتادة، عن سالم بن أبى الجعد، عن معدان ابن أبى طلحة، عن
ابن أبى نجيح السلمى، وهو عمرو بن عبسة رضى الله عنه قال: حاصرنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الطائف فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " من بلغ بسهم فله درجة في الجنة " فبلغت يومئذ ستة عشر سهما.
__________
(1) الرشاء: الحبل (*)
وسمعته يقول: " من رمى
بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم
القيامة، وأيما رجل أعتق رجلا مسلما فإن الله جاعل كل عظم من عظامه وقاء كل عظم
بعظم، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل كل عظم من عظامها وقاء
كل عظم من عظامها من النار ".
ورواه أبو داود والترمذي وصححه النسائي من حديث قتادة به.
* * * وقال البخاري: حدثنا الحميدى، سمع سفيان، حدثنا هشام، عن أبيه، عن زينب بنت
أم سلمة، عن أم سلمة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي مخنث فسمعه
يقول لعبدالله بن أبى أمية: أرأيت إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان
فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخلن هؤلاء عليكن ".
قال ابن عيينة: وقال ابن جريج: المخنث هيت.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه به.
وفى لفظ: " وكانوا يرونه من غير أولى الاربة من الرجال " وفى لفظ: فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا ؟ لا يدخلن عليكن
هؤلاء ".
يعنى إذا كان ممن يفهم ذلك، فهو داخل في قوله تعالى: " أو الطفل الذين لم
يظهروا على عورات النساء (1) ".
والمراد بالمخنث في عرف السلف الذى لا همة له إلى النساء، وليس المراد به الذى
يؤتى، إذ لو كان كذلك لوجب قتله حتما، كما دل عليه الحديث، وكما قتله أبو بكر
الصديق رضى الله عنه.
__________
(1) سورة النور 31 (*)
ومعنى قوله: " تقبل
بأربع وتدبر بثمان " يعنى بذلك عكن بطنها، فإنها تكون أربعا إذا أقبلت ثم
تصير كل واحدة ثنتين إذا أدبرت، وهذه المرأة هي بادية بنت غيلان ابن سلمة من سادات
ثقيف.
وهذا المخنث قد ذكر البخاري عن ابن جريج أن اسمه هيت، وهذا هو المشهور لكن قال
يونس عن ابن إسحاق قال: وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى لخالته بنت
عمرو بن عايد مخنث يقال له ماتع، يدخل على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بيته ولا يرى أنه يفطن لشئ من أمور النساء مما يفطن إليه الرجال، ولا يرى أن له في
ذلك أربا، فسمعه وهو يقول لخالد بن الوليد، يا خالد إن افتتح رسول الله صلى الله
عليه وسلم الطائف فلا تنفلتن منكم بادية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع هذا منه: " ألا أرى هذا يفطن لهذا
" الحديث.
ثم قال لنسائه: " لا يدخلن عليكن " فحجب عن بيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
* * * وقال البخاري: حدثنا على بن عبدالله، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن أبى العباس
الشاعر الاعمى، عن عبدالله بن عمرو قال: لما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم
الطائف فلم ينل منهم شيئا قال: " إنا قافلون غدا إن شاء الله " فثقل
عليهم وقالوا: نذهب ولا نفتح ؟ فقال: " اغدوا على القتال " فغدوا
فأصابهم جراح فقال: " إنا قافلون غدا إن شاء الله " فأعجبهم فضحك النبي
صلى الله عليه وسلم.
وقال سفيان مرة: فتبسم.
ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به وعنده عن عبدالله بن عمر بن الخطاب
واختلف في نسخ البخاري، ففى نسخة كذلك وفى نسخة عن عبدالله بن عمرو بن العاص فالله
أعلم.
وقال الواقدي: حدثنى كثير بن زيد بن الوليد بن رباح، عن أبى هريرة قال:
لما مضت خمس عشرة من حصار
الطائف استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم نوفل بن معاوية الديلى فقال: "
يا نوفل ما ترى في المقام عليهم ؟ " قال: يا رسول ثعلب في جحر إن أقمت عليه
أخذته، وإن تركته لم يضرك.
قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابي بكر وهو محاصر
ثقيفا: " يا أبا بكر، إنى رأيت أنى أهديت لى قعبة مملوءة زبدا فنقرها ديك
فهراق ما فيها " فقال أبو بكر رضى الله عنه: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما
تريد.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنا لا أرى ذلك ".
قال: ثم إن خولة بنت حكيم السلمية، وهى امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله
أعطني إن فتح الله عليك حلى بادية بنت غيلان بن سلمة أو حلى الفارعة بنت عقيل -
وكانت من أحلى نساء ثقيف - فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "
وإن كان لم يؤذن في ثقيف يا خويلة ؟ ".
فخرجت خولة فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله ما حديث حدثتنيه خولة، زعمت أنك قلته ؟ قال: " قد قلته
" قال: أو ما أذن فيهم ؟ قال: لا.
قال: أفلا أؤذن بالرحيل ؟ قال: بلى.
فأذن عمر بالرحيل، فلما استقبل الناس نادى سعيد بن عبيد بن أسيد بن أبى عمرو ابن
علاج: ألا إن الحى مقيم.
قال: يقول عيينة بن حصن: أجل، والله مجدة كراما.
فقال له رجل من المسلمين: قاتلك الله يا عيينة ! أتمدح المشركين بالامتناع من رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد جئت تنصره ؟ فقال: إنى والله ما جئت لاقاتل ثقيفا
معكم،
ولكن أردت أن يفتح محمد الطائف فأصيب من ثقيف جارية أطؤها لعلها تلد لى رجلا، فإن
ثقيفا مناكير (1).
* * *
__________
(1) المناكير: ذوو الدهاء.
(*)
وقد روى ابن لهيعة عن أبى
الاسود، عن عروة قصة خولة بنت حكيم، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال:
وتأذين عمر بالرحيل.
قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ألا يسرحوا ظهرهم، فلما أصبحوا
ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودعا حين ركب قافلا فقال: "
اللهم اهدهم واكفنا مؤنتهم ".
وروى الترمذي من حديث عبدالله بن عثمان بن خثيم، عن أبى الزبير، عن جابر قالوا: يا
رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم.
فقال: " اللهم اهد ثقيفا ".
ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
وروى يونس عن ابن إسحاق، حدثنى عبدالله بن أبى بكر وعبد الله بن المكرم، عمن
أدركوا من أهل العلم: قالوا: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ثلاثين
ليلة أو قريبا من ذلك، ثم انصرفوا عنهم ولم يؤذن فيهم، فقدم المدينة فجاءه وفدهم
في رمضان فأسلموا.
وسيأتى ذلك مفصلا في رمضان من سنة تسع إن شاء الله.
* * * وهذه تسمية من استشهد من المسلمين بالطائف فيما قاله ابن إسحاق: فمن قريش،
سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية، وعرفطة بن جناب حليف لبنى أمية بن الاسد بن الغوث،
وعبد الله بن أبى بكر الصديق رمى بسهم فتوفى منه بالمدينة بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة المخزومى من رمية رميها يومئذ، وعبد الله بن
عامر بن ربيعة حليف لبنى عدى، والسائب بن الحارث بن قيس ابن عدى السهمى، وأخوه
عبدالله، وجليحة بن عبدالله من بنى سعد بن ليث.
ومن الانصار ثم من الخزرج ثابت بن الجذع الاسلمي، والحارث بن سهل بن أبى صعصعة
المازنى،
والمنذر بن عبدالله من بنى
ساعدة.
ومن الاوس رقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان بن معاوية فقط.
فجميع من استشهد يومئذ اثنا عشر رجلا، سبعة من قريش وأربعة من الانصار، ورجل من
بنى ليث رضى الله عنهم أجمعين.
* * * قال ابن إسحاق: ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا عن الطائف
قال بجير بن زهير بن أبى سلمى يذكر حنينا والطائف: كانت علالة يوم بطن حنين *
وغداة أوطاس ويوم الابرق جمعت بإغواء هوازن جمعها * فتبددوا كالطائر المتمزق لم
يمنعوا منا مقاما واحدا * إلا جدارهم وبطن الخندق ولقد تعرضنا لكيما يخرجوا *
فاستحصنوا منا بباب مغلق ترتد حسرانا إلى رجراجة * شهباء تلمع بالمنايا فيلق (1) ملمومة
خضراء لو قذفوا بها * حصنا لظل كأنه لم يخلق مشى الضراء على الهراس كأننا * قدر
تفرق في القياد ويلتقى (2) في كل سابغة إذا ما استحصنت * كالنهي هبت ريحه المترقرق
جدل تمس فضولهن نعالنا * من نسج داود وآل محرق وقال أبو داود: حدثنا عمر بن الخطاب
أبو حفص، حدثنا الفريابى، حدثنا أبان،
حدثنا عمرو - هو ابن عبد الله بن أبى حازم - حدثنا عثمان بن أبى حازم، عن أبيه، عن
جده صخر - هو أبو العيلة الاحمسي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا ثقيفا،
__________
(1) الرجراجة: الكثيرة.
(2) الضراء: الكلاب.
والهراس: شجر شائك كالنيق.
(*)
فلما أن سمع ذلك صخر ركب في
خيل يمد النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد انصرف ولم يفتح، فجعل صخر حينئذ عهدا
وذمة لا أفارق هذا القصر حتى ينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يفارقهم حتى نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب إليه صخر: أما
بعد فإن ثقيفا قد نزلت على حكمك يا رسول الله وأنا مقبل بهم وهم في خيلى.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة جامعة فدعا لاحمس عشر دعوات: "
اللهم بارك لاحمس في خيلها ورجالها ".
وأتى القوم فتكلم المغيرة بن شعبة فقال: يا رسول الله إن صخرا أخذ عمتى ودخلت فيما
دخل فيه المسلمون فدعاه فقال: " يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا دماءهم
وأموالهم، فادفع إلى المغيرة عمته " فدفعها إليه.
وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء لبنى سليم قد هربوا عن الاسلام وتركوا ذلك
الماء، فقال: يا رسول الله أنزلنيه أنا وقومي.
قال: " نعم " فأنزله وأسلم - يعنى الاسلميين، فأتوا صخرا فسألوه أن يدفع
إليهم الماء فأبى، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله
أسلمنا وأتينا صخرا ليدفع إلينا ماءنا فأبى علينا.
فقال: " يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم فادفع إليهم
ماءهم " قال: نعم يا نبى الله.
فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير عند ذلك حمرة، حياء من أخذه
الجارية وأخذه الماء ! تفرد به أبو داود وفى إسناده اختلاف.
قلت: وكانت الحكمة الالهية تقتضي أن يؤخر الفتح عامئذ لئلا يستأصلوا قتلا، لانه قد
تقدم أنه عليه السلام لما كان خرج إلى الطائف فدعاهم إلى الله تعالى وإلى أن يؤووه
حتى
يبلغ رسالة ربه عزوجل، وذلك
بعد موت عمه أبى طالب فردوا عليه قوله وكذبوه فرجع مهموما فلم يستفق إلا عند قرن
الثعالب، فإذا هو بغمامة وإذا فيها جبريل، فناداه ملك الجبال فقال: يا محمد إن ربك
يقرأ عليك السلام، وقد سمع قول قومك لك وماردوا عليك، فإن شئت أن أطبق عليهم
الاخشبين ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بل أستأني بهم لعل الله أن
يخرج من أصلابهم من يعبده وحده لا يشرك به شيئا ".
فناسب قوله: " بل أستأني بهم " ألا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم وأن
يؤخر الفتح ليقدموا بعد ذلك مسلمين في رمضان من العام المقبل.
كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فصل في مرجعه عليه السلام من
الطائف، وقسمة غنائم هوازن التى أصابها يوم حنين قبل دخوله مكة معتمرا من الجعرانة
قال ابن إسحاق: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف عن الطائف على دحنا
حتى نزل الجعرانة فيمن معه من المسلمين ومعه من هوازن سبى كثير، وقد قال له رجل من
أصحابه يوم ظعن عن ثقيف: يا رسول الله ادع عليهم.
فقال: " اللهم اهد ثقيفا وائت بهم ".
قال: ثم أتاه وفد هوازن بالجعرانة، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
سبى هوازن ستة آلاف من الذرارى والنساء ومن الابل والشاء مالا يدرى عدته.
قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب، وفى رواية يونس بن بكير عنه قال عمرو بن شعيب
عن أبيه، عن جده: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من هوازن
ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة وقد أسلموا، فقالوا: يا
رسول الله إنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا من
الله عليك.
وقام خطيبهم زهير بن صرد أبو صرد فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا
خالاتك وحواضنك اللاتى كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا لابن أبى شمر أو النعمان بن
المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذى أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت رسول
الله خير المكفولين.
ثم أنشأ يقول: امنن علينا رسول الله في كرم * فإنك المرء نرجوه وننتظر
__________
(1) ملحنا: أرضعنا.
(*)
امنن على بيضة قد عاقها قدر *
ممزق شملها في دهرها غير أبقت لنا الدهر هتافا على حزن * على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركها نعماء تنشرها * يا أرجح الناس حلما حين يختبر امنن على نسوة قد كنت
ترضعها * إذ فوك تملؤه من محضها الدرر امنن على نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما
تأتى وما تذر لا تجعلنا كمن شالت نعامته * واستبق منا فإنا معشر زهر إنا لنشكر
آلاء وإن كفرت * وعندنا بعد هذا اليوم مدخر قال: فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟ " فقالوا: يا رسول الله
خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا ؟ بل أبناؤنا ونساؤنا
أحب إلينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما ما كان لى ولبنى
عبدالمطلب فهو لكم، وإذا أنا صليت بالناس فقوموا فقولوا: إنا نستشفع برسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أبنائنا ونسائنا.
فإنى سأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم ".
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر قاموا فقالوا ما أمرهم به
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أما ما كان لى ولبنى عبدالمطلب فهو
لكم " فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت الانصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الاقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا.
وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا.
وقال العباس بن مرداس السلمى: أما أنا وبنو سليم فلا.
فقالت بنو سليم: بل ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال يقول عباس بن مرداس لبنى سليم: وهنتموني ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " من أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستة فرائض من أول فئ نصيبه.
فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم.
ثم كب رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه الناس يقولون: يا رسول الله اقسم علينا
فيئنا.
حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت رداءه فقال: " أيها الناس ردوا على ردائي،
فوالذي نفسي في يده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم، ثم ما
ألفيتموني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا ".
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب بعير فأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين
إصبعيه ثم رفعها فقال: " أيها الناس والله مالى من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا
الخمس والخمس مردود عليكم، فأدوا الخياط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على
أهله
يوم القيامة ".
فجاء رجل من الانصار بكبة (1) من خيوط شعر فقال: يا رسول الله أخذت هذه لاخيط بها
برذعة بعير لى دبر (2).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما حقى منها فلك " فقال الرجل:
أما إذ بلغ الامر فيها فلا حاجة لى بها.
فرمى بها من يده.
وهذا السياق يقتضى أنه عليه السلام رد إليهم سبيهم قبل القسمة، كما ذهب إليه محمد
ابن إسحاق بن يسار، خلافا لموسى بن عقبة وغيره.
* * * وفى صحيح البخاري من طريق الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن
مخرمة ومروان بن الحكم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن
مسلمين فسألوا أن ترد إليهم أموالهم ونساؤهم، فقال لهم رسول الله صلى الله
__________
(1) الكبة: الخيوط المجتمعة.
(2) الدبر: المقروح (*)
عليه وسلم: " معى من
ترون، وأحب الحديث إلى أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبى وإما المال، وقد
كنت استأنيت بكم ".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف، فلما
تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم أموالهم إلا إحدى
الطائفتين قالوا: إنا نختار سبينا.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين وأثنى على الله بما هو أهله ثم
قال: " أما بعد، فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين، وإنى قد رأيت أن أرد
إليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه
إياه من أول مال يفئ الله علينا فليفعل ".
فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله.
فقال لهم: " إنا لا ندرى من أذن منكم
ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم " فرجع الناس فكلمهم
عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بأنهم قد طيبوا
وأذنوا.
فهذا ما بلغنا عن سبى هوازن.
ولم يتعرض البخاري لمنع الاقرع وعيينة، وقومهما، بل سكت عن ذلك، والمثبت مقدم على
النافي فكيف الساكت.
وروى البخاري من حديث الزهري: أخبرني عمر بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أخبره
جبير بن مطعم أنه بينما هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس مقفله من
حنين علقت الاعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، حتى اضطروه إلى شجرة
فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " أعطوني ردائي فلو
كان عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدونى بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا
".
تفرد به البخاري.
وقال ابن إسحاق: وحدثني أبو
وجرة يزيد بن عبيد السعدى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى على بن أبى طالب
جارية يقال لها ريطة بنت هلال بن حيان بن عميرة، وأعطى عثمان بن عفان جارية يقال
لها زينب بنت حيان بن عمرو بن حيان، وأعطى عمر جارية فوهبها من ابنه عبدالله.
وقال ابن إسحاق: فحدثني نافع، عن عبدالله بن عمر قال: بعثت بها إلى أخوالى من بنى
جمح ليصلحوا لى منها ويهيئوها حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم وأنا أريد أن أصيبها إذا
رجعت إليها، قال: فجئت من المسجد حين فرغت فإذا الناس يشتدون فقلت: ما شأنكم ؟
قالوا رد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا وأبناءنا.
قلت: تلكم صاحبتكم في بنى جمح فاذهبوا فخذوها.
فذهبوا إليها فأخذوها.
قال ابن إسحاق: وأما عيينة بن حصن فأخذ عجوزا من عجائز هوازن وقال حين
أخذها: أرى عجوزا إنى لاحسب لها في الحى نسبا وعسى أن يعظم فداؤها.
فلما رد رسول الله صلى الله عليه وسلم السبايا بست فرائض أبى أن يردها، فقال له
زهير بن صرد: خذها عنك فوالله ما فوها ببارد، ولا ثديها بناهد، ولا بطنها بوالد،
ولا زوجها بواجد، ولا درها بماكد (1)، إنك ما أخذتها والله بيضاء غريرة ولا نصفا
وثيرة.
فردها بست فرائض.
* * * قال الواقدي: ولما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بالجعرانة أصاب
كل رجل أربع من الابل وأربعون شاة.
وقال سلمة عن محمد بن إسحاق عن عبدالله بن أبى بكر أن رجلا ممن شهد حنينا قال:
__________
(1) الماكد: الغزير.
(*)
والله إنى لاسير إلى جنب رسول
الله صلى الله عليه وسلم على ناقة لى وفى رجلى نعل غليظة إذ زحمت ناقتي ناقة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأوجعه، فقرع قدمى بالسوط وقال: " أوجعتني فتأخر عنى " فانصرفت فلما كان
الغد إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسني قال: قلت: هذا والله لما كنت أصبت
من رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالامس.
قال: فجئته وأنا أتوقع، فقال: " إنك أصبت رجلى بالامس فأوجعتني فقرعت قدمك
بالسوط فدعوتك لاعوضك منها " فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التى ضربني.
والمقصود من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد إلى هوازن سبيهم بعد القسمة
كما دل عليه السياق وغيره.
وظاهر سياق حديث عمرو بن شعيب الذى أورده محمد بن إسحاق عن أبيه عن جده أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رد إلى هوازن سبيهم قبل القسمة، ولهذا لما رد
السبى وركب علقت الاعراب برسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون له: اقسم علينا
فيئنا حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه فقال: " ردوا على ردائي أيها الناس،
فوالذي نفسي بيده لو كان لكم عدد هذه العضاة نعما لقسمته فيكم ثم لا تجدونى بخيلا
ولا جبانا ولا كذابا ".
كما رواه البخاري عن جبير بن مطعم بنحوه.
وكأنهم خشوا أن يرد إلى هوازن أموالهم كما رد إليهم نساءهم وأطفالهم، فسألوه نسمة
ذلك فقسمها عليه الصلاة والسلام بالجعرانة كما أمره الله عزوجل، وآثر أناسا في
القسمة وتألف أقواما من رؤساء القبائل وأمرائهم، فعتب عليه أناس من الانصار حتى
خطبهم وبين لهم وجه الحكمة فيما فعله تطبيبا لقلوبهم.
وتنقد بعض من لا يعلم من
الجهلة والخوارج كذى الخويصرة وأشباهه قبحه الله، كما سيأتي تفصيله وبيانه في
الاحاديث الواردة في ذلك وبالله المستعان.
* * * قال الامام أحمد: حدثنا عارم، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبى يقول حدثنا
السميط السدوسى، عن أنس بن مالك قال: فتحنا مكة ثم إنا غزونا حنينا فجاء المشركون
بأحسن صفوف رأيت، فصفت الخيل، ثم صفت المقاتلة، ثم صفت النساء من وراء ذلك، ثم صفت
الغنم، ثم النعم.
قال: ونحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف وعلى مجنبة خيلنا خالد بن الوليد، قال:
فجعلت خيلنا تلوذ خلف ظهورنا، قال: فلم نلبث أن انكشف خيلنا وفرت الاعراب ومن نعلم
من الناس، قال فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا للمهاجرين يا للمهاجرين يا
للانصار ؟ قال أنس: هذا حديث عمته (1) قال: قلنا لبيك يا رسول الله.
قال: وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وايم الله ما أتيناهم حتى هزمهم
الله.
قال: فقبضنا ذلك المال ثم انطلقنا إلى الطائف فحاصرناهم أربعين ليلة ثم رجعنا إلى
مكة.
قال: فنزلنا فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى الرجل المائة ويعطى الرجل
المائتين.
قال: فتحدث الانصار بينها: أما من قاتله فيعطيه، وأما من لم يقاتله فلا يعطيه ؟ !
فرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بسراة المهاجرين والانصار أن
يدخلوا عليه ثم قال: " لا يدخلن على إلا أنصارى، أو الانصار " قال:
فدخلنا القبة
حتى ملاناها، قال نبى الله
صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الانصار " أو كما قال: " ما حديث
أتانى ؟ " قالوا: ما أتاك يا رسول الله ؟ قال: " ما حديث أتانى "
قالوا: ما أتاك يا رسول الله ؟ قال: " ألا ترضون أن يذهب الناس بالاموال
وتذهبون برسول الله حتى تدخلوه بيوتكم ؟ " قالوا: رضينا يا رسول الله، قال:
فرضوا أو كما قال.
وهكذا رواه مسلم من حديث معتمر بن سليمان.
وفيه من الغريب قوله: أنهم كانوا يوم هوازن ستة آلاف وإنما كانوا اثنى عشر ألفا،
وقوله: " إنهم حاصروا الطائف أربعين ليلة " وإنما حاصروها قريبا من شهر
ودون العشرين ليلة.
فاالله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا هشام، حدثنا معمر، عن الزهري، حدثنى
أنس بن مالك، قال: قال ناس من الانصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال
هوازن، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يعطى رجالا المائة من الابل، فقالوا: يغفر
الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطى قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم !
قال أنس بن مالك: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الانصار
فجمعهم في قبة أدم ولم يدع معهم غيرهم، فلما اجتمعوا قام النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: " ما حديث بلغني عنكم ؟ " قال فقهاء الانصار: أما رؤساؤنا يا رسول
الله فلم يقولوا شيئا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله
صلى الله عليه وسلم، يعطى قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإنى لاعطى رجالا حديثى عهد بكفر
أتألفهم، أما ترضون أن يذهب
الناس بالاموال وتذهبون
بالنبي إلى رحالكم ؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به " قالوا: يا
رسول الله قد رضينا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " فستجدون أثرة
شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله فإنى على الحوض " قال أنس: فلم يصبروا.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
ثم رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عوف، عن هشام بن زيد، عن جده أنس بن مالك، قال:
لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء
فأدبروا، فقال: " يا معشر الانصار " قالوا: لبيك يا رسول الله وسعديك
لبيك نحن بين يديك.
فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أنا عبدالله ورسوله " فانهزم
المشركون فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الانصار شيئا، فقالوا، فدعاهم فأدخلهم
في قبته فقال: " أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله
؟ " صلى الله عليه وسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو سلك الناس واديا وسلكت الانصار شعبا
لسلكت شعب الانصار ".
وفى رواية للبخاري من هذا الوجه قال: لما كان يوم حنين أقبلت هوازن
وغطفان وغيرهم بن عمهم وذراريهم، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف
والطلقاء، فأدبروا عنه حتى بقى وحده، فنادى يومئذ نداءين لم يخلط بينهما، التفت عن
يمينه فقال: " يا معشر الانصار " قالوا: لبيك يا رسول الله أبشر نحن
معك.
ثم التفت عن يساره فقال: " يا معشر الانصار " فقالوا: لبيك يا رسول الله
أبشر نحن معك، وهو على بغلة بيضاء، فنزل فقال: " أنا عبدالله ورسوله ".
فانهزم المشركون وأصاب يومئذ
مغانم كثيرة فقسم بين المهاجرين والطلقاء ولم يعط الانصار شيئا، فقالت الانصار:
إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا ! فبلغه ذلك فجمعهم في قبة فقال:
" يا معشر الانصار ما حديث بلغني ؟ " فسكتوا فقال: " يا معشر
الانصار ألا ترضون أن يذهب الناس بالدنيا وتذهبون برسول الله تحوزونه إلى بيوتكم ؟
" قالوا: بلى فقال: " لو سلك الناس واديا وسلكت الانصار شعبا لسلكت شعب
الانصار ".
قال هشام: قلت: يا أبا حمزة وأنت شاهد ذلك ؟ قال: وأين أغيب عنه ؟ ثم رواه البخاري
ومسلم أيضا من حديث شعبة عن قتادة عن أنس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
الانصار فقال: " إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإنى أردت أن أجبرهم
وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم ؟
" قالوا: بلى.
قال: " لو سلك الناس واديا وسلكت الانصار شعبا لسلكت وادى الانصار أو شعب
الانصار ".
وأخرجاه أيضا من حديث شعبة عن أبى التياح يزيد بن حميد، عن أنس بنحوه وفيه فقالوا:
والله إن هذا لهو العجب ! إن سيوفنا لتقطر من دمائهم والغنائم تقسم فيهم، فخطبهم
وذكر نحو ما تقدم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس بن مالك، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان وعيينة والاقرع وسهيل بن عمرو في آخرين
يوم حنين، فقالت الانصار: يا رسول الله سيوفنا تقطر من دمائهم وهم يذهبون بالمغنم
؟ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فجمعهم في قبة له حتى فاضت فقال: "
فيكم أحد من
غيركم ؟ " قالوا: لا إلا
ابن أختنا، قال: " ابن أخت القوم منهم " ثم قال: " أقلتم كذا وكذا
؟ " قالوا: نعم.
قال: " أنتم الشعار والناس الدثار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير
وتذهبون برسول صلى الله عليه وسلم إلى دياركم ؟ " قالوا: بلى.
قال: الانصار كرشى وعيبتى، لو سلك الناس واديا وسلكت الانصار شعبا لسلكت شعبهم،
ولولا الهجرة لكنت امرءا من الانصار ".
وقال: قال حماد: أعطى مائة من الابل فسمى كل واحد من هؤلاء.
تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط مسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا ابن أبى عدى، عن حميد، عن أنس، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: " يا معشر الانصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله بى ؟ ألم آتكم
متفرقين فجمعكم الله بى، ألم آتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ " قالوا: بلى
يا رسول الله قال: " أفلا تقولون: جئتنا خائفا فأمناك، وطريدا فآويناك،
ومخذولا فنصرناك ؟ " قالوا: بل لله المن علينا ولرسوله.
وهذا إسناد ثلاثى على شرط الصحيحين.
* * * فهذا الحديث كالمتواتر عن أنس بن مالك.
وقد روى عن غيره من الصحابة.
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا عمرو بن يحيى،
عن عباد بن تميم، عن عبدالله بن زيد بن عاصم، قال: لما أفاء الله على رسوله صلى
الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الانصار شيئا،
فكأنهم وجدوا في أنفسهم إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم فقال: " يا معشر
الانصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بى ؟ وعالة
فأغناكم الله بى ؟ " كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن.
قال: " لو شئتم قلتم:
جئتنا كذا وكذا.
أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ؟ لولا
الهجرة لكنت إمرءا من الانصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادى الانصار
وشعبها، الانصار شعار والناس دثار، إنكم ستلقون بعدى أثرة فاصبروا حتى تلقوني على
الحوض ".
ورواه مسلم من حديث عمرو بن يحيى المازنى به.
وقال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن
لبيد، عن أبى سعيد الخدرى قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم
حنين وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم، ولم يكن في الانصار منها شئ قليل
ولا كثير، وجد هذا الحى من الانصار في أنفسهم حتى قال قائلهم: لقى والله رسول الله
قومه ! فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن
هذا الحى من الانصار قد وجدوا عليك في أنفسهم.
فقال: " فيم ؟ " قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفى سائر
العرب ولم يكن فيهم من ذلك شئ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ " قال:
ما أنا إلا امرؤ من قومي.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فاجمع لى قومك في هذه الحظيرة
فإذا اجتمعوا فأعلمني " فخرج سعد فصرخ فيهم فجمعهم في تلك الحظيرة فجاء رجل
من المهاجرين فأذن له فدخلوا، وجاء آخرون فردهم حتى إذا لم يبق من
الانصار أحد إلا اجتمع له أتاه فقال: يا رسول الله قد اجتمع لك هذا الحى من
الانصار حيث أمرتنى أن أجمعهم.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو
أهله ثم قال: " يا معشر الانصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم
الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ " قالوا: بلى.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ألا تجيبون يا معشر
الانصار ؟ " قالوا: وما نقول يا رسول الله ؟ وبماذا نجيبك ؟ المن لله
ولرسوله.
قال: " والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، وعائلا
فآسيناك، وخائفا فأمناك، ومخذولا فنصرناك " فقالوا: المن لله ولرسوله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أوجدتم في نفوسكم يا معشر الانصار في
لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الاسلام،
أفلا ترضون يا معشر الانصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير وتذهبون
برسول الله إلى رحالكم، فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الانصار
شعبا لسلكت شعب الانصار، ولولا الهجرة لكنت امرءا من الانصار، اللهم ارحم الانصار
وأبناء الانصار وأبناء أبناء الانصار ".
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا بالله ربا ورسوله قسما.
ثم انصرف وتفرقوا.
وهكذا رواه الامام أحمد من حديث ابن إسحاق، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب من هذا
الوجه، وهو صحيح.
وقد رواه الامام أحمد، عن يحيى بن بكير، عن الفضل بن مرزوق، عن عطية بن سعد
العوفى، عن أبى سعيد الخدرى، قال رجل من الانصار لاصحابه: أما والله لقد كنت
أحدثكم أنه لو استقامت الامور قد آثر عليكم، قال: فردوا عليه ردا عنيفا
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقال لهم أشياء لا أحفظها، قالوا:
بلى يا رسول الله، قال: " وكنتم لا تركبون الخيل " وكلما قال لهم شيئا
قالوا: بلى يا رسول الله ثم ذكر بقية الخطبة كما تقدم.
تفرد به أحمد أيضا.
وهكذا رواه الامام أحمد منفردا به من حديث الاعمش، عن أبى صالح، عن أبى
سعيد بنحوه.
ورواه أحمد أيضا عن موسى بن عقبة عن ابن لهيعة عن أبى الزبير عن جابر مختصرا.
* * * وقال سفيان بن عيينة، عن عمر بن سعيد بن مسروق، عن أبيه، عن عباية بن رافع
بن خديج، عن جده رافع بن خديج، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة
قلوبهم من سبى حنين مائة من الابل، وأعطى أبا سفيان بن حرب مائة، وأعطى صفوان بن
أمية مائة، وأعطى عيينة بن حصن مائة، وأعطى الاقرع بن حابس مائة، وأعطى علقمة بن
علاثة مائة، وأعطى مالك بن عوف مائة، وأعطى العباس بن مرداس دون المائة، ولم يبلغ
به أولئك فأنشأ يقول: أتجعل نهبى ونهب العبيد بين عيينة والاقرع (1) فما كان حصن
ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرئ منهما * ومن تخفض اليوم لا
يرفع وقد كنت في الحرب ذا تدرأ * فلم أعط شيئا ولم أمنع (2) قال: فأتم له رسول
الله صلى الله عليه وسلم مائة.
رواه مسلم من حديث ابن عيينة بنحوه وهذا لفظ البيهقى.
وفى رواية ذكرها موسى بن عقبة وعروة بن الزبير وابن إسحاق فقال:
كانت نهابا تلافيتها * بكرى على المهر في الاجرع (3) وإيقاظي الحى أن يرقدوا * إذا
هجع الناس لم أهجع فأصبح نهبى ونهب العبيد بين عيينة والاقرع
__________
(1) النهب: العطاء من الغنيمة.
(2) ذا تدرأ: ذا دفع.
(3) النهاب: جمع نهب.
والاجرع: الارض ذات الحزونة.
(*)
وقد كنت في الحرب ذا تدرأ *
فلم أعط شيئا ولم أمنع إلا أفائل أعطيتها * عديد قوائمها الاربع (1) وما كان حصن
ولا حابس * يفوقان مرداس في المجمع وما كنت دون امرئ منهما * ومن تضع اليوم لا
يرفع قال عروة وموسى بن عقبة عن الزهري: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال له: " أنت القائل أصبح نهبى ونهب العبيد بين الاقرع وعيينة ؟ "
فقال أبو بكر: ما هكذا قال يا رسول الله، ولكن والله ما كنت بشاعر وما ينبغى لك.
فقال: " كيف قال ؟ " فأنشده أبو بكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" هما سواء ما يضرك بأيهما بدأت " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" اقطعوا عنى لسانه " فخشى بعض الناس أن يكون أراد المثلة به وإنما أراد
النبي صلى الله عليه وسلم العطية.
قال: وعبيد فرسه.
* * * وقال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أسامة، عن بريد بن عبدالله، عن
أبى بردة، عن أبى موسى قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نازل بالجعرانة
بين مكة والمدينة (2) ومعه بلال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال:
ألا تنجز لى ما وعدتني ؟ فقال له " أبشر " فقال: قد أكثرت على من أبشر !
فأقبل على أبى موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال: " رد البشرى فاقبلا أنتما
" ثم دعا
__________
(1) الافائل: الضعاف من الابل.
(2) قال القسطلانى: قال الداودى: وهو وهم والصواب بين مكة والطائف، وبه جزم النووي
وغيره إرشاد السارى 6 / 410.
(*)
بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه
فيه ومج فيه، ثم فال " اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا "
فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر: أفضلا لامكما.
فأفضلاها منه طائفة.
هكذا رواه.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا مالك، عن إسحاق بن عبدالله، عن أنس بن
مالك قال: كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانى غليظ
الحاشية.
فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، قال: مر لى من مال الله الذى عندك،
فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.
* * * وقد ذكر ابن إسحاق الذين أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مائة من
الابل، وهم: أبو سفيان صخر بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحارث بن كلدة
أخو بنى عبد الدار، وعلقمة بن علاثة، والعلاء بن حارثة الثقفى حليف بنى زهرة،
والحارث بن هشام، وجبير بن مطعم، ومالك بن عوف النصرى، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن
عبدالعزى، وعيينة بن حصن، وصفوان بن أمية، والاقرع ابن حابس.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى أن قائلا قال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم من أصحابه: يا رسول الله أعطيت عيينة والاقرع مائة مائة وتركت
جعيل بن سراقة الضمرى ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما والذى
نفس محمد بيده لجعيل خير من طلاع الارض كلهم مثل عيينة والاقرع، ولكن تألفتهما
ليسلما،
ووكلت جعيل بن سراقة إلى
إسلامه.
ثم ذكر ابن إسحاق من أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون المائة ممن يطول
ذكره.
وفى الحديث الصحيح عن صفوان بن أمية أنه قال: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعطينى من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إلى حتى ما خلق الله شيئا أحب إلى منه.
ذكر قدوم مالك بن عوف النصرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد هوازن وسألهم عن مالك ابن عوف: ما فعل ؟
فقالوا: هو بالطائف مع ثقيف.
فقال: " أخبروه إنه إن أتانى مسلما رددت إليه أهله وماله وأعطيته مائة من
الابل ".
فلما بلغ ذلك مالكا انسل من ثقيف حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
بالجعرانة - أو بمكة - فأسلم وحسن إسلامه، فرد عليه أهله وماله.
ولما أعطاه مائة قال مالك بن عوف رضى الله عنه: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في
الناس كلهم بمثل محمد أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها * بالسمهرى وضرب كل مهند (1)
فكأنه ليث على أشباله * وسط الهباءة خادر في مرصد (2) قال: واستعمله رسول الله صلى
الله عليه وسلم على من أسلم من قومه وتلك القبائل ثمالة وسلمة (3) وفهم، فكان
يقاتل بهم ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليه حتى
__________
(1) عردت: اشتدت وضريت.
(2) الهباءة: غبار الحرب.
والخادر: المقيم في عرينه.
(3) هكذا ضبطه السهيلي وقال: والمعروف في قبائل قيس سلمة بالفتح، إلا أن يكونوا من
الازد.
(*)
ضيق عليهم.
وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جرير بن حازم، حدثنا الحسن، حدثنى
عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما ومنع آخرين فكأنهم عتبوا
عليه فقال: " إنى أعطى قوما أخاف هلعهم وجزعهم وأكل قوما إلى ما جعل الله في
قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب ".
قال عمرو: فما أحب أن لى بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم حمر النعم.
زاد أبو عاصم، عن جرير، سمعت الحسن حدثنا عمرو بن تغلب، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أتى بمال - أو سبى - فقسمه بهذا.
وفى رواية للبخاري قال: أتى رسول الله بمال - أو بشئ - فأعطى رجالا وترك رجالا،
فبلغه أن الذين ترك عتبوا، فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد
" فذكر مثله سواء.
تفرد به البخاري (1).
وقد ذكر ابن هشام أن حسان بن ثابت رضى الله عنه قال فيما كان من أمر الانصار
وتأخرهم عن الغنيمة: زاد الهموم فماء العين منحدر * سحا إذا حفلته عبرة درر (2)
وجدا بشماء إذ شماء بهكنة * هيفاء لا ذنن فيها ولا خور (3)
دع عنك شماء إذ كانت مودتها * نزرا وشر وصال الواصل النزر وائت الرسول وقل يا خير
مؤتمن * للمؤمنين إذا ما عدد البشر علام تدعى سليم وهى نازحة * قدام قوم هم آووا
وهم نصروا
__________
(1) هذا الحديث مؤخر في ت بعد القصيدة.
(2) ابن هشام: زادت هموم.
(3) الهكنة: الشابة الغضة.
والذنن: القذر.
والخور: الضعف.
وفى ا: شنباء (*)
سماهم الله أنصارا بنصرهم *
دين الهدى وعوان الحرب تستعر وسارعوا في سبيل الله واعترضوا * للنائبات وما خانوا
وما ضجروا والناس إلب علينا فيك ليس لنا * إلا السيوف وأطراف القنا وزر نجالد
الناس لا نبقى على أحد * ولا نضيع ما توحى به السور ولا تهر جناة الحرب نادينا * ونحن
حين تلظى نارها سعر (1) كما رددنا ببدر دون ما طلبوا * أهل النفاق وفينا ينزل
الظفر ونحن جندك يوم النعف من أحد * إذ حزبت بطرا أحزابها مضر (2) فما ونينا وما
خمنا وما خبروا * منا عثارا وكل الناس قد عثروا
__________
(1) تهر: تكره.
وجناة الحرب: أبطالها.
والسعر، من يوقدون الحرب.
(2) النعف: أسفل الجبل.
(*)
ذكر اعتراض بعض الجهلة من أهل
الشقاق والنفاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسمة العادلة بالاتفاق قال
البخاري: حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الاعمش، عن أبى وائل، عن عبدالله قال: لما
قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسمة حنين قال رجل من الانصار: ما أراد
بها وجه الله.
قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فتغير وجهه ثم قال: " رحمة
الله على موسى، قد أوذى بأكثر من هذا فصبر ".
ورواه مسلم من حديث الاعمش به.
ثم قال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبى وائل عن عبد
الله قال: لما كان يوم حنين آثر النبي صلى الله عليه وسلم ناسا: أعطى الاقرع بن
حابس مائة من الابل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى ناسا فقال رجل: ما أريد بهذه
القسمة وجه الله فقلت: لاخبرن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " رحم الله
موسى قد أوذى بأكثر من هذا فصبر ".
وهكذا رواه من حديث منصور عن المعتمر به.
وفى رواية للبخاري فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه
الله.
فقلت: والله لاخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأتيته فأخبرته فقال: " من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ؟ ! رحم الله موسى
قد أوذى بأكثر من هذا فصبر ".
وقال محمد بن إسحاق: وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، عن مقسم أبى
القاسم مولى عبدالله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب الليثى حتى
أتينا عبدالله بن عمرو بن العاص وهو يطوف بالبيت معلقا نعله بيده، فقلنا له: هل
حضرت رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين كلمه التميمي يوم حنين ؟ قال: نعم جاء رجل من بنى تميم يقال له ذو
الخويصرة فوقف عليه وهو يعطى الناس فقال له: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا
اليوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أجل فكيف رأيت ؟ " قال: لم أرك
عدلت.
قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند
من يكون ! "
فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله ؟ فقال: " دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في
الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد شئ ثم في
القدح فلا يوجد شئ ثم في الفوق فلا يوجد شئ سبق الفرث والدم ".
وقال الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: أتى
رجل بالجعرانة النبي صلى الله عليه وسلم منصرفه من حنين وفى ثوب بلال فضة ورسول
الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطى الناس، فقال: يا محمد اعدل، قال "
ويلك ومن يعدل إذا لم أكن أعدل لقد خبت وخسرت إذا لم أكن أعدل " فقال عمر بن
الخطاب: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق ؟ فقال: " معاذ الله أن يتحدث
الناس أنى أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم يمرقون
منه كما يمرق السهم من الرمية ".
ورواه مسلم عن محمد بن رمح، عن الليث.
وقال أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا قرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر، قال: بينما
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم مغانم حنين إذ قام إليه رجل فقال: اعدل.
فقال: " لقد شقيت إذا لم أعدل ".
ورواه البخاري عن مسلم بن إبراهيم عن قرة بن خالد السدوسى به.
وفى الصحيحين من حديث الزهري،
عن أبى سلمة، عن أبى سعيد قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم فقال: يا رسول الله اعدل، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويلك ومن يعدل إن لم أعدل لقد خبت وخسرت،
إذا لم أعدل فمن يعدل ؟ " فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إيذن لى فيه
فأضرب عنقه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعه فإن له أصحابا يحقر
أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم،
يمرقون من الاسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شئ ثم
إلى رصافه (1) فلا يوجد فيه شئ ثم ينظر إلى نضيه (2) - وهو قدحه - فلا يوجد فيه شئ
ثم ينظر إلى قذذه (3) فلا يوجد فيه شئ، قد سبق الفرث والدم (4)، آيتهم رجل أسود
إحدى عضديه مثل ثدى المرأة أو مثل البضعة تدردر (5) ويخرجون على حين فرقة من الناس
".
قال أبو سعيد: فأشهد أنى سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن على
بن أبى طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس، فأتى به حتى نظرت إليه على
نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى نعت.
ورواه مسلم أيضا من حديث القاسم بن الفضل عن أبى نضرة، عن أبى سعيد به نحوه.
ذكر مجئ أخت رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وهو بالجعرانة واسمها
الشيماء قال ابن إسحاق: وحدثني بعض بنى سعد بن بكر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
__________
(1) الرصاف: جمع رصفة، وهى عقبة تلوى على مدخل النصل في السهم.
(2) النضى: القدح قبل أن يبحث.
(3) القذذ: ريش السهم.
(4) المعنى: أنه مرق عاجلا فلم يعلق به دم.
(5) تدردر: تتحرك وتذهب وتجئ.
(*)
قال يوم هوازن: " إن
قدرتم على نجاد - رجل من بنى سعد بن بكر - فلا يفلتنكم " وكان قد أحدث حدثا.
فلما ظفر به المسلمون ساقوه وأهله وساقوا معه الشيماء بنت الحارث بن عبدالعزى أخت
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة.
قال: فعنفوا عليها في السوق فقالت للمسلمين: تعلمون والله إنى لاخت صاحبكم من
الرضاعة.
فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن عبيد السعدى - هو أبو وجزة - قال: فلما انتهى بها
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إنى أختك من الرضاعة.
قال " وما علامة ذلك ؟ " قالت: عضة عضضتنيها في ظهرى وأنا متوركتك.
قال: فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم العلامة فبسط لها رداءه فأجلسها عليه
وخيرها وقال: إن أحببت فعندي محببة مكرمة، وإن أحببت أن أمتعك وترجعي إلى قومك
فعلت.
قالت: بل تمتعني وتردني إلى قومي.
فمتعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وردها إلى قومها، فزعمت بنو سعد أنه أعطاها
غلاما يقال له مكحول وجارية فزوجت أحدهما الآخر فلم يزل فيهم من نسلهما بقية.
وروى البيهقى من حديث الحكم بن عبدالملك، عن قتادة قال: لما كان يوم فتح هوازن
جاءت جارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا أختك، أنا
شيماء بنت الحارث.
فقال لها: " إن تكوني صادقة فإن بك منى أثرا لا يبلى " قال: فكشفت عن
عضدها فقالت: نعم يا رسول الله وأنت صغير فعضضتني هذه العضة.
قال: فبسط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم رداءه ثم قال: " سلى تعطى واشفعي
تشفعي ".
وقال البيهقى: أنبأنا أبو نصر بن قتادة، أنبأنا عمرو بن إسماعيل بن عبد السلمى،
حدثنا مسلم، حدثنا أبو عاصم، حدثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان، أخبرني عمى عمارة بن
(44 - السيرة 3)
ثوبان، أن أبا الطفيل أخبره
قال: كنت غلاما أحمل عضو البعير، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم نعما
بالجعرانة.
قال: فجاءته امرأة فبسط لها رداءه فقلت: من هذه ؟ قالوا: أمه التى أرضعته.
هذا حديث غريب ولعله يريد أخته، وقد كانت تحضنه مع أمها حليمة السعدية وإن كان
محفوظا فقد عمرت حليمة دهرا، فإن من وقت أن أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى وقت الجعرانة أزيد من ستين سنة، وأقل ما كان عمرها حين أرضعته صلى الله عليه
وسلم ثلاثين سنة، ثم الله أعلم بما عاشت بعد ذلك.
وقد ورد حديث مرسل فيه أن أبويه من الرضاعة قدما عليه.
والله أعلم بصحته.
قال أبو داود في المراسيل: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا ابن وهب، حدثنا
عمرو بن الحارث، أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان جالسا يوما فجاءه أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه
فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه.
وقد تقدم أن هوازن بكمالها متوالية برضاعته من بنى سعد بن بكر وهم شرذمة من هوازن،
فقال خطيبهم زهير بن صرد: يا رسول الله إنما في الحظائر أمهاتك وخالاتك وحواضنك
فامنن علينا من الله عليك.
وقال فيما قال: امنن على نسوة قد كنت ترضعها * إذ فوك يملؤه من محضها درر امنن على
نسوة قد كنت ترضعها * وإذ يزينك ما تأتى وما تذر فكان هذا سبب إعتاقهم من بكرة
أبيهم، فعادت فواضله عليه السلام عليهم قديما وحديثا خصوصا وعموما.
وقد ذكر الواقدي عن إبراهيم
بن محمد بن شرحبيل، عن أبيه قال: كان النضير ابن الحارث بن كلدة من أجمل الناس
فكان يقول: الحمد لله الذى من علينا بالاسلام، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه
وسلم، ولم نمت على ما مات عليه الآباء وقتل عليه الاخوة وبنو العم.
ثم ذكر عداوته للنبى صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين وهم
على دينهم بعد، قال: ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه، فلم
يمكنا ذلك، فلما صار بالجعرانة فوالله إنى لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أنضير ؟ " قلت: لبيك، قال: " هل
لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما خال الله بينك وبينه ؟ " قال: فأقبلت إليه
سريعا فقال: " قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع " قلت: قد أدرى أن لو
كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم زده ثباتا " قال النضير:
فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبى حجر ثباتا في الدين، وتبصرة بالحق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله الذى هداه ".
عمرة الجعرانة في ذى القعدة
قال الامام أحمد: حدثنا بهز و عبد الصمد المعنى قالا: حدثنا همام بن يحيى، حدثنا
قتادة، قال: سألت أنس بن مالك قلت: كم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: حجة
واحدة، واعتمر أربع مرات.
عمرته زمن الحديبية وعمرته في ذى القعدة من المدينة، وعمرته من الجعرانة في ذى
القعدة، حيث قسم غنيمة حنين، وعمرته مع حجته.
ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي من طرق عن همام بن يحيى به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا داود - يعنى العطار - عن عمرو، عن
عكرمة، عن ابن عباس قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر: عمرة
الحديبية، وعمرة القضاء، والثالثة من الجعرانة، والرابعة التى مع حجته.
ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث داود بن عبدالرحمن العطار المكى، عن
عمرو بن دينار به وحسنه والترمذي.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبى زائدة، حدثنا حجاج بن أرطاة،
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: اعتمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر، كل ذلك في ذى القعدة يلبى حتى يستلم الحجر.
غريب من هذا الوجه.
وهذه الثلاث عمر اللاتى وقعن في ذى القعدة ما عدا عمرته مع حجته، فإنها وقعت في ذى
الحجة مع الحجة، وإن أراد ابتداء الاحرام بهن في ذى القعدة فلعله لم يرد عمرة
الحديبية لانه صد عنها ولم يفعلها.
والله أعلم.
قلت: وقد كان نافع ومولاه ابن
عمر ينكران أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة بالكلية وذلك
فيما قال البخاري: حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن
ابن عمر، أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله إنه كان على اعتكاف يوم في
الجاهلية..فأمره أن يفى به.
قال: وأصاب عمر جاريتين من سبى حنين فوضعهما في بعض بيوت مكة، قال: فمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم على سبى حنين فجعلوا يسعون في السكك، فقال عمر: يا عبدالله
انظر ما هذا ؟ قال: من رسول الله صلى الله عليه وسلم على السبى.
قال: اذهب فأرسل الجاريتين.
قال نافع: ولم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة، ولو اعتمر لم يخف
على عبدالله.
وقد رواه مسلم من حديث أيوب السختيانى، عن نافع عن ابن عمر به.
ورواه مسلم أيضا عن أحمد بن عبدة الضبى، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع قال:
ذكر عند ابن عمر عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فقال: لم يعتمر
منها.
وهذا غريب جدا عن ابن عمرو عن مولاه نافع، في إنكارهما عمرة الجعرانة، وقد أطبق
النقلة ممن عداهما على رواية ذلك من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، وذكر ذلك
أصحاب المغازى والسنن كلهم.
وهذا أيضا كما ثبت في الصحيحين من حديث عطاء بن أبى رباح، عن عروة عن عائشة أنها
أنكرت على ابن عمر قوله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب.
وقالت: يغفر الله لابي عبدالرحمن ! ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو
شاهد وما اعتمر في رجب قط.
وقال الامام أحمد: حدثنا ابن
نمير، حدثنا الاعمش، عن مجاهد، قال: سأل عروة ابن الزبير ابن عمر: في أي شهر اعتمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: في رجب.
فسمعتنا عائشة، فسألها ابن الزبير وأخبرها بقول ابن عمر فقالت: يرحم الله أبا
عبدالرحمن ! ما اعتمر عمرة إلا وقد شهدها وما اعتمر عمرة قط إلا في ذى القعدة.
وأخرجه البخاري ومسلم من حديث جرير، عن منصور، عن مجاهد به نحوه.
ورواه أبو داود والنسائي أيضا من حديث زهير، عن أبى إسحاق، عن مجاهد، سئل ابن عمر:
كم اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: مرتين.
فقالت عائشة، لقد علم ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاثا سوى
التى قرنها بحجة الوداع.
قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا مفضل، عن منصور، عن مجاهد قال: دخلت مع
عروة بن الزبير المسجد فإذا ابن عمر مستند إلى حجرة عائشة وأناس يصلون الضحى.
فقال عروة: أبا عبدالرحمن ما هذه الصلاة ؟ قال: بدعة.
فقال له عروة: أبا عبدالرحمن كم اعتمر رسول الله ؟ فقال: أربعا إحداهن في رجب.
قال: وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، فقال لها عروة: إن أبا عبدالرحمن يزعم أن
رسول الله اعتمر أربعا إحداهن في رجب ؟ فقالت: يرحم الله أبا عبدالرحمن، ما اعتمر
النبي صلى الله عليه وسلم
إلا وهو معه، وما اعتمر في رجب قط.
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع، عن الحسن بن موسى، عن شيبان، عن منصور وقال:
حسن صحيح غريب.
وقال الامام أحمد: حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، أخبرني مزاحم بن أبى مزاحم، عن عبد
العزيز بن عبدالله، عن مخرش الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من
الجعرانة ليلا حين أمسى معتمرا فدخل مكة ليلا يقضى عمرته، ثم خرج من تحت ليلته
فأصبح بالجعرانة كبائت حتى إذا زالت الشمس خرج من الجعرانة في بطن سرف،
حتى جاء مع الطريق - طريق
المدينة - بسرف قال مخرش: فلذلك خفيت عمرته على كثير من الناس.
ورواه الامام أحمد عن يحيى بن سعيد، عن ابن جريج كذلك وهو من أفراده.
* * * والمقصود أن عمرة الجعرانة ثابثة بالنقل الصحيح الذى لا يمكن منعه ولا دفعه،
ومن نفاها لا حجة معه في مقابلة من أثبتها.
والله أعلم.
ثم هم كالمجمعين على أنها كانت في ذى القعدة بعد غزوة الطائف وقسم غنائم حنين.
وما رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير قائلا: حدثنا الحسن بن إسحاق
التسترى، حدثنا عثمان بن أبى شيبة، حدثنا محمد بن الحسن الاسدي، حدثنا إبراهيم ابن
طهمان، عن أبى الزبير، عن عمير مولى عبدالله بن عباس، عن ابن عباس قال: لما قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف نزل الجعرانة فقسم بها الغنائم ثم اعتمر
منها، وذلك لليلتين بقيتا من شوال.
فإنه غريب جدا وفى إسناده نظر.
والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل، حدثنا ابن جريج، أخبرني
عطاء، أن صفوان بن يعلى بن أمية أخبره أن يعلى كان يقول: ليتنى أرى رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين ينزل عليه.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وعليه ثوب قد أظل به معه فيه
ناس من أصحابه إذ جاءه أعرابي عليه جبة متضمخ بطيب.
