ج4.كتاب السيرة النبوية لابن كثير
يستكمل من قبله في الصفحة السابقة=
= فنزل
فيهم " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا
غرورا ".
وهذا حديث غريب.
* * * وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا هارون بن ملول، حدثنا أبو عبد
الرحمن، حدثنا عبدالرحمن بن زياد، عن عبدالله بن يزيد، عن عبدالله بن عمرو، قال:
لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق فخندق على المدينة قالوا: يا رسول
الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها.
فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب به ضربة
وكبر، فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط فقال: فتحت فارس.
ثم ضرب أخرى فكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال: فتحت الروم.
ثم ضرب أخرى فكبر فسمعت هدة لم أسمع مثلها قط، فقال: جاء الله بحمير أعوانا
وأنصارا.
وهذا أيضا غريب من هذا الوجه.
وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم الافريقى فيه ضعف فالله أعلم.
وقال الطبراني أيضا: حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل، حدثنى سعيد بن محمد الجرمى
حدثنا أبو نميلة، حدثنا نعيم بن سعيد الغرى، أن عكرمة حدث عن ابن عباس قال: احتفر
رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق، وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من
الجوع، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هل دللتم على رجل يطعمنا
أكلة ؟ قال رجل: نعم.
قال: أما لا فتقدم فدلنا عليه.
فانطلقوا إلى [ بيت ] الرجل، فإذا هو في الخندق يعالج نصيبه منه، فأرسلت امرأته أن
جئ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتانا.
فجاء الرجل يسعى وقال: بأبى وأمى.
وله معزة (13 - السيرة 3)
ومعها
جديها فوثب إليها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الجدى من ورائها فذبح الجدى،
وعمدت المرأة إلى طحينة لها فعجنتها وخبزت فأدركت القدر فثردت قصعتها فقربتها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعه
فيها
وقال: بسم الله اللهم بارك فيها اطعموا.
فأكلوا منها حتى صدروا ولم يأكلوا منها إلا ثلثها وبقى ثلثاها.
فسرح أولئك العشرة الذين كانوا معه أن اذهبوا وسرحوا إلينا بعدتكم.
فذهبوا فجاء أولئك العشرة فأكلوا منها حتى شبعوا، ثم قام ودعا لربة البيت وسمت (1)
عليها وعلى أهل بيتها، ثم مشوا إلى الخندق فقال: اذهبوا بنا إلى سلمان، وإذا صخرة
بين يديه قد ضعف عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوني فأكون أول من
ضربها.
فقال: بسم الله.
فضربها فوقعت فلقة ثلثها فقال: الله أكبر قصور الشام ورب الكعبة، ثم ضرب أخرى
فوقعت فلقة فقال: الله أكبر قصور فارس ورب الكعبة.
فقال عندها المنافقون: نحن نخندق على أنفسنا وهو يعدنا قصور فارس والروم.
ثم قال الحافظ البيهقى: أخبرنا على بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار،
حدثنا محمد بن غالب بن حرب، حدثنا هوذة، حدثنا عوف، عن ميمون بن أستاذ الزهري،
حدثنى البراء بن عازب الانصاري، قال: لما كان حين أمرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بحفر الخندق عرض لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة لا تأخذ فيها المعاول،
فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآها أخذ المعول وقال: بسم الله
وضرب ضربة فكسر ثلثها وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام والله إنى لابصر قصورها
الحمر إن شاء الله، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح
فارس والله إنى لابصر قصر المدائن الابيض، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله فقطع
بقية الحجر فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن.
والله إنى لابصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة.
__________
(1) سمت: ذكر الله.
(*)
وهذا
حديث غريب أيضا تفرد به ميمون بن أستاذ هذا، وهو بصرى روى عن
البراء و عبدالله بن عمرو، وعنه حميد الطويل والجريري وعوف الاعرابي.
قال أبو حاتم عن إسحاق بن منصور عن ابن معين: كان ثقة.
وقال على بن المدينى: كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه.
وقال النسائي: حدثنا عيسى بن يونس، حدثنا ضمرة، عن أبى زرعة السيبانى، عن أبى
سكينة رجل من البحرين، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر،
فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق وقال: " وتمت
كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم " فندر ثلث الحجر،
وسلمان الفارسى قائم ينظر فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة، ثم ضرب
الثانية وقال: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم
".
فندر الثلث الآخر وبرقت برقة فرآها سلمان، ثم ضرب الثالثة وقال: " وتمت كلمة
ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ".
فندر الثلث الباقي.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ رداءه وجلس.
فقال سلمان: يا رسول الله رأيتك حين ضربت لا تضرب ضربة إلا كانت معها برقة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان رأيت ذلك ؟ قال: إى والذى بعثك بالحق
يا رسول الله.
قال: فإنى حين ضربت الضربة الاولى رفعت لى مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة، حتى
رأيتها بعينى.
فقال له من حضره من أصحابه: يا رسول الله ادع [ الله ] أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم
ونخرب بأيدينا بلادهم.
فدعا بذلك.
قال: ثم ضربت الضربة الثانية، فرفعت لى مدائن قيصر وما حولها حتى رأيتها
بعينى.
قالوا: يا رسول الله ادع الله أن يفتحها علينا ويغنمنا ذراريهم ونخرب بأيدينا
بلادهم.
فدعا.
ثم قال: ثم ضربت الضربة الثالثة فرفعت لى مدائن الحبشة وما حولها من القرى حتى
رأيتها بعينى.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوا الحبشة ما ودعوكم واتركوا الترك
ما تركوكم ".
هكذا رواه النسائي مطولا، وإنما روى منه أبو داود: " دعوا الحبشة ما ودعوكم
واتركوا الترك ما تركوكم " عن عيسى بن محمد الرملي، عن ضمرة بن ربيعة، عن أبى
زرعة يحيى بن أبى عمرو السيبانى (1) به.
ثم قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن أبى هريرة أنه كان يقول حين فتحت هذه
الامصار في زمان عمر وزمان عثمان وما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فوالذي نفس أبى
هريرة بيده ما افتتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله
محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
وهذا من هذا الوجه منقطع أيضا، وقد وصل من غير وجه ولله الحمد.
فقال الامام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، حدثنى عقيل بن خالد، عن ابن شهاب، عن
سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الارض
فوضعت في يدى ".
وقد رواه البخاري منفردا به، عن يحيى بن بكير، وسعد بن عفير، كلاهما عن الليث به.
وعنده قال أبو هريرة: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تنتثلونها.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى
__________
(1) نسبة إلى سيبان، بطن من حمير، توفى أبو زرعة سنة 148، وكان ثقة.
اللباب 1 / 585.
(*)
هريرة،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نصرت بالرعب، وأوتيت جوامع
الكلم وجعلت لى الارض مسجدا وطهورا، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الارض فتلت
في يدى ".
وهذا إسناد جيد قوى على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وفى الصحيحين: " إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده،
والذى نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله ".
وفى الحديث الصحيح: " إن الله زوى لى الارض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك
أمتى ما زوى لى منها ".
فصل قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق أقبلت قريش
حتى نزلت بمجتمع الاسيال من رومة بين الجرف وزغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن
تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد حتى نزلوا بذنب
نقمي (1) إلى جانب أحد.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع (2) في
ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره، والخندق بينه وبين القوم، وأمر
بالذرارى والنساء فجعلوا فوق الآطام (3).
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
قلت: وهذا معنى قوله تعالى (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار
وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا.
(4) ".
__________
(1) موضع من أعراض المدينة.
(2) سلع: جبل بالمدينة.
(3) الآطام: الحصون.
(4) سورة الاحزاب 10.
(*)
قال
البخاري: حدثنا عثمان بن أبى شيبة، حدثنا عبيد، عن هشام بن عروة، عن
أبيه، عن عائشة: " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار
".
قالت: ذلك يوم الخندق.
* * * قال موسى بن عقبة: ولما نزل الاحزاب حول المدينة أغلق بنو قريظة حصنهم
دونهم.
قال ابن إسحاق: وخرج حيى بن أخطب النضرى حتى أتى كعب بن أسد القرظى صاحب عقدهم
وعهدهم.
فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيى، فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له، فناداه:
ويحك يا كعب افتح لى.
قال: ويحك يا حيى، إنك امرؤ مشئوم، وإنى قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بينى وبينه،
ولم أر منه إلا وفاء وصدقا.
قال: ويحك افتح لى أكلمك.
قال: ما أنا بفاعل.
قال: والله إن أغلقت دوني إلا خوفا على جشيشتك (1) أن آكل معك منها فأحفظ الرجل
ففتح له، فقال: ويحك يا كعب ! جئتك بعز الدهر وبحر طام.
قال: وما ذاك ؟ قال: جئتك بقريش على قادتها وسادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الاسيال
من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمي إلى جانب أحد، قد
عاهدوني وعاقدونى على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه.
فقال كعب: جئتني والله بذل الدهر وبجهام (2) قد هراق ماؤه يرعد ويبرق وليس فيه شئ،
ويحك يا حيى فدعني وما أنا عليه، فإنى لم أر من محمد إلا وفاء وصدقا.
__________
(1) ابن هشام: إلا عن جشيشتك.
والجشيشة: طعام يصنع من البر الذى طحن غليظا.
(2) الجهام: السحاب الذى لا ماء فيه.
(*)
وقد
تكلم عمرو بن سعد القرظى، فأحسن فيما ذكره موسى بن عقبة، ذكرهم ميثاق رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعهده ومعاقدتهم إياه على نصره، وقال: إذا لم
تنصروه فاتركوه وعدوه.
قال ابن إسحاق: فلم يزل حيى بكعب يفتله في الذروة والغارب حتى سمع له، يعنى في نقض
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى محاربته مع الاحزاب، على أن أعطاه حيى عهد
الله وميثاقه لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى
يصيبني ما أصابك.
فنقض كعب بن أسد العهد وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال موسى بن عقبة: وأمر كعب بن أسد وبنو قريظة حيى بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش
وغطفان رهائن تكون عندهم لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمدا، قالوا:
وتكون الرهائن تسعين رجلا من أشرافهم.
فنازلهم حيى على ذلك.
فعند ذلك نقضوا العهد ومزقوا الصحيفة التى كان فيها العقد إلا بنى سعنة، أسد وأسيد
وثعلبة، فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * قال ابن إسحاق: فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى
المسلمين بعث سعد بن معاذ، وهو يومئذ سيد الاوس، وسعد بن عبادة وهو يومئذ سيد
الخزرج، ومعهما عبدالله بن رواحة وخوات بن جبير قال: انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء
القوم فتنظروا أحق ما بلغنا عنهم، فإن كان حقا فالحنوا لى لحنا أعرفه ولا تفتوا في
أعضاد المسلمين وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس.
قال: فخرجوا حتى أتوهم.
قال
موسى بن عقبة، فدخلوا معهم حصنهم فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف فقالوا: الآن
وقد كسر جناحنا وأخرجهم، يريدون بنى النضير.
ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم فأغضبوه فقال
له سعد بن معاذ: إنا
والله ما جئنا لهذا، ولما بيننا أكبر من المشاتمة.
ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال: إنكم قد علمتم الذى بيننا وبينكم يا بنى قريظة، وأنا
خائف عليكم مثل يوم بنى النضير أو أمر منه.
فقالوا: أكلت أير أبيك.
فقال: غير هذا من القول كان أجمل بكم وأحسن.
وقال ابن إسحاق: نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: من رسول الله ؟ لا
عهد بيننا وبين محمد.
فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة، فقال له سعد ابن عبادة: دع عنك
مشاتمتهم، لما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة.
ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ثم
قالوا: عضل والقارة.
أي كغدرهم بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر أبشروا يا معشر المسلمين.
قال موسى بن عقبة: ثم تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه حين جاءه الخبر عن
بنى قريظة، فاضطجع ومكث طويلا، فاشتد على الناس البلاء والخوف حين رأوه اضطجع،
وعرفوا أنه لم يأته عن بنى قريظة خير.
ثم إنه رفع رأسه وقال: أبشروا بفتح الله ونصره.
فلما أن أصبحوا دنا القوم بعضهم من بعض وكان بينهم رمى بالنبل والحجارة.
قال سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنى أسألك عهدك
ووعدك، اللهم إن تشأ لا تعبد.
* * *
قال
ابن إسحاق وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم،
حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير أخو بنى عمرو بن عوف:
كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر،
وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ! وحتى قال أوس بن قيظى: يا رسول الله
إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملا من رجال قومه، فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا
فإنها خارج من المدينة.
قلت: هؤلاء وأمثالهم المرادون بقوله تعالى: " وإذ يقول المنافقون والذين في
قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا
مقام لكم فارجعوا، ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن
يريدون إلا فرارا ".
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مرابطا، وأقام المشركون
يحاصرونه بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بينهم حرب إلا الرميا بالنبل.
فلما اشتد على الناس البلاء بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثنى عاصم بن
عمر بن قتادة، ومن لا أتهم، عن الزهري، إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المرى،
وهما قائدا غطفان وأعطاهما ثلث ثمار المدينة، على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن
أصحابه، فجرى بينه وبينهم الصلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح،
إلا المراوضة.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بعث إلى السعدين فذكر لهما
ذلك، واستشارهما فيه.
فقالا: يا رسول الله أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به لابد لنا من العمل
به، أم شيئا تصنعه لنا ؟
فقال:
بل شئ أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لانى رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة
وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما.
فقال له سعد بن معاذ: يارسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الاوثان،
لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو
بيعا، أفحين أكرمنا الله بالاسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا ؟
مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم !
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت وذاك.
فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
* * * قال: فأقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محاصرين، ولم يكن بينهم وبين
عدوهم قتال إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ود بن أبى قيس، أحد بنى عامر
بن لؤى، وعكرمة بن أبى جهل، وهبيرة بن أبى وهب المخزوميان، وضرار بن الخطاب ابن
مرداس أحد بنى محارب بن فهر، تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل
بنى كنانة فقالوا: تهيأوا يا بنى كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم.
ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق فلما رأوه قالوا: والله إن هذه
لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السبخة
بين الخندق وسلع، وخرج على بن أبى طالب في نفر معه من المسلمين حتى أخذوا عليه
الثغرة التى أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم.
وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أحد،
فلما
كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما خرج هو وخيله قال: من يبارز ؟ فبرز له
على بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال له: يا عمرو إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل
من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه.
قال: أجل.
قال له على:
فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الاسلام.
قال: لا حاجة لى بذلك.
قال: فإنى أدعوك إلى النزال.
قال له: لم يا بن أخى، فوالله ما أحب أن أقتلك ! قال له على: لكنى والله أحب أن
أقتلك.
فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه، ثم أقبل على على فتنازلا
وتجاولا فقتله على رضى الله عنه.
وخرجت خيلهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة.
قال ابن إسحاق وقال على بن أبى طالب في ذلك: نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب
محمد بصواب فصدرت حين تركته متجدلا * كالجذع بين دكادك (1) وروابي وعففت عن أثوابه
ولو اننى * كنت المقطر بزنى أثوابي لا تحسبن الله خاذل دينه * ونبيه يا معشر
الاحزاب قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلى.
قال ابن هشام: وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو، فقال في ذلك حسان بن
ثابت: فر وألقى لنا رمحه * لعلك عكرم لم تفعل ووليت تعدو كعدو الظلي * م ما إن
يحور عن المعدل ولم تلو ظهرك مستأنسا * كأن قفاك قفا فرعل قال ابن هشام: الفراعل:
صغار الضباع.
__________
(1) الدكادك: جمع دكداك، وهو الرمل اللين.
(*)
وذكر
الحافظ البيهقى في دلائل النبوة عن ابن إسحاق في موضع آخر من السيرة قال: خرج عمرو
بن عبد ود وهو مقنع بالحديد فنادى: من يبارز ؟ فقام على بن أبى طالب فقال: أنا لها
يا نبى الله.
فقال: إنه عمرو، اجلس.
ثم نادى عمرو: ألا رجل
يبرز ؟ فجعل يؤنبهم ويقول: أين جنتكم التى تزعمون أنه من قتل منكم دخلها ؟ أفلا
تبرزون إلى رجلا ؟ فقام على فقال: أنا يا رسول الله ؟ فقال: اجلس.
ثم نادى الثالثة فقال: ولقد بححت من الندا * ء لجمعهم: هل من مبارز ووقفت إذ جبن
المشجع موقف القرن المناجز ولذاك إنى لم أزل * متسرعا قبل الهزاهز (1) إن الشجاعة
في الفتى * والجود من خير الغرائز قال: فقام على رضى الله عنه فقال: يا رسول الله
أنا.
فقال: إنه عمرو، فقال: وإن كان عمرا ! فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فمشى
إليه حتى أتى وهو يقول: لا تعجلن فقد أتا * ك مجيب صوتك غير عاجز في نية وبصيرة *
والصدق منجى كل فائز إنى لارجو أن أقي * م عليك نائحة الجنائز من ضربة نجلاء يبقى
ذكرها عند الهزاهز فقال له عمرو: من أنت ؟ قال: أنا على، قال: ابن عبد مناف ؟ قال:
أنا على بن أبى طالب.
فقال: يابن أخى من أعمامك من هو أسن منك فإنى أكره أن أهريق دمك ؟ فقال له على:
لكنى والله لا أكره أن أهريق دمك ! فغضب فنزل وسل سيفه كأنه
__________
(1) الهزاهز: الدواهي والشدائد.
(*)
شعلة
نار، ثم أقبل نحو على مغضبا واستقبله على بدرقته، فضربه عمرو في درقته فقدها وأثبت
فيها السيف وأصاب رأسه فشجه، وضربه علي على حبل عاتقه فسقط، وثار العجاج، وسمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرفنا أن عليا قد قتله، فثم يقول على:
أعلى تقتحم الفوارس هكذا * عنى وعنهم أخروا أصحابي اليوم يمنعنى الفرار حفيظتي *
ومصمم في الرأس ليس بنابى إلى أن قال: عبد الحجارة من سفاهة رأيه * وعبدت رب محمد
بصواب إلى آخرها.
قال: ثم أقبل على نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه يتهلل، فقال له عمر بن
الخطاب: هلا استلبته درعه، فإنه ليس للعرب درع خير منها ؟ فقال: ضربته فاتقاني
بسوأته، فاستحييت ابن عمى أن أسلبه.
قال: وخرجت خيوله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق.
* * * وذكر ابن إسحاق فيما حكاه عن البيهقى، أن عليا طعنه في ترقوته حتى أخرجها من
مراقه، فمات في الخندق، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون
جيفته بعشرة آلاف، فقال: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى وقال الامام أحمد: حدثنا نصر
بن باب، حدثنا حجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، أنه قال: قتل المسلمون يوم
الخندق رجلا من المشركين فأعطوا بجيفته مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية " فلم يقبل منهم
شيئا.
وقد
رواه البيهقى من حديث حماد بن سلمة، عن حجاج، وهو ابن أرطاة، عن الحكم، عن مقسم،
عن ابن عباس: أن رجلا من المشركين قتل يوم الاحزاب فبعثوا إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن ابعث إلينا بجسده ونعطيهم اثنى عشر ألفا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا خير في جسده ولا في ثمنه ".
وقد رواه الترمذي من حديث سفيان الثوري، عن ابن أبى ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن
ابن عباس، وقال: غريب.
وقد ذكر موسى بن عقبة أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد نوفل بن عبدالله المخزومى
حين قتل وعرضوا عليه الدية فقال: " إنه خبيث خبيث الدية، فلعنه الله ولعن
ديته.
فلا أرب لنا في ديته، ولسنا نمنعكم أن تدفنوه ".
وذكر يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: وخرج نوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزومى
فسأل المبارزة، فخرج إليه الزبير بن العوام فضربه فشقه باثنتين، حتى فل في سيفه
فلا وانصرف وهو يقول: إنى امرؤ أحمى وأحتمى * عن النبي المصطفى الامي وقد ذكر ابن
جرير أن نوفلا لما تورط في الخندق رماه الناس بالحجارة فجعل يقول: قتلة أحسن من
هذه يا معشر العرب.
فنزل إليه علي فقتله، وطلب المشركون رمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثمن
فأبى عليهم أن يأخذ منهم شيئا ومكنهم من أخذه إليهم.
وهذا غريب من وجهين.
وقد روى البيهقى من طريق حماد بن يزيد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبدالله بن
الزبير، قال: جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الاطم ومعى عمر بن أبى سلمة،
فجعل يطأطئ لى فأصعد على ظهره فأنظر قال: فنظرت إلى أبى وهو يحمل
مرة
هاهنا ومرة هاهنا، فما يرتفع له شئ إلا أتاه، فلما أمسى جاءنا إلى الاطم، قلت: يا
أبت رأيتك اليوم وما تصنع.
قال: ورأيتني يا بنى ؟ قلت: نعم.
قال: فدى لك أبى وأمى ! * * *
قال ابن إسحاق: وحدثني أبو ليلى، عبدالله بن سهل بن عبدالرحمن بن سهل الانصاري أخو
بنى حارثة، أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بنى حارثة يوم الخندق، وكان من أحرز
حصون المدينة.
قال: وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن.
قالت عائشة.
وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب.
قالت: فمر سعد وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفى يده حربته يرفل بها
ويقول: لبث قليلا يشهد الهيجا حمل (1) * لا بأس بالموت إذا حان الاجل ! فقالت له
أمه: الحق بنى فقد والله أخرت.
قالت عائشة: فقلت لها: يا أم سعد والله لوددت أن درع سعد كانت أسبغ مما هي.
قالت: وخفت عليه حيث أصاب السهم منه.
فرمى سعد بن معاذ بسهم فقطع منه الاكحل.
قال ابن إسحاق: حدثنى عاصم بن عمر بن قتادة، قال: رماه حبان بن قيس بن العرقة أحد
بنى عامر بن لؤى، فلما أصابه قال: خذها منى وأنا ابن العرقة.
فقال له سعد: عرق الله وجهك في النار، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني
لها، فإنه لا قوم أحب إلى أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه.
اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لى شهادة ولا تمتنى حتى تقر عينى
من بنى قريظة.
__________
(1) الاصل: جمل وهو تحريف.
وقد مر هذا الشطر في صفحة 82 من هذا الجزء.
وانظر فيها تخريجه.
قال في تاج العروس 7 / 290: وقد تمثل به سعد بن معاذ يوم الخندق.
(*)
قال
ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن عبدالله بن كعب بن مالك، أنه كان يقول: ما أصاب
سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشمى حليف بنى مخزوم، وقد قال أبو أسامة في ذلك شعرا
قاله لعكرمة بن أبى جهل: أعكرم هلا لمتنى إذ تقول لى * فداك بآطام المدينة خالد
ألست الذى ألزمت سعدا مريشة * لها بين أثناء المرافق عاند (1) قضى نحبه منها سعيد
فأعولت * عليه مع الشمط العذارى النواهد وأنت الذى دافعت عنه وقد دعا * عبيدة جمعا
منهم إذ يكابد على حين ما هم جائر عن طريقه * وآخر مرعوب عن القصد قاصد قال ابن
إسحاق: والله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن هشام: ويقال إن الذى رمى سعدا خفاجة بن عاصم بن حبان.
قلت: وقد استجاب الله دعوة وليه سعد بن معاذ في بنى قريظة، أقر الله عينه فحكم
فيهم بقدرته وتيسيره، وجعلهم هم الذين يطلبون ذلك.
كما سيأتي بيانه.
فحكم بقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد
حكمت فيهم بحكم الله فوق سبع أرقعة (2).
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد
قال: كانت صفية بنت عبدالمطلب في فارع، حصن حسان بن ثابت.
قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف
بالحصن، وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وليس بيننا
__________
(1) عند العرق: سال فلم يرقأ.
(2) الا رقعة: السماوات، جمع رقيع.
ورواية الصحيح: سبع سماوات.
(*)
وبينهم
أحد يدفع عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون
أن ينصرفوا عنهم إلينا، إذ أتانا آت فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف
بالحصن، وإنى والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود، وقد شغل رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله.
قال: يغفر الله لك يا بنت
عبدالمطلب ! والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
قالت: فلما قال لى ذلك ولم أر عنده شيئا، احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت من الحصن
إليه فضربته بالعمود حتى قتلته فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان انزل
فاستلبه فإنه لم يمنعنى من سلبه إلا أنه رجل.
قال: مالى بسلبه حاجة يابنة عبد المطلب (1) ! * * * قال موسى بن عقبة: وأحاط
المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل الحصن من كتائبهم، فحاصروهم قريبا من عشرين
ليلة، وأخذوا بكل ناحية، حتى لا يدرى أتم (2) أم لا.
قال: ووجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة فقاتلوهم يوما إلى
الليل، فلما حانت صلاة العصر دنت الكتيبة فلم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا
أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا، فانكفأت
الكتيبة مع الليل، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " شغلونا عن
صلاة العصر ملا الله بطونهم وقلوبهم، وفى رواية: وقبورهم، نارا ".
__________
(1) ذكر السهيلي أن بعض العلماء دفع هذا وأنكره وذلك أنه حديث منقطع الاسناد.
وقال: لو صح هذا لهجن به حسان، فإنه كان يهاجن الشعراء وكانوا يناقضونه ويردون
عليه، فما عيره أحد منهم بجبن ولا وسمه به.
فدل هذا على ضعف حديث ابن إسحاق.
الروض 2 / 194.
(2) كذا بالاصل.
(14 - السيرة 3) (*)
فلما
اشتد البلاء نافق ناس كثير وتكلموا بكلام قبيح.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم
ويقول: " والذى نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة، وإنى لارجو أن أطوف
بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله إلى مفاتيح الكعبة، وليهلكن الله كسرى وقيصر
ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله ! ".
وقد قال البخاري: حدثنا إسحاق، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن محمد، عن عبيدة (1)، عن
على، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق: " ملا الله عليهم
بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ".
وهكذا رواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن هشام بن حسان، عن محمد ابن
سيرين، عن عبيدة، عن على به.
ورواه مسلم والترمذي من طريق سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن أبى حسان الاعرج، عن
عبيدة، عن على به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
ثم قال البخاري: حدثنا المكى بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن يحيى، عن أبى سلمة، عن
جابر بن عبدالله، أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب
كفار قريش وقال: يا رسول الله ما كدت أن أصلى حتى كادت الشمس أن تغرب قال النبي
صلى الله عليه وسلم: " والله ما صليتها " فنزلنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم بطحان (2) فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، ثم
صلى بعدها المغرب.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم والترمذي والنسائي من طرق، عن يحيى بن أبى كثير، عن
أبى سلمة به.
__________
(1) عبيدة بفتح العين وكسر الموحدة، ابن عمرو السلمانى الكوفى، كما ضبطه
القسطلانى.
إرشاد السارى 6 / 326 (2) بطحان: واد بالمدينة.
(*)
وقال
الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت، حدثنا هلال، عن عكرمة،
عن ابن عباس، قال: قاتل النبي صلى الله عليه وسلم عدوا فلم يفرغ منهم حتى أخر
العصر عن وقتها، فلما رأى ذلك قال: " اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى فاملا
بيوتهم نارا، واملا قبورهم نارا ".
ونحو ذلك تفرد به أحمد، وهو من رواية هلال بن خباب العبدى الكوفى، وهو ثقة يصحح له
الترمذي وغيره.
* * * وقد استدل طائفة من العلماء بهذه الاحاديث على كون الصلاة الوسطى هي صلاة
العصر، كما هو منصوص عليه في هذه الاحاديث، وألزم القاضى الماوردى مذهب الشافعي
بهذا لصحة الحديث.
وقد حررنا ذلك نقلا واستدلالا عند قوله تعالى: " حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى وقوموا لله قانتين (1) ".
وقد استدل طائفة بهذا الصنيع على جواز تأخير الصلاة لعذر القتال، كما هو مذهب
مكحول والاوزاعي.
وقد بوب البخاري ذلك واستدل بهذا الحديث وبقوله صلى الله عليه وسلم يوم أمرهم
بالذهاب إلى بنى قريظة - كما سيأتي -: " لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة
" وكان من الناس من صلى العصر في الطريق، ومنهم من لم يصل إلا في بنى قريظة
بعد الغروب، ولم يعنف واحدا من الفريقين، واستدل بما ذكره عن الصحابة ومن معهم في
حصار تستر سنة عشرين في زمن عمر، حيث صلوا الصبح بعد طلوع الشمس لعذر القتال
واقتراب فتح الحصن.
__________
(1) سورة البقرة آية 238.
(*)
وقال
آخرون من العلماء وهم الجمهور، منهم الشافعي: هذا الصنيع يوم الخندق
منسوخ بشرعية صلاة الخوف بعد ذلك، فإنها لم تكن مشروعة إذ ذاك فلهذا أخروها يومئذ.
وهو مشكل.
قال ابن إسحاق: وجماعة ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف
بعسفان، وقد ذكرها ابن إسحاق وهو إمام في المغازى قبل الخندق، وكذلك ذات الرقاع
ذكرها قبل الخندق.
فالله أعلم.
وأما الذين قالوا: إن تأخير الصلاة يوم الخندق وقع نسيانا، كما حكاه شراح مسلم عن
بعض الناس، فهو مشكل، إذ يبعد أن يقع هذا من جمع كبير مع شدة حرصهم على محافظة
الصلاة، كيف وقد روى أنهم تركوا يومئذ الظهر والعصر والمغرب حتى صلوا الجميع في
وقت العشاء، من رواية أبى هريرة وأبى سعيد.
قال الامام [ أحمد ]: حدثنا يزيد وحجاج، قالا: حدثنا ابن أبى ذئب، عن المقبرى، عن
عبدالرحمن بن أبى سعيد الخدرى، عن أبيه.
قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوى من الليل حتى كفينا.
وذلك قوله: " وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا " قال:
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأمره فأقام فصلى الظهر كما كان يصليها
في وقتها، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء
فصلاها كذلك وذلك قبل أن ينزل.
قال حجاج: في صلاة الخوف " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ".
وقد رواه النسائي عن الفلاس، عن يحيى القطان، عن ابن أبى ذئب به.
قال: شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس.
فذكره.
وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أبو الزبير، عن نافع بن جبير، عن أبى عبيدة بن
عبدالله بن مسعود، عن أبيه أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
الخندق
عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله.
قال: فأمر بلالا فأذن ثم أقام
فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا مؤمل يعنى ابن إسماعيل،
حدثنا حماد، يعنى ابن سلمة، عن عبد الكريم، يعنى ابن أبى المخارق، عن مجاهد، عن
جابر بن عبدالله، أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل يوم الخندق عن صلاة الظهر
والعصر والمغرب والعشاء، فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى الظهر، ثم أمره فأذن وأقام
فصلى العصر، ثم أمره فأذن وأقام فصلى المغرب، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العشاء.
ثم قال: " ما على وجه الارض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم ".
تفرد به البزار، وقال: لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد رواه بعضهم عن عبد الكريم عن مجاهد عن أبى عبيدة عن عبدالله.
فصل في دعائه عليه السلام على الاحزاب وكيف صرفهم الله بحوله وقوته، استحبابا
لرسوله صلى الله عليه وسلم وصيانة لحوزته الشريفة، فزلزل قلوبهم، ثم أرسل عليهم
الريح الشديدة فزلزل أبدانهم.
قال الامام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا الزبير - يعنى ابن عبدالله - حدثنا ربيح
بن أبى سعيد الخدرى، عن أبيه، قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شئ نقوله
؟ فقد بلغت القلوب الحناجر ! قال: " نعم: اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا
".
قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالريح.
وقد رواه ابن أبى حاتم في تفسيره عن أبيه، عن أبى عامر - وهو العقدى (1) - عن
__________
(1) هو أبو عامر عبدالملك بن عمرو العقدى.
يروى عن شعبة.
اللباب 2 / 144.
(*)
الزبير
بن عبد الله مولى عثمان بن عفان، عن ربيح بن عبدالرحمن بن أبى سعيد، عن أبيه، عن
أبى سعيد، فذكره وهذا هو الصواب.
وقال الامام أحمد: حدثنا حسين، عن ابن أبى ذئب، عن رجل من بنى سلمة، عن جابر بن
عبدالله، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد الاحزاب فوضع رداءه وقام ورفع يديه
مدا يدعو عليهم ولم يصل.
قال: ثم جاء ودعا عليهم وصلى.
وثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبى خالد، عن عبدالله بن أبى أوفى قال: دعا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الاحزاب فقال: " اللهم منزل الكتاب سريع
الحساب اهزم الاحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم " وفى رواية: اللهم اهزمهم
وانصرنا عليهم.
وروى البخاري عن قتيبة، عن الليث، عن سعيد المقبرى عن أبيه، عن أبى هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " لا إله إلا الله وحده، أعز جنده ونصر
عبده وغلب الاحزاب وحده، فلا شئ بعده ".
* * * وقال ابن إسحاق: وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما وصف الله
من الخوف والشدة لتظاهر عدوهم عليهم وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم.
قال: ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة ابن
أشجع بن ريث بن غطفان، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنى
قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامى، فمرنى بما شئت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن
استطعت، فإن الحرب خدعة ".
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بنى قريظة، وكان لهم نديما في الجاهلية، فقال: يا بنى
قريظة قد عرفتم ودى إياكم وخاصة ما بينى وبينكم.
قالوا: صدقت لست عندنا بمتهم.
فقال
لهم: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا
تقدرون على أن تتحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب
محمد وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم ونساؤهم وأموالهم بغيره، فليسوا كأنتم
فإن رأوا نهزة أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل
ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا
من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه.
قالوا: لقد أشرت بالرأى.
ثم خرج حتى أتى قريشا، فقال لابي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: قد عرفتم ودى
لكم وفراقي محمدا، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت على حقا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا
عنى.
قالوا: نفعل.
قال: تعلموا أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا
إليه: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين من قريش
وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقى منهم حتى
تستأصلهم.
فأرسل إليهم: أن نعم.
فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا
واحدا.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إنكم أصلى وعشيرتي وأحب الناس إلى ولا
أراكم تتهموني.
قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
قال: فاكتموا عنى.
قالوا: نفعل ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.
فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس، وكان من صنيع الله تعالى لرسوله صلى الله
عليه وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل
في نفر من قريش وغطفان، فقال لهم: إنا لسنا بدار مقام، هلك الخف والحافر،
فأعدوا
للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه.
فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، وهم يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه
بعضنا حدثا فأصابهم ما لم
يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم
يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم
القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا ولا طاقة لنا بذلك منه.
فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: والله إن الذى حدثكم
نعيم بن مسعود لحق.
فأرسلوا إلى بنى قريظة: إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فإن كنتم
تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قريظة حين انتهت إليهم الرسل بهذا: إن الذى ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق،
ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا فإن رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى
بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم.
فأرسلوا إلى قريش وغطفان: إنا والله ما نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا.
فأبوا عليهم وخذل الله بينهم وبعث الله الريح في ليلة (1) شاتية شديدة البرد،
فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم.
* * * وهذا الذى ذكره ابن إسحاق من قصة نعيم بن مسعود أحسن مما ذكره موسى بن عقبة.
وقد أورده عنه البيهقى في الدلائل، فإنه ذكر ما حاصله: أن نعيم بن مسعود كان يذيع
ما يسمعه من الحديث، فاتفق أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم
__________
(1) ابن هشام: ليال.
(*)
عشاء،
فأشار إليه أن تعال.
فجاء فقال: ما وراءك ؟ فقال: إنه قد بعثت قريش وغطفان إلى بنى قريظة يطلبون منهم
أن يخرجوا إليهم فيناجزوك، فقالت قريظة: نعم فأرسلوا
إلينا بالرهن.
وقد ذكر فيما تقدم: أنهم إنما نقضوا العهد على يدى حيى بن أخطب بشرط أن يأتيهم
برهائن تكون عندهم توثقة.
قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى مسر إليك شيئا فلا تذكره.
قال: إنهم قد أرسلوا إلى يدعونني إلى الصلح وأرد بنى النضير إلى دورهم وأموالهم.
فخرج نعيم بن مسعود عامدا إلى غطفان.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحرب خدعة وعسى أن يصنع الله لنا
".
فأتى نعيم غطفان وقريشا فأعلمهم، فبادر القوم وأرسلوا إلى بنى قريظة عكرمة وجماعة
معه، واتفق ذلك ليلة السبت، يطلبون منهم أن يخرجوا للقتال معهم فاعتلت اليهود
بالسبت، ثم أيضا طلبوا الرهن توثقة فأوقع الله بينهم واختلفوا.
قلت: وقد يحتمل أن تكون قريظة لما يئسوا من انتظام أمرهم مع قريش وغطفان بعثوا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدون منه الصلح على أن يرد بنى النضير إلى
المدينة.
والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما اختلف من
أمرهم وما فرق الله من جمعهم، دعا حذيفة بن اليمان فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم
ليلا.
قال ابن اسحاق: فحدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظى قال: قال رجل من أهل
الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبدالله أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وصحبتموه ؟ قال: نعم يابن أخى.
قال: فكيف كنتم تصنعون ؟ قال: والله لقد كد نجتهد.
قال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشى على الارض ولحملناه على أعناقنا !
قال:
فقال حذيفة: يابن أخى والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق،
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال:
من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع ؟ فشرط له رسول الله صلى الله عليه
وسلم الرجعة، أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة.
فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني، فلم يكن لى
بد من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون
ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا.
قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا
ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه.
قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذى كان إلى جنبى فقلت: من أنت ؟ قال فلان بن فلان،
ثم قال: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف
وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذى نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن
لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنى مرتحل.
ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله
إلا وهو قائم.
ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى: لا تحدث شيئا حتى تأتيني.
لقتلته بسهم.
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلى في مرط لبعض
نسائه مرحل، فلما رأني أدخلني إلى رجليه وطرح على طرف المرط، ثم ركع وسجد وإنى
لفيه، فلما سلم أخبرته الخبر.
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
وهذا منقطع من هذا الوجه.
وقد روى هذا الحديث مسلم بن الحجاج في صحيحه، من حديث الاعمش عن إبراهيم
ابن
يزيد التيمى عن أبيه، قال: كنا عند حذيفة فقال له رجل: لو أدركت رسول الله صلى
الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت.
فقال له حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك ؟ لقد
رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الاحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معى يوم
القيامة ؟ فلم يجبه منا أحد، ثم الثانية ثم الثالثة مثله.
ثم قال: يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم، فلم أجد بدا إذ دعاني باسمى أن أقوم، فقال:
ائتنى بخبر القوم ولا تذعرهم على.
قال: فمضيت كأنما أمشى في حمام حتى أتيتهم، فإذا أبو سفيان يصلى ظهره بالنار،
فوضعت سهما في كبد قوسى وأردت أن أرميه ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا تذعرهم على.
ولو رميته لاصبته، فرجعت كأنما أمشى في حمام، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأصابني البرد حين رجعت وقررت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسنى من
فضل عباءة كانت عليه يصلى فيها، فلم أبرح نائما حتى الصبح، فلما أن أصبحت قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: قم يا نومان ! * * * وقد روى الحاكم والحافظ البيهقى في
الدلائل هذا الحديث مبسوطا من حديث عكرمة بن عمار، عن محمد بن عبدالله الدؤلى، عن
عبد العزيز بن أخى حذيفة قال: ذكر حذيفة مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال جلساؤه: أما والله لو كنا شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا.
فقال حذيفة: لا تمنوا ذلك، لقد رأيتنا ليلة الاحزاب ونحن صافون قعود، وأبو سفيان
ومن معه فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا ليلة قط
أشد ظلمة ولا أشد ريحا منها في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهى ظلمة ما يرى أحدنا
إصبعه.
فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي
بعورة.
فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له، ويأذن لهم ويتسللون، ونحن ثلاثمائة أو نحو ذلك،
إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا رجلا حتى أتى على وما على جنة
من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، قال: فأتاني وأنا جاث على
ركبتي فقال: من هذا ؟ فقلت: حذيفة.
فقال: حذيفة ! فتقاصرت للارض فقلت: بلى يا رسول الله.
كراهية أن أقوم.
فقمت فقال: إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم.
قال: وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرا.
قال: فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم احفظه من بين يديه
ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته " قال: فوالله ما خلق الله
فزعا ولا قرا في جوفى إلا خرج من جوفى فما أجد فيه شيئا ! قال: فلما وليت قال: يا
حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني.
قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم
يقول بيديه على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل.
ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد
قوسى لارميه به في ضوء النار، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحدثن
فيهم شيئا حتى تأتيني.
فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي، ثم إنى شجعت نفسي حتى دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس
منى بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم.
وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبرا، فوالله إنى لاسمع صوت الحجارة في
رحالهم وفرشهم، الريح تضرب بها، ثم إنى خرجت نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما انتصفت بى الطريق أو نحو من ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك
معتمين فقالوا: أخبر صاحبك أن الله قد كفاه.
قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلى، فوالله
ما
عدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف، فأومأ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيده وهو يصلى، فدنوت منه فأسبل على شملته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا حزبه أمر صلى.
فأخبرته خبر القوم، أخبرته أنى تركتهم يرحلون.
قال: وأنزل الله تعالى: " يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ
جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا
" يعنى الآيات كلها إلى قوله: " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا
خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا " أي صرف الله عنهم
عدوهم بالريح التى أرسلها عليهم والجنود من الملائكة وغيرهم التى بعثها الله إليهم
" وكفى الله المؤمنين القتال " أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم بل
صرفهم القوى العزيز بحوله وقوته.
لهذا ثبت في الصحيحين عن أبى هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصره عبده، وأعز جنده، وهزم الاحزاب وحده،
فلا شئ بعده ".
* * * وفى قوله: " وكفى الله المؤمنين القتال " إشارة إلى وضع الحرب
بينهم وبينهم.
وهكذا وقع، ولم ترجع قريش بعدها إلى حرب المسلمين، كما قال محمد بن إسحاق رحمه
الله: فلما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما
بلغنا: " لن تغزوكم قريش بعد عامكم ولكنكم تغزونهم ".
قال: فلم تغز قريش بعد ذلك، وكان يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله عليه مكة.
وهذا بلاغ من ابن إسحاق.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا يحيى عن سفيان، حدثنى أبو إسحاق، سمعت سليمان ابن صرد
رضى الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن نغزوهم ولا يغزوننا.
وهكذا
رواه البخاري من حديث إسرائيل وسفيان الثوري كلاهما عن أبى إسحاق
السبيعى، عن سليمان بن صرد به.
قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم الخندق ثلاثة من بنى عبد الاشهل، وهم سعد
بن معاذ - وستأتى وفاته مبسوطة - وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو، وعبد الله بن سهل،
والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة الجشميان السلميان، وكعب بن زيد النجارى،
أصابه سهم غرب فقتله.
قال: وقتل من المشركين ثلاثة وهم: منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار،
أصابه سهم فمات منه بمكة، ونوفل بن عبدالله بن المغيرة اقتحم الخندق بفرسه فتورط
فيه فقتل هناك وطلبوا جسده بثمن كبير.
كما تقدم.
وعمرو بن عبد ود العامري، قتله على بن أبى طالب.
قال ابن هشام: وحدثني الثقة أنه حدث عن الزهري أنه قال: قتل على يومئذ عمرو بن عبد
ود وابنه حسل بن عمرو.
قال ابن هشام: ويقال عمرو بن عبد ود.
ويقال عمرو بن عبد.
فصل
في غزوة بنى قريظة وما أحل الله تعالى بهم من البأس الشديد مع ما أعد الله لهم في
الآخرة من العذاب الاليم.
وذلك لكفرهم ونقضهم العهود التى كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وممالاتهم الاحزاب عليه، فما أجدى ذلك عنهم شيئا، وباءوا بغضب من الله ورسوله
والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة.
وقد قال الله تعالى: " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى
الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا * وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب
من
صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا.
وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطأوها، وكان الله على كل شئ قديرا (1)
".
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا عبدالله، حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم
ونافع، عن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من الغزو والحج
والعمرة يبدأ فيكبر ثم يقول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله
الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله
وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده ".
* * * قال محمد بن إسحاق رحمه الله: ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف
عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون ووضعوا السلاح.
__________
(1) سورة الاحزاب 25 - 27 (*)
فلما
كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثنى الزهري، معتجرا
بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج، فقال: أوقد وضعت
السلاح يا رسول الله ؟ قال: نعم.
فقال جبريل: ما وضعت الملائكة السلاح بعد وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله
يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن في الناس: من كان سامعا مطيعا فلا
يصلين العصر إلا في بنى قريظة.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
وقال البخاري: حدثنى عبدالله بن أبى شيبة، حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن
عائشة قالت: لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح
واغتسل أتاه جبريل فقال: قد وضعت السلاح ! والله ما وضعناه ! فاخرج إليهم، قال: فإلى
أين ؟ قال: ها هنا.
وأشار إلى بنى قريظة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد: وحدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الاحزاب دخل المغتسل ليغتسل، وجاء
جبريل فرأيته من خلل البيت قد عصب رأسه الغبار، فقال: يا محمد أوضعتم أسلحتكم ؟
فقال: وضعنا أسلحتنا، فقال: إنا لم نضع أسلحتنا بعد، انهد إلى بنى قريظة.
ثم قال البخاري: حدثنا موسى، حدثنا جرير بن حازم، عن حميد بن هلال، عن أنس بن مالك
قال: كأنى أنظر إلى الغبار ساطعا في زقاق بنى غنم موكب جبريل، حين سار رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى بنى قريظة.
ثم قال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية بن أسماء، عن
نافع،
عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاحزاب: " لا يصلين
أحد العصر إلا في بنى قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا
نصلى العصر حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلى لم يرد منا ذلك.
فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.
وهكذا رواه مسلم عن عبدالله بن محمد بن أسماء به.
وقال الحافظ البيهقى: حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضى
قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن خالد بن على، حدثنا بشر بن
حرب، عن أبيه، حدثنا الزهري، أخبرني عبدالرحمن بن عبدالله بن كعب بن مالك، أن عمه
عبيدالله أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من طلب الاحزاب وضع عنه
اللامة واغتسل واستحم، فتبدى له جبريل عليه السلام فقال: عذيرك من محارب !
ألا أراك قد وضعت اللامة وما وضعناها بعد ! قال: فوثب النبي صلى الله عليه وسلم
فزعا فعزم على الناس ألا يصلوا صلاة العصر إلا في بنى قريظة.
قال: فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بنى قريظة حتى غربت الشمس، فاختصم الناس عند
غروب الشمس، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم علينا ألا نصلى حتى
نأتى بنى قريظة، فإنما نحن في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس علينا إثم.
وصلى طائفة من الناس احتسابا، وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس فصلوها حين
جاءوا بنى قريظة احتسابا.
فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين.
ثم روى البيهقى من طريق عبدالله العمرى، عن أخيه عبيدالله، عن القاسم بن محمد، عن
عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عندها فسلم علينا رجل ونحن في (15 -
السيرة 3)
لبيت،
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعا وقمت في أثره فإذا بدحية الكلبى، قال: هذا
جبريل أمرنى أن أذهب إلى بنى قريظة وقال: قد وضعتم السلاح لكنا لم نضع، طلبنا
المشركين حتى بلغنا حمراء الاسد.
وذلك حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، فقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم فزعا وقال لاصحابه: عزمت عليكم ألا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا بنى
قريظة، فغربت الشمس قبل أن يأتوهم، قالت طائفة من المسلمين: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لم يرد أن تدعوا الصلاة فصلوا.
وقالت طائفة: والله إنا لفى عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علينا من إثم.
فصلت ؟ طائفة إيمانا واحتسابا وتركت طائفة إيمانا واحتسابا، ولم يعنف رسول الله
صلى الله عليه وسلم واحدا من الفريقين.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمر بمجالس بينه وبين بنى قريظة فقال: هل مر
بكم أحد ؟ فقالوا: مر علينا دحية الكلبى على بغلة
شهباء تحته قطيفة ديباج.
فقال: ذلك جبريل أرسل إلى بنى قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب.
فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه أن يستروه بالحجف (1) حتى يسمع
كلامهم، فناداهم: يا إخوة القردة والخنازير.
فقالوا: يا أبا القاسم لم تكن فحاشا.
فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وكانوا حلفاءه، فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم
وتسبى دراريهم ونساؤهم.
ولهذا الحديث طرق جيدة عن عائشة وغيرها.
* * * وقد اختلف العلماء في المصيب من الصحابة يومئذ من هو ؟ بل الاجماع على أن
كلا من الفريقين مأجور ومعذور غير معنف.
__________
(1) الحجف: جمع حجفة.
وهى الترس من جلد بلا خشب ولا عقب.
(*)
فقالت
طائفة من العلماء: الذين أخروا الصلاة يومئذ عن وقتها المقدر لها حتى صلوها في بنى
قريظة هم المصيبون، لان أمرهم يومئذ بتأخير الصلاة خاص، فيقدم على عموم الامر بها
في وقتها المقدر لها شرعا.
قال أبو محمد بن حزم الظاهرى في كتاب السيرة: وعلم الله أنا لو كنا هناك لم نصل
العصر إلا في بنى قريظة ولو بعد أيام ! وهذا القول منه ماش على قاعدته الاصلية في
الاخذ بالظاهر.
وقالت طائفة أخرى من العلماء: بل الذين صلوا الصلاة في وقتها لما أدركتهم وهم في
مسيرهم هم المصيبون، لانهم فهموا أن المراد إنما هو تعجيل السير إلى بنى قريظة لا
تأخير الصلاة، فعملوا بمقتضى الادلة الدالة على أفضلية الصلاة في أول وقتها، مع
فهمهم عن الشارع ما أراد، ولهذا لم يعنفهم ولم يأمرهم بإعادة الصلاة في وقتها التى
حولت إليه يومئذ
كما يدعيه أولئك، وأما أولئك الذين أخروا فعذروا بحسب ما فهموا، وأكثر ما كانوا
يؤمرون بالقضاء وقد فعلوه.
وأما على قول من يجوز تأخير الصلاة لعذر القتال، كما فهمه البخاري حيث احتج على
ذلك بحديث ابن عمر المتقدم في هذا، فلا إشكال على من أخر ولا على من قدم أيضا.
والله أعلم.
* * * ثم قال ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب ومعه
رايته وابتدرها الناس.
وقال موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مغتسله كما يزعمون قد رجل أحد شقيه أتاه جبريل على فرس عليه لامته حتى وقف بباب
المسجد عند موضع الجنائز، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل:
غفر
الله لك أو قد وضعت السلاح ؟ ! قال: نعم فقال جبريل: لكنا لم نضعه منذ نزل بك
العدو وما زلت في طلبهم حتى هزمهم الله - ويقولون: إن على وجه جبريل لاثر الغبار -
فقال له جبريل: إن الله قد أمرك بقتال بنى قريظة فأنا عامد إليهم بمن معى من
الملائكة نزلزل بهم الحصون، فاخرج بالناس.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر جبريل فمر على مجلس بنى غنم وهم ينتظرون
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم فقال: مر عليكم فارس آنفا ؟ قالوا: مر علينا
دحية الكلبى على فرس أبيض تحته نمط أو قطيفة ديباج عليه اللامة.
فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذاك جبريل، وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يشبه دحية الكلبى بجبريل، فقال: الحقوني ببنى قريظة فصلوا فيهم العصر.
فقاموا وما شاء الله من المسلمين فانطلقوا إلى بنى قريظة، فحانت صلاة العصر وهم
بالطريق،
فذكروا الصلاة فقال بعضهم لبعض: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمركم
أن تصلوا العصر في بنى قريظة.
وقال آخرون: هي الصلاة.
فصلى منهم قوم وأخرت طائفة الصلاة حتى صلوها في بنى قريظة بعد أن غابت الشمس،
فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من عجل منهم الصلاة ومن أخرها، فذكروا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعنف واحدا من الفريقين.
قال: فلما رأى على بن أبى طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا تلقاه وقال:
ارجع يا رسول الله فإن الله كافيك اليهود.
وكان على قد سمع منهم قولا سيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه رضى الله
عنهن، فكره أن يسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لم تأمرني بالرجوع ؟ فكتمه ما سمع منهم فقال: أظنك سمعت في منهم أذى،
فامض فإن أعداء الله لو رأوني لم يقولوا شيئا مما سمعت.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحصنهم، وكانوا في أعلاه، نادى بأعلى
صوته
نفرا من أشرافهم حتى أسمعهم فقال: أجيبوا يا معشر يهود يا إخوة القردة، قد نزل بكم
خزى الله عزوجل.
فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، ورد الله
حيى بن أخطب حتى دخل حصن بنى قريظة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، واشتد عليهم
الحصار، فصرخوا بأبى لبابة بن عبد المنذر - وكانوا حلفاء الانصار - فقال أبو
لبابة: لا آتيهم حتى يأذن لى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد أذنت لك.
فأتاهم أبو لبابة فبكوا إليه وقالوا: يا أبا لبابة ماذا ترى وماذا تأمرنا ؟ فإنه
لا طاقة لنا بالقتال.
فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه وأمر عليه أصابعه، يريهم أنما يراد بهم القتل.
فلما انصرف أبو لبابة سقط في يده، ورأى أنه قد أصابته فتنة عظيمة، فقال: والله لا
أنظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحدث لله توبة نصوحا يعلمها الله من
نفسي.
فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذع من جذوع المسجد.
وزعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين ليلة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غاب عليه أبو لبابة: أما فرغ أبو لبابة من
حلفائه ؟ فذكر له ما فعل، فقال: لقد أصابته بعدى فتنة ولو جاءني لاستغفرت له، وإذ
قد فعل هذا فلن أحركه من مكانه حتى يقضى الله فيه ما يشاء.
وهكذا رواه ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة.
وكذا ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه في مثل سياق موسى بن عقبة عن الزهري، ومثل
رواية أبى الاسود عن عروة.
* * *
قال
ابن إسحاق: ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئر من آبار بنى قريظة من ناحية
أموالهم يقال لها بئر أنى، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف في
قلوبهم الرعب.
وقد كان حيى بن أخطب دخل معهم حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد
بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم
حتى يناجزهم قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الامر ما ترون، وإنى عارض
عليكم خلالا.
ثلاثا فخذوا بما شئتم منها.
قالوا: وما هن ؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبى مرسل
وأنه للذى تجدونه في كتابكم، فتأمنون به على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم.
قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره.
قال: فإذا أبيتم على هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه
رجالا مصلتين بالسيوف (1)، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد،
فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء
والابناء.
قالوا: أنقتل هؤلاء المساكين ؟ فما خير العيش بعدهم ؟ ! قال: فإن أبيتم على هذه،
فالليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا
نصيب من محمد وأصحابه غرة.
قالوا: أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث فيه من كان قبلنا إلا من قد علمت فأصابه
ما لم يخف عنك من المسخ.
فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما.
__________
(1) ابن هشام: مصلتين السيوف.
(*)
ثم
إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد
المنذر أخا بنى عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الاوس، نستشيره في أمرنا.
فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء
والصبيان يبكون في وجهه، فرق لهم وقالوا: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد
؟ قال: نعم.
وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح.
قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله.
ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ارتبط في
المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني حتى يتوب الله على مما صنعت.
وأعاهد الله ألا أطأ بنى قريظة أبدا ولا أرى في بلد خنت الله ورسوله
فيه أبدا.
قال ابن هشام: وأنزل الله، فيما قال سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن
عبدالله بن أبى قتادة: " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا
أماناتكم وأنتم تعلمون (1) ".
قال ابن هشام: أقام مرتبطا ست ليال، تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله حتى يتوضأ
ويصلى، ثم يرتبط، حتى نزلت توبته في قوله تعالى: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم
خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم (1) ".
وقول موسى بن عقبة أنه مكث عشرين ليلة مرتبطا به.
والله أعلم.
وذكر ابن إسحاق أن الله أنزل توبته على رسوله من آخر الليل وهو في بيت أم
__________
(1) سورة الانفال.
(*)
سلمة،
فجعل يبتسم فسألته أم سلمة فأخبرها بتوبة الله على أبى لبابة، فاستأذنته أن تبشره
فأذن لها، فخرجت فبشرته، فثار الناس إليه يبشرونه، وأرادوا أن يحلوه من رباطه
فقال: والله لا يحلنى منه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الفجر حله من رباطه رضى الله عنه
وأرضاه.
* * * قال ابن إسحاق: ثم إن ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعية وأسد بن عبيد، وهم نفر من
بنى هدل ليسوا من بنى قريظة ولا النضير، نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم، أسلموا في
تلك الليلة التى نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظى فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعليهم محمد بن مسلمة تلك الليلة، فلما رآه قال: من هذا ؟ قال: أنا عمرو بن
سعدى.
وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: لا أغدر بمحمد أبدا.
فقال محمد بن مسلمة حين عرفه: اللهم لا تحرمنى إقالة عثرات الكرام.
ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمدينة تلك الليلة، ثم ذهب لم يدر أين توجه من الارض إلى يومه هذا فذكر شأنه
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذاك رجل نجاه الله بوفائه.
قال: وبعض الناس يزعم أنه كان أوثق برمة فيمن أوثق من بنى قريظة، فأصبحت رمته
ملقاة ولم يدر أين ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة.
والله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن إسحاق: فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتواثبت الاوس فقالوا: يا رسول الله إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في
موالى إخواننا بالامس ما قد علمت، يعنون عفوه عن بنى قينقاع حين سأله فيهم عبدالله
ابن أبى.
كما تقدم.
قال
ابن إسحاق: فلما كلمته الاوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الاوس ألا
ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا: بلى.
قال: فذلك إلى سعد بن معاذ.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم
يقال لها رفيدة في مسجده وكانت تداوى الجرحى، فلما حكمه في بنى قريظة أتاه قومه
فحملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما جميلا، ثم أقبلوا معه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن
رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم.
فلما أكثروا عليه قال: قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم ! فرجع بعض من كان
معه من قومه إلى دار بنى عبد الاشهل فنعى لهم رجال بنى
قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التى سمع منه.
فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم.
فأما المهاجرون من قريش فيقولون: إنما أراد الانصار، وأما الانصار فيقولون: قد عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين.
فقاموا إليه.
فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم
فيهم.
فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت ؟ قالوا: نعم.
قال: وعلى من هاهنا.
في الناحية التى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم إجلالا له.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال سعد: فإنى أحكم فيهم أن يقتل الرجال وتقسم الاموال وتسبى الذرارى والنساء.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبدالرحمن بن عمر بن سعد ابن
معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد
حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
وقال
ابن هشام: حدثنى من أثق به من أهل العلم أن على بن أبى طالب صاح وهم محاصرو بنى
قريظة: يا كتيبة الايمان.
وتقدم هو والزبير بن العوام وقال: والله لاذوقن ما ذاق حمزة أو أقتحم حصنهم.
فقالوا: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ.
* * * وقد قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم،
سمعت أبا أمامة بن سهل، سمعت أبا سعيد الخدرى، قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن
معاذ.
قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار، فلما دنا قريبا
من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا لسيدكم أو خيركم ثم قال: إن
هؤلاء نزلوا على حكمك.
قال: نقتل مقاتلتهم ونسبي ذريتهم.
قال: فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: قضيت بحكم الله.
وربما قال: قضيت بحكم الملك.
وفى رواية الملك.
أخرجاه في الصحيحين من طرق عن شعبة.
وقال الامام أحمد: حدثنا حجين ويونس، قالا: حدثنا الليث بن سعد، عن أبى الزبير، عن
جابر بن عبدالله أنه قال: رمى يوم الاحزاب سعد بن معاذ فقطعوا أكحله، فحسمه رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالنار فانتفخت يده فنزفه، فلما رأى ذلك قال: اللهم لا
تخرج نفسي حتى تقر عينى من بنى قريظة.
فاستمسك عرقه فما قطر قطرة حتى نزلوا على حكم سعد، فأرسل إليه فحكم أن تقتل رجالهم
وتسبى نساؤهم وذراريهم يستعين بهم المسلمون.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصبت حكم الله فيهم.
وكانوا أربعمائة.
فلما فرغ من قتلهم انفتق عرقه فمات.
وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن الليث به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال
الامام أحمد: حدثنا ابن نمير، عن هشام، أخبرني أبى، عن عائشة قالت: لما رجع رسول
الله صلى الله عليه وسلم من الخندق ووضع السلاح واغتسل فأتاه جبريل وعلى رأسه
الغبار فقال: قد وضعت السلاح فوالله ما وضعتها اخرج إليهم قال: رسول الله صلى الله
عليه وسلم: فأين ؟ قال: هاهنا.
وأشار إلى بنى قريظة.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم.
قال هشام: فأخبرني أبى أنهم نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم فرد الحكم
فيهم إلى سعد قال: فإنى أحكم أن تقتل المقاتلة وتسبى النساء والذرية وتقسم
أموالهم.
قال هشام: قال أبى: فأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد حكمت فيهم
بحكم الله.
وقال البخاري: حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا عبدالله بن نمير، حدثنا هشام عن أبيه،
عن عائشة قالت: أصيب سعد يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له حبان ابن العرقة،
رماه في الاكحل، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب،
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل
وهو ينفض رأسه من الغبار فقال: قد وضعت السلاح ؟ والله ما وضعته اخرج إليهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين ؟ فأشار إلى بنى قريظة.
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه، فرد الحكم إلى سعد.
قال: فإنى أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم أموالهم.
قال هشام: فأخبرني أبى عن عائشة أن سعدا قال: اللهم إنك تعلم أنه ليس أحد أحب إلى
أن أجاهدهم فيك من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإنى أظن أنك قد وضعت الحرب
بيننا وبينهم، فإن كان بقى من حرب قريش شئ فأبقني له حتى أجاهدهم فيك، وإن كنت
وضعت الحرب فافجرها واجعل موتى فيها.
فانفجرت من لبته فلم يرعهم وفى
المسجد
خيمة من بنى غفار إلا الدم يسيل إليهم، فقالوا: يا أهل الخيمة ما هذا الذى يأتينا
من قبلكم ؟ فإذا سعد يغذو جرحه دما فمات منها.
وهذا رواه مسلم من حديث عبدالله بن نمير به.
قلت: كان دعا أولا بهذا الدعاء قبل أن يحكم في بنى قريظة، ولهذا قال فيه: ولا
تمتنى حتى تقر عينى من بنى قريظة.
فاستجاب الله له، فلما حكم فيهم وأقر الله عينه أي قرار دعا ثانيا بهذا الدعاء
فجعلها الله له شهادة رضى الله عنه وأرضاه.
وسيأتى ذكر وفاته قريبا إن شاء الله.
* * * وقد رواه الامام أحمد من وجه آخر عن عائشة مطولا جدا وفيه فوائد فقال:
حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبيه، عن جده علقمة بن وقاص، قال: أخبرتني
عائشة قالت: خرجت يوم الخندق أقفو الناس فسمعت وئيد الارض ورائي، فإذا أنا بسعد بن
معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنه قالت: فجلست إلى الارض فمر سعد وعليه
درع من حديد قد خرجت منها أطرافه، فأنا أتخوف على أطراف سعد، قالت: وكان سعد من
أعظم الناس وأطولهم، فمر وهو يرتجز ويقول: لبث قليلا يدرك الهيجا حمل * ما أحسن
الموت إذا حان الاجل قالت: فقمت فاقتحمت حديقة فإذا نفر من المسلمين، فإذا فيها
عمر بن الخطاب وفيهم رجل عليه سبغة له، تعنى المغفر، فقال عمر: ما جاء بك والله
إنك لجريئة وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تحوز.
فما زال يلومني حتى تمنيت أن الارض فتحت ساعتئذ فدخلت فيها فرفع الرجل السبغة عن
وجهه فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم وأين
التحوز أو الفرار إلا إلى الله عزوجل.
قالت: ويرمى سعدا رجل من قريش يقال له ابن العرقة وقال: خذها وأنا ابن العرقة.
فأصاب
أكحله فقطعه، فدعا الله سعد فقال: اللهم لا تمتنى حتى تقر عينى من بنى قريظة.
قالت: وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية.
قالت فرقأ كلمه وبعث الله الريح على المشركين وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله
قويا عزيزا.
فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر ومن معه بنجد.
ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة وأمر بقبة من أدم، فضربت على سعد في المسجد.
قالت: فجاء جبريل وإن على ثناياه لنقع الغبار فقال: أقد وضعت السلاح ! لا والله ما
وضعت الملائكة السلاح بعد، اخرج إلى بنى قريظة فقاتلهم.
قالت: فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته وأذن في الناس بالرحيل أن
يخرجوا، فمر على بنى غنم، وهم جيران المسجد حوله فقال: من مر بكم ؟ قالوا: مر بنا
دحية الكلبى، وكان دحية الكلبى تشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه السلام.
فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، فلما اشتد حصرهم
واشتد البلاء قيل لهم: انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاستشاروا أبا لبابة ابن عبد المنذر فأشار إليهم أنه الذبح قالوا: ننزل على حكم
سعد بن معاذ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انزلوا على حكم سعد بن معاذ.
فأتى به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه وحف به قومه، فقالوا: يا أبا عمرو
حلفاؤك ومواليك وأهل النكاية، ومن قد علمت.
قالت: ولا يرجع إليهم شيئا ولا يلتفت إليهم، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه
فقال: قد آن لى ألا أبالى في الله لومة لائم ! قالت: قال أبو سعيد: فلما طلع قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم فأنزلوه.
قال عمر: سيدنا الله.
قال: أنزلوه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احكم فيهم فقال سعد: فإنى أحكم فيهم أن تقتل
مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم
أموالهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله.
ثم دعا سعد فقال: اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من حرب قريش شيئا فأبقني لها، وإن
كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك.
قالت: فانفجر كلمه وكان قد برئ حتى لا يرى منه إلا مثل الخرص (1)، ورجع إلى قبته
التى ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت عائشة: فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر، قالت: فوالذي نفس
محمد بيده إنى لاعرف بكاء عمر من بكاء أبى بكر وأنا في حجرتي، وكانوا كما قال
الله: " رحماء بينهم (2) ".
قال علقمة: فقلت: يا أمه فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قالت:
كانت عينه لا تدمع على أحد.
ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته.
وهذا الحديث إسناده جيد وله شواهد من وجوه كثيرة، وفيه التصريح بدعاء سعد مرتين،
مرة قبل حكمه في بنى قريظة ومرة بعد ذلك، كما قلناه أولا ولله الحمد والمنة.
وسنذكر كيفية وفاته ودفنه وفضله في ذلك رضى الله عنه وأرضاه بعد فراغنا من القصة.
* * * قال ابن إسحاق: ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة
في دار بنت الحارث امرأة من بنى النجار.
قلت: هي نسيبة ابنة الحارث بن كرز بن حبيب بن عبد شمس، وكانت تحت مسيلمة الكذاب،
ثم خلف عليها عبدالله بن عامر ابن كريز.
__________
(1) الخرص: الحلقة الصغيرة من الحلى.
(2) سورة الفتح الآية 29.
(*)
ثم
خرج صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب
أعناقهم في تلك الخنادق، فخرج بهم إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حيى بن أخطب وكعب
بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول: كانوا ما بين
الثمانمائة والتسعمائة.
قلت: وقد تقدم فيما رواه الليث عن أبى الزبير عن جابر أنهم كانوا أربعمائة فالله
أعلم.
قال ابن إسحاق: وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أرسالا: يا كعب ما تراه يصنع بنا ؟ قال: أفى كل موطن لا تعقلون ! ألا ترون
الداعي لا ينزع ومن ذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل ! فلم يزل ذلك الدأب حتى
فرغ منهم، وأتى بحيى بن أخطب وعليه حلة له
فقاحية (1) قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها، مجموعة يداه إلى عنقه
بحبل.
فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما والله مالمت نفسي في عداوتك،
ولكنه من يخذل الله يخذل ! ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إنه لا بأس بأمر
الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بنى إسرائيل ! ثم جلس فضربت عنقه.
فقال جبل بن جوال الثعلبي: لعمرك مالام ابن أخطب نفسه * ولكنه من يخذل الله يخذل
لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها * وقلقل يبغى العز كل مقلقل (2)
__________
(1) الفقاح: الزهر إذا انشقت أكمته.
والمراد أنها كانت تضرب إلى الحمرة.
قال ابن هشام: فقاحبة: ضرب من الوشى.
(2) قلقل: سعى وتحرك.
(*)
وذكر
ابن إسحاق قصة الزبير بن باطا، وكان شيخا كبيرا قد عمى، وكان قد من يوم بعاث على
ثابت بن قيس بن شماس وجز ناصيته، فلما كان هذا اليوم أراد أن يكافئه فجاءه فقال:
هل تعرفني يا أبا عبدالرحمن ؟ قال: وهل يجهل مثلى مثلك.
فقال له ثابت: أريد أن أكافئك.
فقال: إن الكريم يجزى الكريم.
فذهب ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلقه فأطلقه له، ثم جاءه فأخبره
فقال: شيخ كبير لا أهل [ له (1) ] ولا ولد، فما يصنع بالحياة ! فذهب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فاستطلق له امرأته وولده، فأطلقهم له.
ثم جاءه فقال: أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك ؟ فأتى ثابت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستطلق مال الزبير بن باطا، فأطلقه له.
ثم جاءه فأخبره فقال له: يا ثابت ما فعل الذى كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها
عذارى
حى (2)، كعب بن أسد ؟ قال: قتل.
قال: فما فعل سيد الحاضر والبادى حيى بن أخطب ؟ قال: قتل.
قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا: عزال بن شموال (3) ؟ قال:
قتل.
قال: فما فعل المجلسان ؟ يعنى بنى كعب بن قريظة وبنى عمرو بن قريظة.
قال: ذهبوا قتلوا.
قال: فإنى أسألك يا ثابت بيدى عندك إلا ألحقتنى بالقوم، فوالله ما في العيش بعد
هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فيلة (4) دلو ناضح حتى ألقى الاحبة.
__________
(1) من ابن هشام.
(2) ابن هشام: عذارى الحى.
(3) ابن هشام: سموال بالسين.
(4) المذكور في ابن هشام والروض الانف للسهيلي: فتلة بالتاء.
ولعله تحريف فيهما، ما دام ابن كثير قد ضبطه بالحروف.
(*)
فقدمه
ثابت فضربت عنقه.
فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله: " ألقى الاحبة " قال: يلقاهم والله في
نار جهنم خالدا فيها مخلدا ! قال ابن إسحاق: " فيلة " بالفاء والياء
المثناة من أسفل وقال ابن هشام، بالقاف والباء الموحدة.
وقال ابن هشام: الناضح: البعير الذى يستقى عليه الماء لسقى النخل.
وقال أبو عبيدة: معناه إفراغة دلو.
* * * قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل كل من أنبت
منهم.
فحدثني شعبة بن الحجاج، عن عبدالملك بن عمير، عن عطية القرظى، قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أن يقتل من بنى قريظة كل من أنبت منهم،
وكنت غلاما، فوجدوني لم أنبت فخلوا سبيلى.
ورواه أهل السنن الاربعة من حديث عبدالملك بن عمير، عن عطية القرظى نحوه.
وقد استدل به من ذهب من العلماء إلى أن إنبات الشعر الخشن حول الفرج دليل على
البلوغ، بل هو بلوغ في أصح قولى الشافعي.
ومن العلماء من يفرق بين صبيان أهل الذمة، فيكون بلوغا في حقهم دون غيرهم، لان
المسلم قد يتأذى بذلك لمقصد.
وقد روى إسحاق عن أيوب بن عبد الرحمن، أن سلمى بنت قيس أم المنذر استطلقت من رسول
الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن شموال، وكان قد بلغ فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل
ذلك فأطلقه لها، وكانت قالت: يا رسول الله إن رفاعة يزعم أنه سيصلى ويأكل لحم
الجمل.
فأجابها إلى ذلك فأطلقه.
(16 - السيرة 3)
قال
ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة، عن عائشة قالت: لم يقتل من
نسائهم إلا امرأة واحدة قالت: والله إنها لعندى تحدث معى تضحك ظهرا وبطنا ورسول
الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالها في السوق إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة ؟
قالت: أنا والله.
قالت: قلت لها: ويلك مالك ؟ قالت: أقتل ! قلت: ولم ؟ قالت: لحدث أحدثته.
قالت: فانطلق بها فضربت عنقها.
وكانت عائشة تقول: فوالله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها
تقتل ! وهكذا رواه الامام أحمد، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق
به.
قال ابن إسحاق: هي التى طرحت الرحا على خلاد بن سويد فقتلته.
يعنى فقتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم به.
قال ابن إسحاق في موضع آخر: وسماها نباتة امرأة الحكم القرظى.
* * * قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بنى قريظة
ونساءهم وأبناءهم على المسلمين بعد ما أخرج الخمس، وقسم للفارس ثلاثة أسهم، سهمين
للفرس وسهما لراكبه وسهما للراجل، وكانت الخيل يومئذ ستا وثلاثين.
قال: وكان أول فئ وقعت فيه السهمان وخمس.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن زيد بسبايا من بنى
قريظة إلى نجد فابتاع بها خيلا وسلاحا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة
إحدى نساء بنى عمرو بن قريظة، وكان عليها حتى توفى عنهما وهى في ملكه، وقد كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليها الاسلام فامتنعت ثم أسلمت بعد ذلك فسر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامها
وقد
عرض عليها أن يعتقها ويتزوجها فاختارت أن تستمر على الرق ليكون أسهل عليها فلم تزل
عنده حتى توفى عليه الصلاة والسلام.
ثم تكلم ابن إسحاق على ما نزل من الآيات في قصة الخندق من أول سورة الاحزاب، وقد
ذكرنا ذلك مستقصى في تفسيرها ولله الحمد والمنة.
وقد قال ابن إسحاق: واستشهد من المسلمين يوم بنى قريظة خلاد بن سويد بن ثعلبة بن
عمرو الخزرجي طرحت عليه رحا فشدخته شدخا شديدا، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: " إن له لاجر شهيدين ".
قلت: كان الذى ألقى عليه الرحى تلك المرأة التى لم يقتل من بنى قريظة امرأة غيرها
كما تقدم.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان من بنى أسد بن خزيمة ورسول الله
صلى الله عليه وسلم محاصر بنى قريظة فدفن في مقبرتهم اليوم.
وفاة سعد بن معاذ رضى الله عنه قد تقدم أن حبان بن العرقة لعنه الله رماه بسهم
فأصاب أكحله، فحسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كيا بالنار فاستمسك الجرح، وكان
سعد قد دعا الله ألا يميته حتى يقر عينه من بنى قريظة، وذلك حين نقضوا ما كان
بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهود والمواثيق والذمام ومالوا عليه
مع الاحزاب، فلما ذهب الاحزاب وانقشعوا عن المدينة وباءت بنو قريظة بسواد الوجه
والصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة، وسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليحاصرهم كما تقدم، فلما ضيق عليهم وأخذهم من كل جانب أنابوا أن ينزلوا على حكم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهم بما أراده الله، فرد الحكم فيهم إلى رئيس
الاوس وكانوا حلفاءهم في الجاهلية،
وهو
سعد بن معاذ، فرضوا بذلك.
ويقال: بل نزلوا ابتداء على حكم سعد لما يرجون من حنوه عليهم وإحسانه وميله إليهم،
ولم يعلموا بأنهم أبغض إليه من أعدادهم من القردة والخنازير لشدة إيمانه وصديقيته
رضى الله عنه وأرضاه.
فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في خيمة في المسجد النبوي، فجئ به
على حمار تحته إكاف قد وطئ تحته لمرضه، ولما قارب خيمة الرسول صلى الله عليه وسلم
أمر عليه السلام من هناك بالقيام له.
قيل: لينزل من شدة مرضه، وقيل توقيرا له بحضرة المحكوم عليهم ليكون أبلغ في نفوذ
حكمه.
والله أعلم.
فلما حكم فيهم بالقتل والسبي وأقر الله عينه وشفى صدره منهم وعاد إلى خيمته من
المسجد النبوي صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الله عزوجل أن تكون
له شهادة، واختار الله له ما عنده فانفجر جرحه من الليل، فلما يزل يخرج منه الدم
حتى مات رضى الله عنه.
قال ابن إسحاق: فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر بسعد بن معاذ جرحه فمات منه شهيدا.
حدثني معاذ بن رفاعة الزرقي قال: حدثني من شئت من رجال قومي: أن جبريل أتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين قبض سعد بن معاذ من جوف الليل معتجرا بعمامة من
استبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش ؟
قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم سربعا يجر ثوبه إلى سعد فوجده قد مات رضى
الله عنه.
هكذا ذكره ابن إسحاق رحمه الله.
وقد
قال الحافظ البيهقي في الدلائل: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد
بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبدالله بن عبد الحكم، حدثنا أبي وشعيب بن الليث، قالا:
حدثنا الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن معاذ بن رفاعة، عن جابر بن عبدالله قال:
جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من هذا العبد الصالح الذي مات
فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش ؟ قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإذا سعد بن معاذ، قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره وهو يدفن،
فبينما هو جالس إذ قال: " سبحان الله " مرتين، فسبح القوم، ثم قال:
" الله أكبر الله أكبر " فكبر القوم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " عجبت لهذا العبد الصالح شدد عليه في قبره حتى كان هذا حين فرج له
".
وروى الامام أحمد والنسائي من طريق يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد،
ويحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لسعد يوم مات وهو يدفن: " سبحان الله لهذا الصالح الذي تحرك له عرش الرحمن
وفتحت له أبواب السماء، شدد عليه ثم فرج الله عنه ".
وقال محمد بن إسحاق: حدثني معاذ بن رفاعة، عن محمود بن عبدالرحمن بن عمرو ابن
الجموح، عن جابر بن عبدالله قال: لما دفن سعد ونحن مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبح الناس معه، ثم كبر فكبر الناس معه
فقالوا: يا رسول الله مم سبحت ؟ قال: " لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره
حتى فرج الله عنه ".
وهكذا رواه الامام أحمد، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق به.
قال
ابن هشام: ومجاز هذا الحديث قول عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
إن للقبر ضمة لو كان أحد منها ناجيا لكان سعد بن معاذ ".
قلت: وهذا الحديث قد رواه الامام أحمد: حدثنا يحيى، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم،
عن نافع، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن للقبر ضغطة، ولو
كان أحد ناجيا منها لنجا سعد بن معاذ ".
وهذا الحديث سنده على شرط الصحيحين، إلا أن الامام أحمد رواه عن غندر، عن شعبة، عن
سعد بن إبراهيم، عن إنسان، عن عائشة به.
ورواه الحافظ البزار عن نافع، عن ابن عمر، قال: حدثنا عبدالاعلى بن حماد، حدثنا
داود، عن عبدالرحمن، حدثنا عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: لقد هبط يوم مات سعد بن معاذ سبعون ألف ملك إلى الارض لم
يهبطوا قبل ذلك، ولقد ضمه القبر ضمة.
ثم بكى نافع !
وهذا إسناد جيد، لكن قال البزار: رواه غيره عن عبيدالله عن نافع مرسلا.
ثم رواه البزار، عن سليمان بن سيف، عن أبي عتاب، عن سكين بن عبدالله بن عبدالرحمن
بن زيد بن الخطاب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك ما وطئوا الارض قبلها " وقال
حين دفن: " سبحان الله لو انفلت أحد من ضغطة القبر لانفلت منها سعد ".
وقال البزار: حدثنا إسماعيل بن حفص، عن محمد بن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب، عن
مجاهد، عن ابن عمر قال: اهتز العرش لحب لقاء الله سعد بن معاذ.
فقيل: إنما يعني السرير " ورفع أبويه على العرش " قال: تفتحت أعواده.
قال: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبره فاحتبس فلما خرج قيل له: يا رسول
الله ما حبسك ؟ قال: ضم سعد في القبر ضمة فدعوت الله فكشف عنه.
قال
البزار: تفرد به عطاء بن السائب.
قلت: وهو متكلم فيه.
وقد ذكر البيهقي رحمه الله بعد روايته ضمة سعد رضى الله عنه في القبر أثرا غريبا
فقال: حدثنا.
أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن
ابن إسحاق، حدثني أمية بن عبدالله،.
أنه سأل بعض أهل سعد: ما بلغكم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا ؟
فقالوا: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: كان يقصر في
بعض الطهور من البول.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا الفضل بن مساور، حدثنا أبو معاوية، عن
الاعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اهتز
العرش لموت سعد بن معاذ.
وعن الاعمش، حدثنا أبو صالح، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
فقال رجل لجابر ؟ فإن البراء بن عازب يقول: اهتز السرير ؟ [ فقال ] إنه كان بين
هذين الحيين
ضغائن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ.
ورواه مسلم، عن عمرو الناقد، عن عبدالله بن إدريس وابن ماجه، عن علي بن محمد، عن
أبي معاوية، كلاهما عن الاعمش به.
وليس عندهما زيادة قول الاعمش عن أبي صالح عن جابر.
وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر ابن
عبدالله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وجنازة سعد بن معاذ بين
أيديهم: اهتز لها عرش الرحمن.
ورواه مسلم عن عبد بن حميد، والترمذي عن محمود بن غيلان كلاهما عن عبد الرزاق به.
قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عوف، حدثنا أبو نضرة، سمعت
أبا
سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: اهتز العرش لموت سعد بن معاذ.
ورواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى به.
وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، قال قتادة: حدثنا أنس بن مالك، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال وجنازته موضوعة: اهتز لها عرش الرحمن.
ورواه مسلم عن محمد بن عبدالله الازدي، عن عبد الوهاب به.
وقد روى البيهقي من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن البصري، قال: اهتز
عرش الرحمن فرحا بروحه.
وقال الحافظ البزار: حدثنا زهير بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة،
عن أنس قال: لما حملت جنازة سعد قال المنافقون: ما أخف جنازته ! وذلك لحكمه في بني
قريظة.
فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا ولكن الملائكة تحملته.
إسناد جيد.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت
البراء بن عازب يقول: أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة حرير، فجعل أصحابه
يمسونها ويعجبون من لينها، فقال: " أتعجبون من لين هذه ؟ لمناديل سعد بن معاذ
خير منها أو ألين ".
ثم قال: رواه قتادة والزهري، سمعنا أنسا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أحمد: حدثنا عبد الوهاب، عن سعيد، هو ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك،
أن أكيدر دومة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة وذلك قبل أن ينهى عن
الحرير، فلبسها فعجب الناس منها فقال: " والذي نفسي بيده لمناديل سعد في
الجنة أحسن من هذه ".
وهذا
إسناد على شرط الشيخين ولم يخرجوه، وإنما ذكره البخاري تعليقا.
وقال أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن عمرو، حدثني واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ،
قال محمد: وكان واقد من أحسن الناس وأعظمهم وأطولهم، قال: دخلت على أنس بن مالك
فقال لي: من أنت ؟ قلت: أنا واقد بن عمرو بن سعد بن معاذ.
فقال: إنك بسعد لشبيه.
ثم بكى وأكثر البكاء وقال: رحمة الله على سعد ! كان من أعظم الناس وأطولهم.
ثم قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى أكيدر دومة، فأرسل إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بجبة من ديباج منسوج فيها الذهب، فلبسها رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقام على المنبر وجلس فلم يتكلم ثم نزل، فجعل الناس يلمسون الجبة
وينظرون إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتعجبون منها ؟ لمناديل
سعد ابن معاذ في الجنة أحسن مما ترون ".
وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عمرو به.
وقال الترمذي:
حسن صحيح.
* * * قال ابن إسحاق بعد ذكر اهتزاز العرش لموت سعد ابن معاذ: وفي ذلك يقول رجل من
الانصار: وما اهتز عرش الله من موت هالك * سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو قال: وقالت
أمه، يعني كبيشة بنت رافع بن معاوية بن عبيد بن ثعلبة الخدرية الخزرجية حين احتمل
سعد على نعشه تندبه: ويل أم سعد سعدا * صرامة وحدا وسؤددا ومجدا * وفارسا معدا سد
به مسدا * يقدها ماقدا
قال:
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ !
" قلت: كانت وفاته بعد انصراف الاحزاب بنحو من خمس وعشرين ليلة، إذ كان قدوم
الاحزاب في شوال سنة خمس كما تقدم فأقاموا قريبا من شهر ثم خرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم لحصار بني قريظة، فأقام عليهم خمسا وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد
فمات بعد حكمه عليهم بقليل، فيكون ذلك في أواخر ذي القعدة أو أوائل ذي الحجة من
سنة خمس والله أعلم.
وهكذا قال محمد بن إسحاق: إن فتح بني قريظة كان في ذي القعدة وصدر ذي الحجة.
قال: وولى تلك الحجة المشركون.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ رضى الله عنه:
لقد سجمت من دمع عيني عبرة * وحق لعيني أن تفيض على سعد (1) قتيل ثوى في معرك فجعت
به * عيون ذواري الدمع دائمة الوجد (2) على ملة الرحمن وارث جنة * مع الشهداء
وفدها أكرم الوفد فإن تك قد وعدتنا وتركتنا * وأمسيت في غبراء مظلمة اللحد فأنت
الذي يا سعد أبت بمشهد * كريم وأثواب المكارم والمجد بحكمك في حيى قريظة بالذي *
قضى الله فيهم ما قضيت على عمد فوافق حكم الله حكمك فيهم * ولم تعف إذ ذكرت ما كان
من عهد فإن كان ريب الدهر أمضاك في الالى * شروا هذه الدنيا بجناتها الخلد فنعم
مصير الصادقين إذا دعوا * إلى الله يوما للوجاهة والقصد
__________
(1) سجمت: فاضت.
(2) ذواري الدمع: غزيرته.
(*)
فصل
فيما قيل من الاشعار في الخندق وبني قريظة قال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال،
حدثنا شعبة، حدثنا عدي بن ثابت، أنه سمع البراء بن عازب قال: قال النبي صلى الله
عليه وسلم لحسان: اهجهم أو هاجهم وجبريل معك.
قال البخاري: وزاد إبراهيم بن طهمان، عن الشيباني، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن
عازب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لحسان بن ثابت: اهج المشركين فإن
جبريل معك.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة بدون الزيادة التي ذكرها
البخاري يوم بني قريظة.
قال ابن إسحاق رحمه الله: وقال ضرار بن الخطاب بن مرداس أخو بني محارب ابن فهر في
يوم الخندق.
قلت: وذلك قبل إسلامه:
ومشفقة تظن بنا الظنونا * وقد قدنا عرندسة طحونا (1) كأن زهاءها أحد إذا ما * بدت
أركانه للناظرينا ترى الابدان فيها مسبغات * على الابطال واليلب الحصينا (2) وجردا
كالقداح مسومات * نؤم بها الغواة الخاطئينا (3) كأنهم إذا صالوا وصلنا * بباب
الخندقين مصافحونا أناس لا نرى فيهم رشيدا * وقد قالوا ألسنا راشدينا فأحجرناهم
شهرا كريتا * وكنا فوقهم كالقاهرينا (4)
__________
(1) العرندس: القوي.
والطحون: المهلكة.
يريد الكتيبة.
(2) الابدان: جمع بدن وهي الدرع القصيرة.
واليلب.
محركة: الترسة أو الدروع من الجلد.
(3) الجرد: جمع أجرد وهو من الخيل: السباق.
والمسومات: المعلمات أو المرسلات.
(4) أحجرناهم: حصرناهم.
والكريت: التام.
(*)
نراوحهم
ونغدو كل يوم * عليهم في السلاح مدججينا بأيدينا صوارم مرهفات * نقد بها المفارق
والشئونا (1) كأن وميضهن معريات * إذا لاحت بأيدي مصلتينا وميض عقيقة لمعت بليل *
ترى فيها العقائق مستبينا (2) فلولا خندق كانوا لديه * لدمرنا عليهم أجمعينا ولكن
حال دونهم وكانوا * به من خوفنا متعوذينا فإن نرحل فإنا قد تركنا * لدى أبياتكم
سعدا رهينا إذا جن الظلام سمعت نوحا * على سعد يرجعن الحنينا وسوف نزوركم عما قريب
* كما زرناكم متوازرينا بجمع من كنانة غير عزل * كأسد الغاب إذ حمت العرينا
قال: فأجابه كعب بن مالك أخو بني سلمة رضى الله عنه فقال: وسائلة تسائل ما لقينا *
ولو شهدت رأتنا صابرينا صبرنا لا نرى لله عدلا * على ما نابنا متوكلينا وكان لنا
النبي وزير صدق * به نعلو البرية أجمعينا نقاتل معشرا ظلموا وعقوا * وكانوا
بالعداوة مرصدينا نعالجهم إذا نهضوا إلينا * بضرب يعجل المتسرعينا ترانا في فضافض
سابغات * كغدران الملا متسربلينا (3) وفي أيماننا بيض خفاف * بها نشفي مراح
الشاغبينا
__________
(1) الشئون: جمع شأن: مجمع العظام في الرأس.
(2) العقيقة: من البرق ما يبقى في السحاب من شعاعه.
(3) الفضافض: جمع فضفاضة وهي الدرع الواسعة.
والغدران: جمع غدير.
والملا: الصحراء.
(*)
بباب
الخندقين كأن أسدا * شوابكهن يحمين العرينا فوارسنا إذا بكروا وراحوا * على
الاعداء شوسا معلمينا (1) لننصر أحمدا والله حتى * نكون عباد صدق مخلصينا ويعلم
أهل مكة حين ساروا * وأحزاب أتوا متحزبينا بأن الله ليس له شريك * وأن الله مولى
المؤمنينا فإما تقتلوا سعدا سفاها * فإن الله خير القادرينا سيدخله جنانا طيبات *
تكون مقامة للصالحينا كما قد ردكم فلا شريدا * بغيظكم خزايا خائبينا خزايا لم
تنالوا ثم خيرا * وكدتم أن تكونوا دامرينا بريح عاصف هبت عليكم * فكنتم تحتها
متكمهينا (2)
* * * قال ابن إسحاق: وقال عبدالله بن الزبعري السهمي في يوم الخندق.
قلت: وذلك قبل أن يسلم: حي الديار محا معارف رسمها * طول البلى وتراوح الاحقاب
فكأنما كتب اليهود رسومها * إلا الكنيف ومعقد الاطناب (3) قفرا كأنك لم تكن تلهو
بها * في نعمة بأوانس أتراب فاترك تذكر ما مضى من عيشة * ومحلة خلق المقام يباب
واذكر بلاء معاشر واشكرهم * ساروا بأجمعهم من الانصاب (4)
__________
(1) متكمهينا: عميا لا تبصرون.
(2) الشوس: جمع أشوس وهو الذي ينظر بمؤخر عينه كبرا.
والمعلم: الذي جعل لنفسه علامة في الحرب.
يعرف بها.
(3) الكنيف: الحظيرة.
والاطناب: جمع طنب وهو الحبل الذي تشد به الخيمة ونحوها.
(4) الانصاب هنا: الحجارة التي يعلم بها الحرم.
(*)
أنصاب
مكة عامدين ليثرب * في ذي غياطل جحفل جبجاب (1) يدع الحزون مناهجا معلومة * في كل
نشز ظاهر وشعاب (2) فيها الجياد شوازب مجنوبة * قب البطون لواحق الاقراب (3) من كل
سلهبة وأجرد سلهب * كالسيد بادر غفلة الرقاب (4) جيش عيينة قاصد بلوائه * فيه وصخر
قائد الاحزاب قرمان كالبدرين أصبح فيهما * غيث الفقير ومعقل الهراب حتى إذا وردوا
المدينة وارتدوا * للموت كل مجرب قضاب شهرا وعشرا قاهرين محمدا * وصحابه في الحرب
خير صحاب
نادوا برحلتهم صبيحة قلتم * كدنا نكون بها مع الخياب لولا الخنادق غادروا من جمعهم
* قتلى لطير سغب وذئاب قال: فأجابه حسان ن بن ثابت رضى الله عنه فقال: هل رسم
دارسة المقام يباب * متكلم لمحاور بجواب قفر عفا رهم السحاب رسومه * وهبوب كل مطلة
مرباب (5) ولقد رأيت بها الحلول يزينهم * بيض الوجوه ثواقب الاحساب فدع الديار
وذكر كل خريدة * بيضاء آنسة الحديث كعاب واشك الهموم إلى الاله وما ترى * من معشر
ظلموا الرسول غضاب ساروا بأجمعهم إليه وألبوا * أهل القرى وبوادي الاعراب
__________
(1) الغياطل: الاصوات المختلطة.
يريد كثرة الجيش والجحفل: الجيش الكثير.
والجبجاب: الكثير.
(2) الحزون: جمع حزن وهو ما ارتفع من الارض.
والنشز كذلك.
والمناهج: جمع منهج وهو الطريق الواضح.
(3) الشوازب: الضوامر.
والمجنوبة: التي تقاد.
والقب: جمع أقب وهو الضامر من الخيل.
واللواحق: الضامرة.
والاقراب: جمع قرب، وهو الخاصرة.
(4) السلهبة: الطويلة.
(5) الرهم: جمع رهمة، وهو المطر الضعيف الدائم.
والمرباب: الدائمة.