قال: فأشار عمر بن الخطاب إلى يعلى بيده: أن تعال.
فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط كذلك ساعة ثم
سرى عنه فقال: " أين الذى يسألنى عن العمرة آنفا ؟ " فالتمس الرجل فأتى
به، قال: " أما الطيب الذى بك فاغسله ثلاث مرات،
وأما الجبة فانزعها ثم اصنع
في عمرتك كما تصنع في حجك ".
ورواه مسلم من حديث ابن جريج.
وأخرجاه من وجه آخر عن عطاء كلاهما عن صفوان بن يعلى بن أمية به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو أسامة، أنبأنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: دخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء من أعلى مكة، ودخل في العمرة من
كدى.
وقال أبو داود: حدثنا موسى أبو سلمة، حدثنا حماد، عن عبدالله بن عثمان بن خثيم، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من
الجعرانة فرملوا بالبيت ثلاثا ومشوا أربعا وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها
على عواتقهم اليسرى.
تفرد به أبو داود.
ورواه أيضا ابن ماجه من حديث ابن خثيم، عن أبى الطفيل، عن ابن عباس مختصرا.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، حدثنى الحسن بن مسلم، عن
طاوس، أن ابن عباس أخبره أن معاوية أخبره قال: قصرت عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بمشقص.
أو قال: رأيته يقصر عنه بمشقص عند المروة.
وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن جريج به.
ورواه مسلم أيضا من حديث سفيان بن عيينة، عن هشام بن حجير، عن طاوس، عن ابن عباس،
عن معاوية به.
ورواه أبو داود والنسائي أيضا من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس عن أبيه
به.
وقال عبدالله بن الامام أحمد: حدثنى عمرو بن محمد الناقد، حدثنا أبو أحمد الزبيري،
حدثنا سفيان، عن جعفر بن
محمد، عن أبيه، عن ابن عباس، عن معاوية قال: قصرت عن رأس رسول الله صلى الله عليه
وسلم عند المروة.
* * * والمقصود أن هذا إنما يتوجه أن يكون في عمرة الجعرانة.
وذلك أن عمرة الحديبية لم يدخل إلى مكة فيها بل صد عنها كما تقدم بيانه، وأما عمرة
القضاء فلم يكن أبو سفيان أسلم ولم يبق بمكة من أهلها أحد حين دخل رسول الله صلى
الله عليه وسلم بل خرجوا منها، وتغيبوا عنها مدة مقامه عليه السلام بها تلك
الثلاثة الايام، وعمرته التى كانت مع حجته لم يتحلل منها بالاتفاق، فتعين أن هذا
التقصير الذى تعاطاه معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنهما من رأس رسول الله صلى
الله عليه وسلم عند المروة إنما كان في عمرة الجعرانة كما قلنا.
والله تعالى أعلم.
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة
معتمرا وأمر ببقاء الفئ فحبس بمجنة بناحية مر الظهران.
قلت: الظاهر أنه عليه السلام إنما استبقى بعض المغنم ليتألف به من يلقاه من
الاعراب فيما بين مكة والمدينة.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرته انصرف راجعا
إلى المدينة واستخلف عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في
الدين ويعلمهم القرآن.
وذكر عروة وموسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف معاذا مع عتاب بمكة
قبل خروجه إلى هوازن، ثم خلفهما بها حين رجع إلى المدينة.
وقال ابن هشام: وبلغني عن زيد بن أسلم أنه قال: لما استعمل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عتاب بن أسيد على مكة رزقه كل يوم درهما، فقام فخطب الناس فقال: أيها
الناس، أجاع الله كبد من جاع
على درهم ! فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وسلم درهما كل يوم، فليست لى حاجة
إلى أحد.
قال ابن إسحاق: وكانت عمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذى القعدة، وقدم
المدينة في بقية ذى القعدة أو في أول ذى الحجة.
قال ابن هشام: قدمها لست بقين من ذى القعدة فيما قال أبو عمرو المدينى.
قال ابن إسحاق: وحج الناس ذلك العام على ما كانت العرب تحج عليه، وحج بالمسلمين تلك
السنة عتاب بن أسيد وهى سنة ثمان.
قال: وأقام أهل الطائف على شركهم وامتناعهم في طائفهم ما بين ذى القعدة إلى رمضان
من سنة تسع.
إسلام كعب بن زهير بن أبى
سلمى وأبوه هو صاحب إحدى المعلقات السبع، الشاعر ابن الشاعر، وذكر قصيدته التى
سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى بانت سعاد قال ابن إسحاق: ولما قدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم من منصرفه عن الطائف كتب بجير بن زهير بن أبى سلمى إلى
أخيه لابويه كعب بن زهير يخبره أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه، وأن من بقى من شعراء
قريش: ابن الزبعرى وهبيرة بن أبى وهب هربوا (1) في كل وجه، فإن كانت لك في نفسك
حاجة فطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقتل أحدا جاءه تائبا، وإن أنت
لم تفعل فانج إلى نجائك من الارض.
وكان كعب قد قال: ألا بلغا عنى بجيرا رسالة * فويحك (2) فيما قلت ويحك هل لكا فبين
لنا إن كنت لست بفاعل * على أي شئ غير ذلك دلكا على خلق لم ألف يوما أبا له * عليه
وما تلفى عليه أبا لكا فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل إما عثرت لعا لكا (3)
سقاك بها المأمون كأسا روية * فأنهلك المأمون منها وعلكا (4) قال ابن هشام:
وأنشدني بعض أهل العلم بالشعر: من مبلغ عنى بجيرا رسالة * فهل لك فيما قلت بالخيف
هل لكا شربت مع المأمون كأسا روية * فأنهلك المأمون منها وعلكا
__________
(1) ابن هشام: قد هربوا.
(2) ابن هشام: فهل لك.
(3) كلمة تقال للعاثر، دعاء له بالاقالة من عثرته.
(4) أنهلك: سقاك أولا.
وعلك سقاك ثانيا.
والمأمون: يريد به النبي صلى الله عليه وسلم.
(*)
وخالفت أسباب الهدى واتبعته *
على أي شئ ويب غيرك (1) دلكا على خلق لم تلف أما ولا أبا * عليه ولم تدرك عليه أخا
لكا فإن أنت لم تفعل فلست بآسف * ولا قائل إما عثرت لعا لكا قال ابن إسحاق: وبعث
بها إلى بجير، فلما أتت بجيرا كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده
إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع: " سقاك بها المأمون
": " صدق وإنه لكذوب، أنا المأمون " ولما سمع: " على خلق لم
تلف
أما ولا أبا عليه " قال: " أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه ".
قال: ثم كتب بجير إلى كعب يقول له: من مبلغ كعبا فهل لك في التى * تلوم عليها
باطلا وهى أحزم إلى الله لا العزى ولا اللات وحده * فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت * من الناس إلا طاهر القلب مسلم فدين زهير وهو لا شئ
دينه * ودين أبى سلمى على محرم قال: فلما بلغ كعبا الكتاب ضاقت به الارض وأشفق على
نفسه وأرجف به من كان في حاضره من عدوه، وقالوا: هو مقتول.
فلما لم يجد من شئ بدا قال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وذكر فيها خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل
كانت بينه وبينه معرفة من جهينة كما ذكر لى، فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم في صلاة الصبح، فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أشار له إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه.
فذكر لى أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليه ووضع يده في يده،
__________
(1) ويب غيرك: هلكت هلاك غيرك.
(*)
وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يعرفه، فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا
مسلما، فهل أنت قابل منه إن جئتك به ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
نعم " فقال: إذا أنا (1) يا رسول الله كعب بن زهير.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه وثب عليه رجل من الانصار فقال: يا
رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعه عنك، فإنه جاء تائبا نازعا ".
قال: فغضب كعب بن زهير على هذا الحى من الانصار لما صنع به صاحبهم، وذلك أنه لم
يتكلم فيه رجل من المهاجرين إلا بخير.
فقال في قصيدته التى قال حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: بانت سعاد
فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يفد مكبول (2) وما سعاد غداة البين إذ رحلوا *
إلا أغن غضيض الطرف مكحول (3) [ هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة * لا يشتكى قصر منها ولا
طول ] (4) تجلو عوارض ذى ظلم إذا ابتسمت * كأنه منهل بالراح معلول (4) شجت بذى شبم
من ماء محنية * صاف بأبطح أضحى وهو مشمول (5) تنفى الرياح القذى عنه وأفرطه * من
صوب غادية بيض يعاليل (6) فيالها خلة لو أنها صدقت * بوعدها أو لو ان النصح مقبول
__________
(1) ابن هشام: فقال أنا.
(2) بانت: بعدت.
والمتبول: السقيم من الحب.
والمكبول: المقيد.
(3) الاغن: الظبى.
(4) عن ابن هشام.
(4) تجلو: تكشف، والظلم: بريق الاسنان وبياضها.
(5) شجت: مزجت.
والشبم الشديد البرد.
والمحنية: منعطف الوادي.
والمشمول: الذى ضربته ريح شمال حتى برد.
(6) أفرطه: سبق إليه.
والصوب: المطر.
والغادية: السحابة تمطر غدوة.
واليعاليل: السحب البيض (*)
لكنها خلة قد سيط من دمها *
فجع وولع وإخلاف وتبديل (1) فما تدوم على حال تكون بها * كما تلون في أثوابها
الغول وما تمسك بالعهد الذى زعمت * إلا كما يمسك الماء الغرابيل فلا يغرنك ما منت
وما وعدت * إن الامانى والاحلام تضليل كانت مواعيد عرقوب لها مثلا * وما مواعيدها
إلا الاباطيل
أرجو وآمل أن تدنو مودتها * ومالهن إخال الدهر تعجيل (2) أمست سعاد بأرض لا تبلغها
* إلا العتاق النجيبات المراسيل ولن يبلغها إلا عذافرة * فيها على الاين إرقال
وتبغيل (3) من كل نضاخة الذفرى إذا عرقت * عرضتها طامس الاعلام مجهول (4) ترمى
الغيوب بعينى مفرد لهق * إذا توقدت الحزان والميل (5) ضخم مقلدها فعم مقيدها * في
خلقها عن بنات الفحل تفضيل (6) حرف أخوها أبوها من مهجنة * وعمها خالها قوداء
شمليل (7) يمشى القراد عليها ثم يزلقه * منها لبان وأقراب زهاليل (8)
__________
(1) الخلة: الصحبة.
وسيط: خلط.
(2) ابن هشام: وما إخال لدينا منك تنويل.
(3) العذافرة: العظيم الشديد من الابل.
والاين: التعب.
والارقال: الاسراع.
والتبغيل: ضرب من سير الابل.
(4) النضاخة: الغزيرة.
والذفرى: العظم الشاخص خلف الاذن.
وعرضتها: وجهتها.
وطامس الاعلام: المتغير الذى لا يهتدى فيه.
(5) اللهق: الثور الابيض والحزان: جمع حزيز وهو المكان الغليظ المنقاد.
والميل: ما اتسع من الارض (6) المقلد: موضع القلادة من العنق.
والفعم: الممتلئ.
(7) الحرف: الناقة الضامرة أو العظيمة.
والقوداء: الشديدة العنق.
والشمليل: السريعة.
(8) القراد: دويبة.
واللبان: الصدر.
والاقراب: جمع قرب وهو الخاصرة.
والزهاليل: جمع زهلول وهو الاملس (*)
عيرانة قذفت بالنحض عن عرض *
مرفقها عن بنات الزور مفتول (1) قنواء في حرتيها للبصير بها * عتق مبين وفى الخدين
تسهيل (2)
كأنما فات عينيها ومذبحها * من خطمها ومن اللحيين برطيل (3) تمر مثل عسيب النخل ذا
خصل * في غارز لم تخونه الاحاليل (4) تهوى على يسرات وهى لاهية * ذوابل مسهن الارض
تحليل (5) يوما يظل به الحرباء مصطخدا * كأن ضاحيه بالشمس محلول (6) وقال للقوم
حاديهم وقد جعلت * ورق الجنادب يركضن الحصا قيلوا (7) أوب يدى فاقد شمطاء معولة *
قامت فجاوبها نكد مثاكيل (8) نواحة رخوة الضبعين ليس لها * لما نعى بكرها الناعون
معقول (9) تفرى اللبان بكفيها ومدرعها * مشقق عن تراقيها رعابيل (10) تسعى الغواة
جنابيها وقولهم * إنك يابن أبى سلمى لمقتول (11) وقال كل صديق كنت آمله * لا
ألهينك إنى عنك مشغول
__________
(1) العيرانة من الابل، الناجية في نشاط.
والنحض: اللحم المكتنز.
والعرض: الجانب.
(2) القنواء: المرتفعة الانف، وهو عيب في الفرس.
(3) البرطيل: حجر أو حديد طويل صلب خلقة، ينقر به الرحى.
وهو المعول أيضا (4) عسيب النخل: جريدة من النخل مستقيمة دقيقة يكشط خوصها.
والغارز: الضرع.
وتخونه: ننقصه.
والاحاليل: جمع إحليل وهو مخرج اللبن.
(5) ابن هشام: تخدى.
اليسرات: الخفاف السهلة.
والتحليل: الجرى.
حل: عدا.
(6) الحرباء: دويبة تستقبل الشمس برأسها.
والمصطخد: المحترق من حرارة الشمس.
والضاحى: ما برز منه للشمس.
والمحلول: المذاب.
(7) الجنادب: الجراد.
والورق: التى يضرب لونها إلى السواد.
(8) الاوب: رجع القوائم في السير.
والشمطاء: التى خالطها الشيب.
والمعولة: الصائحة بالبكاء والنكد: جمع نكداء وهى التى لا يبقى لها ولد.
والمثاكيل: جمع مثكلة وهى التى لزمها الثكل.
(9) الرخوة: المسترخية والضبع: العضد.
(10) اللبان: الصدر.
والمدرع: القميص.
والرعابيل: الممزق..(11) جنابيها: حولها (*)
فقلت خلوا سبيلى لا أبا لكم *
فكل ما قدر الرحمن مفعول كل ابن أنثى وإن طالت سلامته * يوما على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدنى * والعفو عند رسول الله مأمول مهلا هداك الذى أعطاك
نافلة ال * قرآن فيه مواعيظ وتفصيل لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم * أذنب ولو كثرت
في الاقاويل لقد أقوم مقاما لو يقوم به * أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل لظل يرعد إلا
أن يكون له * من الرسول بإذن الله تنويل (1) حتى وضعت يمينى ما أنازعها * في كف ذى
نقمات قوله القيل فلهو أخوف عندي إذ أكلمه * وقيل إنك منسوب ومسئول من ضيغم بضراء
الارض مخدره * في بطن عثر غيل دونه غيل (2) يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما * لحم من
الناس معفور خراديل (3) إذا يساور قرنا لا يحل له * أن يترك القرن إلا وهو مغلول
منه تظل حمير الوحش نافرة * ولا تمشى بواديه الاراجيل (4) ولا يزال بواديه أخو ثقة
* مضرج البز والدرسان مأكول (5) إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله
مسلول في عصبة من قريش قال قائلهم * ببطن مكة لما أسلموا زولوا زالوا فما زال
أنكاس ولا كشف * عند اللقاء ولا ميل معازيل (6)
__________
(1) الاصل: لظل يرعد من وجد موارده من الرسول.
وما أثبته عن ابن هشام (2) الضراء: الارض المستوية.
(3) المعفور: الملقى في التراب.
والخراديل: القطع الصغار.
(4) الاراجيل: جماعات الرجال.
(5) البز: السلاح.
والدرسان: الثياب الخلقة.
(6) الانكاس: جمع نكس وهو الجبان.
والمعازيل: الذين لا سلاح معهم.
(*)
يمشون مشى الجمال الزهر يعصمهم
* ضرب إذا عرد السود التنابيل (1) شم العرانين أبطال لبوسهم * من نسج داود في
الهيجا سرابيل بيض سوابغ قد شكت لها خلق * كأنها حلق القفعاء مجدول (2) ليسوا
مفاريح إن نالت رماحهم * قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا لا يقع الطعن إلا في
نحورهم * ولا لهم عن حياض الموت تهليل قال ابن هشام: هكذا أورد محمد بن إسحاق هذه
القصيدة ولم يذكر لها إسنادا.
وقد رواها الحافظ البيهقى في دلائل النبوة بإسناد متصل، فقال: أنبأنا أبو عبد الله
الحافظ، أنبأنا أبو القاسم عبدالرحمن بن الحسن بن أحمد الاسدي بهمذان، حدثنا
إبراهيم بن الحسين، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامى، حدثنا الحجاج بن ذى الرقيبة
بن عبدالرحمن ابن كعب بن زهير بن أبى سلمى، عن أبيه، عن جده قال: خرج كعب وبجير
ابنا زهير حتى أتيا أبرق العزاف، فقال بجير لكعب: اثبت في هذا المكان حتى آتى هذا
الرجل - يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأسمع ما يقول: فثبت كعب وخرج بجير
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الاسلام فأسلم.
فبلغ ذلك كعبا فقال: ألا أبلغا عنى بجيرا رسالة * على أي شئ ويب غيرك دلكا على خلق
لم تلف أما ولا أبا * عليه ولم تدرك عليه أخا لكا سقاك أبو بكر بكأس روية * وأنهلك
المأمون منها وعلكا فلما بلغت الابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدر دمه
وقال: " من لقى
كعبا فليقتله ".
فكتب بذلك بجير إلى أخيه، وذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمه
ويقول له: النجاء وما أراك تنفلت.
ثم كتب إليه بعد ذلك: اعلم أن رسول الله صلى الله
__________
(1) عرد: هرب.
والتنابيل: القصار.
(2) القفعاء: ضرب من الحسك تشبه به حلق الدر (*)
عليه وسلم لا يأتيه أحد يشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا قبل ذلك منه وأسقط ما كان قبل ذلك،
فإذا جاءك كتابي هذا فأسلم وأقبل.
قال: فأسلم كعب وقال قصيدته التى يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل
حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل المسجد ورسول
الله مع أصحابه كالمائدة بين القوم متحلقون معه حلقة خلف حلقة، يلتفت إلى هؤلاء
مرة فيحدثهم وإلى هؤلاء مرة فيحدثهم.
قال كعب: فأنخت راحلتي بباب المسجد فعرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة حتى
جلست إليه فأسلمت وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله الامان يا
رسول الله.
قال: " ومن أنت ؟ " قال: كعب بن زهير.
قال: " الذى يقول " ثم التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "
كيف قال يا أبا بكر ؟ " فأنشده أبو بكر: سقاك بها المأمون كأسا روية * وأنهلك
المأمور منها وعلكا قال: يا رسول الله ما قلت هكذا قال: " فكيف قلت ؟ "
قال قلت: سقاك بها المأمون كأسا روية * وأنهلك المأمون منها وعلكا فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: مأمون والله.
ثم أنشده القصيدة كلها حتى أتى على آخرها وهى هذه القصيدة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يفد مكبول وقد تقدم ما ذكرناه من
الرمز لما اختلف فيه إنشاد ابن إسحاق والبيهقي رحمهما الله عزوجل وذكر أبو عمر بن
عبد البر في كتاب الاستيعاب أن كعبا لما انتهى إلى قوله: إن الرسول لنور يستضاء به
* مهند من سيوف الله مسلول نبئت أن رسول الله أوعدنى * والعفو عند رسول الله مأمول
قال: فأشار رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى من معه أن اسمعوا.
وقد ذكر ذلك قبله موسى بن عقبة في مغازيه.
ولله الحمد والمنة.
قلت: ورد في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه بردته حين أنشده
القصيدة، وقد نظم ذلك الصرصرى في بعض مدائحه، وهكذا ذكر ذلك الحافظ أبو الحسن بن
الاثير في الغابة، قال: وهى البردة التى عند الخلفاء.
قلت: وهذا من الامور المشهورة جدا، ولكن لم أر ذلك في شئ من هذه الكتب المشهورة
بإسناد أرتضيه.
فالله أعلم.
وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له، لما قال بانت سعاد: ومن سعاد ؟
قال: زوجتى يا رسول الله.
قال: لم تبن.
ولكن لم يصح ذلك.
وكأنه على ذلك توهم أن بإسلامه تبين امرأته، والظاهر أنه إنما أراد البينونة الحسية
لا الحكمية.
والله تعالى أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: وقال عاصم بن عمر بن قتادة: فلما قال كعب - يعنى في قصيدته -
" إذا عرد السود التنابيل " وإنما يريدنا معشر الانصار لما كان صاحبنا
صنع به، وخص المهاجرين من قريش بمدحته، غضبت عليه الانصار فقال بعد أن أسلم يمدح
الانصار ويذكر بلاءهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعهم من اليمن:
من سره كرم الحياة فلا يزل * في مقنب من صالحي الانصار (1) ورثوا المكارم كابرا عن
كابر * إن الخيارهم بنو الاخيار المكرهين السمهرى بأذرع * كسوالف الهندي غير قصار
__________
(1) المقنب: الجماعة من الخيل.
(*)
والناظرين بأعين محمرة *
كالجمر غير كليلة الابصار والبائعين نفوسهم لنبيهم * للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكا لهم * بدماء من علقوا من الكفار دربوا كما دربت بطون خفية *
غلب الرقاب من الاسود ضوارى وإذا حللت ليمنعوك إليهم * أصبحت عند معاقل الاعفار
(1) ضربوا عليا يوم بدر ضربة * دانت لوقعتها جميع نزار لو يعلم الاقوام علمي كله *
فيهم لصدقني الذين أمارى قوم إذا خوت النجوم فإنهم * للطارقين النازلين مقارى قال
ابن هشام: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أنشده بانت سعاد: "
لولا ذكرت الانصار بخير فإنهم لذلك أهل ؟ " فقال كعب هذه الابيات وهى في
قصيدة له.
قال: وبلغني عن على بن زيد بن جدعان أن كعب بن زهير أنشد رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المسجد: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول.
وقد رواه الحافظ البيهقى بإسناده المتقدم إلى إبراهيم بن المنذر الحزامى، حدثنى
معن بن عيسى، حدثنى محمد بن عبدالرحمن الافطس، عن ابن جدعان.
فذكره وهو مرسل.
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كتاب " الاستيعاب في معرفة
الاصحاب " بعد ما أورد طرفا من ترجمة كعب بن زهير إلى أن قال: وقد كان كعب بن
زهير شاعرا مجودا كثير الشعر مقدما في طبقته هو وأخوه بجير، وكعب أشعرهما، وأبوهما
زهير فوقهما، ومما يستجاد من شعر كعب بن زهير قوله: لو كنت أعجب من شئ لاعجبني *
سعى الفتى وهو مخبوء له القدر
__________
(1) الاعفار: جمع عفر وهو ولد الوعل (*)
يسعى الفتى لامور ليس يدركها
* فالنفس واحدة والهم منتشر والمرء ما عاش ممدود له أمل * لا تنتهى العين حتى
ينتهى الاثر ثم أورد له ابن عبد البر أشعارا كثيرة يطول ذكرها، ولم يؤرخ وفاته،
وكذا لم يؤرخها أبو الحسن بن الاثير في كتاب الغابة في معرفة الصحابة، ولكن حكى أن
أباه توفى قبل المبعث بسنة.
فالله أعلم.
وقال السهيلي: ومما أجاد فيه كعب بن زهير قوله يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تجرى به الناقة الادماء معتجرا * بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم ففى عطافيه أو
أثناء بردته * ما يعلم الله من دين ومن كرم
فصل فيما كان من الحوادث
المشهورة في سنة ثمان والوفيات فكان من جمادى منها وقعة مؤتة، وفى رمضان غزوة فتح
مكة، وبعدها في شوال غزوة هوازن بحنين، وبعده كان حصار الطائف، ثم كانت عمرة
الجعرانة في ذى القعدة، ثم عاد إلى المدينة في بقية السنة.
قال الواقدي: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة لليال بقين من ذى
الحجة في سفرته هذه.
قال الواقدي: وفى هذه السنة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى
جيفر وعمرو ابني الجلندى من الازد، وأخذت الجزية من مجوس بلدهما ومن حولها من
الاعراب.
قال: وفيها تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي
في ذى القعدة، فاستعاذت منه عليه السلام ففارقها، وقيل بل خيرها فاختارت الدنيا
ففارقها.
قال: وفى ذى الحجة منها ولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية
القبطية، فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولدا ذكرا، وكانت قابلتها فيه
سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى أبى رافع فأخبرته فذهب فبشر
به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه مملوكا، ودفعه رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى أم برة بنت المنذر بن أسيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدى بن النجار
وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف بن مبذول.
وكانت فيها وفاة من ذكرنا من
الشهداء في هذه الوقائع.
وقد قدمنا هدم خالد بن الوليد البيت الذى كانت العزى تعبد فيه بنخلة بين مكة
والطائف، وذلك لخمس بقين من رمضان منها.
قال الواقدي: وفيها كان هدم سواع الذى كانت تعبده هذيل برهاط، هدمه عمرو بن العاص
رضى الله عنه ولم يجد في خزانته شيئا، وفيها هدم مناة بالمشلل، وكانت الانصار
أوسها وخزرجها يعظمونه، هدمه سعد بن زيد الاشهلى رضى الله عنه.
وقد ذكرنا من هذا فصلا مفيدا مبسوطا في تفسير سورة النجم عند قوله تعالى: "
أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى ".
قلت: وقد ذكر البخاري بعد فتح مكة قصة تخريب خثعم البيت الذى كانت تعبده
ويسمونه الكعبة اليمانية مضاهية للكعبة التى بمكة، ويسمون التى بمكة الكعبة
الشامية وتلك الكعبة اليمانية، فقال البخاري: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو
أسامة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس، عن جرير قال قال لى رسول الله صلى الله
عليه وسلم " ألا تريحنى من ذى الخلصة ؟ " فقلت: بلى.
فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل،
فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فضرب يده في صدري حتى رأيت أثر يده في صدري وقال:
" اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا " قال: فما وقعت عن فرس بعد.
قال: وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له الكعبة
اليمانية.
قال: فأتاها فحرقها في النار وكسرها.
قال: فلما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالازلام فقيل له: إن رسول رسول الله
صلى الله عليه وسلم هاهنا فإن قدر عليك ضرب عنقك، قال: فبينما هو يضرب بها إذ
وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها
وتشهد أن لا إله إلا الله أو لاضربن عنقك.
فكسرها وشهد.
ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أرطاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك.
قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله والذى بعثك بالحق
ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب.
قال: فبارك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.
ورواه مسلم من طرق متعددة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن جرير
بن عبدالله البجلى بنحوه.
" وإلى هنا ينتهى الجزء الثالث من السيرة النبوية لابن كثير
وتلك الكعبة اليمانية، فقال البخاري: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو أسامة، عن
إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس، عن جرير قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ألا تريحنى من ذى الخلصة ؟ " فقلت: بلى.
فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس، وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل،
فذكرت ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فضرب يده في صدري حتى رأيت أثر يده في صدري
وقال: " اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا " قال: فما وقعت عن فرس بعد.
قال: وكان ذو الخلصة بيتا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد يقال له الكعبة
اليمانية.
قال: فأتاها فحرقها في النار وكسرها.
قال: فلما قدم جرير اليمن كان بها رجل يستقسم بالازلام فقيل له: إن رسول رسول الله
صلى الله عليه وسلم هاهنا فإن قدر عليك ضرب عنقك، قال: فبينما هو يضرب بها إذ
وقف عليه جرير فقال: لتكسرنها
وتشهد أن لا إله إلا الله أو لاضربن عنقك.
فكسرها وشهد.
ثم بعث جرير رجلا من أحمس يكنى أرطاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك.
قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله والذى بعثك بالحق
ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب.
قال: فبارك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.
ورواه مسلم من طرق متعددة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن جرير
بن عبدالله البجلى بنحوه.
" وإلى هنا ينتهى الجزء الثالث من السيرة النبوية لابن كثير ويتلوه الجزء
الرابع وأوله ذكر غزوة تبوك "
السيرة النبوية - ابن كثير ج
4
السيرة النبوية
ابن كثير ج 4
السيرة النبوية للامام أبي
الفداء إسماعيل بن كثير 701 - 774 ه.
تحقيق مصطفى عبد الواحد الجزء الرابع 1395 ه = 1976 م دار المعرفة للطباعة والنشر
والتوزيع بيروت - لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم سنة
تسع من الهجرة ذكر غزوة تبوك في رجب منها قال الله تعالى: " يا أيها الذين
آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا، وإن خفتم عيلة
فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم، قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله
ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين
أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ".
روى عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم: أنه لما أمر
الله تعالى أن يمنع المشركون (1) من قربان المسجد الحرام في الحج وغيره، قالت
قريش: لتنقطعن عنا المتاجر والاسواق أيام الحج وليذهبن ما كنا نصيب منها.
فعوضهم الله عن ذلك بالامر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن
يد وهم صاغرون.
قلت: فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال الروم، لانهم أقرب الناس إليه
وأولى الناس بالدعوة إلى الحق لقربهم إلى الاسلام وأهله.
وقد قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار
وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين " (2).
فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزو الروم عام تبوك وكان ذلك في حر
__________
(1) ا: يمنع المشركين.
(2) سورة التوبة 123.
(*)
شديد وضيق من الحال، جلى
للناس أمرها ودعا من حوله من أحياء الاعراب للخروج معه فأوعب معه بشر كثير.
كما سيأتي.
قريبا من ثلاثين ألفا، وتخلف آخرون، فعاتب الله من تخلف منهم لغير عذر من
المنافقين والمقصرين، ولامهم ووبخهم وقرعهم أشد التقريع وفضحهم أشد الفضيحة وأنزل
فيهم قرآنا يتلى، وبين أمرهم في سورة براءة، كما قد بينا ذلك مبسوطا في التفسير.
وأمر المؤمنين بالنفر على كل حال، فقال تعالى: " انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا
بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، لو كان عرضا قريبا،
وسفرا قاصدا لاتبعوك، ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا
معكم، يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون " ثم الآيات بعدها.
ثم قال تعالى: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم
طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " فقيل
إن هذه ناسخة لتلك وقيل لا.
فالله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ما بين ذى
الحجة
إلى رجب - يعنى من سنة تسع - ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم.
فذكر الزهري (1) ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبى بكر وعاصم بن عمر بن قتادة
وغيرهم من علمائنا، كل يحدث عن غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث ما لم
يحدث بعض، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك
في زمان عسرة من الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد وحين طابت الثمار، فالناس
__________
(1) ابن هشام: وقد ذكر لنا الزهري.
(*)
يحبون المقام في ثمارهم
وظلالهم ويكرهون الشخوص في الحال (1) من الزمان الذى هم عليه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، إلا ما كان
من غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو الذى يصمد إليه
ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمرهم (2) بالجهاز (3) وأخبرهم أنه يريد الروم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن قيس أحد بنى
سلمة: " يا جد هل لك العام في جلاد بنى الاصفر ؟ " فقال: يا رسول الله
أو تأذن لى ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما رجل بأشد عجبا بالنساء منى،
وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الاصفر ألا أصبر.
فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " قد أذنت لك " ففى الجد
أنزل الله هذه الآية: " ومنهم من يقول ائذن لى ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في
الحر زهادة في الجهاد وشكا في الحق وإرجافا بالرسول صلى الله عليه وسلم، فأنزل
الله فيهم: " وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون،
فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما
كانوا يكسبون ".
قال ابن هشام: حدثنى الثقة عمن حدثه، عن محمد بن طلحة بن عبدالرحمن، عن إسحاق بن
إبراهيم بن عبدالله بن حارثة، عن أبيه عن جده قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي - وكان بيته عند
__________
(1) ابن هشام: على الحال.
(2) ا: فأمر.
(3) لاصل: بالجهاد.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*)
جاسوم - يثبطون الناس عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من
أصحابه وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم، ففعل طلحة فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر
البيت فانكسرت رجله، واقتحم أصحابه فأفلتوا، فقال الضحاك في ذلك: كادت وبيت الله
نار محمد * يشيط بها الضحاك وابن أبيرق وظلت وقد طبقت كبس سويلم * أنوء على رجل
كسيرا ومرفق (1) سلام عليكم لا أعود لمثلها * أخاف ومن تشمل به النار يحرق * * *
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز
والانكماش (2)، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل
الغنى واحتسبوا، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.
قال ابن هشام: فحدثني من أثق به أن عثمان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف
دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم ارض عن عثمان فإنى عنه
راض ".
وقد قال الامام أحمد: حدثنا هارون بن معروف، حدثنا ضمرة بن شوذب، عن عبدالله بن
القاسم، عن كثة مولى عبدالرحمن بن سمرة، قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى
الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة.
قال: فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم
يقلبها بيده ويقول: " ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم ! ".
__________
(1) الكبس: بيت من طين (2) الانكماش: الاسراع (*)
ورواه الترمذي عن محمد بن
إسماعيل، عن الحسن بن واقع، عن ضمرة به.
وقال: حسن غريب.
وقال عبدالله بن أحمد في مسند أبيه.
حدثنى أبو موسى العنزي، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنى سكن بن المغيرة،
حدثنى الوليد بن أبى هشام، عن فرقد أبى طلحة، عن عبدالرحمن بن خباب السلمى، قال:
خطب النبي صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان: على مائة
بعير بأحلاسها وأقتابها.
قال: ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث فقال عثمان: على مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها.
قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بيده هكذا يحركها، وأخرج عبد الصمد
يده كالمتعجب: " ما على عثمان ما عمل بعد هذا ".
وهكذا رواه الترمذي عن محمد بن بشار، عن أبى داود الطيالسي، عن سكن بن المغيرة أبى
محمد مولى لآل عثمان به.
وقال: غريب من هذا الوجه.
ورواه البيهقى من طريق عمرو بن مرزوق، عن سكن بن المغيرة به.
وقال: ثلاث مرات.
وأنه التزم بثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها.
قال عبدالرحمن: فأنا شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر:
" ماضر عثمان بعدها - أو قال - بعد اليوم ".
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا أبو عوانة، عن حصين بن عبدالرحمن، عن عمرو بن
جاوان، عن الاحنف بن قيس، قال: سمعت عثمان بن عفان يقول لسعد ابن أبى وقاص وعلى
والزبير وطلحة: أنشدكم بالله هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" من جهز جيش العسرة غفر الله له " فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا
عقالا ؟ قالوا: اللهم نعم.
ورواه النسائي من حديث حصين به.
فصل فيمن تخلف معذورا من
البكائين وغيرهم قال الله تعالى: " وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا
مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين.
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، لكن الرسول والذين
آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون، أعد
الله لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم.
وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله، سيصيب الذين
كفروا منهم عذاب أليم، ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما
ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، ولا
على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من
الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون، إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا
بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (1) ".
قد تكلمنا على تفسير هذا كله في التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة.
والمقصود ذكر البكائين الذين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملهم
حتى يصحبوه في غزوته هذه، فلم يجدوا عنده من الظهر ما يحملهم عليه، فرجعوا وهم
يبكون، تأسفا على ما فاتهم من الجهاد في سبيل الله والنفقة فيه.
* * *
__________
(1) سورة براءة 86 - 93.
(*)
قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة
نفر من الانصار وغيرهم.
فمن بنى عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلبة بن زيد أخو بنى حارثة، وأبو ليلى
عبدالرحمن بن كعب أخو بنى مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بنى
سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني، وبعض الناس يقولون: بل هو عبدالله بن عمرو
المزني وهرمى (1) بن عبدالله أخو بنى واقف، وعرباض بن سارية الفزارى.
قال ابن إسحاق: فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضرى لقى أبا ليلى وعبد الله
ابن مغفل وهما يبكيان، فقال: ما يبكيكما ؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج
معه.
فأعطاهما ناضحا له فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر فخرجا مع النبي صلى الله عليه
وسلم.
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وأما علبة بن زيد فحرج من الليل فصلى من ليلته ما
شاء الله، ثم بكى وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما
أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملنى عليه، وإنى أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة
أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض.
ثم أصبح مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أين المتصدق هذه
الليلة ؟ " فلم يقم أحد، ثم قال: " أين المتصدق فليقم " فقام إليه
فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبشر فو الذى نفسي بيده لقد
كتبت في الزكاة المتقبلة ! ".
* * *
وقد أورد الحافظ البيهقى هاهنا حديث أبى موسى الاشعري فقال: حدثنا أبو عبد الله
الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبدالحميد المازنى، حدثنا
أبو أسامة، عن بريد، عن أبى بردة، عن أبى موسى قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله
__________
(1) في شرح المواهب 3 / 67: وحرمى.
بفتح المهملة.
(*)
صلى الله عليه وسلم أسأله لهم
الحملان إذ هم معه في جيش العسرة [ وهو في (1) ] غزوة تبوك، فقلت: يا نبى الله إن
أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم.
فقال: " والله لا أحملكم على شئ " ووافقته وهو غضبان ولا أشعر.
فرجعت حزينا من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن مخافة أن يكون رسول الله قد
وجد في نفسه على، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذى قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادى: أين عبدالله بن قيس ؟ فأجبته فقال:
أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك.
فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خذ هذين القرينين (2) وهذين
القرينين وهذين القرينين " لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد فقال: "
انطلق بهن إلى أصحابك فقل: إن الله أو إن رسول الله يحملكم على هؤلاء ".
فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم حتى
ينطلق معى بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله حين سألته لكم ومنعه لى في أول مرة ثم
إعطائه إياى بعد ذلك، لا تظنوا أنى حدثتكم شيئا لم يقله.
فقالوا لى: والله إنك عندنا لمصدق ولنفعلن ما أحببت.
قال: فانطلق أبو موسى بنفر منهم، حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله صلى الله
عليه وسلم من منعه إياهم ثم إعطائه بعد فحدثوهم بما حدثهم به أبو موسى سواء.
وأخرجه البخاري ومسلم جميعا عن أبى كريب، عن أبى أسامة.
وفى رواية لهما عن أبى موسى قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من
الاشعريين ليحملنا فقال: " والله لا أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه ".
قال: ثم جئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهب إبل، فأمر لنا بست ذود عر الذرى (3)
فأخذناها ثم قلنا: تغفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه والله لا يبارك لنا.
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(2) القرينان: البعيران المشدود أحدهما إلى الآخر.
أو النظيران المتساويان.
وفى ا: القرنين.
(3) عر الذرى: صغيرة السنام.
(*)
فرجعنا فقلنا له فقال: "
ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم " ثم قال: " إنى والله إن شاء الله لا
أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذى هو خير وتحللتها ".
* * * قال ابن إسحاق: وقد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم الغيبة (1) حتى تخلفوا عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير شك ولا ارتياب.
منهم كعب بن مالك بن أبى كعب أخو بنى سلمة، ومرارة بن ربيع أخو بنى عمرو ابن عوف،
وهلال بن أمية أخو بنى واقف، وأبو خيثمة أخو بنى سالم بن عوف، وكانوا نفر صدق لا
يتهمون في إسلامهم.
قلت: أما الثلاثة الاول فستأتي قصتهم مبسوطة قريبا إن شاء الله تعالى، وهم الذين
أنزل الله فيهم: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الارض بما
رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ".
وأما أبو خيثمة فإنه عاد وعزم على اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم كما
سيأتي.
فصل قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره
وأجمع السير، فلما خرج يوم الخميس ضرب عسكره على ثنية الوداع ومعه زيادة على
ثلاثين ألفا من الناس، وضرب عبدالله بن أبى عدو الله عسكره أسفل منه - وما
__________
(1) ابن هشام: النية.
(*)
كان فيما يزعمون بأقل العسكرين.
فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبدالله بن أبى في طائفة من
المنافقين وأهل الريب.
قال ابن هشام: واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة محمد بن مسلمة
الانصاري قال: وذكر الدراوردى أنه استخلف عليها عام تبوك سباع بن عرفطة.
قال ابن إسحاق: وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب على أهله وأمره
بالاقامة فيهم، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه.
فلما قالوا ذلك أخذ على سلاحه ثم خرج حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
نازل بالجرف فأخبره بما قالوا، فقال: " كذبوا ولكني خلفتك لما تركت ورائي،
فارجع فاخلفني في أهلى وأهلك.
أفلا ترضى يا على أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى ".
فرجع على ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره.
ثم قال ابن إسحاق: حدثنى محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إبراهيم بن سعد بن أبى
وقاص، عن أبيه سعد، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلى هذه المقالة.
وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن إبراهيم بن
سعد بن أبى وقاص، عن أبيه به.
وقد قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن
أبيه قال: خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب في غزوة تبوك، فقال:
يا رسول الله اتخلفنى في النساء والصبيان ؟ فقال: " أما ترضى أن تكون
منى بمنزلة هارون من موسى غير
أنه لا نبى بعدى ".
وأخرجاه من طرق عن شعبة نحوه.
وعلقه البخاري أيضا من طريق أبى داود عن شعبة.
وقال الامام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل ؟، عن بكير بن
مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له -
وخلفه في بعض مغازيه فقال على: يا رسول الله تخلفنى مع النساء والصبيان ؟ فقال:
" يا على أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى
".
ورواه مسلم والترمذي عن قتيبة.
زاد مسلم ومحمد بن عباد كلاهما عن حاتم بن إسماعيل به.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
* * * قال ابن إسحاق: ثم إن أبا خيثمة رجع بعد ما سار رسول الله صلى الله عليه
وسلم أياما إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، قد رشت
كل واحدة منهما عريشها وبردت فيه ماء وهيأت له فيه طعاما.
فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الصح (1) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ
وامرأة حسناء في ماله مقيم ! ما هذا بالنصف.
والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق
برسول الله صلى الله عليه وسلم فهيئا زادا.
ففعلتا.
ثم قدم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين
نزل تبوك.
وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحى في الطريق يطلب رسول الله صلى الله
__________
(1) الضح: الشمس.
(*)
عليه وسلم فترافقا حتى إذا
دنوا من تبوك قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إن لى ذنبا، فلا عليك أن تخلف عنى حتى
آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففعل.
حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس: هذا راكب على الطريق
مقبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كن أبا خيثمة " فقالوا: يا رسول
الله هو والله أبو خثيمة.
فلما بلغ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: " أولى لك يا
أبا خيثمة ! " ثم أخبر رسول الله الخبر فقال خيرا ودعا له بخير.
وقد ذكر عروة بن الزبير وموسى بن عقبة قصة أبى خيثمة بنحو من سياق محمد بن إسحاق
وأبسط، وذكر أن خروجه عليه السلام إلى تبوك كان في زمن الخريف فالله أعلم.
قال ابن هشام: وقال أبو خيثمة، واسمه مالك بن قيس في ذلك: لما رأيت الناس في الدين
نافقوا * أتيت التى كانت أعف وأكرما وبايعت باليمنى يدى لمحمد * فلم أكتسب إثما
ولم أغش محرما تركت خضيبا في العريش وصرمة * صفايا كراما بسرها قد تحمما (1) وكنت
إذا شك المنافق أسمحت * إلى الدين نفسي شطره حيث يمما * * * وقال يونس بن بكير عن
محمد بن إسحاق، عن بريدة، عن سفيان (2)، عن
محمد بن كعب القرظى، عن عبدالله بن مسعود قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى تبوك جعل لا يزال الرجل يتخلف فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان.
__________
(1) الخضيب: المرأة المخضوبة.
والصرمة: القطعة من الابل، وهو يريد هنا: الطائفة من النخل.
والصفايا: الكثيرة الثمر.
وتحمم: أخذ في الارطاب فتلون بالسواد.
(2) ا: بريدة بن سفيان.
(*)
فيقول: " دعوه، إن يك
فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه ".
حتى قيل: يا رسول الله تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره.
فقال: " دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم
الله منه ".
فتلوم (1) أبو ذر بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره ثم خرج يتبع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا، ونزل رسول الله في بعض منازله ونظر ناظر من
المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل ماش على الطريق.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كن أبا ذر " فلما تأمله القوم
قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله أبا ذر ! يمشى وحده ويموت
وحده ويبعث وحده ".
قال فضرب [ الدهر (2) ] ضربه، وسير أبو ذر إلى الربذة، فلما حضره الموت أوصى
امرأته وغلامه فقال: إذا مت فاغسلاني وكفناني من الليل، ثم ضعاني على قارعة الطريق
فأول ركب يمرون بكم فقولوا: هذا أبو ذر.
فلما مات فعلوا به كذلك، فاطلع ركب فما علموا به حتى كانت ركابهم تطأ سريره، فإذا
ابن مسعود في رهط من أهل الكوفة فقال: ما هذا ؟ فقيل: جنازة أبى ذر فاستهل ابن
مسعود يبكى وقال: صدق رسول الله: " يرحم الله أبا ذر، يمشى وحده ويموت وحده
ويبعث وحده ! " فنزل فوليه بنفسه حتى أجنه.
إسناده حسن ولم يخرجوه.
* * *
__________
(1) تلوم: انتظر.
(2) بياض بالاصل.
(*)
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد
الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرنا عبدالله بن محمد بن عقيل في قوله: " الذين
اتبعوه في ساعة العسرة ".
قال: خرجوا في غزوة تبوك، الرجلان والثلاثة على بعير واحد، وخرجوا في حر شديد
فأصابهم في يوم عطش حتى جعلوا ينحرون إبلهم لينفضوا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان
ذلك عسرة في الماء وعسرة في النفقة وعسرة في الظهر (1).
قال عبدالله بن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبى هلال، عن عتبة بن أبى
عتبة، عن نافع بن جبير، عن عبدالله بن عباس، أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن
ساعة العسرة.
فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن
رقابنا ستنقطع، حتى إن كان أحدنا ليذهب فيلتمس الرحل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته
ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه ثم يجعل ما بقى على كبده،
فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا.
فقال: " أو تحب ذلك ؟ " قال: نعم.
قال: فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأطلت (2) ثم سكبت فملاوا
ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت (3) العسكر.
إسناده جيد ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقد ذكر ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن رجال من قومه، أن هذه القصة كانت
وهم بالحجر وأنهم قالوا لرجل معهم منافق: ويحك هل بعد هذا من شئ ؟ ! فقال: سحابة
مارة ! وذكر أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ضلت فذهبوا في طلبها فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لعمارة بن حزم الانصاري - وكان عنده: " إن رجلا قال:
هذا
__________
(1) ا: من الظهر.
(2) قالت السماء: تهيأت للمطر.
وأطلت: أمطرت مطرا خفيفا.
(3) ا: جازت به.
(*)
محمد يخبركم أنه نبى ويخبركم
خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته ! وإنى والله لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد
دلنى الله عليها، هي في الوادي قد حبستها شجرة بزمامها ".
فانطلقوا فجاءوا بها، فرجع عمارة إلى رحله، فحدثهم عما جاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم من خبر الرجل، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة: إنما قال ذلك زيد بن
اللصيت (1).
وكان في رحل عمارة قبل أن يأتي، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه ويقول: إن في
رحلى لداهية وأنا لا أدرى، اخرج عنى يا عدو الله فلا تصحبني.
فقال بعض الناس: إن زيدا تاب، وقال بعضهم: لم يزل مصرا (2) حتى هلك.
* * * قال الحافظ البيهقى: وقد روينا من حديث ابن مسعود شبيها بقصة الراحلة.
ثم روى من حديث الاعمش وقد رواه الامام أحمد، عن أبى معاوية، عن الاعمش عن أبى
صالح، عن أبى هريرة أو عن أبى سعيد الخدرى - شك الاعمش - قال: لما كان يوم غزوة
تبوك أصاب الناس مجاعة، فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر نواضحنا فأكلنا وادهنا
؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " افعلوا ".
فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم وادع الله
لهم فيها بالبركة، لعل الله أن يجعل فيها البركة.
فقال رسول الله: نعم.
فدعا بنطع فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجئ بكف ذرة ويجئ الآخر بكف من
التمر ويجئ الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع من ذلك شئ يسير، فدعا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالبركة ثم قال لهم: " خذوا في أوعيتكم " فأخذوا في
أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملاوه وأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة
__________
(1) قال ابن هشام: ويقال: ابن لصيب.
(2) ح: متهما بشر.
(*)
فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " أشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، لا يلقى الله بها عبد غير
شاك فيحجب عن الجنة ".
ورواه مسلم عن أبى كريب، عن أبى معاوية، عن الاعمش به.
ورواه الامام أحمد من حديث سهيل عن أبيه، عن أبى هريرة ولم يذكر غزوة تبوك بل قال:
كان في غزوة غزاها.
ذكر مروره عليه السلام في ذهابه إلى تبوك بمساكن ثمود وصرحتهم بالحجر قال ابن
إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها واستقى الناس من
بئرها، فلما راحوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشربوا من مياهها
شيئا ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الابل ولا تأكلوا
منه شيئا ".
هكذا ذكره ابن إسحاق بغير إسناد.
وقال الامام أحمد: حدثنا يعمر بن بشر، حدثنا عبدالله بن المبارك، أخبرنا معمر عن
الزهري، أخبرني سالم بن عبدالله عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر
بالحجر قال: " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، أن
يصيبكم ما أصابهم " وتقنع بردائه وهو على الرحل.
ورواه البخاري من حديث عبدالله بن المبارك وعبد الرزاق، كلاهما عن معمر بإسناده
نحوه.
وقال مالك، عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لاصحابه: " لا
تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا
عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم ".
ورواه البخاري من حديث [ مالك ومن حديث (1) ] سليمان بن بلال، كلاهما عن عبدالله
بن دينار.
ورواه مسلم من وجه آخر عن عبدالله بن دينار نحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صخر - هو ابن جويرية - عن نافع، عن ابن
عمر قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك الحجر عند بيوت ثمود،
فاستقى الناس من الآبار التى كانت تشرب منها ثمود فعجنوا ونصبوا القدور باللحم،
فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الابل، ثم
ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التى كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا
على القوم الذين عذبوا [ فقال ]: " إنى أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا
تدخلوا عليهم ".
وهذا الحديث إسناده على شرط الصحيحين من هذا الوجه ولم يخرجوه، وإنما أخرجه
البخاري ومسلم من حديث أنس بن عياض، عن أبى ضمرة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع،
عن ابن عمر به.
قال البخاري: وتابعه أسامة عن عبيد الله.
ورواه مسلم من حديث شعيب بن إسحاق، عن عبيد الله عن نافع به.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن عبدالله بن عثمان ابن
خثيم، عن أبى الزبير، عن جابر قال: لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالحجر
__________
(1) سقطت من ا.
(*)
قال: " لا تسألوا الآيات
فقد سألها قوم صالح فكانت ترد من هذا الفج (1) وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر
ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم صيحة
أهمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله.
قيل: من هو يا رسول الله ؟ قال: " هو أبو رغال، فلما خرج من الحرم أصابه ما
أصاب قومه ".
إسناده صحيح ولم يخرجوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي، عن إسماعيل بن واسط، عن
محمد بن أبى كبشة الانمارى، عن أبيه قال: لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى
أهل الحجر يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنودى في الناس:
الصلاة جامعة.
قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره وهو يقول: " ما
تدخلون على قوم غضب الله عليهم ؟ " فناداه رجل: نعجب منهم.
قال: " أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك ؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما
هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتى قوم لا
يدفعون عن أنفسهم شيئا ".
إسناده حسن ولم يخرجوه.
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثنى عبدالله بن أبى بكر بن حزم، عن العباس بن
سهل بن سعد الساعدي - أو عن العباس بن سعد الشك منى - أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين مر بالحجر ونزلها واستقى الناس من بئرها، فلما راحوا
__________
(1) ا: من هذا الوجه.
(*)
منها قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم للناس: " لا تشربوا من مائها شيئا ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان
من عجين عجنتموه فاعلفوه الابل ولا تأكلوا منه شيئا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة
إلا ومعه صاحب له ".
ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا رجلين من بنى ساعدة، خرج
أحدهما لحاجته، وخرج الآخر في طلب بعير له فأما الذى ذهب لحاجته فإنه خنق على مذهبه
(1)، وأما الذى ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى ألقته بجبل طيئ، فأخبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " ألم أنهكم أن يخرج رجل إلا ومعه صاحب
له ".
ثم دعا للذى أصيب على مذهبه فشفى، وأما الآخر فإنه وصل إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من تبوك.
وفى رواية زياد عن ابن إسحاق أن طيئا أهدته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
رجع إلى المدينة.
قال ابن إسحاق: وقد حدثنى عبدالله بن أبى بكر أن العباس بن سهل سمى له الرجلين،
لكنه استكتمه إياهما فلم يحدثنى بهما.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب بن خالد، حدثنا عمرو بن يحيى، عن
العباس بن سهل بن سعد الساعدي، عن أبى حميد الساعدي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم عام تبوك حتى جئنا وادى القرى، فإذا امرأة في حديقة لها فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " اخرصوا " فخرص القوم وخرص رسول الله
صلى الله عليه وسلم عشرة أوسق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة: "
أحصى ما يخرج منها حتى أرجع إليك إن شاء الله ".
__________
(1) خنق على مذهب: في موضع قضاء الحاجة.
(*)
قال: فخرج حتى قدم تبوك، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنها ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقومن
فيها رجل، فمن كان له بعير فليوثق عقاله ".
قال أبو حميد: فعقلناها، فلما كان من الليل هبت علينا ريح شديدة، فقام فيها رجل
فألقته في جبل طيئ.
ثم جاء رسول الله ملك أيلة فأهدى لرسول الله بغلة بيضاء، وكساه رسول الله بردا
وكتب له يجيرهم (1).
ثم أقبل وأقبلنا معه، حتى جئنا وادى القرى فقال للمرأة: " كم جاءت حديقتك ؟
" قالت: عشرة أوسق.
خرص رسول الله.
فقال رسول الله: " إنى متعجل، فمن أحب منكم أن يتعجل فليفعل " قال: فخرج
رسول الله وخرجنا معه، حتى إذا أوفى على المدينة قال: " هذه طابة ".
فلما رأى أحدا قال: " هذا أحد (2) يحبنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الانصار
؟ " قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: " خير دور الانصار بنو النجار، ثم دار بنى عبد الاشهل، ثم دار بنى
ساعدة، ثم في كل دور الانصار خير ".
وأخرجه البخاري ومسلم من غير وجه عن عمرو بن يحيى به نحوه.
وقال الامام مالك رحمه الله عن أبى الزبير (3)، عن أبى الطفيل عامر بن واثلة، أن
معاذ بن جبل أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فكان
يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، قال: فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى
الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا، ثم قال:
__________
(1) الاصل: يخبرهم.
وهو تحريف.
وما أثبته عن ابن هشام (2) ح: هذا جبل.
(3) ا: عن بنى الزبير.
وهو تحريف.
(*)
" إنكم ستأتون غدا إن
شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحى ضحى النهار،
فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتى ".
قال: فجئناها وقد سبق إليها رجلان والعين مثل الشراك (1) تبض بشئ من ماء، فسألهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل مسستما من مائها شيئا ؟ "، قالا:
نعم فسبهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى
اجتمع في شن، ثم غسل رسول الله فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها فجرت العين بماء
كثير فاستقى الناس، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معاذ يوشك إن
طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا ".
أخرجه مسلم من حديث مالك به.
ذكر خطبته عليه السلام إلى تبوك إلى نخلة هناك روى الامام أحمد عن أبى النضر هاشم
بن القاسم ويونس بن محمد المؤدب وحجاج ابن محمد، ثلاثتهم عن الليث بن سعد، عن يزيد
بن أبى حبيب، عن أبى الخير، عن أبى الخطاب، عن أبى سعيد الخدرى أنه قال: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك خطب الناس وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال: "
ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس ؟ إن من خير الناس رجلا عمل في سبيل الله على ظهر
فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت، وإن من شر الناس رجلا فاجرا
جريئا يقرأ كتاب الله لا يرعوى إلى شئ منه ".
ورواه النسائي عن قتيبة، عن الليث به.
وقال: أبو الخطاب لا أعرفه.
وروى البيهقى من طريق يعقوب بن محمد الزهري، عن عبد العزيز بن عمران،
__________
(1) ا: مثل الشمال.
وهو تحريف.
(*)
حدثنا مصعب بن عبدالله، عن
منظور بن جميل بن سنان (1)، أخبرني أبى، سمعت عقبة بن عامر الجهنى، خرجنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك،
فاسترقد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح، قال:
" ألم أقل لك يا بلال اكلا لنا الفجر ؟ " فقال: يا رسول الله ذهب بى من
النوم مثل الذى ذهب بك.
قال: فانتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزله غير بعيد ثم صلى وسار بقية
يومه وليلته فأصبح بتبوك، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: " أيها
الناس أما بعد ; فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل
ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا
القرآن، وخير الامور عوازمها (2) وشر الامور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الانبياء،
وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الاعمال ما نفع،
وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما
قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة،
ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا، ومن الناس من لا يذكر الله إلا هجرا، ومن
أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس
الحكمة مخافة الله عزوجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر،
والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من حثى (3) جهنم، والشعر من إبليس، والخمر جماع
الاثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا،
وشر المآكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره،
__________
(1) ت: يسار (2) العوازم: الفرائض التى عزم الله بفعلها.
(3) الحثاء: التراب المحثو (*)
والشقى من شقى في بطن أمه،
وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والامر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وشر
الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب،
وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة
دمه، ومن يتألى على الله يكذبه، ومن يستغفره يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن
يكظم يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به،
ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لى ولامتى، اللهم اغفر
لى ولامتى، اللهم اغفر لى ولامتى " قالها ثلاثا ثم قال: " أستغفر الله
لى ولكم ".
وهذا حديث غريب وفيه نكارة وفى إسناده ضعف.
والله أعلم بالصواب.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني وسليمان بن داود، قالا: أخبرنا ابن
وهب، أخبرني معاوية، عن سعيد بن غزوان، عن أبيه، أنه نزل بتبوك وهو حاج فإذا رجل
مقعد، فسألته عن أمره فقال: سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت أنى حى.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بتبوك إلى نخلة فقال: هذه قبلتنا.
ثم صلى إليها.
قال: فأقبلت وأنا غلام أسعى حتى مررت بينه وبينها، فقال: قطع صلاتنا قطع الله
أثره.
قال: فما قمت عليها إلى يومى هذا.
ثم رواه أبو داود من حديث سعيد بن (1) عبد العزيز التنوخى، عن مولى ليزيد ابن
نمران، عن يزيد بن نمران، قال: رأيت بتبوك مقعدا فقال: مررت بين يدى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأنا على حمار وهو يصلى فقال: اللهم اقطع أثره.
فما مشيت عليها بعد.
وفى رواية: " قطع صلاتنا قطع الله أثره ".
__________
(1) الاصل: عن عبد العزيز.
وما أثبته عن سنن أبى داود 1 / 112.
(*)
ذكر الصلاة على معاوية بن أبى
معاوية إن صح الخبر في ذلك روى البيهقى من حديث يزيد بن هارون، أخبرنا العلاء أبو محمد
الثقفى، قال سمعت
أنس بن مالك قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك، فطلعت الشمس بضياء
وشعاع ونور لم أرها طلعت فيما مضى، فأتى جبريل رسول الله فقال: " يا جبريل
مالى أرى الشمس اليوم طلعت بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى ؟ ".
قال: ذلك أن معاوية بن معاوية الليثى مات بالمدينة اليوم، فبعث الله إليه سبعين
ألف ملك يصلون عليه.
قال: " ومم ذاك ؟ " قال: بكثرة قراءته: " قل هو الله أحد "
بالليل والنهار وفى ممشاه وفى قيامه وقعوده، فهل لك يا رسول الله أن أقبض لك الارض
فتصلى عليه ؟ قال: نعم.
قال: فصلى عليه ثم رجع.
وهذا الحديث فيه غرابة شديدة ونكارة، والناس يسندون أمره إلى العلاء بن زيد هذا
(1) وقد تكلموا فيه.
ثم قال البيهقى: أخبرنا على بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا
هشام بن على، أخبرنا عثمان بن الهيثم، حدثنا محبوب بن هلال، عن عطاء بن أبى
ميمونة، عن أنس قال: جاء جبريل فقال: يا محمد مات معاوية بن أبى معاوية المزني،
أفتحب أن تصلى عليه ؟ قال: نعم.
فضرب بجناحه فلم يبق من شجرة ولا أكمة إلا تضعضعت له.
قال: فصلى وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك، قال قلت: " يا
جبريل بم نال هذه المنزلة من الله ؟ " قال: بحبه " قل هو الله أحد
" يقرؤها قائما وقاعدا، وذاهبا وجائيا، وعلى كل حال.
قال عثمان: فسألت أبى أين كان النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بغزوة تبوك
__________
(1) ا: لهذا.
(*)
بالشام، ومات معاوية
بالمدينة، ورفع له سريره حتى نظر إليه وصلى عليه.
وهذا أيضا منكر من هذا الوجه.
قدوم رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك
قال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا يحيى بن سليم، عن عبدالله بن عثمان
بن خثيم، عن سعيد بن أبى راشد، قال: لقيت التنوخى رسول هرقل إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بحمص، وكان جارا لى شيخا كبيرا قد بلغ العقد أو قرب، فقلت: ألا
تخبرني عن رسالة هرقل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالة رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى هرقل ؟ قال: بلى.
قدم رسول الله تبوك، فبعث دحية الكلبى إلى هرقل، فلما أن جاءه كتاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم دعا قسيسى الروم وبطارقتها ثم أغلق عليه وعليهم الدار فقال: قد نزل
هذا الرجل حيث رأيتم وقد أرسل إلى يدعوني إلى ثلاث خصال، يدعوني أن أتبعه على
دينه، أو على أن نعطيه مالنا على أرضنا والارض أرضنا، أو نلقى إليه الحرب.
والله لقد عرفتم فيما تقرأون من الكتب ليأخذن [ أرضنا ] (1) فهلم فلنتبعه على دينه
أو نعطيه مالنا على أرضنا.
فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا: تدعونا إلى أن نذر النصرانية
أو نكون عبيدا لاعرابي جاء من الحجاز.
فلما ظن أنهم إن خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رفأهم (2) ولم يكد.
وقال: إنما قلت ذلك لاعلم صلابتكم على أمركم.
ثم دعا رجلا من عرب تجيب كان على نصارى العرب قال: ادع لى رجلا حافظا
__________
(1) من مسند أحمد.
(2) رفأهم: سكنهم.
(*)
للحديث عربي اللسان أبعثه إلى
هذا الرجل بجواب كتابه.
فجاء بى، فدفع إلى هرقل كتابا فقال: اذهب بكتابي إلى هذا الرجل، فما سمعت من حديثه
فاحفظ لى منه ثلاث خصال: انظر هل يذكر صحيفته إلى التى كتب بشئ وانظر إذا قرأ
كتابي فهل يذكر الليل ؟ وانظر في ظهره هل به شئ يريبك ؟
قال: فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوك، فإذا هو جالس بين ظهرانى أصحابه محتبيا على
الماء، فقلت: أين صاحبكم ؟ قيل: ها هو ذا.
فأقبلت أمشى حتى جلست بين يديه، فناولته كتابي فوضعه في حجره ثم قال: " ممن
أنت " فقلت أنا أخو تنوخ: قال: " هل لك إلى الاسلام الحنيفية ملة أبيك
إبراهيم ؟ " قلت: إنى رسول قوم وعلى دين قوم لا أرجع عنه حتى أرجع إليهم.
فضحك وقال: " إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم
بالمهتدين " يا أخا تنوخ إنى كتبت بكتاب إلى كسرى والله ممزقه وممزق ملكه،
وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فخرقها والله مخرقه ومخرق ملكه.
وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها، فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير
".
قلت: هذه إحدى الثلاث التى أوصاني بها صاحبي.
فأخذت سهما من جعبتى فكتبتها في جنب سيفى ثم إنه ناول الصحيفة رجلا عن يساره، قلت:
من صاحب كتابكم الذى يقرأ لكم ؟ قالوا: معاوية فإذا في كتاب صاحبي: تدعوني إلى جنة
عرضها السموات والارض أعدت للمتقين فأين النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " سبحان الله ! أين الليل إذا جاء النهار ".
قال: فأخذت سهما من جعبتى فكتبته في جلد سيفى.
فلما أن فرغ من قراءة كتابي قال: " إن لك حقا وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا
جائزة جوزناك بها، إنا سفر مرملون " قال: فناداه رجل من طائفة الناس قال:
أنا أجوزه، ففتح رحله فإذا هو
يأتي بحلة صفورية فوضعها في حجري، قلت: من صاحب الجائزة ؟ قيل لى: عثمان.
ثم قال رسول الله: " أيكم ينزل هذا الرجل ؟ " فقال فتى من الانصار: أنا.
فقام الانصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس نادانى رسول الله فقال:
" تعال يا أخا تنوخ " فأقبلت أهوى حتى كنت قائما في مجلسي الذى كنت بين
يديه، فحل حبوته عن ظهره وقال: " هاهنا امض لما أمرت به " فجلت في ظهره
فإذا أنا بخاتم في موضع غضون الكيف مثل الحجمة (1) الضخمة.
هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به تفرد به الامام أحمد.
مصالحته (2) عليه السلام ملك أيلة وأهل جرباء وأذرح وهو مخيم على تبوك قبل رجوعه
قال ابن إسحاق: ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن
رؤبة صاحب أيلة، فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية، وأتاه أهل
جرباء وأذرح فأعطوه الجزية.
وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فهو عندهم.
فكتب ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة: بسم الله الرحمن الرحيم، هذه أمنة من الله ومحمد
النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة
الله و [ ذمة ] (3) محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر،
فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه
لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه (4) من بر أو بحر.
__________
(1) الحجمة: النتوء (2) ت: كتابه (ص) ليحنة.
(3) من ابن هشام.
(4) ابن هشام: يريدونه.
(*)
زاد يونس بن بكير عن ابن
إسحاق بعد هذا: وهذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله.
قال يونس عن ابن إسحاق: وكتب لاهل جرباء وأذرح: " بسم الله الرحمن الرحيم،
هذا كتاب من محمد النبي رسول الله لاهل جرباء وأذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان
محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب، ومائة أوقية طيبة، وأن الله عليهم كفيل
بالنصح والاحسان إلى المسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين ".
قال: وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أهل أيلة برده مع كتابه أمانا لهم.
قال: فاشتراه بعد ذلك أبو العباس عبدالله بن محمد بثلاثمائة دينار.
بعثه عليه السلام خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم دعا خالد بن الوليد فبعثه إلى أكيدر دومة، وهو أكيدر بن
عبدالملك رجل من بنى كندة (1) كان ملكا عليها وكان نصرانيا.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد: " إنك ستجده يصيد البقر ".
فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وفى ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له
ومعه امرأته، وباتت البقر تحك بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل
هذا قط ؟ قال: لا والله.
قالت: فمن يترك هذا ؟ قال: لا أحد.
فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له حسان، فركب
وخرجوا معه بمطاردهم.
فلما خرجوا تلقتهم خيل النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذته وقتلوا أخاه وكان عليه
__________
(1) كذا في ا وفي ت وابن هشام: من كندة.
(*)
قباء من ديباج مخوص بالذهب،
فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه.
قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: رأيت قباء أكيدر حين قدم
به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون
منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتعجبون من هذا [ فوالذي نفسي
بيده ] (1) لمناديل
سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا ".
قال ابن إسحاق: ثم إن خالد بن الوليد لما قدم بأكيدر على رسول الله صلى الله عليه
وسلم حقن له دمه، فصالحه على الجزية، ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته.
فقال رجل من بنى طيئ يقال له بجير بن بجرة في ذلك: تبارك سائق البقرات إنى * رأيت
الله يهدى كل هاد فمن يك حائدا عن ذى تبوك * فإنا قد أمرنا بالجهاد وقد حكى
البيهقى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهذا الشاعر: " لا يفضض الله
فاك " فأتت عليه سبعون سنة ما تحرك له فيها ضرس ولا سن.
وقد روى ابن لهيعة عن أبى الاسود، عن عروة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
خالدا مرجعه من تبوك في أربعمائة وعشرين فارسا إلى أكيدر دومة.
فذكر نحو ما تقدم، إلا أنه ذكر أنه ماكره حتى أنزله من الحصن، وذكر أنه قدم مع
أكيدر إلى رسول الله ثمانمائة من السبى، وألف بعير، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح،
وذكر أنه لما سمع عظيم أيلة يحنة (2) بن رؤبة بقصة أكيدر دومة أقبل قادما إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ليصالحه، فاجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
بتبوك.
فالله أعلم.
__________
(1) من ابن هشام.
(2) الاصل: يحنا.
وهو تحريف.
(*)
وروى يونس بن بكير، عن سعد بن
أوس، عن بلال بن يحيى، أن أبا بكر الصديق كان على المهاجرين في غزوة دومة الجندل،
وخالد بن الوليد على الاعراب في غزوة دومة الجندل.
فالله أعلم.
فصل قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة لم يجاوزها
ثم انصرف قافلا إلى المدينة.
قال: وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروى الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له
وادى المشقق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سبقنا إلى ذلك الماء
فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه ".
قال: فسبقه إليه نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئا فقال: " من سبقنا إلى هذا الماء ؟ "
فقيل له: يا رسول الله فلان وفلان.
فقال: أو لم أنههم أن يستقوا منه حتى آتيه ؟ ثم لعنهم ودعا عليهم.
ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه
بيده ودعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما إن له
حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " لئن بقيتم أو من بقى منكم ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه
وما خلفه ".
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمى، أن عبدالله بن
مسعود كان يحدث قال: قمت من
جوف الليل وأنا مع رسول الله في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر
فاتبعتها أنظر إليها.
قال: فإذا رسول الله وأبو بكر وعمر، وإذا عبدالله ذو البجادين قد مات، وإذا هم قد
حفروا له، ورسول الله في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه، وإذا هو يقول: "
أدنيا إلى أخاكما " فدلياه إليه، فلما هيأه لشقه قال: " اللهم إنى قد
أمسيت راضيا عنه فارض عنه ".
قال: يقول ابن مسعود يا ليتنى كنت صاحب الحفرة.
قال ابن هشام: إنما سمى ذا البجادين لانه كان يريد الاسلام فمنعه قومه وضيقوا
عليه، حتى خرج من بينهم وليس عليه إلا بجاد - وهو الكساء [ الغليظ ] (1) فشقه
باثنين فائتزر بواحدة وارتدى بالاخرى، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمى
ذا البجادين.
قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري عن ابن أكيمة الليثى، عن ابن أخى أبى رهم
الغفاري، أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين - وكان من أصحاب الشجرة - يقول: غزوت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فسرت ذات ليلة معه ونحن بالاخضر، وألقى
الله على النعاس وطفقت أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة النبي صلى الله عليه وسلم
فيفزعنى دنوها منه مخافة أن أصيب رجله في الغرز، فطفقت أحوز راحلتي عنه، حتى
غلبتني عينى في بعض الطريق فزاحمت راحلتي راحلته ورجله في الغرز، فلم أستيقظ إلا
بقوله: " حس " فقلت: يارسول الله استغفر لى.
قال: سر.
__________
(1) سقطت من ا.
(*)
فجعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم يسألنى عمن تخلف عنه من بنى غفار فأخبره به.
فقال وهو يسألنى: " ما فعل النفر الحمر الطوال الثطاط (1) الذين لا شعر في
وجوههم ؟ " فحدثته بتخلفهم قال: " فما فعل النفر السود الجعاد القصاز ؟
" قال: قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا.
قال: " بلى الذين لهم نعم بشبكة شدخ (2) " فتذكرتهم في بنى غفار فلم
أذكرهم، حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا حلفاء فينا، فقلت: يا رسول الله أولئك
رهط من أسلم حلفاء فينا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على
بعير من إبله امرأ نشيطا في سبيل الله ؟ إن أعز أهلى على أن يتخلف عنى المهاجرون
والانصار وغفار وأسلم ".
* * * وقال ابن لهيعة عن أبى الاسود، عن عروة بن الزبير قال: لما قفل رسول الله
صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة هم جماعة من المنافقين بالفتك به وأن
يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، فأخبر بخبرهم، فأمر الناس بالمسير من الوادي وصعد
هو العقبة، وسلكها معه أولئك النفر وقد تلثموا، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أن يمشيا معه، عمار آخذ بزمام الناقة وحذيفة
يسوقها.
فبينما هم يسيرون إذ سمعوا بالقوم قد غشوهم.
فغضب رسول الله وأبصر حذيفة غضبه فرجع إليهم ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم
بمحجنه، فلما رأوا حذيفة ظنوا أن قد أظهر على ما أضمروه من الامر العظيم، فأسرعوا
حتى خالطوا الناس.
__________
(1) الثطاط: جمع ثط، وهو القليل شعر اللحية.
(2) شبكة شدخ: ماء لاسلم بالحجاز.
(*)
وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما فأسرعا حتى قطعوا العقبة ووقفوا ينتظرون الناس،
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: " هل عرفت هؤلاء القوم ؟ "
قال: ما عرفت إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيتهم.
ثم قال: " علمتما ما كان من شأن هؤلاء الركب ؟ " قالا: لا.
فأخبرهما بما كانوا تمالاوا عليه وسماهم لهما واستكتمهما ذلك.
فقالا: يا رسول الله أفلا تأمر بقتلهم ؟ فقال: " أكره أن يتحدث الناس أن
محمدا يقتل أصحابه ".
وقد ذكر ابن إسحاق هذه القصة إلا أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعلم
بأسمائهم حذيفة بن اليمان وحده.
وهذا هو الاشبه والله أعلم.
ويشهد له قول أبى الدرداء لعلقمة صاحب ابن مسعود: أليس فيكم - يعنى أهل الكوفة -
صاحب السواد والوساد.
يعنى ابن مسعود.
أليس فيكم صاحب السر الذى لا يعلمه غيره.
يعنى حذيفة.
أليس فيكم الذى أجاره الله من الشيطان على لسان محمد.
يعنى عمارا.
وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال لحذيفه: أقسمت عليك
بالله أأنا منهم ؟ قال: لا ولا أبرى بعدك أحدا.
يعنى حتى لا يكون مفشيا سر النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: وقد كانوا أربعة عشر رجلا، وقيل: كانوا اثنى عشر رجلا، وذكر ابن إسحاق أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم حذيفة بن اليمان فجمعهم له، فأخبرهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم بما كان من أمرهم وبما تمالاوا عليه.
ثم سرد ابن إسحاق أسماءهم.
قال: وفيهم أنزل الله عزوجل: " وهموا بما لم ينالوا (1) ".
* * * وروى البيهقى من طريق محمد بن سلمة، عن أبى إسحاق، عن الاعمش، عن عمرو ابن
مرة، عن أبى البخترى، عن حذيفة بن اليمان، قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى
الله عليه وسلم أقود به وعمار يسوق الناقة - أو أنا أسوق وعمار يقود به - حتى إذا
كنا بالعقبة إذا باثنى عشر راكبا (2) قد اعترضوه فيها، قال: فأنبهت رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فصرخ بهم فولوا مدبرين.
فقال لنا رسول الله: " هل عرفتم القوم ؟ " قلنا: لا يا رسول الله قد
كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب.
قال: " هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة،
وهل تدرون ما أرادوا ؟ " قلنا: لا.
قال: " أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيلقوه منها ".
قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟
قال: " لا، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقومه، حتى إذا أظهره
الله بهم أقبل عليهم يقتلهم ".
ثم قال: " اللهم ارمهم بالدبيلة " قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة ؟
قال: " هي شهاب من نار تقع على نياط قلب أحدهم فيهلك ".
وفى صحيح مسلم من طريق شعبة: عن قتادة، عن أبى نضرة، عن قيس بن عبادة، قال: قلت
لعمار: أرأيتم صنيعكم هذا، فيما كان من أمر على، أرأى رأيتموه أم شئ عهده إليكم
رسول الله ؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده
__________
(1) سورة التوبة (2) غيرا: رجلا.
(*)
إلى الناس كافة، ولكن حذيفة
أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " في أصحابي اثنا عشر
منافقا منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ".
وفى رواية من وجه آخر عن قتادة: " إن في أمتى اثنى عشر منافقا لا يدخلون
الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة، سراج من النار
يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم ".
قال الحافظ البيهقى: وروينا عن حذيفة أنهم كانوا أربعة عشر - أو خمسة عشر - وأشهد
بالله أن اثنى عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد، وعذر
ثلاثة أنهم قالوا: ما سمعنا المنادى ولا علمنا بما أراد.
وهذا الحديث قد رواه الامام أحمد في مسنده قال: حدثنا يزيد - هو ابن هارون -
أخبرنا الوليد بن عبدالله بن جميع، عن أبى الطفيل، قال: لما أقبل رسول الله صلى
الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى: إن رسول الله آخذ بالعقبة فلا
يأخذها أحد.
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون
على الرواحل، فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عمار
يضرب وجوه الرواحل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: " قد قد
".
حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوادي، فلما هبط ورجع عمار قال: "
يا عمار هل عرفت القوم ؟ " قال: قد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون.
قال: " هل تدرى ما أرادوا ؟ " قال: الله ورسوله أعلم.
قال: أرادوا أن ينفروا برسول الله فيطرحوه ".
قال: فسار عمار رجلا من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: نشدتك بالله كم تعلم كان أصحاب العقبة ؟ قال:
أربعة عشر رجلا.
فقال: إن كنت فيهم فقد كانوا خمسة عشر.
قال: فعذر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة قالوا: ما سمعنا منادى رسول
الله وما علمنا ما أراد القوم.
فقال عمار: أشهد أن الاثنى عشر الباقين حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم
يقوم الاشهاد.
قصة مسجد الضرار قال الله تعالى: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا
بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى،
والله يشهد إنهم لكاذبون، لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن
تقوم فيه
فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين.
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار
فانهار به في نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين، لا يزال بنيانهم الذى بنوا
ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم " (1).
وقد تكلمنا على تفسير ما يتعلق بهذه الآيات الكريمة في كتابنا التفسير بما فيه
كفاية ولله الحمد.
وذكر ابن إسحاق كيفية بناء هذا المسجد الظالم أهله، وكيفية أمر رسول الله صلى الله
بخرابه مرجعه من تبوك قبل دخوله المدينة.
ومضمون ذلك: أن طائفة من المنافقين بنوا صورة مسجد قريبا من مسجد قباء،
__________
(1) سورة التوبة.
(*)
وأرادوا أن يصلى لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيه حتى يروج لهم ما أرادوه من الفساد والكفر والعناد.
فعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم من الصلاة فيه، وذلك أنه كان على جناح سفر إلى
تبوك، فلما رجع منها فنزل بذى أوان - مكان بينه وبين المدينة ساعة - نزل عليه
الوحى في شأن هذا المسجد وهو قوله تعالى: " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا
وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل " الآية.
أما قوله " ضرارا " فلانهم أرادوا مضاهاة مسجد قباء، " وكفرا
" بالله لا للايمان به، " وتفريقا " للجماعة عن مسجد قباء.
" وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل " وهو أبو عامر الراهب الفاسق
قبحه الله، وذلك أنه لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام فأبى
عليه، ذهب إلى مكة فاستنفرهم، فجاءوا عام أحد، فكان من أمرهم ما قدمناه، فلما لم ينهض
أمره ذهب إلى
ملك الروم قيصر ليستنصره على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو عامر على دين
هرقل ممن تنصر معهم من العرب، وكان يكتب إلى إخوانه الذين نافقوا يعدهم ويمنيهم
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، فكانت مكاتباته ورسله تفد إليهم كل حين.
فبنوا هذا المسجد في الصورة الظاهرة، وباطنه دار حرب ومقر لمن يفد من عند أبى عامر
الراهب، ومجمع لمن هو على طريقتهم من المنافقين.
ولهذا قال تعالى: " وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ".
ثم قال: " وليحلفن " أي الذين بنوه " إن أردنا إلا الحسنى "
أي إنما أردنا ببنيانه الخير.
قال الله تعالى: " والله يشهد إنهم لكاذبون ".
ثم قال الله تعالى لرسوله: " لا تقم فيه أبدا " فنهاه عن القيام فيه،
لئلا يقرر أمره،
ثم أمره وحثه على القيام في
المسجد الذى أسس على التقوى من أول يوم وهو مسجد قباء، لما دل عليه السياق
والاحاديث الواردة في الثناء على تطهير أهله مشيرة إليه.
وما ثبت في صحيح مسلم من أنه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينافى ما تقدم،
لانه إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى من أول يوم فمسجد الرسول أولى بذلك وأحرى،
وأثبت في الفضل منه وأقوى.
وقد أشبعنا القول في ذلك في التفسير ولله الحمد.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بذى أوان دعا مالك بن الدخشم
ومعن بن عدى - أو أخاه عاصم بن عدى - رضى الله عنهما فأمرهما أن يذهبا إلى هذا
المسجد الظالم أهله فيحرقاه بالنار، فذهبا فحرقاه بالنار، وتفرق عنه أهله.
قال ابن إسحاق: وكان الذين بنوه اثنى عشر رجلا وهم، خذام بن خالد - وفى
جنب داره كان بناء هذا المسجد - وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة ابن
الازعر، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد.
ونبتل بن الحارث، وبحزج وهو إلى بنى ضبيعة، وبجاد بن عثمان وهو من بنى ضبيعة،
ووديعة بن ثابت وهو إلى بنى أمية.
* * * قلت: وفى غزوة تبوك هذه صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف عبدالرحمن بن
عوف صلاة الفجر، أدرك معه الركعة الثانية منها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذهب يتوضأ ومعه المغيرة بن شعبة فأبطأ على الناس، فأقيمت الصلاة فتقدم
عبدالرحمن بن عوف، فلما سلم الناس أعظموا ما وقع، فقال لهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أحسنتم
وأصبتم " وذلك فيما رواه
البخاري رحمه الله قائلا حدثنا (1).
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن محمد، حدثنا عبدالله بن المبارك، أخبرنا حميد الطويل،
عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة تبوك فدنا من
المدينة فقال: " إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا
معكم " فقالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة ؟ قال: " وهم بالمدينة حبسهم
العذر ".
تفرد به من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان، حدثنى عمرو بن يحيى، عن العباس
بن سهل بن سعد، عن أبى حميد (1) قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
غزوة تبوك حتى إذا أشرفنا على المدينة قال: " هذه طابة (2) وهذا أحد جبل
يحبنا ونحبه ".
ورواه مسلم من حديث سليمان بن بلال به نحوه وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد،
حدثنا سفيان، عن الزهري، عن السائب
ابن يزيد، قال: أذكر أنى خرجت مع الصبيان نتلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
ثنية الوداع مقدمه من غزوة تبوك.
ورواه أبو داود والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو نصر بن قتادة، أخبرنا أبو عمرو بن مطر، سمعت أبا خليفة
يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله صلى الله وسلم المدينة جعل النساء
والصبيان والولائد يقلن:
__________
(1) كذا بالاصل.
(2) ا: عن أبى أحمد.
وهو تحريف.
(3) طابة: من أسماء المدينة.
(*)
طلع البدر علينا * من ثنيات
الوداع وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع قال البيهقى: وهذا يذكره علماؤنا عند
مقدمه المدينة من مكة إلا أنه لما قدم المدينة من ثنيات الوداع عند مقدمه من تبوك،
والله أعلم، فذكرناه هاهنا أيضا.
* * * قال البخاري رحمه الله: حديث كعب بن مالك رضى الله عنه.
حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل عن ابن شهاب، عن عبدالرحمن ابن عبدالله
بن كعب بن مالك، أن عبدالله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه حين عمى -
قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حين تخلف عن قصة تبوك، قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أنى كنت تخلفت في غزوة
بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا (1) على الاسلام وما أحب
أن لى بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها.
كان من خبرى أنى لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما
اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، ولم يكن رسول الله يريد
غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله في حر شديد واستقبل
سفرا بعيدا وعددا (2) كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فأخبرهم
__________
(1) الاصل: حتى تواثبنا.
وما أثبته من صحيح البخاري 2 / 274 (2) البخاري: ومفازا وعدوا كثيرا.
(*)
بوجهه الذى يريد، والمسلمون
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - قال
كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحى الله وغزا رسول
الله صلى الله عليه وسلم [ تلك الغزوة (1) ] حين طابت الثمار والظلال.
وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكى أتجهز معهم
فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه.
فلم يزل يتمادى بى حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله والمسلمون معه ولم أقض
من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقهم.
فغدوت بعد أن فصلوا لاتجهز فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا.
فلم يزل بى حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم - وليتني فعلت - فلم
يقدر لى ذلك.
فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله فطفت فيهم أحزنني أنى لا أرى
إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء.
ولم يذكرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوكا، فقال وهو جالس في القوم
بتبوك: " ما فعل كعب ؟ " فقال رجل من بنى سلمة: يا رسول الله حبسه برداه
ونظره في عطفيه.
فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همى، وطفقت أتذكر الكذب
وأقول: بماذا أخرج غدا من سخطه ؟ واستعنت على ذلك بكل ذى رأى من
__________
(1) من صحيح البخاري.
(*)
أهلى، فلما قيل: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عنى الباطل، وعرفت أنى لن أخرج منه أبدا بشئ
فيه كذب، فأجمعت صدقه.
وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع
فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون
له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم
وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله عزوجل.
فجئته، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ثم قال: " تعال " فجئت أمشى حتى
جلست بين يديه، فقال لى: " ما خلفك ؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك ؟ " فقلت:
بلى إنى والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر - ولقد
أعطيت جدلا - ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنى ليوشكن
الله أن يسخطك على، ولئن حدثتك حديث صدق تجد على فيه إنى لارجو فيه عفو الله، لا
والله ماكان لى من عذر، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر
منى حين تخلفت عنك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضى الله
فيك ".
فقمت فثار رجال من بنى سلمة فاتبعوني فقالوا لى: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل
هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه
المخلفون ؟ وقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك.
فو الله ما زالوا يؤنبوننى حتى هممت أن أرجع فأكذب نفسي.
ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحد ؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل
ما قيل لك.
فقلت: من هما ؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمرى وهلال بن أمية الواقفى
فذكروا لى رجلين صالحين قد
شهدا بدرا فيهما أسوة.
فمضيت حين ذكروهما لى.
* * * ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين
من تخلف.
فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت في نفسي الارض فما هي التى أعرف، فلبثنا على
ذلك خمسين ليلة.
فأما صاحباى فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم،
فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف في الاسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، وأقول في نفسي: هل
حرك شفتيه برد السلام على أم لا ؟ ثم أصلى قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت
على صلاتي أقبل إلى، وإذا التفت نحوه أعرض عنى.
حتى إذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت حتى (1) تسورت جدار حائط
أبى قتادة - وهو ابن عمى وأحب الناس إلى - فسلمت عليه، فوالله ما رد على السلام،
فقلت: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله ؟ فسكت.
فعدت له فنشدته فسكت، فعدت له فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناى وتوليت
حتى تسورت الجدار.
قال: وبينا أنا أمشى بسوق المدينة إذا نبطى من أنباط أهل الشام ممن قدم بطعام
يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك ؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا
جاءني دفع إلى كتابا من ملك غسان في سرقة من حرير فإذا فيه: أما بعد، فإنه قد
بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك.
فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء ! فتيممت بها التنور فسجرته بها.
__________
(1) ا: حتى إذا.
(*)
فأقمنا على ذلك، حتى إذا مضت
أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: رسول
الله يأمرك أن تعتزل امرأتك.
فقلت: اطلقها أم ماذا أفعل ؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها.
وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقى بأهلك فكوني عندهم حتى يقضى الله
في هذا الامر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن
أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه ؟ قال: " لا ولكن لا يقربك
" قالت: إنه والله ما به حركة إلى شئ، والله ما زال يبكى منذ كان من أمره ما
كان إلى يومه هذا.
فقال لى بعض أهلى: لو استأذنت رسول الله في امرأتك كما استأذن هلال به أمية أن
تخدمه ؟ فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله، وما يدرينى ما يقول رسول الله إذا
استأذنته فيها وأنا رجل شاب.
* * *
قال: فلبثت بعد ذلك عشر ليال، حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله عن
كلامنا.
فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على
الحال التى ذكر الله عزوجل، قد ضاقت على نفسي وضاقت على الارض بما رحبت سمعت صوت
صارخ أوفى على جبل سلع بأعلى صوته: يا كعب أبشر.
فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله بتوبة الله علينا حين صلى صلاة
الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلى فرسا، وسعى ساع
من أسلم فأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس.
فلما جاءني الذى سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوته إياهما ببشراه،
والله ما أملك غيرهما يومئذ !
واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس
فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك.
قال كعب: حتى دخلت المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس،
فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأنى، والله ما قام إلى رجل من
المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك
".
قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: " لا بل من عند الله
" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر،
وكنا
نعرف ذلك منه.
فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالى صدقة إلى الله
وإلى رسوله.
قال رسول الله: " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " قلت: فإنى أمسك سهمي
الذى بخيبر.
وقلت: يا رسول الله إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أتحدث إلا صدقا
ما بقيت.
فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول
الله أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
يومى هذا كذبا، وإنى لارجو أن يحفظني الله فيما بقيت.
وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: " لقد تاب الله على النبي
والمهاجرين
والانصار " إلى قوله:
" وكونوا مع الصادقين " فو الله ما أنعم الله على من نعمة قط بعد أن
هداني للاسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أكون (1)
كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تعالى قال للذين كذبوا حين أنزل الوحى
شر ما قال لاحد، قال الله تعالى: " سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم
لتعرضوا عنهم " إلى قوله: " فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ".
قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله حين
حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال
الله تعالى: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " ليس الذى ذكر الله مما خلفنا
من الغزو وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منهم.
وهكذا رواه مسلم من طريق الزهري بنحوه.
وهكذا رواه محمد بن إسحاق عن الزهري مثل سياق البخاري، وقد سقناه في التفسير من
مسند الامام أحمد، وفيه زيادات
يسيرة.
ولله الحمد والمنة.
ذكر أقوام تخلفوا من العصاة غير هؤلاء قال على بن طلحة الوالبى عن ابن عباس في
قوله تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله
أن يتوب عليهم إن الله هو التواب الرحيم " (2) قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضروا رجوعه أوثق سبعة منهم
أنفسهم بسوارى المسجد.
فلما مر بهم رسول الله قال: " من هؤلاء ؟ " قالوا: أبو لبابة وأصحاب له
تخلفوا عنك، حتى تطلقهم وتعذرهم.
قال: " وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون
__________
(1) غير ا: ان لا أكون.
ولا هنا زائدة.
أي أن أكون.
(2) سورة التوبة.
(*)
الله عزوجل هو الذى يطلقهم،
رغبوا عنى وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين ".
فلما أن بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله هو الذى يطلقنا.
فأنزل الله عزوجل: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " الآية.
" وعسى " من الله واجب.
فلما أنزلت أرسل إليهم رسول الله فأطلقهم وعذرهم، فجاءوا بأموالهم وقالوا: يا رسول
الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا.
فقال: " ما أمرت أن آخذ أموالكم ".
فأنزل الله: " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن
لهم إن الله سميع عليم " إلى قوله: " وآخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم
وإما يتوب عليهم ".
وهم الذين لم يربطوا أنفسهم بالسوارى، فأرجئوا حتى نزل قوله تعالى: " لقد تاب
الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه " إلى آخرها.
وكذا رواه عطية بن سعيد العوفى عن ابن عباس بنحوه.
وقد ذكر سعيد بن المسيب ومجاهد ومحمد بن إسحاق قصة أبى لبابة وما كان من أمره يوم
بنى قريظة وربطه نفسه حتى تيب عليه، ثم إنه تخلف عن غزوة تبوك فربط نفسه أيضا حتى
تاب الله عليه، وأراد أن ينخلع من ماله كله صدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " يكفيك من ذلك الثلث ".
قال مجاهد وابن إسحاق: وفيه نزل: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " الآية.
قال سعيد بن المسيب: ثم لم ير منه بعد ذلك في الاسلام إلا خير رضى الله عنه
وأرضاه.
قلت: ولعل هؤلاء الثلاثة لم يذكروا معه بقية أصحابه، واقتصروا على ذكره لانه كان
كالزعيم لهم، كما دل عليه سياق ابن عباس.
والله أعلم.
وروى الحافظ البيهقى من طريق
أبى أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن عياض بن عياض، عن أبيه،
عن ابن مسعود قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن منكم
منافقين فمن سميت فليقم، قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان " حتى عد ستة
وثلاثين، ثم قال، " إن فيكم - أو إن منكم - منافقين فسلوا الله العافية
".
قال: فمر عمر برجل متقنع، وقد كان بينه وبينه معرفة، فقال: ما شأنك ؟ فأخبره بما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بعدا لك سائر اليوم.
قلت: كان المتخلفون عن غزوة تبوك أربعة أقسام: مأمورون مأجورون، كعلى بن أبى طالب
ومحمد بن مسلمة وابن أم مكتوم.
ومعذورون، وهم الضعفاء والمرضى، والمقلون وهم البكاءون.
وعصاة مذنبون وهم الثلاثة، وأبو لبابة وأصحابه المذكورون.
وآخرون ملومون مذمومون، وهم المنافقون.
ذكر ما كان من الحوادث بعد
رجوعه عليه السلام
إلى المدينة منصرفه من تبوك قال الحافظ البيهقى: حدثنا أبو عبد الله الحافظ إملاء،
أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبوالبخترى عبدالله بن شاكر، حدثنا زكريا
بن يحيى، حدثنا عم أبى زخر بن حصن، عن جده حميد بن منهب، قال: سمعت جدى خريم بن
أوس بن حارثة ابن لام يقول: هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك،
فسمعت العباس بن عبدالمطلب يقول: يا رسول الله إنى أريد أن أمتدحك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قل لا يفضض الله فاك " فقال: من
قبلها طبت في الظلال وفى * مستودع حيث يخصف الورق ثم هبطت البلاد لا بشر * أنت ولا
نطفة ولا علق بل نطفة تركب السفين وقد * ألجم نسرا وأهله الغرق تنقل من صالب إلى
رحم * إذا مضى عالم بدا طبق حتى احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء تحتها النطق
(1) وأنت لما ولدت أشرقت الار * ض فضاءت بنورك الافق فنحن في ذلك الضياء وفى النور
* وسبل الرشاد نخترق ثم رواه البيهقى من طريق أخرى، عن أبى السكن زكريا بن يحيى
الطائى، وهو في جزء له مروى عنه.
قال البيهقى: وزاد ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذه الحيرة
البيضاء رفعت لى، وهذه الشيماء بنت نفيلة الازدية على بغلة شهباء معتجرة بخمار
أسود.
" فقلت: يا رسول
__________
(1) النطق: أعراض ونواح من جبال بعضها فوق بعض، شبهت بالنطق التى تشد بها الاوساط.
(*)
الله إن نحن دخلنا الحيرة
فوجدتها كما تصف فهى لى ؟ قال: " هي لك ".
قال: ثم كانت الردة فما ارتد أحد من طيئ، وكنا نقاتل من يلينا من العرب على
الاسلام، فكنا نقاتل قيسا وفيها عيينة بن حصن، وكنا نقاتل بنى أسد وفيهم طلحة ابن
خويلد، وكان خالد بن الوليد يمدحنا، وكان فيما قال فينا: جزى الله عنا طيئا في
ديارها * بمعترك الابطال خير جزاء هم أهل رايات السماحة والندى * إذا ما الصبا
ألوت بكل خباء هم ضربوا قيسا على الدين بعد ما * أجابوا منادى ظلمة وعماء قال: ثم
سار خالد إلى مسيلمة الكذاب فسرنا معه، فلما فرغنا من مسيلمة أقبلنا إلى ناحية
البصرة، فلقينا هرمز بكاظمة (1) في جيش هو أكبر من جمعنا، ولم يكن أحد من العجم
(2) أعدى للعرب والاسلام من هرمز، فخرج إليه خالد ودعاه إلى البراز فبرز له فقتله
خالد، وكتب بخبره إلى الصديق فنفله سلبه، فبلغت قلنسوة هرمز مائة ألف درهم، وكانت
الفرس إذا شرف فيها الرجل جعلت قلنسوته بمائة ألف درهم.
قال: ثم قفلنا على طريق الطف إلى الحيرة، فأول من تلقانا حين دخلناها الشيماء بنت
نفيلة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بغلة شهباء معتجرة بخمار أسود، فتعلقت
بها وقلت: هذه وهبها لى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدعاني خالد عليها بالبينة فأتيته بها، وكانت البينة محمد بن مسلمة ومحمد بن بشير
الانصاري، فسلمها إلى.
فنزل إلى أخوها عبدالمسيح يريد الصلح فقال: بعنيها.
فقلت: لا أنقصها والله عن عشرة مائة درهم.
فأعطاني ألف درهم وسلمتها إليه، فقيل لى: لو قلت مائة ألف لدفعها إليك.
فقلت: ما كنت أحسب أن عددا أكثر من عشر مائة !
__________
(1) كاظمة: جو على سيف البحر، في طريق البحرين من البصرة، بينها وبين البصرة
مرحلتان.
مراصد الاطلاع 3 / 1143.
(2) ت: من الناس.
وفى ا: من العرب.
(*)
قدوم وفد ثقيف على رسول الله
صلى الله عليه وسلم في رمضان من سنة تسع تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما
ارتحل عن ثقيف سئل أن يدعو عليهم فدعا لهم بالهداية.
وقد تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلم مالك بن عوف النصرى أنعم عليه
وأعطاه وجعله أميرا على من أسلم من قومه، فكان يغزو بلاد ثقيف ويضيق عليهم حتى
ألجأهم إلى الدخول في الاسلام.
وتقدم أيضا فيما رواه أبو داود عن صخر بن العيلة الاحمسي أنه لم يزل بثقيف حتى
أنزلهم من حصنهم على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل بهم إلى المدينة
النبوية بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في ذلك.
وقال ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من تبوك في رمضان،
وقدم عليه في ذلك الشهر وفد من ثقيف.
وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتبع أثره عروة بن
مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالاسلام.
فقال له رسول الله - كما يتحدث قومه -: " أنهم قاتلوك " وعرف رسول الله
أن فيهم نخوة الامتناع للذى كان منهم، فقال عروة: يا رسول الله أنا أحب إليهم من
أبكارهم (1) وكان فيهم كذلك محببا مطاعا.
__________
(1) قال ابن هشام: ويقال من أبصارهم.
(*)
فخرج يدعو قومه إلى الاسلام
رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على علية له وقد دعاهم إلى الاسلام
وأظهر لهم دينه، رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه
سهم فقتله.
فيزعم بنو مالك أنه قتله رجل منهم يقال له أوس بن عوف أخو بنى سالم بن مالك ويزعم
الاحلاف أنه قتله رجل منهم من بنى عتاب يقال له وهب بن جابر، فقيل لعروة ما ترى في
ديتك (1) ؟ قال: كرامة أكرمنى الله بها، وشهادة ساقها الله إلى، فليس في إلا ما في
الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني
معهم.
فدفنوه معهم.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: " إن مثله في قومه كمثل
صاحب يس في قومه ".
وهكذا ذكر موسى بن عقبة قصة عروة، ولكن زعم أن ذلك كان بعد حجة أبى بكر الصديق،
وتابعه أبو بكر البيهقى في ذلك.
وهذا بعيد.
والصحيح أن ذلك قبل حجة أبى بكر، كما ذكره ابن إسحاق.
والله أعلم.
* * * قال إبن اسحاق: ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم
رأوا أنه لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب، وقد بايعوا وأسلموا.
فائتمروا فيما بينهم، وذلك عن رأى عمرو بن أمية أخى بنى علاج، فائتمروا بينهم ثم
أجمعوا على أن يرسلوا رجلا منهم، فأرسلوا عبد ياليل بن عمرو بن عمير ومعه اثنان من
الاحلاف وثلاثة من بنى مالك ; وهم الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب،
__________
(1) ابن هشام: في دمك.
(*)
وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن
معتب، وعثمان بن أبى العاص، وأوس بن عوف أخو بنى سالم، ونمير بن خرشة بن ربيعة.
وقال موسى بن عقبة: كانوا بضعة عشر رجلا فيهم كنانة بن عبد ياليل - وهو
رئيسهم - وفيهم عثمان بن أبى العاص وهو أصغر الوفد.
قال ابن إسحاق: فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة (1) ; ألفوا المغيرة بن شعبة
يرعى في نوبته ركاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهم ذهب يشتد ليبشر
رسول الله بقدومهم، فلقيه أبو بكر الصديق فأخبره عن ركب ثقيف أن قدموا يريدون
البيعة والاسلام بأن يشرط لهم رسول الله شروطا ويكتبوا كتابا في قومهم، فقال أبو
بكر للمغيرة: أقسمت عليك لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا أحدثه.
ففعل المغيرة فدخل أبو بكر فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومهم، ثم خرج
المغيرة إلى أصحابه فروح الظهر معهم، وعلمهم كيف يحيون (2) رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلم يفعلوا إلا بتحية الجاهلية.
ولما قدموا على رسول الله ضربت عليهم قبة في المسجد، وكان خالد بن سعيد بن العاص
هو الذى يمشى بينهم وبين رسول الله، فكان إذا جاءهم بطعام من عنده لم يأكلوا منه
حتى يأكل خالد بن سعيد قبلهم، وهو الذى كتب لهم كتابهم.
قال: وكان مما اشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدع لهم الطاغية (3)
ثلاث سنين، فما برحوا يسألونه سنة سنة ويأبى عليهم حتى سألوه شهرا واحدا بعد
مقدمهم ليتألفوا سفهاءهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، إلا أن يبعث معهم أبا
سفيان بن حرب والمغيرة ليهدماها.
__________
(1) قناة: واد بالمدينة، قيل: يأتي من الطائف.
المراصد 3: 1125.
(2) ا: يجيئون.
(3) الطاغية: اللات.
(*)
وسألوه مع ذلك ألا يصلوا وألا
يكسروا أصنامهم بأيديهم فقال: " أما كسر أصنامكم بأيديكم فسنعفيكم من ذلك.
وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه.
" فقالوا: سنؤتيكها وإن كانت دناءة.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا محمد بن مسلمة، عن حميد، عن الحسن، عن
عثمان بن أبى العاص، أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلها
المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يحشروا
(1) ولا يعشروا ولا يجبوا ولا يستعمل عليهم غيرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " لكم ألا تحشروا ولا تعشروا ولا يستعمل عليكم غيركم، ولا خير في في
دين لا ركوع فيه ".
وقال عثمان بن أبى العاص: يا رسول الله علمني القرآن واجعلني إمام قومي.
وقد رواه أبو داود من حديث أبى داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن حميد به.
وقال أبو داود: حدثنا الحسن بن الصباح، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، حدثنى
إبراهيم بن عقيل بن معقل بن منبه، عن وهب، سألت جابرا عن شأن ثقيف إذ بايعت قال:
اشترطت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك: " سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا
".
* * * قال ابن إسحاق: فلما أسلموا وكتب لهم كتابهم أمر عليهم عثمان بن أبى العاص -
وكان من أحدثهم سنا - لان الصديق قال: يا رسول الله إنى رأيت هذا الغلام من أحرصهم
على التفقه في الاسلام وتعلم القرآن.
__________
(1) الحشر: الانتداب إلى المغازى.
(*)
وذكر موسى بن عقبة أن وفدهم
كانوا إذا أتوا رسول الله خلفوا عثمان بن أبى العاص في رحالهم، فإذا رجعوا وسط
النهار جاء هو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن العلم واستقرأه القرآن،
فإن وجده نائما ذهب إلى أبى بكر الصديق، فلم يزل دأبه حتى
فقه في الاسلام وأحبه رسول الله صلى الله غليه وسلم حبا شديدا.
* * * قال ابن إسحاق: حدثنى سعيد بن أبى هند، عن مطرف بن عبدالله بن الشخير، عن
عثمان بن أبى العاص، قال: كان من آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
بعثنى إلى ثقيف قال: " يا عثمان تجوز في الصلاة، واقدر الناس بأضعفهم، فإن
فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة ".
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا سعيد الجريرى، عن أبى
العلاء، عن مطرف، عن عثمان بن أبى العاص، قال: قلت يا رسول الله اجعلني إمام قومي.
قال: " أنت إمامهم، فاقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا
".
رواه أبو داود والترمذي من حديث حماد بن سلمة به.
ورواه بن ماجه عن أبى بكر ابن أبى شيبة، عن إسماعيل بن علية، عن محمد بن إسحاق.
كما تقدم.
وروى أحمد عن عفان، عن وهب، وعن معاوية بن عمرو، عن زائدة كلاهما عن عبدالله بن
عثمان بن خثيم، عن داود بن أبى عاصم، عن عثمان بن أبى العاص، أن آخر ما فارقه رسول
الله حين استعمله على الطائف أن قال: " إذا صليت بقوم فخفف بهم، حتى وقت لى:
" اقرأ باسم ربك الذى خلق، وأشباهها من القرآن ".
وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت سعيد ابن
المسيب، قال: حدث عثمان بن أبى العاص قال: آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن قال: " إذا أممت قوما فخفف بهم الصلاة ".
ورواه مسلم (1) عن محمد بن
مثنى وبندار، كلاهما عن محمد بن جعفر، عن غندر به.
وقال أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن بن يعلى
الطائفي، عن عبدالله بن الحكم، أنه سمع عثمان بن أبى العاص يقول: استعملني رسول
الله صلى الله عليه وسلم على الطائف، فكان آخر ما عهد إلى أن قال: " خفف عن
الناس الصلاة ".
تفرد به من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، أخبرنا عمرو بن عثمان، حدثنى موسى - هو ابن طلحة -
أن عثمان بن أبى العاص حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤم قومه ثم
قال: " من أم قوما فليخفف بهم، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة، فإذا صلى
وحده فليصل كيف شاء ".
ورواه مسلم من حديث عمرو بن عثمان به.
وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن النعمان بن سالم، سمعت أشياخا من
ثقيف قالوا: حدثنا عثمان بن أبى العاص أنه قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " أم قومك، وإذا أممت قوما فخفف بهم الصلاة فإنه يقوم فيها الصغير
والكبير والضعيف والمريض وذو الحاجة ".
وقال أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الجريرى، عن أبى العلاء بن الشخير أن
عثمان قال: يا رسول الله حال الشيطان بينى وبين صلاتي وقراءتي.
قال: " ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أنت حسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن
يسارك ثلاثا " قال ففعلت ذلك فأذهبه الله عنى.
__________
(1) الحديث رواه مسلم في باب أمر الائمة بتخفيف الصلاة في تمام: حدثنا محمد بن
المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال سمعت
سعيد بن المسيب، قال حدث عثمان ابن أبى العاص قال: آخر ما عهد - الخ.
صحيح مسلم 1 / 342 ط الحلبي.
(*)
ورواه مسلم من حديث سعيد
الجريرى به.
وروى مالك وأحمد ومسلم وأهل السنن من طرق، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عثمان بن
أبى العاص، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده، فقال له:
" ضع يدك على الذى يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات أعوذ بعزة
الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ".
وفى بعض الروايات: ففعلت ذلك فأذهب الله ما كان بى، فلم أزل آمر به أهلى وغيرهم.
وقال أبو عبد الله بن ماجه: حدثنا محمد بن بشار (1) حدثنا محمد بن عبدالله
الانصاري، حدثنى عيينة بن عبدالرحمن - هو ابن جوشن - حدثنى أبى، عن عثمان ابن أبى
العاص، قال: لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لى شئ
في صلاتي حتى ما أدرى ما أصلى، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: " ابن أبى العاص ؟ " قلت: نعم يا رسول الله.
قال: " ما جاء بك ؟ " قلت: يا رسول الله عرض لى شئ في صلاتي حتى ما أدرى
ما أصلى.
قال: " ذاك الشيطان ادن " فدنوت منه فجلست على صدور قدمى، قال: فضرب
صدري بيده وتفل في فمى وقال: " اخرج عدو الله " فعل ذلك ثلاث مرات ثم
قال: " الحق بعملك ".
قال فقال عثمان: فلعمري ما أحسبه خالطني بعد.
تفرد به ابن ماجه.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني عيسى بن عبدالله، عن عطية بن سفيان بن ربيعة الثقفى،
عن بعض وفدهم قال: كان بلال يأتينا حين أسلمنا وصمنا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم
__________
(1) الاصل: ابن يسار.
وما أثبته عن سنن ابن ماجه حديث رقم 3548.
(*)
ما بقى من شهر رمضان بفطورنا
وسحورنا، فيأتينا بالسحور وإنا لنقول: إنا لنرى
الفجر قد طلع ؟ فيقول: قد تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسحر لتأخير السحور.