(*)
جيش
عيينة وابن حرب فيهم * متخمطون بحلبة الاحزاب (1) حتى إذا وردوا المدينة وارتجوا *
قتل الرسول ومغنم الاسلاب وغدوا علينا قادرين بأيدهم * ردوا بغيظهم على الاعقاب
(2) بهبوب معصفة تفرق جمعهم * وجنود ربك سيد الارباب فكفى الاله المؤمنين قتالهم *
وأثابهم في الاجر خير ثواب من بعد ما قنطوا ففرق جمعهم * تنزيل نصر مليكنا الوهاب
وأقر عين محمد وصحابه * وأذل كل مكذب مرتاب عاتى الفؤاد موقع ذي ريبة * في الكفر
ليس بطاهر الاثواب علق الشقاء بقلبه ففؤاده * في الكفر آخر هذه الاحقاب * * * قال:
وأجابه كعب بن مالك رضى الله عنه أيضا فقال: أبقى لنا حدث الحروب بقية * من خير
نحلة ربنا الوهاب بيضاء مشرفة الذرى ومعاطنا * حم الجذوع غزيرة الاحلاب (3) كاللوب
يبذل جمها وحفيلها * للجار وابن العم والمنتاب (4) ونزائعا مثل السراج نمى بها *
علف الشعير وجزة المقضاب (5) عرى الشوى منها وأردف نحضها * جرد المتون وسائر
الآراب (6)
__________
(1) متخمطون: مختلطون.
(2) الايد: القوة.
(3) المعاطن: قال السهيلي: يعني منابت النخل عند الماء شبهها بمعاطن الابل وهي
مباركها عند الماء.
وقوله: حم الجذوع: وصفها بالحمة وهي السواد لانها تضرب إلى السواد من الخضرة
والنعمة، وشبه ما يجتنى منها بالحلب فقال: غزيرة الاحلاب.
الروض 2 / 204.
(4) اللوب: جمع لوبة وهي الحرة، وهي أرض ذات حجارة سود.
واللوب أيضا: النحل، ويجوز أن يكون شبهها بالنحل في كثرتها.
وجمها وحفيلها: أراد الكثير منها.
والمنتاب: الزائر الملم.
(5) النزائع: الخيل التي تجلب إلى غير بلادها، يريد أنهم استلبوها من الاعداء.
والمقضاب: مزرعة كما قال السهيلي، وجزتها: ما يجز منها للخيل.
(6) الشوى: القوائم.
والنحض: اللحم.
والآراب: المفاصل واحدها إرب.
(*)
قودا
تراح إلى الصياح إذا غدت * فعل الضراء تراح للكلاب (1) وتحوط سائمة الديار وتارة *
تردى العدى وتؤوب بالاسلاب
حوش الوحوش مطارة عند الوغى * عبس اللقاء مبينة الانجاب (2) علفت على دعة فصارت
بدنا * دخس البضيع خفيفة الاقصاب (3) يغدون بالزغف المضاعف شكه * وبمترصات في
الثقاف صياب (4) وصوارم نزع الصياقل علبها * وبكل أروع ماجد الانساب (5) يصل
اليمين بمارن متقارب * وكلت وقيعته إلى خباب (6) وأغر أزرق في القناة كأنه * في
طخية الظلماء ضوء شهاب (7) وكتيبة ينفى القران قتيرها * وترد حد قواحز النشاب (8)
جأوى ململمة كأن رماحها * في كل مجمعة صريمة غاب (9) تأوى إلى ظل اللواء كأنه * في
صعدة الخطى فئ عقاب (10) أعيت أبا كرب وأعيت تبعا * وأبت بسالتها على الاعراب (11)
ومواعظ من ربنا نهدى بها * بلسان أزهر طيب الاثواب
__________
(1) القود: الطوال الاعناق.
والضراء: الكلاب الضاربة.
والكلاب: جمع كالب وهو صاحب الكلاب الذي يصيد بها.
(2) الحوش: الوحشية، وأصله من الابل الحوشية وهي التي يزعمون أن فحول نعم الجن قد
ضربت فيها ويسمونها الحوش.
قال رؤبة: * جرت رحانا من بلاد الحوش * والمطارة: المستخفة.
والعبس: جمع عبوس.
(3) البضيع: اللحم المستطيل.
والدخيس من اللحم: الكثير.
والاقصاب: جمع قصب وهو المعي.
(4) الزغف: الدروع الواسعة.
والشك: الخلق والنسج.
والمترصات: المحكمة، يعني الرماح المثقفة.
والصياب: المصيبة.
(5) علبها: خشونتها وتثلمها.
(6) المارن: اللين.
ووقيعته: صقله.
وخباب: اسم صيقل.
(7) أغر أزرق: يريد الرمح.
وطخية الظلماء: شدتها.
(8) القران: اقتران النبل واجتماعه.
والقتير: رءوس مسامير الدرع.
القواحز: قحز السهم إذا رماه فوقع بين يديه.
(9) الجأوى: التي يخالط غبرتها حمرة.
والململمة: المجتمعة.
(10) الصعدة: القناة المستوية.
والخطى: الرماح المنسوبة إلى الخط، موضع كانت تباع فيه.
والفئ: الظل.
(11) أبو كرب وتبع: من ملوك اليمن قبل الاسلام.
(*)
عرضت
علينا فاشتهينا ذكرها * من بعد ما عرضت على الاحزاب حكما يراها المجرمون برعمهم *
حرجا ويفهمها ذوو الالباب جاءت سخينة كي تغالب ربها * فليغلبن مغالب الغلاب ! قال
ابن هشام: حدثني من أثق به، حدثني عبدالملك بن يحيى بن عباد بن عبدالله ابن
الزبير، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له لما سمع منه هذا البيت: " لقد
شكرك الله يا كعب على قولك هذا ".
قلت: ومراده بسخينة قريش، وإنما كانت العرب تسميهم بذلك لكثرة أكلهم الطعام السخن
الذي لا يتهيأ لغيرهم غالبا من أهل البوادي.
فالله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك أيضا: من سره ضرب يمعمع بعضه * بعضا كمعمعة
الاباء المحرق (1) فليأت مأسدة تسن سيوفها * بين المذاد وبين جذع الخندق (2) دربوا
بضرب المعلمين وأسلموا * مهجات أنفسهم لرب المشرق في عصبة نصر الاله نبيه * بهم
وكان بعبده ذا مرفق في كل سابغة تخط فضولها * كالنهي هبت ريحه المترقرق (3) بيضاء
محكمة كأن قتيرها * حدق الجنادب ذات شك موثق (4) جدلاء يحفزها نجاذ مهند * صافي
الحديدة صارم ذي رونق (5)
__________
(1) المعمعة: صوت النار فيما عظم وكثف من القصباء.
والاباء: القصب واحدتها إباءة.
وفي الاصل: الاناء.
وما أثبته عن ابن هشام.
(2) المذاد: موضع بالمدينة حيث حفر الخندق.
(3) السابغة: الدرع الوافية.
وفضولها: أطرافها.
والنهي: الغدير.
والمترقرق: صفة للنهي.
(4) القتير: رءوس مسامير الدرع.
والجنادب: الجراد.
والشك: النسج.
(5) الجدلاء: الدرع القوية الفتل.
ويحفزها: يرفعها، وذلك أن الدرع إذا طالت فضولها ربطوها بنجاد سيف.
والنجاد: حمائل السيف.
(17 - السيرة 3) (*)
تلكم
مع التقوى تكون لباسنا * يوم الهياج وكل ساعة مصدق نصل السيوف إذا قصرن بخطونا *
قدما ونلحقها إذا لم تلحق فترى الجماجم ضاحيا هاماتها * بله الاكف كأنها لم تخلق
نلقي العدو بفخمة ملمومة * تنفى الجموع كقصد رأس المشرق ونعد للاعداء كل مقلص * ورد
ومحجول القوائم أبلق (1) تردى بفرسان كأن كماتهم * عند الهياج أسود طل ملثق (2)
صدق يعاطون الكماة حتوفهم * تحت العماية بالوشيج المزهق (3) أمر الاله بربطها
لعدوه * في الحرب إن الله خير موفق لتكون غيظا للعدو وحيطا * للدار إن دلفت خيول
النزق ويعيننا الله العزيز بقوة * منه وصدق الصبر ساعة نلتقي ونطيع أمر نبينا
ونجيبه * وإذا دعا لكريهة لم نسبق ومتى ينادي للشدائد نأتها * ومتى نرى الحومات
فيها نعنق من يتبع قول النبي فإنه * فينا مطاع الامر حق مصدق فبذاك ينصرنا ويظهر
عزنا * ويصيبنا من نيل ذاك بمرفق إن الذين يكذبون محمدا * كفروا وضلوا عن سبيل
المتقي قال ابن إسحاق: وقال كعب بن مالك أيضا:
لقد علم الاحزاب حين تألبوا * علينا وراموا ديننا ما نوادع أضاميم من قيس بن عيلان
أصفقت * وخندف لم يدروا بما هو واقع (4)
__________
(1) المقلص: الفرس الخفيف.
(2) تردى: تسرع.
والطل: المطر الضعيف.
واللثق: ما يكون عن الطل من زلق وطين، والاسد أجوع ما تكون وأجرأ في ذلك الحين.
(3) العماية: ظلمة الغبار.
والوشيج: الرماح.
والمزهق: القاتل.
(4) الاضاميم: واحدتها أضمامة، وهو كل شئ مجتمع.
وأصفقت: اجتمعت.
(*)
يذودوننا
عن ديننا ونذودهم * عن الكفر والرحمن راء وسامع إذا غايظونا في مقام أعاننا * على
غيظهم نصر من الله واسع وذلك حفظ الله فينا وفضله * علينا ومن لم يحفظ الله ضائع
هدانا لدين الحق واختاره لنا * ولله فوق الصانعين صنائع (1) قال ابن هشام: وهذه
الابيات في قصيدة له - يعني طويلة - * * * قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت في
مقتل بني قريظة: لقد لقيت قريظة ما ساءها * وما وجدت لذل من نصير أصابهم بلاء كان
فيه * سوى ما قد أصاب بني النضير غداة أتاهم يهوى إليهم * رسول الله كالقمر المنير
له خيل مجنبة تعادى * بفرسان عليها كالصقور تركناهم وما ظفروا بشئ * دماؤهم عليها
كالعبير فهم صرعى تحوم الطير فيهم * كذاك يدان ذو العند الفجور فأنذر مثلها نصحا
قريشا * من الرحمن إن قبلت نذيري
قال: وقال حسان بن ثابت أيضا في بني قريظة: تعاقد معشر نصروا قريشا * وليس لهم
ببلدتهم نصير هم أوتوا الكتاب فضيعوه * وهم عمي من التوراة بور كفرتم بالقران وقد
أتيتم * بتصديق الذي قال النذير فهان على سراة بني لؤي * حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب فقال: أدام الله ذلك من صنيع * وحرق في
طوائفها السعير
__________
(1) الاصل: صانع.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*).
ستعلم
أينا منها بنزه * وتعلم أي أرضينا تضير (1) فلو كان النخيل بها ركابا * لقالوا لا
مقام لكم فسيروا قلت: وهذا قاله أبو سفيان بن الحارث قبل أن يسلم، وقد تقدم في
صحيح البخاري بعض هذه الابيات.
وذكر ابن إسحاق جواب حسان في ذلك لجبل بن جوال الثعلبي تركناه قصدا.
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت أيضا يبكي سعدا وجماعة ممن استشهد يوم بني
قريظة: ألا يالقومي هل لما حم دافع * وهل ما مضى من صالح العيش راجع تذكرت عصرا قد
مضى فتهافتت * بنات الحشا وانهل مني المدامع صبابة وجد ذكرتني إخوة * وقتلى مضى
فيها طفيل ورافع وسعد فأضحوا في الجنان وأوحشت * منازلهم فالارض منهم بلاقع (2)
وفوا يوم بدر للرسول وفوقهم * ظلال المنايا والسيوف اللوامع دعا فأجابوه بحق وكلهم
* مطيع له في كل أمر وسامع
فما نكلوا حتى توالوا جماعة * ولا يقطع الآجال إلا المصارع لانهم يرجون منه شفاعة
* إذا لم يكن إلا النبيون شافع فذلك يا خير العباد بلاؤنا * إجابتنا لله والموت
ناقع لنا القدم الاولى إليك وخلفنا * لاولنا في ملة الله تابع ونعلم أن الملك لله
وحده * وأن قضاء الله لا بد واقع
__________
(1) النزه: العبد.
وتضير: تضيره (2) البلاقع: المقفرة.
(*)
مقتل
أبي رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي لعنه الله في قصر له في أرض خيبر، وكان تاجرا
مشهورا بأرض الحجاز قال ابن إسحاق: ولما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة، وكان
سلام بن أبي الحقيق، وهو أبو رافع، فيمن حزب الاحزاب على رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وكانت الاوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الاشرف فاستأذن الخزرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم في قتل سلام بن أبي الحقيق وهو بخيبر فأذن لهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبدالله بن كعب بن مالك، قال: وكان
مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن هذين الحيين من الانصار: الاوس
والخزرج، كانا يتصاولان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع
الاوس شيئا فيه غناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقالت الخزرج: والله لا
يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها.
وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الاوس مثل ذلك.
قال: ولما أصابت الاوس كعب بن الاشرف في عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت الخزرج: والله لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا قال: فتذاكروا من رجل لرسول
الله صلى الله عليه وسلم في العداوة كابن
الاشرف ؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر، فاستأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم
في قتله فأذن لهم.
فخرج من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبدالله بن عتيك، ومسعود بن سنان،
وعبد
الله بن أنيس، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود حليف لهم من أسلم،
فخرجوا وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن عتيك، ونهاهم أن
يقتلوا وليدا أو امرأة.
فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا، فلم يدعوا بيتا في الدار
حتى أغلقوه على أهله.
قال: وكان في علية له إليها عجلة (1) قال: فأسندوا إليها حتى قاموا على بابه
فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته، فقالت: من أنتم ؟ قالوا: أناس من العرب نلتمس
الميرة.
قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه.
فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليه الحجرة تخوفا أن يكون دونه مجاولة تحول بيننا
وبينه.
قال: فصاحت امرأته فنوهت بنا، فابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فوالله ما يدلنا
عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطية (2) ملقاة.
قال: فلما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيكف يده، ولو لا ذلك لفرغنا منها بليل.
قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبدالله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه
وهو يقول: قطني قطني.
أي حسبي حسبي.
قال: وخرجنا وكان عبدالله بن عتيك سيئ البصر، قال: فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئا
شديدا (3)، وحملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم فندخل فيه.
فأوقدوا النيران واشتدوا في كل وجه يطلبوننا، حتى إذا يئسوا رجعوا إليه فاكتنفوه
وهو يقضى.
قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم بأن عدو الله قد مات ؟ قال: فقال رجل منا:
أنا أذهب فأنظر لكم.
فانطلق حتى دخل في الناس قال: فوجدتها - يعني امرأته -
__________
(1) العلية: الغرفة: والعجلة: الدرج من النخل.
(2) القبطية: ثياب بيض كانت تصنع بمصر.
(3).
وثئت: فكت، أو أصابها وجع بلا كسر.
وفي الاصل: وثبت.
وما أثبته عن ابن هشام.
(*)
ورجال
يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول: أما والله قد سمعت صوت
ابن عتيك ثم أكذبت نفسي وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد ! ثم أقبلت عليه تنظر في
وجهه فقالت: فاظ (1) وإله يهود.
فما سمعت كلمة كانت ألذ على نفسي منها.
قال: ثم جاءنا فأخبرنا فاحتملنا صاحبنا وقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخبرناه بقتل عدو الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه.
قال: فقال: هاتوا أسيافكم.
فجئنا بها فنظر إليها، فقال لسيف عبدالله بن أنيس: هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام.
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك: لله در عصابة لاقيتهم * يا ابن الحقيق
وأنت يابن الاشرف يسرون بالبيض الخفاف إليكم * مرحا كأسد في عرين مغرف (2) حتى
أتوكم في محل بلادكم * فسقوكم حتفا ببيض ذفف مستبصرين لنصر دين نبيهم * مستصغرين
لكل أمر مجحف هكذا أورد هذه القصة الامام محمد بن إسحاق رحمه الله.
* * * وقد قال الامام أبو عبد الله البخاري: حدثنا إسحاق بن نصر، حدثنا يحيى بن
آدم، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطا إلى أبي رافع فدخل عليه عبدالله بن عتيك بيته
ليلا وهو نائم فقتله.
قال البخاري: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبدالله بن موسى، عن
__________
(1) فاظ: مات.
(2) مغرف: ذو شجر كثير ملتف.
(*)
إسرائيل،
عن أبي إسحاق، عن البراء قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع
اليهودي رجالا من الانصار وأمر عليهم عبدالله بن عتيك، وكان أبو رافع يؤذي رسول
الله صلى الله عليه وسلم ويعين عليه، وكان في حصن له بأرض الحجاز، فلما دنوا منه
وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال عبدالله: اجلسوا مكانكم فإني منطلق متلطف
للبواب لعلي أن أدخل.
فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته وقد دخل الناس، فهتف به
البواب: يا عبدالله إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب.
فدخلت فكمنت، فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق الاغاليق على ود (1) قال: فقمت إلى
الاقاليد وأخذتها وفتحت الباب، وكان أبو رافع يسمر عنده وكان في علالي له: فلما
ذهب عنه أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت بابا أغلقت علي من داخل، فقلت: إن
القوم نذروا بي (2) لم يخلصوا إلي حتى أقتله.
فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا أدري أين هو من البيت قلت: أبا
رافع.
قال: من هذا ؟.
فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف ضربة وأنا دهش، فما أغنيت شيئا، وصاح فخرجت من
البيت فأمكث غير بعيد، ثم دخلت إليه فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع ؟ فقال: لامك
الويل إن رجلا في البيت [ ضربني (4) ] قبل بالسيف.
قال: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت صبيب (3) السيف في بطنه حتى أخذ في
ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الابواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له
فوضعت رجلي وأنا أرى أنى قد انتهيت، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت
ساقي فعصبتها بعمامة حتى انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم
أقتلته.
فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعى أبا رافع ناصر أهل
__________
(1) الود: الوتد، أدغم التاء بعد قلبها دالا.
(2) نذروا: علموا.
وفي الاصل: سدروا لي.
وما أثبته عن صحيح البخاري 2 / 214.
(3) الصبيب: طرف السيف.
(4) من صحيح البخاري 2 / 215.
(*)
الحجاز.
فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء فقد قتل الله أبا رافع.
فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: ابسط رجلك.
فبسطت رجلي فمسحها فكأنما لم أشتكها قط.
* * * قال البخاري: حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الاودي، حدثنا شريح، حدثنا
إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق سمعت البراء، قال: بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى أبي رافع عبدالله بن عتيك وعبد الله بن عتبة في ناس معهم، فانطلقوا
حتى دنوا من الحصن، فقال لهم عبدالله بن عتيك: امكثوا أنتم حتى أنطلق أنا فأنظر.
قال: فتلطفت حتى أدخل الحصن، ففقدوا حمارا لهم فخرجوا بقبس يطلبونه.
قال: فخشيت أن أعرف قال: فغطيت رأسي وجلست كأني أقضي حاجة فقال (1): من أراد أن
يدخل فليدخل قبل أن أغلقه.
فدخلت ثم اختبأت في مربط حمار عند باب الحصن، فتعشوا عند أبي رافع وتحدثوا حتى ذهب
ساعة من الليل، ثم رجعوا إلى بيوتهم.
فلما هدأت الاصوات ولا أسمع حركة خرجت.
قال: ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوة، فأخذته.
ففتحت به باب الحصن قال: قلت: إن نذر بي القوم انطلقت على مهل.
ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فغلقتها
عليهم من ظاهر.
ثم صعدت إلى أبي رافع في سلم فإذا البيت مظلم قد طفئ سراجه، فلم أدر أين الرجل،
فقلت: يا أبا رافع.
قال: من هذا ؟ فعمدت نحو الصوت فأضربه، وصاح فلم تغن شيئا.
قال: ثم جئته كأني أغيثه فقلت: مالك يا أبا رافع.
وغيرت صوتي قال: لا أعجبك (2) لامك الويل ! دخل علي رجل فضربني بالسيف.
قال: فعمدت إليه
__________
(1) البخاري: فنادى صاحب الباب.
(2) البخاري: ألا أعجبك.
(*)
أيضا
فأضربه أخرى فلم تغن شيئا، فصاح وقام أهله.
ثم جئت وغيرت صوتي كهيئة المغيث فإذا هو مستلق على ظهره فأضع السيف في بطنه ثم
أنكفئ عليه حتى سمعت صوت العظم، ثم خرجت دهشا حتى أتيت السلم أريد أن أنزل فأسقط
منه، فانخلعت رجلي فعصبتها، ثم أتيت أصحابي أحجل.
فقلت: انطلقوا فبشروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع
الناعية.
فلما كان في وجه الصبح صعد الناعية فقال: أنعى أبا رافع.
قال: فقمت أمشي ما بي قلبة (1) فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم فبشرته.
تفرد به البخاري بهذه السياقات من بين أصحاب الكتب الستة.
ثم قال: قال الزهري: قال أبي بن كعب: فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
على المنبر فقال: أفلحت الوجوه.
قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله.
قال: أفتكتموه ؟ قالوا: نعم.
قال: ناولني السيف.
فسله فقال: أجل هذا طعامه في ذباب السيف.
قلت: يحتمل أن عبدالله بن عتيك لما سقط من تلك الدرجة انفكت قدمه وانكسرت ساقه
ووثئت (2) رجله، فلما عصبها استكن ما به لما هو فيه من الامر الباهر، ولما أراد
المشي أعين على ذلك لما هو فيه من الجهاد النافع، ثم لما وصل إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم واستقرت نفسه ثاوره الوجع في رجله، فلما بسط رجله
ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ماكان بها من بأس في الماضي ولم يبق بها
وجع يتوقع حصوله في المستقبل، جمعا بين هذه الرواية والتي تقدمت.
والله أعلم.
هذا، وقد ذكر موسى بن عقبة في مغازيه مثل سياق محمد بن إسحاق، وسمى الجماعة الذين
ذهبوا إليه كما ذكره ابن إسحاق وإبراهيم وأبو عبيد.
__________
(1) القلبة: العلة والداء.
(2) الاصل: وثبت.
وهو تحريف.
(*)
مقتل
خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي ذكره الحافظ البيهقي في الدلائل تلو مقتل أبي رافع.
قال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن جعفر بن
الزبير، عن ابن عبدالله بن أنيس، عن أبيه قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي يجمع لي الناس ليغزوني وهو
بعرنة، فائته فاقتله.
قال: قلت: يا رسول الله انعته لي حتى أعرفه.
قال: إذا رأيته وجدت له قشعريرة.
قال: فخرجت متوشحا سيفي حتى وقعت عليه وهو بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلا وحين كان
وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من القشعريرة،
فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي
نحوه، أومئ برأسي للركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل ؟ قلت: رجل من
العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لذلك.
قال: أجل أنا في ذلك.
قال: فمشيت معه شيئا حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف حتى قتلته، ثم خرجث وتركت
ظعائنه مكبات عليه.
فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني قال: أفلح الوجه.
قال: قلت: قتلته يا رسول الله.
قال: صدقت.
قال: ثم قام معي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل في
بيته فأعطاني عصا فقال: أمسك هذه عندك يا عبدالله بن أنيس.
قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا ؟ قال: قلت: أعطانيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأمرني أن أمسكها.
قالوا: أو لا ترجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسأله عن ذلك.
قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني
هذه
العصا ؟ قال: آية بيني وبينك يوم القيامة إن أقل الناس المتخصرون (1) يومئذ.
قال: فقرنها عبدالله بسيفه، فلم تزل معه حتى إذا مات أمر بها فضمت في كفنه ثم دفنا
جميعا.
ثم رواه الامام أحمد عن يحيى بن آدم، عن عبدالله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن
محمد بن جعفر بن الزبير، عن بعض ولد عبدالله بن أنيس، أو قال: عن عبدالله بن
عبدالله بن أنيس، عن عبدالله بن أنيس فذكر نحوه.
وهكذا رواه أبو داود، عن أبي معمر، عن عبد الوارث، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن
جعفر، عن عبدالله بن أنيس، عن أبيه.
فذكر نحوه.
ورواه الحافظ البيهقي من طريق محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن
الزبير، عن عبدالله ابن عبدالله بن أنيس، عن أبيه.
فذكره.
وقد ذكر قصته عروة بن الزبير وموسى لن عقبة في مغازيهما مرسلة.
فالله أعلم.
قال ابن هشام: وقال عبدالله بن أنيس في قتله خالد بن سفيان: تركت ابن ثور كالحوار
وحوله * نوائح تفرى كل جيب مقدد (2) تناولته والظعن خلفي وخلفه * بأبيض من ماء
الحديد المهند عجوم لهام الدارعين كأنه * شهاب غضي من ملهب متوقد (3) أقول له
والسيف يعجم رأسه * أنا ابن أنيس فارس غير قعدد أنا ابن الذي لم ينزل الدهر قدره *
رحيب فناء الدار غير مزند (4)
وقلت له خذها بضربة ماجد * خفيف على دين النبي محمد وكنت إذا هم النبي بكافر *
سبقت إليه باللسان وباليد
__________
(1) المتخصرون: المتكئون على المخاصر، جمع مخصرة، وهي ما يمسكه الانسان بيده من
عصا ونحوها.
(2) الحوار: ولد الناقة إلى أن يفصل عن أمه.
وتفرى: تقطع.
(3) عجوم: مختبر.
والقعدد: الجبان.
(4) المزند: البخيل الضيق.
(*)
قلت:
عبدالله بن أنيس بن حرام أبويحيى الجهني صحابي مشهور كبير القدر، كان فيمن شهد
العقبة، وشهد أحدا والخندق وما بعد ذلك، وتأخر موته بالشام إلى سنة ثمانين على
المشهور.
وقيل توفى سنة أربع وخمسين.
والله أعلم.
وقد فرق على بن الزبير وخليفة بن خياط بينه وبين عبدالله بن أنيس أبي عيسى
الانصاري، الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا يوم أحد بإداوة فيها ماء
فحل فمها وشرب منها، كما رواه أبو داود والترمذي من طريق عبدالله العمري، عن عيسى
بن عبدالله بن أنيس عن أبيه.
ثم قال الترمذي: وليس إسناده يصح، وعبد الله العمري (1) ضعيف من قبل حفظه.
__________
(1) هو عبدالله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، العمري.
وهو ضعيف غلب عليه الصلاح فلم يحفظ وكثر الخطأ في روايته.
اللباب 2 / 153.
(*)
قصة
عمرو بن العاص مع النجاشي بعد وقعة الخندق وإسلامه قال محمد بن إسحاق بعد مقتل أبي
رافع.
وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب بن أوس الثقفي، عن حبيب ابن أوس،
حدثني عمرو بن العاص من فيه قال: لما انصرفنا يوم الاحزاب عن
الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله
أني أرى أمر محمد يعلو الامور علوا منكرا، وإني لقد رأيت أمرا فما ترون فيه ؟
قالوا: وما رأيت ؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا
كنا عند النجاشي، فإنا إن نكن تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد، وإن
ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير.
قالوا: إن هذا لرأي.
قلت: فاجمعوا لنا ما نهدى له.
فكان (1) أحب ما يهدى إليه من أرضنا الادم (2)، فجمعنا له أدما كثيرا.
ثم خرجنا حتى قدمنا عليه.
فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه.
قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده.
قال: فقلت لاصحابي: هذا عمرو بن أمية،
__________
(1) ابن هشام: وكان.
(2) الادم: الجلد أو أحمره، أو المصبوغ منه.
(*)
لو
قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت رأت قريش أني قد
أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
قال: فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصبغ.
فقال: مرحبا بصديقي، هل أهديت لي من بلادك شيئا ؟ قال: قلت: نعم أيها الملك، قد
أهديت لك أدما كثيرا.
قال: ثم قربته إليه فأعجبه واشتهاه.
ثم قلت له: أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول رجل عدو لنا،
فأعطنيه لاقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
قال: فغضب ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت الارض لدخلت
فيها فرقا !
ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.
قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الاكبر الذي كان يأتي موسى فتقتله ؟
قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو ؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى
الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى بن عمران على فرعون وجنوده.
قال: قلت: أفتبايعني له على الاسلام ؟ قال: نعم.
فبسط يده فبايعته على الاسلام.
ثم خرجت على أصحابي وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت
عامدا إلى رسول الله صلى عليه وسلم لاسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح،
وهو مقبل من مكة فقلت: أين أبا سليمان ؟ فقال: والله لقد استقام الميسم (1)
__________
(1) الميسم: المكواة.
وهو أثر الحسن أيضا.
ورواية أبي ذر: في شرح السيرة: المنسم بالنون.
قال: ومعناه: تبين الطريق ووضح ".
(*)
وإن
الرجل لنبي، أذهب والله أسلم فحتى متى ! قال: قلت: والله ما جئت إلا لاسلم.
قال: فقدمنا المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فتقدم خالد بن الوليد فأسلم
وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي،
ولا أذكر ما تأخر.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو بايع فإن الاسلام يجب ما كان
قبله، وإن الهجرة تجب ما كان قبلها.
قال: فبايعته ثم انصرفت.
قال ابن إسحاق: وقد حدثني من لا أتهم أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة كان معهما،
أسلم حين أسلما، فقال عبدالله بن أبي الزبعري السهمي: أنشد عثمان بن طلحة خلفنا *
وملقى نعال القوم عند المقبل (1) وما عقد الآباء من كل حلفة * وما خالد من مثلها
بمحلل أمفتاح بيت غير بيتك تبتغي * وما تبتغي من بيت مجد مؤثل (2) فلا تأمنن خالدا
بعد هذه * وعثمان جاءا بالدهيم المعضل (3) قلت: كان إسلامهم بعد الحديبية، وذلك أن
خالد بن الوليد كان يومئذ في خيل المشركين كما سيأتي بيانه، فكان ذكر هذا الفصل في
إسلامهم بعد ذلك أنسب، ولكن ذكرنا ذلك تبعا للامام محمد بن إسحاق رحمه الله تعالى،
لان أول ذهاب عمرو ابن العاص إلى النجاشي كان بعد وقعة الخندق، [ و ] الظاهر أنه
ذهب بقية سنة خمس والله أعلم.
__________
(1) خلفنا: كذا بالاصل، ولعلها: حلفنا.
(2) ابن هشام: من مجد بيت مؤثل.
(3) الدهيم: الداهية.
(*)
فصل
في تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان ذكر البيهقي بعد وقعة
الخندق من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: " عسى الله أن
يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " قال: هو تزويج النبي صلى الله عليه
وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين.
ثم قال البيهقي: أنبأنا أبو عبدالله الحافظ، حدثنا أحمد بن نجدة، حدثنا يحيى ابن
عبدالحميد، أنبأنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أم حبيبة أنها
كانت عند عبيد الله بن جحش، وكان رحل إلى النجاشي فمات، وإن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تزوج بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة وزوجها إياه النجاشي
ومهرها أربعة آلاف درهم، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة وجهزها من عنده وما بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم بشئ.
قال: وكان مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أربعمائة.
قلت: والصحيح أن مهور أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت ثنتى عشرة أوقية ونشا،
والوقية أربعون درهما، والنش النصف.
وذلك يعدل خمسمائة درهم.
ثم روى البيهقي من طريق ابن لهيعة عن أبي الاسود، عن عروة أن عبيد الله بن جحش مات
بالحبشة نصرانيا، فخلف على زوجته أم حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، زوجها
منه عثمان بن عفان رضى الله عنه.
قلت: أما تنصر عبيد الله بن جحش فقد تقدم بيانه، وذلك على أثر ما هاجر مع (18 -
لسيرة 3)
المسلمين
إلى أرض الحبشة استزله الشيطان فزين له دين النصارى فصار إليه حتى مات، عليه لعنة
الله.
وكان يعير المسلمين فيقول لهم: أبصرنا وصأصأتم.
وقد تقدم شرح ذلك في هجرة الحبشة (1).
وأما قول عروة: إن عثمان زوجها منه.
فغريب، لان عثمان كان قد رجع إلى مكة قبل ذلك، ثم هاجر إلى المدينة وصحبته زوجته
رقية كما تقدم.
والله أعلم.
والصحيح ما ذكره يونس، عن محمد بن إسحاق قال: بلغني أن الذي ولى نكاحها ابن عمها
خالد بن سعيد بن العاص.
قلت: وكان وكيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبول العقد أصحمة النجاشي ملك
الحبشة، كما قال يونس عن محمد بن إسحاق، حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين،
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي
فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وساق عنه أربعمائة دينار.
* * * وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الحسن، عن أبيه، عن عبدالله بن عمرو بن
زهير، عن إسماعيل بن عمرو، أن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: ما شعرت وأنا بأرض
الحبشة إلا برسول النجاشي، جارية يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه
فاستأذنت علي فأذنت لها، فقالت: إن الملك يقول لك: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كتب إلي أن أوزجكه.
فقلت: بشرك الله بالخير.
وقالت: يقول لك الملك: وكلي من يزوجك.
قالت: فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته، وأعطيت أبرهة سوارين
__________
(1) تقدم ذلك في الجزء الثاني.
(*)
من
فضة وخذمتين (1) من فضة كانتا علي وخواتيم من فضة في كل أصابع رجلي، سرورا بما
بشرتني به.
فلما أن كان من العشى أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن كان هناك من المسلمين أن
يحضروا، وخطب النجاشي وقال: الحمد لله الملك القدوس المؤمن العزيز الجبار، وأشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم.
أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلب أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان
فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصدقها أربعمائة دينار.
ثم سكب الدنانير بين يدي القوم.
فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره
المشركون.
أما بعد، فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته
أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودفع النجاشي الدنانير إلى خالد بن سعيد فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا
فإن من سنة الانبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج.
فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا.
قلت: فلعل عمرو بن العاص لما رأى عمرو بن أمية خارجا من عند النجاشي بعد الخندق
إنما كان في قضية أم حبيبة.
فالله أعلم.
لكن قال الحافظ البيهقي: ذكر أبو عبدالله بن منده أن تزويجه عليه السلام بأم حبيبة
كان في سنة ست، وأن تزويجه بأم سلمة كان في سنة أربع.
__________
(1) الخذمة في الاصل: سمة للابل.
(*)
قلت:
وكذا قال خليفة وأبو عبيد الله معمر بن المثنى وابن البرقي، وأن تزويج أم حبيبة
كان في سنة ست.
وقال بعض الناس: سنة سبع.
قال البيهقي: هو أشبه.
قلت: قد تقدم تزويجه عليه السلام بأم سلمة في أواخر سنة أربع، وأما أم حبيبة
فيحتمل أن يكون قبل ذلك، ويحتمل أن يكون بعده، وكونه بعد الخندق أشبه، لما تقدم من
ذكر عمرو بن العاص أنه رأى عمرو بن أمية عند النجاشي، فهو في قضيتها والله أعلم.
وقد حكى الحافظ ابن الاثير في الغابة عن قتادة، أن أم حبيبة لما هاجرت من الحبشة
إلى المدينة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها.
وحكى عن بعضهم أنه تزوجها بعد إسلام أبيها بعد الفتح، واحتج هذا القائل بما رواه
مسلم من طريق عكرمة بن عمار اليماني عن أبي زميل سماك بن الوليد، عن ابن عباس أن
أبا سفيان قال: يا رسول الله ثلاث أعطنيهن.
قال: نعم.
قال: تؤمرني على أن أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين.
قال: نعم قال: ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك.
قال: نعم.
قال: وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها.
الحديث بتمامه.
قال ابن الاثير: وهذا الحديث مما أنكر على مسلم، لان أبا سفيان لما جاء يجدد العقد
قبل الفتح دخل على ابنته أم حبيبة فثنت عنه فراش النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
والله ما أدري أرغبت بي عنه أو به عني ؟ قالت: بل هذا فراش رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأنت رجل مشرك.
فقال: والله لقد أصابك بعدي يا بنية شر.
وقال ابن حزم: هذا الحديث وضعه عكرمة بن عمار، وهذا القول منه لا يتابع عليه.
وقال آخرون: أراد أن يجدد العقد لما فيه بغير إذنه من الغضاضة عليه.
وقال بعضهم: لانه اعتقد انفساخ نكاح ابنته بإسلامه.
وهذه
كلها ضعيفة، والاحسن في هذا أنه أراد أن يزوجه ابنته الاخرى عمرة لما رأى في ذلك
من الشرف له واستعان بأختها أم حبيبة كما في الصحيحين.
وإنما وهم الراوي في تسميته أم حبيبة وقد أوردنا لذلك خبرا مفردا.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: توفيت أم حبيبة سنة أربع وأربعين.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: توفيت قبل معاوية بسنة.
وكانت وفاة معاوية في رجب سنة ستين.
تزويجه عليه السلام بزينب بنت جحش ابن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم
بن دودان بن أسد بن خزيمة الاسدية أم المؤمنين.
وهي بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قبله عند
مولاه زيد بن حارثة رضى الله عنه.
قال قتادة والواقدي وبعض أهل المدينة: تزوجها عليه السلام سنة خمس، زاد بعضهم في
ذي القعدة.
قال الحافظ البيهقي: تزوجها بعد بني قريظة.
وقال خليفة بن خياط وأبو عبيدة معمر بن المثنى وابن منده: تزوجها سنة ثلاث.
والاول أشهر وهو الذي سلكه
ابن جرير وغير واحد من أهل التاريخ.
وقد ذكر غير واحد من المفسرين والفقهاء وأهل التاريخ في سبب تزويجه إياها عليه
السلام حديثا ذكره أحمد بن حنبل في مسنده تركنا إيراده قصدا لئلا يضعه من لا يفهم
على غير موضعه.
وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت
عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق
أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في.
أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا.
ما كان على
النبي
من حرج فيما فرض الله له، سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا
مقدورا " (1).
وقد تكلمنا على ذلك في التفسير بما فيه كفاية.
فالمراد بالذي أنعم الله عليه هاهنا زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه
وسلم، أنعم الله عليه بالاسلام، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتق
وزوجه بابنة عمه زينب بنت جحش.
قال مقاتل بن حبان: وكان صداقه لها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا
وخمسين مدا وعشرة أمداد من تمر، فمكثت عنده قريبا من سنة أو فوقها، ثم وقع بينهما
فجاء زوجها يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان صلى الله عليه وسلم يقول
له: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
قال الله: " وتخفي في نفسك ما الله مبديه " قال على بن الحسين زين
العابدين والسدى: كان [ رسول ] الله قد علم أنها ستكون من أزواجه، فهو الذي كان في
نفسه عليه السلام.
وقد تكلم كثير من السلف هاهنا بآثار غريبة، وبعضها فيه نظر تركناها.
* * * قال الله تعالى: " فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها " ذلك أن زيدا
طلقها، فلما انقضت عدتها بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبها إلى نفسها
ثم تزوجها، وكان الذي زوجها منه رب العالمين تبارك وتعالى، كما ثبت في صحيح
البخاري عن أنس ابن مالك، أن زينب بنت جحش كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم فتقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات.
وفي رواية من طريق عيسى بن طهمان عن أنس، قال: كانت زينب تفخر على
__________
(1) سورة الاحزاب: 37، 38.
(*)
نساء
النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: أنكحني الله من السماء وفيها أنزلت آية الحجاب
" يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير
ناظرين إناه " الآية.
وروى البيهقي من حديث حماد، بن زيد عن ثابت، عن أنس، قال: جاء زيد يشكو زينب، فجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك.
قال أنس: فلو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا لكتم هذه، فكانت تفخر
على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهليكن وزوجني الله من فوق سبع
سماوات.
ثم قال: رواه البخاري عن أحمد، عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن حماد بن زيد.
ثم روى البيهقي من طريق عفان، عن حماد بن زيد، عن ثابت عن أنس، قال: جاء زيد يشكو
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: أمسك عليك أهلك.
فنزلت: " وتخفي في نفسك ما الله مبديه ".
ثم قال: [ رواه ] البخاري: عن محمد بن عبدالرحيم، عن معلى بن منصور، عن محمد
مختصرا.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير عن مغيرة، عن الشعبي قال: كانت زينب
تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: إني لادل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل بهن،
أن جدي وجدك واحد، تعني عبدالمطلب، فإنه أبو أبي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو
أمها أميمة بنت عبدالمطلب، وأني أنكحنيك الله عزوجل من السماء، وأن السفير جبريل
عليه السلام.
وقال الامام أحمد: حدثنا هاشم - يعني ابن القاسم - حدثنا النضر، حدثنا سليمان ابن
المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال النبي صلى الله عليه وسلم
لزيد: اذهب فاذكرها علي.
فانطلق حتى أتاها وهى تخمر عجينها، قال: فلما رأيتها
عظمت
في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها،
فوليتها ظهري ونكصت على عقبى.
وقلت: يا زينب أبشري، أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك.
قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي عزوجل ثم قامت إلى مسجدها ونزل القرآن،
وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن.
قال أنس: ولقد رأيتنا حين دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا عليها
الخبز واللحم، فخرج الناس وبقى رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم واتبعته فجعل يتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن: يا رسول الله
كيف وجدت أهلك ؟ فما أدرى أنا أخبرته والقوم قد خرجوا أو أخبر.
قال: فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه، فألقى الستر بيني وبينه، ونزل لحجاب
ووعظ القوم بما وعظوا به: " لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم "
الآية.
وكذا رواه مسلم والنسائي من طريق سليمان بن المغيرة.
ذكر نزول الحجاب صبيحة عرسها الذي ولى الله عقد نكاحه
فناسب نزول الحجاب في هذا العرس صيانة لها ولاخواتها من أمهات المؤمنين، وذلك وفق
الرأي العمري.
قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله الرقاش، حدثنا معتمر بن سليمان، سمعت أبي
حدثنا أبو مجلز، عن أنس بن مالك، قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب
بنت جحش دعا القوم فطعموا وجلسوا يتحدثون، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما
رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم
ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقوا، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه
وسلم أنهم
قد
انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى
" يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي " الآية.
وقد رواه البخاري في مواضع أخر ومسلم والنسائي من طرق عن معتمر.
ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس نحوه.
وقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن
أنس بن مالك قال: بنى على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم،
فأرسلت على الطعام داعيا، فيجئ قوم فيأكلون ويخرجون ثم يجئ قوم فيأكلون ويخرجون،
فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقلت: يا نبي الله ما أجد أحدا أدعوه.
قال: ارفعوا طعامكم، وبقى ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه
وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته.
قالت: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، كيف وجدت أهلك بارك الله لك ! فتقرى حجر
نسائه كلهن ويقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة، ثم رجع لنبي صلى
الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجو،
فخرج
حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب وأخرى خارجه أرخى لستر بيني وبينه، وأنزلت آية
الحجاب.
تفرد به البخاري من هذا الوجه، ثم رواه منفردا به أيضا عن إسحاق.
هو نصر، عن عبد الله بن بكبر السهمي، عن حميد بن أنس بنحو ذلك، وقال: رجلان، بدل
ثلاثة، فالله أعلم.
قال البخاري: وقال إبراهيم بن طهمان، عن الجعد أبي عثمان، عن أنس فذكر نحوه.
وقد
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو المظفر، حدثنا جعفر بن سليمان، عن الجعد
أبي عثمان اليشكري:، عن أنس بن مالك، قال: أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض
نسائه، فصنعت أم سليم حيسا ثم حطته في تور فقالت: اذهب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأخبره أن هذا منا له قليل.
قال أنس: والناس يومئذ في جهد، فجئت به فقلت: يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك
وهي تقرئك السلام وتقول: إن هذا منا له قليل فنظر إليه ثم قال: ضعه في ناحية
البيت.
ثم قال: اذهب فادع لي فلانا وفلانا.
فسمى رجالا كثيرا قال: ومن لقيت من المسلمين.
فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين.
فجئت والبيت والصفة والحجرة ملاء من الناس.
فقلت: يا أبا عثمان كم كانوا ؟ قال: كانوا زهاء ثلاثمائة.
قال أنس: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: جئ.
فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال ما شاء الله.
ثم قال: ليتحلق عشرة عشرة ويسموا، وليأكل كل إنسان مما يليه.
فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ارفعه.
قال: فجئت فأخذت التور فنظرت فيه، فلا أدري أهو حين وضعته أكثر أم حين رفعته !
قال: وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج رسول الله صلى
الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط، فأطالوا الحديث فشقوا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس حياء، ولو علموا كان ذلك عليهم
عزيزا.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم على حجره وعلى نسائه، فلما رأوه قد جاء
ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب فخرجوا، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بيته يسيرا وأنزل الله القرآن، فخرج وهو يقرأ هذه الآية: " يا أيها الذين
آمنوا
لا
تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم
فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث، إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيى
منكم والله لا يستحيى من الحق، وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم
أطهر لقلوبكم وقلوبهن، وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من
بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما.
إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليما (1) ".
قال أنس: فقرأهن علي قبل الناس وأنا أحدث الناس بهن عهدا.
وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة، عن جعفر بن سليمان، عن الجعد أبي
عثمان به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الجعد أبي عثمان به.
وقد روى هذا الحديث البخاري والترمذي والنسائي من طرق، عن أبي بشر الاحمسي الكوفي،
عن أنس بنحوه.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نضرة العبدي عن أنس بنحوه، ولم يخرجوه.
ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن سعيد ومن حديث الزهري عن أنس نحو ذلك.
* * * قلت: كانت زينب بنت جحش رضى الله عنها من المهاجرات الاول، وكانت كثيرة
الخير والصدقة، وكان اسمها أولا برة فسماها النبي صلى الله عليه وسلم زينب، وكانت
تكنى بأم الحكم.
قالت عائشة رضى الله عنها: ما رأيت امرأة قط خيرا في الدين من زينب وأتقى لله
وأصدق حديثا وأوصل للرحم وأعظم أمانة وصدقة.
__________
(1) سورة الاحزاب الآيتان: 53، 54.
(*)
وثبت
في الصحيحين كما سيأتي في حديث الافك عن عائشة أنها قالت: وسأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عني زينب بنت جحش وهي التي كانت تسامينى من نساء النبي صلى الله عليه
وسلم، فعصمها الله بالورع فقالت: يا رسول الله أحمى سمعي وبصري، ما علمت إلا خيرا.
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا محمود بن عيلان، حدثنا الفضل بن موسى
الشيباني، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أسرعكن لحوقا بي أطولكن يدا.
قالت: فكنا نتطاول أينا أطول يدا.
قالت: فكانت زينب أطولنا يدا، لانها كانت تعمل بيدها وتتصدق.
انفرد به مسلم.
قال الواقدي وغيره من أهل السير والمغازي والتواريخ: توفيت سنة عشرين من الهجرة،
وصلى عليها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ودفنت بالبقيع وهي أول
امرأة صنع لها النعش.
سنة
ست من الهجرة النبوية
قال البيهقي: كان يقال: في المحرم منها سرية محمد بن مسلمة قبل نجد، وأسروا فيها
ثمامة بن أثال اليمامي.
قلت: لكن في سياق ابن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، أنه شهد ذلك.
وهو إنما هاجر بعد خيبر فيؤخر إلى ما بعدها.
والله أعلم.
وهي السنة التي كان في أوائلها غزوة بني لحيان على الصحيح.
قال ابن إسحاق: وكان فتح بني قريظة في ذي القعدة وصدر من ذي الحجة، وولى تلك الحجة
المشركون، يعني في سنة خمس.
كما تقدم.