ويأتينا بفطرنا وإنا لنقول: ما نرى الشمس ذهبت كلها بعد.
فيقول: ما جئتكم حتى أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم يضع يده في الجفنة فيلقم منها.
وروى الامام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عبدالله بن عبدالرحمن بن يعلى
الطائفي، عن عثمان بن عبدالله بن أوس، عن جده أوس بن حذيفة، قال: قدمنا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف.
قال: فنزلت الاحلاف على المغيرة بن شعبة ؟ وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى
مالك في قبة له، كل ليلة يأتينا بعد العشاء يحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين
رجليه من طول القيام، فأكثر ما يحدثنا مالقى من قومه من قريش، ثم يقول: " لا
آسى (1)، وكنا مستضعفين مستذلين بمكة، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب
بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا.
فلما كانت ليلة أبطأ عنا الوقت الذى كان يأتينا فيه، فقلنا: لقد أبطأت علينا
الليلة.
فقال: " إنه طرأ على حزبى من القرآن فكرهت أن أجئ حتى أتمه ".
قال أوس: سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تحزبون القرآن ؟ فقالوا:
ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده.
لفظ أبى داود.
* * *
__________
(1) ابن ماجه: ولا سواء.
(*)
قال ابن إسحاق: فلما فرغوا من
أمرهم وتوجهوا إلى بلادهم راجعين ; بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم أبا
سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة في
هدم الطاغية.
فخرجا مع القوم، حتى إذا قدموا الطائف أراد المغيرة أن يقدم أبا سفيان فأبى ذلك
عليه أبو سفيان وقال: ادخل أنت على قومك.
وأقام أبو سفيان بماله بذى الهدم (1).
فلما دخل المغيرة علاها يضربها بالمعول، وقام قومه بنى معتب دونه خشية أن يرمى أو
يصاب كما أصيب عروة بن مسعود.
قال: وخرج نساء ثقيف حسرا يبكين عليها ويقلن: لنبكين (2) دفاع * أسلمها الرضاع (3)
* لم يحسنوا المصاع (4) * قال ابن إسحاق: ويقول أبو سفيان - والمغيرة يضربها
بالفأس -: واها لك ! آها لك.
فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل إلى أبى سفيان، فقال له: إن رسول الله
قد أمرنا أن نقضى عن عروة بن مسعود وأخيه الاسود بن مسعود والد قارب بن الاسود
دينهما من مال الطاغية.
فقضى ذلك عنهما.
قلت: كان الاسود قد مات مشركا، ولكن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك تأليفا
وإكراما لولده قارب بن الاسود رضى الله عنه.
* * *
__________
(1) الهدم: ماء وراء وادى القرى.
مراصد الاطلاع 2 / 1454 (2) وتروى لتبكين.
كما في ابن هشام.
(3) الدفاع: الشئ العظيم يدفع به مثله.
سموها بذلك لظنهم أنها تدفع عنهم.
والرضاع: اللئيم.
(4) المصاع: الضرب.
(*)
وذكر موسى بن عقبة أن وفد
ثقيف كانوا بضعة عشر رجلا، فلما قدموا
أنزلهم رسول الله المسجد ليسمعوا القرآن، فسألوه عن الربا والزنا والخمر، فحرم
عليهم ذلك كله.
فسألوه عن الربة ما هو صانع بها ؟ قال: " اهدموها ".
قالوا: هيهات ! لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها قتلت أهلها.
فقال عمر بن الخطاب: ويحك يابن عبد ياليل ما أجهلك ! إنما الربة حجر.
فقالوا: إنا لم نأتك يابن الخطاب.
ثم قالوا: يا رسول الله تول أنت هدمها، أما نحن فإنا لن نهدمها أبدا.
فقال: " سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها ".
فكاتبوه على ذلك، واستأذنوه أن يسبقوا رسله إليهم، فلما جاءوا قومهم تلقوهم
فسألوهم: ما وراءكم ؟ فأظهروا الحزن وأنهم إنما جاءوا من عند رجل فظ غليظ قد ظهر
بالسيف، يحكم ما يريد، وقد دوخ العرب، قد حرم الربا والزنا والخمر، وأمر بهدم
الربة.
فنفرت ثقيف وقالوا: لا نطيع لهذا أبدا.
قال: فتأهبوا للقتال وأعدوا السلاح، فمكثوا على ذلك يومين - أو ثلاثة - ثم ألقى
الله في قلوبهم الرعب، فرجعوا وأنابوا وقالوا: ارجعوا إليه فشارطوه على ذلك
وصالحوه عليه.
قالوا: فإنا قد فعلنا ذلك ووجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم، وقد بورك
لنا ولكم في مسيرنا إليه وفيما قاضيناه عليه، فافهموا ما في القضية واقبلوا عافية
الله.
قالوا: فلم كتمتمونا هذا أولا ؟ قالوا: أردنا أن ينزع الله من قلوبكم نخوة
الشيطان.
فأسلموا مكانهم.
ومكثوا أياما ثم قدم عليهم
رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمر عليهم
خالد بن الوليد، وفيهم المغيرة بن شعبة، فعمدوا إلى اللات وقد استكفت ثقيف رجالها
ونساؤها والصبيان، حتى خرج العواتق من الحجال، ولا يرى عامة ثقيف أنها مهدومة
ويظنون أنها ممتنعة.
فقام المغيرة بن شعبة فأخذ الكرزين - يعنى المعول - وقال لاصحابه: والله لاضحكنكم
من ثقيف.
فضرب بالكرزين ثم سقط يركض برجله، فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وفرحوا وقالوا:
أبعد الله المغيرة قتلته الربة ! وقالوا لاولئك: من شاء منكم فليقترب.
فقام المغيرة فقال: والله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر، فاقبلوا عافية
الله واعبدوه.
ثم إنه ضرب الباب فكسره.
ثم علا سورها وعلا الرجال معه، فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سووها بالارض.
وجعل سادنها يقول: ليغضبن الاساس فليخسفن بهم.
فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد: دعني أحفر أساسها.
فحفروه حتى أخرجوا ترابها وجمعوا ماءها وبناءها.
وبهتت عند ذلك ثقيف.
ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم أموالها من يومه، وحمدوا الله
تعالى على إعزاز دينه ونصرة رسوله.
* * * قال ابن إسحاق: وكان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى كتب لهم:
" بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين.
إن عضاه وج (1) وصيده لا يعضد، من وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه،
وإن تعدى ذلك فإنه يؤخذ
__________
(1) العضاه: أعظم الشجر، أو كل ذى شوك.
ووج: واد بالطائف.
(*)
فيبلغ به النبي محمد، وإن هذا
أمر النبي محمد.
وكتب خالد بن سعيد بأمر الرسول محمد بن
عبدالله، فلا يتعده أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبدالله بن الحارث - من أهل مكة مخزومي - حدثنى محمد
بن عبدالله بن إنسان - وأثنى عليه خيرا - عن أبيه عن عروة بن الزبير، قال: أقبلنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من لية (1) حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم في طرف القرن حذوها، فاستقبل محبسا ببصره - يعنى واديا - ووقف
حتى اتفق الناس كلهم ثم قال: " إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله " وذلك
قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا.
وقد رواه أبو داود من حديث محمد بن عبدالله بن إنسان الطائفي، وقد ذكره ابن حبان
في ثقاته.
وقال ابن معين: ليس به بأس.
وتكلم فيه بعضهم.
وقد ضعف أحمد والبخاري وغيرهما هذا الحديث، وصححه الشافعي وقال بمقتضاه.
والله أعلم.
ذكر موت عبدالله بن أبى قبحه الله قال محمد بن إسحاق: حدثنى الزهري، عن عروة، عن
أسامة بن زيد، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبدالله بن أبى يعوده في
مرضه الذى مات فيه، فلما عرف فيه الموت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
أما والله إن كنت لانهاك عن حب يهود.
" فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة فمه ؟ وقال الواقدي: مرض عبدالله بن أبى في
ليال بقين من شوال، ومات في ذى القعدة
__________
(1) لية: جبل بالطائف.
المراصد.
(*)
وكان مرضه عشرين ليلة، فكان
رسول الله يعوده فيها.
فلما كان اليوم الذى مات فيه دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود
بنفسه فقال: " قد نهيتك عن حب يهود " فقال: قد أبغضهم أسعد بن زرارة
فما نفعه ؟ ثم قال: يا رسول الله ليس هذا بحين عتاب هو الموت، فاحضر غسلى وأعطني
قميصك الذى يلى جلدك فكفني فيه وصل على واستغفر لى.
ففعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى البيهقى من حديث سالم بن عجلان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس نحوا مما ذكره
الواقدي.
فالله أعلم.
وقد قال إسحاق بن راهويه: قلت لابي أسامة: أحدثكم عبيدالله عن نافع عن ابن عمر
قال: لما توفى عبدالله بن أبى بن سلول جاء ابنه عبدالله إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه ليكفنه فيه فأعطاه، ثم سأله أن يصلى عليه.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى عليه، فقام عمر بن الخطاب فأخذ بثوبه
فقال: يا رسول الله، تصلى عليه وقد نهاك الله عنه ؟ فقال رسول الله: " إن ربى
خيرنى فقال: " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر
الله لهم.
" وسأزيد على السبعين ".
فقال: إنه منافق أتصلى عليه ؟ فأنزل الله عزوجل: " ولا تصل على أحد منهم مات
أبدا ولا تقم على قبره، إنهم كفروا بالله ورسوله " فأقر به أبو أسامة وقال:
نعم.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث أبى أسامة.
وفى رواية للبخاري وغيره قال
عمر: فقلت: يا رسول الله تصلى عليه وقد قال في يوم كذا كذا وكذا، وقال في يوم كذا
كذا وكذا ؟ ! فقال: " دعني يا عمر فإنى بين خيرتين، ولو أعلم أنى إن زدت على
السبعين غفر له
لزدت ": ثم صلى عليه.
فأنزل الله عزوجل " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره "
الآية.
قال عمر: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله وسوله أعلم.
وقال سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، سمع جابر بن عبدالله يقول: أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم قبر عبدالله بن أبى بعد ما أدخل حفرته، فأمر به فأخرج فوضعه
على ركبتيه - أو فخذيه - ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه.
فالله أعلم.
وفى صحيح البخاري بهذا الاسناد مثله، وعنده أنه إنما ألبسه قميصه مكافأة لما كان
كسا العباس قميصا حين قدم المدينة فلم يجدوا قميصا يصلح له إلا قميص عبدالله بن
أبى.
وقد ذكر البيهقى هاهنا قصة ثعلبة بن حاطب، وكيف افتتن بكثرة المال ومنعه الصدقة،
وقد حررنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من
فضله (1) " الآية.
فصل قال ابن إسحاق: وكانت غزوة تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال حسان بن ثابت رضى الله عنه يعدد أيام الانصار مع رسول الله صلى الله
__________
(1) سورة التوبة 75.
(*)
عليه وسلم ويذكر مواطنهم معه
في أيام غزوه، قال ابن هشام: وتروى لابنه عبدالرحمن بن حسان: ألست خير معد كلها
نفرا * ومعشرا إن هم عموا وإن حصلوا (1) قوم هم شهدوا بدرا بأجمعهم * مع الرسول
فما ألوا وما خذلوا (2)
وبايعوه فلم ينكث به أحد * منهم ولم يك في إيمانه (3) دخل ويوم صبحهم في الشعب من
أحد * ضرب رصين كحر النار مشتعل ويوم ذى قرد يوم استثار بهم * على الجياد فما
خانوا وما نكلوا (4) وذا العشيرة جاسوها بخيلهم * مع الرسول عليها البيض والاسل
ويوم ودان أجلوا أهله رقصا * بالخيل حتى نهانا الحزن والجبل وليلة طلبوا فيها عدوهم
* لله والله يجزيهم بما عملوا وليلة بحنين جالدوا معه * فيها يعلهم في الحرب إذ
نهلوا وغزوة يوم نجد ثم كان لهم * مع الرسول بها الاسلاب والنفل وغزوة القاع فرقنا
العدو به * كما يفرق دون المشرب الرسل ويوم بويع كانوا أهل بيعته * على الجلاد
فآسوه وما عدلوا وغزوة الفتح كانوا في سريته * مرابطين فما طاشوا وما عجلوا ويوم
خيبر كانوا في كتيبته * يمشون كلهم مستبسل بطل بالبيض ترعش في الايمان عارية *
تعوج بالضرب أحيانا وتعتدل ويوم سار رسول الله محتسبا * إلى تبوك وهم راياته الاول
وساسة الحرب إن حرب بدت لهم * حتى بدا لهم الاقبال والقفل أولئك القوم أنصار النبي
وهم * قومي أصير إليهم حين أتصل ماتوا كراما ولم تنكث عهودهم * وقتلهم في سبيل
الله إذ قتلوا
__________
(1) حصلوا: جمعوا.
(2) ألوا: قصروا (3) ابن هشام: في إيمانهم.
(4) ابن هشام: فما خاموا.
(*)
ذكر بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم أبا بكر الصديق أميرا على الحج سنة تسع ونزول سورة براءة
قال ابن إسحاق بعد ذكره وفود أهل الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
رمضان كما تقدم بيانه مبسوطا، قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شهر
رمضان وشوالا وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ليقيم
للمسلمين حجهم، وأهل الشرك على منازلهم من حجهم لم يصدوا بعد عن البيت، ومنهم من
له عهد مؤقت إلى أمد.
فلما خرج أبو بكر رضى الله عنه بمن معه من المسلمين وفصل عن البيت أنزل الله عزوجل
هذه الآيات من أول سورة التوبة: " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من
المشركين فسيحوا في الارض أربعة أشهر " إلى قوله: " وأذان من الله
ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله " إلى آخر
القصة.
ثم شرع ابن إسحاق يتكلم على هذه الآيات.
وقد بسطنا الكلام عليها في التفسير ولله الحمد والمنة.
والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليا رضى الله عنه بعد أبى بكر
الصديق ليكون معه ويتولى على بنفسه إبلاغ البراءة إلى المشركين نيابة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، لكونه ابن عمه من عصبته.
* * *
قال ابن إسحاق: حدثنى حكيم بن
حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبى جعفر محمد بن على، أنه قال: لما نزلت " براءة
" على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضى الله
عنه ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبى بكر ؟ فقال:
" لا يؤدى عنى إلا رجل من أهل بيتى ".
ثم دعا على بن أبى طالب فقال: " إخرج بهذه القصة من صدر براءة، وأذن في الناس
يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى: ألا إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك،
ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله عهد فهو له إلى مدته ".
فخرج على بن أبى طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء، حتى أدرك
أبا بكر الصديق، فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور ؟ فقال: بل مأمور.
ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من
الحج التى كانوا عليها في الجاهلية.
حتى إذا كان يوم النحر قام على بن أبى طالب فأذن في الناس بالذى أمره به رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى
مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته.
فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
وهذا مرسل من هذا الوجه.
* * *
وقد قال البخاري: باب حج أبى
بكر رضى الله عنه بالناس سنة تسع.
حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع، حدثنا فليح، عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن، عن
أبى هريرة: أن أبا بكر الصديق رضى الله عنه بعثه في الحجة التى أمره عليها النبي
صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس: أن لا يحج بعد العام
مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان.
وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا عبدالله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثنى عقيل، عن
ابن شهاب، أخبرني حميد بن عبدالرحمن، أن أبا هريرة قال: بعثنى أبو بكر الصديق في
تلك الحجة في المؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: أن لا يحج بعد العام مشرك،
ولا يطوفن بالبيت عريان.
قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلى فأمره أن يؤذن ببراءة.
قال أبو هريرة: فأذن معنا على في أهل منى يوم النحر ببراءة أن لا يحج بعد العام
مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان.
وقال البخاري في كتاب الجهاد: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، أخبرني
حميد بن عبدالرحمن، أن أبا هريرة قال: بعثنى أبو بكر الصديق فيمن يؤذن يوم النحر
بمنى لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
ويوم الحج الاكبر يوم النحر، وإنما قيل الاكبر من أجل قول الناس: العمرة الحج
الاصغر.
فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام، فلم يحج عام حجة الوداع الذى حج فيه رسول
الله صلى الله عليه وسلم مشرك.
ورواه مسلم من طريق الزهري به نحوه.
* * *
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد
بن جعفر، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن الشعبى، عن محرز بن أبى هريرة، عن أبيه، قال:
كنت مع على بن أبى طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كنتم
تنادون ؟ قال: كنا ننادى: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن
كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله - أو أمده - إلى أربعة
أشهر، فإذا مضت الاربعة أشهر فإن الله برئ من المشركين ورسوله، ولا يحج هذا البيت
بعد العام مشرك.
قال، فكنت أنادى حتى صحل (1) صوتي.
وهذا إسناد جيد، لكن فيه نكارة من جهة قول الراوى: " إن من كان له عهد فأجله
إلى أربعة أشهر ".
وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، ولكن الصحيح أن من كان له عهد فأجله إلى أمده بالغا ما
بلغ، ؟ ولو زاد على أربعة أشهر، ومن ليس له أمد بالكلية فله تأجيل أربعة أشهر.
بقى قسم ثالث وهو من له أمد يتناهى إلى أقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل، وهذا
يحتمل أن يلتحق بالاول، فيكون أجله إلى مدته وإن قل، ويحتمل أن يقال: إنه يؤجل إلى
أربعة أشهر، لانه أولى ممن ليس له عهد بالكلية.
والله تعالى أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد، عن سماك، عن أنس بن مالك، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعث ببراءة مع أبى بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: " لا
يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتى ".
فبعث بها مع على بن أبى طالب.
__________
(1) صحل: بح.
(*)
وقد رواه الترمذي من حديث
حماد بن سلمة، وقال: حسن غريب من حديث أنس.
وقد روى عبدالله بن أحمد، عن لوين، عن محمد بن جابر، عن سماك عن حنش (1) عن على،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أردف أبا بكر بعلى فأخذ منه الكتاب بالجحفة
رجع أبو بكر فقال: يارسول الله نزل في شئ ؟ قال: " لا ولكن جبريل جاءني فقال،
لا يؤدى عنك إلا أنت أو رجل منك ".
وهذا ضعيف الاسناد، ومتنه فيه نكارة.
والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن أبى إسحاق، عن زيد بن أثيع (2) - رجل من همدان
- قال: سألنا عليا: بأى شئ بعثت ؟ يوم بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبى
بكر في الحجة.
قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه
وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا.
وهكذا رواه الترمذي من حديث سفيان - هو ابن عيينة - عن أبى إسحاق السبيعى، عن زيد
بن أثيع، عن على به.
وقال: حسن صحيح.
ثم قال: وقد رواه شعبة، عن أبى إسحاق، فقال عن زيد بن أثيل.
ورواه الثوري عن أبى إسحاق، عن بعض أصحابه، عن على.
قلت: ورواه ابن جرير من حديث معمر، عن أبى إسحاق، عن الحارث عن على.
__________
(1) غير أ: حلس، وهو تحريف، وهو حنش بن المعتمر أو ابن ربيعة بن المعتمر الكنانى
الكوفى، يروى عن على وأبى ذر، وعنه الحكم وسماك ابن حرب..خلاصة التهذيب 81.
(2) الاصل: يثيع.
وما أثبته عن مسند أحمد 1 / 78 (*)
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن
عبدالله بن عبد الحكم، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، أخبرنا حيوة بن شريح،
أخبرنا ابن صخر، أنه سمع أبا معاوية البجلى من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء
البكري وهو يقول: سألت على بن أبى طالب عن يوم الحج الاكبر.
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ابن أبى قحافة يقيم للناس
الحج، وبعثنى معه بأربعين آية من براءة، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة، فلما
قضى خطبته التفت إلى فقال: قم يا على فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة، ثم صدرنا قأتينا منى فرميت الجمرة ونحرت
البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضورا كلهم خطبة أبى بكر رضى
الله عنه يوم عرفة، فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم.
قال على: فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة.
وقد تقصينا الكلام على هذا المقام في التفسير، وذكرنا أسانيد الاحاديث والآثار في
ذلك مبسوطا بما فيه كفاية.
ولله الحمد والمنة.
قال الواقدي: وقد كان خرج مع أبى بكر من المدينة ثلاثمائة من الصحابة، منهم
عبدالرحمن بن عوف، وخرج أبو بكر معه بخمس بدنات، وبعث معه رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعشرين بدنة، ثم أردفه بعلى فلحقه بالعرج (1) فنادى ببراءة أمام الموسم.
فصل كان في هذه السنة - أعنى في سنة تسع - من الامور الحادثة: غزوة تبوك في رجب
كما تقدم بيانه.
__________
(1) العرج: قرية جامعة في واد من نواحى الطائف، وقيل واد به.
المراصد.
(*)
قال الواقدي: وفى رجب منها
مات النجاشي صاحب الحبشة ونعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس.
وفى شعبان منها - أي من هذه السنة - توفيت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فغسلتها أسماء بنت عميس وصفية بنت عبدالمطلب، وقيل غسلها نسوة من الانصار
فيهن أم عطية.
قلت: وهذا ثابت في الصحيحين، وثبت في الحديث أيضا أنه عليه السلام لما صلى
عليها وأراد دفنها قال: " لا يدخله أحد قارف الليلة أهله " فامتنع زوجها
عثمان لذلك، ودفنها أبو طلحة الانصاري رضى الله عنه.
[ ويحتمل أنه أراد بهذا الكلام من كان يتولى ذلك ممن يتبرع بالحفر والدفن من
الصحابة كأبى عبيدة وأبى طلحة ومن شابههم، فقال: " لا يدخل قبرها إلا من لم
يقارف أهله من هؤلاء "، إذ يبعد أن عثمان كان عنده غير أم كلثوم بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، هذا بعيد.
والله أعلم (1) ].
وفيها صلح ملك أيلة وأهل جرباء وأذرح وصاحب دومة الجندل، كما تقدم إيضاح ذلك [ كله
] (1) في مواضعه.
وفيها هدم مسجد الضرار الذى بناه جماعة من المنافقين صورة مسجد، وهو دار حرب في
الباطن، فأمر عليه السلام به فحرق.
وفى رمضان منها قدم وفد ثقيف فصالحوا عن قومهم ورجعوا إليهم بالامان [ وكسرت اللات
كما تقدم (1) ].
وفيها توفى عبدالله بن أبى بن سلول رأس المنافقين لعنه الله في أواخرها.
وقبله بشهر (2)
__________
(1) سقط من ا (2) غير ا: بأشهر (*)
توفى معاوية بن معاوية الليثى
- أو المزني - وهو الذى صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو نازل بتبوك، إن
صح الخبر في ذلك.
وفيها حج أبو بكر رضى الله عنه بالناس عن إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم له في
ذلك.
وفيها كان قدوم عامة وفود أحياء العرب، ولذلك تسمى سنة تسع سنة الوفود، وها نحن
نعقد لذلك كتابا برأسه اقتداء بالبخارى وغيره.
كتاب الوفود الواردين إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه
وسلم مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت ضربت إليه وفود العرب (1) من كل وجه.
قال ابن هشام: حدثنى أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع، وأنها كانت تسمى سنة الوفود.
قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بإسلامها أمر هذا الحى من قريش، لان قريشا
كانوا إمام الناس وهاديهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم.
وقادة العرب لا ينكرون ذلك.
وكانت قريشي هي التى نصبت الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما
افتتحت مكة ودانت له قريش ودوخها الاسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال الله عزوجل
أفواجا يضربون إليه من كل وجه.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت
الناس يدخلون في دين الله أفواجا، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " [
أي فاحمد الله على ما ظهر من دينك واستغفره إنه كان توابا ] (2): وقد قدمنا (3)
حديث عمرو بن سلمة قال: كانت العرب تلوم بإسلامهم الفتح فيقولون: اتركوه وقومه
فإنه إن ظهر عليهم فهو [ نبى ] (2) صادق.
فلما كانت وقعة
__________
(1) ا: الوفود من العرب.
(2) ليست في ا.
(3) تقدم ذلك في الجزء الثالث من السيرة ص 609 (*)
أهل الفتح بادر كل قوم
بإسلامهم وبدر - أي قومي - بإسلامهم، فلما قدم قال: جئتكم والله من عند النبي حقا،
قال صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلاة كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم
أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا.
وذكر تمام الحديث وهو في صحيح البخاري.
قلت: وقد ذكر محمد بن إسحاق ثم الواقدي والبخاري ثم البيهقى بعدهم من الوفود ما هو
متقدم تاريخ قدومهم على سنة تسع، بل وعلى فتح مكة.
وقد قال الله تعالى: " لا يستوى منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم
درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى " وتقدم قوله صلى
الله عليه وسلم يوم الفتح: " لا هجرة ولكن جهاد ونية ".
فيجب التمييز بين السابق من هؤلاء الوافدين على زمن الفتح ممن يعد وفوده هجرة،
وبين اللاحق لهم بعد الفتح ممن وعده [ الله خيرا وحسنى، ولكن ليس في ذلك كالسابق
له في الزمان والفضيلة والله أعلم ] (1).
على أن هؤلاء الائمة الذين اعتنوا بإيراد الوفود قد تركوا فيما أوردوه أشياء [ لم
يذكروها، ونحن نورد بحمد الله ومنه ما ذكروه، وننبه على ما ينبغى التنبيه عليه من
ذلك ونذكر ما وقع لنا مما أهملوه إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان ] (2).
* * * وقد قال محمد بن عمر الواقدي: حدثنا كثير بن عبدالله المزني، عن أبيه، عن
جده، قال: كان أول من وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضر أربعمائة من
مزينة، وذاك في رجب سنة خمس.
__________
(1) سقطت من ا.
(2) سقط من ا (*)
فجعل لهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم الهجرة في دارهم وقال: " أنتم مهاجرون
حيث كنتم فارجعوا إلى أموالكم " فرجعوا إلى بلادهم.
ثم ذكر الواقدي عن هشام بن الكلبى بإسناده، أن أول من قدم من مزينة خزاعي ابن عبد
نهم ومعه عشرة من قومه مزينة، فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ على إسلام
قومه ]، فلما رجع إليهم لم يجدهم كما ظن فيهم فتأخروا عنه.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت أن يعرض بخزاعى من غير أن يهجوه،
فذكر أبياتا، فلما بلغت خزاعيا شكا ذلك إلى قومه فجمعوا له وأسلموا معه وقدم بهم
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما كان يوم الفتح دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء مزينة - وكانوا يومئذ
ألفا - إلى خزاعي هذا.
قال: وهو أخو عبدالله ذى البجادين.
وقال البخاري رحمه الله: باب وفد بنى تميم: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن أبى
صخرة، عن صفوان بن محرز المازنى، عن عمران بن حصين، قال: أتى نفر من بنى تميم إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اقبلوا البشرى يا بنى تميم " قالوا:
يا رسول الله قد بشرتنا فأعطنا - فرئى ذلك في وجهه.
ثم جاء (1) نفر من اليمن فقال: " اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم "
فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله.
ثم قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبره عن
ابن أبى مليكة، أن عبدالله بن الزبير أخبرهم: أنه قدم ركب من بنى تميم على النبي
صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أمر القعقاع بن معبد بن زرارة.
فقال عمر: بل أمر الاقرع بن حابس.
فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافى.
فقال عمر: ما أردت خلافك.
__________
(1) ا: فجاء.
(*)
فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما،
فنزلت: " يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين
يدى الله ورسوله " حتى انقضت.
ورواه البخاري أيضا من غير وجه عن ابن أبى مليكة بألفاظ أخر.
وقد ذكرنا ذلك في التفسير عند قوله تعالى: " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي
" الآية.
* * * وقال محمد بن إسحاق: ولما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفود العرب
قدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمي، في أشراف من بنى تميم، منهم
الاقرع ابن حابس التميمي، والزبرقان بن بدر التميمي - أحد بنى سعد - وعمرو بن
الاهتم، والحبحاب (1) بن يزيد، ونعيم بن يزيد، وقيس بن الحارث، وقيس بن عاصم أخو
بنى سعد، في وفد عظيم من بنى تميم.
قال ابن إسحاق: ومعهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارى، وقد كان الاقرع بن
حابس وعيينة شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنين والطائف، فلما
قدم وفد بنى تميم كانا معهم.
ولما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: أن اخرج
إلينا يا محمد.
فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم، فخرج إليهم فقالوا: يا محمد
جئناك نفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا.
قال: " قد أذنت لخطيبكم فليقل ".
فقام عطارد بن حاجب فقال: الحمد لله الذى له علينا الفضل والمن وهو أهله، الذى
__________
(1) الاصل: الحجاب.
وما أثبته عن ابن هشام.
قال ابن هشام: الحتات: وهو الذى آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بينه وبين
معاوية بن أبى سفيان.
واختاره السهيلي في الروض.
(*)
جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا
عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثره عددا وأيسره عدة.
فمن مثلنا في الناس، ألسنا برؤوس الناس وألى فضلهم ؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما
عددنا، وإنا لو نشاء لاكثرنا الكلام ولكن نخشى (1) من الاكثار فيما أعطانا، وإنا
نعرف [ بذلك ] (2) أقول هذا لان تأتوا بمثل قولنا، وأمر أفضل من أمرنا ثم جلس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخى بنى الحارث بن
الخزرج: " قم فأجب الرجل في خطبته ".
فقام ثابت فقال: الحمد لله الذى السموات والارض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كرسيه
علمه، ولم يك شئ قط إلا من فضله.
ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا واصطفى من خيرته رسولا أكرمه نسبا وأصدقه حديثا
وأفضله حسبا، فأنزل عليه كتابا وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين.
[ ثم ] دعا الناس إلى الايمان به فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوى رحمه،
أكرم الناس أحسابا، وأحسن الناس وجوها، وخير الناس فعالا، ثم كان أول الخلق إجابة
واستجاب لله حين دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن، فنحن أنصار الله ووزراء
رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر
جاهدناه في الله أبدا وكان قتله علينا يسيرا.
أقول قولى هذا وأستغفر الله لى ولكم وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم.
__________
(1) ابن هشام: نحيا (2) من ابن هشام.
(*)
فقام الزبرقان بن بدر فقال:
نحن الكرام فلا حى يعادلنا * منا الملوك وفينا تنضب البيع (1) وكم قسرنا من
الاحياء كلهم * عند النهاب وفضل العز يتبع
ونحن يطعم عند القحط مطعمنا * من الشواء إذا لم يؤنس القزع (2) بما ترى الناس
تأتينا سراتهم * من كل أرض هويا ثم نصطنع (3) فننحر الكوم عبطا في أرومتنا *
للنازلين إذا ما أنزلوا شبعوا (4) فما ترانا إلى حى نفاخرهم * إلا استفادوا وكانوا
الرأس يقتطع فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه * فيرجع القوم والاخبار تستمع إنا أبينا ولم
يأبى لنا أحد * إنا كذلك عند الفخر نرتفع (5) قال ابن إسحاق: وكان حسان بن ثابت
غائبا، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما انتهيت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقام شاعر القوم فقال ما قال، عرضت في قوله وقلت على نحو ما
قال.
فلما فرغ الزبرقان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان ثابت: " قم يا
حسان فأجب الرجل فيما قال ".
فقال حسان: إن الذوائب من فهر وإخوتهم * قد بينوا سنة للناس تتبع يرضى بها كل من
كانت سريرته * تقوى الاله وكل الخير يصطنع قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم * أو حاولوا
النفع في أشياعهم نفعوا سجية تلك منهم غير محدثة * إن الخلائق - فاعلم - شرها
البدع
__________
(1) البيع: جمع بيعة، وهى موضع الصلاة.
(2) القزع: القطع من السحاب.
(3) الهوى: الاسراع.
(4) الكوم: الابل العظام الاسنمة.
وعبطا: من غير علة.
(5) قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها للزبرقان.
(*)
إن كان في الناس سباقون بعدهم
* فكل سبق لادنى سبقهم تبع لا يرقع الناس ما أوهت أكفهم * عند الدفاع ولا يوهون ما
رقعوا
إن سابقوا الناس يوما فاز سبقهم * أو وازنوا أهل مجد بالندى منعوا (1) أعفة ذكرت
في الوحى عفتهم * لا يطمعون ولا يرديهم طمع لا يبخلون على جار بفضلهم * ولا يمسهم
من مطمع طبع إذا نصبنا لحى لم ندب لهم * كما يدب إلى الوحشية الذرع (2) نسمو إذا
الحرب نالتنا مخالبها * إذا الزعانف من أظفارها خشعوا لا يفخرون إذا نالوا عدوهم *
وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع كأنهم في الوغى والموت مكتنع * أسد بحلية في أرساغها
فدع (3) خذ منهم ما أتوا عفوا إذا غضبوا * ولا يكن همك الامر الذى منعوا فإن في
حربهم - فاترك عداوتهم - * شرا يخاض عليه السم والسلع (4) أكرم بقوم رسول الله
شيعتهم * إذا تفاوتت الاهواء والشيع أهدى لهم مدحتي قلب يؤازره * فيما أحب لسان
حائك صنع فإنهم أفضل الاحياء كلهم * إن جد في الناس جد القول أو شمعوا (5) * * *
وقال ابن هشام: وأخبرني بعض أهل العلم بالشعر من بنى تميم أن الزبرقان لما قدم على
رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بنى تميم قام فقال: أتيناك كيما يعلم الناس
فضلنا * إذا اختلفوا عند احتضار المواسم
__________
(1) ا، ت: قنعوا.
وفى ابن هشام: متعوا.
ومعناها: زادوا.
(2) الذرع: ولد البقرة الوحشية.
(3) المكتنع: القريب.
وحلية موضع كثير الاسود.
والفدع: اعوجاج الرسغ من اليد أو الرجل.
(4) السلع: نبت سام.
(5) شمعوا: مزحوا.
(*)
بأنا فروع الناس في كل موطن *
وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وأنا نذود المعلمين إذا انتخوا * ونضرب رأس الاصيد المتفاقم وإن لنا المرباع في كل
غارة * نغير بنجد أو بأرض الاعاجم قال: فقام حسان فأجابه فقال: هل المجد إلا
السؤدد العود والندى * وجاه الملوك واحتمال العظائم نصرنا وآوينا النبي محمدا *
على أنف راض من معد وراغم بحى حريد أصله وثراؤه * بجابية الجولان وسط الاعاجم (1)
نصرناه لما حل بين ديارنا (2) * بأسيافنا من كل باغ وظالم جعلنا بنينا دونه
وبناتنا * وطبنا له نفسا بفئ المغانم ونحن ضربنا الناس حتى تتابعوا * على دينه
بالمرهفات الصوارم ونحن ولدنا من قريش عظيمها * ولدنا نبى الخير من آل هاشم بنى
دارم لا تفخروا إن فخركم * يعود وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم *
لنا خول من بين ظئر وخادم فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم * وأموالكم أن تقسموا في
المقاسم فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا * ولا تلبسوا زيا كزى الاعاجم * * * قال ابن
إسحاق: فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله، قال الاقرع بن حابس: وأبى إن هذا لمؤتى له
! لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولاصواتهم أعلى من أصواتنا.
__________
(1) الحريد: المنفرد.
وجابية الجولان: قرية من أعمال دمشق.
المراصد.
(2) غير ا: بيوتنا.
(*)
قال: فلما فرغ القوم أسلموا
وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم.
وكان عمرو بن الاهتم قد خلفه القوم في رحالهم، وكان أصغرهم سنا، فقال قيس ابن عاصم
- وكان يبغض عمرو بن الاهتم -: يا رسول الله إنه كان رجل منا في رحالنا وهو غلام
حدث.
وأزرى به، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى القوم.
فقال عمرو بن الاهتم حين بلغه أن قيسا قال ذلك، يهجوه: ظللت مفترش الهلباء تشتمني
* عند الرسول فلم تصدق ولم تصب (1) سدناكم سؤددا رهوا وسؤددكم * باد نواجذه مقع
على الذنب (2) وقد روى الحافظ البيهقى من طريق يعقوب بن سفيان، حدثنا سليمان بن
حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن محمد بن الزبير الحنظلي، قال: قدم على رسول الله صلى الله
عليه وسلم الزبرقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وعمرو بن الاهتم، فقال لعمرو بن الاهتم:
" أخبرني عن الزبرقان، فأما هذا فلست أسألك عنه " وأراه كان قد عرف
قيسا.
قال: فقال: مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره.
فقال الزبرقان: قد قال ما قال وهو يعلم أنى أفضل مما قال.
قال فقال عمرو: والله ما علمتك إلا زمر (3) المروءة، ضيق العطن، أحمق الاب، لئيم
الخال.
ثم قال: يا رسول الله قد صدقت فيهما جميعا، أرضاني فقلت بأحسن ما أعلم فيه،
وأسخطني فقلت بأسوء ما أعلم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان سحرا ".
وهذا مرسل من هذا الوجه.
__________
(1) الهلباء: يريد الدبر، والهلب: شعر الذنب (2) الرهو: المتسع.
(3) زمر المرءوة: قليلها.
(*)
قال البيهقى: وقد روى من وجه
آخر موصولا: أنبأنا أبو جعفر كامل بن أحمد المستملى، حدثنا محمد بن محمد بن محمد
بن أحمد بن عثمان البغدادي، حدثنا محمد بن عبدالله ابن الحسن العلاف ببغداد، حدثنا
على بن حرب الطائى، أنبأنا أبو سعد بن الهيثم بن محفوظ، عن أبى المقوم يحيى بن
يزيد الانصاري، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: جلس إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وعمرو بن الاهتم التميميون، ففخر الزبرقان
فقال: يا رسول الله أنا سيد تميم والمطاع فيهم والمجاب، أمنعهم من الظلم وآخذ لهم
بحقوقهم، وهذا يعلم ذلك - يعنى عمرو بن الاهتم - فقال عمرو بن الاهتم: إنه لشديد
العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أدنيه.
فقال الزبرقان: والله يا رسول الله لقد علم منى غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا
الحسد.
فقال عمرو بن الاهتم: أنا أحسدك ؟ فوالله إنك للئيم الخال، حديث المال، أحمق
الولد، مضيع في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا، وما كذبت
فيما قلت آخرا، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت،
ولقد صدقت في الاولى والاخرى جميعا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان سحرا ".
وهذا إسناد غريب جدا.
[ وقد ذكر الواقدي سبب قدومهم وهو أنهم كانوا قد شهروا السلاح على خزاعة، فبعث
إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن بدر في خمسين ليس فيهم أنصارى ولا
مهاجري، فأسر منهم أحد عشر رجلا، وإحدى عشرة امرأة، وثلاثين صبيا، فقدم رؤساؤهم
بسبب أسراهم، ويقال قدم منهم تسعون - أو ثمانون - رجلا في ذلك منهم عطارد
والزبرقان وقيس بن عاصم وقيس بن الحارث ونعيم بن سعد والاقرع بن حابس
ورباح بن الحارث وعمرو بن
الاهتم، فدخلوا المسجد وقد أذن بلال الظهر والناس ينتظرون رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليخرج إليهم، فعجل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات، فنزل فيهم ما نزل.
ثم ذكر الواقدي خطيبهم وشاعرهم، وأنه عليه السلام أجازهم كل رجل اثنى عشر أوقية
ونشا، إلا عمرو بن الاهتم فإنما أعطى خمس أواق لحداثة سنه.
والله أعلم ] (1) قال ابن إسحاق: ونزل فيهم من القرآن قوله تعالى: " إن الذين
ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان
خيرا لهم والله غفور رحيم ".
قال ابن جرير: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزى، حدثنا الفضل بن موسى، عن
الحسين بن واقد، عن أبى إسحاق، عن البراء في قوله: " إن الذين ينادونك من
وراء الحجرات ".
قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن حمدى زين، وذمى
شين.
فقال: " ذاك الله عزوجل ".
وهذا إسناد جيد متصل.
وقد روى عن الحسن البصري وقتادة مرسلا عنهما.
وقد وقع تسمية هذا الرجل فقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا موسى بن
عقبة، عن أبى سلمة، عن عبدالرحمن، عن الاقرع بن حابس، أنه نادى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: يا محمد يا محمد.
وفى رواية: يا رسول الله.
فلم يجبه.
فقال: يارسول الله إن حمدى لزين، وإن ذمى لشين.
فقال: " ذاك الله عزوجل ".
__________
(1) تأخرت في ا إلى نهاية الفصل.
(*)
فصل في فضل بنى تميم
قال البخاري: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبى زرعة،
عن أبى هريرة، قال: لا أزال أحب بنى تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقولها فيهم: " هم أشد أمتى على الدجال " وكانت فيهم سبية عند
عائشة فقال " أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل " وجاءت صدقاتهم فقال:
" هذه صدقات قوم - أو قومي - " وهكذا رواه مسلم عن زهير بن حرب به.
[ وهذا الحديث يرد على قتادة (1) ما ذكره صاحب الحماسة وغيره من شعر من ذمهم حيث
يقول: تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا * ولو سلكت طرق الرشاد لضلت ولو أن برغوثا
على ظهر قملة * رأته تميم من بعيد لولت ] (2) وفد بنى عبدالقيس ثم قال البخاري بعد
وفد بنى تميم: باب وفد عبدالقيس.
حدثنا أبو إسحاق (3)، حدثنا أبو عامر العقدى، حدثنا قرة، عن أبى جمرة (4) قال قلت
لابن عباس: إن لى جرة ينتبذ لى فيها فأشربه حلوا في جر (5) إن أكثرت منه فجالست
القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح ؟ فقال: قدم وفد عبدالقيس على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: " مرحبا
__________
(1) كذا بالاصل.
(2) سقط من ا.
(3) البخاري: حدثنى إسحق.
(4) الاصل: عن أبى حمزة.
والتصويب من صحيح البخاري 2 / 266 (5) الجر: كل شئ يصنع من المدر.
(*)
بالقوم غير خزايا ولا الندامى
" فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك
إلا في الشهر الحرام، فحدثنا بجميل (1) من الامر إن عملنا به دخلنا
الجنة وندعو به من وراءنا.
قال: " آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع ; الايمان بالله، هل تدرون ما الايمان
بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن
تعطوا من المغانم الخمس.
وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت " (2).
وهكذا رواه مسلم من حديث قرة بن خالد، عن أبى جمرة به.
وله طرق في الصحيحين عن أبى جمرة.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة، عن أبى جمرة، سمعت ابن عباس يقول:
إن وفد عبدالقيس لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ممن القوم
؟ " قالوا: من ربيعة.
قال: " مرحبا بالوفد غير الخزايا ولا الندامى ".
فقالوا: يا رسول الله إنا حى من ربيعة، وإنا ناتيك من شقة بعيدة، وإنه يحول بيننا
وبينك هذا الحى من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل
ندعو إليه من وراءنا وندخل به الجنة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع.
آمركم بالايمان بالله وحده.
أتدرون ما الايمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام
الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغانم الخمس.
وأنهاكم
__________
(1) صحيح مسلم: بأمر فصل.
وفى البخاري: بجمل من الامر.
(3) الدباء: القرع اليابس، والمراد: الوعاء منه.
والخنتم: جرار خضر.
والنقير: جذع ينقر وسطه والمزفت: المطلى بالقار.
(*)
عن أربع.
عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت - وربما قال والمقير - فاحفظوهن وادعوا إليهن
من وراءكم ".
وقد أخرجه صاحبا الصحيحين من حديث شعبة بنحوه.
وقد رواه مسلم من حديث سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد
بحديث قصتهم بمثل هذا السياق.
وعنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاشج عبدالقيس: " إن فيك لخلتين
يحبهما الله عزوجل ; الحلم والاناة " وفى رواية: " يحبهما الله ورسوله
" فقال: يا رسول الله [ تخلقتهما أم جبلني الله عليهما ؟ فقال: " جبلك
الله عليهما " فقال: الحمد لله الذى جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله (1)
].
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بنى هاشم، حدثنا مطر بن عبدالرحمن،
سمعت هندا بنت الوازع، أنها سمعت الوازع يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
والاشج المنذر بن عامر - أو عامر بن المنذر - ومعهم رجل مصاب، فانتهوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبوا من رواحلهم، فأتوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقبلوا يده، ثم نزل الاشج فعقل راحلته وأخرج عيبته ففتحها فأخرج
ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما، ثم أتى رواحلهم فعقلها، فأتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: " يا أشج إن فيك خصلتين يحبهما الله عزوجل ورسوله: الحلم
والاناة " فقال: يا رسول الله أنا تخلقتهما أو جبلني الله عليهما ؟ فقال:
" بل الله جبلك عليهما " قال: الحمد لله الذى جبلني على خلقين يحبهما
الله عزوجل ورسوله.
فقال الوازع: يا رسول الله إن معى خالا لى مصابا، فادع الله له.
فقال: " أين هو
__________
(1) سقط من ا.
(*)
ائتنى به " قال: فصنعت
مثل ما صنع الاشج، ألبسته ثوبيه وأتيته، فأخذ من ردائه (1)
يرفعهما حتى رأينا بياض إبطه، ثم ضرب بظهره فقال: " اخرج عدو الله "
فولى وجهه وهو ينظر بنظر رجل صحيح.
وروى الحافظ البيهقى من طريق هود بن عبدالله بن سعد، أنه سمع جده مزيدة العبدى،
قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم: " سيطلع من
هاهنا ركب هم خير أهل المشرق ".
فقام عمر فتوجه نحوهم فتلقى ثلاثة عشر راكبا، فقال: من القوم ؟ فقالوا: من بنى
عبدالقيس.
قال: فما أقدمكم هذه البلاد، التجارة ؟ قالوا: لا.
قال: أما إن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكركم آنفا فقال خيرا.
ثم مشوا معه حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر للقوم: هذا صاحبكم الذى
تريدون.
فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم، فمنهم من مشى ومنهم من هرول ومنهم من سعى، حتى
أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا بيده فقبلوها، وتخلف الاشج في الركاب
حتى أناخها وجمع متاع القوم، ثم جاء يمشى حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقبلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن فيك خلتين يحبهما الله
ورسوله ".
قال: جبل جبلت عليه أم تخلقا منى ؟ قال: بل جبل.
فقال: الحمد لله الذى جبلني على ما يحب الله ورسوله.
* * * وقال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن
حنش أخو عبدالقيس.
قال ابن هشام: وهو الجارود بن بشر بن المعلى.
في وفد عبدالقيس وكان نصرانيا.
__________
(1) غير ا: من ورائه.
(*)
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا
أتهم عن الحسن (1) قال: لما انتهى إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم كلمه فعرض عليه الاسلام ودعاه إليه ورغبه فيه، فقال: يا محمد
إنى كنت على دين وإنى تارك دينى لدينك، أفتضمن لى دينى ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " نعم أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه " قال:
فأسلم وأسلم أصحابه.
ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان فقال: والله ما عندي ما أحملكم عليه
".
قال: يا رسول الله فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس، أفنتبلغ عليها إلى
بلادنا ؟ قال: لا، إياك وإياها، فإنما تلك حرق النار.
قال: فخرج الجارود راجعا إلى قومه، وكان حسن الاسلام صلبا على دينه حتى هلك.
وقد أدرك الردة، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الاول مع الغرور بن
المنذر بن النعمان بن المنذر قام الجارود فتشهد شهادة الحق ودعا إلى الاسلام فقال:
أيها الناس إنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأكفر من لم يشهد.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى
المنذر بن ساوى العبدى فأسلم فحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم قبل ردة أهل البحرين، والعلاء عنده أميرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على
البحرين.
ولهذا روى البخاري من حديث إبراهيم بن طهمان عن أبى جمرة، عن ابن عباس،
__________
(1) ابن هشام: عن الحسين (*)
قال: أول جمعة جمعت في مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبدالقيس بجواثى من البحرين.
وروى البخاري عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الركعتين بعد الظهر
بسبب وفد عبدالقيس حتى صلاهما بعد العصر في بيتها.
قلت: لكن في سياق ابن عباس ما يدل على أن قدوم وفد عبدالقيس كان قبل فتح مكة
لقولهم: وبيننا وبينك هذا الحى من مضر، لا نصل إليك إلا في شهر حرام.
والله أعلم.
قصة ثمامة ووفد بنى حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب لعنه الله قال البخاري: باب وفد بنى
حنيفة وقصة ثمامة بن أثال.
حدثنا عبدالله بن يوسف، حدثنا الليث بن سعد، حدثنى سعيد بن أبى سعيد، سمع أبا
هريرة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بنى حنيفة
يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سوارى المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: " ما عندك يا ثمامة " ؟ قال: عندي خير يا محمد إن تقتلني
تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت.
فتركه حتى كان الغد ثم قال له: " ما عندك يا ثمامة " ؟ فقال: عندي ما
قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى بعد الغد فقال: " ما عندك يا ثمامة
" ؟ فقال عندي ما قلت لك.
فقال: " أطلقوا ثمامة ".
فانطلق إلى نخل قريب من
المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله،
يا محمد والله ما كان على وجه الارض وجه أبغض إلى من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب
الوجوه إلى، والله ما كان دين أبغض إلى من دينك فأصبح دينك أحب الدين إلى، والله
ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك فأصبح بلدك
أحب البلاد إلى، وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: أصبوت ؟ قال: لا
ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة
حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه البخاري في موضع آخر ومسلم وأبو داود والنسائي كلهم عن قتيبة عن الليث
به.
وفى ذكر البخاري هذه القصة في الوفود نظر.
وذلك أن ثمامة لم يفد بنفسه وإنما أسر وقدم به في الوثاق فربط بسارية من سوارى
المسجد.
ثم في ذكره مع الوفود سنة تسع نظر آخر، وذلك أن الظاهر من سياق قصته أنها قبيل
الفتح، لان أهل مكة عيروه بالاسلام وقالوا: أصبوت ؟ فتوعدهم بأنه لا يفد إليهم من
اليمامة حبة حنطة ميرة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أن
مكة كانت إذ ذاك دار حرب لم يسلم أهلها بعد.
والله أعلم.
ولهذا ذكر الحافظ البيهقى قصة ثمامة بن أثال قبل فتح مكة وهو أشبه، ولكن ذكرناه
هاهنا إتباعا للبخاري رحمه الله.
* * * وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن عبدالله بن أبى حسين،
حدثنا نافع بن جبير، عن ابن
عباس، قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: إن
جعل لى محمد الامر من بعده اتبعته.
وقدم في بشر كثير من قومه.
فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وفى يد
رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعة جريد، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال له:
" لو سألتنى هذه القطعة ما أعطيتكها (1)، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت
ليعقرنك الله، وإنى لاراك الذى رأيت فيه ما أريت، وهذا ثابت يجيبك عنى " ثم
انصرف عنه.
قال ابن عباس: فسألت عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك الذى رأيت
فيه ما أريت " فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" بينا أنا نائم رأيت في يدى سوارين من ذهب فأهمنى شأنهما، فأوحى إلى في
المنام: أن انفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان بعدى أحدهما الاسود
العنسى والآخر مسيلمة ".
ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر (2)، حدثنا عبد الرزاق، أخبرني معمر، عن همام
بن منبه (3)، أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
بينا أنا نائم أتيت بخزائن الارض فوضع في كفى سواران من ذهب، فكبرا على فأوحى إلى:
أن انفخهما.
فنفختهما فذهبا فأولتهما الكذابين اللذين أنا بينهما ؟ صاحب صنعاء، وصاحب اليمامة
".
ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن محمد الجرمى، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا أبى،
عن صالح، عن ابن عبيدة، بن نشيط - وكان في موضع آخر اسمه عبدالله - أن عبيدالله بن
عبدالله بن عتبة قال: بلغنا أن مسيلمة الكذاب قدم المدينة فنزل في دار بنت الحارث
وكان تحته بنت الحارث بن كريز وهى أم عبدالله بن عامر بن كريز، فأتاه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ومعه ثابت بن قيس بن شماس، وهو الذى يقال له:
__________
(1) الاصل: أعطيتها.
وما أثبته عن صحيح البخاري 1 / 268.
(2) الاصل: منصور.
وما أثبته عن البخاري.
(3) الاصل: هشام بن أمية.
وما أثبته عن البخاري.
(*)
خطيب رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وفى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب فوقف عليه فكلمه، فقال له مسيلمة:
إن شئت خليت بينك وبين الامر، ثم
جعلته لنا بعدك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو سألتنى هذا القضيب ما أعطيتكه وإنى
لاراك (1) الذى رأيت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس وسيجيبك عنى " فانصرف
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عبيدالله بن عبدالله: سألت ابن عباس عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذى ذكر، فقال ابن عباس: ذكر لى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
بينا أنا نائم أريت أنه وضع في يدى سواران من ذهب ففظعتهما (2) وكرهتهما، فأذن لى
فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان ".
فقال عبيد الله: أحدهما العنسى الذى قتله فيروز باليمن والآخر مسيلمة الكذاب.
* * * وقال محمد ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بنى حنيفة
فيهم مسيلمة [ بن حبيب الكذاب.
قال ابن هشام: وهو مسيلمة (3) ] بن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث
بن هفان بن ذهل بن الدول بن حنيفة، ويكنى أبا ثمامة وقيل أبا هارون، وكان قد تسمى
بالرحمن فكان يقال له رحمن اليمامة، وكان عمره يوم قتل مائة وخمسين سنة، وكان يعرف
أبوابا من النيرجات (4)، فكان يدخل البيضة إلى القاروة، وهو أول من فعل ذلك، وكان
يقص جناح الطير ثم يصله، ويدعى أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب لبنها.
قال ابن إسحاق: وكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الانصار ثم من بنى النجار.
__________
(1) ا: وإنى أراك.
(2) ففظعتهما: كرهتهما.
وفى الاصل: فقطعتهما.
وهو تحريف.
(3) سقط من المطبوعة.
(4) السهيلي: النيروجات.
وفى القاموس: النيرنج: أخذ كالسحر وليس به.
(*)
[ قال السهيلي: هي زينب، وقيل
كيسة (1) بنت الحارث بن كريز بن حبيب بن عبد شمس، وكان مسيلمة قد تزوجها قديما ثم
فارقها، فلهذا نزلوا في دارها (2) ].
قال ابن إسحاق: فحدثني بعض علمائنا من أهل المدينة أن بنى حنيفة أتت به رسول الله
صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه
معه عسيب من سعف النخل في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهم يسترونه بالثياب كلمه وسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لو سألتنى هذا العسيب ما أعطيتكه ".