قال: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهري
ربيع، وخرج في جمادي الاولى على رأس ستة أشهر من فتح بني قريظة إلى بني لحيان يطلب
بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غرة.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
والمقصود أنه عليه السلام لما انتهى إلى منازلهم هربوا من بين يديه، فتحصنوا في
رؤوس الجبال فمال إلى عسفان فلقى بها جمعا من المشركين وصلى بها صلاة الخوف.
وقد تقدم ذكر هذه الغزوة في سنة أربع وهنالك ذكرها البيهقي.
والاشبه ما ذكره ابن إسحاق أنها كانت بعد الخندق.
وقد ثبت أنه صلى بعسفان يوم بني لحيان، فلتكتب هاهنا وتحول من هناك، اتباعا لامام
أصحاب المغازي في زمانه وبعده، كما قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازي فهو
عيال على محمد بن إسحاق.
وقد قال كعب بن مالك في غزوة بنى لحيان:
لو
ان بني لحيان كانوا تناظروا * لقوا عصبا في دارهم ذات مصدق لقوا سرعانا يملا السرب
روعه * أمام طحون كالمجرة فيلق (1) ولكنهم كانوا وبارا تتبعت * شعاب حجاز غير ذي
متنفق (2)
غزوة ذي قرد قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يقم
بها إلا ليالي قلائل حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري في خيل من
غطفان على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم بالغابة، وفيها رجل من بني غفار ومعه
امرأته، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة في اللقاح.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة و عبدالله بن أبي بكر ومن لا أتهم، عن
عبدالله بن كعب بن مالك - كل قد حدث في غزوة ذي قرد بعض الحديث - أنه كان أول من
نذر بهم سلمة بن عمرو بن الاكوع الاسلمي، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله ومعه
غلام لطلحة بن عبيد الله معه فرس له يقوده، حتى إذا علا ثنية الوداع نظر إلى بعض
خيولهم فأشرف في ناحية سلع ثم صرخ: واصباحاه ! ثم خرج يشتد في آثار القوم وكان مثل
السبع، حتى لحق بالقوم فجعل يردهم بالنبل ويقول: خذها وأنا ابن الاكوع * اليوم يوم
الرضع فإذا وجهت الخيل نحوه انطلق هاربا ثم عارضهم فإذا أمكنه الرمى رمى ثم قال:
خذها وأنا ابن الاكوع * اليوم يوم الرضع قال: فيقول قائلهم: أو يكعنا (3) هو أول
النهار.
__________
(1) السرعان: أوائل الخيل.
والسرب: القلب.
والطحون: الكتيبة العظيمة.
والمجرة: باب السماء.
والفيلق: الكتيبة.
(2) الوبار: جمع وبر وهي دويبة كالسنور.
والشعاب: جمع شعب.
والمتنفق: المخرج.
(3) يكعنا: يخوفنا، أو يصرفنا عن غايتنا.
(*)
قال:
وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم صياح ابن الاكوع فصرخ بالمدينة: الفزع الفزع.
فترامت الخيول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أول من
انتهى إليه من الفرسان المقداد بن الاسود، ثم عباد بن بشر وسعد بن زيد وأسيد بن
ظهير - يشك فيه - وعكاشة بن محصن، ومحرز بن نضلة أخو بني أسد بن خزيمة وأبو قتادة
الحارث بن ربعي أخو بني سلمة *، وأبو عياش عبيد بن زيد بن صامت أخو بني زريق قال:
فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليهم سعد بن زيد ثم قال: اخرج
في طلب القوم حتى ألحقك في الناس.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابي عياش فيما بلغني عن رجال من بني زريق: يا
أبا عياش لو أعطيت هذا الفرس رجلا هو أفرس منك فلحق بالقوم.
قال أبو عياش: فقلت يا رسول الله أنا أفرس الناس.
ثم ضربت الفرس فوالله ما جرى بي خمسين ذراعا حتى طرحني فعجبت من ذلك، فزعم رجال من
زريق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى فرس أبي عياش معاذ بن ماعص أو عائذ بن
ماعص بن قيس بن خلدة، وكان ثامنا.
قال: وبعض الناس يعد سلمة بن الاكوع ثامنا ويطرح أسيد بن ظهير.
فالله أعلم أي ذلك كان.
قال: ولم يكن سلمة بن الاكوع يومئذ فارسا، قد كان أول من لحق بالقوم على رجليه.
قال: فخرج الفرسان حتى تلاحقوا، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن أول فارس لحق
بالقوم محرز بن نضلة وكان يقال له الاخرم ويقال له قمير، وكانت الفرس التي تحته
لمحمود بن مسلمة، وكان يقال للفرس ذو اللمة فلما انتهى إلى العدو قال لهم: قفوا
معشر بني اللكيعة حتى يلحق بكم من وراءكم من أدباركم من المهاجرين والانصار.
قال: فحمل عليه رجل منهم فقتله وجال الفرس فلم يقدر عليه حتى وقف على آريه من بني
عبد الاشهل، أي رجع إلى مربطه الذي كان فيه بالمدينة.
قال ابن إسحاق: ولم يقتل يومئذ من المسلمين غيره.
قال ابن هشام:
وقد
ذكر غير واحد من أهل العلم أنه قد قتل معه أيضا وقاص بن مجزز المدلجي.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم عن عبدالله بن كعب بن مالك أن محرزا كان على
فرس لعكاشة بن محصن يقال له الجناح، فقتل محرز واستلب جناح.
فالله أعلم.
قال: ولما تلاحقت الخيل قتل أبو قتادة حبيب بن عيينة وغشاه برده ثم لحق بالناس،
وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.
فإذا حبيب مسجى ببرد أبي قتادة فاسترجع الناس وقالوا: قتل أبو قتادة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس بأبى قتادة ولكنه قتيل لابي قتادة.
ووضع عليه برده لتعرفوا أنه صاحبه.
قال: وأدرك عكاشة بن محصن أوبارا وابنه عمرو بن أوبار وهما على بعير واحد
فانتظمهما بالرمح فقتلهما جميعا واستنقذوا بعض اللقاح.
قال: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالجبل من ذي قرد، وتلاحق به
الناس فأقام عليه يوما وليلة، وقال له سلمة بن الاكوع: يا رسول الله لو سرحتني في
مائة رجل لاستنقذت بقية السرح وأخذت بأعناق القوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني: إنهم الآن ليغبقون في غطفان.
فقسم رسول الله صلى الله وعليه وسلم في أصحابه في كل مائة رجل جزورا وأقاموا
عليها، ثم رجع قافلا حتى قدم المدينة.
قال: وأقبلت امرأة الغفاري على ناقة من إبل النبي صلى الله عليه وسلم حتى قدمت
عليه المدينة فأخبرته الخبر، فلما فرغت قالت: يا رسول الله إني قد نذرت لله أن
أنحرها إن نجاني الله عليها.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: " بئسما جزيتها
أن
حملك الله عليها ونجاك بها ثم تنحرينها، إنه لانذر في معصية الله ولا فيما لا
تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة الله ".
قال ابن إسحاق: والحديث في ذلك عن أبي الزبير المكي عن الحسن البصري.
* * * هكذا أورد ابن إسحاق هذه القصة بما ذكر من الاسناد والسياق.
وقد قال البخاري رحمه الله بعد قصة الحديبية وقبل خيبر: غزوة ذي قرد، وهي الغزوة
التي أغاروا على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم قبل خيبر بثلاث.
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، سمعت سلمة بن الاكوع يقول:
خرجت قبل أن يؤذن بالاولى (1)، وكانت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد
قال: فلقيني غلام لعبد الرحمن بن عوف فقال: أخذت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم.
فقلت: من أخذها ؟ قال: غطفان.
قال: فصرخت ثلاث صرخات: واصباحاه ! قال: فأسمعت ما بين لابتي المدينة.
ثم اندفعت على وجهي حتى أدركتهم وقد أخذوا يستقون من الماء، فجعلت أرميهم بنبلي،
وكنت راميا، وأقول،: أنا ابن الاكوع اليوم يوم الرضع (2).
وأرتجز.
حتى استنقذت اللقاح منهم واستلبت منهم ثلاثين بردة.
قال: وجاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس فقلت: يا رسول الله قد حميت القوم
الماء وهم عطاش فابعث إليهم الساعة.
فقال: " يا ابن الاكوع، ملكت فأسجح (3) " ثم رجعنا ويردفني رسول الله
صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى قدمنا المدينة.
وهكذا رواه مسلم عن قتيبة به، ورواه البخاري عن أبي عاصم السهلي، عن يزيد ابن أبي
عبيدة، عن مولاه سلمة بنحوه.
* * *
__________
(1) الاولى: صلاة الصبح.
(2) يوم الرضع: يوم هلاك اللئام.
(3) أسجح: اعف (19 - السيرة 3) (*)
وقال
الامام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني إياس بن سلمة بن
الاكوع، عن أبيه، قال: قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فخرجت أنا ورباح غلام النبي صلى الله عليه وسلم بظهر رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيدالله أريد أن أنديه مع الابل، فلما كان
بغلس أغار عبدالرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل راعيها
وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل، فقلت: يا رباح اقعد على هذا الفرس فألحقه بطلحة
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد أغير على سرحه.
قال.
وقمت على تل فجعلت وجهي من قبل المدينة، ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه ! قال: ثم
اتبعت القوم معي سيفي ونبلي، فجعلت أرميهم وأعقر بهم، وذلك حين يكثر الشجر، فإذا
رجع إلي فارس جلست له في أصل شجرة ثم رميت، فلا يقبل إلي فارس إلا عقرت به، فجعلت
أرميهم وأنا أقول: أنا ابن الاكوع * واليوم يوم الرضع قال: فألحق برجل منهم فأرميه
وهو على راحلته فيقع سهمي في الرجل حتى انتظم كتفه فقلت: خذها وأنا ابن الاكوع *
واليوم يوم الرضع فإذا كنت في الشجر أحرقتهم بالنبل، فإذا تضايقت الثنايا علوت
الجبل فرديتهم بالحجارة، فما زال ذاك شأني وشأنهم أتبعهم وأرتجز حتى ما خلق الله
شيئا من ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خلفته وراء ظهرى فاستنقذته من
أيديهم، ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وأكثر من ثلاثين بردة
يستخفون منها ولا يلقون من ذلك شيئا إلا جعلت عليه حجارة وجمعته على طريق رسول
الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا امتد الضحى أتاهم عيينة بن بدر الفزاري مددا لهم
وهم في ثنية ضيقة، ثم علوت
الجبل
فأنا فوقهم، فقال عيينة: ما هذا الذي أرى ؟ قالوا: لقينا من هذا البرح، ما فارقنا
بسحر حتى الآن وأخذ كل شئ بأيدينا وجعله وراء ظهره.
فقال عيينة: لولا أن هذا
يرى أن وراءه طلبا لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم.
فقام إلي نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل، فلما أسمعتهم الصوت قلت: أتعرفونني ؟
قالوا: ومن أنت ؟ قلت: أنا ابن الاكوع، والذي كرم وجه محمد لا يطلبني رجل منكم
فيدركني ولا أطلبه فيفوتني.
فقال رجل منهم: إن أظن.
قال: فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صلى الله عليه وسلم يخللون
الشجر وإذا أولهم الاخرم الاسدي، وعلى أثره أبو قتادة فارس رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وعلى أثره المقداد بن الاسود الكندي، فولى المشركون مدبرين، وأنزل من
الجبل فأخذ عنان فرسه، فقلت: يا أخرم ائذن القوم - يعني احذرهم - فإني لا آمن أن
يقتطعوك فاتئد حتى يلحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قال: يا سلمة إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل
بيني وبين الشهادة ! قال: فخليت عنان فرسه، فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة ويعطف عليه
عبدالرحمن، فاختلفا طعنتين، فعقر الاخرم بعبد الرحمن وطعنه عبدالرحمن فقتله.
فتحول عبد الرحمن على فرس الاخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن فاختلفا طعنتين
فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة، وتحول أبو قتادة على فرس الاخرم.
ثم إني خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي صلى الله عليه وسلم
شيئا، ويعرضون قبل غيبوبة الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له ذو قرد، فأرادوا أن
يشربوا منه فأبصروني أعدوا وراءهم فعطفوا عنه وأسندوا في الثنية ثنية ذي بئر وغربت
الشمس، وألحق رجلا فأرميه فقلت: خذها وأنا ابن الاكوع واليوم يوم الرضع.
قال: فقال: ياثكل أم أكوع بكرة.
فقلت: نعم أي عدو نفسه.
وكان الذي رميته بكرة (1)،
__________
(1) صحيح مسلم: " قال: يا ثكلته أمه أكوعه بكرة.
قال.
قلت: يا عدو نفسه أكوعك بكرة ".
(*)
وأتبعته
سهما آخر فعلق به سهمان، ويخلفون فرسين فجئت بهما أسوقهما إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو على الماء الذي أجليتهم عنه، ذو قرد، وإذا بنبي الله
صلى الله عليه وسلم في خمسمائة، وإذا بلال قد نحر جزورا مما خلفت فهو يشوي لرسول
الله صلى الله عليه وسلم من كبدها وسنامها.
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله خلني فانتخب من أصحابك
مائة فاخذها على الكفار بالعشوة فلا يبقى منهم مخبر إلا قتلته.
فقال: أكنت فاعلا ذلك يا سلمة ؟ قال: قلت: نعم والذي أكرمك.
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه في ضوء النار، ثم قال: إنهم
يقرون الآن بأرض غطفان.
فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورا، فلما أخذوا
يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هرابا.
فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير فرساننا أبو قتادة، وخير
رجالتنا سلمة.
فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم الفارس والراجل جميعا، ثم أردفني وراءه
على العضباء راجعين إلى المدينة.
فلما كان بيننا وبينها قريب من ضحوة، وفي القوم رجل من الانصار كان لا يسبق جعل
ينادي: هل من مسابق، ألا رجل يسابق إلى المدينة ؟ فأعاد ذلك مرارا وأنا وراء رسول
الله صلى الله عليه وسلم مرد في، فقلت له: أما تكرم كريما ولا تهاب شريفا ؟ قال:
لا، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي خلني فلاسابق الرجل.
قال: إن شئت.
قلت: أذهب إليك.
فطفر عن راحلته وثنيت رجلي فطفرت عن الناقة، ثم إني ربطت عليه شرفا أو شرفين، يعني
استبقيت من نفسي، ثم إني عدوت حتى ألحقه فأصك بين كتفيه بيدي قلت: سبقتك والله.
أو كلمة نحوها.
قال: فضحك وقال: إن أظن.
حتى قدمنا المدينة.
وهكذا
رواه مسلم من طرق عن عكرمة بن عمار بنحوه، وعنده: فسبقته إلى
المدينة، فلم نلبث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر.
ولاحمد هذا السياق.
ذكر البخاري والبيهقي هذه الغزوة بعد الحديبية وقبل خيبر، وهو أشبه مما ذكره ابن
إسحاق والله أعلم.
فينبغي تأخيرها إلى أوائل سنة سبع من الهجرة، فإن خيبر كانت في صفر منها.
وأما قصة المرأة التي نجت على ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ونذرت نحرها لنجاتها
عليها فقد أوردها ابن إسحاق بروايته عن أبي الزبير، عن الحسن البصري مرسلا.
وقد جاء متصلا من وجوه أخر.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب عن أبي قلابة، عن
أبي المهلب، عن عمران بن حصين، قال: كانت العضباء لرجل من بني عقيل وكانت من سوابق
الحاج فأخذت العضباء معه.
قال: فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق ورسول الله صلى الله عليه
وسلم على حمار عليه قطيفة، فقال: يا محمد علام تأخذوني وتأخذون سابقة الحاج ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: نأخذك بجريرة حلفائك ثقيف.
قال: وكانت ثقيف قد أسروا رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال فيما قال: [ إني ] مسلم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح.
قال: ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إني جائع فأطعمني وإني ظمآن
فاسقني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه حاجتك.
ثم فدى بالرجلين وحبس رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء لرحله.
قال: ثم إن المشركين أغاروا على سرح المدينة فذهبوا به، وكانت العضباء فيه، وأسروا
امرأة من المسلمين.
قال: وكانوا إذا نزلوا أراحوا إبله بأفنيتهم.
قال: فقامت المرأة ذات ليلة بعد ما نوموا فجعلت كلما أتت على بعير رغا حتى أتت على
العضباء، فأتت
على
ناقة ذلول مجرسة (1) فركبتها ثم وجهتها قبل المدينة.
قال: ونذرت إن الله أنجاها عليها
لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة فقيل: ناقة رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قال: وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنذرها أو أتته فأخبرته، فقال: بئس ما
جزيتيها أو بئس ما جزتها إن أنجاها الله عليها لتنحرنها.
قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا وفاء لنذر في معصية الله ولا
فيما لا يملك ابن آدم ".
ورواه مسلم عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد.
* * * قال ابن إسحاق: وكان مما قيل من الاشعار في غزوة ذي قرد قول حسان بن ثابت
رضى الله عنه: لولا الذي لاقت ومس نسورها * بجنوب ساية أمس في التقواد (2) للقينكم
يحملن كل مدجج * حامي الحقيقة ماجد الاجداد ولسر أولاد اللقيطة أننا * سلم غداة
فوارس المقداد كنا ثمانية وكانوا جحفلا * لجبا فشكوا بالرماح بداد (3) كنا من
القوم الذين يلونهم * ويقدمون عنان كل جواد كلا ورب الراقصات إلى منى * يقطعن عرض
مخارم الاطواد (4) حتى نبيل الخيل في عرصاتكم * ونؤوب بالملكات والاولاد (5)
__________
(1) المجرسة: المدربة في الركوب والسير.
(2) لاقت: يريد الخيل.
ونسورها: النسر كالنواة في بطن الحافر، وفي الفرس عشرون عضوا كل عضو منها باسم
طائر.
وساية: موضع.
(3) الجحفل: الجيش الكثير.
واللجب: ذو الجلبة والصياح.
وبداد: متفرقين.
(4) المخارم: الطرق.
والاطواد: الجبال.
(5) نبيل: نجعلها تبول.
والعرصات: جمع عرصة وهي البقعة الواسعة بين الدور.
والملكات: النساء.
(*)
رهوا
بكل مقلص وطمرة * في كل معترك عطفن وواد (1) أفنى دوابرها ولاح متونها * يوم تقاد
به ويوم طراد فكذاك إن جيادنا ملبونة * والحرب مشعلة بريح غواد (2) وسيوفنا بيض
الحدائد تجتلى * جنن الحديد وهامة المرتاد أخذ الاله عليهم لحرامه * ولعزة الرحمن
بالاسداد كانوا بدار ناعمين فبدلوا * أيام ذي قرد وجوه عناد قال ابن إسحاق: فغضب
سعد بن زيد أمير سرية الفوارس المتقدمين أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم على
حسان وحلف لا يكلمه أبدا، وقال: انطلق إلى خيلي وفوارسي فجعلها للمقداد.
فاعتذر إليه حسان بأنه وافق الروى اسم المقداد ! ثم قال أبياتا يمدح بها سعد بن
زيد: إذا أردتم الاشد الجلدا * أو ذا غناء فعليكم سعدا سعد بن زيد لا يهد هدا قال:
فلم تقع منه بموقع.
وقال حسان بن ثابت في يوم ذي قرد: أظن عيينة إذ زارها * بأن سوف يهدم فيها قصورا
فأكذبت ما كنت صدقته * وقلتم سنغنم أمرا كبيرا فعفت المدينة إذ زرتها * وآنست
للاسد فيها زئيرا وولوا سراعا كشد النعام * ولم يكشفوا عن ملط حصيرا (3) أمير
علينا رسول المليك * أحبب بذاك إلينا أميرا
__________
(1) رهوا: سريعا.
والمقلص: المشمر.
والطمرة: الفرس السريع.
(2) ملبونة: تسقى اللبن.
(3) الملط: الناقة، من قولهم: ألطت الناقة بذنبها إذا أدخلته بين رجليها.
والحصير ما يكنف به حول الابل من عيدان الحظيرة.
(*)
رسول
يصدق ما جاءه * ويتلوا كتابا مضيئا منيرا وقال كعب بن مالك في يوم ذي قرد يمدح
الفرسان يومئذ من المسلمين: أيحسب أولاد اللقيطة أننا * على الخيل لسنا مثلهم في
الفوارس وإنا أناس لا نرى القتل سبة * ولا ننثني عند الرماح المداعس (1) وإنا
لنقرى الضيف من قمع الذرى * ونضرب رأس الابلج المتشاوس (2) نرد كماة المعلمين إذا
انتحوا * بضرب يسلى نخوة المتقاعس (3) بكل فتى حامى الحقيقة ماجد * كريم كسرحان
العضاه مخالس (4) يذودون عن أحسابهم وبلادهم * ببيض تقد الهام تحت القوانس (5)
فسائل بني بدر إذا ما لقيتهم * بما فعل الاخوان يوم التمارس (6) إذا ما خرجتم
فاصدقوا من لقيتم * ولا تكتموا أخباركم في المجالس وقولوا زللنا عن مخالب خادر *
به وحر في الصدر ما لم يمارس (7)
__________
(1) المداعس: الرماح التي لا تنثني.
(2) القمع: جمع قمعة وهي أعلى سنام البعير.
والابلج: المشرق.
والمتشاوس: المتكبر.
وفي ابن هشام: الابلخ.
(3) الكماة: الفوارس.
والمتقاعس: الذي لا يلين.
(4) السرحان: الذئب.
والعضاه: شجر ضخم.
(5) القوانس: أعالي بيض الحديد.
(6) التمارس: المجالدة في الحرب.
(7) الخادر: الاسد الذي يلزم أجمته.
والوحر: الحقد.
(*)
غزوة
بني المصطلق من خزاعة قال البخاري: وهي غزوة المريسيع.
قال محمد بن إسحاق: وذلك في سنة ست.
وقال موسى بن عقبة سنة أربع.
وقال النعمان بن راشد عن الزهري: كان حديث الافك في
غزوة المريسيع.
هكذا رواه البخاري عن مغازي موسى بن عقبة أنها كانت في سنة أربع.
والذي حكاه عنه وعن عروة أنها كانت في شعبان سنة خمس.
وقال الواقدي: كانت لليلتين من شعبان سنة خمس في سبعمائة من أصحابه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار، بعد ما أورد قصة ذي قرد: فأقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالمدينة بعض جمادي الآخرة ورجب، ثم غزا بني المصطلق من خزاعة في شعبان
سنة ست.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة أبا ذر الغفاري ويقال نميلة بن عبدالله الليثي.
قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ومحمد بن يحيى
ابن حبان، كل قد حدثني بعض حديث بني المصطق قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن بني المصطلق يجمعون له وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، أبو جويرية بنت الحارث
التي تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا، فلما سمع بهم خرج إليهم حتى
لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل، فتزاحم الناس
واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وقتل من قتل منهم، ونقل رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه.
وقال الواقدي: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لليلتين مضتا من شعبان سنة خمس من
الهجرة في سبعمائة من أصحابه إلى بني المصطلق، وكانوا حلفاء بني مدلج، فلما انتهى
إليهم دفع راية المهاجرين إلى أبي بكر الصديق، ويقال إلى عمار بن ياسر، وراية
الانصار إلى سعد بن عبادة، ثم أمر عمر بن
الخطاب
فنادى في الناس أن قولوا: لا إله إلا الله.
تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم.
فأبوا فتراموا بالنبل، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فحملوا حملة
رجل واحد، فما أفلت منهم رجل واحد، وقتل منهم عشرة وأسر سائرهم ولم يقتل من
المسلمين إلا رجل واحد.
وثبت في الصحيحين من حديث عبدالله بن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل
القتال فقال: قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون في
أنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى سبيهم فأصاب يومئذ - أحسبه قال -
جويرية بنت الحارث.
وأخبرني عبدالله بن عمر بذلك، وكان بذلك الجيش.
قال ابن إسحاق: وقد أصيب رجل من المسلمين يقال له هشام بن صبابة، أصابه رجل من
الانصار وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ.
* * * وذكر ابن إسحاق أن أخاه مقيس بن صبابة قدم من مكة مظهرا للاسلام فطلب دية
أخيه هشام من رسول الله صلى الله عليه وسلم لانه قتل خطأ، فأعطاه ديته، ثم مكث
يسيرا ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ورجع مرتدا إلى مكة وقال في ذلك: شفى النفس أن
قد بات بالقاع مسندا * يضرج ثوبيه دماء الاخادع (1) وكانت هموم النفس من قبل قتله
* تلم فتحميني وطاء المضاجع حللت به وترى وأدركت ثؤرتي * وكنت إلى الاوثان أول
راجع ثأرت به فهرا وحملت عقله * سراة بني النجار أرباب فارع (2) قلت: ولهذا كان
مقيس هذا من الاربعة الذين أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وم الفتح دماءهم وإن
وجدوا معلقين بأستار الكعبة.
__________
(1) الاخادع: جمع أخدع، وهو عرق في المحجمتين، وهو شعبة من الوريد.
(2) فارع: حصن بالمدينة.
(*)
قال
ابن إسحاق: فبينا الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير
له من بني غفار يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر
الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني:
يا معشر الانصار.
وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين.
فغضب عبدالله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث فقال:
أوقد فعلوها ؟ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ؟ والله ما أعدنا وجلابيب قريش هذه
إلا كما قال الاول: " سمن كلبك يأكلك ! " أما والله لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل.
ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم
وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر،
وعنده عمر بن الخطاب فقال: مر به عباد بن بشر فليقتله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل
أصحابه، لا ولكن أذن بالرحيل.
وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها.
فارتحل الناس.
وقد مشى عبدالله بن أبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن زيد
بن أرقم بلغه ما سمع منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به.
وكان في قومه شريفا عظيما، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الانصار
من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.
حدبا على ابن أبي ودفعا عنه.
فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار لقيه أسيد بن حضير فحياه بتحية
النبوة وسلم عليه وقال: يا رسول الله والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح
في
مثلها ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو ما بلغك ما قال صاحبكم ؟ قال:
أي صاحب يا رسول الله ؟ قال: عبدالله بن أبي.
قال: وما قال ؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الاعز منها الاذل.
قال: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت،
هو والله الذليل وأنت العزيز.
ثم قال: يا رسول الله ارفق، فوالله لقد جاءنا الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز
ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.
ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح،
وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس فلم يلبثوا أن وجدوا مس الارض
فوقعوا نياما.
وإنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالامس من حديث عبدالله بن أبي، ثم
راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس وسلك الحجاز حتى نزل على ماء بالحجاز
فويق النقيع يقال له بقعاء.
فلما راح رسول الله صلى الله عليه وسلم هبت على الناس ريح شديدة فآذتهم وتخوفوها،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخوفوها فإنما هبت لموت عظيم من عظماء
الكفار.
فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت أحد بني قينقاع، وكان عظيما من
عظماء اليهود وكهفا للمنافقين، مات ذلك اليوم.
وهكذا ذكر موسى بن عقبة والواقدي.
وروى مسلم من طريق الاعمش، عن أبي سفيان، عن جابر نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم
الذي مات من المنافقين.
قال: هبت ريح شديدة والنبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال: هذه لموت
منافق.
فلما قدمنا المدينة إذا هو قد مات عظيم من عظماء المنافقين.
قال ابن إسحاق: ونزلت السورة التي ذكر الله فيها المنافقين في ابن أبي ومن كان على
مثل أمره، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذن زيد بن أرقم وقال:
هذا
الذي أوفى لله بأذنه.
قلت: وقد تكلمنا على تفسيرها بتمامها في كتابنا التفسير بما فيه كفاية عن إعادته
هاهنا، وسردنا طرق هذا الحديث عن زيد بن أرقم ولله الحمد والمنة، فمن أراد الوقوف
عليه أو أحب أن يكتبه هاهنا فليطلبه من هناك.
وبالله التوفيق.
* * * قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، أن عبدالله بن عبدالله بن أبي
بن سلول أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد
قتل عبدالله بن أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمر لي به فأنا أحمل إليك رأسه،
فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده منى، وإني أخشى أن تأمر به
غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبدالله بن أبي يمشي في الناس
فأقتله، فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا.
وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا
عمر ؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي لارعدت له آنف لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته.
فقال عمر: قد والله علمت لامر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.
وقد ذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن ابنه عبدالله رضى الله عنه وقف لابيه عبدالله
بن أبي بن سلول عند مضيق المدينة فقال: قف فوالله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ذلك.
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذنه في ذلك فأذن له فأرسله حتى دخل
المدينة.
قال
ابن إسحاق: وأصيب يومئذ من بني المصطلق ناس، وقتل علي بن أبي طالب منهم رجلين:
مالكا وابنه.
قال ابن هشام: وكان شعار المسلمين: يا منصور أمت أمت.
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب منهم سبيا كثيرا فقسمهم في
المسلمين.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرني إسماعيل بن جعفر، عن ربيعة بن أبي
عبدالرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، أنه قال: دخلت المسجد فرأيت
أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل، فقال أبو سعيد: خرجنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غزة بني المصطلق فأصبنا سبيا من سبي العرب فاشتهينا النساء
واشتدت علينا العزوبة، وأحببنا العزل وقلنا نعزل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك فقال: " ما عليكم ألا تفعلوا، ما من
نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا كائنة " وهكذا رواه [ مسلم ].
* * * قال ابن إسحاق: وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا جويرية بنت الحارث بن أبي
ضرار، فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة عن عائشة قالت: لما قسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت ابن
قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يراها
أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كتابتها.
قالت: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها ما
رأيت.
فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد
أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس
أو
لابن عم له فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي.
قال: فهل لك في خير من ذلك ؟ قالت: وما هو يا رسول الله ؟ قال: أقضى عنك كتابك
وأتزوجك.
قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت.
قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت
الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأرسلوا ما بأيديهم.
قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم
بركة على قومها منها.
ثم ذكر ابن إسحاق قصة الافك بتمامها في هذه الغزوة، وكذلك البخاري وغير واحد من
أهل العلم، وقد حررت طرق ذلك كله في تفسير سورة النور، فليلحق بكماله إلى هاهنا
وبالله المستعان.
وقال الواقدي: حدثنا حرام، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قالت جويرية بنت الحارث:
رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى
وقع في حجري، فكرهت أن أخبر به أحدا من الناس حتى قدم رسول الله صلى الله عليه
وسلم، فلما سبينا رجوت الرؤيا، قالت: فأعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتزوجني، والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم وما شعرت إلا
بجارية من بنات عمي تخبرني الخبر، فحمدت الله تعالى.
قال الواقدي: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل صداقها عتق أربعين من بني
المصطلق.
وذكر موسى بن عقبة عن بني المصطلق أن أباها طلبها وافتداها، ثم خطبها منه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها.
قصة
الافك وهذا سياق محمد بن إسحاق حديث الافك: قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن علقمة
بن وقاص وسعيد بن المسيب (1) وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبدالله (2) بن عتبة،
قال الزهري: وكل قد
حدثني بهذا الحديث، وبعض القوم كان أوعى له من بعض، وقد جمعت كل الذي (3) حدثني
القوم.
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عن عائشة، و
عبدالله بن أبي بكر، عن عمرة بنت عبدالرحمن، عن عائشة عن نفسها حين قال فيها أهل
الافك ما قالوا، فكل قد دخل في حديثها عن هؤلاء جميعا يحدث بعضهم ما لم يحدث
صاحبه، وكل كان عنها ثقة، فكلهم حدث عنها بما سمع قالت: كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، فلما كان
غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه، كما كان يصنع، فخرج سهمي عليهن معه، فخرج بي
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: وكان النساء إذ ذاك يأكلن العلق (4) لم يهجهن اللحم فيثقلن، وكنت إذا رحل لي
بعيري جلست في هودجي، ثم يأتي القوم الذين كانوا يرحلون لي فيحملونني ويأخذون
بأسفل الهودج فيرفعونه فيضعونه على ظهر البعير فيشدونه بحباله، ثم يأخذون برأس
البعير فينطلقون به.
__________
(1) ابن هشام: سعيد بن جبير.
(2) الاصل: و عبدالله بن عبيد الله.
وما أثبته عن ابن هشام.
(3) ابن هشام: لك الذي.
(4) العلق: جمع علقة، وهي كل ما يتبلغ به من العيش.
(*)
قالت:
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا
من المدينة نزل منزلا فبات به بعض الليل، ثم أذن مؤذن في الناس بالرحيل، فارتحل
الناس، وخرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي فيه جزع ظفار (1) فلما فرغت انسل من عنقي
ولا أدري، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده، وقد أخذ الناس في
الرحيل، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه فالتمسته حتى
وجدته، وجاء القوم خلافي الذين كانوا يرحلون لي البعير وقد كانوا فرغوا من رحلته،
فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع، فاحتملوه فشدوه على البعير ولم
يشكوا أني فيه، ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به.
فرجعت إلى العسكر وما فيه داع ولا مجيب، قد انطلق الناس.
قالت: فتلففت بجلبابي ثم اضطجعت في مكاني، وعرفت أن لو افتقدت لرجع الناس إلي.
قالت: فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي وكان قد تخلف عن العسكر
لبعض حاجاته فلم يبت مع الناس، فرأى سوادي فأقبل حتى وقف علي وقد كان يراني قبل أن
يضرب علينا الحجاب، فلما رآني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ! ظعينة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ وأنا متلففة في ثيابي.
قال: ما خلفك يرحمك الله ؟ قالت: فما كلمته.
ثم قرب إلي البعير فقال: اركبي.
واستأخر عني.
قالت: فركبت وأخذ برأس البعير فانطلق سريعا يطلب الناس، فوالله ما أدركنا الناس
وما افتقدت حتى أصبحت، ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي، فقال أهل الافك
ما قالوا، وارتج العسكر ووالله ما أعلم بشئ من ذلك.
ثم قدمنا المدينة فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة لا يبلغني من ذلك شئ.
__________
(1) الجزع: الخرز.
وظفار: مدينة باليمن.
(20 - السيرة 3) (*)
وقد
انتهى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبوي، لا يذكرون لي منه قليلا
ولا كثيرا، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي، كنت
إذا اشتكيت رحمني ولطف بي، فلم يفعل ذلك بي في شكواي ذلك، فأنكرت ذلك منه، كان إذا
دخل علي وعندي أمي تمرضني قال: كيف تيكم ؟ لا يزيد على ذلك.
قالت: حتى وجدت في نفسي فقلت: يا رسول الله، حين رأيت ما رأيت من جفائه لي: لو
أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني.
قال: لا عليك.
قالت: فانقلبت إلى أمي ولا علم لي بشئ مما كان، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين
ليلة، وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف التي تتخذها الاعاجم نعافها
ونكرهها، إنما كنا نخرج في فسح المدينة وإنما كانت النساء يخرجن في كل ليلة في
حوائجهن، فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب، قالت:
فوالله إنها لتمشي معي إذ عثرت في مرطها فقالت: تعس مسطح.
ومسطح لقب واسمه عوف.
قالت: فقلت: بئس لعمرو الله ما قلت لرجل من المهاجرين، وقد شهد بدرا.
قالت: أو ما بلغك الخبر يا بنت أبي بكر ؟ قالت: قلت: وما الخبر ؟ فأخبرتني بالذي
كان من قول أهل الافك.
قلت: أو قد كان هذا ؟ قالت: نعم.
والله لقد كان.
قالت: فوالله ما قدرت على أن أقضى حاجتي، ورجعت، فوالله ما زلت أبكي حتى ظننت أن
البكاء سيصدع كبدي.
قالت: وقلت لامي: يغفر الله لك تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك
شيئا ! قالت: أي بنية خففي (1) عليك الشأن فوالله لقل ما كانت امرأة حسناء عند رجل
يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها.
__________
(1) ابن هشام: خفضي.
(*)
قالت:
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم، ولا أعلم بذلك، فحمد الله وأثنى
عليه ثم قال: أيها الناس ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عليهم غير الحق،
والله ما علمت عليهم إلا خيرا، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا: ولا
يدخل بيتا من بيوتي إلا وهو معي.
قالت: وكان كبر ذلك عند عبدالله بن أبي بن سلول في رجال من الخزرج مع
الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولم تكن امرأة من نسائه تناصبني في المنزلة عنده غيرها.
فأما زينب فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا، وأما حمنة فأشاعت من ذلك ما أشاعت
تضارني لاختها فشقيت بذلك.
فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة قال أسيد بن حضير: يا رسول
الله إن يكونوا من الاوس نكفيكهم وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج فمرنا أمرك،
فوالله إنهم لاهل أن تضرب أعناقهم.
قالت: فقام سعد بن عبادة، وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا فقال: كذبت لعمر الله ما
تضرب أعناقهم، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج ولو
كانوا من قومك ما قلت هذا.
فقال أسيد بن حضير: كذبت لعمر الله، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت: وتساور الناس حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الاوس والخزرج شر.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل علي فدعا علي بن أبي طالب وأسامة ابن زيد
فاستشارهما، فأما أسامة فأثنى خيرا وقاله، ثم قال: يا رسول الله أهلك وما نعلم منهم
إلا خيرا، وهذا الكذب والباطل.
وأما علي فإنه قال: يا رسول الله إن النساء
لكثير
وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية فإنها ستصدقك.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة يسألها.
قالت: فقام إليها علي فضربها ضربا شديدا ويقول: أصدقي رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قالت: فتقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة شيئا إلا أني كنت
أعجن عجيني فأمرها أن تحفظه فتنام عنه فتأتي الشاة فتأكله ! قالت: ثم دخل علي رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعندي أبواي وعندي امرأة
من الانصار وأنا أبكي وهي تبكي، فجلس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا عائشة إنه
قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله، وإن كنت قد قارفت سوءا مما يقول الناس
فتوبي إلى الله، فإن الله يقبل التوبة عن عباده.
قالت: فوالله إن هو إلا أن قال لي ذلك فقلص (1) دمعي حتى ما أحس منه شيئا، وانتظرت
أبوي أن يجيبا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يتكلما.
قالت: وايم الله لانا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأنا من أن ينزل الله في قرآنا يقرأ
به ويصلى به، ولكني كنت أرجو أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه شيئا يكذب
الله به عني لما يعلم من براءتي ويخبر خبرا، وأما قرآنا ينزل في فوالله لنفسي كانت
أحقر عندي من ذلك.
قالت: فلما لم أر أبوي يتكلمان قلت لهما: ألا تجيبان رسول الله صلى الله عليه وسلم
؟ فقالا: والله ما ندري بما نجيبه.
قالت: ووالله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر في تلك الايام.
قالت: فلما استعجما علي استعبرت فبكيت ثم قلت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت
أبدا، والله إني لاعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أني منه بريئة لاقولن
ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت
__________
(1) قلص: ارتفع.
(*)
ما
يقولون لا تصدقونني.
قالت: ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره فقلت: ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: "
فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " قالت: فوالله ما برح رسول الله صلى
الله عليه وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما كان يتغشاه، فسجى بثوبه ووضعت وسادة من
أدم تحت رأسه، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت فوالله ما فزعت وما باليت، قد
عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي، وأما أبواي فوالذي نفس عائشة بيده ماسرى عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يأتي من الله
تحقيق ما قال الناس.
قالت: ثم سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس وإنه ليتحدر من وجهه مثل الجمان
في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: أبشري يا عائشة، قد أنزل الله عزوجل
براءتك.
قالت: قلت: الحمد لله.
ثم خرج إلى الناس فخطبهم وتلا عليهم ما أنزل الله عزوجل من القرآن في ذلك، ثم أمر
بمسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة فضربوا
حدهم.
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن الزهري، وهذا السياق فيه فوائد جمة.
وذكر حد القذف لحسان ومن معه، رواه أبو داود في سننه.
قال ابن إسحاق: وقال قائل من المسلمين في ضرب حسان وأصحابه: لقد ذاق حسان الذي كان
أهله * وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح (1) تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم * وسخطة ذي
العرش الكريم فأترحوا (2) وآذوا رسول الله فيها فجللوا * مخازي تبقى عممومها
وفضحوا
__________
(1) الهجير: الفاحش من القول.
(2) أترحوا: أحزنوا، من الترح.
(*)
وصبت
عليهم محصدات كأنها * شآبيب قطر في ذرا المزن تسفح (1) وقد ذكر ابن إسحاق أن حسان
بن ثابت قال شعرا يهجو فيه صفوان بن المعطل وجماعة من قريش ممن تخاصم على الماء
(2) من أصحاب جهجهاه كما تقدم أوله هي: أمسى الجلابيب قد عزوا وقد كثروا * وابن
الفريعة أمسى بيضة البلد (3) قد ثكلت أمه من كنت صاحبه * أو كان منتشبا في برثن
الاسد ما لقتيلي الذي أغدو فاخذه * من دية فيه يعطاها ولا قود ما البحر حين تهب
الريح شامية * فيغطئل ويرمى العبر بالزبد (4) يوما بأغلب مني حين تبصرني * ملغيظ
أفرى كفري العارض البرد (5)
أما قريش فإني لا أسالمها * حتى ينيبوا من الغيات للرشد ويتركوا اللات والعزى
بمعزلة * ويسجدوا كلهم للواحد الصمد ويشهدوا أن ما قال الرسول لهم * حق فيوفوا بحق
الله والوكد (6) قال: فاعترضه صفوان بن المعطل فضربه بالسيف وهو يقول: تلق ذباب
السيف عني فإنني * غلام إذا هو جيت لست بشاعر وذكر أن ثابت بن قيس بن شماس أخذ
صفوان حين ضرب حسان فشده وثاقا، فلقيه عبدالله بن رواحة فقال: ماهذا ؟ فقال: ضرب
حسان بالسيف.
فقال عبدالله: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ من ذلك ؟ قال: لا.
فأطلقه ثم أتوا كلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن المعطل: يا رسول الله
آذاني وهجاني فاحتملني
__________
(1) المحصدات: السياط الشديدة الفتل.
والشآبيب: جمع شؤبوب وهي الدفعة من المطر.
والمزن: السحاب (2) ابن هشام: يعرض بابن المعطل فيه، وبمن أسلم من العرب من مضر.
(3) الجلابيب: الغرباء.
(4) يغطئل: يركب بعضه بعضا.
والعبر: جانب البحر.
(5) أفرى: أقطع.
والعارض: السحاب.
(6) الوكد: العهود والمواثيق.
(*)
الغضب
فضربته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان أتشوهت على قومي إذ هداهم الله.
ثم قال: أحسن يا حسان فيما أصابك.
فقال: هي لك يا رسول الله.
فعوضه منها بيرحاء (1) التي تصدق بها أبو طلحة وجارية قبطية يقال لها سيرين جاءه
منها ابنه عبدالرحمن.
قال: وكانت عائشة تقول: سئل عن ابن المعطل فوجد رجلا حصورا ما يأتي النساء.
ثم قتل بعد ذلك شهيدا رضى الله عنه.
قال ابن إسحاق: ثم قال حسان بن ثابت يعتذر من الذي كان قال في شأن عائشة:
حصان رزان ما تزن برببة * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (2) عقيلة حي من لؤي بن غالب
* كرام المساعي مجدهم غير زائل وأن الذي قد قيل ليس بلائط * بك الدهر بل قيل امرئ
بي ماحل (3) فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتم * فلا رفعت سوطي إلي أناملي فكيف وودي
ما حييت ونصرتي * لآل رسول الله زين المحافل وإن لهم عزا ترى الناس دونه * قصارا وطال
العز كل التطاول ولتكتب هاهنا الآيات من سورة النور، وهي من قوله: " إن الذين
جاءوا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم، لكل امرئ منهم ما اكتسب
من الاثم " إلى: " مغفرة ورزق كريم " وما أوردناه هنالك من
الاحاديث والطرق والآثار عن السلف والخلف.
وبالله التوفيق.
__________
(1) جاء: اسم رجل أضيفت إليه البئر وفي ابن هشام: وهي قصر بني جديلة اليوم
بالمدينة.
(2) تزن: تتهم والغرثى: الجائعة.
(3) لائط: لاصق.
والماحل: الواشي.
(*)
غزوة
الحديبية وقد كانت في ذي القعدة سنة ست بلا خلاف.
وممن نص على ذلك الزهري، ونافع مولى ابن عمر، وقتادة، وموسى بن عقبة، ومحمد بن
إسحاق بن يسار وغيرهم.
وهو الذي رواه ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة، أنها كانت في ذي القعدة سنة ست.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا إسماعيل بن الخليل، عن علي بن مسهر، أخبرني هشام بن
عروة، عن أبيه: قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية في رمضان،
وكانت الحديبية في شوال: وهذا غريب جدا عن عروة.
وقد روى البخاري ومسلم جميعا عن هدبة، عن همام، عن قتادة، أن أنس بن مالك أخبره أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر في ذي القعدة إلا العمرة التي مع
حجته، عمرة من الحديبية في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، ومن
الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين، وعمرة مع حجته.
وهذا لفظ البخاري.
* * * وقال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة رمضان
وشوالا وخرج في ذي القعدة معتمرا لا يريد حربا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة ابن عبدالله الليثي.
قال ابن إسحاق: واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي من الاعراب ليخرجوا
معه،
وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت، فأبطأ عليه كثير من
الاعراب.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المهاجرين والانصار ومن لحق به من
العرب، وساق معه الهدى وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلم الناس أنه إنما
خرج زائرا لهذا البيت ومعظما له.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور
بن مخرمة ومروان بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام
الحديبية يريد زيارة البيت لا يريد قتالا، وساق معه الهدى سبعين بدنة، وكان الناس
سبعمائة رجل، وكانت كل بدنة عن عشرة نفر: وكان جابر ابن عبدالله فيما بلغني يقول:
كنا أصحاب الحديبية أربع عشرة مائة.
* * *
قال الزهري: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بعسفان لقيه بشر (1)
بن سفيان الكعبي، فقال: يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجوا معهم العوذ
المطافيل (2)، قد لبسوا جلود النمور وقد نزلوا بذي طوى، يعاهدون الله لا تدخلها
عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموا إلى كراع الغميم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ويح قريش ! قد أكلتهم الحرب، ماذا
عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن
أظهرني الله عليهم دخلوا في الاسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما
تظن قريش ؟ فوالله لا أزال أجاهد على هذا الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو
تنفرد هذه السالفة.
(3) ثم
__________
(1) ويقال له: بسر.
كما قال ابن هشام.
(2) العوذ المطافيل: النوق ذوات اللبن معها أولادها.
وهى كناية عن النساء معها الاطفال.
(3) السالفة: صفحة العنق.
وأراد بذلك الموت.
(*)
قال:
من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها ؟ قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله
بن أبي بكر أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله.
فسلك بهم طريقا وعرا أجرل (1) بين شعاب، فلما خرجوا منه وقد شق ذلك على المسلمين
فأفضوا إلى أرض سهلة عند منقطع الوادي، قال رسول الله: قولوا: نستغفر الله ونتوب
إليه.
فقالوا ذلك.
فقال: والله إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها.