قال ابن إسحاق: وحدثني شيخ من بنى حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا،
وزعم أن وفد بنى حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفوا مسيلمة في
رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه فقالوا: يا رسول الله إنا قد خلفنا صاحبا لنا في
رحالنا وفى ركائبنا يحفظها لنا.
قال: فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال: "
أما إنه ليس بشركم مكانا " أي لحفظه ضيعة أصحابه.
ذلك الذى يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءوا مسيلمة بما أعطاه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ وتكذب لهم،
وقال: إنى قد أشركت في الامر معه.
وقال لوفده الذين كانوا معه: ألم يقل لكم حين ذكرتموني له: " أما إنه ليس
بشركم مكانا " ما ذاك إلا لما كان يعلم أنى قد أشركت في الامر معه.
ثم جعل يسجع لهم السجعات ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على
__________
(1) الاصل: كبشة وما أثبته عن الروض الانف 2 / 341.
(2) سقط من المطبوعة.
(*)
الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى،
من بين صفاق (1) وحشا.
وأحل لهم الخمر والزنا، ووضع عنهم الصلاة، وهو مع هذا يشهد لرسول الله صلى الله
عليه وسلم بأنه نبى.
فأصفقت (2) معه بنو حنيفة على ذلك.
قال ابن إسحاق فالله أعلم أي ذلك كان.
* * * وذكر السهيلي وغيره أن الرحال بن عنفوة - واسمه نهار بن عنفوة - وكان قد
أسلم وتعلم شيئا من القرآن وصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة، وقد مر عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أبى هريرة وفرات بن حيان فقال لهم:
" أحدكم ضرسه في النار مثل أحد ".
فلم يزالا خائفين حتى ارتد الرحال مع مسيلمة وشهد له زورا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أشركه في الامر معه، وألقى إليه شيئا مما كان يحفظه من القرآن فادعاه
مسيلمة لنفسه، فحصل بذلك فتنة عظيمة لبنى حنيفة، وقد قتله زيد بن الخطاب يوم
اليمامة.
قال السهيلي: وكان مؤذن مسيلمة يقال له حجير، وكان مدبر الحرب بين يديه محكم بن
الطفيل.
وأضيف إليهم سجاح، وكانت تكنى أم صادر، وتزوجها مسيلمة، وله معها أخبار فاحشة،
واسم مؤذنها زهير بن عمرو، وقيل جنبة بن طارق، ويقال إن شبث ابن ربعى أذن لها أيضا
ثم أسلم، وقد أسلمت هي أيضا أيام عمر بن الخطاب فحسن إسلامها.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى
__________
(1) الصفاق: جلد البطن.
(2) أصفقت: اجتمعت.
(*)
رسول الله صلى الله عليه
وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ; سلام عليك.
أما بعد فإنى قد أشركت في الامر معك، فإن لنا نصف الامر ولقريش نصف الامر، ولكن
قريشا قوم يعتدون.
فقدم عليه رسولان بهذا الكتاب، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
" بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب.
سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة
للمتقين ".
قال: وكان ذلك في آخر سنة عشر - يعنى ورود هذا الكتاب.
[ وقد روى البخاري قصة هذا الكتاب في صحيحه.
] (1) قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: فحدثني سعد بن طارق، عن سلمة بن نعيم بن
مسعود، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا مسيلمة
الكذاب بكتابه يقول لهما: " وأنتما تقولان مثل ما يقول ؟ " قالا: نعم.
فقال أما والله لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبى وائل عن عبدالله بن
مسعود.
قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولين لمسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال لهما: " أتشهدان أنى رسول الله " فقالا: نشهد أن مسيلمة
رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " آمنت بالله ورسله، ولو كنت قاتلا رسولا
لقتلتكما ".
قال عبدالله بن مسعود: فمضت السنة بأن الرسل لا تقتل.
قال عبدالله: فأما ابن أثال فقد كفاه الله، وأما ابن النواحة فلم يزل في نفسي منه
حتى أمكن الله منه.
__________
(1) من ا.
(*)
قال الحافظ البيهقى: أما
أسامة بن أثال فإنه أسلم.
وقد مضى الحديث في إسلامه (1).
وأما ابن النواحة فأخبرنا أبو زكريا بن أبى إسحاق المزني، أنبأنا أبو عبدالله محمد
بن يعقوب حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا جعفر بن عون، أنبأنا إسماعيل بن أبى
خالد عن قيس بن أبى حازم، قال جاء رجل إلى عبدالله بن مسعود فقال: إنى مررت ببعض
مساجد بنى حنيفة وهم يقرءون قراءة ما أنزلها الله على محمد صلى الله عليه وسلم:
والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما.
قال: فأرسل إليهم عبدالله فأتى بهم وهم سبعون رجلا، ورأسهم عبدالله بن النواحة.
قال: فأمر به عبدالله فقتل ثم قال: ما كنا بمحرزين الشيطان من هؤلاء، ولكن نحوزهم
إلى الشام لعل الله أن يكفيناهم.
* * * وقال الواقدي: كان وفد بنى حنيفة بضعة عشر رجلا عليهم سلمى بن حنظلة، وفيهم
الرحال بن عنفوة وطلق بن على وعلى بن سنان ومسيلمة بن حبيب الكذاب، فأنزلوا في دار
مسلمة بنت الحارث وأجريت عليهم الضيافة، فكانوا يؤتون بغداء وعشاء مرة خبزا ولحما،
ومرة خبزا ولبنا، ومرة خبزا، ومرة خبزا وسمنا، ومرة تمرا بنزلهم.
فلما قدموا المسجد أسلموا وقد خلفوا مسيلمة في رحالهم، ولما أرادوا الانصراف
أعطاهم جوائزهم خمس أواق من فضة، وأمر لمسيلمة بمثل ما أعطاهم، لما ذكروا أنه في
رحالهم، فقال: " أما إنه ليس بشركم مكانا ".
__________
(1) تقدم ذلك في هذا الجزء.
(*)
فلما رجعوا إليه أخبروه بما
قال عنه، فقال: إنما قال ذلك لانه عرف أن الامر لى من بعده.
وبهذه الكلمة تشبث قبحه الله حتى ادعى النبوة.
قال الواقدي: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معهم بإداوة فيها فضل
طهوره، وأمرهم أن يهدموا بيعتهم وينضحوا هذا الماء مكانه ويتخذه مسجدا ففعلوا.
وسيأتى ذكر مقتل الاسود العنسى في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل
مسيلمة الكذاب في أيام الصديق.
وفد أهل نجران قال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل،
عن أبى إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة، قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه.
قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا
عقبنا من بعدنا.
قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا رجلا أمينا،
فقال: " لابعثن معكم رجلا أمينا حق أمين ".
فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قم يا أبا عبيدة ابن الجراح
فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا أمين هذه الامة ".
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث شعبة، عن أبى إسحاق به.
* * *
وقال الحافظ أبو بكر البيهقى:
أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى
ابن الفضل، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار،
حدثنا يونس بن بكير، عن سلمة بن عبد يسوع، عن أبيه عن جده - قال يونس: وكان
نصرانيا فأسلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى نجران قبل أن ينزل عليه
طس سليمان " باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، من محمد النبي رسول الله إلى
أسقف نجران أسلم أنتم، فإنى أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ; أما بعد فإنى
أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد
فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام ".
فلما أتى الاسقف الكتاب فقرأه فظع به وذعر به ذعرا شديدا، وبعث إلى رجل من أهل
نجران يقال له شرحبيل بن وداعة - وكان من همدان، ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة
قبله لا الابهم ولا السيد ولا العاقب -.
فدفع الاسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه، فقال الاسقف: يا
أبا مريم ما رأيك ؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من
النبوة، فما تؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل ؟ ليس لى في النبوة رأى ولو كان أمرا
من أمور الدنيا لاشرت عليك فيه برأى وجهدت لك.
فقال له الاسقف: تنح فاجلس.
فتنحى شرحبيل فجلس ناحيته.
فبعث الاسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبدالله بن شرحبيل، وهو من ذى أصبح من
حمير، فأقراه الكتاب وسأله عن الرأى، فقال له مثل قول شرحبيل، فقال له الاسقف: تنح
فاجلس فتنحى فجلس ناحيته.
وبعث الاسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بنى الحارث ابن كعب أحد
بنى الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأى فيه، فقال له مثل
قول شرحبيل وعبد الله، فأمره
الاسقف فتنحى فجلس ناحيته
فلما اجتمع الرأى منهم على تلك المقالة جميعا، أمر الاسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت
النيران والمسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار، وإذا كان
فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع.
فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة
يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأى فيه.
فاجتمع رأى أهل الرأى منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله ابن
شرحبيل الاصبحي وجبار بن فيض الحارثى، فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * قال: فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا
حللا لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فسلموا عليه فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه نهارا طويلا فلم
يكلمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب.
فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانوا يعرفونهما، فوجدوهما في
ناس من المهاجرين والانصار في مجلس، فقالوا: يا عثمان ويا عبدالرحمن، إن نبيكم كتب
إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا
لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأى منكما، أترون أن نرجع ؟ فقالا
لعلى بن أبى طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال
على لعثمان ولعبد الرحمن: أرى
أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم
ثم يعودوا إليه.
ففعلوا فسلموا فرد سلامهم، ثم قال: " والذى بعثنى بالحق لقد أتونى المرة
الاولى وإن إبليس لمعهم ".
ثم ساءلهم وساءلوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى، فإنا
نرجع إلى قومنا ونحن نصارى، يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما عندي فيه شئ يومى هذا، فأقيموا حتى
أخبركم بما يقول الله في عيسى ".
فأصبح الغد وقد أنزل الله عزوجل هذه الآية: " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم
خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين.
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين " (1).
فأبوا أن يقروا بذلك.
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر، أقبل مشتملا
على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشى عند ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدة نسوة.
فقال شرحبيل لصاحبيه: قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم
يصدروا إلا عن رأيى، وإنى والله أرى أمرا ثقيلا، والله لئن كان هذا الرجل ملكا
متقويا فكنا أول العرب طعن في عينه ورد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور
أصحابه حتى يصيبونا بجائحة، وإنا أدنى العرب منهم جوارا،
__________
(1) سورة آل عمران 59 - 61.
(*)
ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا
فلاعناه لا يبقى على وجه الارض منا شعر
ولا ظفر إلا هلك.
فقال له صاحباه: فما الرأى يا أبا مريم ؟ فقال: رأيى أن أحكمه، فإنى أرى رجلا لا
يحكم شططا أبدا.
فقالا له: أنت وذاك.
قال فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنى قد رأيت خيرا من
ملاعنتك.
فقال: " وما هو ؟ " فقال: حكمك اليوم إلى الليل.
وليلتك إلى الصباح، فمهما حكمت فينا فهو جائز.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعل وراءك أحدا يثرب (1) عليك ؟ "
فقال شرحبيل: سل صاحبي، فقالا: ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأى شرحبيل.
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم، حتى إذا كان الغد أتوه فكتب لهم
هذا الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي [ الامي (2) ]
رسول الله لنجران، أن كان عليهم حكمه في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء ورقيق، فأفضل
عليهم وترك ذلك كله على ألفى حلة، في كل رجب ألف حلة، وفى كل صفر ألف حلة "
وذكر تمام الشروط.
إلى أن قال: شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بنى نصر والاقرع
بن حابس الحنظلي والمغيرة، وكتب.
حتى إذا قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران ومع الاسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من
النسب يقال له بشر بن معاوية وكنيته أبو علقمة، فدفع الوفد كتاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى الاسقف، فبينما هو يقرأه وأبو علقمة معه وهما يسيران
__________
(1) يثرب: يلوم.
(2) ليست في ا.
(*)
إذ كبت ببشر ناقته، فتعس بشر،
غير أنه لا يكنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له الاسقف عند ذلك: قد والله تعست نبيا مرسلا.
فقال له بشر: لا جرم، والله لا أحل عنها عقدا حتى آتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قال: وصرف وجه ناقته نحو المدينة، وثنى الاسقف ناقته عليه، فقال له: افهم عنى،
إنما قلت هذا ليبلغ (1) عنى العرب مخافة أن يروا أنا أخذنا حقه أو رضينا بصوته أو
نخعنا (2) لهذا الرجل بما لم تنخع به العرب، ونحن أعزهم وأجمعهم دارا، فقال له
بشر: لا والله لا أقبل ما خرج من رأسك أبدا.
فضرب بشر ناقته وهو مولى الاسقف ظهره، وارتجز يقول: إليك تغدو قلقا وضينها (3) *
معترضا في بطنها جنينها مخالفا دين النصارى دينها حتى أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأسلم ولم يزل معه حتى قتل بعد ذلك.
* * * قال: ودخل الوفد نجران، فأتى الراهب ابن أبى شمر الزبيدى وهو في رأس صومعته
فقال له: إن نبيا بعث بتهامة.
فذكر ما كان من وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه عرض عليهم
الملاعنة فأبوا، وأن بشر بن معاوية دفع إليه فأسلم.
فقال الراهب: أنزلوني وإلا ألقيت نفسي من هذه الصومعة.
قال: فأنزلوه فأخذ
__________
(1) ا: فبلغ.
(2) نخعنا: أقررنا.
(3) الوضين: بطان عريض منسوج من سيور أو شعر.
وقلق الوضين: كناية عن الهزال.
(*)
معه هدية وذهب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم، منها هذا البرد الذى يلبسه الخلفاء وقعب وعصا.
فأقام مدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع الوحى، ثم رجع إلى قومه
ولم يقدر له الاسلام، ووعد أنه سيعود فلم يقدر له حتى توفى رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
وإن الاسقف أبا الحارث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيد والعاقب ووجوه
قومه فأقاموا عنده يسمعون ما ينزل الله عليه، وكتب للاسقف هذا الكتاب ولاساقفة
نجران بعده: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي للاسقف أبى الحارث وأساقفة
نجران وكهنتهم ورهبانهم (1) وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير جوار الله ورسوله، لا
يغير أسقف من أسقفته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته ولا يغير حق من
حقوقهم ولا سلطانهم ولا ما كانوا عليه من ذلك، جوار الله ورسوله أبدا ما أصلحوا
ونصحوا عليهم، غير مبتلين بظلم ولا ظالمين.
وكتب المغيرة بن شعبة.
* * * وذكر محمد بن إسحاق أن وفد نصارى نجران كانوا ستين راكبا يرجع أمرهم إلى
أربعة عشر منهم، وهم العاقب واسمه عبد المسيح والسيد وهو الابهم وأبو حارثة بن
علقمة وأوس بن الحارث وزيد وقيس ويزيد ونبيه وخويلد وعمرو وخالد وعبد الله ويحنس.
وأمر هؤلاء الاربعة عشر يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب، وكان أمير القوم وذا
رأيهم وصاحب مشورتهم والذى لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد وكان ثمالهم (2)
__________
(1) ا: ورهابينهم.
(2) ثمالهم: ملجأهم.
(*)
وصاحب رحلهم، وأبو حارثة بن
علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وكان رجلا من العرب من بكر بن وائل ولكن دخل دين
النصرانية فعظمته الروم وشرفوه وبنوا له الكنائس ومولوه وأخدموه لما يعرفون من
صلابته في دينهم، وكان مع ذلك يعرف أمر (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن صده
الشرف والجاه من
اتباع الحق.
وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثنى بريدة بن سفيان، عن ابن البيلمانى (2)، عن
كرز (3) بن علقمة، قال: قدم وفد نصارى نجران ستون راكبا منهم أربعة وعشرون رجلا من
أشرافهم، والاربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم العاقب والسيد وأبو
حارثة أحد بنى بكر بن وائل أسقفهم وصاحب مدراسهم (4) وكانوا قد شرفوه فيهم ومولوه
وأكرموه، وبسطوا عليه الكرامات وبنوا له الكنائس لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده
في دينهم.
فلما توجهوا من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن
علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبى حارثة، فقال كرز: تعس الابعد - يريد رسول الله صلى
الله عليه وسلم -.
فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست.
فقال له كرز: ولم يا أخى ؟ فقال، والله إنه للنبى الذى كنا ننتظره.
فقال له كرز: وما يمنعك وأنت تعلم هذا ؟ فقال له: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا
ومولونا وأخدمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى.
قال: فأضمر عليها منه أخوه كرز، حتى أسلم بعد ذلك.
__________
(1) ا: أمور (2) ا: السيلمانى.
(3) ابن هشام: كوز.
(4) غيرا:.
مدارستهم.
(*)
وذكر ابن إسحاق أنهم لما
دخلوا المسجد النبوى دخلوا في تجمل وثياب حسان، وقد حانت صلاة العصر فقاموا يصلون
إلى المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم.
فكان المتكلم لهم أبا حارثة بن علقمة والسيد والعاقب حتى نزل فيهم صدر سورة
آل عمران والمباهلة، فأبوا ذلك، وسألوا أن يرسل معهم أمينا، فبعث معهم أبا عبيدة
بن الجراح.
كما تقدم في رواية البخاري.
وقد ذكرنا ذلك مستقصى في تفسير سورة آل عمران ولله الحمد والمنة.
وفد بنى عامر وقصة عامر بن
الطفيل وأربد بن قيس لعنهم الله قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفد بنى عامر، فيهم عامر ابن الطفيل وأربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر
وحيان (1) بن سلمى بن مالك بن جعفر، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم.
وقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد الغدر
به.
وقد قال له قومه: يا أبا عامر (2) إن الناس قد أسلموا فأسلم.
قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهى حتى تتبع العرب عقبى فأنا أتبع عقب هذا الفتى
من قريش.
ثم قال لاربد: إن قدمنا على الرجل فإنى سأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله
بالسيف.
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالنى
(3) قال: " لا والله حتى تؤمن بالله وحده " قال: يا محمد خالنى، قال:
وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره به فجعل أربد لا يحير (4) شيئا، فلما رأى
عامر ما يصنع أربد قال: يا محمد خالنى، قال: " لا، حتى تؤمن بالله وحده لا
شريك له ".
فلما أبى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: أما والله لاملانها عليك خيلا ورجالا.
فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اكفني عامر ابن الطفيل
".
فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر بن الطفيل لاربد: أين
__________
(1) كذا بالاصل، وهى رواية، وفى ابن هشام: وجبار.
(2) ابن هشام: يا عامر.
(3) خالنى: تفرد لى خاليا وبالتشديد: اتخذني خليلا (4) ا: يحيك.
(*)
ما كنت أمرتك به ؟ والله
ماكان على ظهر الارض رجل أخوف على نفسي منك، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا.
قال: لا أبالك لا تعجل على، والله ما هممت بالذى أمرتنى به إلا دخلت بينى وبين
الرجل حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف ؟ ! وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا
كانوا ببعض الطريق بعث الله عزوجل على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه، فقتله الله
في بيت امرأة من بنى سلول، فجعل يقول: يا بنى عامر أغدة كغدة البكر (1) في بيت
امرأة من بنى سلول ؟ قال ابن هشام: ويقال: أغدة كغدة الابل وموت في بيت سلولية ! *
* * وروى الحافظ البيهقى من طريق الزبير بن بكار، حدثتني فاطمة بنت عبد العزيز بن
موءلة، عن أبيها، عن جدها موءلة بن حميل (2) قال: أتى عامر بن الطفيل رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال له: " يا عامر أسلم " فقال: أسلم على أن لى
الوبر ولك المدر.
قال: " لا ".
ثم قال: أسلم.
فقال: أسلم على أن لى الوبر ولك المدر قال: لا.
فولى وهو يقول: والله يا محمد لاملانها عليك خيلا جردا ورجالا مردا ولاربطن بكل
نخلة فرسا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامرا وأهد قومه.
فخرج حتى إذا كان بظهر المدينة صادف امرأة من قومه يقال لها سلولية، فنزل عن
فرسه ونام في بيتها، فأخذته غدة في حلقه، فوثب على فرسه وأخذ رمحه وأقبل يجول وهو
يقول: غدة كغدة البكر وموت في بيت سلولية ! فلم تزل تلك حاله حتى سقط عن فرسه
ميتا.
__________
(1) البكر: الفتى من الابل.
(3) في القاموس: موءلة بن كثيف بن حمل.
(*)
وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد
البر في الاستيعاب في أسماء الصحابة موءلة هذا فقال: هو موءلة بن كثيف الضبابى
الكلابي العامري، من بنى عامر بن صعصعة، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن
عشرين سنة فأسلم وعاش في الاسلام مائة سنة وكان يدعى ذا اللسانين من فصاحته، روى
عنه ابنه عبد العزيز، وهو الذى روى قصة عامر ابن الطفيل: غدة كغدة البعير وموت في
بيت سلولية.
قال الزبير بن بكار، حدثتني ظمياء بنت عبد العزيز بن موءلة بن كثيف بن حمل ابن
خالد بن عمرو بن معاوية، وهو الضباب بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، قالت:
حدثنى أبى عن أبيه، عن موءلة، أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وهو ابن
عشرين سنة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح يمينه وساق إبله إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فصدقها بنت لبون، ثم صحب أبا هريرة بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعاش في الاسلام مائة سنة، وكان يسمى ذا اللسانين من فصاحته.
قلت: والظاهر أن قصة عامر بن الطفيل متقدمة على الفتح، وإن كان ابن إسحاق والبيهقي
قد ذكراها بعد الفتح.
وذلك لما رواه الحافظ البيهقى عن الحاكم، عن الاصم، أنبأنا محمد بن إسحاق، أنبأنا
معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق الفزارى، عن الاوزاعي، عن إسحاق بن عبدالله ابن
أبى طلحة، عن أنس في قصة بئر معونة وقتل عامر بن الطفيل حرام بن ملحان خال أنس بن
مالك، وغدره بأصحاب بئر معونة حتى قتلوا عن آخرهم سوى عمرو بن أمية
كما تقدم.
قال الاوزاعي: قال يحيى: فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على عامر بن
الطفيل ثلاثين صباحا: " اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت وابعث عليه ما
يقتله " فبعث الله عليه الطاعون.
وروى عن همام، عن إسحاق بن
عبدالله، عن أنس في قصة حرام بن ملحان قال: وكان عامر بن الطفيل قد أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: أخيرك بين ثلاث خصال: يكون لك أهل السهل ويكون لى أهل
الوبر، وأكون خليفتك من بعدك، أو أغزوك بغطفان بألف أشقر وألف شقراء.
قال، فطعن في بيت امرأة فقال: أغدة كغدة البعير وموت في بيت امرأة من بنى فلان !
ائتونى بفرسي.
فركب فمات على ظهر فرسه.
قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حتى واروه حتى قدموا أرض بنى عامر شاتين، فلما قدموا
أتاهم قومهم فقالوا: وما وراءك يا أربد ؟ قال: لا شئ، والله لقد دعانا إلى عبادة
شئ لوددت لو أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله الآن.
فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة
فأحرقتهما.
قال ابن إسحاق: وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لامه، فقال لبيد يبكى أربد: ما
إن تعدى (1) المنون من أحد * لا والد مشفق ولا ولد أخشى على أربد الحتوف ولا *
أرهب نوء السماك والاسد فعين هلا بكيت أربد إذ * قمنا وقام النساء في كبد إن يشغبوا
لا يبال شغبهم * أو يقصدوا في الحكوم يقتصد
حلو أريب وفى حلاوته * مر لصيق الاحشاء والكبد (2) وعين هلا بكيت أربد إذ * ألوت
رياح الشتاء بالعضد (3)
__________
(1) تعدى: تترك.
وفى الاصل: تعزى.
وما أثبته عن ابن هشام 2 / 569.
(2) ابن هشام: لطيف الاحشاء.
(3) العضد: الشجر المعضود، الذى سقطت أوراقه.
(*)
وأصبحت لاقحا مصرمة * حتى
تجلت غوابر المدد (1) أشجع من ليث غابة لحم * ذو نهمة في العلا ومنتقد (2) لا تبلغ
العين كل نهمتها * ليلة تمسى الجياد كالقدد (3) الباعث النوح في مآتمه * مثل
الظباء الابكار بالجرد (4) فجعني البرق والصواعق بالفا * رس يوم الكريهة النجد
والحارب الجابر الحريب إذا * جاء نكيبا وإن يعد يعد (5) يعفو على الجهد والسؤال
كما * ينبت غيث الربيع ذو الرصد (6) كل بنى حرة مصيرهم * قل وإن أكثروا من العدد
(7) إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا * يوما فهم للهلاك والنفد (8) وقد ذكر ابن إسحاق
عن لبيد أشعارا كثيرة في رثاء أخيه لامه أربد بن قيس، تركناها اختصارا واكتفاء بما
أوردناه.
والله الموفق للصواب.
* * * قال ابن هشام: وذكر زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس قال: فأنزل
الله عزل وجل في عامر وأربد: " الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام
وما تزداد.
وكل شئ عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
سواء منكم
__________
(1) اللاقح: الشجرة التى ألقحتها الرياح.
والمصرمة: التى لا ثمر لها.
والغواير: البقايا.
(2) اللحم: الاكول للحم القرم إليه.
والمنتقد: النظر والرأى.
(3) القدد: جمع قدة وهى السير يقطع من جلد، يشبه به الخيل في الهزال والضمور.
(4) النوح: النساء النائحات.
والجرد: الارض المقفرة.
(5) الحارب: السالب للاعداء.
والحريب: الذى سلب ماله.
(6) يعفو: يكثر عطاؤه.
والرصد: القليل من الكلا.
(7) ابن هشام: وإن كثرت.
(8) يغبطوا: يحسدوا على نعمتهم.
يهبطوا: يحرموا.
وأمروا: كثروا واشتدوا.
(*)
من أسر القول ومن جهر به ومن
هو مستخف بالليل وسارب بالنهار.
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " يعنى محمدا صلى الله
عليه وسلم.
ثم ذكر أربد وقتله فقال الله تعالى: " وأذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له
وما لهم من دونه من وال.
هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ويسبح الرعد بحمده والملائكة
من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال
(1) ".
قلت: وقد تكلمنا على هذه الآيات الكريمات في سورة الرعد.
ولله الحمد والمنة.
وقد وقع لنا إسناد ما علقه ابن هشام رحمه الله.
فروينا من طريق الحافظ أبى القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير حيث
قال: حدثنا مسعدة بن سعد العطار، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامى، حدثنى عبد
العزيز بن عمران، حدثنى عبدالرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم، عن أبيهما، عن عطاء
بن يسار، عن ابن عباس، أن أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب وعامر بن
الطفيل بن مالك قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهيا إليه وهو
جالس، فجلسا بين يديه: فقال عامر بن الطفيل، يا محمد ما تجعل لى إن
أسلمت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم
".
قال عامر: أتجعل لى الامر إن أسلمت من بعدك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة
الخيل ".
قال: أنا الآن في أعنة خيل نجد، اجعل لى الوبر ولك المدر.
__________
(1) سورة الرعد.
(*)
قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " لا ".
فلما قفل (1) من عنده قال عامر، أما والله لاملانها عليك خيلا ورجالا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمنعك الله ".
فلما خرج أربد وعامر قال عامر: يا أربد أنا أشغل عنك محمد بالحديث فاضربه بالسيف،
فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب، فسنعطيهم
الدية.
قال أربد: أفعل.
فأقبلا راجعين إليه، فقال عامر: يا محمد قم معى أكلمك.
فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم خليا إلى الجدار ووقف معه رسول الله صلى
الله عليه وسلم يكلمه، وسل أربد السيف، فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم
السيف، فلم يستطع سل السيف، فأبطأ أربد على عامر بالضرب، فالتفت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما.
فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحرة حرة
واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير فقالا: اشخصا ياعدوا الله
لعنكما الله.
فقال عامر: من هذا يا سعد ؟ قال: أسيد بن حضير الكتائب.
فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا
كان بالحرة أرسل الله قرحة فأخذته، فأدركه الليل في بيت امرأة من بنى سلول،
فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول: غدة كغدة الجمل في بيت سلولية ؟ يرغب (2) أن يموت
في بيتها.
ثم ركب فرسه فأحضرها حتى مات عليه راجعا، فأنزل الله فيهما.
" الله يعلم
__________
(1) الاصل: قفا (2) يرغب: يكره.
(*)
ما تحمل كل أنثى وما تغيض
الارحام وما تزداد " إلى قوله: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه "
يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر أربد وما قتله به فقال: " ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء "
الآية.
وفى هذا السياق دلالة على تقدم قصة عامر وأربد، وذلك لذكر سعد بن معاذ فيه.
والله أعلم.
وقد تقدم (1) وفود الطفيل بن عامر الدوسى رضى الله عنه على رسول لله صلى الله عليه
وسلم بمكة وإسلامه، وكيف جعل الله له نورا بين عينيه، ثم سأل الله فحوله له إلى
طرف سوطه.
وبسطنا ذلك هنالك فلا حاجة إلى إعادته هاهنا كما صنع البيهقى وغيره.
قدوم ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدا عن قومه بنى سعد بن
بكر قال ابن إسحاق: حدثنى محمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب، عن ابن عباس.
قال: بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقدم إليه وأناخ بعيره على باب المسجد ثم عقله، ثم دخل المسجد، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين.
فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، فقال: أيكم ابن
عبدالمطلب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا ابن عبدالمطلب ".
__________
(1) تقدم ذلك في الجزء الاول.
(*)
فقال: يا محمد.
قال: نعم.
قال: يابن عبدالمطلب إنى سائلك ومغلظ عليك في المسألة فلا تجدن في نفسك.
قال: " لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك ".
فقال: أنشدك إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولا ؟
قال: " اللهم نعم ".
قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك أن
تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا، وأن نخلع هذه الانداد التى كان آباؤنا
يعبدون ؟ قال: اللهم نعم.
قال: فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك، آلله أمرك إن نصلى
هذه الصلوات الخمس ؟ قال: " نعم ".
قال: ثم جعل يذكر فرائض الاسلام فريضة فريضة، الزكاة، والصيام، والحج، وشرائع
الاسلام كلها، ينشده عند كل فريضة منها كما ينشده في التى قبلها.
حتى إذا فرغ قال: فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وسأؤدى
هذه الفرائض وأجتنب ما نهيتني عنه، ثم لا أزيد ولا أنقص، ثم انصرف إلى بعيره
راجعا.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة
".
قال: فأتى بعيره فأطلق عقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه فكان أول ما
تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى.
فقالوا: مه يا ضمام اتق البرص، اتق الجذام، اتق الجنون !
فقال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولا وأنزل عليه
كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأن محمدا عبده ورسوله، وقد
جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه قال، فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفى
حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
قال، يقول ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.
وهكذا رواه الامام أحمد عن يعقوب بن إبراهيم الزهري، عن أبيه، عن ابن إسحاق فذكره.
وقد روى هذا الحديث أبو داود من طريق سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن سلمة بن
كهيل ومحمد بن الوليد بن نويفع، عن كريب، عن ابن عباس بنحوه.
وفى هذا السياق ما يدل على أنه رجع إلى قومه قبل الفتح، لان العزى خربها خالد بن
الوليد أيام الفتح.
* * * وقد قال الواقدي: حدثنى أبو بكر بن عبدالله بن أبى سبرة، عن شريك بن عبد
الله بن أبى نمر، عن كريب، عن ابن عباس، قال: بعثت بنو سعد بن بكر في رجب سنة خمس
ضمام بن ثعلبة، وكان جلدا أشعر ذا غديرتين وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فأغلظ له في المسألة، سأله
عمن أرسله وبم أرسله، وسأله عن شرائع الاسلام، فأجابه رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ذلك كله، فرجع إلى قومه مسلما قد خلع الانداد،، فأخبرهم بما أمرهم به
ونهاهم عنه، فما أمسى في ذلك اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما، وبنوا
المساجد
وأذنوا بالصلاة.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا سليمان - يعنى ابن المغيرة - عن
ثابت، عن أنس بن مالك، قال،
كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ، فكان يعجبنا أن يجئ الرجل
من أهل البادية العاقل يسأله ونحن نسمع.
فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله
أرسلك.
قال: صدق.
قال: فمن خلق السماء ؟ قال: الله.
قال: فمن خلق الارض ؟ قال: الله.
قال.
: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال: الله.
قال: فبالذى خلق السماء وخلق الارض ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك ؟ قال، نعم.
قال: وزعم رسولك أن علبنا خمس صلوات في يومنا وليلتنا.
قال: صدق.
قال: فبالذى أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم.
قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا.
قال: صدق.
قال، فبالذى أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم.
قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا.
قال: صدق.
قال: فبالذى أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال: نعم.
قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا.
قال: صدق.
قال: ثم ولى فقال: والذى بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئا ولا أنقص عليهن شيئا.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن صدق ليدخلن الجنة ".
[ وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما بأسانيد وألفاظ كثيرة، عن أنس بن
مالك رضى الله عنه (1).
__________
(1) سقط من ا.
(*)
وقد رواه مسلم من حديث أبى
النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة.
وعلقه البخاري من طريقه.
وقد أخرجه من وجه آخر بنحوه.
فقال الامام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثنى سعيد بن أبى سعيد، عن شريك بن
عبدالله بن أبى نمر، أنه سمع أنس بن مالك يقول: بينا نحن عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم جلوس في المسجد دخل رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله، ثم قال، أيكم
محمد ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم قال: فقلنا: هذا الرجل
الابيض المتكئ.
فقال الرجل: يابن عبدالمطلب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك.
فقال الرجل: يا محمد إنى سائلك فمشتد عليك في المسألة، فلا تجد على في نفسك.
فقال: سل ما بدا لك.
فقال الرجل: أنشدك بربك ورب من كان قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم نعم ".
[ قال: فأنشدك الله آلله أمرك أن نصلى الصلوات الخمس في اليوم والليلة ؟ قال:
اللهم نعم (1) ].
قال، فأنشدك الله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة ؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " اللهم نعم ! ".
[ قال: أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا
؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم نعم (1) ] قال الرجل: آمنت بما جئت
به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بنى سعد بن بكر.
__________
(1) سقط من المطبوعة.
(*)
وقد رواه الامام البخاري عن
عبدالله بن يوسف، عن الليث بن سعد، عن سعيد المقبرى به.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن الليث به.
والعجب أن النسائي رواه من طريق آخر عن الليث.
قال: حدثنى ابن عجلان وغيره من أصحابنا، عن سعيد المقبرى، عن شريك، عن أنس بن
مالك.
فذكره.
وقد رواه النسائي أيضا من حديث عبيدالله العمرى، عن سعيد المقبرى عن أبى هريرة،
فلعله عن سعيد المقبرى من الوجهين جميعا.
والله أعلم.
فصل وقد قدمنا (1) ما رواه الامام أحمد عن يحيى بن آدم، عن حفص بن غياث، عن داود
بن أبى هند، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قدوم ضماد الازدي على رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة وإسلامه وإسلام قومه.
كما ذكرناه مبسوطا بما أغنى عن إعادته هاهنا.
ولله الحمد والمنة.
وفد طيئ مع زيد الخيل رضى الله عنه [ وهو زيد بن مهلهل بن زيد بن منهب، أبو مكنف
الطائى، وكان من أحسن العرب وأطوله رجلا.
وسمى زيد الخيل لخمس أفراس كن له.
قال السهيلي: ولهن أسماء لا يحضرني الآن حفظها ] (2).
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد طيئ وفيهم
__________
(1) سبق ذلك في الجزء الاول.
(2) سقطت من المطبوعة (*)
زيد الخيل وهو سيدهم، فلما
انتهوا إليه كلموه وعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الاسلام فأسلموا فحسن
إسلامهم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثنى من لا أتهم من رجال طيئ: " ما ذكر
رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلا رأيته دون ما يقال فيه، إلا زيد الخيل، فإنه لم
يبلغ كل الذى فيه ".
ثم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، وقطع له فيدا (1) وأرضين معه،
وكتب له بذلك.
فخرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى قومه، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " إن ينج زيد من حمى المدينة فإنه " (2) قال: وقد سماها
رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم غير الحمى وغير أم ملدم - لم يثبته (3) -.
قال ابن إسحق: فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له فردة أصابته الحمى
فمات بها، ولما أحس بالموت قال: أمرتحل قومي المشارق غدوة * وأترك في بيت بفردة
منجد ألا رب يوم لو مرضت لعادني * عوائد من لم يبر منهن يجهد (4) قال: ولما مات
عمدت امرأته لجهلها وقلة عقلها ودينها إلى ما كان معه من الكتب فحرقتها بالنار.
قلت: وقد ثبت في الصحيحين عن أبى سعيد، أن على بن أبى طالب بعث إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم من اليمن بذهبية في تربتها، فقسمها رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) فيد: موضع بشرقي سلمى أحد جبلى طيئ.
(2) قال: (3) قال السهيلي: الاسم الذى ذهب عن الراوى من أسماء الحمى هو أم كلبة.
ذكر لى أن أبا عبيدة ذكره في مقاتل الفرسان.
ولم أره.
الروض 2 / 342.
(4) يبر: يضني.
(*)
وسلم بين أربعة: زيد الخيل،
وعلقمة بن علاثة، والاقرع بن حابس، وعيينة بن بدر الحديث.
وسيأتى ذكره في بعث على إلى اليمن إن شاء الله تعالى.
قصة عدى بن حاتم الطائى قال البخاري في الصحيح: وفد طيئ وحديث عدى بن حاتم.
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، حدثنا عبدالملك بن عمير، عن عمرو بن
حريث، عن عدى بن حاتم، قال: أتينا عمر بن الخطاب في وفد فجعل يدعو رجلا رجلا
يسميهم، فقلت: أما تعرفني يا أمير المؤمنين ؟ قال: بلى أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ
أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا.
فقال عدى: لا أبالى إذا.
وقال ابن إسحاق: وأما عدى بن حاتم فكان يقول فيما بلغني: ما رجل من العرب كان أشد
كراهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به منى، أما أنا فكنت امرءا شريفا
وكنت نصراينا، وكنت أسير في قومي بالمرباع وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في
قومي لما كان يصنع بى.
فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لى عربي وكان
راعيا لابلى: لا أبا لك، اعدد لى من إبلى أجمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا منى،
فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فأذني.
ففعل.
ثم إنه أتانى ذات غداة فقال: يا عدى، ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه
الآن، فإنى قد رأيت رايات فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد.
قال: قلت: فقرب إلى أجمالي.
فقربها.
فاحتملت بأهلى وولدى، ثم قلت،
ألحق بأهل دينى من النصارى بالشام.
فسلكت الجوشية (1) وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها.
وتخالفني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها
على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيئ، وقد بلغ رسول الله صلى الله
عليه وسلم هربي إلى الشام.
قال: فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس بها، فمر بها رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة (2)، فقالت: يا رسول الله
هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن على من الله عليك.
قال: ومن وافدك ؟ قالت: عدى بن حاتم.
قال، الفار من الله ورسوله.
قالت: ثم مضى وتركني، حتى إذا كان الغد مر بى فقلت له مثل ذلك، وقال لى مثل ما قال
بالامس.
قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بى وقد يئست، فأشار إلى رجل خلفه أن قومي فكلميه.
قالت، فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن على من الله
عليك.
فقال صلى الله عليه وسلم: قد " فعلت، فلا تعجلى بخروج حتى تجدى من قومك من
يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك.
ثم آذنينى " فسألت عن الرجل الذى أشار إلى أن كلميه، فقيل لى: على بن أبى
طالب.
قالت: وأقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة، قالت وإنما أريد أن آتى أخى بالشام،
فجئت فقلت: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لى فيهم ثقة وبلاغ.
قالت:
__________
(1) الجوشية: موضع بين نجد والشام.
(2) الجزلة: العاقلة الاصيلة الرأى.
(*)
فكساني وحملنى وأعطاني نفقة،
فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
قال عدى، فو الله إنى لقاعد في أهلى فنظرت إلى ظعينة تصوب إلى قومنا (1) قال: فقلت
ابنة حاتم.
قال: فإذا هي هي.
فلما وقفت على انسحلت (2) تقول: القاطع الظالم ! احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية
والدك عورتك ؟ ! قال: قلت: أي أخية لا تقولي إلا خيرا، فو الله مالى من عذر، لقد
صنعت ما ذكرت.
قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا
الرجل ؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله،
وإن يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت.
قال: فقلت: والله إن هذا الرأى.
قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلت عليه وهو في
مسجده، فسلمت عليه، فقال: من الرجل ؟ فقلت، عدى بن حاتم.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلق بى إلى بيته، فوالله أنه لعامد بى إليه
إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها.
قال قلت في نفسي: والله ما هذا بملك ! قال: ثم مضى بى رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا، فقذفها إلى فقال: "
اجلس على هذه " قال قلت: بل أنت فاجلس عليها.
قال: " بل أنت ".
__________
(1) ابن هشام: تؤمنا.
(2) انسحلت: جرت بالكلام وفى الاصل: استحلت.
وما أثبته عن ابن هشام 2 / 580 (*)
فجلست وجلس رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالارض، قال قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك.
ثم قال: " إيه يا عدى بن حاتم ؟ ألم تك ركوسيا (1) ؟ " قال قلت: بلى.
قال: " أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع ؟ " قال قلت: بلى.
قال: " فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك " قال: قلت أجل والله.
قال: وعرفت أنه نبى مرسل يعلم ما يجهل.
ثم قال: " لعلك يا عدى إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم،
فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول
فيه ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من
القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه
أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من
أرض بابل قد فتحت عليهم ".
قال: فأسلمت.
قال فكان عدى يقول: مضت اثنتان وبقيت الثالثة، والله لتكونن، وقد رأيت القصور
البيض من أرض بابل قد فتحت، ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى
تحج هذا البيت، وايم الله لتكونن الثالثة، ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه.
* * * هكذا أورد ابن إسحاق رحمه الله هذا السياق بلا إسناد وله شواهد من وجوه أخر.
__________
(1) الركوسية: دين بين النصارى والصابئين.
(*)
فقال الامام أحمد: حدثنا محمد
بن جعفر، حدثنا شعبة، سمعت سماك بن حرب، سمعت عباد بن حبيش، يحدث عن عدى بن حاتم،
قال: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بعقرب (1) فأخذوا عمتى وناسا،
فلما أتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فصفوا له.
قالت: يا رسول الله بان الوافد وانقطع الولد وأنا عجوز كبيرة ما بى من خدمة، فمن
على من الله عليك.
فقال: ومن وافدك ؟ قالت: عدى بن حاتم.
قال: الذى فر من الله ورسوله، قالت: فمن على.
فلما رجع ورجل إلى جنبه - نرى أنه على - قال: سليه حملانا.
قال: فسألته فأمر لها.
قال عدى: فأتتنى فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها.
وقالت: إيته راغبا أو راهبا، فقد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه.
قال: فأتيته فإذا عنده امرأة وصبيان أو صبى، فذكر قربهم منه، فعرفت أنه ليس ملك
كسرى ولا قيصر.
فقال له: يا عدى بن حاتم ما أفرك ؟ أفرك أن يقال لا إله إلا الله ؟ فهل من إله إلا
الله، ما أفرك ؟ أفرك أن يقال الله أكبر ؟ فهل شئ هو أكبر من الله عزوجل ؟ فأسلمت
فرأيت وجهه استبشر وقال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى.
قال: ثم سألوه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فلكم أيها الناس أن ترتضخوا
من الفضل، ارتضخ امرؤ بصاع، ببعض صاع، بقبضة، ببعض قبضة.
قال شعبة
__________
(1) كذا بالاصل.
ولعل الصواب بعقرباء، اسم مدينة الجولان وهى كورة بدمشق.
(*)
- وأكثر علمي أنه قال بتمرة،
بشق تمرة - وإن أحدكم لاقى الله فقائل ما أقول: ألم
أجعلك سميعا بصيرا ؟ ألم أجعل لك مالا وولدا فماذا قدمت.
فينظر من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، فلا يجد شيئا فما يتقى النار
إلا بوجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوه فبكلمه لينة، إنى لا أخشى
عليكم الفاقة لينصرنكم الله وليعطينكم - أو ليفتحن عليكم - حتى تسير الظعينة بين
الحيرة ويثرب، إن أكثر ما تخاف السرق على ظعينتها.
وقد رواه الترمذي من حديث شعبة وعمرو بن أبى قيس، كلاهما عن سماك.
ثم قال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سماك.
وقال الامام أحمد أيضا: حدثنا يزيد، أنبأنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن
أبى عبيدة - هو ابن حذيفة - عن رجل، قال: قلت لعدى بن حاتم: حديث بلغني عنك أحب أن
أسمعه منك.
قال نعم: لما بلغني خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم كرهت خروجه كراهية شديدة،
فخرجت حتى وقعت ناحية الروم - وفى رواية حتى قدمت على قيصر - قال: فكرهت مكاني ذلك
أشد من كراهتي لخروجه.
قال قلت: والله لو أتيت هذا الرجل فإن كان كاذبا لم يضرنى، وإن كان صادقا علمت.
قال: فقدمت فأتيته، فلما قدمت قال الناس: عدى بن حاتم.
فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى: يا عدى بن حاتم أسلم تسلم.
ثلاثا.
قال قلت: إنى على دين.
قال: أنا أعلم بدينك منك.
فقلت: أنت تعلم بدينى منى ؟ قال: نعم.
ألست من الركوسية، وأنت تأكل
مرباع قومك ؟ قلت: بلى.
قال: فإن هذا لا يحل لك في دينك.
قال: نعم.
فلم يعد أن قالها فتواضعت لها.
قال: أما إنى أعلم الذى يمنعك من الاسلام ; تقول: إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا
قوة لهم، وقد رمتهم العرب، أتعرف الحيرة ؟ قلت: لم أرها وقد سمعت بها: قال.
فو الذى نفسي بيده ليتمن الله هذا الامر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف
بالبيت في غير جوار أحد، وليفتحن كنوز كسرى بن هرمز.
قال قلت: كنوز ابن هرمز ؟ قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد.
قال عدى بن حاتم: فهذه الظعينة [ تخرج (1) ] من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار،
ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذى نفسي بيده لتكونن الثالثة لان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد قالها.
ثم قال أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين،
عن أبى عبيدة بن حذيفة، عن رجل - وقال حماد وهشام، عن محمد بن أبى عبيدة ولم يذكر
عن رجل - قال: كنت أسأل الناس عن حديث عدى بن حاتم وهو إلى جنبى ولا أسأله، قال: فأتيته
فسألته فقال: نعم.
فذكر الحديث.
* * * وقال الحافظ أبو بكر البيهقى: أنبأنا أبو عمرو الاديب، أنبأنا أبو بكر
الاسماعيلي، أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا إسحاق بن إبرهيم، أنبأنا النضر بن شميل،
أنبأنا إسرائيل، أنبأنا سعد الطائى، أنبأنا محل بن خليفة، عن عدى بن حاتم، قال:
بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، وأتاه آخر
فشكا إليه قطع السبيل.
__________
(1) من السند 4 / 257.
(*)
قال: يا عدى بن حاتم هل رأيت
الحيرة ؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها.
قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف
أحدا
إلا الله عزوجل.
قال: قلت في نفسي: فأين دعار (1) طيئ الذين سعروا البلاد ؟ ! ولئن طالت بك حياة
لتفتحن كنوز كسرى بن هرمز.
قلت: كسرى بن هرمز ؟ قال: كسرى بن هرمز.
ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا
يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر
عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم.
قال عدى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اتقوا النار ولو بشق
تمرة، فإن لم تجدوا شق تمرة فبكلمة طيبة ".
قال عدى: فقد رأيت الظعينة ترتحل من الكوفة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله
عزوجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو
القاسم صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه البخاري عن محمد بن الحكم، عن النضر بن شميل به بطوله.
وقد رواه من وجه آخر عن سعدان بن بشر، عن سعد أبى مجاهد الطائى، عن محل بن خليفة،
عن عدى به.
ورواه الامام أحمد والنسائي من حديث شعبة، عن سعد أبى مجاهد الطائى به.
وممن روى هذه القصة عن عدى عامر بن شرحبيل الشعبى فذكر نحوه.
وقال: لا تخاف إلا الله والذئب على غنمها.
__________
(1) الدعار: الاشرار.
(*)
وثبت في صحيح البخاري من حديث
شعبة، وعند مسلم من حديث زهير بن معاوية، كلاهما عن أبى إسحاق، عن عبدالله بن معقل
بن مقرن المزني، عن عدى بن حاتم،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا النار ولو بشق تمرة ".
ولفظ مسلم: " من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل "
طريق أخرى فيها شاهد لما تقدم.
* * * وقد قال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنى أبو بكر بن محمد
ابن عبدالله بن يوسف، حدثنا أبو سعيد عبيد بن كثير بن عبد الواحد الكوفى، حدثنا
ضرار بن صرد، حدثنا عاصم بن حميد، عن أبى حمزة الثمالى، عن عبدالرحمن ابن جندب، عن
كميل بن زياد النخعي، قال: قال على بن أبى طالب: يا سبحان الله ما أزهد كثيرا من
الناس في خير ! عجبا لرجل يجيئه أخوه المسلم في الحاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا،
فلو كان لا يرجو ثوابا ولا يخشى عقابا لكان ينبغى له أن يسارع في مكارم الاخلاق
فإنها تدل على سبيل النجاح.
فقام إليه رجل فقال: فداك أبى وأمى يا أمير المؤمنين، سمعته من رسول الله صلى الله
عليه وسلم ؟ قال: نعم.
وما هو خير منه.
لما أتى بسبايا طيئ وقفت جارية حمراء لعساء ذلفاء عيطاء، شماء الانف معتدلة القامة
والهامة درماء الكعبين خدلة الساقين (1) لفاء الفخذين خميصة الخصرين ضامرة الكشحين
مصقولة المتنين.
قال: فلما رأيتها أعجبت بها وقلت: لاطلبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يجعلها
في فيئى.
__________
(1) اللعساء: التى في لونها أدنى سواد.
والذلفاء: الصغيرة الانف مع استواء الارنبة.
والعيطاء: الطويلة العنق والدرماء: التى وارى كعبيها اللحم.
والخدلة: الممتلئة.
(*)
فلما تكلمت أنسيت جمالها من
فصاحتها.
فقال: يا محمد إن رأيت أن تخلى عنا ولا تشمت بنا أحياء العرب فإنى ابنة سيد قومي،
وإن أبى كان يحمى الذمار ويفك
العانى ويشبع الجائع ويكسو العارى ويقرى الضيف ويطعم الطعام ويفشى السلام، ولم يرد
طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيئ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جارية هذة صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك
مسلما لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الاخلاق والله يحب مكارم
الاخلاق.
فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله تحب مكارم الاخلاق ؟ فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " والذى نفسي بيده لا يدخل أحد الجنة إلا بحسن الخلق (1)
".
هذا حديث حسن المتن غريب الاسناد جدا عزيز المخرج.
وقد ذكرنا ترجمة حاتم طيئ أيام الجاهلية عند ذكرنا (2) من مات من أعيان المشهورين
فيها، وما كان يسديه حاتم إلى الناس من المكارم ولاحسان، إلا أن نفع ذلك في الآخرة
معذوق (3) بالايمان، وهو ممن لم يقل يوما من الدهر: رب اغفر لى خطيئتي يوم الدين.
وقد زعم الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على بن أبى طالب في ربيع
الآخر من سنة تسع إلى بلاد طيئ فجاء معه بسبايا فيهم أخت عدى بن حاتم، وجاء معه
بسيفين كانا في بيت الصنم يقال لاحدهما الرسوب والآخر المخذم، كان الحارث بن أبى
شمر (4) قد نذرهما لذلك الصنم.
قال البخاري رحمه الله:
__________
(1) تقدم هذا الحديث في الجزء الاول (2) تقدم في الجزء الاول (3) معذوق: معلق.
(4) ت: ابن أبى إسحاق.
(*)
قصة دوس والطفيل بن عمرو
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن ابن ذكوان - هو عبدالله بن زياد - (1) عن
عبدالرحمن الاعرج، عن أبى هريرة، قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: إن دوسا قد هلكت وعصت وأبت، فادع الله عليهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم اهد دوسا وأت بهم ".
انفرد به البخاري من هذا الوجه.
ثم قال: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، حدثنا إسماعيل، عن قيس، عن أبى هريرة
قال: لما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم قلت في الطريق: يا ليلة من طولها
وعنائها * على أنها من دارة الكفر نجت وأبق لى غلام في الطريق، فلما قدمت على
النبي صلى الله عليه وسلم وبايعته فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال لى النبي
صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة هذا غلامك.
فقلت: هو حر لوجه الله عزوجل فأعتقته.
انفرد به البخاري من حديث إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم.
وهذا الذى ذكره البخاري من قدوم الطفيل بن عمرو قد كان قبل الهجرة، ثم إن قدر
قدومه بعد الهجرة فقد كان قبل الفتح، لان دوسا قدموا ومعهم أبو هريرة، وكان قدوم
أبى هريرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصر خيبر، ثم ارتحل أبو هريرة حتى قدم
على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بعد الفتح فرضخ لهم شيئا من الغنيمة.
وقد قدمنا ذلك كله مطولا في مواضعه.
قال البخاري رحمه الله:
__________
(1) ت: أبو الزناد.
(*)
قدوم الاشعريين وأهل اليمن ثم
روى من حديث شعبة، عن سليمان بن مهران الاعمش، عن ذكوان أبى صالح
السمان، عن أبى هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتاكم أهل اليمن
هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الايمان يمان، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في
أصحاب الابل، والسكينة والوقار في أهل الغنم ".
ورواه مسلم من حديث شعبة.
ثم رواه البخاري، عن أبى اليمان، عن شعيب، عن أبى الزناد، عن الاعرج، عن أبى
هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أتاكم أهل اليمن أضعف قلوبا وأرق
أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية ".
ثم روى عن إسماعيل، عن سليمان، عن ثور، عن أبى المغيث عن أبى هريرة، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: " الايمان يمان، والفتنة هاهنا، هاهنا يطلع قرن
الشيطان ".
ورواه مسلم، عن شعيب، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة.
ثم روى البخاري من حديث شعبة، عن إسماعيل، عن قيس، عن أبى مسعود، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: " الايمان هاهنا - وأشار بيده إلى اليمن - والجفاء وغلظ
القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الابل من حيث يطلع قرنا الشيطان.
ربيعة ومضر ".
وهكذا رواه البخاري أيضا ومسلم من حديث إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم،
عن أبى مسعود عقبة بن عمرو.
ثم روى من حديث سفيان الثوري، عن أبى صخرة جامع بن شداد، حدثنا صفوان
ابن محرز، عن عمران بن حصين،
قال: جاءت بنو تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أبشروا يا بنى
تميم " فقالوا: أما إذ بشرتنا فأعطنا فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
فجاء ناس من أهل اليمن فقال: " اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم "
فقالوا: قبلنا
يا رسول الله.
وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري به.
وهذا كله مما يدل على فضل وفود أهل اليمن، وليس فيه تعرض لوقت وفودهم، ووفد بنى
تميم وإن كان متأخرا قدومهم لا يلزم من هذا أن يكون مقارنا لقدوم الاشعريين، بل
الاشعريون متقدم وفدهم على هذا، فإنهم قدموا صحبة أبى موسى الاشعري في صحبة جعفر
ابن أبى طالب وأصحابه من المهاجرين الذين كانوا بالحبشة، وذلك كله حين فتح رسول
الله صلى الله عليه وسلم خيبر.
كما قدمناه مبسوطا في موضعه (1)، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: " والله ما
أدرى بأيهما أسر أبقدوم جعفر أو بفتح خيبر " والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال البخاري: قصة عمان والبحرين حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان، سمع محمد بن
المنكدر، سمع جابر بن عبدالله يقول: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
لو قد جاء مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا " ثلاثا.
فلم يقدم مال البحرين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم على أبى بكر أمر مناديا فنادى: من كان له عند النبي صلى الله عليه وسلم
دين أو عدة فليأتني.
قال جابر: فجئت أبا بكر فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو
قد جاء
__________
(1) تقدم ذلك في الجزء الثالث (*)
مال البحرين أعطيتك هكذا
وهكذا ثلاثا " قال: فأعرض عنى.
قال جابر: فلقيت أبا بكر بعد ذلك فسألته فلم يعطنى، ثم أتيته فلم يعطنى، ثم أتيته
الثالثة فلم يعطنى.
فقلت له: قد أتيتك فلم تعطنى ثم أتينك فلم تعطنى، فإما أن تعطيني
وإما أن تبخل عنى قال: قلت: تبخل عنى ؟ قال: وأى داء أدوأ من البخل: قالها ثلاثا
ما منعنك من مرة إلا وأنا أريد أن أعطيك.
وهكذا رواه البخاري هاهنا وقد رواه مسلم عن عمرو الناقد، عن سفيان بن عيينة به.
ثم قال البخاري بعده: وعن عمرو، عن محمد بن على، سمعت جابر بن عبدالله يقول: جئته
فقال لى أبو بكر: عدها فعددتها فوجدتها خمسمائة.
فقال: خذ مثلها مرتين.
وقد رواه البخاري أيضا عن على بن المدينى، عن سفيان، هو ابن عيينة، عن عمرو ابن
دينار، عن محمد بن على أبى جعفر الباقر، عن جابر.
كروايته له عن قتيبة.
ورواه أيضا هو ومسلم من طرق أخر، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن محمد بن على، عن
جابر بنحوه.
وفى رواية آخرى له أنه أمره فحثا بيديه من دراهم فعدها فإذا هي خمسمائة، فأضعفها
له مرتين يعنى فكان جملة ما أعطاه ألفا وخمسمائة درهم.
وفود فروة بن مسيك المرادى أحد رؤساء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
ابن إسحاق: وقدم فروة بن مسيك المرادى، مفارقا لملوك كندة ومباعدا لهم، إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان بين قومه مراد وبين همدان وقعة قبيل الاسلام، أصابت همدان من قومه حتى
أثخنوهم، وكان ذلك في يوم يقال له الردم، وكان الذى قاد همدان إليهم الاجدع ابن
مالك.
قال ابن هشام: ويقال: مالك بن خريم الهمداني.
قال ابن إسحاق: فقال فروة بن مسيك في ذلك اليوم:
مررن على لفات وهن خوص *
ينازعن الاعنة ينتحينا (1) فإن نغلب فغلابون قدما * وإن نغلب فغير مغلبينا وما إن
طبنا جبن ولكن * منايانا وطعمة آخرينا (2)
كذاك الدهر دولته سجال * تكر صروفه حينا فحينا فبينا ما نسر به ونرضى * ولو لبست
غضارته سنينا إذا انقلبت به كرات دهر * فألفى في الالى غبطوا طحينا (3) فمن يغبط
بريب الدهر منهم * يجد ريب الزمان له خئونا فلو خلد الملوك إذا خلدنا * ولو بقى
الكرام إذا بقينا فأفنى ذلكم سروات قومي * كما أفنى القرون الاولينا قال ابن
إسحاق: ولما توجه فروة بن مسيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقا ملوك كندة
قال: لما رأيت ملوك كندة أعرضت * كالرجل خان الرجل عرق نسائها قربت راحلتي أؤم
محمدا * أرجو فواضله وحسن ثنائها (4) قال: فلما انتهى فروة إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال له: - فيما بلغني - يا فروة هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم ؟ فقال:
يا رسول الله من ذا الذى يصيب قومه ما أصاب قومي يوم الردم لا يسؤوه ذلك.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إن ذلك لم يزد قومك في الاسلام
إلا خيرا " واستعمله على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن
العاص
__________
(1) لفات: موضع من ديار مراد.
والخوص: الغائرات العيون من الكلال.
(2) طبنا: شأننا وعادتنا، أو شهوتنا.
(3) ابن هشام: فألفيت ؟ الاولى.
(4) ح: فواضلها وحسن ثرائها.
(*)
على الصدقة فكان معه في بلاده
حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قدوم عمرو بن معديكرب في أناس من زبيد
قال ابن إسحاق: وقد كان عمرو بن معدى كرب قال لقيس بن مكشوح المرادى، حين انتهى
إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن
رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقال (1) إنه نبى، فانطلق بنا إليه حتى
نعلم علمه، فإن كان نبيا كما يقول فإنه لن يخفى علينا إذا لقيناه اتبعناه، وإن كان
غير ذلك علمنا علمه فأبى عليه قيس ذلك وسفه رأيه.
فركب عمرو بن معد يكرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وصدقه وآمن
به، فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرا وقال: خالفني وترك أمرى ورأيى.
فقال عمرو بن معديكرب في ذلك: أمرتك يوم ذى صنعا * ء أمرا باديا رشده أمرتك باتقاء
الل * - ه والمعروف تتعده خرجت من المنى مثل ال * - حمير غره وتده تمنانى على فرس
* عليه جالسا أسده على مفاضة كالنه * ى أخلص ماءه جدده (2) يرد الرمح منثنى السنان
* عوائرا قصده (3) فلو لاقيتني للقي * ت ليثا فوقه لبده
__________
(1) ابن هشام: يقول.
(2) المفاضة: الدرع السابغة.
والنهى: الغدير.
والجدد: الارض الغليظة المستوية.
(3) العوائر: المتطايرة: والقصد: القطع المتكسرة.
(*)
تلاقى شنبثا شثن ال * براثن
ناشزا كتده (1) يسامى القرن إن قرن * تيممه فيعتضده
فيأخذه فيرفعه * فيخفضه فيقتصده (2) فيدمغه فيحطمه * فيخضمه فيزدرده (3) ظلوم
الشرك فيما أح * رزت أنيابه ويده * * * قال ابن إسحاق: فأقام عمرو بن معديكرب في
قومه من بنى زبيد وعليهم فروة بن مسيك، فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ارتد عمرو بن معديكرب فيمن ارتد، وهجا فروة بن مسيك فقال: وجدنا ملك فروة شر ملك *
حمار ساف منخره بثفر (4) وكنت إذا رأيت أبا عمير * ترى الحولاء من خبث وغدر (5)
قلت: ثم رجع إلى الاسلام وحسن إسلامه، وشهد فتوحات كثيرة في أيام الصديق وعمر
الفاروق رضى الله عنهما.
وكان من الشجعان المذكورين والابطال المشهورين والشعراء المجيدين، توفى سنة إحدى
وعشرين بعد ما شهد فتح نهاوند، وقيل بل شهد القادسية وقتل يومئذ.
قال أبو عمر بن عبد البر: وكان وفوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع،
وقيل سنة عشر فيما ذكره ابن إسحاق والواقدى.
قلت: وفى كلام الشافعي ما يدل عليه فالله أعلم.
__________
(1) الشنبث: الاسد.
والشثن: الغليظ.
والبراثن: المخالب، أو هي بمنزلة الاصابع للانسان والناشز: المرتفع.
والكتد: ما بين الكتفين.
(2) يقتصده: يقتله.
(3) يخضمه: يأكله.
(4) ساف: شم.
والثفر: للسباع وذى المخالب كالرحم للنافة.
(5) الحولاء: كالمشيمة للناقة، وهى جلدة خضراء مملوءة ماء تخرج مع الولد.
(*)
قال يونس عن ابن إسحاق: وقد
قيل إن عمرو بن معديكرب لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال في ذلك: إننى
بالنبي موقنة نفس * ى وإن لم أر النبي عيانا سيد العالمين طرا وأدنا * هم إلى الله
حين بان مكانا جاء بالناموس من لدن الله * وكان الامين فيه المعانا حكمة بعد حكمة
وضياء * فاهتدينا بنورها من عمانا وركبنا السبيل حين ركبن * اه جديدا بكرهنا
ورضانا وعبدنا الاله حقا وكنا * للجهالات نعبد الاوثانا وائتلفنا به وكنا عدوا *
فرجعنا به معا إخوانا فعليه السلام والسلام منا * حيث كنا من البلاد وكانا إن نكن
لم نر النبي فإنا * قد تبعنا سبيله إيمانا قدوم الاشعث بن قيس في وفد كندة قال ابن
إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الاشعث بن قيس في وفد كندة.
فحدثني الزهري أنه قدم في ثمانين راكبا من كندة، فدخلوا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم مسجده قد رجلوا جممهم (1) وتكحلوا، عليهم جبب الحبرة قد كففوها بالحرير.
فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: ألم تسلموا ؟ قالوا: بلى
قال: فما بال هذا الحرير في أعناقكم ؟ قال: فشقوه منها فألقوه.
__________
(1) الجمم: جمع جمة وهى شعر الرأس الكثيف.
(*)
ثم قال له الاشعث بن قيس: يا
رسول الله نحن بنو آكل المرار، وأنت ابن
آكل المرار.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " ناسبوا بهذا النسب العباس
بن عبدالمطلب وربيعة بن الحارث ".
وكانا تاجرين، إذا شاعا في العرب فسئلا: ممن أنتما ؟ قالا: نحن بنو آكل المرار يعنى
ينتسبان إلى كندة ليعزا في تلك البلاد، لان كندة كانوا ملوكا، فاعتقدت كندة أن
قريشا منهم، لقول عباس وربيعة: " نحن بنو آكل المرار " وهو الحارث بن
عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن
كندى - ويقال ابن كندة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: " لا نحن بنو النضر بن كنانة لا
نقفو (1) أمنا ولا ننتفى من أبينا ".
فقال لهم الاشعث بن قيس: والله يا معشر كندة لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته
ثمانين.
وقد روى [ هذا ] (2) الحديث متصلا من وجه آخر فقال الامام أحمد: حدثنا بهز وعفان،
قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنى عقيل بن طلحة، وقال عفان في حديثه: أنبأنا عقيل بن
طلحة السلمى، عن مسلم بن هيصم، عن الاشعث بن قيس، أنه قال: أتيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وفى وفد كندة - قال عثمان - لا يرونى أفضلهم، قال: قلت يا رسول
الله: إنا ابن عم إنكم منا.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن بنو النضر بن كنانة، لا نقفو
أمنا ولا ننتفى من أبينا ".
__________
(1) لا نقفو أمنا: لا نتهمها بالفجور.
(2) ليست في ا.
(*)
قال: قال الاشعث: فوالله لا
أسمع أحدا نفى قريشا من النضر بن كنانة إلا
جلدته الحد.
وقد رواه ابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن يزيد بن هارون، وعن محمد بن يحيى،
عن سليمان بن حرب.
وعن هارون بن حيان، عن عبد العزيز بن المغيرة، ثلاثتهم عن حماد بن سلمة به نحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا مجالد، عن الشعبى،
حدثنا الاشعث بن قيس، قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد كندة
فقال لى: هل لك من ولد ؟ قلت: غلام ولد لى في مخرجى إليك من ابنة جمد، ولوددت أن
مكانه شبع القوم.
قال: لا تقولن ذلك فإن فيهم قرة عين وأجرا إذا قبضوا، ثم ولئن قلت ذاك إنهم لمجبنة
محزنة إنهم لمجبنة محزنة.
تفرد به أحمد وهو حديث حسن جيد الاسناد.
قدوم أعشى بنى مازن على النبي صلى الله عليه وسلم قال عبدالله بن الامام أحمد:
حدثنى العباس بن عبد العظيم العنبري، حدثنا أبو سلمة عبيد بن عبدالرحمن الحنفي،
قال: حدثنى الجنيد بن أمين بن ذروة بن نضلة بن طريف ابن نهمشل الحرمازى، حدثنى أبى
أمين، عن أبيه ذروة، عن أبيه نضلة، أن رجلا منهم يقال له الاعشى واسمه عبدالله
الاعور كانت عنده امرأة يقال لها معاذة خرج في رجب يمير أهله من هجر، فهربت امرأته
بعده نشزا عليه، فعاذت برجل منهم يقال له مطرف ابن نهشل بن كعب بن قميثع بن دلف بن
أهضم بن عبدالله بن الحرماز، فجعلها خلف ظهره فلما قدم لم يجدها في بيته وأخبر
أنها نشزت عليه وأنها عاذت بمطرف بن
نهشل، فأتاه فقال: يا بن عم
أعندك امرأتي معاذة فادفعها إلى.
قال: ليست عندي، ولو كانت عندي لم أدفعها إليك.
قال: وكان مطرف أعز منه.
قال: فخرج الاعشى حتى أتى النبي صلى عليه وسلم فعاذ به فأنشأ يقول: يا سيد الناس
وديان العرب * إليك أشكو ذربة من الذرب (1) كالذئبة العنساء في ظل السرب (2) *
خرجت أبغيها الطعام في رجب فخلفتني بنزاع وهرب * أخلفت الوعد ولطت بالذنب وقذفتني
بين عصر مؤتشب * وهن شر غالب لمن غلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك:
" وهن شر غالب لمن غلب ".
فشكا إليه امرأته وما صنعت به، وأنها عند رجل منهم يقال له مطرف بن نهشل، فكتب له
النبي صلى الله عليه وسلم إلى مطرف: انظر امرأة هذا معاذة فادفعها إليه.
فأتاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرئ عليه، فقال لها: يا معاذة هذا كتاب
النبي صلى الله عليه وسلم فيك فأنا دافعك إليه.
فقالت: خذ لى عليه العهد والميثاق وذمة نبيه أن لا يعاقبنى فيما صنعت فأخذ لها ذلك
عليه ودفعها مطرف إليه، فأنشأ يقول: لعمرك ما حبى معاذة بالذى * يغيره الواشى ولا
قدم العهد ولا سوء ما جاءت به إذ أزالها * غواة الرجال إذ يناجونها بعدى
__________
(1) الذربة: السليطة اللسان.
(2) السرب: جحر الوحشى.
(*)
قدوم صرد بن عبدالله الازدي
في نفر من قومه ثم وفود أهل جرش بعدهم قال ابن إسحاق: وقدم صرد بن عبدالله الازدي
على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد من الازد، فأسلم وحسن إسلامه، وأمره رسول
الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من يليه من
أهل الشرك من
قبائل اليمن.
فذهب فحاصر جرش وبها قبائل من اليمن وقد ضوت (1) إليهم خثعم حين سمعوا بمسيره
إليهم، فأقام عليهم قريبا من شهر فامتنعوا فيها منه، ثم رجع عنهم حتى إذا كان
قريبا من جبل يقال له شكر فظنوا أنه قد ولى عنهم منهزما، فخرجوا في طلبه فعطف
عليهم فقتلهم قتلا شديدا.
وقد كان أهل جرش بعثوا منهم رجلين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة،
فبينما هما عنده بعد العصر إذ قال: " بأى بلاد الله شكر ؟ " فقام
الجرشيان فقالا: يا رسول الله ببلادنا جبل يقال له كشر.
وكذلك تسميه أهل جرش.
فقال: إنه ليس بكشر ولكنه شكر.
قالا: فما شأنه يا رسول الله ؟ فقال: إن بدن الله لتنحر عنده الآن.
قال: فجلس الرجلان إلى أبى بكر أو إلى عثمان فقال لهما: ويحكما إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لآن لينعى قومكما، فقوما إليه فاسألاه أن يدعو الله فيرفع عن
قومكما فقاما إليه فسألاه ذلك فقال: " اللهم ارفع عنهم ".
فرجعا فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء وفد أهل جرش بمن بقى منهم، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأسلموا وحسن إسلامهم وحمى لهم حول قريتهم.
__________
(1) ضوت: لجأت.
(4) (*)
قدوم رسول ملوك حمير إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال الواقدي: وكان ذلك في رمضان سنة تسع.
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله كتاب ملوك حمير ورسلهم بإسلامهم مقدمه من تبوك،
وهم الحارث بن كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذى رعين ومعافر وهمدان وبعث
إليه زرعة ذو يزن مالك بن مرة الرهاوى بإسلامهم ومفارقتهم
الشرك وأهله.
فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد
رسول الله النبي إلى الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل ذى رعين
ومعافر وهمدان، أما بعد ذلكم فإنى أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو، فإنه قد
وقع بنا رسولكم منقلبنا من أرض الروم، فلقينا بالمدينة فبلغ ما أرسلتم به وخبرنا
ما قبلكم وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، وأن الله قد هداكم بهداه، إن أصلحتم
وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم
النبي صلى الله عليه وسلم وصفيه وما كتب على المؤمنين في الصدقة، من العقار عشر ما
سقت العين وسقت السماء وعلى ما سقى الغرب (1) نصف العشر، وأن في الابل في الاربعين
ابنة لبون وفى ثلاثين من الابل ابن لبون ذكر، وفى كل خمس من الابل شاة وفى كل عشر
[ من الابل ] (2) شاتان وفى كل أربعين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين تبيع جذع أو
جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، إنها فريضة الله التى فرض على
المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له.
__________
(1) الغرب: الدلو.
(2) ليست في ا (*)
ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه
وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين له مالهم وعليه ما عليهم وله ذمة
الله وذمة رسوله، وإنه من أسلم من يهودى أو نصراني فإنه من المؤمنين له ما لهم
وعليه ما عليهم.
ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية على كل حالم ذكر
وأنثى حر أو عبد دينار واف (1) من قيمة المعافر أو عوضه (2) ثيابا، فمن أدى ذلك
إلى رسول الله فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله.
أما بعد، فإن رسول الله محمدا النبي أرسل إلى زرعة ذى يزن: أن إذ أتاك رسلي
فأوصيكم (3) بهم خيرا، معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة وعقبة بن نمر
ومالك بن مرة وأصحابهم، وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخاليفكم (4)
وأبلغوها رسلي، وإن أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبن إلا راضيا.
أما بعد فإن محمدا يشهد (5) أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن
مرة الرهاوى قد حدثنى أنك أسلمت من أول حمير وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك
بحمير خيرا، ولا تخونوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم، وإن
الصدقة لا تحل لمحمد ولا لاهل بيته، وإنما هي زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين
وابن السبيل، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب فآمركم به خيرا، وإنى قد أرسلت
إليكم من صالحي أهلى وأولى دينهم وأولى علمهم، فآمركم بهم خيرا فإنهم منظور إليهم
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ".
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا عمارة، عن ثابت، عن أنس بن مالك،
__________
(1) ا: وافر.
(2) الاصل، أو عرضه.
وما أثبته عن ابن هشام.
(3) ا: فأوصهم.
(4) ا: مخالفيكم.
(5) ا: أشهد.
(*)
أن مالك ذى بزن أهدى إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم حلة قد أخذها بثلاثة وثلاثين بعيرا أو ثلاثة وثلاثين
ناقة.
ورواه أبو داود عن عمرو بن عون الواسطي، عن عمارة بن زاذان الصيدلانى، عن ثابت
البنانى، عن أنس به.
وقد روى الحافظ البيهقى هاهنا - حديث كتاب عمرو بن حزم فقال: أنبأنا أبو عبدالله
الحافظ، أنبأنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس
ابن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنى عبدالله بن أبى بكر، عن أبيه أبى بكر بن محمد
بن عمرو بن حزم، قال: هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا الذى كتبه
لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة ويأخذ صدقاتهم، فكتب له
كتابا وعهدا وأمره فيه أمره.
فكتب: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله ورسوله، يا أيها الذين
آمنوا أوفوا بالعقود، عهدا من رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن.
أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع الذين اتقوه والذين هم محسنون، وأمره أن
يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به، ويعلم الناس القرآن
ويفقههم في الدين، وأن ينهى الناس فلا يمس أحد القرآن إلا وهو طاهر، وأن يخبر
الناس بالذى لهم والذى عليهم، ويلين لهم في الحق ويشتد عليهم في الظلم، فإن الله
حرم الظلم ونهى عنه فقال: " ألا لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل
الله ".
وأن يبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستألف الناس حتى
يتفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسننه وفرائضه وما أمره الله به، والحج
الاكبر الحج والحج الاصغر العمرة.
وأن ينهى الناس أن يصلى الرجل في ثوب واحد صغير إلا أن يكون واسعا
فيخالف بين طرفيه على عاتقيه،
وينهى أن يحتبى الرجل في ثوب واحد ويفضى بفرجه إلى السماء، ولا ينقض شعر رأسه إذا
عفى في قفاه، وينهى الناس إن كان بينهم هيج أن يدعو إلى القبائل والعشائر، وليكن
دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له، فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى العشائر والقبائل
فليعطفوا بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له.
ويأمر الناس بإسباغ الوضوء، وجوههم وأيديهم إلى المرافق وأرجلهم إلى
الكعبين وأن يمسحوا رؤوسهم كما أمرهم الله عزوجل، وأمروا بالصلاة لوقتها وإتمام
الركوع والسجود وأن يغلس بالصبح و [ أن ] يهجر بالهاجرة حتى تميل الشمس، وصلاة
العصر والشمس في الارض مبدرة، والمغرب حين يقبل الليل لا تؤخر حتى تبدو النجوم في
السماء، والعشاء أول الليل.
وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله ما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار فيما
سقى العين (1) وفيما سقت السماء العشر، وما سقى الغرب فنصف العشر، وفى كل عشر من
الابل شاتان وفى عشرين أربع شياه، وفى أربعين من البقر بقرة، وفى كل ثلاثين من
البقر تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة، وفى كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، فإنها
فريضة الله التى افترض على المؤمنين، فمن زاد فهو خير له.
ومن أسلم من يهودى أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه فدان دين الاسلام، فإنه من
المؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يغير
عنها، وعلى كل حالم ذكر وأنثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه من الثياب، فمن أدى ذلك
فإن له ذمة الله ورسوله، ومن منع ذلك فإنه عدو الله ورسوله والمؤمنين جميعا.
__________
(1) الاصل: المغل.
(*)
صلوات الله على محمد.
والسلام عليه ورحمة الله وبركاته ".
قال الحافظ البيهقى: وقد روى سليمان بن داود، عن الزهري، عن أبى بكر بن محمد بن
عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده هذا الحديث موصولا بزيادات كثيرة ونقصان عن بعض ما
ذكرناه في الزكاة والديات وغير ذلك.
قلت: ومن هذا الوجه رواه الحافظ أبو عبد الرحمن النسائي في سننه مطولا، وأبو داود
في كتاب المراسيل.
وقد ذكرت ذلك بأسانيده وألفاظه في السنن
ولله الحمد والمنة.
وسنذكر بعد الوفود بعث النبي صلى الله عليه وسلم الامراء إلى اليمن لتعليم الناس
وأخذ صدقاتهم وأخماسهم، معاذ بن جبل وأبو موسى وخالد بن الوليد وعلى بن أبى طالب.
رضى الله عنهم أجمعين.
قدوم جرير بن عبدالله البجلى وإسلامه قال الامام أحمد: حدثنا أبو قطن، حدثنى يونس،
عن المغيرة بن شبل، قال: قال جرير: لما دنوت من المدينة أنخت راحلتي ثم حللت عيبتي
ثم لبست حلتي، ثم دخلت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فرمانى الناس
بالحدق، فقلت لجليسى: يا عبدالله هل ذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال:
نعم ذكرك بأحسن الذكر، بينما هو يخطب إذ عرض له في خطبته وقال: يدخل عليكم من هذا
الباب أو من هذا الفج من خير ذى يمن، إلا أن على وجهه مسحة ملك.
قال جرير: فحمدت الله عزوجل على ما أبلاني.
قال أبو قطن: فقلت له: سمعته منه أو سمعته من المغيرة بن شبل ؟ قال: نعم.
ثم رواه إلامام أحمد، عن أبى نعيم وإسحاق بن يوسف.
وأخرجه النسائي من
حديث الفضل بن موسى، ثلاثتهم
عن يونس، عن أبى إسحاق السبيعى، عن المغيرة ابن شبل - ويقال ابن شبيل - عن عوف
البجلى الكوفى، عن جرير بن عبدالله وليس له عنه غيره.
وقد رواه النسائي عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن
أبى حازم، عن جرير ونصه: " يدخل عليكم من هذا الباب رجل على وجهه مسحة ملك
" الحديث.
وهذا على شرط الصحيحين.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا إسماعيل، عن قيس عن جرير، قال:
ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رأني إلا تبسم في وجهى.
وقد رواه الجماعة إلا أبا داود، من طرق، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى
حازم عنه.
وفى الصحيحين زيادة: " وشكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنى لا أثبت
على الخيل فضرب بيده في صدري " وقال: " اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا
".
ورواه النسائي، عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل، عن قيس عنه وزاد فيه:
" يدخل عليكم من هذا الباب رجل على وجهه مسحة ملك " فذكر نحو ما تقدم.
وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عمرو وعثمان بن أحمد
السماك، حدثنا الحسن بن سلام السواق، حدثنا محمد بن مقاتل الخراساني، حدثنا حصين
ابن عمر الاحمسي، حدثنا
إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى حازم، عن جرير بن عبدالله، قال: بعث إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا جرير لاى شئ جئت ؟ قلت: أسلم على يديك يارسول
الله.
قال: فألقى على كساء ثم أقبل على أصحابه فقال: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه
".
ثم قال: " يا جرير، أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، وأن
تؤمن بالله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وتصلى الصلاة المكتوبة وتؤدى الزكاة
المفروضة ".
ففعلت ذلك، فكان بعد ذلك لا يرانى إلا تبسم في وجهى.
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس
بن أبى حازم، عن جرير بن عبدالله، قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على
إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبى خالد به.
وهو في الصحيحين من حديث زياد بن علاثة عن جرير به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا زائدة، حدثنا عاصم، عن سفيان يعنى - أبا
وائل - عن جرير، قال: قلت: يا رسول الله اشترط على فأنت أعلم بالشرط.
قال: " أبايعك على أن تعبد الله وحده لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتى
الزكاة، وتنصح المسلم، وتبرأ من الشرك ".
ورواه النسائي من حديث شعبة عن الاعمش، عن أبى وائل، عن جرير
وفى طريق أخرى عن الاعمش، عن
منصور، عن أبى وائل، عن أبى نخيلة، عن جرير به.
فالله أعلم.
ورواه أيضا عن محمد بن قدامة، عن جرير، عن مغيرة، عن أبى وائل والشعبى عن جرير به.
ورواه عن جرير عبدالله بن عميرة.
رواه أحمد منفردا به.
وابنه عبيد الله بن جرير أحمد أيضا منفردا به.
وأبو جميلة وصوابه نخيلة.
ورواه أحمد أيضا والنسائي.
ورواه أحمد أيضا عن غندر، عن شعبة، عن منصور، عن أبى وائل، عن رجل [ عن جرير ] (1)
فذكره.
والظاهر أن هذا الرجل هو أبو نخيلة البجلى والله أعلم.
* * * وقد ذكرنا بعث النبي صلى الله عليه وسلم له حين أسلم إلى ذى الخلصة بيت كان
يعبده خثعم وبجيلة، وكان يقال له الكعبة اليمانية، يضاهون به الكعبة التى بمكة،
ويقولون للتى ببكة الكعبة الشامية، ولبيتهم الكعبة اليمانية، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ألا تريحنى من ذى الخلصة ؟ فحينئذ شكا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أنه لا يثبت على الخيل، فضرب بيده الكريمة في صدره حتى أثرت فيه وقال:
" اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا " فلم يسقط بعد ذلك عن فرس.
ونفر إلى ذى الخلصة في خمسين ومائة راكب من قومه من أحمس، فخرب ذلك البيت وحرقه
حتى تركه مثل الجمل الاجرب، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشيرا
__________
(1) سقط من ا.
(*)
يقال له أبو أرطاة فبشره
بذلك، فبرك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات.
والحديث مبسوط في الصحيحين وغيرهما كما قدمناه (1) بعد الفتح استطرادا بعد ذكر
تخريب بيت العزى على يدى خالد بن الوليد رضى الله عنه.
والظاهر أن إسلام جرير رضى الله عنه كان متأخرا عن الفتح بمقدار جيد.
فإن الامام أحمد قال: حدثنا هاشم (2) بن القاسم، حدثنا زياد بن عبدالله بن علاثة
عن عبد الكريم بن مالك الجزرى، عن مجاهد، عن جرير بن عبدالله البجلى، قال: إنما
أسلمت بعد ما أنزلت المائدة وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعد ما
أسلمت.
تفرد به أحمد.
وهو إسناد جيد اللهم إلا أن يكون منقطعا بين مجاهد وبينه.
وثبت في الصحيحين أن أصحاب عبدالله بن مسعود كان يعجبهم حديث جرير في مسح الخف،
لان إسلام جرير إنما كان بعد نزول المائدة، وسيأتى في حجة الوداع أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال له: " استنصت الناس يا جرير ".
وأنما أمره بذلك لانه كان صيتا.
وكان ذا شكل عظيم، كانت نعله طولها ذراعا، وكان من أحسن الناس وجها، وكان مع هذا
من أغض الناس طرفا.
ولهذا روينا في الحديث الصحيح عنه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
نظر الفجأة فقال: " اصرف (3) بصرك ".
__________
(1) سبق ذلك في الجزء الثالث (2) غير ا: هشام.
(3) الاصل: أطرق.
وما أثبته عن صحيح البخاري.
(*)
وفادة وائل بن حجر بن ربيعة
بن وائل بن يعمر الحضرمي بن هنيدة أحد ملوك اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال أبو عمر بن عبد البر: كان أحد أقيال حضرموت، وكان أبوه من ملوكهم.
ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه قبل قدومه به، وقال: يأتيكم
بقية أبناء الملوك.
فلما دخل رحب به وأدناه من نفسه وقرب مجلسه وبسط له رداءه.
وقال: " اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده ".
واستعمله على الاقيال من حضرموت، وكتب معه ثلاثة كتب ; منها كتاب إلى المهاجر بن
أبى أمية، وكتاب إلى الاقيال والعباهلة، وأقطعه أرضا وأرسل معه معاوية ابن أبى
سفيان فخرج معه راجلا، فشكا إليه حر الرمضاء فقال: انتعل ظل الناقة.
فقال: وما يغنى عنى ذلك، لو جعلتني ردفا ؟ فقال له وائل: اسكت فلست من أرداف
الملوك.
ثم عاش وائل بن حجر حتى وفد على معاوية وهو أمير المؤمنين، فعرفه معاوية، فرحب به
وقربه وأدناه، وأذكره الحديث، وعرض عليه جائزة سنية فأبى أن يأخذها، وقال: أعطها
من هو أحوج إليها منى.
وأورد الحافظ البيهقى بعض هذا، وأشار إلى أن البخاري في التاريخ روى في ذلك شيئا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا حجاج، أنبأنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن علقمة ابن
وائل، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا.
قال: وأرسل معى معاوية أن أعطها إياه - أو قال أعلمها إياه -.
قال: فقال معاوية: أردفني
خلفك.
فقلت: لا تكون من أرداف الملوك.
قال: فقال: أعطني نعلك.
فقلت: انتعل ظل الناقة.
قال: فلما استخلف معاوية أتيته فأقعدني معه على السرير فذكرني الحديث.
قال سماك: فقال: وددت أنى كنت حملته بين يدى وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث
شعبة، وقال الترمذي: صحيح.
وفادة لقيط بن عامر بن
المنتفق أبى رزين العقيلى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبدالله بن الامام
أحمد [ حدثنى أبى، حدثنا عبدالله (1) ]: كتب إلى إبراهيم بن حمزة بن محمد بن حمزة
ابن مصعب بن الزبير الزبيري: كتبت إليك بهذا الحديث وقد عرضته وسمعته على ما كتبت
به إليك، فحدث بذلك عنى.
قال: حدثنى عبدالرحمن بن المغيرة الحزامى، حدثنى عبدالرحمن بن عياش السمعى
الانصاري القبائى من بنى عمرو بن عوف، عن دلهم بن الاسود بن عبدالله بن حاجب بن
عامر بن
المنتفق العقيلى، عن أبيه، عن عمه لقيط بن عامر، قال دلهم: وحدثنيه أبى الاسود، عن
عاصم بن لقيط أن لقيطا خرج وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له
يقال له نهيك بن عاصم بن مالك ابن المنتفق.
قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبى حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ المدينة
انسلاخ رجب، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيناه ] (1) حين انصرف من
صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبا فقال: " أيها الناس ألا إنى قد خبأت لكم
صوتي منذ أربعة أيام ألا لاسمعكم، ألا فهل من امرئ بعثه قومه ".
فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول الله.
ثم [ قال: ] ألا لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه الضلال، ألا إنى
مسئول هل بلغت ؟ ألا فاسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا ألا اجلسوا.
__________
(1) من مسند أحمد 4 / 13 (2) سقط من ا.
(*)
فجلس الناس وقمت أنا وصاحبى،
حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت: يا رسول الله ما عندك من علم الغيب ؟ فضحك لعمر
الله وهز رأسه وعلم أنى أبتغى لسقطه، فقال: " ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمس من
الغيب لا يعلمها إلا الله " وأشار بيده.
قلت: وما هي ؟ قال: " علم المنية، قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه، وعلم [
المنى حين يكون في الرحم قد علمه ولا تعلمون ] (1) وعلم ما في غد وما أنت طاعم غدا
ولا تعلمه، وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مسنتين (2) فيظل يضحك قد علم أن غيركم
إلى قريب ".
قال لقيط: قلت لن نعدم من رب يضحك خيرا.
وعلم يوم الساعة.
قلنا: يا رسول الله علمنا مما لا يعلم الناس ومما تعلم، فإنا من قبيل لا يصدقون
تصديق (3) أحد، من مذحج التى تربو علينا وخثعم التى توالينا وعشيرتنا التى نحن
منها.
قال: تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم، ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة، لعمر
إلهك ما تدع على ظهرها من شئ إلا مات، والملائكة الذين مع ربك فأصبح ربك عزوجل
يطوف في الارض قد خلت عليه البلاد، فأرسل ربك السماء تهضب من عند العرش، فلعمر
إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلقه من
عند رأسه، فيستوى جالسا، فيقول ربك عزوجل: مهيم ؟ لما كان فيه - فيقول: يا رب أمس
اليوم، فلعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله.
قلت: يا رسول الله كيف يجمعنا بعد ما تفرقنا الرياح والبلى والسباع.
فقال: أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، في الارض أشرفت عليها وهى مدرة بالية فقلت لا
تحيا أبدا.
ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك أيام حتى أشرفت عليها
__________
(1) من مسند أحمد 4 / 13.
(2) الازل: الشدة.
والمسنتين: من أصابتهم السنة وهى القحط.
(3) الاصل والمسند: تصديقنا.
(*)
وهى شرية (1) واحدة، فلعمر
إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الارض.
فتخرجون من الاصواء (2) ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم.
قال: قلت يا رسول الله وكيف ونحن ملء الارض، وهو عزوجل شخص واحد ينظر إلينا وننظر
إليه ؟ فقال: أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما
ويريانكم ساعة واحدة لا تضارون في رؤيتهما، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم
وترونه من أن ترونهما (3) ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما.
قلت: يا رسول الله فما يفعل ربنا إذا لقيناه ؟ قال: تعرضون عليه بادية له صحائفكم
لا يخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عزوجل بيده غرفة من الماء فينضح قبلكم بها،
فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها قطرة، فأما المسلم فتدع على وجهه مثل الريطة
(4)
البيضاء، وأما الكافر فتخطمه بمثل الحمم (5) الاسود.
ألا ثم ينصرف نبيكم وينصرف على أثره الصالحون، فتسلكون جسرا من النار فيطأ أحدكم
الجمر فيقول: حس.
فيقول ربك عزوجل: أوانه (6).
فتطلعون على حوض الرسول على أظما (7) والله ناهلة عليها ما رأيتها قط، فلعمر إلهك
لا يبسط واحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهره من الطوف (8) والبول والاذى، وتحبس
الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا.
قال: قلت: يا رسول الله فبم نبصر ؟ قال: مثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس
في يوم أشرقته الارض وواجهته الجبال.
__________
(1) الشرية: الطريقة.
والشرية بإسكان الراء: شجر الحنظل.
(2) الاصواء: القبور.
(3) ا: منهما أو ترونهما.
(4) الريطة: كل ثوب لين رقيق.
(5) الحمم: الفحم.
(6) كذا بالاصل والمسند.
(7) الاصل: أضماء.
وما أثبته عن مسند أحمد.
(8) الطوف: الحدث.
(*)
قال: قلت: يا رسول الله فيم
نجزى من سيئاتنا وحسناتنا ؟ فقال: الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن
يعفو.
قال: قلت: يا رسول الله إما الجنة وإما النار ؟ قال: لعمر إلهك، أن للنار سبعة
أبواب ما منهن بابان (1) إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما [ وإن للجنة لثمانية
أبواب، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما (2) ].
قلت: يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة ؟ قال: على أنهار من عسل مصفى وأنهار من
كأس ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة،
لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة.
قلت: يا رسول الله ولنا فيها أزواج أو منهن مصلحات ؟ قال: الصالحات للصالحين،
تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير ألا توالد.
قال لقيط: قلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه ؟ [ فلم يجبه النبي صلى الله عليه
وسلم ].
قلت: يا رسول الله علام أبايعك ؟ فبسط [ النبي ] يده وقال: على إقام الصلاة وإيتاء
الزكاة وزيال الشرك، وألا تشرك بالله إلها غيره.
[ قال: قلت: وإن لنا ما بين المشرق والمغرب، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده
وبسط أصابعه وظن أنى مشترط شيئا لا يعطينيه.
قال: قلت: نحل منها حيث شئنا، ولا يجنى منها امرؤ إلا على نفسه.
فبسط يده وقال: ذلك لك، تحل حيث شئت ولا تجنى عليك إلا نفسك.
قال: فانصرفنا عنه.
__________
(1) الاصل: باب (2) من مسند أحمد.
(*)
ثم قال: إن هذين [ لعمر إلهك
] من أتقى الناس في الاولى والآخرة ؟ فقال له كعب بن الخدارية أحد بنى كلاب منهم:
يا رسول الله بنو المنتفق أهل ذلك منهم ؟ قال: فانصرفنا وأقبلت عليه ] (1).
وذكر تمام الحديث إلى أن قال: فقلت: يا رسول الله هل لاحد ممن مضى خير في جاهليته
؟ قال: فقال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفى النار.
قال: فلكأنه وقع حر بين جلدتي وجهى ولحمي مما قال لابي على رءوس الناس.
فهممت أن أقول: وأبوك يارسول الله ؟ ثم إذا الاخرى أجمل، فقلت: يا رسول الله وأهلك
؟ قال: " وأهلي لعمر الله، ما أتيت [ عليه ] من قبر عامري أو قرشي من
مشرك فقل: أرسلني إليك محمد فأبشرك بما يسوءك، تجر على وجهك وبطنك في النار.
قال: قلت: يارسول الله ما فعل بهم ذلك ؟ وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه،
وقد كانوا يحسبون (2) أنهم مصلحون ؟ قال: ذلك بأن الله بعث في آخر كل سبع أمم -
يعنى نبيا - فمن عصى نبيه كان من الضالين، ومن أطاع نبيه كان من المهتدين.
هذا حديث غريب جدا، وألفاظه في بعضها نكارة وقد أخرجه الحافظ البيهقى في كتاب
البعث والنشور، وعبد الحق الاشبيلى في العاقبة، والقرطبى في كتاب التذكرة في أحوال
الآخرة.
__________
(1) سقط من ا.
(2) ا: يحسبونهم (*)
وفادة زياد بن الحارث الصدائى
رضى الله عنه قال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو أحمد الاسد اباذى بها، أنبأنا أبو
بكر بن مالك القطيعى، حدثنا أبو على بشر بن موسى، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، عن
عبدالرحمن بن زياد بن أنعم، حدثنى زياد بن نعيم الحضرمي، سمعت زياد بن الحارث
الصدائى يحدث، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الاسلام،
فأخبرت أنه قد بعث جيشا إلى قومي، فقلت: يا رسول الله اردد الجيش وأنا لك بإسلام
قومي وطاعتهم.
فقال لى: اذهب فردهم.
فقلت: يا رسول الله إن راحلتي قد كلت.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فردهم.
قال الصدائى: وكتبت إليهم كتابا، فقدم وفدهم بإسلامهم، فقال لى رسول الله صلى الله
عليه وسلم: يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك.
فقلت: بل الله هداهم للاسلام
فقال: " أفلا أؤمرك عليهم " قلت: بلى يا رسول الله.
قال: فكتب لى كتابا أمرنى، فقلت: يا رسول الله مر لى بشئ من صدقاتهم.
قال: نعم.
فكتب لى كتابا آخر.
قال الصدائى: وكان ذلك في بعض أسفاره، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا
فأتاه أهل ذلك المنزل يشكون عاملهم ويقولون: أخذنا بشئ كان بيننا وبين قومه في
الجاهلية.
فقال رسول الله: أو فعل ذلك ؟ قالوا: نعم.
فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأنا فيهم فقال: " لا خير في
الامارة لرجل مؤمن ".
قال الصدائى: فدخل قوله في نفسي.
ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله أعطني.
فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " من سأل الناس عن ظهر غنى فصداع في الرأس وداء في البطن.
فقال السائل: أعطني من الصدقة.
فقال رسول الله: إن [ الله ] لم يرض في الصدقات بحكم نبى ولا غيره حتى حكم هو فيها
فجزأها ثمانية أجزاء.
فإن كنت من تلك الاجزاء أعطيتك.
قال الصدائى: فدخل ذلك في نفسي، أنى غنى وأنى سألته من الصدقة.
قال: ثم إن رسول الله اعتشى (1) من أول الليل، فلزمته وكنت قريبا منه، فكان أصحابه
ينقطعون عنه ويستأخرون منه ولم يبق معه أحد غيرى.
فلما كان أوان صلاة الصبح أمرنى فأذنت فجعلت أقول: أقيم يا رسول الله ؟ فجعل ينظر
ناحية المشرق إلى الفجر ويقول: لا.
حتى إذا طلع الفجر نزل فتبرز ثم انصرف إلى وهو متلاحق أصحابه فقال: هل من ماء يا
أخا صداء ؟ قلت: لا إلا شئ قليل لا يكفيك.
فقال: اجعله في إناء ثم ائتنى به.
ففعلت، فوضع كفه في الماء.
قال: فرأيت بين إصبعين من أصابعه عينا تفور، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لولا أنى أستحى من ربى عزوجل لسقينا واستقينا، ناد في أصحابي من له حاجة في
الماء " فناديت فيهم فأخذ من أراد منهم شيئا.
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فأراد بلال أن يقيم فقال له رسول
الله: " إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم ".
قال الصدائى: فأقمت.
فلما قضى رسول الله الصلاة أتيته بالكتابين فقلت: يا رسول الله أعفنى من هذين.
فقال: ما بدا لك ؟ فقلت: سمعتك يا رسول الله تقول: " لا خير في الامارة لرجل
مؤمن " وأنا أو من بالله وبرسوله.
وسمعتك تقول للسائل: " من سأل الناس عن ظهر غنى فهو صداع في الرأس وداء في
البطن " وسألتك وأنا غنى.
فقال: هو ذاك فإن شئت فاقبل، وإن شئت فدع.
فقلت: أدع.
فقال لى
__________
(1) اعتشى: سار في وقت العشاء.
(*)
رسول الله: " فدلني على
رجل أؤمره عليكم ".
فدللته على رجل من الوفد الذين قدموا عليه فأمره عليهم.
ثم قلنا: يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء وسعنا ماؤها واجتمعنا عليها،
وإذا كان الصيف قل ماؤها فتفرقنا على مياه حولنا، وقد أسلمنا وكل من حولنا عدو،
فادع الله لنا في بئرنا فيسعنا ماؤها فنجتمع عليه ولا نتفرق.
فدعا سبع حصيات فعركهن بيده ودعا فيهن، ثم قال: اذهبوا بهذه الحصيات فإذا أتيتم
البئر فألقوا واحدة واحدة واذكروا الله.
قال الصدائى: ففعلنا ما قال لنا، فما استطعنا بعد ذلك أن ننظر إلى قعرها - يعنى
البئر.
وهذا الحديث له شواهد في سنن أبى داود والترمذي وابن ماجه.
وقد ذكر الواقدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث بعد عمرة الجعرانة قيس
بن سعد بن عبادة في أربعمائة إلى بلاد صداء فيوطئها، فبعثوا رجلا منهم فقال: جئتك
لترد عن قومي الجيش وأنا لك بهم.
ثم قدم وفدهم خمسة عشر رجلا، ثم رأى
منهم حجة الوداع مائة رجل.
ثم روى الواقدي عن الثوري، عن عبدالرحمن بن زياد بن أنعم، عن زياد بن نعيم، عن
زياد بن الحارث الصدائى قصته في الاذان.
وفادة الحارث بن حسان البكري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الامام أحمد:
حدثنا زيد بن الحباب، حدثنى أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي حدثنا عاصم بن أبى
النجود، عن أبى وائل، عن الحارث البكري.
قال: خرجت
أشكو العلاء بن الحضرمي إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة فإذا عجوز من بنى تميم منقطع بها.
فقالت: يا عبدالله إن لى إلى رسول الله حاجة، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال: فحملتها
فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله وإذا راية سوداء تخفق وبلال متقلد السيف بين
يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس ؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو
بن العاص وجها.
قال: فجلست، فدخل منزله أو قال رحله، فاستأذنت عليه فأذن لى، فدخلت فسلمت فقال: هل
كان بينكم وبين تميم شئ ؟ قلت: نعم، وكانت الدائرة عليهم، ومررت بعجوز من بنى تميم
منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب.
فأذن لها فدخلت.
فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء.
فحميت العجوز واستوفزت وقالت: يا رسول الله أين تضطر مضرك.
قال: قلت: إن مثلى ما قال الاول: معزى حملت حتفها ! حملت هذه ولا أشعر أنها كانت
لى خصما ! أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد.
قال: وما وافد عاد ؟ وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه.
قلت: إن
عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا
يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال
مهرة فقال: اللهم إنك تعلم لم أجى إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم
اسق عادا ما كنت تسقيه.
فمرت به سحابات سود فنودى: منها اختر.
فأومأ إلى سحابة منها سوداء.
فنودى منها: خذها رمادا رمددا، لا تبقى من عاد أحدا.
قال: فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إلا بقدر ما يجرى في خاتمي هذا حتى هلكوا.
قال أبو وائل: وصدق، وكانت
المرأة أو الرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد (1).
وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث أبى المنذر سلام بن سليمان به.
ورواه ابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن أبى بكر بن عياش، عن عاصم بن أبى
النجود، عن الحارث البكري ولم يذكر أبا وائل.
وهكذا رواه الامام أحمد عن أبى بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث، والصواب عن عاصم
عن أبى وائل عن الحارث.
كما تقدم.
وفادة عبدالرحمن بن أبى عقيل مع قومه قال أبو بكر البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله
إسحاق بن محمد بن يوسف السوسى، أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبدالله البغدادي،
أنبأنا على بن الجعد [ حدثنا ] عبد العزيز، حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهير، حدثنا
أبو خالد يزيد الاسدي، حدثنا عون بن أبى جحيفة، عن عبدالرحمن بن علقمة الثقفى، عن
عبدالرحمن ابن أبى عقيل.
قال: انطلقت في وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيناه فأنخنا بالباب وما
في الناس [ رجل (2) ] أبغض إلينا من رجل نلج عليه، فلما دخلنا وخرجنا فما في الناس
رجل أحب إلينا من رجل دخلنا عليه.
قال: فقال قائل منا: يا رسول الله
ألا سألت ربك ملكا كملك سليمان ؟ قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:
" فلعل صاحبك عند الله أفضل من ملك سليمان، إن الله عزوجل لم يبعث نبيا إلا
أعطاه دعوة، فمنهم من اتخذها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه
فأهلكوا بها، وإن الله أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربى شفاعة لامتي يوم القيامة
".
__________
(1) الحديث في مسند أحمد 3 / 482 (2) ليست في ا.
(*)
قدوم طارق بن عبدالله وأصحابه
روى الحافظ البيهقى من طريق أبى جناب الكلبى، عن جامع بن شداد المحاربي، حدثنى رجل
من قومي يقال له طارق بن عبدالله، قال: إنى لقائم بسوق ذى المجاز إذ أقبل رجل عليه
جبة وهو يقول: " يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا " ورجل
يتبعه يرميه بالحجارة و [ هو ] يقول " يا أيها الناس إنه كذاب " فقلت:
من هذا ؟ فقالوا هذا غلام من بنى هاشم يزعم أنه رسول الله قال قلت: من هذا الذى
يفعل به هذا ؟ قالوا: هذا عمه عبدالعزى قال: فلما أسلم الناس وهاجروا خرجنا من
الربذة نريد المدينة نمتار من تمرها فلما دنونا من حيطانها ونخلها قلت: لو نزلنا
فلبسنا ثيابا غير هذه، إذا رجل في طمرين فسلم علينا وقال: من أين أقبل القوم ؟
قلنا من الربذة قال: وأين تريدون ؟ قلنا: نريد هذه المدينة.
قال: ما حاجتكم منها ؟ قلنا: نمتار من تمرها.
قال: ومعنا ظعينة لنا ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال: أتبيعوني جملكم هذا ؟ قلنا:
نعم، بكذا وكذا صاعا من تمر.
قال: فما استوضعنا مما قلنا شيئا، وأخذ بخطام الجمل وانطلق، فلما توارى عنا بحيطان
المدينة ونخلها قلنا: ما صنعنا ؟ والله ما بعنا جملنا ممن نعرف ولا أخذنا له ثمنا.
قال تقول المرأة التى معنا: والله لقد رأيت رجلا كأن وجهه شقة القمر ليلة
البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم.
إذ أقبل الرجل فقال: أنا رسول (1) الله إليكم، هذا تمركم فكلوا واشبعوا واكتالوا
واستوفوا، فأكلنا حتى شبعنا واكتلنا فاستوفينا.
ثم دخلنا المدينة فدخلنا المسجد، فإذا هو قائم على المنبر يخطب الناس، فأدركنا من
__________
(1) ا: رسول رسول الله.
(*)
خطبته وهو يقول: "
تصدقوا فإن الصدقة خير لكم، اليد العليا خير من اليد السفلى، أمك وأباك وأختك
وأخاك وأدناك أدناك " إذ أقبل رجل من بنى يربوع أو قال رجل من الانصار فقال:
يا رسول الله لنا في هؤلاء دماء في الجاهلية.
فقال: " إن أبا لا يجنى على ولد " ثلاث مرات.
وقد روى النسائي فضل الصدقة منه عن يوسف بن عيسى، عن الفضل بن موسى، عن يزيد بن
زياد بن أبى الجعد، عن جامع بن شداد، عن طارق بن عبدالله المحاربي ببعضه.
ورواه الحافظ البيهقى أيضا، عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس
بن بكير، عن يزيد بن زياد، عن جامع بن طارق بطوله كما تقدم.
وقال فيه: فقالت الظعينة: لا تلاوموا فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر، ما رأيت شيئا
أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه.
قدوم وافد فروة بن عمرو الجذامي صاحب بلاد معان بإسلامه على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأظن ذلك إما بتبوك أو بعدها قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عمرو بن
النافرة الجذامي ثم النفاثى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه وأهدى
له بغلة بيضاء.
وكان فروة عاملا للروم على من يليهم من العرب، وكان منزله معان وما حولها من أرض
الشام، فلما بلغ الروم ذلك من إسلامه طلبوه حتى أخذوه فحبسوه عندهم.
فقال في محبسه ذلك:
طرقت سليمى موهنا أصحابي *
والروم بين الباب والقروان (1) صد الخيال وساءه ما قد رأى * وهممت أن أغفى وقد
أبكاني لا تكحلن العين بعدى إثمدا * سلمى ولا تدين للاتيان (2) ولقد علمت أبا
كبيشة أننى * وسط الاعزة لا يحص لساني (3) فلئن هلكت لتفقدن أخاكم * ولئن بقيت
ليعرفن مكاني ولقد جمعت أجل ما جمع الفتى * من جودة وشجاعة وبيان قال: فلما أجمعت
الروم على صلبه على ماء لهم يقال له عفرى (4) بفلسطين.
قال: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها * على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل على ناقة لم
يضرب الفحل أمها * مشذبة أطرافها بالمناجل قال: وزعم الزهري أنهم لما قدموه
ليقتلوه قال: بلغ سراة المسلمين بأننى * سلم لربى أعظمي ومقامى قال: ثم ضربوا عنقه
وصلبوه على ذلك الماء، رحمه الله ورضى عنه وأرضاه وجعل الجنة مثواه.
قدوم تميم الدارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخباره إياه بأمر الجساسة وما
سمع من الدجال في خروج النبي صلى الله عليه وسلم وإيمان من آمن به أخبرنا أبو عبد
الله سهل بن محمد بن نصرويه المروزى بنيسابور، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد بن
الحسن القاضى، أنبأنا أبو سهل أحمد بن محمد بن زياد القطان، حدثنا
__________
(2) الموهن: نحو من نصف الليل.
والقروان: الظهر، بفتح الظاء.
(1) تدين: تطيع.
(2) يحص: يقطع: والمراد: لا يمنع من الكلام.
(3) عفرى: موضع بفلسطين.