قال ابن شهاب: فأمر رسول الله صلى عليه وسلم الناس فقال: اسلكوا ذات اليمين بين
ظهرى الحمض.
في طريق يخرجه على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة.
قال: فسلك الجيش ذلك الطريق، فلما رأت خيل قريش قترة الجيش قد خالفوا
عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا سلك في ثنية المرار بركت ناقته فقال
الناس: خلات (2).
فقال: ما خلات وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش
اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها.
* * * ثم قال للناس: انزلوا.
قيل له: يا رسول الله ما بالوادي ماء ينزل عليه.
فأخرج سهما من كنانته فأعطاه رجلا من أصحابه فنزل به في قليب من تلك القلب، فغرزه
في جوفه فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن (3).
__________
(1) الاجرل: الكثير الحجارة.
(2) خلات: حرنت وبركت من غير علة.
(3) ضرب الناس بعطن: أناخوا حول الماء بعد السقي (*).
قال
ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم عن رجال من أسلم أن الذي نزل في القليب بسهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب (1)، سائق بدن رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قال ابن إسحاق: وقد زعم بعض أهل العلم أن البراء بن عازب كان يقول: أنا الذي نزلت
بسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فالله أعلم أي ذلك كان.
ثم استدل ابن إسحاق للاول أن جارية من الانصار جاءت البئر وناجية أسفله يميح (2)
فقالت: يا أيها المائح دلوي دونكا * إني رأيت الناس يحمدونكا يثنون خيرا ويمجدونكا
فأجابها فقال: قد علمت جارية يمانيه * أني أنا المائح واسمي ناجيه
وطعنة ذات رشاش واهيه * طعنتها عند صدور العاديه * * * قال الزهري في حديثه: فلما
اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بديل بن ورقاء في رجال من خزاعة، فكلموه
وسألوه ما الذي جاء به ؟ فأخبرهم أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت
ومعظما لحرمته.
ثم قال لهم نحو ما قال لبشر بن سفيان، فرجعوا إلى قريش فقالوا: يا معشر قريش إنكم
تعجلون على محمد، وإن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت.
فاتهموهم وجبهوهم وقالوا: وإن جاء ولا يريد قتالا، فوالله لا يدخلها علينا عنوة
ولا تحدث بذلك عنا العرب.
قال الزهري: وكانت خزاعة عيبة (3) نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمها
ومشركها لا يخفون عنه شيئا كان بمكة.
__________
(1) ذكر ابن هشام بقية نسبه.
(2) يميح: يملا الدلاء.
(3) العيبة: موضع السر والخاصة.
(*).
قال:
ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص بن الاخيف أخا بني عامر بن لؤي، فلما رآه رسول الله صلى
الله عليه وسلم مقبلا قال: هذا رجل غادر.
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه قال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
ثم بعثوا بحليس بن علقمة أو ابن زبان وكان يومئذ سيد الاحابيش، وهو أحد بني الحارث
بن عبد مناة بن كنانة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا من قوم
يتألهون فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه.
فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن
محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاما لما رأى، فقال
لهم ذلك.
قال: فقالوا له: اجلس
فإنما أنت أعرابي لا علم لك.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر أن الحليس غضب عند ذلك وقال: يا معشر
قريش والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاهدناكم، أيصد عن بيت الله من جاءه
معظما له ؟ والذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد وبين ما جاء له أو لانفرن
بالاحابيش نفرة رجل واحد.
قالوا: مه كف عنا حتى نأخذ لانفسنا ما نرضى به.
* * * قال الزهري في حديثه: ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة بن
مسعود الثقفي فقال: يا معشر قريش إني قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ
جاءكم من التعنيف وسوء اللفظ، وقد عرفتم أنكم والد وأني ولد، وكان عروة لسبيعة بنت
عبد شمس، وقد سمعت بالذي نابكم فجمعت من أطاعني من قومي ثم جئتكم حتى آسيتكم
بنفسي.
قالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم.
فخرج
حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بين يديه ثم قال: يا محمد أجمعت أو شاب
الناس ثم جئت بهم إلى بيضتك لتفضها بهم ؟ إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل
قد لبسوا جلود النمور، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا، وأيم الله لكأني
بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا.
قال: وأبو بكر الصديق رضى الله عنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: امصص
بظر اللات ! أنحن ننكشف عنه ؟ قال: من هذا يا محمد ؟ قال: هذا ابن أبي قحافة.
قال: أما والله لولا يد كانت لك عندي لكافأتك بها، ولكن هذه بهذه.
قال: ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلمه، والمغيرة ابن
شعبة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد، قال: فجعل
يقرع يده إذ يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: اكفف يدك عن وجه
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ألا تصل إليك.
قال: فيقول عروة: ويحك ما أفظك وأغلظك !.
قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عروة: من هذا يا محمد ؟ قال: هذا
ابن أخيك المغيرة بن شعبة.
قال: أي غدر وهل غسلت سوأتك إلا بالامس ! قال الزهري: فكلمه رسول الله صلى الله
عليه وسلم بنحو مما كلم به أصحابه، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا، فقام من عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد رأى ما يصنع به أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه
ولا يبصق بصاقا إلا ابتدروه ولا يسقط من شعره شئ إلا أخذوه، فرجع إلى قريش فقال:
يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله
ما رأيت ملكا في قومه قط مثل محمد في أصحابه ! ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشئ
أبدا، فروا رأيكم.
قال
ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خراش بن
أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له يقال له الثعلب: ليبلغ
أشرافهم عنه ما جاء له، فعقروا به جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا قتله،
فمنعه الاحابيش فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس، أن قريشا كانوا بعثوا
أربعين رجلا منهم أو خمسين، أمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا فأخذوا، فأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفا
عنهم وخلى سبيلهم، وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة
والنبل.
ثم دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له، فقال: يا
رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدى أحد يمنعني، وقد عرفت
قريش عداوتي إياها وغلظتي عليها ولكني أدلك على رجل أعز بها مني.
عثمان بن عفان.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش
يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته.
فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها،
فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عثمان
حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله
به، فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن تطوف
بالبيت فطف.
قال: ما كنت لافعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واحتبسته قريش عندها.
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد
قتل.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
حين بلغه أن عثمان قد قتل: لا نبرح حتى نناجز القوم.
* * * ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وكانت بيعة الرضوان تحت
الشجرة وكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت.
وكان جابر بن عبدالله يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعنا على
الموت، ولكن بايعنا على ألا نفر.
فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها
إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، وكان جابر بن عبدالله يقول: والله لكأني أنظر
إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ (1) إليها يستتر من الناس.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي ذكر من أمر عثمان باطل.
قال ابن هشام: ودكر وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، أن أول من بايع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان أبو سنان الاسدي.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به عمن حدثه بإسناد له عن ابن أبي مليكة، عن ابن عمر،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان فضرب بإحدى يديه الاخرى.
وهذا الحديث الذي ذكره ابن هشام بهذا الاسناد ضعيف، لكنه ثابت في الصحيحين.
قال ابن إسحاق: قال الزهري: ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ائت محمدا وصالحه، ولا يكن في صلحه
__________
(1) ضبأ: لصق.
(*)
إلا
أن يرجع عنا عامه هذا، فوالله لا تتحدث العرب أنه دخلها عنوة أبدا.
فأتاه سهيل بن عمرو فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا قال: قد أراد
القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.
فلما انتهى سهيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم فأطال الكلام، وتراجعا ثم
جرى بينهما الصلح.
فلما التأم الامر ولم يبق إلا الكتاب وثب عمر فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر أليس
برسول الله ؟ قال: بلى.
قال: أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى.
قال: أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال: أبو بكر: يا عمر الزم غرزه (1) فإني أشهد
أنه رسول الله.
قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ألست برسول الله ؟ قال:
بلى.
قال: أو لسنا بالمسلمين ؟ قال: بلى.
قال أو ليسوا بالمشركين ؟ قال: بلى.
قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ؟ قال: أنا عبدالله ورسوله لن أخالف أمره ولن
يضيعني وكان عمر رضى الله عنه يقول: ما زلت أصوم وأتصدق وأصلي وأعتق من الذي صنعت
يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمته يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرا.
* * * قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضى الله عنه
فقال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم قال فقال سهيل: لا أعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك
اللهم.
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم.
فكتبها.
ثم قال: اكتب: " هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو ".
قال: فقال سهيل: لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.
__________
(1) الغرز: ركاب من جلد توضع فيه الرجل.
والمراد: اتبع أمره ولا تخالفه.
(*)
قال:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب: " هذا ما صالح عليه محمد بن
عبدالله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس
ويكف بعضهم عن بعض، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن
جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة (1) مكفوفة، وأنه لا إسلال
(2) ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل
في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ".
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده.
وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.
وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا
عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب: السيوف في القرب لا تدخلها
بغيرها.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو إذ جاء أبو
جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في الحديد قد انفلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرجوا وهم لا يشكون في الفتح لرؤيا
رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا ما رأوا من الصلح والرجوع وما تحمل
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه دخل على الناس من ذلك أمر عظيم حتى
كادوا يهلكون.
فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه وأخذ بتلبيبه وقال: يا محمد قد لجت
القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا.
قال: صدقت.
فجعل ينتره بتلبيبه ويجره
__________
(1) العيبة: موضع السر ومكفوفة: مطوية.
(2) الاسلال: السرقة الخفية.
والاغلال: الخيانة.
(21 - السيرة 3) (*)
يعني
يرده (1) إلى قريش، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أرد إلى
المشركين يفتنونني في ديني.
فزاد ذلك الناس إلى ما بهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله
جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا.
إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا
نغدر بهم ".
قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما
هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب.
قال: ويدنى قائم السيف منه.
قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه ! قال: فضن الرجل بأبيه، ونفذت
القضية.
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب اشهد على الصلح رجالا من
المسلمين ورجالا من المشركين: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن ابن
عوف، و عبدالله بن سهيل بن عمرو، وسعد بن أبي وقاص، ومحمود بن مسلمة ومكرز بن حفص،
وهو يومئذ مشرك، وعلي بن أبي طالب، وكتب، وكان هو كاتب الصحيفة.
* * * وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربا في الحل (2)، وكان يصلي في الحرم،
فما فرغ من الصلح قام إلى هديه فنحره، ثم جلس فحلق رأسه، وكان الذي حلقه في ذلك
اليوم خراش بن أمية بن الفضل الخزاعي، فلما رأى الناس أن رسول الله وسلم قد نحر
وحلق تواثبوا ينحرون ويحلقون.
__________
(1) ابن هشام: ليرده.
(2) مضطربا: كانت خيامه مقامة في الحل.
(*)
قال
ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: حلق رجال يوم
الحديبية وقصر آخرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرحم الله
المحلقين " قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: " يرحم الله المحلقين
" قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: " يرحم الله المحلقين "
قالوا: والمقصرين يا رسول الله ؟ قال: " والمقصرين ".
قالوا: يا رسول الله فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين ؟ قال: لم يشكوا.
وقال عبدالله بن أبي نجيح: حدثني مجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لابي جهل في رأسه برة من فضة
ليغيظ بذلك المشركين.
هذا سياق محمد بن إسحاق رحمه الله لهذه القصة، وفي سياق البخاري كما سيأتي مخالفة
في بعض الاماكن لهذا السياق كما ستراها إن شاء الله وبه الثقة.
ولنوردها بتمامها، ونذكر في الاحاديث الصحاح والحسان ما فيه [ غناء ].
إن شاء الله تعالى وعليه التكلان وهو المستعان.
* * * قال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنا صالح بن
كيسان، عن عبيد الله بن عبدالله، عن زيد بن خالد، قال: خرجنا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم عام الحديبية فأصابنا مطر ذات ليلة، فصلى بنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم الصبح، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: " أتدرون ماذا قال ربكم " ؟
فقلنا: الله ورسوله أعلم.
فقال: قال الله تعالى: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من
قال:
مطرنا برحمة وبفضل الله فهو مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنجم كذا
فهو مؤمن بالكوكب كافر بي ".
وهكذا رواه في غير موضع من صحيحه،.
ومسلم من طرق عن الزهري، وقد روى عن الزهري عن عبيد الله بن عبدالله عن أبي هريرة.
وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال:
تعدون الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم
الحديبية، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها
فلم نترك فيها قطرة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها ثم
دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم مضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد
ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا.
انفرد به البخاري.
وقال ابن إسحاق في قوله تعالى: " فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ": صلح
الحديبية.
قال الزهري: فما فتح في الاسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى
الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس كلم بعضهم بعضا والتقوا
فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد في الاسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه،
ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان دخل في الاسلام قبل ذلك أو أكثر.
قال ابن هشام: والدليل على ما قاله الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
إلى الحديبية في ألف وأربع مائة رجل في قول جابر، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك
بسنتين في عشرة آلاف.
وقال البخاري: حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، حدثنا حصين، عن سالم، عن جابر
قال: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين
يديه
ركوة فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالكم ؟
قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا ما نشرب إلا ما في ركوتك.
فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه
كأمثال العيون.
قال: فشربنا وتوضأنا.
فقلنا لجابر: كم كنتم يومئذ ؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من طرق، عن حصين، عن سالم بن أبي الجعد عن جابر به.
وقال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قلت
لسعيد بن المسيب: بلغني أن جابر بن عبدالله كان يقول: كانوا أربع
عشرة مائة.
فقال لي سعيد: حدثني جابر: كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه
وسلم يوم الحديبية.
تابعه أبو داود، حدثنا قرة عن قتادة.
تفرد به البخاري.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، قال عمرو: سمعت جابرا قال:
قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: " أنتم خير أهل الارض
" وكنا ألفا وأربعمائة ولو كنت أبصر اليوم لاريتكم مكان الشجرة.
وقد روى البخاري أيضا ومسلم من طرق، عن سفيان بن عيينة به.
وهكذا رواه الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر قال: إن عبدا لحاطب جاء يشكوه
فقال: يا رسول الله ليدخلن حاطب النار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذبت لا يدخلها، شهد بدرا والحديبية
".
رواه مسلم.
وعند مسلم أيضا من طرق [ عن ] ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا
يقول:
أخبرتني أم ميسر أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: "
لايدخل أحد النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة الذين بايعوا تحتها " فقالت
حفصة: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة " وإن منكم إلا واردها "
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قال تعالى: " ثم ننجي الذين اتقوا
ونذر الظالمين فيها جثيا ".
قال البخاري: وقال عبيد الله بن معاذ: حدثنا أبي، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة،
حدثني عبدالله بن أبي أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة وكانت أسلم ثمن
المهاجرين.
تابعه محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة.
هكذا رواه البخاري معلقا عن عبدالله.
وقد رواه مسلم عن عبيد الله بن معاذ، عن
أبيه عن شعبة به.
وعن محمد بن المثنى، عن أبى داود، عن إسحق بن إبراهيم، عن النضر.
ابن شميل كلاهما عن شعبة به.
ثم قال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن مروان
والمسور بن مخرمة، قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة
مائة من أصحابه، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعر وأحرم منها.
تفرد به البخاري وسيأتي هذا السياق بتمامه.
* * * والمقصود أن هذه الروايات كلها مخالفة لما ذهب إليه ابن إسحاق من أن أصحاب
الحديبية كانوا سبع مائة.
وهو والله أعلم إنما قال ذلك تفقها من تلقاء نفسه من حيث إن البدن كن سبعين بدنة،
وكل منها عن عشرة على اختياره، فيكون المهلون سبعمائة.
ولا يلزم أن يهدى كلهم ولا أن يحرم كلهم أيضا، فقد ثبت أن رسول الله صلى الله
عليه
وسلم بعث طائفة منهم فيهم أبو قتادة ولم يحرم أبو قتادة حتى قتل ذلك الحمار الوحشي
فأكل منه هو وأصحابه، وحملوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء
الطريق فقال: هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا: لا.
قال: فكلوا ما بقى من الحمار.
وقد قال البخاري: حدثنا شعبة بن الربيع، حدثنا على بن المبارك، عن يحيى عن عبدالله
بن أبي قتادة أن أباه حدثه قال: انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية
فأحرم أصحابي ولم أحرم.
* * * وقال البخاري: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا شبابة بن سوار الفزارى، حدثنا
شعبة،
عن قتادة عن سعيد بن المسيب، عن أبيه قال: لقد رأيت الشجرة ثم أتيتها بعد فلم
أعرفها.
حدثنا موسى، حدثنا أبو عوانة، حدثنا طارق، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه أنه كان
فيمن بايع تحت الشجرة فرجعنا إليها العام المقبل فعميت علينا.
وقال البخاري أيضا: حدثنا محمود، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن طارق بن عبد
الرحمن، قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون، فقلت: ما هذا المسجد ؟ قالوا: هذه
الشجرة حيث بايع النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان.
فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال سعيد: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله
صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قال: فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر
عليها.
ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد لم يعلموها، وعلمتموها أنتم ! فأنتم أعلم ؟ ورواه
البخاري ومسلم من حديث الثوري وأبي عوانة وشبابة عن طارق.
وقال البخاري: حدثنا سعيد، حدثني أخي، عن سليمان، عن عمرو بن يحيى، عن عباد بن
تميم قال: لما كان يوم الحرة والناس يبايعون لعبد الله بن حنظلة، فقال ابن
زيد:
على ما يبايع ابن حنظلة الناس ؟ قيل له: على الموت.
فقال: لا أبايع على ذلك أحدا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شهد معه
الحديبية.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم من طرق عن عمرو بن يحيى به.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد قلت لسلمة بن
الاكوع: على أي شئ بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ؟ قال: على
الموت.
ورواه مسلم من حديث يزيد بن أبي عبيد.
وفي صحيح مسلم عن سلمة أنه بايع ثلاث مرات في أوائل الناس ووسطهم وأواخرهم.
وفي الصحيح عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس، وكان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يومئذ أبو سنان، وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل سنان ابن أبي سنان.
وقال البخاري: حدثني شجاع بن الوليد، سمع النضر بن محمد، حدثنا صخر بن الربيع، عن
نافع قال: إن الناس يتحدثون أن ابن عمر أسلم قبل عمر، وليس كذلك، ولكن عمر يوم
الحديبية أرسل عبدالله إلى فرس له عند رجل من الانصار أن يأتي به ليقاتل عليه،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة، وعمر لا يدري بذلك، فبايعه
عبدالله، فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التي تحدث
الناس أن ابن عمر أسلم قبل عمر.
وقال هشام بن عمار: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عمر بن محمد العمري، أخبرني نافع،
عن ابن عمر أن الناس كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تفرقوا في
ظلال الشجرة، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عبدالله انظر
ما
شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدهم يبايعون، فبايع ثم رجع
إلى عمر فخرج فبايع.
تفرد به البخاري من هذين الوجهين.
ذكرى سياق البخاري لعمرة الحديبية قال في كتاب المغازي: حدثنا عبدالله بن محمد،
حدثنا سفيان، سمعت الزهري حين حدث هذا الحديث حفظت بعضه وثبتني معمر، عن عروة بن
الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه، قالا: خرج
النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا
الحليفة قلد الهدى وأشعره (1) وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بغدير الاشطاط أتاه عينه قال: إن قريشا
جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الاحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ومانعوك.
فقال: أشيروا أيها الناس على، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون
أن يصدونا عن البيت، فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين وإلا تركناهم
محروبين.
قال أبو بكر: يا رسول الله خرجت عامدا لهذا البيت لا تريد قتل أحد ولا حرب أحد،
فتوجه له فمن صدنا عنه قاتلناه.
قال: امضوا على اسم الله.
هكذا رواه هاهنا ووقف ولم يزد شيئا على هذا.
وقال في كتاب الشهادات (2): حدثني عبدالله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا
معمر، أخبرني الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم،
يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) أشعره: ألبسه الشعار تمييزا له.
(2) هو في كتاب الشروط صحيح البخاري 2 / 10 (*)
وسلم
زمن الحديبية حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خالد
ابن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين.
فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرا لقريش.
وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به
راحلته، فقال الناس: حل حل (1)، فألحت، فقالوا: خلات القصواء خلات القصواء.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماخلات القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها
حابس الفيل.
ثم قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم
إياها.
ثم زجرها فوثبت.
فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه (2) [ الناس (3) ]
تبرضا فلم يلبثه الناس حتى نزحوه، وشكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش،
فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى
صدروا عنه.
فبينما هم كذلك إذا جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة - وكانوا
عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة - فقال: إني تركت كعب بن لؤي
وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، وهم مقاتلوك وصادوك
عن البيت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكن جئنا معتمرين، وإن
قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس،
فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا،
__________
(1) حل: كلمة تقال للناقة إذا بركت.
(2) يتبرضه: يأخذونه قليلا قليلا.
(3) من صحيح البخاري 2 / 10 (*)
وإن
هم أبوا فوالذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، ولينفذن أمر
الله.
قال بديل: سأبلغهم ما تقول.
فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولا، فإن
شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا.
فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشئ.
وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول.
قال: سمعته يقول كذا وكذا.
فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم، ألست بالوالد ؟ قالوا: بلى.
قال: أو لستم بالولد ؟ قالوا بلى.
قال: فهل تتهموني ؟ قالوا: لا.
قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا (1) علي جئتكم بأهلي وولدي ومن
أطاعني ؟ قالوا: بلى.
قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها ودعوني آتيه، فقالوا: ائته.
فأتاه، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحوا
من قوله لبديل فقال عروة عند ذلك: أي محمد، أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت
بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك ؟ وإن تكن الاخرى فإني والله لا أرى وجوها وإني
لارى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك.
فقال له أبو بكر: امصص بظر اللات ! أنحن نفر عنه وندعه ؟ ! قال: من ذا ؟ قالوا:
أبو بكر.
قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لاجبتك.
قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته، والمغيرة بن
شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما
أهوى عروة بيده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف وقال
له: أخر
__________
(1) بلحوا: أبطأوا.
(*)
يدك
عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فرفع عروة رأسه فقال.
من هذا ؟ قالوا: المغيرة بن شعبة.
فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك ! وكان المغيرة بن شعبة صحب قوما في الجاهلية
فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الاسلام
فأقبل، وأما المال فلست منه في شئ.
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه، قال: فوالله ما
تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه
وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم
خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له.
فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر
وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب
محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده
(1).
وإذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا
أصواتهم عنده وما يحدون النظر إليه تعظيما له، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد
فاقبلوها.
* * * فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه.
فقالوا: ائته.
فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له.
فبعثت له واستقبله الناس يلبون.
فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.
فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، فما أرى أن يصدوا عن البيت.
__________
(1) لعل هذا الوصف مبالغة في الحب والتعظيم، كان فيه مخالفة لمبادئ الاسلام التي
تدعو إلى النظافة وتحث على التطهر، ولعل هذا لا يتناسب مع ما كان عليه المسلمون من
وضاءة وطهر.
ونحن لا ننكر الرواية ولكننا نحملها على المبالغة والتجوز.
(*)
فقام
رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آتيه.
قالوا: ائته.
فلما أشرف عليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مكرز وهو رجل فاجر.
فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.
قال معمر: فأخبرني أيوب، عن عكرمة، أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: " لقد سهل لكم من أمركم ".
قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل فقال: هات فاكتب بيننا وبينكم كتابا.
فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم
الله الرحمن الرحيم.
فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب
باسمك اللهم كما كنت تكتب.
فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم.
ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.
فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن
اكتب محمد بن عبدالله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد
ابن عبدالله.
قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله، إلا أعطيتهم
إياها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به.
قال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل.
فكتب.
فقال سهيل: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل وأن كان على دينك إلا رددته إلينا.
قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما.
فبينما
هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى
بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إلي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد.
قال: فوالله إذا لم أصالحك على شئ أبدا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي.
قال ما أنا بمجيزه لك.
قال: بلى فافعل.
قال: ما أنا بفاعل.
قال مكرز: بلى قد أجزناه لك.
قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما، ألا ترون ما قد
لقيت ؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله.
فقال عمر رضى الله عنه: فأتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا ؟ قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال: بلى.
قلت: فلم نعطي الدنية ؟ في ديننا إذن ؟.
قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري.
قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به ؟ قال: " بلى، فأخبرتك أنا
نأتيه العام " ؟ قال: قلت: لا.
قال: " فإنك آتيه ومطوف به ".
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا.
قال: بلى.
قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل.
قال: بلى.
قال: قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن.
قال: أيها الرجل إنه لرسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه فوالله
إنه على الحق.
قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه
العام.
فقلت: لا.
قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا.
قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: قوموا
فانحروا ثم احلقوا.
قال:
فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم
سلمة فذكر لها ما لقى من الناس، فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك ؟ اخرج ثم لا
تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك.
فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك
قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما.
ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم
المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " حتى بلغ " بعصم الكوافر " فطلق عمر
يومئذ امرأتين كانتا له
في الشرك.
فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والاخرى صفوان بن أمية.
ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير، رجل من قريش، وهو
مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا.
فدفعه إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال
أبو بصير لاحد الرجلين: والله إني لارى سيفك هذا يا فلان جيدا.
فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت.
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه.
فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: " لقد رأى هذا ذعرا ".
فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول.
فجاء أبو بصير فقال: يا نبى الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم
أنجاني الله منهم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ويل أمه ! مسعر حرب لو كان له أحد ! فلما
سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر.
قال: وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل بن عمرو فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش
رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون
بعير
خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم.
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل إليهم فمن
أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم.
فأنزل الله تعالى: " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد
أن أظفركم عليهم " حتى بلغ: " الحمية حمية الجاهلية ".
وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم،
وحالوا بينهم وبين البيت.
فهذا سياق فيه زيادات وفوائد حسنة ليست في رواية ابن إسحاق عن الزهري، فقد رواه عن
الزهري عن جماعة منهم سفيان بن عيينة ومعمر ومحمد بن إسحاق، كلهم عن الزهري عن
عروة عن مروان ومسور، فذكر القصة.
* * * وقد رواه البخاري في أول كتاب الشروط عن يحيى بن بكير، عن الليث بن سعد، عن
عقيل عن الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة، عن أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فذكر القصة.
وهذا هو الاشبه، فإن مروان ومسورا كانا صغيرين يوم الحديبية، والظاهر أنهما أخذاه
عن الصحابة رضى الله عنهم أجمعين.
وقال البخاري: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن سابق، حدثنا مالك ابن مغول،
سمعت أبا حصين قال: قال أبو وائل،: لما قدم سهيل بن حنيف من صفين أتيناه نستخبره
فقال: اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد على رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمره لرددت، والله ورسوله أعلم، وما وضعنا أسيافنا
عن
عواتقنا لامر يفظعنا إلا أسهلن بنا إلى أمر نعرفه، قبل هذا الامر ما نسد منها خصما
إلا انفجر علينا خصم (1) ما ندري كيف نأتي له.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره وكان عمر بن الخطاب يسير معه
ليلا، فسأله عمر بن الخطاب عن شئ فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سأله
فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر بن الخطاب: ثكلتك أمك يا عمر، نزرت (2) رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك.
قال عمر: فحركت بعيري ثم تقدمت أمام المسلمين، وخشيت أن ينزل في قرآن،
فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، قال: فقلت: لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن.
فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال: " لقد أنزلت علي الليلة
سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " ثم قرأ: " إنا فتحنا لك فتحا
مبينا ".
قلت: وقد تكلمنا على سورة الفتح بكمالها في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله
الحمد والمنة ومن أحب أن يكتب ذلك هنا فليفعل.
__________
(1) الخصم: الجانب.
ويريد بهذا الامر: الفتنة التي حدثت بين على ومعاوية.
(2) نزرت: ألحححت عليه.
(22 - السيرة 3) (*)
فصل
في ذكر السرايا والبعوث التي كانت في سنة ست من الهجرة وتلخيص ذلك ما أورده الحافظ
البيهقي عن الواقدي: في ربيع الاول منها أو الآخر بعث رسول الله صلى الله عليه
وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلا إلى [ غرو مرزوق ] (1) فهربوا منه ونزل على
مياههم وبعث في آثارهم وأخذ منهم مائتي بعير فاستاقها إلى المدينة.
وفيها كان بعث أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة بأربعين رجلا أيضا، فساروا إليهم
مشاة حتى أتوها في عماية الصبح، فهربوا منه في رءوس الجبال، فأسر منهم رجلا فقدم
به على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثه محمد بن مسلمة في عشرة نفر وكمن القوم
لهم حتى باتوا [ فقتل (2) ] أصحاب محمد بن مسلمة كلهم وأفلت هو جريحا.
وفيها كان بعث زيد بن حارثة بالجموم (3) فأصاب امرأة من مزينة يقال لها حليمة،
فدلتهم على محلة من محال بني سليم فأصابوا منها نعما وشاء وأسروا [ جماعة من
المشركين ] (4) وكان فيهم زوج حليمة هذه فوهبه رسول الله صلى عليه وسلم
لزوجها وأطلقهما.
وفيها كان بعث زيد بن حارثة أيضا في جمادي الاولى إلى بني ثعلبة في خمسة عشر رجلا،
فهربت منه الاعراب، فأصاب من نعمهم عشرين بعيرا ثم رجع بعد أربع ليال.
__________
(1) سقطت من الاصل وأثبتها من المواهب.
(2) سقطت من الاصل.
(3) الاصل: الحموم.
وما أثبته من المواهب.
(4) سقطت من الاصل وأثبتها من المواهب.
(*)
وفيها
خرج زيد بن حارثة في جمادي الاولى إلى العيص.
قال: وفيها أخذت الاموال التي كانت مع أبي العاص بن الربيع، فاستجار بزينب بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجارته.
وقد ذكر ابن إسحاق قصته حين أخذت العير التي كانت معه وقتل أصحابه وفر هو من بينهم
حتى قدم المدينة، وكانت امرأته زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هاجرت
بعد بدر، فلما جاء المدينة استجار بها فأجارته بعد صلاة الصبح، فأجاره لها رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس برد ما أخذوا من عيره، فردوا كل شئ كانوا
أخذوه منه حتى لم يفقد منه شيئا، فلما رجع بها إلى مكة وأدى إلى أهلها ما كان لهم
معه من الودائع أسلم، وخرج من مكة راجعا إلى المدينة، فرد عليه رسول الله صلى الله
عليه وسلم زوجته بالنكاح الاول ولم يحدث نكاحا ولا عقدا كما تقدم بيان ذلك.
وكان بين إسلامه وهجرتها ست سنين، ويروى سنتين.
وقد بينا أنه لا منافاة بين الروايتين، وأن إسلامه تأخر عن وقت تحريم المؤمنات على
الكفار بسنتين، وكان إسلامه في سنة ثمان في سنة الفتح لا كما تقدم في كلام الواقدي
من أنه سنة ست.
فالله أعلم.
وذكر الواقدي في هذه السنة أن دحية بن خليفة الكلبي أقبل من عند قيصر،
قد أجازه بأموال وخلع، فلما كان بحسمى لقيه ناس من جذام فقطعوا عليه الطريق فلم
يتركوا معه شيئا، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة أيضا رضى
الله عنه.
قال الواقدي: حدثني عبدالله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة، قال: خرج علي رضى الله عنه
في مائة رجل إلى أن نزل إلى حي من بني أسد بن بكر، وذلك أنه بلغ رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار إليهم بالليل
وكمن
بالنهار وأصاب عينا لهم، فأقر له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم على أن يجعلوا لهم
تمر خيبر.
قال الواقدي رحمه الله تعالى: وفي سنة ست في شعبان كانت سرية عبدالرحمن بن عوف إلى
دومة الجندل وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هم أطاعوا فتزوج بنت ملكهم،
فأسلم القوم وتزوج عبدالرحمن بنت ملكهم تماضر بنت الاصبع الكلبية، وهي أم أبي سلمة
بن عبدالرحمن بن عوف * * * قال الواقدي: في شوال سنة ست كانت سرية كرز بن جابر
الفهري إلى العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا
النعم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم كرز بن جابر في عشرين فارسا
فردوهم.
وكان من أمرهم ما أخرجه البخاري ومسلم، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن
أنس بن مالك، أن رهطا من عكل وعرينة - وفي رواية: من عكل أو عرينة - أتوا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا أناس أهل ضرع، ولم نكن أهل ريف
فاستوخمنا المدينة.
فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود (1) وراع، وأمرهم أن يخرجوا فيه
فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا حتى إذا
كانوا بناحية الحرة قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود
وكفروا بعد إسلامهم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم، فأمر بهم فقطع
أيديهم وأرجلهم وسمر (2) أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا وهم كذلك.
قال قتادة: فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب بعد ذلك حض على
الصدقة ونهى عن المثلة.
__________
(1) الذود: القطيع من الابل بين الثلاث إلى العشر.
(2) سمر: فقأ.
(*)
وهذا
الحديث قد رواه جماعة عن قتادة ورواه جماعة عن أنس بن مالك.
وفي رواية مسلم عن معاوية بن قرة عن أنس، أن نفرا من عرينة أتوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأسلموا وبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم - وهو البرسام (1) -
فقالوا: هذا الموم قد وقع يا رسول، لو أذنت لنا فرجعنا إلى الابل.
قال: نعم فاخرجوا فكونوا فيها.
فخرجوا فقتلوا الراعيين وذهبوا بالابل.
وعنده: سار من الانصار قريب عشرين فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفا يقتص أثرهم، فأتى
بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم.
وفي صحيح البخاري من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، أنه قال: قدم رهط من عكل
فأسلموا واجتووا المدينة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال:
الحقوا بالابل واشربوا من أبوالها وألبانها.
فذهبوا وكانوا فيها ما شاء الله، فقتلوا الراعي واستاقوا الابل فجاء الصريخ إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ترتفع الشمس حتى أتى بهم فأمر بمسامير فأحميت
فكواهم بها وقطع أيديهم وأرجلهم، وألقاهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا
ولم يحمهم.
وفي رواية عن أنس قال: فلقد رأيت أحدهم يكدم الارض بفيه من العطش.
قال أبو قلابة: فهؤلاء قتلوا وسرقوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله
صلى الله عليه وسلم.
وقد روى البيهقي من طريق عثمان بن أبي شيبة، عن عبدالرحمن بن سليمان، عن محمد بن
عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث في
آثارهم قال: اللهم عم عليهم الطريق، واجعلها عليهم أضيق من مسك جمل، قال: فعمى
الله عليهم السبيل: فأدركوا فأتى بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم.
وفي صحيح مسلم: إنما سملهم لانهم سملوا أعين الرعاء.
__________
(1) البرسام: ذات الجنب.
وهو التهاب في الغشاء المحيط بالرئة.
(*)
فصل
فيما وقع من الحوادث في هذه السنة أعنى سنة ست من الهجرة.
فيها نزل فرض الحج، كما قرره الشافعي رحمه الله زمن الحديبية في قوله تعالى "
وأتموا الحج والعمرة لله ".
ولهذا ذهب إلى أن الحج على التراخي لا على الفور، لانه صلى الله عليه وسلم لم يحج
إلا في سنة عشر.
وخالفه الثلاثة مالك وأبو حنيفة وأحمد، فعندهم أن الحج يحب على كل من استطاعه على
الفور، ومنعوا أن يكون الوجوب مستفادا من قوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة
لله " وإنما في هذه الآية الامر بالاتمام بعد الشروع فقط، واستدلوا بأدلة قد
أوردنا كثيرا منها عند تفسير هذه الآية من كتابنا التفسير ولله الحمد والمنة بما
فيه كفاية.
وفي هذه السنة حرمت المسلمات على المشركين، تخصيصا لعموم ما وقع به الصلح عام
الحديبية على أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته علينا، فنزل قوله
تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم
بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون
لهن " الآية.
وفي هذه السنة كانت غزوة المريسيع التي كان فيها قصة الافك ونزول براءة أم
المؤمنين عائشة رضى الله عنها كما تقدم.
وفيها كانت عمرة الحديبية، وما كان من صد المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكيف وقع الصلح بينهم على وضع الحرب بينهم عشر سنين، فأمن الناس فيهن
بعضهم
بعضا، وعلى أنه لا إغلال ولا إسلال.
وقد تقدم كل ذلك مبسوطا في أماكنه ولله الحمد والمنة.
وولى الحج في هذه السنة المشركون.
قال الواقدي: وفيها في ذي الحجة منها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر
مصطحبين حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الاسكندرية.
وشجاع بن وهب ابن أسد بن جذيمة شهد بدرا إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يعني ملك
عرب النصارى، ودحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وهو هرقل ملك الروم، و عبدالله بن
حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي،
وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة وهو أصحمة بن الحر.
بسم
الله الرحمن الرحيم سنة سبع من الهجرة غزوة خيبر في أولها قال شعبة عن الحاكم، عن
عبدالرحمن بن أبي ليلى في قوله: " وأثابهم فتحا قريبا " قال: خيبر.
وقال موسى بن عقبة: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية مكث
عشرين يوما أو قريبا من ذلك ثم خرج إلى خيبر، وهي التي وعده الله إياها.
وحكى موسى عن الزهري أن افتتاح خيبر في سنة ست والصحيح أن ذلك في أول سنة سبع.
كما قدمنا.
قال ابن إسحاق: ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين رجع من
الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم، ثم خرج في بقية المحرم إلى خيبر.
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن الزهري، عن عروة عن مروان والمسور قالا:
انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فنزلت عليه سورة الفتح بين مكة والمدينة،
فقدم المدينة في ذي الحجة فأقام بها حتى سار إلى خيبر فنزل بالرجيع: واد بين [
خيبر و ] غطفان فتخوف أن تمدهم غطفان، حتى أصبح فغدا عليهم.
قال البيهقي: وبمعناه رواه الواقدي عن شيوخه في خروجه أول سنة سبع من الهجرة.
وقال
عبدالله بن إدريس: عن إسحاق، حدثني عبدالله بن أبي بكر، قال: لما كان افتتاح خيبر
في عقيب المحرم، وقدم النبي صلى الله عليه وسلم في آخر صفر.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبدالله الليثي.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا خثيم يعني ابن عراك، عن أبيه
أن أبا هريرة قدم المدينة في رهط من قومه والنبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وقد
استخلف سباع بن عرفطة يعني الغطفاني على المدينة.
قال: فانتهيت إليه وهو يقرأ في صلاة الصبح في الركعة الاولى كهيعص وفي الثانية ويل
للمطففين، فقلت في نفسي: ويل لفلان إذا اكتال [ اكتال ] بالوافي وإذا كال كال
بالناقص.
قال: فلما صلى رددنا شيئا حتى أتينا خيبر وقد افتتح النبي صلى الله عليه وسلم
خيبر،
قال: فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم.
وقد رواه البيهقي من حديث سليمان بن حرب، عن وهيب، عن خثيم بن عراك، عن أبيه عن
نفر من بني غفار قال: إن أبا هريرة قدم المدينة فذكره.
* * * قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المدينة إلى
خيبر سلك على عصر وبنى له فيها مسجدا ثم على الصهباء، ثم أقبل بجيشه حتى نزل به
بواد يقال له الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان، ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر،
كانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغني أن غطفان لما سمعوا
بذلك جمعوا ثم خرجوا ليظاهروا اليهود عليه، حتى إذا ساروا منقلة سمعوا خلفهم في
أموالهم وأهليهم حسا، ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم فرجعوا على أعقابهم فأقاموا
في أموالهم وأهليهم وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين خيبر.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن
بشير
أن سويد بن النعمان أخبره أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر حتى
إذا كانوا بالصهباء - وهي من أدنى خيبر - صلى العصر ثم دعا بالازواد فلم يؤت إلا
بالسويق فأمر به فثرى فأكل وأكلنا: ثم قام إلى المغرب فمضمض ثم صلى ولم يتوضأ.
* * * وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن زيد بن
أبي عبيد، عن سلمة بن الاكوع قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر
فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك ؟ وكان عامر
رجلا شاعرا.
فنزل يحدو بالقوم يقول: لا هم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما أبقينا * وألقين سكينة علينا وثبت الاقدام إن لاقينا * إنا إذا
صيح بنا أبينا وبالصياح عولوا علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا
السائق ؟ قالوا: عامر بن الاكوع قال: يرحمه الله ! فقال رجل من القوم: وجبت يا نبي
الله لولا أمتعتنا به ! فأتينا خيبر فناصرناهم حتى أصابتنا مخمصة شديدة.
ثم إن الله فتحها عليهم فلما أمسى الناس مساء اليوم الذي فتحت عليهم أوقدوا نيرانا
كثيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذه النيران على أي شئ توقدون ؟
قالوا: على لحم.
قال: على أي لحم ؟ قالوا: لحم الحمر الانسية.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أهريقوها واكسروها.
فقال رجل: يا رسول الله أو نهريقها ونغسلها ؟ فقال: أو ذاك.
فلما تصاف الناس كان سيف عامر قصيرا فتناول به ساق يهودي ليضربه فيرجع ذباب سيفه
فأصاب عين ركبة عامر فمات منه، فلما قفلوا قال سلمة: رآني رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو آخذ بيدي قال: مالك ؟ قلت: فداك أبي وأمي
زعموا
أن عامرا حبط عمله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذب من قاله، إن له لاجرين - وجمع بين إصبعيه - إنه
لجاهد مجاهد قل عربي مشى بها مثله.
ورواه مسلم من حديث حاتم بن إسماعيل وغيره عن يزيد بن أبى عبيد مثله.
ويكون [ مثله ] منصوبا على الحالية من نكرة، وهو سائغ إذا دلت على تصحيح معنى، كما
جاء في الحديث " فصلى وراءه رجال قياما ".
* * * وقد روى ابن إسحاق قصة عامر بن الاكوع من وجه آخر فقال: حدثني محمد بن
إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي الهيثم بن نصر بن دهر الاسلمي، أن أباه حدثه أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مسيره إلى خيبر لعامر بن الاكوع، وهو عم
سلمة بن عمرو بن الاكوع: " انزل يا بن الاكوع فخذ لنا من هناتك ".
قال: فنزل يرتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لولا الله ما اهتدينا * ولا
تصدقنا ولا صلينا إنا إذا قوم بغوا علينا * وإن أرادو فتنة أبينا فأنزلن سكينة
علينا * وثبت الاقدام إن لاقينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك ربك.
فقال عمر بن الخطاب: وجبت يا رسول الله لو أمتعتنا به.
فقتل يوم خيبر شهيدا.
ثم ذكر صفة قتله كنحو ما ذكره البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن عطاء بن أبي مروان الاسلمي، عن أبيه عن أبي
معتب بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أشرف على خيبر قال لاصحابه
وأنا فيهم: قفوا، ثم قال: " اللهم رب السموات وما أظللن ورب الارضين وما
أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية
وخير
أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله
".
وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.
وقد رواه الحافظ البيهقي، عن الحاكم، عن الاصم، عن العطاردي، عن يونس ابن بكير، عن
إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن صالح بن كيسان، عن أبي مروان الاسلمي، عن أبيه عن
جده قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر حتى إذا كنا قريبا
وأشرفنا عليها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس:، قفوا.
فوقف الناس فقال: " اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الارضين السبع وما
أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما
فيها ونعوذ بك من
شر هذه القرية وشر أهلها وشر ما فيها، أقدموا بسم الله الرحمن الرحيم ".
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم، عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك وإن لم
يسمع أذانا أغار، فنزلنا خيبر ليلا فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح لم
يسمع أذانا، فركب وركبنا معه وركبت خلف أبي طلحة وإن قدمي لتمس قدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، واستقبلنا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش قالوا: محمد والخميس معه ! فأدبروا هرابا،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم
فساء صباح المنذرين.
قال ابن إسحاق: حدثنا هرون عن حميد عن أنس بمثله.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن يوسف، حدثنا مالك، عن حميد الطويل، عن
أنس
بن مالك أن رسول الله أتى خيبر ليلا وكان إذا أتى قوما بليل لم يغربهم حتى يصبح،
فلما أصبح خرجت اليهود بمساحيهم ومكاتلهم، فلما رأوه قالوا: محمد والله، محمد
والخميس ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم
فساء صباح المنذرين.
تفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل، حدثنا أبو عيينة، حدثنا أيوب، عن محمد بن
سيرين، عن أنس بن مالك، قال: صبحنا خيبر بكرة فخرج أهلها بالمساحي، فلما بصروا
بالنبي صلى الله عليه وسلم قالوا: محمد والله، محمد والخميس ! فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح
المنذرين.
قال: فأصبنا من لحوم الحمر فنادى منادى النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله ورسوله
ينهيانكم عن لحوم الحمر فإنها رجس.
تفرد به البخاري دون مسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس، قال: لما أتى
النبي صلى الله عليه وسلم خيبر فوجدهم حين خرجوا إلى زرعهم ومساحيهم، فلما رأوه
ومعه الجيش نكصوا فرجعوا إلى حصنهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت
خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
تفرد به أحمد وهو على شرط الصحيحين.
وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن مالك
قال صلى رسول الله عليه وسلم الصبح قريبا من خيبر بغلس، ثم قال: الله أكبر خربت
خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين.
فخرجوا يسعون بالسكك فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة وسبى الذرية
وكان
في السبي صفية، فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل
عتقها صداقها.
قال عبد العزيز بن صهيب لثابت: يا أبا محمد، أأنت قلت لانس: ما أصدقها ؟ فحرك ثابت
رأسه تصديقا له.
تفرد به دون مسلم.
وقد أورد البخاري ومسلم النهي عن لحوم الحمر الاهلية من طرق تذكر في كتاب الاحكام.
* * * وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو طاهر الفقيه، أنبأنا خطاب بن أحمد الطوسي،
حدثنا محمد بن حميد الابيوردي، حدثنا محمد بن الفضل، عن مسلم الاعور الملائي، عن
أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض ويتبع الجنائز
ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة والنضير على حمار، ويوم خيبر
على حمار مخطوم برسن ليف وتحته إكاف من ليف.
وقد روى هذا الحديث بتمامه الترمذي، عن علي بن حجر، عن علي بن مسهر، وابن ماجه، عن
محمد بن الصباح، عن سفيان، وعن عمر بن رافع عن جرير، كلهم عن مسلم، وهو ابن كيسان
الملائي الاعور الكوفي، عن أنس به.
وقال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديثه وهو يضعف.
قلت: والذي ثبت في الصحيح عند البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أجرى في رفاق خيبر حتى انحسر الازار عن فخذه، فالظاهر أنه كان يومئذ على فرس لا
على حمار.
ولعل هذا الحديث إن كان صحيحا محمول على أنه ركبه في بعض الايام وهو محاصرها.
والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سعيد الخزاعي، حدثنا زياد بن الربيع، عن
أبى
عمران الجوني، قال: نظر أنس إلى الناس يوم الجمعة فرأى طيالسة فقال: كأنهم الساعة
يهود خيبر.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة، حدثنا حاتم، عن يزيد بن أبي عبيد، عن سلمة
بن الاكوع قال: كان علي بن أبي طالب تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيبر
وكان رمدا، فقال: أنا أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فلحق به.
فلما بتنا الليلة التي فتحت خيبر قال: لاعطين الراية غدا، أو ليأخذن الراية غذا
رجل يحبه الله ورسوله يفتح عليه.
فنحن نرجوها، فقيل: هذا علي.
فأعطاه ففتح عليه.
وروى البخاري أيضا ومسلم عن قتيبة عن حاتم به.
ثم قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن، عن أبي حازم قال: أخبرني
سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لاعطين هذه الراية غدا
رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
قال: فبات الناس يدوكون (1) ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على النبي
صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا: هو
يا رسول الله يشتكي عينيه.
قال: فأرسل إليه فأتى، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له، فبرأ
حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا
مثلنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى
الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لان يهدي الله بك
رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
__________
(1) يدوكون: يختلفون ويسألون.
(*)
وقد
رواه مسلم والنسائي جميعا عن قتيبة به.
وفي صحيح مسلم والبيهقي من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله
ويحبه الله وسوله يفتح الله عليه ".
قال عمر: فما أحببت الامارة إلا يومئذ ! فدعا عليا فبعثه ثم قال: " اذهب
فقاتل حتى يفتح الله عليك ولا تلتفت " قال علي: على ما أقاتل الناس ؟ قال:
قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فإذا فعلوا ذلك فقد
منعوا منا دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله ".
لفظ البخاري.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا مصعب بن المقدام وجحش بن المثنى، قالا: حدثنا
إسرائيل، حدثنا عبدالله بن عصمة العجلي، سمعت أبا سعيد الخدري رضى الله عنه يقول:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الراية فهزها ثم قال: من يأخذها بحقها ؟ فجاء
فلان فقال: أنا.
قال: امض.
ثم جاء رجل آخر فقال: امض.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " والذي كرم وجه محمد لاعطينها رجلا لا يفر
" فقال: هاك يا علي.
فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر وفدك وجاء بعجوتها وقديدها.
تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به، وفيه غرابة.
وعبد الله به عصمة، ويقال ابن أعصم، وهكذا يكنى بأبى علوان العجلي، وأصله من
اليمامة سكن الكوفة، وقد وثقه ابن معين، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال
أبو
حاتم: شيخ.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ كثيرا.
وذكره في الضعفاء، وقال: يحدث عن الاثبات مما لا يشبه حديث الثقات حتى يسبق إلى
القلب أنها موهومة أو موضوعة.
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الاسلمي، عن
أبيه، عن سلمة بن عمرو بن الاكوع رضى الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم
أبا بكر رضى الله عنه إلى بعض حصون خيبر، فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح وقد جهد.
ثم بعث عمر رضى الله عنه فقاتل ثم رجع ولم يكن فتح.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب
الله ورسوله، يفتح الله
على يديه، وليس بفرار.
قال سلمة: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضى الله عنه، وهو
يومئذ أرمد، فتفل في عينيه ثم قال: " خذ الراية وامض بها حتى يفتح الله عليك
".
فخرج بها والله يأنح (1) يهرول هرولة، وإنا لخلفه نتبع أثره، حتى ركز رايته في رضم
(2) من حجارة تحت الحصن، فاطلع يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت ؟ قال: أنا علي بن
أبي طالب.
فقال اليهودي: غلبتم وما أنزل على موسى.
فما رجع حتى فتح الله على يديه.
وقال البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الاصم، أنبأنا العطاردي، عن يونس بن بكير، عن
الحسين بن واقد، عن عبدالله بن بريدة، أخبرني أبي، قال: لما كان يوم خيبر أخذ
اللواء
__________
(1) يأنح: من لانيح وهو علو النفس من شدة العدو.
وتروى: يصول.
(2) الرضم: حجارة بعضها فوق بعض، من غير بناء.
(23 - السيرة 3) (*)
أبو
بكر، فرجع ولم يفتح له، وقتل محمود بن مسلمة ورجع الناس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لادفعن لوائي غدا إلى رجل يحب الله
ورسوله ويحبه الله ورسوله، لن يرجع حتى يفتح الله له " فبتنا طيبة نفوسنا أن
الفتح غدا، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، ثم دعا باللواء وقام
قائما، فما منا من رجل له منزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجو أن
يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها ورفعت رأسي لمنزلة كانت لي منه، فدعا علي بن
أبي طالب وهو يشتكي عينيه.
قال: فمسحها ثم دفع إليه اللواء ففتح له، فسمعت عبدالله بن بريدة يقول: حدثني أبي
أنه كان صاحب مرحب.
قال يونس: قال ابن إسحاق: كان أول حصون خيبر فتحا حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن
مسلمة ألقيت عليه رحى منه فقتلته.
* * * ثم روى البيهقي، عن يونس بن بكير، عن المسيب بن مسلمة الازدي، حدثنا عبدالله
بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما أخذته الشقيقة (1)
فلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس،
وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم
رجع فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الاول ثم رجع، فأخبر بذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لاعطينها غدا [ رجلا ] يحب الله ورسوله
ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة " وليس ثم علي، فتطاولت لها قريش، ورجا كل رجل
منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح وجاء علي بن أبي طالب على بعير له حتى أناخ قريبا
وهو أرمد قد عصب عينه بشقة برد
__________
(3) الشقيقة: وجع يأخذ نصف الرأس والوجه.
(*)
قطرى،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك ؟ قال: رمدت بعدك.
قال: ادن مني.
فتفل في عينه فما وجعها حتى مضى لسبيله.
ثم أعطاه الراية فنهض بها وعليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها، فأتى مدينة خيبر
وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو
يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أني مرحب * شاك سلاحي بطل مجرب إذا الليوث أقبلت تلهب *
وأحجمت عن صولة المغلب فقال على رضى الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث
غابات شديد القسوره
أكيلكم بالصاع كيل السندره (1) قال: فاختلفا ضربتين، فبدره علي بضربة فقد الحجر
والمغفر ورأسه، ورقع في الاضراس، وأخذ المدينة.
* * * وقد روى الحافظ البزار عن عباد بن يعقوب، عن عبدالله بن بكر، عن حكيم ابن
جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قصة بعث أبي بكر ثم عمر يوم خيبر ثم بعث علي
فكان الفتح على يديه.
وفي سياقه غرابة ونكارة وفي إسناده من هو متهم بالتشيع.
والله أعلم.
وقد روى مسلم والبيهقي واللفظ له، من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة ابن
الاكوع عن أبيه، فذكر حديثا طويلا وذكر فيه رجوعهم عن غزوة بني فزارة.
قال: فلم نمكث إلا ثلاثا حتى خرجنا إلى خيبر.
قال: وخرج عامر فجعل يقول:
__________
(1) السندرة: ضرب من الكيل غراف جراف.
(*)
والله
لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا ونحن من فضلك ما استغنينا * فأنزلن
سكينة علينا وثبت الاقدام إن لاقينا قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من
هذا القائل ؟ فقالوا: عامر.
فقال: غفر لك ربك.
قال: وما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أحدا به إلا استشهد.
فقال عمر وهو على جمل: لولا متعتنا بعامر ! قال: فقدمنا خيبر فخرج مرحب وهو يخطر
بسيفه ويقول: قد عملت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب
قال: فبرز له عامر رضى الله عنه وهو يقول: قد علمت خيبر أني عامر * شاكي السلاح
بطل مغامر قال: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر فذهب يسعل له (1)، فرجع
على نفسه فقطع أكحله فكانت فيها نفسه.
قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: بطل عمل
عامر قتل نفسه ! قال:، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: مالك ؟
فقلت: قالوا: أن عامرا بطل عمله.
فقال: من قال ذلك ؟ فقلت: نفر من أصحابك.
فقال: كذب أولئك، بل له الاجر مرتين.
قال: وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي رضى الله عنه يدعوه وهو أرمد
وقال: لاعطين الراية اليوم رجلا يحبه الله ورسوله.
قال: فجئت به أقوده.
قال: فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينه فبرأ، فأعطاه الراية، فبرز مرحب
وهو يقول:
__________
(1) يسعل: ينشط.
(*)
قد
علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب قال: فبرز له
علي وهو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات كريه المنظره أو فيهم بالصاع
كيل السندره قال: فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله.
وكان الفتح.
هكذا وقع في هذا السياق أن عليا هو الذي قتل مرحبا اليهودي لعنه الله.
وقال أحمد:، حدثنا حسين بن حسن الاشقر، حدثني قابوس بن أبي ظبيان، عن
أبيه عن جده عن علي قال: لما قتلت مرحبا جئت برأسه إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري، أن الذي قتل مرحبا هو محمد بن مسلمة.
وكذلك قال محمد بن إسحاق: حدثني عبدالله بن سهل أحد بني حارثة، عن جابر بن
عبدالله، قال: خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر وهو يرتجز ويقول: قد علمت خيبر أني
مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحيانا وحينا أضرب * إذا الليوث أقبلت تلهب إن
حماي للحمى لا يقرب قال: فأجابه كعب بن مالك: قد علمت خيبر أني كعب * مفرج الغماء
جرى صلب إذ شبت الحرب وثار (1) الحرب * معي حسام كالعقيق عضب يطأكم حتى يذل الصعب
* بكف ماض ليس فيه عيب قال: وجعل مرحب يرتجز ويقول: هل من مبارز ؟ فقال رسول الله
صلى الله
__________
(1) ابن هشام: تلتها الحرب (*)
عليه
وسلم: من لهذا ؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يارسول الله، أنا والله الموتور
والثائر، قتلوا أخي بالامس.
فقال: قم إليه اللهم أعنه عليه.
قال: فلما دنا أحدهما من صاحبه دخلت بينهما شجرة عمرية (1) من شجر العشر (2) المسد
(3)، فجعل كل واحد منهما يلوذ من صاحبه بها، كلما لاذ بها أحدهما اقتطع بسيفه ما
دونه، حتى برز كل واحد منهما لصاحبه وصارت بينهما كالرجل القائم ما فيها فنن، ثم
حمل على محمد بن مسلمة فضربه فاتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها فعضت [ به ]، فاستله
وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله.
وقد رواه الامام أحمد، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه عن ابن إسحاق بنحوه.
قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن محمدا ارتجز حين ضربه وقال: قد علمت خيبر أني
ماض * حلو إذا شئت وسم قاض وهكذا رواه الواقدي عن جابر وغيره من السلف، أن محمد بن
مسلمة هو الذي قتل مرحبا.
ثم ذكر الواقدي أن محمدا قطع رجلي مرحب فقال له: أجهز علي.
فقال: لا، ذق الموت كما ذاقه محمود بن مسلمة.
فمر به علي وقطع رأسه، فاختصما في سلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطى
رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه ورمحه ومغفره وبيضته.
قال: وكان مكتوبا على سيفه: هذا سيف مرحب * من يذقه يعطب
__________
(1) العمرية: القديمة.
(2) العشر: شجر فيه حراق لم يقتدح الناس في أجود منه.
(3) المسد: الشديد الفتل.
ولم ترد هذه الكلمة في ابن هشام.
(*)
ثم
ذكر ابن إسحاق أن أخا مرحب وهو ياسر خرج بعده وهو يقول: هل من مبارز ؟ فزعم هشام
بن عروة أن الزبير خرج له، فقالت أم صفية بنت عبدالمطلب: يقتل ابني يا رسول الله.
فقال: بل ابنك يقتله إن شاء الله فالتقيا فقتله الزبير.
قال: فكان الزبير إذا قيل له: والله إن كان سيفك يومئذ صار ما يقول: والله ما كان
بصارم ولكني أكرهته.
وقال يونس عن ابن إسحاق، عن بعض أهله عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: خرجنا مع علي إلى خيبر، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته، فلما
دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل منهم من يهود فطرح ترسه من يده،
فتناول علي باب الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله
عليه ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر معي سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب
ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
وفي هذا الخبر جهالة وانقطاع ظاهر.
ولكن روى الحافظ البيهقي والحاكم من طريق مطلب بن زياد، عن ليث بن أبي سليم، عن
أبي جعفر الباقر، عن جابر، أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه
فافتتحوها، وإنه جرب بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا ! وفيه ضعف أيضا.
وفي رواية ضعيفة عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا وكان جهدهم أن أعادوا الباب.
وقال البخاري: حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا يزيد بن أبي عبيد، قال: رأيت أثر ضربة
في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم ما هذه الضربة ؟ قال: هذه ضربة أصابتني
يوم
خيبر فقال الناس: أصيب سلمة.
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة.
* * * ثم قال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة، حدثنا ابن أبي حازم، عن أبيه عن
سهل، قال: التقى النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون في بعض مغازيه فاقتتلوا، فمال
كل قوم إلى عسكرهم، وفي المسلمين رجل لا يدع من المشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها
فضربها بسيفه، فقيل: يا رسول الله ما أجزا منا أحد ما أجزأ فلان.
قال: إنه من أهل النار.
فقالوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار ؟ ! فقال رجل من القوم:
لاتبعنه فإذا أسرع وأبطأ كنت معه، حتى جرح فاستعجل الموت فوضع نصاب سيفه بالارض
وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه.
فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله قال: وما ذاك ؟
فأخبره فقال: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإنه من أهل
النار، ويعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وإنه من أهل الجنة.
رواه أيضا عن قتيبة عن يعقوب، عن أبي حازم، عن سهل.
فذكره مثله أو نحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سعيد ابن المسيب
أن أبا هريرة قال: شهدنا خيبر فقال رسول الله صلى لله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي
الاسلام: هذا من أهل النار.
فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة، حتى كاد بعض الناس
يرتاب.
فوجد الرجل ألم جراحه فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه،
فاشتد رجال من المسلمين فقالوا: يا رسول الله صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل
نفسه.
فقال: قم يا فلان فأذن: إنه لا يدخل
الجنة
إلا مؤمن، وإن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر ! ".
* * * وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري قصة العبد الاسود الذي رزقه الله الايمان
والشهادة في ساعة واحدة.
وكذلك رواها ابن لهيعة عن أبي الاسود، عن عروة قالا: وجاء عبد حبشي أسود من أهل
خيبر كان في غنم لسيده، فلما رأى أهل خيبر قد أخذوا السلاح سألهم قال: ما تريدون ؟
قالوا: نقاتل هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي.
فوقع في نفسه ذكر النبي فأقبل بغنمه حتى عمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
إلى ما تدعو ؟ قال: أدعوك إلى الاسلام، إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول
الله وألا تعبد إلا الله.
قال: فقال العبد: فماذا يكون لي إن شهدت بذلك وآمنت بالله ؟ قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: الجنة إن مت على ذلك.
فأسلم العبد فقال: يا نبي الله إن هذه الغنم عندي أمانة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجها من عسكرنا وارمها بالحصا، فإن الله
سيؤدي عنك أمانتك.
ففعل فرجعت الغنم إلى سيدها، فعرف اليهودي أن غلامه قد أسلم.
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظ الناس فذكر الحديث في إعطائه الراية عليا
ودنوه من حصن اليهود وقتله مرحبا، وقتل مع علي ذلك العبد الاسود، فاحتمله المسلمون
إلى عسكرهم فأدخل في الفسطاط، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع في
الفسطاط ثم اطلع على أصحابه فقال: " لقد أكرم الله هذا العبد وساقه إلى خير،
قد كان الاسلام في قلبه حقا، وقد رأيت عند رأسه اثنتين من الحور العين ! ".
وقد روى الحافظ البيهقي من طريق ابن وهب، عن حيوة بن شريح عن ابن الهاد، عن شرحبيل
بن سعد، عن جابر بن عبدالله، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في
غزوة خيبر، فخرجت سرية فأخذوا إنسانا معه غنم يرعاها فذكر نحو قصة هذا العبد
الاسود وقال فيه: قتل شهيدا وما سجد لله سجدة ! ثم قال البيهقي: حدثنا محمد بن
محمد بن محمد الفقيه، حدثنا أبو بكر القطان، حدثنا أبو الأزهر، حدثنا موسى بن
إسماعيل، حدثنا حماد، حدثنا ثابت، عن أنس أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: يا رسول الله أني رجل أسود اللون قبيح الوجه لا مال لى، فإن قاتلت
هؤلاء حتى أقتل أدخل الجنة ؟ قال: نعم.
فتقدم فقاتل حتى قتل، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقتول فقال: لقد
حسن الله وجهك وطيب ريحك وكثر مالك وقال: " لقد رأيت زوجتيه من الحور العين
يتنازعان جبته عليه، يدخلان فيما بين جلده وجبته ".
ثم روى البيهقي من طريق ابن جريج، أخبرني عكرمة بن خالد، عن ابن أبي عمار، عن شداد
بن الهاد، أن رجلا من الاعراب جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
فآمن به واتبعه فقال: أهاجر معك.
فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقسمه وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له وكان يرعى ظهرهم، فلما
جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا ؟ قالوا: قسم قسمه لك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: ما على هذا اتبعتك ولكني اتبعتك على أن أرمى هاهنا، وأشار إلى حلقه بسهم،
فأموت فأدخل الجنة.
فقال: " إن تصدق الله يصدقك ".
ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل وقد أصابه
سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو هو ؟ قالوا: نعم.
قال: " صدق الله فصدقه ".
وكفنه النبي صلى الله عليه وسلم في جبة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدمه فصلى
عليه
وكان مما ظهر من صلاته: " اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك قتل شهيدا وأنا
عليه شهيد ".
وقد رواه النسائي عن سويد بن نصر، عن عبدالله بن المبارك عن ابن جريج به نحوه.
فصل قال ابن إسحاق: وتدنى رسول الله صلى الله عليه وسلم الاموال بأخذها مالا مالا
ويفتتحها حصنا حصنا، وكان أول حصونهم فتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة،
ألقيت عليه رحى منه فقتلته.
ثم القموص حصن بني أبي الحقيق.
وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم سبايا، منهم صفية بنت حيى بن أخطب، وكانت
عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وبنتي عم لها، فاصطفى رسول الله صلى الله عليه
وسلم صفية لنفسه، وكان دحية بن خليفة قد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
صفية، فلما اصطفاها لنفسه أعطاه ابنتي عمها.
قال: وفشت السبايا من خيبر في المسلمين، وأكل الناس لحوم الحمر فذكر نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم إياهم عن أكلها.
وقد اعتنى البخاري بهذا الفصل، فأورد النهي عنها من طرق جيدة.
وتحريمها مذهب جمهور العلماء سلفا وخلفا وهو مذهب الائمة الاربعة.
وقد ذهب بعض السلف، منهم ابن عباس إلى إباحتها، وتنوعت أجوبتهم عن الاحاديث
الواردة في النهي عنها.
فقيل: لانها كانت ظهرا يستعينون بها في الحمولة.
وقيل: لانها لم تكن خمست بعد.
وقيل: لانها كانت تأكل العذرة، يعني جلالة.
والصحيح
أنه نهى عنها لذاتها، فإن في الاثر الصحيح أنه نادى منادى رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر، فإنها رجس.
فأكفأوها والقدور تفور بها.
وموضع تقرير ذلك في كتاب الاحكام.
قال ابن إسحاق: حدثني سلام بن كركرة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبدالله، ولم
يشهد جابر خيبر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهى الناس عن أكل لحوم الحمر
أذن لهم في لحوم الخيل.
وهذا الحديث أصله ثابت في الصحيحين، من حديث حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن
محمد بن علي، عن جابر رضى الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
خيبر عن لحوم الحمر ورخص في الخيل.
لفظ البخاري.
قال ابن إسحاق: وحدثنا عبدالله بن أبي نجيح، عن مكحول، أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهاهم يومئذ عن أربع: عن إتيان الحبالى من النساء، وعن أكل الحمار
الاهلي، وعن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن بيع المغانم حتى تقسم.
وهذا مرسل.
* * * وقال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرزوق مولى تجيب، عن حنش
الصنعاني، قال: غزونا مع رويفع بن ثابت الانصاري المغرب، فافتتح قرية من قرى
المغرب يقال لها جربة، فقام فينا خطيبا فقال: أيها الناس إني لا أقول فيكم إلا ما
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينا يوم خيبر، قام فينا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقى ماءه زرع
غيره،
يعني إتيان الحبالى من السبي، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب
امرأة من السبي حتى يستبرئها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع
مغنما حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فئ
المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس
يوما من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه.
وهكذا روى هذا الحديث أبو داود من طريق محمد بن إسحاق.
ورواه الترمذي عن حفص بن عمرو الشيباني، عن ابن وهب، عن يحيى بن أيوب، عن ربيعة بن
سليم، عن بشر بن عبيد الله، عن رويفع بن ثابت مختصرا.
وقال: حسن.
وفي صحيح البخاري عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى يوم
خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وعن أكل الثوم.
وقد حكى ابن حزم عن علي وشريك بن الحنبل أنهما ذهبا إلى تحريم البصل والثوم النئ.
والذي نقله الترمذي عنهما الكراهة.
فالله أعلم.
* * * وقد تكلم الناس في الحديث الوارد في الصحيحين من طريق الزهري، عن عبد الله
والحسن ابني محمد بن الحنفية، عن أبيهما، عن أبيه علي بن أبي طالب رضى الله عنه،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر
الاهلية.
هذا لفظ الصحيحين من طريق مالك وغيره، عن الزهري وهو يقتضي تقييد تحريم نكاح
المتعة بيوم خيبر.
وهو مشكل من وجهين: أحدهما أن يوم خيبر لم يكن ثم نساء يتمتعون بهن، إذ قد حصل لهم
الاستغناء بالسباء عن نكاح المتعة.
الثاني:
أنه قد ثبت في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة، عن معبد عن أبيه، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أذن لهم في المتعة زمن الفتح، ثم لم يخرج من مكة حتى نهى عنها
وقال: إن الله قد حرمها إلى يوم القيامة.
فعلى هذا يكون قد نهى عنها ثم أذن فيها ثم حرمت، فيلزم النسخ مرتين وهو بعيد.
ومع هذا فقد نص الشافعي على أنه لا يعلم شيئا أبيح ثم حرم، ثم أبيح ثم حرم، غير
نكاح المتعة.
وما حداه على هذا رحمه الله إلا اعتماده على هذين الحديثين كما قدمناه (1).
وقد حكى السهيلي وغيره عن بعضهم أنه ادعى أنها أبيحت ثلاث مرات، وحرمت ثلاث مرات.
وقال آخرون: أربع مرات.
وهذا بعيد جدا.
والله أعلم.
واختلفوا أي وقت أول ما حرمت، فقيل: في خيبر.
وقيل: في عمرة القضاء.
وقيل: في عام الفتح.
وهذا يظهر.
وقيل: في أوطاس.
وهو قريب من الذي قبله.
وقيل:
في تبوك.
وقيل: في حجة الوداع.
رواه أبو داود.
وقد حاول بعض العلماء أن يجيب عن حديث علي رضى الله عنه بأنه وقع فيه تقديم
وتأخير.
وإنما المحفوظ فيه ما رواه الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن الزهري، عن الحسن و
عبدالله ابني محمد عن أبيهما، وكان حسن أرضاهما في أنفسهما، أن عليا قال لابن
عباس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية
زمن خيبر.
__________
(1) بالاصل بياض بمقدار سطر.
(*)
قالوا:
فاعتقد الراوي أن قوله خيبر ظرف للمنهى عنهما، وليس كذلك إنما هو ظرف للنهى عن
لحوم الحمر، فأما نكاح المتعة فلم يذكر له ظرفا، وإنما جمعه معه لان عليا رضى الله
عنه بلغه أن ابن عباس أباح نكاح المتعة ولحوم الحمر الاهلية كما هو المشهور عنه،
فقال له أمير المؤمنين علي: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن نكاح المتعة ولحوم الحمر الاهلية يوم خيبر.
فجمع له النهي ليرجع عما كان يعتقده في ذلك من الاباحة.
وإلى هذا التقرير كان ميل شيخنا الحافظ أبي الحجاج المزي تغمده الله برحمته آمين.
ومع هذا ما رجع ابن عباس عما كان يذهب [ إليه ] من [ إباحة ] الحمر والمتعة.
أما النهي عن الحمر فتأوله بأنها كانت حمولتهم، وأما المتعة فإنما كان يبيحها عند
الضرورة في الاسفار، وحمل النهي على ذلك في حال الرفاهية والوجدان، وقد تبعه على
ذلك طائفة من أصحابه وأتباعهم، ولم يزل ذلك مشهورا عن علماء الحجاز إلى زمن ابن
جريج وبعده.
وقد حكى عن الامام أحمد بن حنبل رواية كمذهب ابن عباس، وهي ضعيفة.
وحاول بعض من صنف في الحلال نقل رواية عن الامام بمثل ذلك.
ولا يصح أيضا والله أعلم.
وموضع تحرير ذلك في كتاب الاحكام.
وبالله المستعان.
* * * قال ابن إسحاق: ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتدنى الحصون والاموال.
فحدثني عبدالله بن أبي بكر، أنه حدثه بعض من أسلم (1) أن بني سهم من أسلم أتوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لقد جهدنا وما بأيدينا شئ فلم
يجدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا يعطيهم إياه، فقال: " اللهم إنك
قد عرفت حالهم وأن ليست لهم قوة وأن ليس بيدي شئ أعطيهم إياه، فافتح عليهم أعظم
حصونها عنهم غناء (2)
__________
(1) ابن هشام: بعض أسلم (2) الاصل: غنى.
وما أثبته من ابن هشام.
(*)
وأكثرها
طعاما وودكا ".
فغدا الناس ففتح عليهم حصن الصعب بن معاذ، وما بخيبر حصن كان أكثر طعاما وودكا
منه.
قال ابن إسحاق: ولما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم ما افتتح وحاز
من الاموال ما حاز انتهوا إلى حصنهم الوطيح والسلالم، وكان آخر حصون خيبر افتتاحا،
فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضع عشرة ليلة.
قال ابن هشام: وكان شعارهم يوم خيبر: يا منصور أمت أمت.
قال ابن إسحاق: وحدثني بريدة بن سفيان الاسدي الاسلمي، عن بعض رجال بني سلمة، عن
أبى اليسر كعب بن عمرو، قال: إني لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر ذات عشية
إذ أقبلت غنم لرجل من يهود تريد حصنهم ونحن محاصروهم، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: من رجل يطعمنا من هذه الغنم ؟ قال أبو اليسر: فقلت: أنا يا رسول الله.
قال: فافعل.
قال: فخرجت أشتد مثل الظليم، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم موليا
قال: اللهم أمتعنا به.
قال: فأدركت الغنم وقد دخلت أولها الحصن، فأخذت شاتين من أخراها فاحتضنتهما تحت
يدي، ثم جئت بهما أشتد كأنه ليس معي شئ، حتى ألقيتهما عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم فذبحوهما فأكلوهما.
فكان أبو اليسر من آخر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم موتا.
وكان إذا حدث هذا الحديث بكى ثم قال: أمتعوا بي لعمري ! حتى كنت من آخرهم.
وقال الحافظ البيهقى في الدلائل: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الاصبهاني،
حدثنا أبو سعيد بن الاعرابي، حدثنا سعدان بن نصر، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم
الاحول، عن أبي عثمان النهدي، أو عن أبي قلابة، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه
وسلم خيبر قدم والثمرة خضرة، قال: فأسرع الناس إليها فحموا فشكوا ذلك إليه.
فأمرهم
أن
يقرسوا الماء في الشنان (1) ثم يجرونه عليهم إذا أتى الفجر ويذكرون اسم الله عليه،
ففعلوا ذلك فكأنما نشطوا من عقل.
* * * قال البيهقي: ورويناه عن عبدالرحمن بن رافع موصولا، وعنه: بين صلاتي المغرب
والعشاء.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى وبهز، قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن
هلال، حدثنا عبدالله بن مغفل، قال: دلى جراب من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا
أعطي أحدا منه شيئا.
قال: فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم.
وقال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا شعبة، عن حميد بن هلال، عن عبدالله بن مغفل، قال:
كنا نحاصر قصر خيبر، فألقى إلينا جراب فيه شحم، فذهبت فأخذته فرأيت النبي صلى الله
عليه وسلم فاستحييت.
وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة.
ورواه مسلم أيضا عن شيبان بن فروخ، عن عثمان بن المغيرة.
وقال ابن إسحق:، وحدثني من لاأتهم عن عبدالله بن مغفل المزني قال: أصبت من فئ خيبر
جراب شحم، قال: فاحتملته على عنقي إلى رحلي وأصحابي.
قال: فلقيني صاحب المغانم الذي جعل عليها، فأخذ بناحيته وقال: هلم حتى تقسمه بين
المسلمين.
قال: وقلت: لا والله لا أعطيكه.
قال: وجعل يجاذبني الجراب، قال: فرآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصنع ذلك
فتبسم ضاحكا، ثم قال لصاحب المغانم: خل بينه وبينه.
قال: فأرسله فانطلقت به إلى رحلي وأصحابي فأكلناه.
__________
(1) يقرسوا: يبردوا.
والشنان: القرب.
(24 - السيرة 3) (*)
وقد
استدل الجمهور بهذا الحديث على الامام مالك في تحريمه شحوم ذبائح اليهود وما كان
غلبهم عليه غيرهم من المسلمين، لان الله تعالى قال: " وطعام الذين أوتوا الكتاب
حل لكم " قال: " لكم " قال: وليس هذا من طعامهم.
فاستدلوا عليه بهذا الحديث وفيه نظر.
وقد يكون هذا الشحم مما كان حلالا لهم والله أعلم.
وقد استدلوا بهذا الحديث على أن الطعام لا يخمس، ويعضد ذلك ما رواه الامام أبو
داود: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو معاوية، حدثنا إسحاق الشيباني، عن محمد بن
أبي مجالد، عن عبدالله بن أبي أوفى قال: قلت: كنتم تخمسون الطعام في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أصبنا طعاما يوم خيبر، وكان الرجل يجئ فيأخذ منه قدر ما
يكفيه ثم ينصرف.
تفرد به أبو داود وهو حسن.
ذكر
قصة صفية بنت حيى بن أخطب النضرية رضى الله عنها كان من شأنها أنه لما أجلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير من المدينة كما تقدم، فذهب عامتهم إلى
خيبر وفيهم حيى بن أخطب وبنو أبي الحقيق، وكانوا ذوى أموال وشرف في قومهم، وكانت
صفية إذ ذاك طفلة دون البلوغ، ثم لما تأهلت للتزويج تزوجها بعض بني عمها، فلما زفت
إليه وأدخلت إليه بنى بها ومضى على ذلك ليال، رأت في منامها كأن قمر السماء قد سقط
في حجرها، فقصت رؤياها على ابن عمها فلطم وجهها وقال: أتتمنين ملك يثرب أن يصير
بعلك !.
فما كان إلا مجئ رسول الله صلى عليه وسلم وحصاره إياهم، فكانت صفية في جملة السبي،
وكان زوجها في جملة القتلى.
ولما اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصارت في حوزه وملكه كما سيأتي، وبنى
بها بعد استبرائها وحلها وجد أثر تلك اللطمة في خدها، فسألها ما شأنها فذكرت له ما
كانت رأت من تلك الرؤيا الصالحة رضى الله عنها وأرضاها.
* * * قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس بن
مالك، قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريبا من خيبر بغلس ثم قال: "
الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ".
فخرجوا يسعون في السكك، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة وسبى الذرية، وكان
في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي، ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل
عتقها صداقها.
ورواه
مسلم أيضا من حديث حماد بن زيد، وله طرق عن أنس.
وقال البخاري: حدثنا آدم، عن شعبة، عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك
يقول: سبى النبي صلى الله عليه وسلم صفية فأعتقها وتزوجها.
قال ثابت لانس: ما أصدقها ؟ قال: أصدقها نفسها فأعتقها.
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
قال البخاري: حدثنا عبد الغفار بن داود، حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن ح.
وحدثنا أحمد بن عيسى، حدثنا وهب، أخبرني يعقوب بن عبدالرحمن الزهري، عن عمرو مولى
المطلب، عن أنس بن مالك قال: قدمنا خيبر فلما فتح صلى الله عليه وسلم الحصن ذكر له
جمال صفية بنت حيى بن أخطب، وقد قتل زوجها وكانت عروسا، فاصطفاها النبي صلى الله
عليه وسلم لنفسه، فخرج بها حتى بلغ بها سد الصهباء (1) حلت فبنى بها رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم صنع حيسا في نطع (2) صغير ثم قال لي: آذن من حولك.
فكانت تلك وليمته على صفية.
ثم خرجنا إلى المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم
يجلس عند بعيره، فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب.
تفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير، أخبرني
حميد، أنه سمع أنسا يقول: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بين خيبر والمد ثلاث
ليال يبنى عليه بصفية، فدعوت المسلمين إلى وليمته وما كان فيها من خبز ولحم، وما
كان فيها إلا أن أمر بلالا بالانطاع فبسطت فألقى عليها التمر والاقط والسمن، فقال
المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه ؟ فقالوا: إن حجبها فهي إحدى
__________
(1) الصهباء: موضع بينه وبين خيبر مرحلة.
والسد: الحاجز.
(2) النطع: بساط من الاديم.
(*)
أمهات
المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه.
فلما ارتحل وطأ لها خلفه ومد الحجاب.
انفرد به البخاري.
وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا حماد بن زيد، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس بن
مالك، قال: صارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن عبد العزيز بن
صهيب، عن أنس قال: جمع السبى - يعني بخيبر - فجاء دحية فقال: يا رسول الله أعطني
جارية من السبي قال: اذهب فخذ جارية.
فأخذ صفية بنت حيى، فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله
أعطيت دحية.
قال يعقوب: صفية بنت حيى سيدة قريظة والنضير، ما تصلح إلا لك.
قال: ادعوا بها.
فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قال: خذ جارية من السبي غيرها.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتقها وتزوجها.
وأخرجاه من حديث ابن علية.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن خلاد الباهلي، حدثنا بهز بن أسد، حدثنا حماد بن
سلمة، حدثنا ثابت عن أنس، قال: وقع في سهم دحية جارية جميلة، فاشتراها رسول الله
صلى الله عليه وسلم بسبعة أرؤس، ثم دفعها إلى أم سلمة تصنعها وتهيئها.
قال حماد: وأحسبه قال: وتعتد في بيتها، صفية بنت حيى.
تفرد به أبو داود.
* * * قال ابن إسحاق: فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم القموص حصن بني أبي
الحقيق
أتى بصفية بنت حيى بن أخطب وأخرى معها، فمر بهما بلال - وهو الذي جاء بهما - على
قتلى من قتلى يهود، فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكت وجهها وحثت التراب على
رأسها، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أعزبوا (1) عني هذه الشيطانة.
وأمر بصفية فحيزت خلفه وألقى عليها رداءه، فعرف المسلمون أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قد اصطفاها لنفسه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال، فيما بلغني، حين رأى بتلك اليهودية ما
رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال حتى تمر بامرأتين على قتلى رجالهما !.
وكانت صفية قد رأت في المنام وهي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع
في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تمنين ملك الحجاز محمدا.
فلطم وجهها لطمة خضر عينها منها.
فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها أثر منه، فسألها ما هذا، فأخبرته
الخبر.
قال ابن إسحاق: وأتى رسول الله بكنانة بن الربيع، وكان عنده كنز بني النضير، فسأله
عنه فجحد أن يكون يعلم مكانه.
فأتى رسول لله صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فقال لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنانة، أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك ؟ قال:
نعم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض كنزهم، ثم سأله
عما بقى فأبى أن يؤديه فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام
فقال: عذبه حتى تستأصل ما عنده.
وكان الزبير يقدح بزنده (2) في صدره حتى أشرف على نفسه، ثم دفعه رسول الله إلى
محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.
__________
(1) أعزبوا: أبعدوا.
(2) ابن هشام: زند.
(*)
فصل
قال ابن إسحاق: وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر في حصنيهم الوطيح
والسلالم، حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن دماءهم.
ففعل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الاموال كلها الشق والنطاة
والكتيبة وجميع حصونهم، إلا ما كان من ذينك الحصنين، فلما سمع [ بهم ] أهل فدك قد
صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسيرهم ويحقن دماءهم
ويخلوا له الاموال ففعل.
وكان ممن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود أخو
بني حارثة.
فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم في
الاموال على النصف، وقالوا: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها.
فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم
أخرجناكم.
وعامل أهل فدك بمثل ذلك.
فصل في فتح حصونها وقسمة أرضها.
قال الواقدي: لما تحولت اليهود من حصن ناعم وحصن الصعب بن معاذ إلى قلعة الزبير
حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام، فجاء رجل من اليهود يقال له عزال
فقال: يا أبا القاسم تؤمنني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة وتخرج إلى
أهل الشق، فإن أهل الشق قد هلكوا رعبا منك ؟ قال: فأمنه رسول الله على أهله وماله
فقال له اليهودي: إنك لو أقمت شهرا تحاصرهم ما بالوا بك، إن لهم تحت الارض دبولا
(1) يخرجون بالليل فيشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم.
__________
(1) الدبول: الجداول.
(*)
فأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع دبولهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، وقتل من
المسلمين يومئذ نفر وأصيب من اليهود عشرة، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان آخر حصون النطاة.
وتحول إلى الشق، وكان به حصون ذوات عدد، فكان أول حصن بدأ به منها حصن أبي، فقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلعة يقال لها سموان فقاتل عليها أشد القتال،
فخرج منهم رجل يقال له عزول فدعا إلى البراز فبرز إليه الحباب بن المنذر، فقطع يده
اليمنى من نصف ذراعه ووقع السيف من يده، وفر اليهودي راجعا فاتبعه الحباب فقطع
عرقوبه.
وبرز منهم آخر فقام إليه رجل من المسلمين فقتله اليهودي، فنهض إليه أبو دجانة
فقتله وأخذ سلبه، وأحجموا عن البراز فكبر المسلمون، ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه
وأمامهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثا ومتاعا وغنما وطعاما، وهرب من كان فيه من
المقاتلة وتقحموا الجزر كأنهم الضباب حتى صاروا إلى حصن البزاة بالشق، وتمنعوا أشد
الامتناع، فزحف إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتراموا ورمى معهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة، حتى أصاب نبلهم بنانه عليه الصلاة
والسلام فأخذ عليه السلام كفا من الحصا فرمى حصنهم بها فرجف بهم حتى ساخ في الارض
وأخذهم المسلمون أخذا باليد.
قال الواقدي: ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الاخبية والوطيح
والسلالم، حصني أبي الحقيق، وتحصنوا أشد التحصن وجاء إليهم كل من كان انهزم من
النطاة إلى الشق، فتحصنوا معهم في القموص وفي الكتيبة، وكان حصنا منيعا وفي الوطيح
والسلالم وجعلوا لا يطلعون من حصونهم، حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
ينصب المنجنيق عليهم.
فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوما نزل
إليه ابن أبي الحقيق فصالحه على حقن دمائهم ويسيرهم ويخلون بين رسول الله صلى الله
عليه وسلم
وبين
ما كان لهم من الارض والاموال والصفراء والبيضاء والكراع والحلقة وعلى البز، إلا
ما كان على ظهر إنسان، يعني لباسهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتم
شيئا.
فصالحوه على ذلك.
قلت: ولهذا لما كتموا وكذبوا وأخفوا ذلك المسك الذي كان فيه أموال جزيلة، تبين أنه
لا عهد لهم، فقتل ابني أبي الحقيق وطائفة من أهله، بسبب نقض العهود منهم
والمواثيق.
* * * وقال الحافظ البيهقي: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المقري الاسفراييني،
حدثنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب، حدثنا عبد الواحد بن غياث،
حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عبيد الله بن عمر، فيما يحسب أبو سلمة، عن نافع عن ابن
عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم، فغلب
على الارض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول
الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء، ويخرجون منها، واشترط عليهم ألا يكتموا
ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد.
فغيبوا مسكا (1) فيه مال وحلي لحيى بن أخطب، وكان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت
النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ: ما فعل مسك حيى الذي جاء به من
النضير ؟ فقال: أذهبته النفقات والحروب.
فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
الزبير فمسه بعذاب، وقد كان حيى قبل ذلك دخل خربة، فقال: قد رأيت حييا يطوف في
خربة هاهنا.
فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة.
فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق، وأحدهما زوج صفية بنت
__________
(1) المسك: الجلد.
(*)
حيى
بن أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث
الذي نكثوا.
وأراد إجلاءهم منها، فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الارض نصلحها ونقوم عليها.
ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لاصحابه غلال يقومون عليها، وكانوا لا
يفرغون أن يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع ونخيل وشئ، ما
بد الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان عبدالله بن رواحة يأتيهم كل عام فيخرجها عليهم، ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة خرصه، وأرادوا أن يرشوه فقال: يا أعداء الله
تطمعوني السحت ! والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولانتم أبغض إلي من عدتكم
من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم.
فقالوا: بهذا قامت السموات والارض ! قال: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعين
صفية خضرة، فقال: يا صفية ما هذه الخضرة ؟ فقالت: كان رأسي في حجر ابن أبي الحقيق
وأنا نائمة، فرأيت كأن قمرا وقع في حجري، فأخبرته بذلك فلطمني وقال: تتمنين ملك
يثرب.
قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبغض الناس إلى، قتل زوجي وأبي، فما
زال يعتذر إلي ويقول: إن أباك ألب علي العرب وفعل ما فعل، حتى ذهب ذلك من نفسي.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر كل
عام وعشرين وسقا من شعير، فلما كان في زمان عمر غشوا المسلمين وألقوا ابن
عمر
من فوق بيت ففدعوا (1) يديه، فقال عمر: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها.
فقسمها.
بينهم.
فقال رئيسهم: لا تخرجنا دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر.
فقال عمر: أتراني سقط علي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف بك إذا
وقصت (2) بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما ثم يوما ".
وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية.
وقد رواه أبو داود مختصرا من حديث حماد بن سلمة.
قال البيهقي: وعلقه البخاري في كتابه فقال: ورواه حماد بن سلمة.
قلت: ولم أره في الاطراف فالله أعلم.
* * * وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب، أخبرني أسامة
ابن زيد الليثي، عن نافع، عن عبدالله بن عمر، قال: لما فتحت خيبر سألت يهود رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم على أن يعملوا على النصف مما خرج منها فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: أقركم فيها على ذلك ما شئنا.
فكانوا على ذلك، وكان التمر يقسم على السهمان من نصف خيبر ويأخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم الخمس، وكان أطعم كل امرأة من أزواجه من الخمس مائة وسق من تمر
وعشرين وسقا من شعير.
فلما أراد عمر إخراج اليهود أرسل إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهن: من
أحب منكن أن أقسم لها مائة وسق فيكون لها أصلها وأرضها وماؤها، ومن الزرع مزرعة
عشرين وسقا من شعير فعلنا، ومن أحب أن نعزل الذي لها في الخمس كما هو فعلنا.
__________
(1) الفدع: اعوجاج الرسغ من اليد أو الرجل.
(2) وقصت: أسرعت.
(*)
وقد
روى أبو داود من حديث محمد بن إسحاق حدثني نافع، عن عبدالله بن عمر، أن عمر قال:
أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن يخرجهم إذا
شاء، فمن كان له مال فليلحق به، فإني مخرج يهود.
فأخرجهم.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن
المسيب، أن جبير بن مطعم أخبره قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة
واحدة منك.
فقال: " إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد ".
قال جبير بن مطعم،: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني عبد شمس وبني نوفل
شيئا.
تفرد به دون مسلم.
وفي لفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن بني هاشم وبني عبدالمطلب
شئ واحد، إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام ".
قال الشافعي: دخلوا معهم في الشعب وناصروهم في إسلامهم وجاهليتهم.
قلت: وقد ذم أبو طالب بني عبد شمس ونوفلا حيث يقول: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا *
عقوبة شر عاجلا غير آجل وقال البخاري: حدثنا الحسن بن إسحاق، حدثنا محمد بن ثابت،
حدثنا زائدة، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: قسم رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم خيبر للفرس سهمين وللراجل سهما.
قال: فسره نافع فقال: إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم، وإن لم يكن معه فرس
فله سهم.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد،
عن
أبيه، أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: أما والذي نفسي بيده لولا أن أترك آخر الناس
ببانا (1) ليس لهم شئ ما فتحت على قرية إلا قسمتها كما قسم النبي صلى الله عليه
وسلم خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها.
وقد رواه البخاري أيضا من حديث مالك، وأبو داود عن أحمد بن حنبل، عن ابن مهدي، عن
مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه عن عمر به.
وهذا السياق يقتضي أن خيبر بكمالها قسمت بين الغانمين.
وقد قال أبو داود: حدثنا ابن السرح، أنبأنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب
قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد القتال وترك من
ترك من أهلها بعد القتال.
وبهذا قال الزهري: خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ثم قسم سائرها على من
شهدها.
وفيما قاله الزهري نظر، فإن الصحيح أن خيبر جميعها لم تقسم، وإنما قسم نصفها بين
الناس كما سيأتي بيانه.
وقد احتج بهذا مالك ومن تابعه على أن الامام مخير في الاراضي المغنومة، إن شاء
قسمها وإن شاء أرصدها لمصالح المسلمين، وإن شاء قسم بعضها وأرصد بعضها لما ينوبه
في الحاجات والمصالح (2).
قال أبو داود: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا يحيى ابن
زكريا، حدثني سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة قال:
قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر نصفين، نصفا لنوائبه، ونصفا بين المسلمين:
قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما.
__________
(1) ببانا: أي على طريقة واحدة، وهي كلمة غير عربية.
(2) ت: " إن شاء قسمها، وإن شاء قسم بعضها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم في خيبر،
فإنه خمسها ثم قسم نصفها في الغانمين، وأرصد نصفها لما ينوبه في الحاجات والمصالح
".
(*)
تفرد
به أبو داود.
ثم رواه أبو داود من حديث بشير بن يسار مرسلا، فعين نصف النوائب الوطيح والكتيبة
والسلالم وما حيز معها، ونصف المسلمين الشق والنطاة وما حيز معهما، وسهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيما حيز معهما.
وقال أيضا: حدثنا حسين بن علي، حدثنا محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن
يسار مولى الانصار، عن رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر فقسمها على ستة وثلاثين سهما، جمع كل سهم
مائة سهم، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين النصف من ذلك، وعزل النصف
الثاني لمن نزل به من الوفود والامور ونوائب الناس.
تفرد به أبو داود.
قال أبو داود: حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا مجمع بن يعقوب بن مجمع بن يزيد الانصاري،
سمعت أبي يعقوب بن مجمع يقول عن عمه عبدالرحمن بن يزيد الانصاري، عن عمه مجمع بن
حارثة الانصاري - وكان أحد القراء الذين قرأوا القرآن - قال: قسمت خيبر على أهل
الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش
ألفا وخمسمائة فيهم ثلثمائة فارس، فأعطى الفارس، سهمين وأعطى الراجل سهما.