(*)
يحيى بن جعفر بن الزبير،
أنبأنا وهب بن جرير، حدثنا أبى، سمعت غيلان بن جرير يحدث عن الشعبى، عن فاطمة بنت
قيس، قالت: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم تميم الدارى فأخبر رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه ركب البحر فتاهت به سفينته، فسقطوا إلى جزيرة فخرجوا إليها
يلتمسون الماء، فلقى إنسانا يجر شعره، فقال له: من أنت ؟ قال: أنا الجساسة.
قالوا: فأخبرنا.
قال: لا أخبركم ولكن عليكم بهذه الجزيرة.
فدخلناها فإذا رجل مقيد فقال: من أنتم ؟ قلنا: ناس من العرب.
قال: ما فعل هذا النبي الذى خرج فيكم ؟ قلنا: قد آمن به الناس واتبعوه وصدقوه.
قال: ذلك خير لهم.
قال: أفلا تخبروني عن عين زعر (1) ما فعلت ؟ فأخبرناه عنها، فوثب وثبة كاد أن يخرج
من وراء الجدار ثم قال: ما فعل نخل بيسان (2) هل أطعم بعد ؟ فأخبرناه أنه قد أطعم،
فوثب مثلها، ثم قال: أما لو قد أذن لى في الخروج لوطئت البلاد كلها غير طيبة (3).
قالت: فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدث الناس، فقال: هذه طيبة وذاك
الدجال.
وقد روى هذا الحديث الامام أحمد ومسلم وأهل السنن، من طرق عن عامر بن شراحيل
الشعبى، عن فاطمة بنت قيس.
وقد أورد له الامام أحمد شاهدا من رواية أبى هريرة وعائشة أم المؤمنين وقد ذكرنا
هذا الحديث بطرقه وألفاظه في كتاب الفتن (4).
وذكر الواقدي وفد الدارس من لخم وكانوا عشرة.
__________
(1) زعر: موضع بالحجاز (2) بيسان: موضع بأرض اليمامة.
(3) طيبة: من أسماء المدينة.
(4) وذلك في كتاب النهاية للمؤلف.
(*)
وفد بنى أسد وهكذا ذكر
الواقدي أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول سنه تسع وفد بنى أسد،
وكانوا عشرة ; منهم ضرار بن الازور، ووابصة بن معبد، وطليحة بن خويلد الذى ادعى
النبوة بعد ذلك، ثم أسلم وحسن إسلامه، ونفادة بن عبدالله ابن خلف.
فقال له رئيسهم حضرمى بن عامر: يا رسول الله أتيناك نتدرع الليل البهيم في سنة
شهباء، ولم تبعث إلينا بعثا.
فنزل فيهم: " يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم
أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين (1) ".
وكان فيهم قبيلة يقال لهم بنو الرثية (2)، فغير اسمهم فقال: أنتم بنو الرشدة.
وقد استهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفادة بن عبدالله بن خلف ناقة تكون
جيدة للركوب والحلب من غير أن يكون لها ولد معها، فطلبها فلم يجدها إلا عند ابن عم
له فجاء بها، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلبها، فشرب منها وسقاه سؤره ثم
قال: " اللهم بارك فيها وفيمن منحها ".
فقال: يا رسول الله وفيمن جاء بها.
فقال: " وفيمن جاء بها ".
وفد بنى عبس ذكر الواقدي: أنهم كانوا تسعة نفر وسماهم الواقدي.
فقال لهم النبي صلى الله عليه
وسلم: " أنا عاشركم " وأمر طلحة بن عبيدالله فعقد لهم لواء وجعل شعارهم:
يا عشرة.
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألهم عن خالد بن سنان العبسى، الذى
__________
(1) سورة الحجرات.
(2) الرثية: الحمق.
(*)
قدمنا (1) ترجمته في أيام
الجاهلية، فذكروا أنه لا عقب له.
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهم يرصدون عيرا لقريش قدمت من الشام.
وهذا يقتضى تقدم وفادتهم على الفتح.
والله أعلم.
وفد بنى فزارة قال الواقدي: حدثنا عبدالله بن محمد بن عمر الجمحى، عن أبى وجزة
السعدى، قال: لما رجع رسول الله من تبوك وكان سنة تسع، قدم عليه وفد بنى فزارة
بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن، والحارث بن قيس بن حصن، وهو أصغرهم على ركاب
عجاف، فجاءوا مقرين بالاسلام.
وسألهم رسول الله عن بلادهم.
فقال أحدهم: يا رسول الله أسنتت بلادنا وهلكت مواشينا وأجدب جنابنا وغرث عيالنا
(2)، فادع الله لنا.
فصعد رسول الله المنبر ودعا فقال: " اللهم اسق بلادك وبهائمك وانشر رحمتك
وأحى بلدك الميت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريا مريعا طبقا (3) واسعا عاجلا غير
آجل، نافعا غير ضار، اللهم اسقنا سقيا رحمة ولا سقيا عذاب ولا هدم، ولا غرق، ولا
محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الاعداء ".
قال: فمطرت فما رأوا السماء سبتا (4).
فصعد رسول الله المنبر فدعا فقال: " اللهم حوالينا ولا علينا، على الآكام
والظراب وبطون الاودية ومنابت الشجر ".
فانجابت السماء عن المدينة انجياب الثوب.
__________
(1) سبق ذلك في الجزء الاول.
(2) أسنتت: أصابتها السنة: وهى الجدب.
والجناب: الناحية.
وغرث: جاع.
(3) المريع: الخصيب.
والطبق: الذى يعم الارض.
(4) السبت: البرهة.
(*)
وفد بنى مرة ذكر الواقدي أنهم
قدموا سنة تسع مرجعه من تبوك.
وكانوا ثلاثة عشر رجلا منهم الحارث بن عوف، فأجازهم عليه السلام بعشر أواق من فضة،
وأعطى الحارث بن عوف ثنتى عشرة أوقية.
وذكروا أن بلادهم مجدبة، فدعا لهم فقال: " اللهم اسقهم الغيث " فلما
رجعوا إلى بلادهم وجدوها قد مطرت ذلك اليوم الذى دعا لهم فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
وفد بنى ثعلبة قال الواقدي: حدثنى موسى بن محمد بن إبراهيم، عن رجل من بنى ثعلبة،
عن أبيه.
قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة ثمان، قدمنا عليه
أربعة نفر فقلنا: نحن رسل من خلفنا من قومنا، وهم يقرون بالاسلام.
فأمر لنا بضيافة، وأقمنا أياما ثم جئناه لنودعه، فقال لبلال: أجزهم كما تجيز
الوفد.
فجاء ببقرة (1) من فضة فأعطى كل رجل منا خمس أواق وقال: ليس عندنا دراهم.
وانصرفنا إلى بلادنا.
وفد بنى محارب قال الواقدي: حدثنى محمد بن صالح، عن أبى وجزة السعدى، قال: قدم وفد
محارب سنة عشر في حجة الوداع، وهم عشرة نفر فيهم سواء بن الحارث، وابنه خزيمة بن
سواء.
فأنزلوا دار رملة بنت الحارث، وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء، فأسلموا وقالوا: نحن
على من وراءنا.
__________
(1) البقرة: قدر كبيرة واسعة، فسماها بقرة، من التبقر وهو التوسع أو لانها تسع
بقرة بتمامها.
انظر النهاية لابن الاثير 1 / 107.
(*)
ولم يكن أحد في تلك المواسم
أفظ ولا أغلظ على رسول الله منهم.
وكان في الوفد رجل منهم، فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد لله الذى
أبقاني حتى صدقت بك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذه القلوب بيد الله عزوجل ".
ومسح رسول الله وجه خزيمة بن سواء فصارت غرة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفد
وانصرفوا إلى بلادهم.
وفد بنى كلاب ذكر الواقدي: أنهم قدموا سنة تسع وهم ثلاثة عشر رجلا ; [ فيهم ] لبيد
بن ربيعة الشاعر وجبار (1) بن سلمى، وكان بينه وبين كعب بن مالك خلة فرحب به
وأكرمه وأهدى إليه، وجاءوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه
بسلام الاسلام، وذكروا له أن الضحاك بن سفيان الكلابي سار فيهم بكتاب الله وسنة
رسوله التى أمره الله بها، ودعاهم إلى الله فاستجابوا له وأخذ صدقاتهم من أغنيائهم
فصرفها على فقرائهم.
وفد بنى رؤاس بن كلاب ثم ذكر الواقدي: أن رجلا يقال له عمرو بن مالك بن قيس بن
بجيد بن رؤاس بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، قدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأسلم، ثم رجع إلى قومه فدعاهم إلى الله فقالوا: حتى نصيب من بنى عقيل مثل ما
أصابوا منا.
فذكر مقتلة كانت بينهم، وأن عمرو بن مالك هذا قتل رجلا من بنى عقيل.
قال:
__________
(1) ا: وجابر.
(*)
فشددت يدى في غل وأتيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وبلغه ما صنعت فقال: لئن أتانى لاضربن (1) ما فوق الغل
من يده.
فلما جئت سلمت فلم يرد على السلام، وأعرض عنى فأتيته عن يمينه فأعرض عنى، فأتيته
عن يساره فأعرض عنى، فأتيته من قبل وجهه فقلت: يا رسول الله إن الرب عزوجل ليترضى
فيرضى، فارض عنى، رضى الله عنك.
قال: " قد رضيت ".
وفد بنى عقيل بن كعب ذكر الواقدي: أنهم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأقطعهم العقيق - عقيق بنى عقيل - وهى أرض فيها نخيل وعيون.
وكتب بذلك كتابا: " بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما أعطى محمد رسول الله ربيعا ومطرفا وأنسا، أعطاهم العقيق، ما أقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة وسمعوا وأطاعوا، ولم يعطهم حقا لمسلم ".
فكان الكتاب في يد مطرف.
قال: وقدم عليه أيضا لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر بن عقيل، وهو أبو رزين
فأعطاه ماء يقال له النظيم وبايعه على قومه.
وقد قدمنا قدومه وقصته وحديثه بطوله ولله الحمد والمنة.
وفد بنى قشير بن كعب وذلك قبل حجة الوداع، وقبل حنين، فذكر فيهم قرة بن هبيرة بن [
عامر ابن ] (2) سلمة الخير بن قشير، فأسلم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساه
بردا،
__________
(1) الاصل: لاضرب.
(2) من الاصابة.
(*)
وأمره أن يلى صدقات قومه،
فقال قرة حين رجع: حباها رسول الله إذ نزلت به * وأمكنها من نائل غير منفد فأضحت
بروض الخضر وهى حثيثة * وقد أنجحت حاجاتها من محمد عليها فتى لا يردف الذم رحله *
يروى لامر العاجز المتردد (1) وفد بنى البكاء ذكر أنهم قدموا سنة تسع، وأنهم كانوا
ثلاثين رجلا ; فيهم معاوية بن ثور بن [ معاوية بن ] (2) عبادة بن البكاء، وهو
يومئذ إبن مائة سنة، ومعه ابن له يقال له بشر، فقال: يا رسول الله إنى أتبرك بمسك،
وقد كبرت وابنى هذا بر بى فامسح وجهه.
فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وأعطاه أعنزا عفرا، وبرك عليهن فكانوا لا
يصيبهم بعد ذلك قحط ولا سنة.
وقال محمد بن بشر بن معاوية في ذلك: وأبى الذى مسح الرسول برأسه * ودعا له بالخير
والبركات أعطاه أحمد إذ أتاه أعنزا * عفرا نواحل لسن بالحيات (3) يملان وفد الحى
كل عشية * ويعود ذاك الملئ بالغدوات بوركن من منح وبورك مانحا * وعليه منى ما حييت
صلاتي
__________
(1) في الاصابة: تروك لامر العاجز.
(2) من الاصابة: (3) الحيات: (*)
وفد كنانة
روى الواقدي بأسانيده: أن واثلة بن الاسقع الليثى قدم على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يتجهز إلى تبوك، فصلى معه الصبح ثم رجع إلى قومه، فدعاهم وأخبرهم عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
فقال أبوه: والله لا أحملك أبدا.
وسمعت أخته كلامه فأسلمت، وجهزته حتى سار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
تبوك وهو راكب على بعير لكعب بن عجرة.
وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد إلى أكيدر دومة، فلما رجعوا عرض واثلة
على كعب بن عجرة ما كان شارطه عليه من سهمه من الغنيمة، فقال له كعب: إنما حملتك
لله عزوجل.
وفد أشجع ذكر الواقدي: أنهم قدموا عام الخندق وهم مائة رجل، ورئيسهم مسعود بن
رخيلة، فنزلوا شعب سلع.
فخرج إليهم رسول الله وأمر لهم بأحمال التمر.
ويقال: بل قدموا بعد ما فرغ من بنى قريظة، وكانوا سبعمائة رجل، فوادعهم ورجعوا، ثم
أسلموا بعد ذلك.
وفد باهلة قدم رئيسهم مطرف بن الكاهن بعد الفتح فأسلم، وأخذ لقومه أمانا وكتب له
كتابا فيه الفرائض وشرائع الاسلام.
كتبه عثمان بن عفان رضى الله عنه.
وفد بنى سليم قال: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بنى سليم يقال له
قيس بن نشبة، فسمع كلامه وسأله عن أشياء فأجابه ووعى ذلك كله، ودعاه رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى الاسلام فأسلم.
ورجع إلى قومه من بنى سليم
فقال: قد سمعت ترجمة الروم وهينمة فارس وأشعار
العرب وكهانة الكهان وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمد شيئا من كلامهم،
فأطيعوني وخذوا بنصيبكم منه.
فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقديد وهم
سبعمائة.
ويقال: كانوا ألفا، وفيهم العباس بن مرداس وجماعة من أعيانهم، فأسلموا وقالوا:
اجعلنا في مقدمتك، واجعل لواءنا أحمر وشعارنا مقدما.
ففعل ذلك بهم فشهدوا معه الفتح والطائف وحنينا.
وقد كان راشد بن عبد ربه السلمى يعبد صنما، فرآه يوما وثعلبان يبولان عليه فقال:
أرب يبول الثعلبان برأسه * لقد ذل من بالت عليه الثعالب ! ثم شد عليه فكسره، ثم
جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: ما اسمك ؟ قال: غاوى بن عبدالعزى.
فقال: بل أنت راشد بن عبد ربه.
وأقطعه موضعا يقال له رهاط فيه عين تجرى يقال لها عين الرسول، وقال: هو خير بنى
سليم.
وعقد له على قومه وشهد الفتح وما بعدها.
وفد بنى هلال بن عامر ذكر في وفدهم: عبد عوف بن أصرم، فأسلم وسماه رسول الله صلى
الله عليه وسلم عبدالله، وقبيصة بن مخارق الذى له حديث في الصدقات.
وذكر في وفد بنى هلال زياد بن عبدالله بن مالك بن بجير بن الهدم بن رويبة بن
عبدالله بن هلال بن عامر، فلما دخل المدينة يمم منزل خالته ميمونة بنت الحارث،
فدخل عليها فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزله رآه فغضب ورجع.
فقالت:
يا رسول الله إنه ابن أختى.
فدخل ثم خرج إلى المسجد ومعه زياد، فصلى الظهر ثم أدنى زيادا فدعا له ووضع يده على
رأسه ثم حدرها على طرف أنفه، فكانت بنو هلال
تقول: ما زلنا نتعرف البركة في وجه زياد.
وقال الشاعر لعلى بن زياد: يابن الذى مسح الرسول برأسه * ودعا له بالخير عند
المسجد أعنى زيادا لا أريد سواءه * من عابر أو متهم أو منجد ما زال ذاك النور في
عرنينه * حتى تبوأ بيته في ملحد (1) وفد بنى بكر بن وائل ذكر الواقدي: أنهم لما
قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قس بن ساعدة ; فقال: ليس ذاك منكم،
ذاك رجل من إياد تحنف في الجاهلية، فوافى عكاظ والناس مجتمعون، فكلمهم بكلامه الذى
حفظ عنه.
قال: وكان في الوفد بشير بن الخصاصية، وعبد الله بن مرثد وحسان بن خوط.
فقال رجل من ولد حسان: أنا ابن حسان بن خوط وأبى * رسول بكر كلها إلى النبي وفد
تغلب ذكر أنهم كانوا ستة عشر رجلا مسلمين ونصارى عليهم صلب الذهب، فنزلوا دار رملة
بنت الحارث.
فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم النصارى على أن لا يصبغوا أولادهم في
النصرانية وأجاز المسلمين منهم.
__________
(1) الملحد: القبر.
(*)
وفادات أهل اليمن وفد تجيب
ذكر الواقدي: أنهم قدموا سنة تسع، وأنهم كانوا ثلاثة عشر رجلا، فأجازهم
أكثر مما أجاز غيرهم وأن غلاما منهم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما
حاجتك ؟ فقال: يا رسول الله ادع الله يغفر لى ويرحمنى ويجعل غناى في قلبى.
فقال: " اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه " فكان بعد ذلك من
أزهد الناس.
وفد خولان ذكر أنهم كانوا عشرة، وأنهم قدموا في شعبان سنة عشر وسألهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن صنمهم الذى كان يقال له عم أنس (1)، فقالوا أبدلنا به خيرا
منه ولو قد رجعنا لهدمناه.
وتعلموا القرآن والسنن، فلما رجعوا هدموا الصنم، وأحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم
الله.
وفد جعفى ذكر أنهم كانوا يحرمون أكل القلب، فلما أسلم وفدهم أمرهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأكل القلب، وأمر به فشوى وناوله رئيسهم وقال: لا يتم إيمانكم حتى
تأكلوه.
فأخذه ويده ترعد فأكله وقال: على أنى أكلت القلب كرها * وترعد حين مسته بنانى
__________
(1) في القاموس: عميانس.
بضم العين وسكون الميم والنون المكسورة.
(*)
فصل (1) في قدوم وفد الازد
على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أبو نعيم في كتاب معرفه الصحابة والحافظ أبو
موسى المدينى، من حديث أحمد بن أبى الحوارى، قال سمعت أبا سليمان الدارانى قال:
حدثنى علقمة بن يزيد بن سويد الازدي قال: حدثنى أبى، عن جدى، عن سويد بن الحارث،
قال: وفدت سابع
سبعة من قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخلنا عليه وكلمناه فأعجبه
ما رأى من سمتنا وزينا فقال: ما أنتم ؟ قلنا مؤمنون.
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " إن لكل قول حقيقة، فما حقيقة
قولكم وإيمانكم ".
قلنا: خمس عشرة خصلة ; خمس منها أمرتنا بها رسلك أن نؤمن بها، وخمس أمرتنا أن نعمل
بها، وخمس تخلقنا بها في الجاهلية فنحن عليها، إلا أن تكره منها شيئا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما الخمسة التى أمرتكم بها رسلي أن
تؤمنوا بها ؟ " قلنا: أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد
الموت.
قال: " وما الخمسة التى أمرتكم أن تعملوا بها ؟ " قلنا: أمرتنا أن نقول:
لا إله إلا الله، ونقيم الصلاة، ونؤتى الزكاة، ونصوم رمضان، ونحج البيت من استطاع
إليه سبيلا.
فقال: " وما الخمسة الذى تخلقتم بها في الجاهلية ؟ ".
قلنا: الشكر عند
__________
(1) سقط من ا ت.
(*)
الرخاء، والصبر عند البلاء،
والرضى بمر القضاء، والصدق في مواطن اللقاء، وترك الشماتة بالاعداء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حكماء علماء كادوا من فقههم أن يكونوا
أنبياء ".
ثم قال: " وأنا أزيدكم خمسا، فيتم لكم عشرون خصلة: إن كنتم كما تقولون، فلا
تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبنوا مالا تسكنون، ولا تنافسوا في شئ أنتم عنه
غدا تزولون، واتقوا الله الذى إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه
تقدمون، وفيه تخلدون ".
فانصرف القوم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وحفظوا وصيته وعملوا بها.
ثم ذكر: وفد كندة وأنهم كانوا بضعة عشر راكبا عليهم الاشعث بن قيس، وأنه أجازهم
بعشر أواق وأجاز الاشعث ثنتى عشرة أوقية.
وقد تقدم.
وفد الصدف قدموا في بضعة عشر راكبا، فصادفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب
على المنبر، فجلسوا ولم يسلموا، فقال: " أمسلمون أنتم ؟ " قالوا: نعم.
قال: " فهلا سلمتم ؟ ".
فقاموا قياما فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
فقال: " وعليكم السلام، اجلسوا ".
فجلسوا وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أوقات الصلوات.
وفد خشين قال: وقدم أبو ثعلبة
الخشنى ورسول الله يتجهز إلى خيبر، فشهد معه خيبر، ثم قدم بعد ذلك بضعة عشر رجلا
منهم فأسلموا.
* * * ثم ذكر وفد بنى سعد هذيم وبلى وبهراء وبنى عذرة وسلامان وجهينة وبنى كلب
والجرميين.
وقد تقدم حديث عمرو بن سلمة الجرمى في صحيح البخاري.
وذكر: وفد الازد ووفد غسان والحارث بن كعب وهمدان وسعد العشيرة وعبس، ووفد
الداريين والرهاووين وبنى غامد والنخع وبجيلة وخثعم، وحضر موت وذكر فيهم وائل بن
حجر، وذكر فيهم الملوك الاربعة جمدا ومخوسا ومشرحا وأبضعة.
وقد ورد في مسند أحمد لعنهم مع أختهم العمردة (1)، وتكلم الواقدي فيهم كلاما فيه
طول.
وذكر وفد أزد عمان وغافق وبارق ودوس وثمالة والجدار وأسلم وجذام ومهرة وحمير
ونجران وجيشان.
وبسط الكلام على هذه القبائل يطول جدا، وقد قدمنا بعض ما يتعلق بذلك.
وفيما أوردناه كفاية والله أعلم.
* * * ثم قال الواقدي: وافد السباع حدثنى شعيب بن عبادة، عن المطلب بن عبدالله بن
حنطب، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس بالمدينة في أصحابه إذ أقبل
ذئب فوقف بين يديه فعوى.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هذا وافد السباع إليكم فإن أحببتم أن
__________
(1) الاصل: مع أخيهم الغمر.
وما أثبته عن القاموس.
باب السين.
(*)
تفرضوا له شيئا لا يعدوه إلى
غيره، وإن أحببتم تركتموه وتحذرتم منه، فما أخذ فهو رزقه ".
قالوا: يا رسول الله ما تطيب أنفسنا له بشئ.
فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأصابعه الثلاث: أي خالسهم.
فولى وله عسلان (1).
وهذا مرسل من هذا الوجه.
ويشبه هذا الذئب الذئب الذى ذكر في الحديث الذى رواه الامام أحمد: حدثنا يزيد
هو ابن هارون، أنبأنا القاسم بن الفضل الحدانى (2)، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد
الخدرى، قال: عدا الذئب على شاة فأخذها فطلبها الراعى فانتزعها منه فأقعى الذئب
على ذنبه، فقال: ألا تتقى الله تنزع منى رزقا ساقه الله إلى ! فقال: يا عجبا ذئب
مقع على ذنبه يكلمني كلام الانس ! فقال الذئب: ألا أخبرك بأعجب من ذلك ; محمد رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيثرب يخبر الناس بأنباء ما قد سبق.
قال: فأقبل الراعى يسوق غنمه حتى دخل المدينة، فزواها إلى زاوية من زواياها، ثم
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنودى: الصلاة جامعة، ثم خرج فقال للاعرابي:
أخبرهم.
فأخبرهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدق والذى نفس محمد بيده، لا تقوم
الساعة حتى تكلم السباع الانس وتكلم الرجل عذبة سوطه وشراك نعله، وتخبره فخذه بما
أحدث أهله بعده ".
وقد رواه الترمذي عن سفيان بن وكيع بن الجراح، عن أبيه، عن القاسم بن الفضل به،
وقال: حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من حديث القاسم بن الفضل وهو
__________
(1) العسلان: الاضطراب في العدو وهز الرأس.
(2) نسبة إلى محلة بالبصرة نزلها بطن من الازد يقال لهم حدان.
اللباب 1 / 284.
(*)
ثقة مأمون عند أهل الحديث
وثقه يحيى وابن مهدى.
قلت: وقد رواه الامام أحمد أيضا: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب هو ابن أبى حمزة،
حدثنى عبدالله بن أبى الحسين، حدثنى مهران أن أبا سعيد الخدرى حدثه، فذكر هذه
القصة بطولها بأبسط من هذا السياق.
ثم رواه أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبدالحميد بن بهرام، حدثنا شهر،
قال: وحدث أبو سعيد.
فذكره.
وهذا السياق أشبه والله أعلم.
وهو إسناد على شرط أهل السنن ولم يخرجوه.
فصل وقد تقدم ذكر وفود الجن بمكة قبل الهجرة (1).
وقد تقصينا الكلام في ذلك أيضا عند قوله تعالى في سورة الاحقاف: " وإذ صرفنا
إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن " فذكرنا ما ورد من الاحاديث في ذلك
والآثار، وأوردنا حديث سواد بن قارب الذى كان كاهنا فأسلم.
وما رواه عن رئيه الذى كان يأتيه بالخبر حين أسلم [ الرئى (2) ] حين قال له: عجبت
للجن وأنجاسها * وشدها العيس بأحلاسها تهوى إلى مكة تبغى الهدى * ما مؤمنو الجن
كأرجاسها فانهض إلى الصفوة من هاشم * واسم بعينيك إلى راسها ثم قوله: عجبت للجن
وتطلابها * وشدها العيس بأقتابها تهوى إلى مكة تبغى الهدى * ليس قدامها كأذنابها
__________
(1) سبق ذلك في الجزء الاول 344.
(2) من ا (*)
فانهض إلى الصفوة من هاشم *
واسم بعينيك إلى بابها ثم قوله: عجبت للجن وتخبارها * وشدها العيس بأكوارها تهوى
إلى مكة تبغى الهدى * ليس ذوو الشر كأخيارها فانهض إلى الصفوة من هاشم * ما مؤمنو
الجن ككفارها وهذا وأمثاله مما يدل على تكرار وفود الجن إلى مكة.
وقد قررنا ذلك هنالك بما
فيه كفاية ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
* * * وقد أورد الحافظ أبو بكر البيهقى هاهنا حديثا غريبا جدا، بل منكرا أو
موضوعا، ولكن مخرجه عزيز أحببنا أن نورده كما أورده.
والعجب منه.
فإنه قال في دلائل النبوة: باب قدوم هامة بن الهيثم بن لاقيس بن إبليس على النبي
صلى الله عليه وسلم وإسلامه.
أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسين بن داود العلوى رحمه الله، أنبأنا أبو نصر محمد
ابن حمدويه بن سهل القارئ المروزى، حدثنا عبدالله بن حماد الآملي، حدثنا محمد بن
أبى معشر، أخبرني أبى، عن نافع عن ابن عمر، قال قال عمر رضى الله عنه: بينا نحن
قعود مع النبي صلى الله عليه وسلم على جبل من جبال تهامة إذ أقبل شيخ بيده عصا،
فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فردتم قال: " نغمة جن وغمغتهم من أنت
" قال: أنا هامة بن الهيثم بن لاقيس بن إبليس.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فما بينك وبين إبليس إلا أبوان، فكم أتى لك
من الدهر ؟ " قال: قد أفنيت الدنيا عمرها إلا قليلا، ليالى قتل قابيل هابيل
كنت غلاما ابن أعوام، أفهم الكلام وأمر بالآكام وآمر بإفساد الطعام وقطيعة
الارحام.
فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " بئس عمل الشيخ المتوسم، والشاب المتلوم ".
قال: ذرنى من الترداد، إنى تائب إلى الله عزوجل، إنى كنت مع نوح في مسجده مع من
آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى وأبكانى وقال: لا جرم
إنى على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين.
قال: قلت، يا نوح إنى كنت ممن اشترك في دم السعيد الشهيد هابيل بن آدم،
فهل تجدلى عندك توبة ؟ قال: يا هام هم بالخير وافعله قبل الحسرة والندامة، إنى
قرأت فيما أنزل الله على أنه ليس من عبد تاب إلى الله بالغ أمره ما بلغ إلا تاب
الله عليه، قم فتوضأ واسجد لله سجدتين.
قال ففعلت من ساعتي ما أمرنى به.
فناداني: ارفع رأسك، فقد نزلت توبتك من السماء.
فخررت لله ساجدا.
قال: وكنت مع هود في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على
قومه حتى بكى عليهم وأبكانى، فقال: لا جرم إنى على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله
أن أكون من الجاهلين.
قال: وكنت مع صالح في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على
قومه حتى بكى وأبكانى وقال: أنا على ذلك من النادمين، وأعوذ بالله أن أكون من
الجاهلين.
وكنت أزور يعقوب وكنت مع يوسف في المكان الامين، وكنت ألقى إلياس في الاودية وأنا
ألقاه الآن.
وإنى لقيت موسى بن عمران فعلمني من التوراة، وقال: إن لقيت عيسى ابن مريم
فأقرئه منى السلام.
وإنى لقيت عيسى ابن مريم فأقرأته عن موسى السلام، وإن عيسى قال: إن لقيت محمدا صلى
الله عليه وسلم فأقرئه منى السلام.
فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عينيه فبكى ثم قال: وعلى عيسى السلام ما دامت
الدنيا، وعليك السلام يا هام بأدائك الامانة.
قال: يا رسول الله افعل بى ما فعل موسى، إنه علمني من التوراة.
قال: فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وقعت الواقعة، والمرسلات، وعم
يتساءلون، وإذا الشمس كورت، والمعوذتين، وقل هو الله أحد، وقال: " ارفع إلينا
حاجتك يا هامة،
ولا تدع زيارتنا ".
قال عمر: فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعد إلينا، فلا ندرى الآن أحى هو
أم ميت ؟ ثم قال البيهقى: ابن أبى معشر هذا قد روى عنه الكبار إلا أن أهل العلم
بالحديث يضعفونه.
وقد روى هذا الحديث من وجه آخر هو أقوى منه.
والله أعلم (1).
__________
(1) هذا الحديث ظاهر الوضع والاختلاق، وقد أشار إلى وضعه ابن الجوزى في مقدمة
كتابه " الوفا في أخبار المصطفى ".
(*)
سنة عشر من الهجرة باب بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر أو جمادى الاولى سنة عشر إلى بنى
الحارث بن كعب بنجران.
وأمره أن يدعوهم إلى الاسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فاقبل منهم، وإن
لم يفعلوا فقاتلهم.
فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الاسلام
ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا.
فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه، فأقام فيهم خالد يعلمهم الاسلام وكتاب الله
وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما أمره رسول الله إن هم أسلموا ولم يقاتلوا.
ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم
لمحمد النبي رسول الله من خالد بن الوليد.
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله
إلا هو، أما بعد يا رسول الله صلى الله عليك، فإنك
بعثتني إلى بنى الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم أن لا أقاتلهم ثلاثة أيام، وأن
أدعوهم إلى الاسلام، فإن أسلموا قبلت منهم وعلمتهم معالم الاسلام وكتاب الله وسنة
نبيه وإن لم يسلموا قاتلتهم.
وإنى قدمت عليهم فدعوتهم إلى الاسلام ثلاثة أيام كما أمرنى رسول الله، وبعثت فيهم
ركبانا [ قالوا: ] (1) يا بنى الحارث أسلموا تسلموا.
فأسلموا ولم يقاتلوا، وأنا مقيم
__________
(1) من ابن هشام.
(*)
بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم
الله به وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الاسلام وسنة النبي صلى الله
عليه وسلم، حتى يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد
النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد.
سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءني مع
رسولك يخبر أن بنى الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم وأجابوا إلى ما دعوتهم
إليه من الاسلام، وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن قد هداهم
الله بهداه، فبشرهم وأنذرهم وأقبل، وليقبل معك وفدهم.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
* * * فأقبل خالد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل معه وفد بنى الحارث بن
كعب ; منهم قيس بن الحصين ذو الغصة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجل، وعبد
الله بن قراد الزيادي، وشداد بن عبيد الله القنانى، وعمرو بن عبدالله الضبابى.
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورآهم.
قال: من هؤلاء القوم الذين كأنهم رجال الهند ؟
قيل يا رسول الله: هؤلاء بنو (1) الحارث بن كعب، فلما وقفوا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم سلموا عليه وقالوا: نشهد أنك رسول الله وأنه لا إله إلا الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنى
رسول الله ".
ثم قال: " أنتم الذين إذا زجروا استقدموا " فسكتوا فلم يراجعه منهم أحد،
ثم أعادها الثانية ثم الثالثة فلم يراجعه منهم أحد.
__________
(1) ابن هشام: هؤلاء رجال بنى الحارث.
(*)
ثم أعادها الرابعة.
قال يزيد بن عبد المدان: نعم يا رسول الله، نحن الذين إذا زجروا استقدموا، قالها
أربع مرات.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن خالدا لم يكتب إلى أنكم أسلمتم
ولم تقاتلوا لالقيت رءوسكم تحت أقدامكم ".
فقال يزيد بن عبد المدان: أما والله ما حمدناك ولا حمدنا خالدا (1).
قال: فمن حمدتم ؟ قالوا: حمدنا الله الذى هدانا بك يا رسول الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقتم.
ثم قال: بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية ؟ قالوا: لم نك نغلب أحدا.
قال: بلى قد كنتم تغلبون من قاتلكم.
قالوا: كنا نغلب من قاتلنا يا رسول الله، أنا كنا نجتمع ولا نتفرق ولا نبدأ أحدا
بظلم.
قال: " صدقتم " ثم أمر عليهم قيس بن الحصين.
قال ابن إسحاق: ثم رجعوا إلى قومهم في بقية شوال أو في صدر ذى القعدة.
قال: ثم بعث إليهم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم ليفقههم في الدين ويعلمهم السنة
ومعالم الاسلام ويأخذ منهم صدقاتهم، وكتب له كتابا عهد إليه فيه عهده وأمره أمره.
ثم أورده ابن إسحاق.
وقد قدمناه في وفد ملوك حمير من طريق البيهقى، وقد رواه النسائي نظير ما ساقه محمد
بن إسحاق بغير إسناد.
__________
(1) زاد في ا: ولكن.
وليست في ابن هشام.
(*)
بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم الامراء إلى أهل اليمن قبل حجة الوداع يدعونهم إلى الله عزوجل قال البخاري:
باب بعث أبى موسى ومعاذ إلى اليمن قبل بل حجة الوداع.
حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، حدثنا عبدالملك، عن أبى بردة، قال: بعث النبي صلى
الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن.
قال: وبعث كل واحد منهما على مخلاف.
قال: واليمن مخلافان.
ثم قال: " يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا " وفى رواية: وتطاوعا ولا
تختلفا.
وانطلق كل واحد منهما إلى عمله.
قال: وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا [ فسلم
عليه ] (1) فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبى موسى، فجاء يسير على بغلته حتى
انتهى إليه، فإذا هو جالس وقد اجتمع الناس إليه، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى
عنقه، فقال له معاذ: يا عبدالله بن قيس أيم (2) هذا ؟ قال: هذا رجل كفر بعد
إسلامه.
قال: لا أنزل حتى يقتل.
قال: إنما جئ به لذلك فانزل.
قال: ما أنزل حتى يقتل فأمر به فقتل.
ثم نزل.
فقال: يا عبدالله كيف تقرأ القرآن ؟ قال: أتفوقه (3) تفوقا.
قال: فكيف تقرأ أنت يا معاذ ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم،
__________
(1) من البخاري 2 / 261
(2) أيم: قال القسطلانى: أي أي شئ هذا، وأصله أي ما.
وأى استفهامية وما بمعنى شئ، فحذفت الالف تخفيفا.
إرشاد السارى 6 / 418.
(3) أتفوقه: أقرأه شيئا بعد شئ.
(*)
فأقرأ ما كتب الله لى فأحتسب
نومتي كما أحتسب قومتى.
انفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه.
ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا خالد، عن الشيباني، عن سعيد بن أبى بردة، عن
أبيه، عن أبى موسى الاشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فسأله
عن أشربة تصنع بها، فقال: ما هي ؟ قال: البتع والمزر.
فقلت لابي بردة: ما البتع ؟ قال: نبيذ العسل، والمزر نبيذ الشعير.
فقال: " كل مسكر حرام ".
ورواه جرير وعبد الواحد، عن الشيباني، عن أبى بردة.
ورواه مسلم من حديث سعيد بن أبى بردة.
وقال البخاري: حدثنا حبان، أخبرنا عبدالله، عن زكريا بن أبى إسحاق، عن يحيى بن
عبدالله بن صيفي، عن أبى معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: " إنك ستأتي قوما أهل كتاب،
فإذ جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم
أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم
أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم،
فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها
وبين الله حجاب ".
وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق متعددة.
* * *
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنى راشد بن سعد، عن عاصم بن
حميد [ السكوني (1) ]، عن معاذ بن جبل، قال: لما بعثه رسول الله صلى الله
__________
(1) ليست في ا.
(*)
عليه وسلم إلى اليمن خرج معه
يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى تحت راحلته، فلما فرغ قال:
يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامى هذا، ولعلك أن تمر بمسجدى هذا وقبري.
فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم التفت بوجهه نحو المدينة فقال: " إن أولى الناس بى المتقون من كانوا وحيث
كانوا ".
ثم رواه عن أبى اليمان، عن صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن عاصم بن حميد
السكوني ; أن معاذا لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج معه
يوصيه ومعاذ راكب ورسول الله يمشى تحت راحلته ; فلما فرغ قال: " يا معاذ إنك
عسى ألا تلقاني بعد عامى هذا، ولعلك أن تمر بمسجدى هذا وقبري ".
فبكى معاذ خشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لا تبك يا معاذ،
للبكاء أوان، البكاء من الشيطان ".
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان، حدثنا أبو زياد يحيى بن عبيد
الغساني، عن يزيد بن قطيب، عن معاذ أنه كان يقول: بعثنى رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى اليمن فقال: " لعلك أن تمر بقبري ومسجدي، فقد بعثتك إلى قوم رقيقة
قلوبهم يقاتلون على الحق مرتين ; فقاتل بمن أطاعك منهم من عصاك، ثم يفيئون إلى
الاسلام، حتى تبادر المرأة زوجها والولد والده والاح أخاه، فأنزل بين الحيين
السكون والسكاسك ".
وهذا الحديث فيه إشارة وظهور وإيماء إلى أن معاذا رضى الله عنه لا يجتمع بالنبي
صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ; وكذلك وقع، فإنه أقام باليمن حتى كانت حجة الوداع،
ثم كانت وفاته عليه السلام
بعد أحد وثمانين يوما من يوم الحج الاكبر.
* * * فأما الحديث الذى قال الامام أحمد: حدثنا وكيع، عن الاعمش، عن أبى ظبيان، عن
معاذ، أنه لما رجع من اليمن قال: يا رسول الله رأيت رجالا باليمن يسجد بعضهم لبعض
أفلا نسجد لك ؟ قال: " لو كنت آمر بشرا أن يسجد لبشر لامرت المرأة أن تسجد
لزوجها ".
وقد رواه أحمد عن ابن نمير، عن الاعمش، سمعت أبا ظبيان يحدث عن رجل من الانصار، عن
معاذ بن جبل، قال: أقبل معاذ من اليمن فقال: يارسول الله إنى رأيت رجالا.
فذكر معناه.
فقد دار على رجل مبهم، ومثله لا يحتج به، ولا سيما وقد خالفه غيره ممن يعتد به،
فقالوا: لما قدم معاذ من الشام كذلك.
رواه أحمد.
وقال أحمد: حدثنا إبراهيم بن مهدى، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبدالرحمن بن أبى
حسين، عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل، قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" مفاتيح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله ".
وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبى ثابت، عن ميمون بن أبى شبيب،
عن معاذ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " يا معاذ أتبع السيئة
الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن ".
قال وكيع: وجدته في كتابي عن أبى ذر، وهو السماع الاول.
وقال سفيان مرة عن معاذ.
ثم قال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل، عن ليث، عن حبيب بن أبى ثابت، عن ميمون بن أبى
شبيب، عن معاذ، أنه قال: يارسول الله أوصني.
فقال: " اتق الله
حيثما كنت.
قال: زدنى.
قال: أتبع السيئة الحسنة تمحها.
قال: زدنى.
قال: خالق الناس بخلق حسن ".
وقد رواه الترمذي في جامعه عن محمود بن غيلان، عن وكيع، عن سفيان الثوري به وقال:
حسن.
قال شيخنا في الاطراف: وتابعه فضيل بن سليمان، عن ليث بن أبى سليم، عن الاعمش عن
حبيب به.
وقال أحمد: حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن
عبدالرحمن بن جبير بن نفير الحصرمي، عن معاذ بن جبل، قال: أوصاني رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعشر كلمات قال: " لا تشرك بالله شيئا وإن قتلت وحرقت، ولا
تعقن [ والديك ] وإن أمراك أن تخرج من مالك وأهلك، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا،
فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله، ولا تشربن خمرا فإنه رأس كل
فاحشة، وإياك والمعصية فإن بالمعصية يحل سخط الله، وإياك والفرار من الزحف وإن هلك
الناس، وإذا أصاب الناس موت وأنت فيهم فاثبت، وأنفق على عيالك من طولك، ولا ترفع عنهم
عصاك أدبا، وأحبهم في الله عزوجل ".
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا بقية، عن السرى بن ينعم، عن شريح، عن مسروق،
عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن، قال: "
إياك والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ".
* * * وقال أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا أبو بكر - يعنى ابن عياش -
حدثنا عاصم، عن أبى وائل، عن معاذ، قال: بعثنى رسول الله صلى الله وسلم إلى اليمن،
وأمرني أن آخذ من كل حالم
دينارا أو عدله من المعافر، وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين
بقرة تبيعا حوليا، وأمرني فيما سقت السماء العشر وما سقى بالدوالى نصف العشر
".
وقد رواه أبو داود من حديث أبى معاوية، والنسائي من حديث محمد بن إسحاق عن الاعمش
كذلك.
وقد رواه أهل السنن الاربعة من طرق، عن الاعمش، عن أبى وائل، عن مسروق، عن معاذ
به.
وقال أحمد: حدثنا معاوية، عن عمرو وهارون بن معروف، قالا: حدثنا عبدالله ابن وهب،
عن حيوة، عن يزيد بن أبى حبيب، عن سلمة بن أسامة، عن يحيى بن الحكم، أن معاذا قال:
بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق (1) أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر
من كل ثلاثين تبيعا.
قال هارون: والتبيع: الجذع أو الجذعة - ومن كل أربعين مسنة.
فعرضوا على أن آخذ ما بين الاربعين والخمسين وما بين الستين والسبعين وما بين
الثمانين والتسعين، فأبيت ذلك، وقلت لهم: أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
ذلك.
فقدمت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمرني أن أخذ من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل
أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن الثمانين مسنتين،
ومن التسعين ثلاثة أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة ومائة مسنتين
وتبيعا، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع.
قال: وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا آخذ فيما بين ذلك شيئا
__________
(1) أصدق: أجمع صدقاتهم.
(*)
إلا أن يبلغ مسنة أو جذعا،
وزعم أن الاوقاص (1) لا فريضة فيها.
* * * وهذا من أفراد أحمد، وفيه دلالة على أنه قدم بعد مصيره إلى اليمن على رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
والصحيح أنه لم ير النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كما تقدم في الحديث.
وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن الزهري، عن أبى بن كعب بن مالك، قال: كان
معاذ بن جبل شابا جميلا سمحا من خير شباب قومه، لا يسأل شيئا إلا أعطاه، حتى كان
عليه دين أغلق ماله، فكلم رسول الله في أن يكلم غرماءه ففعل، فلم يضعوا له شيئا،
فلو ترك لاحد بكلام أحد لترك لمعاذ بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فدعاه رسول الله فلم يبرح أن باع ماله وقسمه بين غرمائه.
قال: فقام معاذ ولا مال له.
قال: فلما حج رسول الله بعث معاذا إلى اليمن، قال: فكان أول من تجر في هذا المال
معاذ.
قال: فقدم على أبى بكر الصديق من اليمن وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجاء عمر فقال: هل لك أن تطيعني فتدفع هذا المال إلى أبى بكر، فإن أعطاكه فاقبله ؟
قال: فقال معاذ: لن (2) أدفعه إليه، وإنما بعثنى رسول الله ليجبرني.
فلما أبى عليه انطلق عمر إلى أبى بكر، فقال: أرسل إلى هذا الرجل فخذ منه ودع له.
فقال أبو بكر: ما كنت لافعل، إنما بعثه رسول الله ليجبره، فلست آخذ منه شيئا.
__________
(1) الاوقاص: ما بين الفريضتين في الزكاة.
(2) الاصل: لم.
(*)
قال: فلما أصبح معاذ انطلق
إلى عمر فقال: ما أرانى إلا فاعل الذى قلت، إنى رأيتنى البارحة في النوم - فيما
يحسب عبد الرزاق قال - أجر إلى النار وأنت آخذ بحجزتى (1).
قال: فانطلق إلى أبى بكر بكل شئ جاء به، حتى جاءه بسوطه وحلف له أنه لم يكتمه
شيئا.
قال فقال أبو بكر رضى الله عنه: هو لك لا آخذ منه شيئا.
وقد رواه أبو ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عبدالرحمن بن كعب بن مالك، فذكره إلا
أنه قال: حتى إذا كان عام فتح مكة بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على طائفة من
اليمن أميرا، فمكث حتى قبض رسول الله، ثم قدم في خلافة أبى بكر وخرج إلى الشام.
قال البيهقى: وقد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلفه بمكة مع عتاب ابن
أسيد ليعلم أهلها، وأنه شهد غزوة تبوك ; فالاشبه أن بعثه إلى اليمن كان بعد ذلك.
والله أعلم.
ثم ذكر البيهقى لقصة منام معاذ شاهدا من طريق الاعمش، عن أبى وائل، عن عبدالله،
وأنه كان من جملة ما جاء به عبيد فأتى بهم أبا بكر، فلما رد الجميع عليه رجع بهم
ثم قام يصلى فقاموا كلهم يصلون معه.
فلما انصرف قال: لمن صليتم ؟ قالوا: لله.
قال: فأنتم له عتقاء.
فأعتقهم.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبى عون، عن الحارث
ابن عمرو ابن أخى المغيرة بن شعبة، عن ناس من أصحاب معاذ من أهل حمص، عن معاذ، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال: كيف تصنع إن عرض لك
قضاء ؟ قال: أقضى بما في كتاب الله.
__________
(1) الحجزة: معقد الازار.
(*)
قال: فإن لم يكن في كتاب الله
؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن لم يكن في سنة رسول الله ؟ قال: أجتهد وإنى لا آلو.
قال: فضرب رسول الله صدري ثم قال: " الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما
يرضى رسول الله ".
وقد رواه أحمد عن وكيع، عن عفان، عن شعبة بإسناده ولفظه.
وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث شعبة به، وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من هذا
الوجه وليس إسناده عندي بمتصل.
وقد رواه ابن ماجه من وجه آخر عنه، إلا أنه من طريق محمد بن سعد بن حسان - وهو
المصلوب أحد الكذابين - عن عبادة بن نسى (1)، عن عبدالرحمن بن غنم، عن معاذ به
نحوه.
وقد روى الامام أحمد، عن محمد بن جعفر ويحيى بن سعيد، عن شعبة، عن عمرو ابن أبى
حكيم، عن عبدالله بن بريدة، عن يحيى بن معمر، عن أبى الاسود الديلى قال: كان معاذ
باليمن فارتفعوا إليه في يهودى مات وترك أخا مسلما.
فقال معاذ: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الاسلام يزيد
ولا ينقص " فورثه.
ورواه أبو داود من حديث ابن بريدة به.
وقد حكى هذا المذهب عن معاوية بن أبى سفيان وراويه (2) يحيى بن معمر القاضى وطائفة
من السلف، وإليه ذهب إسحاق بن راهويه.
وخالفهم الجمهور، ومنهم الائمة الاربعة وأصحابهم، محتجين بما ثبت في الصحيحين
__________
(1) هو عبادة بن نسى الكندى، قاضى طبرية توفى سنة 118.
تهذيب التهذيب 5 / 114 (2) غير ا: ورواه عن.
(*)
عن أسامة بن زيد قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر
".
* * * والمقصود أن معاذا رضى الله عنه كان قاضيا للنبى صلى الله عليه وسلم باليمن
وحاكما في الحروب، ومصدقا إليه تدفع الصدقات، كما دل عليه حديث ابن عباس المتقدم.
وقد كان بارزا للناس يصلى بهم الصلوات الخمس، كما قال البخاري: حدثنا سليمان ابن
حرب حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبى ثابت، عن سعيد بن جبير، عن عمرو بن ميمون، أن
معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ: " واتخذ الله إبراهيم خليلا "
فقال رجل من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم ! انفرد به البخاري.
ثم قال البخاري:
باب بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم على بن أبى طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع حدثنا أحمد
بن عثمان، حدثنا شريح بن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن يوسف بن أبى إسحاق، حدثنى أبى،
عن أبى إسحاق، سمعت البراء بن عازب قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث عليا بعد ذلك مكانه قال: مر أصحاب خالد من
شاء منهم أن يعقب معك فليعقب، ومن شاء فليقبل.
فكنت فيمن عقب معه.
قال: فغنمت أواقى ذات عدد.
انفرد به البخاري من هذا الوجه.
ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا على بن سويد ابن
منجوف، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى
خالد بن الوليد ليقبض الخمس، وكنت أبغض عليا فأصبح وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا ترى
إلى هذا ؟ فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال: " يا
بريدة تبغض (1) عليا ؟ " فقلت: نعم.
فقال: " لا تبغضه فإن له في الخمس أكثر من ذلك ".
انفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الجليل، قال: انتهيت إلى حلقة
فيها أبو مجلز وابنا بريدة، فقال عبدالله بن بريدة: حدثنى أبى بريدة قال: أبغضت
عليا بغضا لم أبغضه أحدا قط، قال: وأحببت رجلا من قريش لم أحبه إلا على بغضه عليا.
قال: فبعث ذلك الرجل على خيل، فصحبته ما أصحبه إلا على بغضه عليا.
قال:
__________
(1) البخاري: أتبغض.
(*)
فأصبنا سبيا قال: فكتب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابعث إلينا من يخمسه.
قال: فبعث إلينا عليا وفى السبى وصيفة من أفضل السبى.
قال: فخمس وقسم فخرج ورأسه يقطر، فقلنا: يا أبا الحسن ما هذا ؟ فقال: ألم تروا إلى
الوصيفة التى كانت في السبى، فإنى قسمت وخمست فصارت في الخمس، ثم صارت في أهل بيت
النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صارت في آل على ووقعت بها.
قال: فكتب الرجل إلى نبى الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت: ابعثنى.
فبعثني مصدقا.
قال: فجعلت أقرأ الكتاب وأقول: صدق.
قال: فأمسك يدى والكتاب
فقال: " أتبغض عليا ؟ " قال: قلت: نعم.
قال: " فلا تبغضه، وإن كنت تحبه فازدد له حبا، فوالذي نفس محمد بيده لنصيب آل
على (1) في الخمس أفضل من وصيفة ".
قال: فما كان من الناس أحد بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلى من على.
قال عبدالله بن بريدة: فو الذى لا إله غيره ما بينى وبين النبي صلى الله عليه وسلم
في هذا الحديث غير أبى بريدة.
تفرد به بهذا السياق عبد الجليل بن عطية الفقيه أبو صالح البصري، وثقه ابن معين
وابن حبان.
وقال البخاري: إنما يتهم في الشئ بعد الشئ.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح، عن عبدالله بن نيار الاسلمي، عن خاله
عمرو بن شأس الاسلمي، وكان من أصحاب الحديبية، قال: كنت مع على بن أبى طالب في
خيله التى بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فجفاني على بعض الجفاء،
فوجدت في نفسي عليه.
__________
(1) ت: آل محمد.
(*)
فلما قدمت المدينة اشتكيته في
مجالس المدينة وعند من لقيته، فأقبلت يوما ورسول الله جالس في المسجد، فلما رأني
أنظر إلى عينيه نظر إلى حتى جلست إليه، فلما جلست إليه قال: " إنه والله يا
عمرو بن شأس لقد آذيتنى " فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون ! أعوذ بالله
والاسلام أن أوذى رسول الله.
فقال: " من آذى عليا فقد آذانى ".
وقد رواه البيهقى من وجه آخر، عن ابن إسحاق، عن أبان بن الفضل بن معقل ابن سنان،
عن عبدالله بن نيار، عن خاله عمرو بن شأس.
فذكره بمعناه.
وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا محمد بن عبدالله الحافظ، أنبأنا أبو إسحاق المزكى،
حدثنا عبيدة بن أبى السفر، سمعت إبراهيم بن يوسف بن أبى إسحاق، عن أبيه، عن أبى
إسحاق، عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أهل
اليمن يدعوهم إلى الاسلام.
قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى
الاسلام، فلم يجيبوه، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على بن أبى طالب
وأمره أن يقفل خالدا، إلا رجلا كان ممن مع خالد فأحب أن يعقب مع على فليعقب معه.
قال البراء: فكنت فيمن عقب مع على، فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا، ثم تقدم بنا
فصلى بنا على، ثم صفنا صفا واحدا، ثم تقدم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان جميعا، فكتب على إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا ثم رفع
رأسه فقال: " السلام على همدان السلام على همدان ".
قال البيهقى: رواه البخاري
مختصرا من وجه آخر عن إبراهيم بن يوسف.
* * * وقال البيهقى: أنبأنا أبو الحسين محمد بن الفضل القطان، أنبأنا أبو سهل بن
زياد القطان، حدثنا إسماعيل بن أبى أويس، حدثنى أخى، عن سليمان بن بلال، عن سعد بن
إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة، عن أبى سعيد الخدرى، أنه
قال: بعث رسول الله على بن أبى طالب إلى اليمن.
قال أبو سعيد: فكنت فيمن خرج معه، فلما أخذ من إبل الصدقة سألناه أن نركب منها
ونريح إبلنا - وكنا قد رأينا في إبلنا خللا - فأبى علينا وقال: إنما لكم فيها
سهم كما للمسلمين.
قال: فلما فرغ على وانطلق من اليمن راجعا أمر علينا إنسانا، وأسرع هو وأدرك الحج،
فلما قضى حجته قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ارجع إلى أصحابك حتى تقدم
عليهم ".
قال أبو سعيد: وقد كنا سألنا الذى استخلفه ما كان على منعنا إياه ففعل، فلما عرف
في إبل الصدقة أنها قد ركبت، ورأى أثر الركب قدم الذى أمره ولامه.
فقلت: أما إن لله على لئن قدمت المدينة لاذكرن لرسول الله ولاخبرنه ما لقينا من
الغلظة والتضييق.