تفرد به أبو داود.
وقال مالك عن الزهري، أن سعيد بن المسيب أخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح
بعض خيبر عنوة.
ورواه أبو داود.
ثم قال أبو داود: قرئ على الحارث بن مسكين وأنا شاهد، أخبركم ابن وهب، حدثني مالك
بن أنس، عن ابن شهاب أن خيبر بعضها كان عنوة
وبعضها صلحا، والكتيبة أكثرها عنوة وفيها صلح، قلت لمالك: وما الكتيبة ؟
قال:
أرض خيبر، وهي أربعون ألف عذق.
قال أبو داود: والعذق: النخلة.
والعذق العرجون.
ولهذا قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا حرمى، حدثنا شعبة، حدثنا عمارة، عن
عكرمة، عن عائشة قالت: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر.
حدثنا الحسن، حدثنا قرة بن حبيب، حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله بن دينار، عن أبيه،
عن ابن عمر قال: ما شبعنا - يعني من التمر - حتى فتحنا خيبر.
وقال محمد بن إسحاق: كانت الشق والنطاة في سهمان المسلمين، الشق: ثلاثة عشر سهما
ونطاة خمسة أسهم، قسم الجميع على ألف وثمانمائة سهم، ودفع ذلك إلى من شهد الحديبية
من حضر خيبر ومن غاب عنها، ولم يغب عن خيبر ممن شهد الحديبية إلا جابر ابن عبدالله
فضرب له بسهمه.
قال: وكان أهل الحديبية ألفا وأربعمائة، وكان معهم مائتا فرس لكل فرس سهمان، فصرف
إلى كل مائة رجل سهم من ثمانية عشر سهما، وزيد المائتا فارس أربعمائة سهم لخيولهم.
وهكذا رواه البيهقي من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن صالح بن كيسان
أنهم كانوا ألفا وأربعمائة معهم مائتا فرس.
قلت: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم بسهم وكان أول سهم من سهمان الشق مع
عاصم بن عدي.
قال ابن إسحاق: وكانت الكتيبة خمسا لله تعالى (1)، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم،
وسهم ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وطعمة أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم، وطعمة أقوام مشوا في صلح أهل فدك، منهم محيصة بن مسعود أقطعه رسول الله
__________
(1) ابن هشام: خمس الله.
(*)
صلى
الله عليه وسلم ثلاثين وسقا من تمر وثلاثين وسقا من شعير.
قال: وكان وادياها اللذان قسمت عليه يقال لهما وادي السرير ووادي خاص.
ثم ذكر ابن إسحاق تفاصيل الاقطاعات منها، فأجاد وأفاد رحمه الله.
قال: وكان الذي ولى قسمتها وحسابها جبار بن صخر بن أمية بن خنساء أخو بنى سلمة
وزيد بن ثابت رضى الله عنهما.
قلت: وكان الامير على خرص نخيل خيبر عبدالله بن رواحة فخرصها سنتين، ثم لما قتل
رضى الله عنه في يوم مؤتة ولى بعده جبار بن صخر رضى الله عنه.
وقد قال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن عبدالمجيد بن سهيل، عن سعيد بن
المسيب عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل
رجلا على خيبر بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكل تمر خيبر
هكذا ؟ " قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين،
والصاعين بالثلاثة، فقال: " لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم
جنيبا ".
قال البخاري: وقال الدراوردي، عن عبدالمجيد، عن سعيد بن المسيب، أن أبا سعيد وأبا
هريرة حدثاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بنى عدى من الانصار إلى خيبر
وأمره عليها.
وعن عبدالمجيد عن أبي صالح السمان، عن أبي سعيد وأبي هريرة مثله.
* * * قلت: كان سهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي أصاب مع المسلمين مما قسم بخيبر
وفدك بكمالها، وهي طائفة كبيرة من أرض خيبر، نزلوا من شدة رعبهم منه صلوات الله
وسلامه عليه فصالحوه، وأموال بني النضير المتقدم ذكرها مما لم يوجف المسلمون عليه
بخيل ولا ركاب.
فكانت
هذه الاموال لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وكان يعزل منها نفقة أهله لسنة،
ثم يجعل ما بقى مجعل مال الله يصرفه في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين.
فلما مات صلوات الله وسلامه عليه اعتقدت فاطمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم -
أو أكثرهن - أن هذه الاراضي تكون موروثة عنه، ولم يبلغهن ما ثبت عنه من قوله صلى
الله عليه وسلم: " نحن معشر الانبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة ".
ولما طلبت فاطمة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم والعباس نصيبهم من ذلك وسألوا
الصديق أن يسلمه إليهم، ذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نورث
ما تركنا صدقة " وقال: أنا أعول من كان يعول رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي أن أصل من قرابتي.
وصدق رضى الله عنه وأرضاه، فإنه البار الراشد في ذلك التابع للحق.
وطلب العباس وعلي على لسان فاطمة، إذ قد فاتهم الميراث، أن ينظرا في هذه الصدقة
وأن يصرفا ذلك في المصارف التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصرفها فيها، فأبى
عليهم الصديق ذلك، ورأى أن حقا عليه أن يقوم فيما كان يقوم فيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم وألا يخرج من مسلكه ولا عن سننه.
فتغضبت فاطمة رضى الله عنها عليه في ذلك ووجدت في نفسها بعض الموجدة.
ولم يكن لها ذلك، والصديق من قد عرفت هي والمسلمون محله ومنزلته من رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقيامه في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته،
فجزاه الله عن نبيه وعن الاسلام وأهله خيرا.
وتوفيت فاطمة رضى الله عنها بعد ستة أشهر ثم جدد علي البيعة بعد ذلك، فلما كان
أيام عمر بن الخطاب سألوه أن يفوض أمر هذه الصدقة إلى علي والعباس، وثقلوا
(25 - السيرة 3)
عليه
بجماعة من سادات الصحابة، ففعل عمر رضى الله عنه ذلك، وذلك لكثرة أشغاله واتساع
مملكته وامتداد رعيته.
فتغلب علي على عمه العباس فيها، ثم تساوقا يختصمان إلى عمر، وقدما بين أيديهما
جماعة من الصحابة وسألا منه أن يقسمها بينهما فينظر كل منهما فيما لا ينظر فيه
الآخر.
فامتنع عمر من ذلك أشد الامتناع وخشى أن تكون هذه القسمة تشبه قسمة المواريث وقال:
انظرا فيها وأنتما جميع، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي، والذي تقوم السماء والارض
بأمره لا أقضى فيها قضاء غير هذا.
فاستمرا فيها ومن بعدهما إلى ولدهما إلى أيام بني العباس، تصرف في المصارف التي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفها فيها، أموال بني النضير وفدك وسهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم من خيبر.
فصل وأما من شهد خيبر من العبيد والنساء فرضخ (1) لهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم شيئا من الغنيمة ولم يسهم لهم.
قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا بشر بن المفضل، عن محمد بن زيد، حدثني
عمير مولى آبى اللحم قال: شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا في رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأمر بي فقلدت سيفا، فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشئ من طريق
المتاع.
ورواه الترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن بشر بن المفضل به.
وقال الترمذي:
__________
(1) الرضخ: عطاء من الغنيمة غير محدد.
(*)
حسن
صحيح.
ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد عن وكيع عن هشام بن سعد عن محمد بن زيد بن المهاجر،
عن منقذ عن عمير به.
وقال محمد بن إسحاق: وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء فرضخ لهن [
من الفئ (1) ] ولم يضرب لهن بسهم.
حدثني سليمان بن سحيم، عن أمية بنت أبي الصلت، عن امرأة من بني غار قد سماها لي،
قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار، فقلنا: يا رسول
الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا - وهو يسير إلى خيبر - فنداوي الجرحى
ونعين المسلمين بما استطعنا فقال: " على بركة الله ".
قالت: فخرجنا معه، قالت: وكنت جارية حدثة السن، فأردفني رسول الله صلى الله عليه
وسلم على حقيبة رحله، قالت: [ فوالله لنزل رسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبح
ونزلت عن حقيبة رحله (1) ] قالت: وإذا بها دم مني وكانت أول حيضة حضتها، قالت:
فتقبضت إلى الناقة واستحييت.
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال: " مالك ؟ لعلك
نفست " قالت: قلت: نعم، قال: " فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء
فاطرحي فيه ملحا ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك ".
قالت: فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفئ، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي
فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدا.
وكانت في عنقها حتى ماتت، ثم أوصت أن تدفن معها.
قالت: وكانت لا تطهر من حيضها إلا جعلت في طهورها ملحا، وأوصت به أن يجعل في غسلها
حين ماتت.
وهكذا رواه الامام أحمد وأبو داود من حديث محمد بن إسحاق به.
__________
(1) من ابن هشام.
(*)
قال
شيخنا أبو الحجاج المزي في أطرافه: ورواه الواقدي، عن أبي بكر بن أبي سبرة، عن
سليمان بن سحيم، عن أم علي بنت أبي الحكم، عن أمية بنت أبي الصلت عن النبي صلى
الله عليه وسلم به.
وقال الامام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا رافع بن سلمة الاشجعي، حدثني حشرج بن
زياد، عن جدته أم أبيه، قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة خيبر
وأنا سادسة ست نسوة، قالت: فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن معه نساء، قالت:
فأرسل إلينا فدعانا، قالت: فرأينا في وجهه الغضب فقال: " ما أخرجكن وبأمر من
خرجتن ؟ " قلنا: خرجنا نناول السهام ونسقي السويق، ومعنا دواء للجرحى ونغزل
الشعر فنعين به في سبيل الله.
قال: فمرن فانصرفن.
قالت: فلما فتح الله عليه خيبر أخرج لنا سهاما كسهام الرجال، فقلت لها: يا جدة وما
الذي أخرج لكن ؟ قالت: تمرا.
قلت: إنما أعطاهن من الحاصل، فأما أنه أسهم لهن في الارض كسهام الرجال فلا ! والله
أعلم.
وقال الحافظ البيهقي: وفي كتابي عن أبي عبدالله الحافظ، أن عبدالله الاصبهاني
أخبره، حدثنا الحسين بن الجهم، حدثنا الحسين بن الفرج، حدثنا الواقدي، حدثني عبد
السلام بن موسى بن جبير، عن أبيه عن جده، عن عبدالله بن أنيس قال: خرجت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ومعي زوجتي وهي حبلى فنفست في الطريق، فأخبرت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: " انقع لها تمرا فإذا انغمر فأمر به
لتشربه " ففعلت فما رأت شيئا تكرهه، فلما فتحنا خيبر أجدى (1) النساء ولم
يسهم لهن، فأجدى زوجتي وولدي الذي ولد.
قال عبد السلام: لست أدري غلام أو جارية.
__________
(1) أجدى: أعطى.
(*)
ذكر
قدوم جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه ومن كان بقى بالحبشة ممن هاجر إليها من
المسلمين، ومن انضم إليهم من أهل اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مخيم
بخيبر.
قال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، حدثنا بريد بن عبدالله بن
أبي بردة، عن أبي بردة، عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم
ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة
والآخر أبورهم، إما قال: في بضع، وإما قال: في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا
من قومي.
فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب،
فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر،
فكان أناس من الناس يقولون لنا - يعني لاهل السفينة -: سبقناكم بالهجرة.
ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممن قدم معنا - على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم
زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها
فقال حين رأى أسماء: من هذه ؟ قالت: أسماء ابنة عميس.
قال عمر: الحبشية هذه ؟ البحرية هذه ؟ قالت أسماء: نعم.
قال سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم.
فغضبت وقالت: كلا والله كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ
جاهلكم، وكنا في دار - أو في أرض - البعداء والبغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وايم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر
ما قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، ووالله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه.
فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا نبي الله إن عمر قال كذا وكذا.
قالت: قال:
"
فما قلت له ؟ " قالت: قلت كذا وكذا.
قال: " ليس بأحق بي منكم، وله ولاصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة
هجرتان ".
قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأهل السفينة يأتوني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما
من الدنيا شئ هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه
وسلم.
قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني.
وقال أبو بردة عن أبي موسى: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إني لاعرف أصوات
رفقة الاشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن
بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم بن حزام إذا لقى
العدو - أو قال الخيل - قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم ".
وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب وعبد الله بن براد عن أبي أسامة به.
ثم قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا بريد [ ابن
عبدالله (1) ] عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم
بعد أن افتتح خيبر، فقسم لنا ولم يقسم لاحد لم يشهد الفتح غيرنا.
تفرد به البخاري دون مسلم ورواه أبو داود والترمذي وصححه من حديث بريد به.
وقد ذكر محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن أمية الضمري
إلى النجاشي يطلب منه من بقى من أصحابه بالحبشة، فقدموا صحبة جعفر وقد فتح النبي
صلى الله عليه وسلم خيبر.
قال: وقد ذكر سفيان بن عيينة عن الاجلح عن الشعبي، أن جعفر بن أبي طالب قدم على
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين عينيه والتزمه وقال: " ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر
".
__________
(1) من صحيح البخاري.
(*)
وهكذا
رواه سفيان الثوري عن الاجلح، عن الشعبي مرسلا.
وأسند البيهقي من طريق حسن بن حسين العرزمي، عن الاجلح، عن الشعبي عن جابر قال:
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر قدم جعفر من الحبشة، فتلقاه وقبل
جبهته وقال: " والله ما أدري بأيهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ".
ثم قال البيهقي، حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا الحسين بن أبي إسماعيل العلوي،
حدثنا أحمد بن محمد البيروتي، حدثنا محمد بن أحمد بن أبي طيبة، حدثني مكي بن
إبراهيم الرعيني، حدثنا سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما قدم جعفر
بن أبي طالب من أرض الحبشة تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر جعفر
إليه حجل - قال مكي: يعني مشى على رجل واحدة - إعظاما لرسول الله صلى الله عليه
وسلم، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه.
ثم قال البيهقي: في إسناده من لا يعرف إلى الثوري.
* * * قال ابن إسحاق: وكان الذين تأخروا مع جعفر من أهل مكة إلى أن قدموا معه خيبر
ستة عشر رجلا.
وسرد أسماءهم وأسماء نسائهم وهم: جعفر بن أبي طالب الهاشمي، وأمرأته أسماء بنت
عميس، وابنه عبدالله ولد بالحبشة، وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس،
وأمرأته أمينة بنت خلف بن أسعد، وولداه سعيد، وأمة بنت خالد ولدا بأرض الحبشة،
وأخوه عمرو بن سعيد بن العاص، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وكان إلى آل سعيد بن العاص.
قال: وأبو موسى الاشعري عبدالله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة، وأسود ابن نوفل بن
خويلد بن أسد الاسدي، وجهم بن قيس بن عبد شرحبيل العبدري، وقد ماتت امرأته أم
حرملة بنت عبد الاسود بأرض الحبشة، وابنه عمرو، وابنته خزيمة
ماتا بها رحمهم الله، وعامر بن أبي وقاص الزهري، وعتبة بن مسعود حليف لهم من
هذيل،
والحارث بن خالد بن صخر التيمي، وقد هلكت بها امرأته ريطة بنت الحارث رحمها الله،
وعثمان بن ربيعة بن أهبان الجمحي، ومحمية بن جزء الزبيدي حليف بني سهم، ومعمر بن
عبدالله بن نضلة العدوي، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس، ومالك ابن ربيعة بن قيس بن
عبد شمس العامريان، ومع مالك هذا امرأته عمرة بنت السعدي، والحارث بن عبد شمس بن
لقيط الفهري.
قلت: ولم يذكر ابن إسحاق أسماء الاشعريين الذين كانوا مع أبي موسى الاشعري وأخويه
أبا بردة وأبا رهم وعمه أبا عامر، بل لم يذكر من الاشعريين غير أبي موسى ولم يتعرض
لذكر أخويه وهما أسن منه كما تقدم في صحيح البخاري.
وكأن ابن إسحاق رحمه الله لم يطلع على حديث أبي موسى في ذلك.
والله أعلم.
قال: وقد كان معهم في السفينتين نساء من نساء من هلك من المسلمين هنالك وقد حرر
هاهنا شيئا كثيرا حسنا.
* * * قال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، سمعت الزهري، وسأله
إسماعيل بن أمية قال: أخبرني عنبسة بن سعيد، أن أبا هريرة أتى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وسأله - يعني أن يقسم له - فقال بعض بني سعيد بن العاص: لا تعطه.
فقال أبو هريرة: هذا قاتل ابن قوقل.
فقال: واعجبا لوبر تدلى من قدوم الضأن (1).
تفرد به دون مسلم.
قال البخاري: ويذكر عن الزبيدي عن الزهري، أخبرني عنبسة بن سعيد، أنه
__________
(1) الوبر: فراء دويبة تشبه السنور، وتسمى غنم بني إسرائيل.
وتدلى: أنحدر.
وقدوم الضأن: جبل بأرض دوس قوم أبي هريرة.
أراد بذلك تحقيره.
ورواية صحيح البخاري: قدوم الضأل باللام.
وما هنا رواية الاصل وأبى ذر.
(*)
سمع
أبا هريرة يخبر سعيد بن العاص قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبانا على
سرية من المدينة قبل نجد.
قال أبو هريرة: فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما
افتتحها، وإن حزم خيلهم لليف.
قال أبو هريرة: فقلت: يا رسول الله لا تقسم لهم.
فقال أبان: وأنت بهذا ياوبر تحدر من رأس ضأل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبان اجلس " ولم يقسم لهم.
وقد أسند أبو داود هذا الحديث، عن سعيد بن منصور، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن
الوليد الزبيدي به نحوه.
ثم قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد، أخبرني جدي
وهو سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص، أن أبان بن سعيد أقبل إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فسلم عليه، فقال أبو هريرة: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل.
فقال أبان لابي هريرة: واعجبا لك ياوبر (1) تردى من قدوم ضأن، تنعى علي امرءا
أكرمه الله بيدي، ومنعه أن يهينني بيده ؟.
هكذا رواه منفردا به هاهنا (2).
وقال في الجهاد بعد حديث الحميدي، عن سفيان، عن الزهري عن عنبسة بن سعيد، عن أبي
هريرة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بعد ما افتتحها، فقلت: يا
رسول الله أسهم لي.
فقال بعض آل سعيد ابن العاص: لا تقسم له.
فقلت: يا رسول الله هذا قاتل ابن قوقل.
الحديث.
قال سفيان: حدثنيه السعيدي - يعني عمرو بن يحيى بن سعيد - عن جده عن أبي هريرة بهذا.
ففي هذا الحديث التصريح من أبي هريرة بأنه لم يشهد خيبر وتقدم في أول هذه
__________
(1) صحيح البخاري: واعجبا لك وبر تدأدأ.
(2) من هنا إلى أول خبر الحجاج علاط ساقطة من (أ).
(*)
الغزوة.
رواه الامام أحمد من طريق عراك بن مالك، عن أبي هريرة وأنه قدم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعد ما افتتح خيبر فكلم المسلمين فأشركونا في أسهامهم.
وقال الامام أحمد: حدثنا روح، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، عن عمار بن أبي
عمار، قال: ما شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مغنما قط إلا قسم لي، إلا
خيبر فإنها كانت لاهل الحديبية خاصة.
قلت: وكان أبو هريرة وأبو موسى جاءا بين الحديبية وخيبر.
وقد قال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا أبو إسحاق،
عن مالك بن أنس، حدثني ثور، حدثني سالم مولى [ عبدالله ] بن مطيع، أنه سمع أبا
هريرة يقول: افتتحنا خيبر فلم نغنم ذهبا ولا فضة، إنما غنمنا الابل والبقر والمتاع
والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى ومعه عبد له
يقال له مدعم أهداه له بعض بني الضبيب، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذ جاءه سهم عاثر حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس: هنيئا له الشهادة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي
أصابها يوم خيبر لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ".
فجاء رجل حين سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين فقال: هذا
شئ كنت أصبته.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شراك أو شراكين من نار ".
ذكر قصة الشاة المسمومة وما كان من أمر البرهان الذي ظهر عندها والحجة البالغة
فيها
قال البخاري: رواه عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
حدثنا
عبدالله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثني سعيد، عن أبي هريرة قال: لما فتحت خيبر أهديت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم.
هكذا أورده هاهنا مختصرا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنا ليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة
قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " اجمعوا لي من كان هاهنا من يهود " فجمعوا له،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إني سائلكم عن شئ فهل أنتم صادقي عنه ؟
" قالوا: نعم يا أبا القاسم.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أبوكم ؟ " قالوا: أبونا
فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كذبتم بل أبوكم فلان "
قالوا: صدقت وبررت.
فقال: " هل أنتم صادقي عن شئ إذا سألتكم عنه ؟ " قالوا: نعم يا أبا
القاسم، وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أهل النار ؟ " فقالوا: نكون
فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله لا نخلفكم فيها أبدا ".
ثم قال لهم: " هل أنتم صادقي عن شئ إذا سألتكم ؟ " فقالوا: نعم يا أبا
القاسم.
فقال: " هل جعلتم في هذه الشاة سما ؟ " فقالوا: نعم.
قال: " ما حملكم على ذلك ؟ ".
قالوا أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.
وقد رواه البخاري في الجزية عن عبدالله بن يوسف، وفي المغازي أيضا عن قتيبة،
كلاهما عن الليث به.
وقال البيهقي: أنبأنا أبو عبدالله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الاصم، حدثنا سعيد بن
سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب
وأبي سلمة بن عبدالرحمن، عن أبي هريرة، أن امرأة من يهود أهدت لرسول
الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فقال لاصحابه: " أمسكوا فإنها مسمومة
" وقال لها:
"
ما حملك على ما صنعت ؟ " قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه،
وإن كنت كاذبا أريح الناس منك.
قال: فما عرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه أبو داود عن هارون بن عبدالله، عن سعيد بن سليمان به.
ثم روى البيهقي عن طريق عبدالملك بن أبي نضرة، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله نحو
ذلك.
وقال الامام أحمد: حدثنا شريح، حدثنا عباد، عن هلال - هو ابن خباب - عن عكرمة، عن
ابن عباس أن امرأة من اليهود أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة،
فأرسل إليها فقال: " ما حملك على ما صنعت ؟ " قالت: أحببت - أو أردت -
إن كنت نبيا فإن الله سيطلعك عليه، وإن لم تكن نبيا أريح الناس منك.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد من ذلك شيئا احتجم، قال: فسافر
مرة فلما أحرم وجد من ذلك شيئا فاحتجم.
تفرد به أحمد وإسناده حسن.
وفي الصحيحين من حديث شعبة عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك، أن امرأة يهودية أتت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجئ بها إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فسألها عن ذلك، قالت: أردت لاقتلك.
فقال: " ما كان الله ليسلطك علي " أو قال: " على ذلك ".
قالوا: ألا تقتلها ؟ قال: " لا ".
قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن
شهاب، قال: كان جابر بن عبدالله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة
مصلية
(1) ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " ارفعوا أيديكم ".
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فقال لها " أسممت هذه
الشاة ؟ " قالت اليهودية: من أخبرك ؟ قال: " أخبرتني هذه التي في يدي
" وهي الذراع، قالت: [ نعم ].
قال: " فما أردت بذلك ؟ " قالت: قلت: إن كنت نبيا فلن تضرك، وإن لم تكن
نبيا استرحنا منك.
فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفى بعض أصحابه الذين
أكلوا من الشاة، واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من
الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولى لبني بياضة من الانصار.
* * * ثم قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، عن أبي
سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له يهودية بخيبر شاة مصلية نحو حديث
جابر.
قال: فمات بشر بن البراء بن معرور، فأرسل إلى اليهودية فقال: " ما حملك على الذي
صنعت ؟ " فذكر نحو حديث جابر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ولم
يذكر أمر الحجامة.
قال البيهقي: ورويناه من حديث حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي
هريرة.
قال: ويحتمل أنه لم يقتلها في الابتداء، ثم لما مات بشر بن البراء أمر بقتلها.
وروى البيهقي من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عبدالرحمن
__________
(1) مصلية: مشوية.
(*)
ابن
كعب بن مالك، أن امرأة يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية
بخيبر، فقال: " ما هذه ؟ " قالت: هدية.
وحذرت أن تقول صدقة فلا يأكل.
قال: فأكل وأصحابه ثم قال: " أمسكوا " ثم قال للمرأة: " هل سممت ؟
" قالت: من أخبرك هذا ؟ قال: " هذا العظم " لساقها وهو في يده،
قالت: نعم.
قال: " لم " قالت: أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم
يضرك.
قال: فاحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكاهل وأمر أصحابه فاحتجموا.
ومات بعضهم.
قال الزهري: فأسلمت فتركها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: هذا مرسل، ولعله قد يكون عبد الرحمن حمله عن جابر بن عبدالله رضى
الله عنه.
وذكر ابن لهيعة عن أبي الاسود، عن عروة، وكذلك موسى بن عقبة عن الزهري قالوا: لما
فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وقتل منهم من قتل، أهدت زينب بنت الحارث
اليهودية وهي ابنة أخي مرحب لصفية شاة مصلية وسمتها، وأكثرت في الكتف والذراع،
لانه بلغها أنه أحب أعضاء الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفية ومعه بشر بن البراء بن معرور، وهو أحد
بني سلمة، فقدمت إليهم الشاة المصلية، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتف
وانتهش منها، وتناول بشر عظما فانتهش منه، فلما استرط (1) رسول الله صلى الله عليه
وسلم لقمته استرط بشر بن البراء ما في فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرني أني نعيت فيها " فقال بشر بن
البراء:
__________
(1) استرط: ابتلع.
(*)
والذي
أكرمك لقد وجدت ذلك في أكلتي التي أكلت، فما منعني أن ألفظها إلا أني أعظمتك أن
أبغضك طعامك، فلما أسغت ما في فيك لم أرغب بنفسي عن نفسك ورجوت أن لا تكون
استرطتها وفيها نعى.
فلم يقم بشر من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان وماطله وجعه حتى كان لا يتحول حتى
يحول.
قال الزهري: قال جابر: واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، حجمه مولى بني
بياضة بالقرن والشفرة، وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده ثلاث سنين حتى كان
وجعه الذي توفي فيه فقال: " ما زلت أجد من الاكلة التي أكلت من الشاة يوم
خيبر عدادا (1) حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري ".
فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدا.
* * * وقال محمد بن إسحاق: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له زينب
بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم شاة مصلية، وقد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقيل لها الذراع.
فأكثرت فيها من السم، ثم سمت سائر الشاة ثم جاءت بها، فلما وضعتها بين يديه تناول
الذراع فلاك منها مضغة فلم يسغها، ومعه بشر بن البراء بن معرور، قد أخذ منها كما
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما بشر فأساغها، وأما رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلفظها ثم قال: " إن هذا العظ يخبرني أنه مسموم " ثم دعا بها
فاعترفت، فقال: " ما حملك على ذلك " قالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك،
فقلت: إن كان كذابا استرحت منه، وإن كان نبيا فسيخبر.
قال: فتجاوز عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات بشر من أكلته التي أكل.
__________
(1) عدادا: معاودة للالم.
(*)
قال
ابن إسحاق: وحدثني مروان بن عثمان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قد قال في مرضه الذي توفى فيه - ودخلت عليه أخت بشر بن البراء بن
معرور -: " يا أم بشر إن هذا الاوان وجدت [ فيه ] انقطاع أبهري من الاكلة
التي أكلت مع أخيك بخيبر ".
قال ابن هشام: الابهر: العرق المعلق بالقلب.
قال: فإن كان المسلمون ليرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات شهيدا مع ما
أكرمه الله به من النبوة.
* * * وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا هلال بن بشر وسليمان بن يوسف الحراني،
قالا: حدثنا أبو غياث سهل بن حماد، حدثنا عبدالملك بن أبي نضرة عن أبيه، عن أبي
سعيد الخدري، أن يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاة سميطا، فلما
بسط القوم أيديهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمسكوا فإن عضوا من
أعضائها يخبرني أنها مسمومة " فأرسل إلى صاحبتها: " أسممت طعامك ؟
" قالت: نعم.
قال: " ما حملك على ذلك ؟ " قالت: إن كنت كذابا أن أريح الناس منك، وإن
كنت صادقا علمت أن الله سيطلعك عليه.
فبسط يده وقال: " كلوا بسم الله ".
قال: فأكلنا وذكرنا اسم الله فلم يضر أحدا منا.
ثم قال: لا يروى عن عبدالملك بن أبي نضرة إلا من هذا الوجه.
قلت: وفيه نكارة وغرابة شديدة.
والله أعلم.
وذكر الواقدي أن عيينة بن حصن قبل أن يعلم رأى في منامه رؤيا ورسول الله صلى الله
عليه وسلم محاصر خيبر، فطمع من رؤياه أن يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيظفر
به، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وجده قد افتتحها، فقال: يا
محمد أعطني ما غنمت من حلفائي - يعني أهل خيبر - فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " كذبت رؤياك " وأخبره بما رأى.
فرجع عيينة فلقيه الحارث بن عوف فقال: ألم أقل إنك توضع في غير شئ، والله ليظهرن
محمد على ما بين المشرق والمغرب، وإن يهود كانوا يخبروننا بهذا، أشهد لسمعت أبا
رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا لنحسد محمدا على النبوة حيث خرجت من بني هارون،
إنه لمرسل، ويهود لا تطاوعني على هذا.
ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر.
قال الحارث: قلت لسلام: يملك الارض ؟ قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى وما
أحب أن تعلم يهود بقولي فيه.
فصل قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر انصرف إلى وادي
القرى فحاصر أهلها ليالي ثم انصرف راجعا إلى المدينة.
ثم ذكر من قصة مدعم وكيف جاءه سهم غارب فقتله، وقال الناس: هنيئا له الشهادة فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها
يوم خيبر لم يصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا ".
وقد تقدم في صحيح البخاري نحو ما ذكره ابن إسحاق والله أعلم.
وسيأتي ذكر قتاله عليه السلام بوادي القرى.
قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي عمرة، عن
زيد بن خالد الجهني، أن رجلا من أشجع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى
يوم خيبر، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " صلوا على صاحبكم "
(26 - السيرة 3)
فتغير
وجوه الناس من ذلك، فقال: " إن صاحبكم غل في سبيل الله " ففتشنا متاعه
فوجدنا خرزا من خرز يهود ما يساوي درهمين.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى بن سعيد القطان.
ورواه أبو داود وبشر بن المفضل وابن ماجه من حديث الليث بن سعد ثلاثتهم عن يحيى بن
سعيد الانصاري به.
وقد ذكر البيهقي أن بني فزارة أرادوا أن يقاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
مرجعه من خيبر وتجمعوا لذلك فبعث إليهم يواعدهم موضعا معينا فلما تحققوا ذلك هربوا
كل مهرب، وذهبوا من طريقه كل مذهب.
وتقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلت صفية من استبرائها دخل بها بمكان
يقال له سد الصهباء في أثناء طريقه إلى المدينة، وأولم عليها بحيس، وأقام ثلاثة
أيام يبنى عليه بها، وأسلمت فأعتقها وتزوجها وجعل عتاقها صداقها، وكانت إحدى أمهات
المؤمنين كما فهمه الصحابة لما مد عليها الحجاب وهو مردفها وراءه رضى الله عنها.
وذكر محمد بن إسحاق في السيرة قال: لما أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية
بخيبر - أو ببعض الطريق - وكانت التي جملتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومشطتها وأصلحت من أمرها أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك، وبات بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم في قبة له وبات أبو أيوب متوشحا بسيفه يحرس رسول الله صلى الله
عليه وسلم ويطيف بالقبة حتى أصبح، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانه
قال: " مالك يا أبا أيوب ؟ " قال: خفت عليك من هذه المرأة، وكانت امرأة
قد قتلت أباها وزوجها وقومها، وكانت حديثة عهد بكفر فخفتها عليك.
فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم احفظ أبا أيوب كما بات
يحفظني ".
ثم
قال: حدثني الزهري عن سعيد بن المسيب، فذكر نومهم عن صلاة الصبح مرجعهم من خيبر،
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أولهم استيقاظا فقال: " ماذا صنعت بنا
يا بلال ؟ " قال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك.
قال: " صدقت " ثم اقتاد ناقته غير كثير ثم نزل فتوضأ وصلى كما كان
يصليها قبل ذلك.
وهكذا رواه مالك عن الزهري عن سعيد مرسلا.
وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقد قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب،
عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من
غزوة خيبر، فسار ليلة حتى إذا أدركنا الكرى عرس وقال لبلال: " اكلا لنا الليل
" قال: فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ النبي صلى الله
عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم أولهم استيقاظا، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " يا
بلال " قال: أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
قال: فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بلالا
فأقام الصلاة وصلى لهم الصبح، فلما أن قضى الصلاة قال: " من نسى صلاة فليصلها
إذا ذكرها، فإن الله تعالى يقول: " وأقم الصلاة لذكري ".
قال يونس: وكان ابن شهاب يقرأها كذلك.
وهكذا رواه مسلم عن حرملة بن يحيى، عن عبدالله بن وهب به، وفيه أن ذلك كان مرجعهم
من خيبر.
وفي حديث شعبة عن جامع بن شداد، عن عبدالرحمن بن أبي علقمة، عن ابن مسعود أن ذلك
كان مرجعهم من الحديبية، ففي رواية عنه أن بلالا هو الذي كان يكلؤهم، وفي رواية
عنه أنه هو الذي كان يكلؤهم.
قال
الحافظ البيهقي: فيحتمل أن ذلك كان مرتين.
قال: وفي حديث عمران بن حصين وأبي قتادة نومهم عن الصلاة، وفيه حديث الميضأة،
فيحتمل أن ذلك إحدى هاتين المرتين أو مرة ثالثة.
قال: وذكر الواقدي في حديث أبي قتادة أن ذلك كان مرجعهم من غزوة تبوك.
قال: وروى زافر بن سليمان، عن شعبة، عن جامع بن شداد، عن عبدالرحمن، عن ابن مسعود
أن ذلك كان مرجعهم من تبوك.
فالله أعلم.
ثم أورد البيهقي ما رواه صاحب الصحيح من قصة عوف الاعرابي، عن أبي رجاء عن عمران
بن حصين، في قصة نومهم عن الصلاة وقصة المرأة صاحبة السطيحتين وكيف أخذوا منهما
ماء روى الجيش بكماله ولم ينقص ذلك منهما شيئا.
ثم ذكر ما رواه مسلم من حديث ثابت البناني، عن عبدالله بن رباح، عن أبي قتادة، وهو
حديث طويل وفيه نومهم عن الصلاة وتكثير الماء من تلك الميضأة.
وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة.
وقال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، عن عاصم عن أبي عثمان، عن
أبي موسى الاشعري قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبرا، وقال: لما
توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر أشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم
بالتكبير: الله أكبر لا إله إلا الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم
ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم ".
وأنا خلف دابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعني وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا
بالله.
فقال: يا عبدالله بن قيس.
قلت: لبيك يا رسول الله.
قال: " ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة ؟ " قلت: بلى يا رسول الله فداك
أبي وأمي.
قال: " لا حول ولا قوة إلا بالله ".
وقد
رواه بقية الجماعة من طرق، عن عبدالرحمن بن مل أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى
الاشعري.
والصواب أنه كان مرجعهم من خيبر، فإن أبا موسى إنما قدم بعد فتح خيبر.
كما تقدم.
* * * قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - قد أعطى
ابن لقيم العبسي حين افتتح خيبر ما بها من دجاجة أو داجن، وكان فتح خيبر في صفر،
فقال ابن لقيم في فتح خيبر: رميت نطاة من الرسول بفيلق * شهباء ذات مناكب وفقار
(1) واستيقنت بالذل لما شيعت * ورجال أسلم وسطها وغفار صبحت بني عمرو بن زرعة غدوة
* والشق أظلم أهله بنهار جرت بأبطحها الذيول فلم تدع * إلا الدجاج تصيح بالاسحار
ولكل حصن شاغل من خيلهم * من عبد الاشهل أو بني النجار ومهاجرين قد أعلموا سيماهم
* فوق المغافر لم ينوا لفرار ولقد علمت ليغلبن محمد * وليثوين بها إلى أصفار (2)
فرت يهود عند ذلك في الوغى * تحت العجاج غمائم الابصار (3)
__________
(1) نطاة: حصن بخيبر.
والفيلق الكتيبة.
والشهباء: الكثيرة السلاح وذات مناكب وفقار: شديدة.
(2) أصفار: جمع صفر وهو الشهر المعروف.
(3) الغمائم: جفون العين.
قال السهيلي: وهو بيت مشكل، غير أن في بعض النسخ وهي قليلة عن ابن هشام أنه قال:
فرت: فتحت، من قولك: فرت الدابة، إذا فتحت فاها، وغمائم الابصار: هي
مفعول فرت، وهي جفون أعينهم.
انظر الروض الانف.
(*)
فصل
في ذكر من استشهد بخيبر من الصحابة رضى الله عنهم على ما ذكره ابن إسحاق بن يسار
رحمه الله وغيره من أصحاب المغازي فمن خير المهاجرين ربيعة بن أكثم بن سخبرة
الاسدي مولى بني أمية، وثقيف بن عمرو ورفاعة بن مسروح حلفاء بني أمية، وعبد الله
بن الهبيب بن أهيب بن سحيم بن غيرة من بني سعد بن ليث حليف بني أسد وابن أختهم.
ومن الانصار بشر بن البراء ابن معرور من أكلة الشاة المسمومة مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم كما تقدم، وفضيل ابن النعمان السلميان، ومسعود بن سعد بن قيس بن
خالد بن عامر بن زريق الزرقي، ومحمود بن مسلمة الاشهلي، وأبو ضياح حارثة بن ثابت
بن النعمان العمري، والحارث بن حاطب، وعروة بن مرة بن سراقة، وأوس [ بن ] الفائد
(1) وأنيف بن حبيب، وثابت بن أثلة وطلحة، وعمارة بن عقبة رمى بسهم فقتله، وعامر بن
الاكوع ثم سلمة ابن عمرو بن الاكوع أصابه طرف سيفه في ركبته فقتله رحمه الله كما تقدم،
والاسود الراعي.
وقد أفرد ابن إسحاق هاهنا قصته وقد أسلفناها في أوائل الغزوة ولله الحمد والمنة.
قال ابن إسحاق: وممن استشهد بخيبر فيما ذكره ابن شهاب من بني زهرة مسعود ابن ربيعة
حليف لهم من القارة، ومن الانصار ثم من بني عمرو بن عوف أوس بن قتادة رضى الله عنهم
أجمعين.
__________
(1) الاصل: وأوس الفارض.
وما أثبته عن الاصابة.
(*)
خبر
الحجاج بن علاط البهزي رضى الله عنه
قال ابن إسحاق: ولما فتحت خيبر كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الححاج بن علاط
السلمي ثم البهزي فقال: يا رسول الله إن لي بمكة مالا عند صاحبتي أم شيبة بنت أبي
طلحة - وكانت عنده له منها معرض بن الحجاج - ومالا متفرقا في تجار أهل مكة، فأذن
لي يا رسول الله.
فأذن له، فقال: إنه لابد لي يا رسول الله من أن أقول.
قال: قل.
قال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالا من قريش يستمعون
الاخبار ويسألون عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغهم أنه قد سار إلى
خيبر وقد عرفوا أنها قرية الحجاز ريفا ومنعة ورجالا، وهم يتجسسون الاخبار من
الركبان (1).
فلما رأوني قالوا: الحجاج بن علاط - قال: ولم يكونوا علموا بإسلامي - عنده والله
الخبر، أخبرنا يا أبا محمد فإنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر وهي بلد يهود
وريف الحجاز.
قال: قلت: قد بلغني ذلك وعندي من الخبر ما يسركم.
فالتبطوا (2) بجنبي ناقتي يقولون: إيه يا حجاج ؟ قال: قلت: هزم هزيمة لم تسمعوا
بمثلها قط، وقد قتل أصحابه قتلا لم تسمعوا بمثله قط، وأسر محمد أسرا، وقالوا: لا
نقتله ؟ ؟ نبعث به إلى مكة [ فيقتلوه بين أظهرهم بمن كان أصاب من رجالهم.
قال: فقاموا وصاحوا بمكة ] (3) وقالوا: قد جاءكم الخبر، وهذا محمد إنما تنتظرون أن
يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم.
__________
(1) ابن هشام: يتحسسون الاخبار ويسألون الركبان.
(2) التبطوا: مشوا بجانبها ولازموها.
(3) من ابن هشام.
(*)
قال:
قلت: أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي، فإني أريد أن أقدم خيبر فأصيب من فل
محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى ما هنالك.
قال: فقاموا
فجمعوا لي ما كان لى كأحث جمع سمعت به، قال: وجئت صاحبتي فقلت: مالي، وكان [ لي ]
(1) عندها مال موضوع، فلعلي ألحق بخيبر فأصيب من فرص البيع قبل أن يسبقني التجار.
قال: فلما سمع العباس بن عبدالمطلب الخبر وما جاءه عني أقبل حتى وقف إلى جنبي وأنا
في خيمة من خيم التجار، فقال: يا حجاج ما هذا الذي جئت به ؟ قال: قلت: وهل عندك
حفظ لما وضعت عندك ؟ قال: نعم.
قال: قلت: فاستأخر حتى ألقاك على خلاء، فإني في جمع مالي كما ترى، فانصرف حتى
أفرغ.
قال: حتى إذا فرغت من جمع كل شئ كان لي بمكة وأجمعت الخروج لقيت العباس فقلت: احفظ
علي حديثي يا أبا الفضل، فإني أخشى الطلب ثلاثا ثم قل ما شئت.
قال: أفعل.
قلت: فإني والله تركت ابن أخيك عروسا على بنت ملكهم - يعني صفية بنت حيى - وقد
افتتح خيبر وانتثل ما فيها وصارت له ولاصحابه.
قال: ما تقول يا حجاج ؟ قال: قلت: إي والله فاكتم عني، ولقد أسلمت وما جئت إلا
لآخذ مالي فرقا عليه من أن أغلب عليه، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك فهو والله على ما
تحب، قال: حتى إذا كان اليوم الثالث لبس العباس حلة له وتخلق (2) وأخذ عصاه، ثم
خرج حتى أتى الكعبة فطاف بها، فلما رأوه قالوا: يا أبا الفضل هذا والله التجلد لحر
المصيبة ! قال: كلا والله الذي حلفتم به، لقد افتتح محمد خيبر ونزل عروسا على بنت
ملكهم وأحرز أموالهم وما فيها، وأصبحت له ولاصحابه.
قالوا: من جاءك بهذا الخبر ؟ قال: الذي جاءكم بما جاءكم به، ولقد دخل عليكم مسلما
وأخذ أمواله فانطلق ليلحق بمحمد وأصحابه
__________
(1) من ابن هشام.
(2) تخلق: تطيب بالخلوق.
(*)
فيكون
معه، فقالوا: يالعباد الله ! انفلت عدو الله، أما والله لو علمنا لكان لنا وله
شأن.
قال: ولم ينشبوا أن جاءهم الخبر بذلك.
* * * وهكدا ذكر ابن إسحاق هذه القصة منقطعة.
وقد أسند ذلك الامام أحمد بن حنبل فقال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، سمعت ثابتا
يحدث عن أنس قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر قال الحجاج ابن
علاط: يا رسول الله إن لي بمكة مالا وإن لي بها أهلا، وإني أريد أن آتيهم، أفأنا
في حل إن أنا نلت منك أو قلت شيئا ؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول
ما شاء، فأتى امرأته حين قدم فقال: اجمعي لي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من
غنائم محمد وأصحابه فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم.
قال: وفشا ذلك بمكة، فانقمع المسلمون وأظهر المشركون فرحا وسرورا.
قال: وبلغ الخبر العباس فعقر وجعل لا يستطيع أن يقوم.
قال معمر: فأخبرني عثمان الخزرجي عن مقسم قال: فأخذ ابنا يقال له قثم واستلقى
ووضعه على صدره وهو يقول.
حبي قثم * شبه ذي الانف الاشم بنى ذي النعم * برغم من زعم قال ثابت بن أنس: ثم
أرسل غلاما له إلى حجاج بن علاط فقال: ويلك ما جئت به وماذا تقول ؟ فما وعد الله
خير مما جئت به.
فقال: حجاج بن علاط: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له فليخل لي في بعض بيوته
لآتيه، فإن الخبر على ما يسره.
فجاء غلامه فلما بلغ الدار قال: أبشر يا أبا الفضل.
قال: فوثب العباس فرحا حتى قبل بين عينيه، فأخبره ما قال حجاج فأعتقه.
قال: ثم جاءه الحجاج فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد افتتح خيبر وغنم
أموالهم،
وجرت سهام الله في أموالهم، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية
بنت حيى واتخذها لنفسه، وخيرها أن يعتقها وتكون زوجه أو تلحق بأهلها، فأختارت أن
يعتقها وتكون زوجته.
قال: ولكني جئت لمال كان هاهنا أردت أن أجمعه فأذهب به، فاستأذنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأذن لي أن أقول ما شئت، فأخف على ثلاثا ثم اذكر ما بدا لك.
قال: فجمعت امرأته ما كان عندها من حلي أو متاع فجمعته ودفعته إليه ثم انشمر به،
فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك ؟ فأخبرته أنه ذهب
يوم كذا وكذا، وقالت: لا يحزنك الله يا أبا الفضل لقد شق علينا الذي بلغك، قال:
أجل لا يحزنني الله ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا، فتح الله خيبر على رسوله
وجرت فيها سهام الله، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية لنفسه، فإن كانت
لك حاجة في زوجك فالحقي به.
قالت: أظنك والله صادقا ؟ قال: فإني صادق والامر على ما أخبرتك، ثم ذهب حتى أتى
مجالس قريش وهم يقولون إذا مر بهم: لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل.
قال: لم يصبني إلا خير بحمد الله، أخبرني الحجاج بن علاط أن خيبر فتحها الله على
رسوله وجرت فيها سهام الله واصطفى صفية لنفسه، وقد سألني أن أخفي عنه ثلاثا، وإنما
جاء ليأخذ ماله وما كان له من شئ هاهنا ثم يذهب.
قال: فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، وخرج المسلمون من كان دخل
بيته مكتئبا حتى أتى العباس فأخبرهم الخبر، فسر المسلمون ورد ما كان من كآبة أو
غيظ أو حزن على المشركين.
وهذا الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى النسائي عن
إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق به نحوه.
ورواه الحافظ البيهقي من طريق محمود بن غيلان عن عبد الرزاق.
ورواه أيضا من طريق يعقوب بن سفيان، عن زيد بن المبارك، عن محمد بن ثور عن معمر به
نحوه.
وكذلك
ذكر موسى بن عقبة في مغازيه أن قريشا كان بينهم تراهن عظيم وتبايع، منهم من يقول:
يظهر محمد وأصحابه.
ومنهم من يقول: يظهر الحليفان ويهود خيبر.