قال: فلما قدمنا المدينة غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد أن أفعل ما
كنت حلفت عليه، فلقيت أبا بكر خارجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما
رأني وقف معى ورحب بى وساءلني وساءلته.
وقال: متى قدمت ؟ فقلت قدمت، البارحة.
فرجع معى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل وقال: هذا سعد بن مالك بن
الشهيد.
فقال: ائذن له.
فدخلت فحييت رسول الله
وحياني، وأقبل على وساءلني عن نفسي وأهلي وأحفى المسألة، فقلت: يا رسول الله ما
لقينا من على من الغلظة وسوء الصحبة والتضييق.
فاتأد رسول الله، وجعلت أنا أعدد ما لقينا منه، حتى إذا كنت في وسط كلامي ضرب رسول
الله على فخذي، وكنت منه قريبا، وقال: " يا سعد بن مالك بن الشهيد، مه بعض
قولك لاخيك على، فوالله لقد علمت أنه أخشن في سبيل الله ".
قال: فقلت في نفسي: ثكلتك أمك سعد بن مالك، ألا أرانى كنت فيما يكره منذ اليوم ولا
أدرى ؟ ! لا جرم والله لا أذكره بسوء أبدا سرا ولا علانية.
وهذا إسناد جيد على شرط النسائي ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة.
* * * وقد قال يونس عن محمد بن إسحاق: حدثنى يحيى بن عبدالله بن أبى عمر، عن يزيد
بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: إنما وجد جيش على بن طالب الذين كانوا معه باليمن،
لانهم حين أقبلوا خلف عليهم رجلا وتعجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فعمد الرجل فكسا كل رجل حلة، فلما دنوا خرج عليهم على يستقبلهم، فإذا عليهم
الحلل.
قال على: ما هذا ؟ قالوا: كسانا فلان: قال: فما دعاك إلى هذا قبل أن تقدم على رسول
الله فيصنع ما شاء ؟ فنزع الحلل منهم.
فلما قدموا على رسول الله اشتكوه لذلك، وكانوا قد صالحوا رسول الله، وإنما بعث
عليا إلى جزية موضوعة.
قلت: هذا السياق أقرب من سياق البيهقى.
وذلك أن عليا سبقهم لاجل الحج وساق معه هديا وأهل بإهلال النبي
صلى الله عليه وسلم، فأمره أن
يمكث حراما.
وفى رواية البراء بن عازب أنه قال: له إنى سقت الهدى وقرنت.
والمقصود أن عليا لما كثر فيه القيل والقال من ذلك الجيش بسبب منعه إياهم استعمال
إبل الصدقة واسترجاعه منهم الحلل التى أطلقها لهم نائبه، وعلى معذور فيما فعل لكن
اشتهر الكلام فيه في الححيج، فلذلك - والله أعلم - لما رجع رسول الله صلى الله
عليه وسلم من حجته وتفرغ من مناسكه ورجع إلى المدينة فمر بغدير خم قام في الناس
خطيبا فبرأ ساحة على ورفع من قدره ونبه على فضله، ليزيل ما وقر في نفوس كثير من
الناس.
وسيأتى هذا مفصلا في موضعه إن شاء الله.
وبه الثقة.
* * *
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الواحد، عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة، حدثنى
عبدالرحمن بن أبى نعم، سمعت أبا سعيد الخدرى يقول: بعث على بن أبى طالب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل (1) من ترابها.
قال: فقسمها بين أربعة ; بين عيينة بن بدر، والاقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع
إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل.
فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء.
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا تأمنوني ؟ وأنا أمين من في
السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء ".
قال: فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق
__________
(1) الذهيبة: القطعة من الذهب.
والمقروظ: المدبوغ.
وتحصل: تخلص.
(*)
الرأس مشمر الازار فقال: يا
رسول الله اتق الله.
فقال: ويلك أو لست أحق الناس أن يتقى الله.
قال: ثم ولى الرجل.
قال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال: لا لعله أن يكون يصلى.
قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق
بطونهم.
قال ثم نظر إليه وهو مقف فقال: " إنه يخرج من ضئضئ (1) هذا قوم يتلون كتاب
الله رطبا لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " -
أظنه قال: لئن أدركتهم لاقتلنهم قتل ثمود.
وقد رواه البخاري في مواضع أخر من كتابه، ومسلم في كتاب الزكاة من صحيحه من طرق
متعددة إلى عمارة بن القعقاع به.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى، عن الاعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبى البخترى،
عن على، قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأنا حديث السن.
قال: فقلت: تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث ولا علم لى بالقضاء ؟ قال: " إن
الله سيهدي لسانك ويثبت قلبك " قال: فما شككت في قضاء بين اثنين.
ورواه ابن ماجه من حديث الاعمش به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شريك، عن سماك، عن حنش، عن على، قال:
بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن.
قال فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن منى وأنا حدث لا أبصر القضاء ؟
__________
(1) الضئضئ: الاصل.
(*)
قال فوضع يده على صدري وقال:
" اللهم ثبت لسانه واهد قلبه، يا على إذ جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى
تسمع من الآخر ما سمعت من الاول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك ".
قال: فما اختلف على قضاء بعد - أو ما أشكل على قضاء بعد.
ورواه أحمد أيضا وأبو داود من طرق، عن شريك، والترمذي من حديث زائدة كلاهما عن
سماك بن حرب، عن حنش بن المعتمر، وقيل ابن ربيعة الكنانى الكوفى، عن على به.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الاجلح، عن الشعبى، عن عبدالله ابن
أبى الخليل، عن زيد بن أرقم، أن نفرا وطئوا امرأة في طهر، فقال على لاثنين:
أتطيبان نفسا لذا (1) ؟ فقالا: لا.
فأقبل على الآخرين فقال: أتطيبان نفسا لذا ؟
فقالا: لا.
فقال: أنتم شركاء متشاكسون.
فقال: إنى مقرع بينكم، فأيكم قرع أغرمته ثلثى الدية وألزمته الولد.
قال: فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فقال: لا أعلم إلا ما قال على.
وقال أحمد: حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا هشيم، أنبأنا الاجلح، عن الشعبى، عن أبى
الخليل، عن زيد بن أرقم، أن عليا أتى في ثلاثة نفر إذ كان في اليمن اشتركوا في
ولد، فأقرع بينهم فضمن الذى أصابته القرعة ثلثى الدية وجعل الولد له.
قال زيد بن أرقم: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقضاء على، فضحك حتى بدت
نواجذه.
ورواه أبو داود عن مسدد، عن يحيى القطان، والنسائي عن على بن حجر،
__________
(1) ت: نفسا كما.
(*)
عن على بن مسهر، كلاهما عن
الاجلح بن عبدالله، عن عامر الشعبى، عن عبدالله بن الخليل.
وقال النسائي في رواية عبدالله بن أبى الخليل عن زيد بن أرقم.
قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل من أهل اليمن فقال: إن ثلاثة نفر
أتوا عليا يختصمون في ولد وقعوا على امرأة في طهر واحد.
فذكر نحو ما تقدم.
وقال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روياه - أعنى أبا داود والنسائي - من حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن الشعبى،
عن أبى الخليل أو ابن الخليل، عن على قوله.
فأرسله ولم يرفعه.
وقد رواه الامام أحمد أيضا، عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن الاجلح، عن
الشعبى، عن عبد خير، عن زيد بن أرقم.
فذكر نحو ما تقدم.
وأخرجه أبو داود والنسائي جميعا عن حنش بن أصرم، وابن ماجه عن إسحاق
ابن منصور، كلاهما عن عبد الرزاق، عن سفيان الثوري، عن صالح الهمداني، عن الشعبى،
عن عبد خير، عن زيد بن أرقم به..* * * قال شيخنا في الاطراف: لعل عبد خير هذا هو
عبدالله بن الخليل ولكن لم يضبط الراوى اسمه.
قلت: فعلى هذا يقوى الحديث وإن كان غيره كان أجود لمتابعته له، لكن الاجلح ابن
عبدالله الكندى فيه كلام ما.
وقد ذهب إلى القول بالقرعة في الانساب الامام أحمد وهو من أفراده.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا إسرائيل، حدثنا سماك، عن حنش،
عن على قال: بعثنى رسول الله
إلى اليمن فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية (1) للاسد، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ
سقط رجل فتعلق بآخر، ثم تعلق آخر (2) بآخر حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الاسد،
فانتدب له رجل بحربة فقتله وماتوا من جراحتهم كلهم.
فقام أولياء الاول إلى أولياء الآخر فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم على على
تعبية ذلك، فقال: تريدون أن تقاتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم حى ! إنى أقضى
بينكم قضاء إن رضيتم فهو القضاء وإلا حجز بعضكم عن بعض حتى تأتوا النبي صلى الله
عليه وسلم فيكون هو الذى يقضى بينكم، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له.
اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية وثلث الديه ونصف الدية والدية كاملة،
فللاول الربع لانه هلك، والثانى ثلث الدية، والثالث نصف الدية، والرابع الدية.
فأبوا أن يرضوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند مقام إبراهيم، فقصوا عليه
القصة.
فقال: أنا أحكم بينكم.
فقال رجل من القوم: يا رسول الله إن عليا قضى
فلينا.
فقصوا عليه القصة فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم رواه الامام أحمد أيضا عن وكيع، عن حماد بن سلمة، عن سماك بن حرب، عن حنش، عن
على.
فذكره.
__________
(1) الزبية: حفرة للاسد.
(2) ا: رجل بآخر.
(*)
كتاب حجة الوداع في سنة عشر
ويقال لها حجة البلاغ، وحجة الاسلام، وحجة الوداع لانه عليه الصلاة والسلام ودع
الناس فيها ولم يحج بعدها.
وسميت حجة الاسلام لانه عليه السلام لم يحج من المدينة غيرها، ولكن حج قبل الهجرة
مرات قبل النبوة وبعدها.
وقد قيل إن فريضة الحج نزلت عامئذ، وقيل سنة تسع.
وقيل سنة ست.
وقيل قبل الهجرة وهو غريب.
وسميت حجة البلاغ لانه عليه السلام بلغ الناس شرع الله في الحج قولا وفعلا، ولم
يكن بقى من دعائم الاسلام وقواعده شئ إلا وقد بينه عليه السلام، فلما بين لهم
شريعة الحج ووضحه وشرحه أنزل الله عزوجل عليه وهو واقف بعرفة: " اليوم أكملت
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " (1).
وسيأتى إيضاح هذا كله.
والمقصود ذكر حجته عليه السلام كيف كانت، فإن النقلة اختلفوا فيها اختلافا كثيرا
جدا، بحسب ما وصل إلى كل منهم من العلم، وتفاوتوا في ذلك تفاوتا كثيرا لا سيما من
بعد الصحابة رضى الله عنهم.
ونحن نورد بحمد الله وعونه وحسن توفيقه ما ذكره الائمة في كتبهم من هذه الروايات،
ونجمع بينها جمعا يثلج قلب من تأمله وأنعم النظر فيه وجمع بين طريقتي
الحديث وفهم معانيه إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
__________
(1) سورة المائدة 3.
(*)
وقد اعتنى الناس بحجة رسول
الله صلى الله عليه وسلم اعتناء كثيرا من قدماء الائمة ومتأخريهم.
وقد صنف العلامة أبو محمد بن حزم الاندلسي رحمه الله مجلدا في حجة الوداع أجاد في
أكثره، ووقع له فيه أوهام سننبه عليها في مواضعها.
وبالله المستعان.
باب بيان أنه عليه السلام لم يحج من المدينة إلا حجة واحدة وأنه اعتمر قبلها ثلاث
عمر كما رواه البخاري ومسلم عن هدبة، عن همام، عن قتادة، عن أنس، قال: اعتمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذى القعدة إلا التى في حجته.
الحديث وقد رواه يونس بن بكير، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، عن أبى هريرة مثله.
وقال سعد بن منصور عن الدراوردى، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: اعتمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عمر: عمرة في شوال، وعمرتين في ذى القعدة.
وكذا رواه ابن بكير عن مالك، عن هشام بن عروة.
وروى الامام أحمد من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله اعتمر ثلاث
عمر كلهن في ذى القعدة.
وقال أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا داود - يعنى العطار - عن عمرو، عن عكرمة، عن
ابن عباس، قال اعتمر رسول الله أربع عمر: عمرة الحديبية وعمرة القضاء والثالثة من
الجعرانة والرابعة التى مع حجته.
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث داود العطار وحسنه الترمذي.
وقد تقدم هذا الفصل عند عمرة
الجعرانة.
وسيأتى في فصل من قال إنه عليه السلام حج قارنا وبالله المستعان.
فالاولى من هذه العمر: عمرة الحديبية التى صد عنها.
ثم بعدها عمرة القضاء ويقال بل عمرة القصاص، ويقال عمرة القضية.
ثم بعدها عمرة الجعرانة مرجعه من الطائف، حين قسم غنائم حنين.
وقد قدمنا ذلك كله في مواضعه.
والرابعة عمرته مع حجته.
وسنبين اختلاف الناس في عمرته هذه مع الحجة، هل كان متمتعا، بأن أوقع العمرة قبل
الحجة وحل منها، أو منعه من الاحلال منها سوقه الهدى، أو كان قارنا لها مع الحجة.
كما نذكره من الاحاديث الدالة على ذلك، أو كان مفردا لها عن الحجة، بأن أوقعها بعد
قضاء الحجة.
قال: وهذا هو الذى يقوله من يقول بالافراد كما هو المشهور عن الشافعي.
وسيأتى بيان هذا عند ذكرنا إحرامه صلى الله عليه وسلم كيف كان مفردا أو متمتعا أو
قارنا.
قال البخاري: حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير، حدثنا أبو إسحاق، حدثنى زيد بن
أرقم، أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعد ما هاجر حجة
واحدة.
قال أبو إسحاق: وبمكة أخرى.
وقد رواه مسلم من حديث زهير، وأخرجاه من حديث شعبة.
زاد البخاري وإسرائيل ثلاثتهم عن أبى إسحاق عمرو بن عبدالله السبيعى، عن زيد به.
وهذا الذى قال أبو إسحاق من أنه عليه السلام حج بمكة حجة أخرى، إن أراد أنه
لم يقع منه بمكة إلا حجة
واحدة كما هو ظاهر لفظه، فهو بعيد.
فإنه عليه السلام كان بعد الرسالة يحضر مواسم الحج ويدعو الناس إلى الله ويقول:
" من رجل يؤوينى حتى أبلغ كلام ربى، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربى
عزوجل ".
حتى قيض الله له جماعة الانصار يلقونه ليلة العقبة، أي عشية يوم النحر عند جمرة
العقبة ثلاث سنين متتاليات، حتى إذا كانوا آخر سنة بايعوه ليلة العقبة الثانية،
وهى ثالث اجتماعهم به، ثم كانت بعدها الهجرة إلى المدينة.
كما قدمنا ذلك مبسوطا في موضعه.
والله أعلم.
وفى حديث جعفر بن محمد بن على بن الحسين، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله، قال: أقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس بالحج،
فاجتمع بالمدينة بشر كثير، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذى
القعدة أو لاربع، فلما كان بذى الحليفة صلى ثم استوى على راحلته، فلما أخذت به في
البيداء لبى وأهللنا لا ننوى إلا الحج.
وسيأتى الحديث بطوله.
وهو في صحيح مسلم، وهذا لفظ البيهقى من طريق أحمد بن حنبل، عن إبراهيم بن طهمان،
عن جعفر بن محمد به.
باب تاريخ خروجه عليه السلام
من المدينة لحجة الوداع بعد ما استعمل عليها أبا دجانة سماك بن خرشة الساعدي ويقال
سباع عن عرفطة الغفاري حكاهما عبدالملك بن هشام
قال محمد بن إسحاق: فلما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو القعدة من سنه
عشر تجهز للحج، وأمر الناس بالجهاز له.
فحدثني عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه القاسم بن محمد، عن عائشة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج لخمس ليال بقين من ذى
القعدة.
وهذا إسناد جيد.
ورواه الامام مالك في موطئه، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن عمرة، عن عائشة، ورواه
الامام أحمد عن عبدالله بن نمير، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن عمرة عنها.
وهو ثابت في الصحيحين وسنن النسائي وابن ماجه ومصنف ابن أبى شيبة، من طرق، عن يحيى
بن سعيد الانصاري، عن عمرة، عن عائشة، قالت: خرجنا مع رسول الله لخمس بقين من ذى
القعدة لا نرى إلا الحج.
الحديث بطوله كما سيأتي.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن أبى بكر المقدمى، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى
بن عقبة، أخبرني كريب عن ابن عباس، قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم
من المدينة بعد ما ترجل وادهن
ولبس إزاره ورداءه، ولم ينه عن شئ من الاردية ولا الازر إلا المزعفرة التى تردع
(1) على الجلد، فأصبح بذى الحليفة، ركب راحلته حتى استوى على البيداء، وذلك لخمس
بقين من ذى القعدة، فقدم مكة لخمس خلون من ذى الحجة.
تفرد به البخاري.
فقوله: " وذلك لخمس بقين من ذى القعدة " إن أراد به صبيحة يومه بذى
الحليفة صح قول ابن حزم في دعواه أنه عليه السلام خرج من المدينة يوم الخميس وبات
بذى الحليفة ليلة الجمعة.
وأصبح بها يوم الجمعة، وهو اليوم الخامس والعشرون من ذى القعدة.
وإن أراد ابن عباس بقوله " وذلك لخمس من ذى القعدة " يوم انطلاقه عليه
السلام من المدينة بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه، كما قالت عائشة وجابر
أنهم خرجوا من المدينة لخمس بقين من ذى القعدة، بعد قول ابن حزم وتعذر المصير إليه
وتعين القول بغيره، ولم ينطبق ذلك إلا على يوم الجمعة، إن كان شهر ذى القعدة
كاملا.
ولا يجوز أن يكون خروجه عليه السلام من المدينة كان يوم الجمعة، لما رواه البخاري:
حدثنا موسى بن اسماعيل، حدثنا وهيب، حدثنا أيوب، عن أبى قلابة، عن أنس ابن مالك،
قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذى
الحليفة ركعتين، ثم بات بها حتى أصبح ثم ركب حتى استوت به راحلته على البيداء، حمد
الله عزوجل وسبح [ وكبر ] (2) ثم أهل بحج وعمرة.
وقد رواه مسلم والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن
__________
(1) تردع: تغير اللون إلى الصفرة.
(2) من البخاري.
(*)
أبى قلابة، عن أنس بن مالك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذى الحليفة
ركعتين.
وقال أحمد: حدثنا عبدالرحمن عن سفيان، عن محمد - يعنى ابن المنكدر - وإبراهيم بن
ميسرة، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعا
والعصر بذى الحليفة ركعتين.
ورواه البخاري عن أبى نعيم، عن سفيان - هو الثوري - به، وأخرجه مسلم وأبو داود
والنسائي من حديث سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة عن أنس
به.
وقال أحمد: حدثنا محمد بن بكير، حدثنا ابن جريج، عن محمد بن المنكدر عن أنس قال: صلى
بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذى الحليفة
ركعتين، ثم بات بذى الحليفة حتى أصبح، فلما ركب راحلته واستوت به أهل.
وقال أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن محمد بن إسحاق، حدثنى محمد بن المنكدر
التيمى، عن أنس بن مالك الانصاري، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الظهر في مسجده بالمدينة أربع ركعات، ثم صلى بنا العصر بذى الحليفة ركعتين آمنا لا
يخاف في حجة الوداع.
تفرد به أحمد من هذين الوجهين، وهما على شرط الصحيح.
وهذا ينفى كون خروجه عليه السلام يوم الجمعة قطعا.
ولا يجوز على هذا أن يكون خروجه يوم الخميس، كما قال ابن حزم، لانه كان يوم الرابع
والعشرين من ذى القعدة، لانه لا خلاف أن أول ذى الحجة كان يوم الخميس، لما ثبت
بالتواتر والاجماع من أنه عليه السلام وقف بعرفة يوم الجمعة وهو تاسع ذى الحجة بلا
نزاع.
فلو كان خروجه يوم الخميس
الرابع والعشرين من ذى القعدة، لبقى في الشهر ست ليال قطعا، ليلة الجمعة والسبت
والاحد والاثنين والثلاثاء والاربعاء.
فهذه ست ليال.
وقد قال ابن عباس وعائشة وجابر أنه خرج لخمس بقين من ذى القعدة، وتعذر أنه يوم
الجمعة لحديث أنس، فتعين على هذا أنه عليه السلام خرج من المدينة يوم السبت، وظن
الراوى أن الشهر يكون تاما، فاتفق في تلك السنة نقصانه، فانسلخ يوم الاربعاء
واستهل شهر ذى الحجة ليلة الخميس.
ويؤيده ما وقع في رواية جابر: لخمس بقين أو أربع.
وهذا التقرير على هذا التقدير لا محيد عنه ولا بد منه.
والله أعلم.
باب صفة خروجه عليه السلام من المدينة إلى مكة للحج قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن
المنذر، حدثنا أنس بن عياض، عن عبيدالله، هو ابن عمر، عن نافع، عن عبدالله بن عمر،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج من طريق الشجرة ويدخل من طريق المعرس،
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج إلى مكة يصلى في مسجد الشجرة وإذا
رجع صلى بذى الحليفة ببطن الوادي وبات حتى يصبح.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: وجدت في كتابي عن عمرو بن مالك، عن يزيد بن زريع، عن
هشام، عن عزرة بن ثابت، عن ثمامة، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم: حج على
رحل رث وتحته قطيفة وقال: " حجة لا رياء فيها ولا سمعة ".
وقد علقه البخاري في صحيحه فقال: وقال محمد بن أبى بكر المقدمى، حدثنا يزيد بن
زريع، عن عزرة بن ثابت، عن
ثمامة قال: حج أنس على رحل رث ولم يكن شحيحا.
وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملته (1).
هكذا ذكره البزار والبخاري معلقا مقطوع الاسناد من أوله.
وقد أسنده الحافظ البيهقى في سننه فقال: أنبأنا أبو الحسن على بن محمد بن على
المقرئ، أنبأنا أبو الحسن على بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب القاضى،
حدثنا محمد بن أبى بكر، حدثنا يزيد بن زريع.
فذكره.
وقد رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده من وجه آخر، عن أنس بن مالك، فقال:
حدثنا على بن الجعد، أنبأنا الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشى، عن أنس، قال:
حج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوى - أو لا تساوى - أربعة
دراهم.
فقال: " اللهم حجة لا رياء فيها ".
وقد رواه الترمذي في الشمائل (2) من حديث أبى داود الطيالسي، وسفيان الثوري وابن
ماجه من حديث وكيع ابن الجراح، ثلاثتهم عن الربيع بن صبيح به.
وهو إسناد ضعيف من جهة يزيد بن أبان الرقاشى، فإنه غير مقبول الرواية عند الائمة.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم، حدثنا إسحاق بن سعيد، عن أبيه، قال: صدرت مع ابن
عمر فمرت بنا رفقة يمانية ورحالهم الادم وخطم إبلهم الخرز (3)، فقال عبدالله: من
أحب أن ينظر إلى أشبه رفقة وردت العام برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ
قدموا في حجة الوداع فينظر إلى هذه الرفقة.
__________
(1) الزاملة: البعير الذى يحمل عليه الطعام والمتاع.
(2) في باب ما جاء في تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشمائل 2 / 120 (3) الخرز: نبات من النجيل منظوم من أعلاه إلى أسفله.
(*)
ورواه أبو داود عن هناد، عن
وكيع، عن إسحاق، عن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، عن أبيه عن ابن عمر.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو طاهر الفقيه وأبو
زكريا بن أبى إسحاق وأبو بكر بن الحسن وأبو سعيد بن أبى عمرو: قالوا حدثنا أبو
العباس هو الاصم، أنبأنا محمد بن عبدالله بن الحكم، أنبأنا سعيد بن بشير القرشى،
حدثنا عبدالله بن حكيم الكنانى - رجل من أهل اليمن من مواليهم - عن بشر بن قدامة
الضبابى، قال: أبصرت عيناى حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات مع
الناس على ناقة له حمراء قصواء تحته قطيفة بولانية وهو يقول " اللهم اجعلها
حجة غير رياء ولا مباهاة ولا سمعة ".
والناس يقولون: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبدالله بن إدريس، حدثنا ابن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن
عبدالله بن الزبير عن أبيه، أن أسماء بنت أبى بكر قالت: خرجنا مع النبي صلى الله
عليه وسلم حجاجا حتى أدركنا بالعرج (1) نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلست
عائشة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلست إلى جنب أبى، وكانت زمالة (2)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمالة أبى بكر واحدة مع غلام أبى بكر فجلس أبو بكر
ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال: أين بعيرك ؟ فقال اضللته
البارحة.
فقال أبو بكر: بعير واحد تضله ! فطفق يضربه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم
ويقول: " انظروا إلى هذا المحرم وما يصنع ! ".
وكذا رواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل ومحمد بن عبد العزيز بن أبى رزمة.
وأخرجه ابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة، ثلاثتهم عن عبدالله بن إدريس به.
* * *
__________
(1) العرج: منزل بطريق مكة.
(2) الزمالة: المركوب والاداة، وما كان معهما في السفر.
النهاية 2 / 141.
(*)
فأما الحديث الذى رواه أبو
بكر البزار في مسنده قائلا: حدثنا إسماعيل بن حفص، حدثنا يحيى بن اليمان، حدثنا
حمزة الزيات، عن حمران بن أعين، عن أبى الطفيل عن أبى سعيد، قال: حج النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة قد ربطوا أوساطهم ومشيهم خلط
الهرولة.
فإنه حديث منكر ضعيف الاسناد، وحمزة بن حبيب الزيات ضعيف وشيخه متروك الحديث.
وقد قال البزار: لا يروى إلا من هذا الوجه، وإن كان إسناده
حسنا عندنا.
ومعناه أنهم كانوا في عمرة إن ثبت الحديث، لانه عليه السلام إنما حج حجة واحدة
وكان راكبا وبعض أصحابه مشاة.
قلت: ولم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في شئ من عمره ماشيا، لا في الحديبية ولا
في القضاء ولا الجعرانة ولا في حجة الوداع.
وأحواله عليه السلام أشهر وأعرف من أن تخفى على الناس، بل هذا الحديث منكر شاذ لا
يثبت مثله.
والله أعلم.
فصل تقدم أنه عليه السلام صلى الظهر بالمدينة أربعا، ثم ركب منها إلى الحليفة وهى
وادى العقيق (1) فصلى بها العصر ركعتين.
فدل على أنه جاء الحليفة نهارا في وقت العصر فصلى بها العصر قصرا، وهى من المدينة
على ثلاثة أميال، ثم صلى بها المغرب والعشاء وبات بها حتى أصبح فصلى بأصحابه
وأخبرهم أنه جاءه الوحى من الليل بما يعتمده في الاحرام.
__________
(1) وادى العقيق: قرب البقيع بينه وبين المدينة أربعة أميال.
(*)
كما قال الامام أحمد: حدثنا
يحيى بن آدم، حدثنا زهير، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبدالله بن عمر، عن عبدالله
بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أتى في المعرس من ذى الحليفة فقيل له:
إنك ببطحاء مباركة.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث موسى بن عقبة به.
وقال البخاري: حدثنا الحميدى، حدثنا الوليد وبشر بن بكر، قالا: حدثنا الاوزاعي،
حدثنا يحيى، حدثنى عكرمة، أنه سمع ابن عباس أنه سمع عمر (2) يقول: سمعت رسول الله
بوادي العقيق يقول: " أتانى الليلة آت من ربى فقال: صل في هذا
الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة ".
تفرد به دون مسلم.
فالظاهر أن أمره عليه السلام بالصلاة في وادى العقيق هو أمر بالاقامة به إلى أن
يصلى صلاة الظهر، لان الامر إنما جاءه في الليل وأخبرهم بعد صلاة الصبح، فلم يبق
إلا صلاة الظهر، فأمر أن يصليها هنالك وأن يوقع الاحرام بعدها.
ولهذا قال: أتانى الليلة آت من ربى عزوجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل
عمرة في حجة.
وقد احتج به على الامر بالقران في الحج، وهو من أقوى الادلة على ذلك.
كما سيأتي بيانه قريبا.
* * * والمقصود أنه عليه السلام أمر بالاقامة بوادي العقيق إلى صلاة الظهر، وقد
امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك، فأقام هنالك وطاف على نسائه في تلك الصبيحة وكن
تسع نسوة، وكلهن خرج معه، ولم يزل هنالك حتى صلى الظهر.
كما سيأتي في حديث
__________
(2) الاصل: ابن عمر.
وما أثبته عن صحيح البخاري.
(*)
أبى حسان الاعرج، عن ابن
عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بذى الحليفة، ثم أشعر بدنته، ثم
ركب فأهل.
وهو عند مسلم.
وهكذا قال الامام أحمد: حدثنا روح، حدثنا أشعث - هو ابن عبدالملك - عن الحسن، عن
أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا
شرف البيداء أهل.
ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، والنسائي عن إسحاق بن راهويه، عن
النضر بن شميل عن أشعث بمعناه، وعن أحمد بن الازهر، عن محمد بن عبدالله الانصاري،
عن أشعث أتم منه.
وهذا فيه رد على ابن حزم، حيث زعم أن ذلك في صدر النهار.
وله أن يعتضد بما رواه البخاري من طريق أيوب، عن رجل، عن أنس أن رسول الله بات بذى
الحليفة حتى أصبح، فصلى الصبح ثم ركب راحلته، حتى إذا استوت به البيداء أهل بعمرة
وحج.
ولكن في إسناده رجل مبهم والظاهر أنه أبو قلابة.
والله أعلم.
قال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن حبيب الحارثى، حدثنا خالد - يعنى ابن الحارث -
حدثنا شعبة، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، سمعت أبى يحدث عن عائشة أنها قالت:
كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يطوف على نسائه، ثم يصبح محرما ينضح
طيبا.
وقد رواه البخاري من حديث شعبة، وأخرجاه من حديث أبو عوانة.
ومسلم ومسعر وسفيان بن سعيد الثوري، أربعتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر به.
وفى رواية لمسلم عن إبراهيم
بن محمد بن المنتشر، عن أبيه قال: سألت عبدالله بن عمر عن الرجل يتطيب ثم يصبح
محرما.
قال: ما أحب أنى أصبح محرما أنضح طيبا، لان أطلى القطران (1) أحب إلى من أن أفعل
ذلك.
فقالت عائشة: أنا طيبت رسول الله عند إحرامه، ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرما.
وهذا اللفظ الذى رواه مسلم يقتضى أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتطيب قبل
أن يطوف على نسائه، ليكون ذلك أطيب لنفسه وأحب إليهن، ثم لما اغتسل
من الجنابة وللاحرام تطيب أيضا للاحرام طيبا آخر.
كما رواه الترمذي والبيهقي من حديث عبدالرحمن بن أبى الزناد عن أبيه عن خارجة بن
زيد بن ثابت، عن أبيه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تجرد لاهلاله واغتسل.
وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال الامام أحمد: حدثنا زكريا بن عدى أنبأنا عبيد الله بن عمرو، عن عبدالله بن محمد
بن عقيل، عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن
يحرم غسل رأسه بخطمى وأشنان (2) ودهنه بشئ من زيت غير كثير.
الحديث تفرد به أحمد.
وقال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله: أنبأنا سفيان بن عيينة، عن
عثمان بن عروة، سمعت أبى يقول: سمعت عائشة تقول: طيبت رسول الله صلى الله عليه
وسلم لحرمه ولحله قلت لها: بأى طيب ؟ قالت بأطيب الطيب.
وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة وأخرجه البخاري من حديث وهب عن
__________
(1) صحيح مسلم: بقطران حديث 1192.
(2) الخطمى والاشنان: نوعان من النبات.
(*)
هشام بن عروة، عن أخيه عثمان،
عن أبيه عروة عن عائشة به.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن عبدالرحمن بن القاسم عن
أبيه عن عائشة، قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه حين يحرم،
ولحله قبل أن يطوف بالبيت.
وقال مسلم: حدثنا عبد بن حميد، أنبأنا محمد بن أبى بكر: أنبأنا ابن جريج، أخبرني
عمر بن عبدالله بن عروة، أنه سمع عروة والقاسم يخبران عن عائشة قالت: طيبت رسول
الله بيدى بذريرة (1) في حجة الوداع للحل والاحرام.
وروى مسلم من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: طيبت رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيدى هاتين لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت.
وقال مسلم: حدثنى أحمد بن منيع، ويعقوب الدورقى قالا: حدثنا هشيم، أخبرنا منصور،
عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت أطيب النبي صلى الله عليه
وسلم قبل أن يحرم [ ويحل ] (2) ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك.
وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وزهير بن حرب (3)، قالا: حدثنا وكيع، حدثنا
الاعمش، عن أبى الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت: كأنى أنظر إلى وبيص المسك في
مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبى.
ثم رواه مسلم من حديث الثوري وغيره، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم،
__________
(3) الذريرة: نوع من الطيب: قال النووي: هي فتات قصب طيب يجاء به من الهند.
(1) ليست في صحيح مسلم.
كتاب الحج حديث رقم 1191 - ط الحلبي.
(2) في صحيح مسلم زيادة: وأبو سعيد الاشج قالوا.
الخ حديث 1190.
(*)
عن الاسود، عن عائشة قالت:
كأنى أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري ومسلم من حديث الاعمش، كلاهما عن منصور، عن
إبراهيم عن الاسود عنها.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة، عن الحكم بن إبراهيم، عن الاسود عن عائشة.
وقال أبو داود الطيالسي: أنبأنا أشعث، عن منصور، عن إبراهيم، عن الاسود
عن عائشة، قالت: كأنى أنظر إلى وبيص الطيب في أصول شعر رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو محرم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن إبراهيم النخعي، عن الاسود،
عن عائشة، قالت: كأنى أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم بعد
أيام وهو محرم.
وقال عبدالله بن الزبير الحميدى: حدثنا سفيان بن عيينة، حدثنا عطاء بن السائب، عن
إبراهيم النخعي، عن الاسود، عن عائشة، قالت: رأيت الطيب في مفرق رسول الله بعد
ثالثة وهو محرم.
* * * فهذه الاحاديث دالة على أنه عليه السلام تطيب بعد الغسل، إذ لو كان الطيب
قبل الغسل لذهب به الغسل ولما بقى له أثر، ولا سيما بعد ثلاثة أيام من يوم
الاحرام.
وقد ذهب طائفة من السلف منهم ابن عمر إلى كراهة التطيب عند الاحرام.
وقد روينا هذا الحديث من طريق ابن عمر عن عائشة، فقال الحافظ البيهقى: أنبأنا
أبو الحسين بن بشران - ببغداد
- أنبأنا أبو الحسن على بن محمد المصرى، حدثنا يحيى ابن عثمان بن صالح، حدثنا
عبدالرحمن بن أبى العمر، حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن
ابن عمر عن عائشة، أنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغالية الجيدة
عند إحرامه.
وهذا إسناد غريب عزيز المخرج.
ثم إنه عليه السلام لبد رأسه ليكون أحفظ لما فيه من الطيب وأصون له من استقرار
التراب والغبار.
قال مالك عن نافع، عن ابن عمر، أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال: " إنى
لبدت رأسي وقلدت هديى، فلا أحل حتى أنحر ".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، وله طرق كثيرة عن نافع.
وقال البيهقى: أنبأنا الحاكم، أنبأنا لاصم، أنبأنا يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا
عبيد الله بن عمر القواريرى، حدثنا عبدالاعلى، حدثنا محمد بن إسحاق، عن نافع، عن
ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبد رأسه بالعسل.
وهذا إسناد جيد.
ثم إنه عليه السلام أشعر الهدى وقلده (1) وكان معه بذى الحليفة.
قال الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، تمتع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدى من ذى الحليفة.
وسيأتى الحديث بتمامه، وهو في الصحيحين والكلام عليه إن شاء الله.
__________
(1) الاشعار: أن يجعل لها شعيرة، أي علامة تتميز بها.
والتقليد: إلباسها ما يعلم به أنها هدى.
(*)
وقال مسلم: حدثنا محمد بن
المثنى، حدثنا معاذ بن هشام - هو الدستوائى - حدثنى أبى، عن قتادة، عن أبى حسان،
عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى ذا الحليفة دعا بناقته
فأشعرها في صفحة سنامها الايمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته.
وقد رواه أهل السنن الاربعة، من طرق عن قتادة.
وهذا يدل على أنه عليه السلام تعاطى هذا الاشعار والتقليد بيده الكريمة في هذه
البدنة، وتولى إشعار بقية الهدى وتقليده غيره، فإنه قد كان معه هدى كثير (1)، إما
مائة بدنة أو أقل منها بقليل.
وقد ذبح بيده الكريمة ثلاثا وستين بدنة وأعطى عليا
فذبح ما غبر (2).
وفى حديث جابر أن عليا قدم من اليمن ببدن للنبى صلى الله عليه وسلم.
وفى سياق ابن إسحاق أنه عليه السلام أشرك عليا في بدنه والله أعلم.
وذكر غيره أنه ذبح هو وعلى يوم النحر مائة بدنة.
فعلى هذا يكون قد ساقها معه من ذى الحليفة، وقد يكون اشترى بعضها بعد ذلك وهو
محرم.
__________
(1) ج: كان هديا كثيرا.
(2) غير: بقى.
(*)
باب بيان الموضع الذى أهل منه
عليه السلام واختلاف الناقلين لذلك وترجيح الحق في ذلك ذكر من قال إنه عليه السلام
أحرم من المسجد الذى بذى الحليفة بعد الصلاة: تقدم الحديث الذى رواه البخاري من
حديث الاوزاعي، عن يحيى بن أبى كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن عمر، سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: أتانى آت من ربى فقال: صل في هذا
الوادي المبارك وقل عمرة في حجة.
وقال البخاري: باب الاهلال عند مسجد ذى الحليفة: حدثنا على بن عبدالله، حدثنا
سفيان، حدثنا موسى بن عقبة، سمعت سالم بن عبدالله.
ح.
وحدثنا عبدالله بن مسلمة، حدثنا مالك، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبدالله، أنه
سمع أباه يقول: ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد - يعنى
مسجد ذى الحليفة - وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجه، من طرق عن موسى بن عقبة.
وفى رواية لمسلم عن موسى بن عقبة، عن سالم ونافع وحمزة بن عبدالله بن عمر، ثلاثتهم
عن عبدالله بن عمر فذكره.
وزاد فقال: لبيك اللهم لبيك.
وفى رواية لهما من طريق مالك، عن موسى بن عقبة، عن سالم قال: قال عبدالله
ابن عمر: بيداؤكم هذه التى
تكذبون فيها (1) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أهل رسول الله [ إلا ] من
عند المسجد.
وقد روى عن ابن عمر خلاف هذا، كما يأتي في الشق الآخر.
وهو ما أخرجاه في الصحيحين من طريق مالك، عن سعيد بن أبى سعيد المقبرى، عن عبيد بن
جريج، عن ابن عمر.
فذكر حديثا فيه أن عبدالله قال: وأما الاهلال فإنى لم أر رسول الله صلى الله عليه
وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن ابن إسحاق، حدثنى خصيف ابن
عبدالرحمن الجزرى، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا العباس،
عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين أوجب ؟ ! فقال: إنى لاعلم الناس بذلك، إنما كانت من رسول الله صلى
الله عليه وسلم حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا، فلما صلى في مسجده بذى الحليفة ركعتيه
أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه قوم فحفظوا عنه، ثم
ركب، فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا
يأتون أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل، فقالوا: إنما أهل رسول الله حين
استقلت به ناقته.
ثم مضى رسول الله، فلما علا شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا:
__________
(1) المراد بالبيداء هنا: شرف أمام ذى الحليفة ; سميت بيداء لانه ليس فيها بناء
ولا أثر.
ومعنى تكذبون فيها: تنسبون إلى الرسول أنه أهل منها، ولم يفعل.
(*)
إنما أهل رسول الله حين علا
شرف البيداء، وايم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين
علا شرف البيداء.
فمن أخذ بقول عبدالله بن عباس [ أنه ] أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه - وقد رواه
الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن عبد السلام بن حرب، عن خصيف به نحوه.
وقال الترمذي: حسن غريب لا نعرف أحدا رواه غير عبد السلام.
كذا قال، وقد تقدم رواية الامام أحمد له من طريق محمد بن إسحاق عنه - وكذلك رواه
الحافظ البيهقى عن الحاكم عن القطيعى، عن عبدالله بن أحمد، عن أبيه ثم قال: خصيف
الجزرى غير قوى، وقد رواه الواقدي بإسناد له عن ابن عباس.
قال البيهقى: إلا أنه لا ينفع متابعة الواقدي، والاحاديث التى وردت في ذلك عن عمر
وغيره مسانيدها قوية ثابتة والله تعالى أعلم - قلت: فلو صح هذا الحديث لكان فيه
جمع لما بين الاحاديث من الاختلاف وبسط لعذر من نقل خلاف الواقع، ولكن في إسناده
ضعف.
ثم قد روى عن ابن عباس وابن عمر خلاف ما تقدم عنهما كما سننبه عليه ونبينه.
* * * وهكذا ذكر من قال إنه عليه السلام أهل حين استوت به راحلته.
قال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا هشام بن يوسف، أنبأنا ابن جريج،
حدثنى محمد بن المنكدر، عن أنس بن مالك، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم
بالمدينة أربعا وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذى الحليفة ; فلما ركب
راحلته واستوت به أهل.
وقد رواه البخاري ومسلم وأهل
السنن من طرق عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة، عن أنس.
وثبت في الصحيحين من حديث مالك، عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريج، عن ابن عمر
قال: وأما الاهلال فإنى لم أر رسول الله يهل حتى تنبعث به راحلته.
وأخرجا في الصحيحين من رواية ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، أن
رسول الله كان يركب راحلته بذى الحليفة ثم يهل حين تستوى به قائمة.
وقال البخاري: باب من أهل حين استوت به راحلته: حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن جريج،
أخبرني صالح بن كيسان، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أهل النبي صلى الله عليه وسلم
حين استوت به راحلته قائمة.
وقد رواه مسلم والنسائي من حديث ابن جريج به.
وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا على بن مسهر، عن عبيد الله، عن نافع،
عن ابن عمر، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضع رجله في الغرز (1)
وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذى الحليفة.
انفرد به مسلم من هذا الوجه، وأخرجاه من وجه آخر عن عبيد الله بن عمر، عن نافع
عنه.
ثم قال البخاري: باب الاهلال مستقبل القبلة:
قال أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر إذا صلى
الغداة بذى الحليفة أمر براحلته فرحلت ثم ركب، فإذا استوت به استقبل القبلة
__________
(1) الغرز: ركاب كور البعير.
(*)
قائما ثم يلبى حتى يبلغ
الحرم، ثم يمسك، حتى إذا جاء ذا طوى (1) بات به حتى يصبح، فإذا صلى الغداة اغتسل،
وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك.
ثم قال: تابعه إسماعيل، عن أيوب في الغسل.
وقد علق البخاري أيضا هذا الحديث في كتاب الحج، عن محمد بن عيسى، عن حماد ابن زيد،
وأسنده فيه عن يعقوب بن إبراهيم الدورقى، عن إسماعيل، هو ابن علية.
ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن إسماعيل، وعن أبى الربيع الزهراني وغيره، عن حماد
بن زيد، ثلاثتهم عن أيوب، عن أبى تميمة السختيانى به.
ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، عن إسماعيل بن علية به.
ثم قال البخاري: حدثنا سليمان أبو الربيع، حدثنا فليح، عن نافع، قال: كان ابن عمر
إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد ذى الحليفة
فيصلى ثم يركب، فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يفعل.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وروى مسلم عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن موسى بن عقبة، عن سالم عن أبيه، قال:
بيداؤكم هذه التى تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، والله ما أهل
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره.
وهذا الحديث يجمع بين رواية ابن عمر الاولى وهذه الروايات عنه، وهو أن الاحرام كان
من عند المسجد، ولكن بعد ما ركب راحلته واستوت به على البيداء،
يعنى الارض وذلك قبل أن يصل إلى المكان المعروف بالبيداء.
__________
(1) ذو طوى: موضع قرب مكة.
(*)
ثم قال البخاري في موضع آخر
(1): حدثنا محمد بن أبى بكر المقدمى، حدثنا فضيل ابن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة،
حدثنى كريب، عن عبدالله بن عباس، قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة
بعد ما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه، ولم ينه عن شئ من الاردية والازر
تلبس إلا المزعفرة التى تردع على الجلد، فأصبح بذى الحليفة، ركب راحلته حتى استوى
على البيداء أهل هو وأصحابه وقلد بدنه، وذلك لخمس بقين [ من ذى القعدة، فقدم مكة
لاربع ليال خلون (2) ] من ذى الحجة.
فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ولم يحل من أجل بدنه لانه قلدها، ثم نزل بأعلى
مكة عند الحجون وهو مهل بالحج ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة،
وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يقصروا من رؤوسهم ثم يحلوا،
وذلك لمن لم يكن معه بدنة قلدها، ومن كانت معه امرأته فهى له حلال والطيب والثياب.
انفرد به البخاري.
وقد روى الامام أحمد عن بهز بن أسد وحجاج وروح بن عبادة وعفان بن مسلم، كلهم عن
شعبة قال: أخبرني قتادة، قال سمعت أبا حسان الاعراج الاجرد، وهو مسلم ابن عبدالله
البصري، عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذى الحليفة، ثم
دعا ببدنته فأشعر صفحة سنامها الايمن وسلت (1) الدم عنها وقلدها نعلين، ثم دعا
براحلته، فلما استوت على البيداء أهل بالحج.
ورواه أيضا عن هشيم، أنبأنا أصحابنا منهم شعبة.
فذكر نحوه.
ثم رواه الامام أحمد أيضا عن روح وأبى داود الطيالسي ووكيع بن الجراح، كلهم
__________
(1) الحديث في باب ما لا يلبس المحرم من الثياب والاردية والازر.
صحيح البخاري 1 / 197 ط الاميرية (2) سقط من الاصل، وأثبتها من البخاري.
(3) سلت الدم: قشره حتى أظهر دمها.
(*)
عن هشام الدستوائى، عن قتادة
به، نحوه.
ومن هذا الوجه رواه مسلم في صحيحه وأهل السنن في كتبهم.
* * * فهذه الطرق عن ابن عباس من أنه عليه السلام أهل حين استوت به راحلته أصح
وأثبت من رواية خصيف الجزرى، عن سعيد بن جبير عنه.
والله أعلم.
وهكذا الرواية المثبتة المفسرة أنه أهل حين استوت به الراحلة مقدمة على الاخرى،
لاحتمال أنه أراد أنه أحرم من عند المسجد حين استوت به راحلته، وتكون رواية ركوبه
الراحلة فيها زيادة علم على الاخرى.
والله أعلم.
ورواية أنس في ذلك سالمة عن المعارض، وهكذا رواية جابر بن عبدالله في صحيح مسلم،
من طريق جعفر الصادق عن أبيه، عن أبى الحسين زين العابدين، عن جابر في حديثه
الطويل الذى سيأتي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به راحلته سالمة
عن المعارض.
والله أعلم.
وروى البخاري من طريق الاوزاعي، سمعت عطاء، عن جابر بن عبدالله، أن إهلال رسول
الله صلى الله عليه وسلم من ذى الحليفة حين استوت به راحلته.
فأما الحديث الذى رواه محمد بن إسحاق بن يسار، عن أبى الزناد، عن عائشة بنت سعد،
قالت: قال سعد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ طريق الفرع (1) أهل إذا
استقلت به راحلته، وإذا أخذ طريقا أخرى أهل إذا علا على شرف البيداء.
فرواه أبو داود والبيهقي من حديث ابن إسحاق وفيه غرابة ونكارة.
والله أعلم.
فهذه الطرق كلها دالة على القطع أو الظن الغالب أنه عليه السلام أحرم بعد الصلاة
وبعد ما ركب راحلته وابتدأت به السير.
زاد ابن عمر في روايته: وهو مستقبل القبلة.
__________
(1) الفرع: قرية بينها وبين المدينة ثمانية برد على طريق مكة.
(*)
باب بسط البيان لما أحرم به
عليه السلام في حجته هذه من الافراد أو التمتع أو القران ذكر الاحاديث الواردة
بأنه عليه السلام كان مفردا رواية عائشة أم المؤمنين في ذلك: قال أبو عبد الله
محمد بن إدريس الشافعي: أنبأنا مالك، عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.
ورواه مسلم عن إسماعيل، عن أبى أويس ويحيى بن يحيى، عن مالك.
ورواه الامام أحمد عن عبدالرحمن بن مهدى، عن مالك به.
وقال أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنى المنكدر بن محمد، عن ربيعة بن أبى عبد
الرحمن، عن القاسم بن محمد، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.
وقال الامام أحمد: حدثنا شريح، حدثنا ابن أبى الزناد، عن أبيه، عن عروة عن عائشة
وعن علقمة بن أبى علقمة عن أمه، عن عائشة، وعن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.
تفرد به أحمد من هذه الوجوه عنها.
وقال الامام أحمد: حدثنى عبدالاعلى بن حماد، قال: قرأت على مالك بن أنس،
عن أبى الاسود، عن عروة عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.
وقال: حدثنا روح، حدثنا مالك،
عن أبى الاسود محمد بن عبدالرحمن بن نوفل وكان يتيما في حجر عروة - عن عروة بن
الزبير عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج.
ورواه ابن ماجه عن أبى مصعب عن مالك كذلك.
ورواه النسائي عن قتيبة، عن مالك، عن أبى الاسود، عن عروة عن عائشة: أن رسول الله
أهل بالحج.
وقال أحمد أيضا: حدثنا عبدالرحمن، عن مالك، عن أبى الاسود، عن عروة عن عائشة،
قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل
بالعمرة، ومنا من أهل بالحج والعمرة، وأهل رسول الله بالحج ; فأما من أهل بالعمرة
فأحلوا حين طافوا بالبيت وبالصفا والمروة، وأما من أهل بالحج أو بالحج والعمرة فلم
يحلوا إلى يوم النحر.
وهكذا رواه البخاري عن عبدالله بن يوسف والقعينى وإسماعيل بن أبى أويس، عن مالك.
ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك به.
وقال أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أهل رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالحج وأهل ناس بالحج والعمرة، وأهل ناس بالعمرة ورواه مسلم عن ابن أبى
عمر، عن سفيان بن عيينة به نحوه.
* * * فأما الحديث الذى قال الامام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز
بن محمد، عن علقمة بن أبى علقمة، عن أمه، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمر الناس في حجة الوداع.
فقال: من أحب أن يبدأ بعمرة قبل الحج فليفعل.
وأفرد
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ولم يعتمر.
فإنه حديث غريب جدا، تفرد به
أحمد بن حنبل، وإسناده لا بأس به، ولكن لفظه فيه نكارة شديدة وهو قوله: " فلم
يعتمر ".
فإن أريد بهذا أنه لم يعتمر مع الحج ولا قبله هو قول من ذهب إلى الافراد.
وإن أريد أنه لم يعتمر بالكلية لا قبل الحج ولا معه ولا بعده، فهذا مما لا أعلم
أحدا من العلماء قال به.
ثم هو مخالف لما صح عن عائشة وغيرها من أنه صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر
كلهن في ذى القعدة إلا التى مع حجته.
وسيأتى تقرير هذا في فصل القران مستقصى.
والله أعلم.
وهكذا الحديث الذى رواه الامام أحمد قائلا في مسنده: حدثنا روح، حدثنا صالح بن أبى
الاخضر، حدثنا ابن شهاب، أن عروة أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم
قالت: أهل رسول الله بالحج والعمرة في حجة الوداع وساق معه الهدى، وأهل ناس معه
بالعمرة وساقوا الهدى، وأهل ناس بالعمرة ولم يسوقوا هديا.
قالت عائشة: وكنت ممن أهل بالعمرة ولم أسق هديا.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قال ]: من كان منكم أهل بالعمرة فساق معه
الهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ولا يحل منه شئ حرم منه حتى يقضى حجه وينحر
هديه يوم النحر، ومن كان منكم أهل بالعمرة ولم يسق معه هديا فليطف بالبيت وبالصفا
والمروة ثم ليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في
الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله.
قالت عائشة: فقدم رسول الله الحج الذى خاف فوته وأخر العمرة.
فهو حديث من أفراد الامام أحمد، وفى بعض ألفاظه نكارة.
ولبعضه شاهد في الصحيح، وصالح بن أبى الاخضر ليس من علية أصحاب الزهري، لا سيما
إذا خالفه غيره
كما هاهنا، في بعض ألفاظ سياقه هذا.
وقوله: " فقدم الحج الذى
يخاف فوته وأخر العمرة " لا يلتئم مع أول الحديث: " أهل بالحج والعمرة
".
فإن أراد أنه أهل بهما في الجملة وقدم أفعال الحج، ثم بعد فراغه أهل بالعمرة كما
يقوله من ذهب إلى الافراد، فهو مما نحن فيه هاهنا.
وإن أراد أنه أخر العمرة بالكلية بعد إحرامه بها، فهذا لا أعلم أحدا من العلماء
صار إليه.
وإن أراد أنه اكتفى بأفعال الحج عن أفعال العمرة ودخلت العمرة في الحج، فهذا قول
من ذهب إلى القران، وهم يؤولون قول من روى أنه عليه الصلاة والسلام أفرد الحج أي
أفرد أفعال الحج وإن كان قد نوى معه العمرة.
قالوا: لانه قد روى القران كل من روى الافراد كما سيأتي بيانه.
والله تعالى أعلم.
* * * رواية جابر بن عبدالله في الافراد قال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا
الاعمش، عن أبى سفيان، عن جابر ابن عبدالله، قال: أهل رسول الله صلى الله عليه
وسلم في حجته بالحج.
إسناده جيد على شرط مسلم.
ورواه البيهقى عن الحاكم وغيره، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبى معاوية،
عن الاعمش، عن أبى سفيان عن جابر، قال: أهل رسول الله في حجته بالحج ليس معه عمرة.
وهذه الزيادة غريبة جدا.
ورواية الامام أحمد بن حنبل أحفظ.
والله أعلم.
وفى صحيح مسلم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر، قال: وأهللنا بالحج لسنا
نعرف العمرة.
وقد روى ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن الدراوردى وحاتم بن إسماعيل،
كلاهما عن جعفر بن محمد، عن
أبيه عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج، وهذا إسناد جيد.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الوهاب الثقفى، حدثنا حبيب - يعنى المعلم - عن عطاء
حدثنى جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هو وأصحابه بالحج ليس
مع أحد منهم هدى إل