وكان الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي قد أسلم وشهد مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فتح خيبر، وكان تحته أم شيبة أخت عبد الدار بن قصي، وكان الحجاج مكثرا من
المال، وكانت له معادن أرض بني سليم، فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على
خيبر استأذن الحجاج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى مكة يجمع أمواله،
فأذن له نحو ما تقدم.
والله أعلم.
[ قال السهيلي رحمه الله: روينا في سبب إسلام الحجاج هذا أمرا عجيبا مع الجن.
قال: وهو والد نصر بن حجاج الذي نفاه عمر بن الخطاب رضى الله عنه من المدينة بسبب
افتتان بعض جواري المدينة.
وفيه تقول الفريعة بنت همام أم الحجاج بن يوسف الثقفي: ألا سبيل إلى خمر فأشربها *
ولا سبيل إلى نصر بن حجاج قال: فلما ذهب إلى الشام فهوى امرأة أبي الاسود السلمي
وأضنى من حبها، وكان يقال له الضني.
ومات بذلك ] (1).
قال ابن إسحاق: ومما قيل من الشعر في غزوة خيبر قول حسان: بئس ما قاتلت خيابر عما
* جمعوا من مزارع ونخيل كرهوا الموت فاستبيح حماهم * وأقروا فعل الذميم الذليل أمن
الموت يهربون فإن المو * ت موت الهزال غير جميل وقال كعب بن مالك فيما ذكره ابن
هشام عن أبي زيد الانصاري: ونحن وردنا خيبرا وفروضه * بكل فتى عاري الاشاجع مذود
(2)
__________
(1) سقط من المطبوعة.
(2) الفروض: مواضع الشرب من الانهار.
والاشاجع: عروق ظاهر الكف.
والمذود:، الحامي المدافع.
(*)
جواد
لدى الغايات لا واهن القوى * جرئ على الاعداء في كل مشهد عظيم رماد القدر في كل
شتوة * ضروب بنصل المشرفي المهند يرى القتل مدحا إن أصاب شهادة * من الله يرجوها
وفوزا بأحمد يذود ويحمى عن ذمار محمد * ويدفع عنه باللسان وباليد وينصره من كل أمر
يريبه * يجود بنفس دون نفس محمد يصدق بالانباء بالغيب مخلصا * يريد بذاك العز
والفوز في غد فصل في مروره عليه السلام بوادي القرى ومحاصرته قوما من اليهود
ومصالحته يهود على ما ذكره الواقدي قال الواقدي: حدثني عبدالرحمن بن عبد العزيز،
عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد بن وهب الجذامي قد وهب لرسول الله صلى
الله عليه وسلم عبدا أسود يقال له مدعم، فكان يرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما نزلنا بوادي القرى انتهينا إلى يهود وقدم إليها ناس من العرب، فبينا مدعم يحط
رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد استقبلتنا يهود بالرمي حين نزلنا ولم نكن
على تعبية، وهم يصيحون في آطامهم، فيقبل سهم عائر فأصاب مدعما فقتله، فقال الناس:
هنيئا له الجنة.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها
يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارا " فلما سمع بذلك
الناس جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراك أو شراكين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " شراك من نار
أو
شراكان من نار " وهذا الحديث في الصحيحين من حديث مالك عن ثور بن يزيد
عن أبي الغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
قال الواقدي: فعبى رسول الله أصحابه للقتال وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة،
وراية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سهل بن حنيف، وراية إلى عباد ابن بشر، ثم
دعاهم إلى الاسلام وأخبرهم إن أسلموا أحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على
الله.
قال: فبرز رجل منهم، فبرز إليه الزبير بن العوام فقتله، ثم برز آخر فبرز إليه علي
فقتله، حتى قتل منهم أحد عشر رجلا، كلما قتل منهم رجلا دعى من بقى منهم إلى
الاسلام.
ولقد كانت الصلاة تحضر ذلك اليوم فيصلى بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الاسلام وإلى
الله عزوجل ورسوله، وقاتلهم حتى أمسى (1)، وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى
أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوة وغنمهم الله أموالهم وأصابوا أثاثا ومتاعا كثيرا.
وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، فقسم ما أصاب على
أصحابه، وترك الارض والنخيل في أيدي اليهود وعاملهم عليها، فلما بلغ يهود تيماء ما
وطئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفدك ووادي القرى صالحوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم.
فلما كان عمر أخرج يهود خيبر وفدك ولم يخرج أهل تيماء ووادى القرى لانهما داخلتان
في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز، ومن وراء ذلك من
الشام.
قال: ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة بعد أن فرغ من خيبر
ووادي القرى وغنمه الله عزوجل.
__________
(1) ا: أمسوا.
(*)
قال
الواقدي: حدثني يعقوب بن محمد، عن عبدالرحمن بن عبدالله بن أبي صعصعة، عن الحارث
بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف
وهو يقول: " لا تطرقوا النساء بعد صلاة العشاء " قالت: فذهب رجل من الحي
فطرق أهله فوجد ما يكره، فخلى سبيلها ولم يهجر، وضن بزوجته أن يفارقها وكان له
منها أولاد وكان يحبها، فعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى ما يكره.
فصل ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما افتتح خيبر عامل يهودها
عليها على شطر ما يخرج منها من تمر أو زرع.
وقد ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث على أن يعملوها من أموالهم، وفي بعضها: وقال لهم
النبي صلى الله عليه وسلم: " نقركم فيها ما شئنا ".
وفي السنن أنه كان يبعث عليهم عبد الله بن رواحة يخرصها عليهم عند استواء ثمارها
ثم يضمنهم إياه، فلما قتل عبد الله بن رواحة بمؤتة بعث جبار بن صخر كما تقدم.
وموضع تحرير ألفاظه وبيان طرقه كتاب المزارعة من كتاب الاحكام إن شاء الله وبه
الثقة.
وقال محمد بن إسحاق: سألت ابن شهاب كيف أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود
خيبر نخلهم ؟ فأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة بعد
القتال، وكانت خيبر مما أفاء الله عليه، خمسها وقسمها بين المسلمين ونزل من نزل من
أهلها على الجلاء بعد القتال، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "
إن شئتم
دفعت
إليكم هذه الاموال على أن تعملوها وتكون ثمارها بيننا وبينكم، فأقركم ما أقركم
الله ".
فقبلوا وكانوا على ذلك يعملونها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبدالله
ابن رواحة فيقسم ثمرها ويعدل عليهم في الخرص.
فلما توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أقرها أبو بكر بأيديهم على المعاملة التي
عاملهم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفى، ثم أقرهم عمر بن الخطاب صدرا
من إمارته، ثم بلغ عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في وجعه الذي قبضه
الله فيه: لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان " ففحص عمر عن ذلك حتى بلغه الثبت،
فأرسل إلى يهود فقال: إن الله أذن لي في إجلائكم.
وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجتمعن في جزيرة العرب
دينان " فمن كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتني به أنفذه
له، ومن لم يكن عنده عهد فليتجهز للجلاء.
فأجلى عمر من لم يكن عنده عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد ادعى يهود خيبر في أزمان متأخرة بعد الثلاثمائة أن بأيديهم كتابا من رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيه أنه وضع الجزية عنهم.
وقد اغتر بهذا الكتاب بعض العلماء حتى قال بإسقاط الجزية عنهم، من الشافعية الشيخ
أبو على بن خيرون، وهو كتاب مزور [ مكذوب مفتعل لا أصل له، وقد بينت بطلانه من
وجوه عديدة في كتاب مفرد ] (1) وقد تعرض لذكره وإبطاله جماعة من الاصحاب في كتبهم
كابن الصباغ في مسائله، والشيخ أبي حامد في تعليقته، وصنف فيه ابن المسلمة جزءا
منفردا للرد عليه، وقد تحركوا به بعد السبعمائة وأظهروا كتابا فيه نسخة ما ذكره
الاصحاب في كتبهم، وقد وقفت عليه فإذا هو مكذوب، فإن فيه شهادة سعد بن معاذ، وقد
كان مات قبل زمن
__________
(1) سقط من ا.
(*)
خيبر،
وفيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يومئذ، وفي آخره: وكتبه علي
ابن أبي طالب.
وهذا لحن وخطأ، وفيه وضع الجزية ولم تكن شرعت بعد، فإنها إنما شرعت أول ما شرعت
وأخذت من أهل نجران.
وذكروا أنهم وفدوا في حدود سنة تسع.
والله أعلم.
* * * ثم قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى عبدالله بن عمر، عن ابن عمر قال: خرجت
أنا والزبير بن العوام والمقداد بن الاسود إلى أموالنا بخيبر نتعاهدها، فلما قدمنا
تفرقنا في أموالنا، قال: فعدى علي تحت الليل وأنا نائم على فراشي ففدعت يداي من
مرفقي، فلما استصرخ على صاحباي فأتياني فسألاني من صنع هذا بك ؟ فقلت: لا أدري،
فأصلحا من يدي، ثم قدما بي على عمر، فقال: هذا عمل يهود خيبر.
ثم قام في الناس خطيبا فقال: أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل
يهود خيبر على أنا نخرجهم إذا شئنا، وقد عدوا على عبدالله بن عمر ففدعوا يديه كما
بلغكم مع عدوتهم على الانصاري قبله، لا نشك أنهم كانوا أصحابه ليس لنا هناك عدو
غيرهم، فمن كان له مال من خيبر فليلحق به فإني مخرج يهود.
فأخرجهم.
قلت: كان لعمر بن الخطاب سهمه الذي بخيبر، وقد كان وقفه في سبيل الله وشرط في
الوقف ما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو ثابت في الصحيحين، وشرط أن
يكون النظر فيه للارشد فالارشد من بناته وبنيه.
قال الحافظ البيهقي في الدلائل: جماع أبواب السرايا التي تذكر بعد فتح خيبر وقبل
عمرة القضية، وإن كان تاريخ بعضها ليس بالواضح عند أهل المغازي.
سرية
أبي بكر الصديق إلى بني فزارة قال الامام أحمد: حدثنا بهز، حدثنا عكرمة بن عمار،
حدثنا إياس بن سلمة، حدثني أبي، قال: خرجنا مع أبي بكر ابن أبي قحافة وأمره رسول
الله صلى الله عليه
وسلم علينا فغزونا بني فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر فعرسنا، فلما
صلينا الصبح أمرنا أبو بكر فشننا الغارة، فقتلنا على الماء من مر قبلنا.
قال سلمة: ثم نظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء نحو الجبل وأنا أعدو في
آثارهم، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل، قال: فجئت
بهم أسوقهم إلى أبي بكر حتى أتيته على الماء وفيهم امرأة من فزارة عليها قشع (1)
من أدم ومعها ابنة لها من أحسن العرب، قال: فنفلني أبو بكر بنتها، قال: فما كشفت
لها ثوبا حتى قدمت المدينة، ثم بت فلم أكشف لها ثوبا، قال: فلقيني رسول الله صلى
الله عليه وسلم في السوق فقال لي " يا سملة هب لي المرأة " قال: فقلت:
والله يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني رسول
الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: " يا سلمة هب لي المرأة ".
قال: فقلت: يا رسول الله والله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا.
قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني رسول
الله صلى الله عليه وسلم في السوق فقال: " يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك
" قال: قلت: يا رسول الله والله ما كشفت لها ثوبا وهي لك يا رسول الله.
قال: بعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من
المسلمين ففداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك المرأة.
وقد رواه مسلم والبيهقي من حديث عكرمة بن عمار به.
__________
(1) القشع: الفرو الخلق.
(27 - السيرة 3) (*)
سرية
عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى تربة من أرض هوازن وراء مكة بأربعة أميال
ثم أورد البيهقي من طريق الواقدي بأسانيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
عمر بن الخطاب رضى الله عنه في ثلاثين راكبا ومعه دليل من بني هلال، وكانوا يسيرون
الليل ويكمنون النهار، فلما انتهوا إلى بلادهم هربوا منهم وكر عمر راجعا إلى
المدينة، فقيل له: هل لك في قتال خثعم ؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يأمرني إلا بقتال هوازن في أرضهم.
سرية عبدالله بن رواحة إلى يسير بن رزام اليهودي ثم أورد من طريق إبراهيم بن
لهيعة، عن أبي الاسود، عن عروة، ومن طريق موسى بن عقبة عن الزهري، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعث عبدالله بن رواحة في ثلاثين راكبا فيهم عبدالله بن راحة
إلى يسير بن رزام اليهودي حتى أتوه بخيبر، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
يجمع غطفان ليغزوه بهم، فأتوه فقالوا: أرسلنا إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليستعملك على خيبر.
فلم يزالوا به حتى تبعهم في ثلاثين رجلا مع كل رجل منهم رديف من المسلمين، فلما
بلغوا قرقرة نيار وهي من خيبر على ستة أميال ندم يسير بن رزام فأهوى بيده إلى سيف
عبدالله بن رواحة، ففطن له عبدالله بن رواحة فزجر بعيره ثم اقتحم يسوق بالقوم، حتى
استمكن من يسير ضرب رجله فقطعها، واقتحم يسير وفي يده مخراش من شوحط (1) فضرب به
وجه عبدالله بن رواحة فشجه شجة مأمومة (2).
وانكفأ كل رجل من المسلمين على رديفه فقتله، غير رجل واحد من اليهود أعجزهم شدا
ولم يصب من المسلمين أحد،
__________
(1) المخراش المجن، وهو عصا معقوفة.
والشوحط: شجر من النبع.
(2) مأمومة: في أم رأسه.
(*)
وبصق
رسول الله صلى الله عليه وسلم في شجة عبدالله بن رواحة فلم تقيح ولم تؤذه حتى مات.
سريه أخرى مع بشير بن سعد
روى من طريق الواقدي بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بشير بن سعد في
ثلاثين راكبا إلى بني مرة من أرض فدك فاستاق نعمهم، فقاتلوه وقتلوا عامة من معه
وصبر هو يومئذ صبرا عظيما، وقاتل قتالا شديدا، ثم لجأ إلى فدك فبات بها عند رجل من
اليهود، ثم كر راجعا إلى المدينة.
قال الواقدي: ثم بعث إليهم رسول لله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبدالله، ومعه
جماعة من كبار الصحابة، فذكر منهم أسامة بن زيد، وأبا مسعود البدري، وكعب بن عجرة.
ثم ذكر مقتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك حليف بني مرة، وقوله حين علاه بالسيف: لا
إله إلا الله، وأن الصحابة لاموه على ذلك حتى سقط في يده وندم على ما فعل.
وقد ذكر هذه القصة يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن شيخ من بني سلمة، عن رجال من قومه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث غالب بن عبدالله الكلبي إلى أرض بني مرة
فأصاب مرداس بن نهيك [ حليفا لهم من الحرقة فقتله أسامة.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة عن أبيه عن جده أسامة بن
زيد ؟ قال: أدركته أنا ورجل من الانصار - يعني مرداس بن نهيك (1) ] فلما شهرنا
عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه.
__________
(1) من ا.
(*)
فلما
قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه فقال " يا أسامة من لك بلا
إله إلا الله " فقلت: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل.
قال: " فمن لك يا أسامة بلا إله إلا الله ".
فوالذي بعثه بالحق ما زال يرددها علي حتى تمنيت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وأني
أسلمت يومئذ ولم أقتله.
فقلت: إني أعطى الله عهدا ألا أقتل رجلا يقول لا إله إلا
الله أبدا.
فقال: " بعدي يا أسامة " فقلت بعدك.
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم بن بشير، أنبأنا حصين، عن أبي ظبيان، قال: سمعت
أسامة بن زيد يحدث قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة،
قال: فصبحناهم وكان منهم رجل إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا، وإذا أدبروا كان
حاميتهم، قال: فغشيته أنا ورجل من الانصار، فلما تغشيناه قال: لا إله إلا الله.
فكف عنه الانصاري وقتلته، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا
أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ ! " قال: فقلت: يا رسول الله إنما
كان متعوذا من القتل.
قال: فكررها علي، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
وأخرجه البخاري ومسلم من حديث هشيم به نحوه.
* * * وقال ابن إسحاق: حدثني يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبدالله الجهني، عن جندب
بن مكيث الجهني قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبدالله الكلبي كلب
ليث إلى بني الملوح بالكديد وأمره أن يغير عليهم، وكنت في سريته، فمضينا حتى إذا
كنا بالقديد (1) لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال: إني إنما
جئت لاسلم، فقال له غالب بن عبدالله: إن كنت إنما جئت لتسلم فلا يضيرك
__________
(1) ابن هشام: بقديد.
(*)
رباط
يوم وليلة، وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك.
قال: فأوثقه رباطا وخلف عليه رويجلا أسود كان معنا، وقال: امكث معه حتى نمر عليك،
فإن نازعك فاحتز رأسه.
ومضينا حتى أتينا بطن الكديد، فنزلنا عشية بعد العصر، فبعثني أصحابي إليه فعمدت
إلى تل يطلعني على الحاضر، فانبطحت عليه وذلك قبل غروب الشمس، فخرج رجل منهم فنظر
فرآني منبطحا على التل فقال لامرأته: إني
لارى سوادا على هذا التل ما رأيته في أول النهار، فانظري لا تكون الكلاب اجترت بعض
أوعيتك.
فنظرت فقالت: والله ما أفقد منها شيئا، قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي،
فناولته فرماني بسهم في جنبي أو قال في جبيني، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم رماني
بالآخر فوضعه في رأس منكبي فنزعته فوضعته ولم أتحرك، فقال لامرأته: أما والله لقد
خالطه سهماي ولو كان ربيئة (1) ربيئة لتحرك، فإذا أصبحت فابتغي سهمي فخذيهما لا
تمضغهما علي الكلاب.
قال: فأملهنا حتى إذا راحت روائحهم وحتى احتلبوا وعطنوا وسكنوا وذهبت عتمة من
الليل، شننا عليهم الغارة، فقتلنا واستقنا النعم ووجهنا قافلين به، وخرج صريخ
القوم إلى قومهم بقربنا، قال: وخرجنا سراعا حتى نمر بالحارث بن مالك بن البرصاء
وصاحبه، فانطلقنا به معنا وأتانا صريخ الناس فجاءنا مالا قبل لنا به، حتى إذا لم
يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد بعث الله من حيث شاء ماء ما رأينا قبل
ذلك مطرا ولا حالا، وجاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه، فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون
إلينا ما يقدر أحد منهم أن يقدم عليه، ونحن نجذبها أو نحدوها - شك النفيلي -
فذهبنا سراعا حتى أسندنا بها في المسلك، ثم حدرنا عنه حتى أعجزنا القوم بما في
أيدينا.
وقد رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق في روايته عبدالله بن غالب، والصواب غالب
بن عبدالله كما تقدم.
__________
(1) الربيئة: طليعة القوم.
وفي المطبوعة: ريبة.
وهو تحريف.
(*)
وذكر
الواقدي هذه القصة بإسناد آخر وقال فيه: وكان معه من الصحابة مائة وثلاثون رجلا.
ثم ذكر البيهقي من طريق الواقدي سرية بشير بن سعد أيضا إلى ناحية خيبر، فلقوا جمعا
من العرب وغنموا نعما كثيرا، وكان بعثه في هذه السرية بإشارة أبي بكر وعمر
رضى الله عنهما، وكان معه من المسلمين ثلاثمائة رجل ودليله حسيل بن نويرة وهو الذي
كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، قاله الواقدي.
سرية أبي حدرد إلى الغابة قال يونس عن محمد بن إسحاق: كان من حديث قصة أبي حدرد
وغزوته إلى الغابة ما حدثني جعفر بن عبدالله بن أسلم عن أبي حدرد قال: تزوجت امرأة
من قومي فأصدقتها مائتي درهم، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه
على نكاحي.
فقال: " كم أصدقت ؟ " فقلت: مائتي درهم، فقال " سبحان الله والله
لو كنتم تأخذونها من واد ما زدتم، والله ما عندي ما أعينك به " فلبثت أياما
ثم أقبل رجل من جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس - أو قيس بن رفاعة - في بطن
عظيم من جشم حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة يريد أن يجمع قيسا على محاربة رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذا اسم وشرف في جشم، قال: فدعاني رسول الله صلى
الله عليه وسلم ورجلين من المسلمين فقال: " اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوا
منه بخبر وعلم ".
وقدم لنا شارفا عجفاء فحمل عليه أحدنا، فوالله ما قامت به ضعفا حتى دعمها الرجال
من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت، وقال: " تبلغوا على هذه ".
فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف، حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر مع غروب
الشمس فكمنت في ناحية وأمرت صاحبي فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم،
وقلت
لهما: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت في العسكر فكبرا وشدا معي.
فوالله إنا كذلك ننتظر أن نرى غرة أو نرى شيئا وقد غشينا الليل حتى ذهبت فحمة
العشاء، وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد فأبطأ عليهم وتخوفوا عليه، فقام
صاحبهم رفاعة بن قيس فأخذ سيفه فجعله في عنقه فقال: والله لاتيقنن أمر راعينا ولقد
أصابه شر، فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب نحن نكفيك.
فقال: لا إلا أنا.
قالوا:
نحن معك.
فقال: والله لا يتبعني منكم أحد.
وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فوالله ما تكلم فوثبت
إليه فاحتززت رأسه، ثم شددت ناحية العسكر وكبرت وشد صاحباي وكبرا، فوالله ما كان
إلا النجا ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خف معهم من
أموالهم، واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة فجئنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وجئت برأسه أحمله معي، فأعطاني من تلك الابل ثلاثة عشر بعيرا في صداقي فجمعت
إلى أهلي.
السرية التي قتل فيها محلم بن جثامة عامر بن الاضبط قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن
عبدالله بن قسيط، عن ابن عبدالله (1) بن أبي حدرد، عن أبيه قال: بعثنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى إضم في نفر من المسلمين منهم، أبو قتادة الحارث بن ربعي
ومحلم بن جثامة بن قيس، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الاضبط
الاشجعي على قعود له معه متيع له ووطب (2) من لبن، فسلم علينا بتحيه الاسلام
فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشئ كان بينه وبينه وأخذ بعيره
ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه الخبر فنزل فينا القرآن
" يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى
اليكم
__________
(1) ابن هشام: عن القعقاع بن عبدالله بن أبي حدرد.
(2) المتيع: المتاع القليل.
والوطب وعاء اللبن.
(*)
السلام
لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة، كذلك كنتم من قبل فمن
الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا (1) ".
هكذا رواه الامام أحمد، عن يعقوب عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن
قسيط، عن القعقاع بن عبدالله بن أبي حدرد عن أبيه.
فذكره.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر، سمعت زياد بن ضميرة بن سعد الضمري (2)
يحدث عن عروة بن الزبير، عن أبيه وعن جده قالا - وكانا شهدا حنينا - قالا: فصلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فقام إلى ظل شجرة فقعد فيه فقام إليه
عيينة بن بدر فطلب بدم عامر بن الاضبط الاشجعي وهو سيد عامر: هل لكم أن تأخذوا منا
الآن خمسين بعيرا وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ فقال عيينة بن بدر: والله لا
أدعه حتى أذيق نساءه من الحزن مثل ما أذاق نسائي.
فقام رجل من بني ليث يقال له ابن مكيل وهو قصير من الرجال، فقال: يا رسول الله ما
أجد لهذا القتيل شبها في غرة الاسلام إلا كغنم وردت فرميت (3) أولاها فنفرت
أخراها، اسنن (4) اليوم وغير غدا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل لكم أن تأخذوا خمسين بعيرا الآن
وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة ؟ " فلم يزل بهم حتى رضوا بالدية، فقال قوم
محلم بن جثامة: إبتوا به حتى يستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: فجاء
رجل طوال ضرب (5) اللحم في حلة قد تهيأ فيها للقتل، فقام بين يدي النبي صلى الله
عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تغفر لمحلم "
قالها ثلاثا.
فقام وإنه ليتلقى دموعه بطرف ثوبه.
قال محمد بن إسحاق: زعم قومه أنه استغفر له بعد ذلك.
__________
(1) سورة النساء 94.
(2) ابن هشام: السلمي.
(3) غير ا: فشربت.
(4) اسنن: ضع الاحكام والسنن.
(5) ضرب اللحم: خفيفه.
(*)
وهكذا
رواه أبو داود من طريق حماد بن سلمة عن ابن إسحاق، ورواه ابن ماجه عن أبي بكر بن
أبي شيبة، عن أبي خالد الاحمر عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر، عن زيد بن ضميرة عن
أبيه وعمه، فذكر بعضه.
والصواب كما رواه ابن إسحاق عن محمد بن جعفر عن زياد بن سعد بن ضميرة (1)
عن أبيه وعن جده.
وهكذا رواه أبو داود من طريق ابن وهب، عن عبدالرحمن بن أبي الزناد، وعن عبدالرحمن
بن الحارث، عن محمد بن جعفر عن زياد بن سعد بن ضميرة عن أبيه وجده بنحوه كما تقدم.
وقال ابن إسحاق: حدثني سالم أبو النضر أنه قال (2): لم يقبلوا الدية حتى قام
الاقرع بن حابس فخلا بهم وقال: يا معشر قيس، سألكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
قتيلا تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه، أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيغضب الله لغضبه، ويلعنكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيلعنكم الله بلعنته لكم، لتسلمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآتين
بخمسين من بني تميم كلهم يشهدون أن القتيل كافر ما صلى قط فلا يطلبن (3) دمه.
فلما قال ذلك لهم أخذوا الدية.
وهذا منقطع معضل.
وقد روى ابن إسحاق عمن لا يتهم عن الحسن البصري، أن محلما لما جلس بين يديه عليه
الصلاة والسلام قال له: " أمنته ثم قتلته ؟ " ثم دعا عليه.
قال الحسن: فوالله ما مكث محلم إلا سبعا حتى مات فلفظته الارض ثم دفنوه فلفظته الارض
ثم دفنوه فلفظته الارض، فرضموا عليه من الحجارة حتى واروه، فبلغ
__________
(1) ابن هشام: زياد بن ضميرة بن سعد.
(2) ابن هشام: وأخبرنا سالم أبو النضر أنه حدث أن عيينة بن حصن...(3) ابن هشام:
فلا طلبن.
(*)
رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الارض لتطابق على من هو شر منه، ولكن
الله أراد أن يعظكم في حرم ما بينكم لما أراكم منه ".
وقال ابن جرير: حدثنا وكيع، حدثنا جرير، عن ابن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر، قال:
بعث رسول الله صلى عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا فلقيهم عامر بن الاضبط
فحياهم بتحية الاسلام - وكانت بينهم هنة في الجاهلية - فرماه محلم بسهم فقتله،
فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه عيينة والاقرع، فقال
الاقرع: يا رسول الله سن اليوم وغير غدا، فقال عيينة: لا والله حتى تذوق نساؤه من
الثكل ما أذاق نسائي محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليستغفر له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا غفر الله لك "
فذكروا ذلك له فقال: " إن الارض لتقبل من هو شر من صاحبكم، ولكن الله أراد أن
يعظكم من حرمتكم " ثم طرحوه في جبل فألقوا عليه من الحجارة ونزلت: " يأيها
الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " الآية.
وقد ذكره موسى بن عقبة عن الزهري، ورواه شعيب عن الزهري عن عبدالله بن وهب، عن
قبيصة بن ذؤيب نحو هذه القصة، إلا أنه لم يسم محلم بن جثامة ولا عامر بن الاضبط،
وكذلك رواه البيهقي عن الحسن البصري بنحو هذه القصة وقال: وفيه نزل قوله تعالى:
" يأيها الذين آمنو إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " الآية.
قلت: وقد تكلمنا في سبب نزول هذه الآية ومعناها في التفسير بما فيه الكفاية.
ولله الحمد والمنة.
سرية عبدالله بن حذافة السهمي ثبت في الصحيحين من طريق الاعمش، عن سعد بن عبيدة،
عن أبي عبدالرحمن
الحبلى،
عن علي بن أبي طالب قال: استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الانصار على
سرية بعثهم وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، قال: فأغضبوه في شئ فقال: اجمعوا لي
حطبا.
فجمعوا.
فقال: أوقدوا نارا.
فأوقدوا.
ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا ؟ قالوا:
بلى.
قال: فادخلوها.
قال: فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من
النار.
قال: فسكن غضبه وطفئت النار.
فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال: " لو دخلوها ما
خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف ".
وهذه القصة ثابتة أيضا في الصحيحين من طريق يعلى بن مسلم، عن سعيد ابن جبير، عن
ابن عباس، وقد تكلمنا على هذه بما فيه كفاية في التفسير ولله الحمد والمنة.
بسم
الله الرحمن الرحيم عمرة القضاء ويقال القصاص.
ورجحه السهيلي.
ويقال عمرة القضية، فالاولى قضاء عما كان أحصر عام الحديبية والثاني من قوله
تعالى: " والحرمات قصاص " والثالث من المقاضاة التي كان قاضاهم عليها
على أن يرجع عنهم عامه هذا ثم يأتي في العام القابل ولا يدخل مكة إلا في جلبان (1)
السلاح وألا يقيم أكثر من ثلاثة أيام.
وهذه العمرة هي المذكورة في قوله تعالى في سورة الفتح المباركة: " لقد صدق
الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آءمين محلقين رءوسكم
ومقصرين لا تخافون " الآية.
وقد تكلمنا عليها مستقصى في كتابنا التفسير بما فيه كفاية.
وهي الموعود بها في قوله عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب حين قال له: ألم تكن
تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال: " بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟
" قال: لا.
قال: " فإنك آتية ومطوف به ".
وهي المشار إليها في قول عبدالله بن رواحة حين دخل بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى مكة يوم عمرة القضاء وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * اليوم نضر بكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله
__________
(1) الجلبان: شبه الجراب من الجلد يوضع فيه السيف.
(*)
أي
هذا تأويل الرؤيا التي كان رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت مثل فلق الصبح.
* * * قال ابن إسحاق،: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى المدينة
أقام بها شهري ربيع وجماديين ورجبا وشعبان وشهر رمضان وشوالا، يبعث فيما بين ذلك
سراياه.
ثم خرج من ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان
عمرته التي صدوه عنها.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة عويف بن الاضبط الدؤلي.
ويقال لها عمرة القصاص، لانهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة في
الشهر الحرام من سنة ست، فافتص رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فدخل مكة في ذي
القعدة في الشهر الحرام الذي صدوه فيه من سنة سبع.
بلغنا عن ابن عباس أنه قال: فأنزل الله تعالى في ذلك " والحرمات قصاص ".
وقال معتمر بن سليمان عن أبيه في مغازيه: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
خيبر أقام بالمدينة وبعث سراياه حتى استهل ذو القعدة، فنادى في الناس: أن تجهزوا
للعمرة.
فتجهزوا وخرجوا إلى مكة.
وقال ابن إسحاق: وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه في عمرته تلك وهي سنة سبع، فلما
سمع به أهل مكة خرجوا عنه وتحدثت قريش بينها أن محمدا في عسرة
وجهد وشدة.
قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم، عن عبدالله بن عباس قال: صفوا له عند دار
الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد
اضطبع
بردائه وأخرج عضده اليمنى ثم قال: " رحم الله امرءا أراهم اليوم من نفسه قوة
".
ثم استلم الركن، ثم خرج يهرول ويهرول أصحابه معه، حتى إذا واراه البيت منهم واستلم
الركن اليماني مشى حتى يستلم الركن الاسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ومشى سائرها.
فكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم، وذلك أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم حتى حج حجة الوداع فلزمها
فمضت السنة بها.
وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد - هو ابن زيد - عن أيوب، عن سعيد
بن جبير، عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال
المشركون: إنه يقدم عليكم وفد وهنهم حمى يثرب.
فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الاشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين
الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم.
قال أبو عبد الله: وزاد بن سلمة - يعني حماد بن سلمة - عن أيوب، عن سعيد عن ابن
عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم لعامهم الذي استأمن قال: "
ارملوا ليرى المشركون قوتهم، والمشركون من قبل قعيقعان.
ورواه مسلم عن أبي الربيع الزهراني، عن حماد بن زيد.
وأسنده البيهقي طريق حماد بن سلمة.
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبدالله، حدثنا سفيان، حدثنا إسماعيل بن أبي
خالد، سمع ابن أبي أوفى يقول: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سترناه من
غلمان المشركين ومنهم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسيأتي
بقية الكلام على هذا المقام.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني عبدالله بن أبي بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين دخل مكة في تلك العمرة دخلها و عبدالله بن رواحة آخذ بخطام ناقته يقول: خلوا
بني الكفار عن سبيله * خلوا فكل الخير في رسوله يا رب إني مؤمن بقيله * أعرف حق
الله في قبوله نحن قتلناكم على تأويله * كما قتلناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام
عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله قال ابن هشام: نحن قتلناكم على تأويله إلى آخر
الابيات لعمار بن ياسر في غير هذا اليوم - يعني يوم صفين - قاله السهيلي.
قال ابن هشام: والدليل على ذلك أن ابن رواحة إنما أراد المشركين، والمشركون لم
يقروا بالتنزيل، وإنما يقاتل على التأويل من أقر بالتنزيل.
وفيما قاله ابن هشام نظر، فإن الحافظ البيهقي روى من غير وجه عن عبد الرزاق عن
معمر، عن الزهري، عن أنس قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة
القضاء مشى عبدالله بن رواحة بين يديه، وفي رواية وهو آخد بغرزه وهو يقول: خلوا
بني الكفار عن سبيله * قد نزل الرحمن في تنزيله بأن خير القتل في سبيله * نحن
قتلناكم على تأويله وفي رواية بهذا الاسناد بعينه: خلوا بني الكفار عن سبيله *
اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله يا رب إني مؤمن بقيله
وقال
يونس بن بكير عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
دخل عام القضية مكة فطاف بالبيت على ناقته واستلم الركن بمحجنه.
قال ابن هشام: من غير علة، والمسلمون يشتدون حوله، و عبدالله بن رواحة يقول: باسم
الذي لا دين إلا دينه * باسم الذي محمد رسوله خلوا بني الكفار عن سبيله * * * قال
موسى بن عقبة عن الزهري: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام القابل من
عام الحديبية معتمرا في ذي القعدة سنة سبع، وهو الشهر الذي صده المشركون عن المسجد
الحرام، حتى إذا بلغ يأجج وضع الاداة كلها الحجف والمجان والرماح والنبل، ودخلوا
بسلاح الراكب السيوف، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه جعفر بن أبى
طالب إلى ميمونة بنت الحارث العامرية فخطبها عليه، فجعلت أمرها إلى العباس وكان
تحته أختها أم الفضل بنت الحارث، فزوجها العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه قال: " اكشفوا عن المناكب
واسعوا في الطواف ".
ليرى المشركون جلدهم وقوتهم، وكان يكايدهم بكل ما استطاع، فاستكف (1) أهل مكة الرجال
والنساء والصبيان ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون
بالبيت، و عبدالله بن رواحة يرتجز بين يدي رسول الله صلى عليه وسلم متوشحا بالسيف
وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله * أنا الشهيد أنه رسوله
__________
(1) استكف: أحاطوا به.
(*)
قد
أنزل الرحمن في تنزيله * في صحف تتلى على رسوله فاليوم نضربكم على تأويله * كما
ضربناكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله قال: وتغيب
رجال من أشراف المشركين أن ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم غيظا وحنقا،
ونفاسة وحسدا.
وخرجوا إلى الخندمة (1)، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وأقام ثلاث ليال،
وكان ذلك آخر القضية يوم الحديبية.
فلما أتى الصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبدالعزى، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم في مجلس الانصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب بن
عبدالعزى: نناشدك الله والعقد لما خرجت من أرضنا، فقد مضت الثلاث.
فقال سعد بن عبادة: كذبت لا أم لك ليس بأرضك ولا بأرض آبائك والله لا يخرج.
ثم نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلا وحويطبا فقال: " إني قد نكحت
فيكم امرأة فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا
" فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا خرجت عنا.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع فأذن بالرحيل، وركب رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى نزل ببطن سرف وأقام المسلمون وخلف رسول الله صلى الله عليه
وسلم أبا رافع ليحمل ميمونة، وأقام بسرف حتى قدمت عليه ميمونة، وقد لقيت ميمونة
ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين ومن صبيانهم، فقدمت على رسول الله صلى الله
عليه وسلم بسرف فبنى بها ثم أدلج فسار حتى أتى المدينة.
وقدر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فماتت حيث بنى بها
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(2) الخندمة: جبل بمكة (28 - السيرة 3) (*)
ثم
ذكر قصة ابنة حمزة إلى أن قال: وأنزل الله عزوجل في تلك العمرة " الشهر
الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " فاعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الشهر الحرام الذي صد فيه.
* * * وقد روى ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير نحوا من هذا السياق،
ولهذا السياق شواهد كثيرة من أحاديث متعددة.
ففي صحيح البخاري من طريق فليح بن سليمان، عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم خرج معتمرا، فحال كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه
بالحديبية، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ولا يحمل سلاحا إلا سيوفا، ولا يقيم
بها إلا ما أحبوا.
فاعتمر من العام المقبل فدخلها كما كان صالحهم، فلما أن أقام بها ثلاثا أمروه أن
يخرج فخرج.
وقال الواقدي: حدثني عبدالله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: لم تكن هذه عمرة
قضاء وإنما كانت شرطا على المسلمين أن يعتمروا من قابل في الشهر الذي صدهم فيه
المشركون.
وقال أبو داود: حدثنا النفيلي، حدثنا محمد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن
ميمون، سمعت أبا حاضر الحميري يحدث أن ميمون بن مهران قال: خرجت معتمرا عام حاصر
أهل الشام ابن الزبير بمكة، وبعث معي رجال من قومي بهدي.
قال: فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الحرم، قال: فنحرت الهدي مكاني ثم
أحللت ثم رجعت، فلما كان من العام المقبل خرجت لاقضي عمرتي، فأتيت بن عباس فسألته
فقال: أبدل الهدي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه
أن
يبدلوا الهدى الذي نحروا عام الحديبية في عمرة القضاء.
تفرد به أبو داود من حديث أبي حاضر عثمان بن حاضر الحميري، عن ابن عباس فذكره.
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار،
حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، حدثني عمرو بن ميمون قال: كان أبي يسأل كثيرا:
هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدل هديه الذي نحر حين صده المشركون عن
البيت ؟ ولا يجد في ذلك شيئا، حتى سمعته يسأل أبا حاضر الحميري عن ذلك فقال له:
على الخبير سقطت ! حججت عام ابن الزبير في الحصر الاول، فأهديت هديا فحالوا بيننا
وبين البيت، فنحرت في الحرم ورجعت إلى اليمن وقلت: لي برسول الله صلى الله عليه
وسلم أسوة، فلما كان العام المقبل حججت فلقيت ابن عباس فسألته عما نحرت علي بدله
أم لا ؟ قال: نعم فأبدل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد أبدلوا
الهدي الذي نحروا عام صدهم المشركون فأبدلوا ذلك في عمرة القضاء، فعزت الابل عليهم
فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في البقر.
وقال الواقدي: حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: جعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب الاسلمي على هديه يسير بالهدي أمامه
يطلب الرعي في الشجر معه أربعة فتيان من أسلم، وقد ساق رسول الله صلى الله عليه
وسلم في عمرة القضية ستين بدنة.
فحدثني محمد بن نعيم المجمر، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: كنت مع صاحب البدن
أسوقها.
قال الواقدي: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي والمسلمون معه يلبون، ومضى
محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران، فيجد بها نفرا من قريش، فسألوا محمد بن
مسلمة فقال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح هذا المنزل غدا إن شاء الله.
ورأوا سلاحا كثيرا مع بشير بن سعد، فخرجوا سراعا حتى أتوا قريشا فأخبروهم بالذي
رأوا
من
السلاح والخيل، ففزعت قريش وقالوا: والله ما أحدثنا حدثا، وإنا على كتابنا
وهدنتنا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه ؟ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر
الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى
أنصاب الحرم، وبعثت قريش مكرز بن حفص بن الاحنف في نفر من قريش، حتى لقوه ببطن
يأجج ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهدي والسلاح قد تلاحقوا، فقالوا:
يا محمد ما عرفت صغيرا ولا كبيرا بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك، وقد
شرطت لهم ألا تدخل إلا بسلاح المسافر السيوف في القرب، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: " إني لا أدخل عليهم السلاح " فقال مكرز بن حفص: هذا الذي تعرف
به، البر والوفاء، ثم رجع سريعا بأصحابه إلى مكة.
فلما أن جاء مكرز بن حفص بخبر النبي صلى الله عليه وسلم خرجت قريش من مكة إلى رءوس
الجبال وخلوا مكة وقالوا: لا ننظر إليه ولا إلى أصحابه.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي أمامه حتى حبس بذي طوى، وخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو على ناقته القصواء وهم محدقون به يلبون وهم
متوشحون السيوف، فلما انتهى إلى ذي طوى وقف على ناقته القصواء وابن رواحة آخذ
بزمامها وهو يرتجز بشعره ويقول: خلوا بني الكفار عن سبيله * إلى آخره
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه
صبيحة رابعة - يعني من ذي القعدة سنة سبع - فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد قد
وهنهم حمى يثرب.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا
الاشواط
الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء
عليهم.
قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن عبدالله ابن
عثمان، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مر
الظهران من عمرته بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشا تقول: ما
يتباعثون من العجف (1).
فقال أصحابه: لو انتحرنا من ظهرنا فأكلنا من لحومه وحسونا من مرقه أصبحنا غدا حين
ندخل على القوم وبنا جمامة (2)، فقال: " لا تفعلوا ولكن اجمعوا لي من أزوادكم
" فجمعوا له وبسطوا الانطاع فأكلوا حتى تركوا، وحشا كل واحد منهم في جرابه.
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد وقعدت قريش نحو الحجر،
فاضطبع بردائه ثم قال: " لا يرى القوم فيكم غميزة " فاستلم الركن ثم رمل
حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الاسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي
أما إنهم لينفرون نفر الظباء ! ففعل ذلك ثلاثة أطواف فكانت سنة.
قال أبو الطفيل: وأخبرني ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة
الوداع.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أبو داود، حدثنا أبو سلمة موسى، حدثنا حماد - يعني ابن سلمة - انبأنا أبو
عاصم الغنوي، عن أبي الطفيل قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة ؟ فقال: صدقوا وكذبوا.
قلت: ما صدقوا وما كذبوا ؟ قال: صدقوا، رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذبوا
ليس بسنة، إن قريشا زمن الحديبية قالت: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت
__________
(1) العجف: الهزال.
(2) جمامة: بقية من قوة.
(*)
النغف
(1)، فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام فقدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون من قبل قعيقعان، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لاصحابه: " ارملوا بالبيت ثلاثا " قال: وليس بسنة.
وقد رواه مسلم من حديث سعيد الجريري، و عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين و
عبدالملك بن سعيد بن أبجر، ثلاثتهم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن ابن عباس به
نحوه.
وكون الرمل في الطواف سنة مذهب الجمهور، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في
عمرة القضاء وفي عمرة الجعرانة أيضا، كما رواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبدالله
ابن عثمان بن خثيم، عن أبي الطفيل عن ابن عباس فذكره.
وثبت في حديث جابر عند مسلم وغيره أنه عليه السلام رمل في حجة الوداع في الطواف،
ولهذا قال عمر بن الخطاب: فيم الرملان وقد أطال الله الاسلام ؟ ومع هذا لا نترك
شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وموضع تقرير هذا كتاب الاحكام.
وكان ابن عباس في المشهور عنه لا يرى ذلك سنة، كما ثبت في الصحيحين من حديث سفيان
بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إنما سعى النبي صلى الله
عليه وسلم بالبيت وبالصفا والمروة ليرى المشركين قوته.
لفظ البخاري.
وقال الواقدي: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه في القضاء دخل البيت،
فلم يزل فيه حتى أذن بلال الظهر فوق ظهر الكعبة، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمره بذلك، فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حين لم يسمع هذا
العبد يقول ما يقول ! وقال صفوان بن أمية: الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى
هذا.
وقال
__________
(1) النغف: دود في أنوف الابل والغنم، ويقال للمحتقر: نغفة.
(*)
خالد
بن أسيد: الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم حتى يقوم بلال ينهق فوق
البيت.
وأما سهيل بن عمر ورجال معه لما سمعوا بذلك غطوا وجوههم.
قال الحافظ البيهقي: قد أكرم الله أكثرهم بالاسلام.
قلت: كذا ذكره البيهقي من طريق الواقدي أن هذا كان في عمرة القضاء، والمشهور أن
ذلك كان في عام الفتح.
والله أعلم.
وأما قصة تزويجه عليه السلام بميمونة فقال ابن إسحاق: حدثني أبان بن صالح وعبد
الله بن أبي نجيح، عن عطاء ومجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك وهو حرام، وكان الذي زوجه إياها العباس بن
عبدالمطلب.
قال ابن هشام: كانت جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل، فجعلت أم الفضل أمرها إلى
زوجها العباس، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصدقها عنه أربعمائة درهم.
وذكر السهيلي أنه لما انتهت إليها خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وهي
راكبة بعيرا قالت: الجمل وما عليه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وفيها نزلت الآية: " وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن
يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين " (2).
وقد روى البخاري من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، وبنى بها وهو حلال، وماتت بسرف.
قال السهيلي (1) وروى الدارقطني من طريق أبي الاسود يتيم عروة، ومن طريق مطر
__________
(1) سورة الاحزاب 50 (2) كذا في ا وفي ت: البيهقي.
(*)
الوراق،
عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو حلال.
قال: وتأولوا رواية ابن عباس الاولى أنه كان محرما، أي في شهر حرام، كما قال
الشاعر: قتلوا ابن عفان الخليفة محرما * فدعا فلم أر مثله مخذولا أي في شهر حرام.
قلت: وفي هذا التأويل نظر، لان الروايات متظافرة عن ابن عباس بخلاف ذلك، ولا سيما
[ من ] (1) قوله: " تزوجها وهو محرم وبنى بها وهو حلال " وقد كان في شهر
ذي القعدة أيضا وهو شهر حرام.
وقال محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا عبد الرزاق، قال: قال لي الثوري: لا يلتفت (2)
إلى قول أهل المدينة.
أخبرني عمرو عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج
وهو محرم.
قال أبو عبد الله: قلت لعبد الرزاق: روى سفيان الحديثين جميعا، عن عمرو، عن أبي
الشعثاء، عن ابن عباس وابن خثيم (3)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: نعم، أما
حديث ابن خثيم فحدثنا هاهنا - يعني باليمن - وأما حديث عمرو فحدثنا ثم - يعني بمكة
-.
وأخرجاه (4) في الصحيحين من حديث عمرو بن دينار به.
وفي صحيح البخاري من طريق الاوزاعي، حدثنا عطاء، عن ابن عباس، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم.
فقال سعيد بن المسيب: وهم
__________
(1) من ا (2) ا: لا تلتفت.
(3) ا خيثم وهو تحريف.
(4) ا: أخرجاه.
(*)
ابن
عباس وإن كانت خالته، ما تزوجها إلا بعد ما أحل.
وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثني بقية، عن سعيد بن المسيب، أنه قال: هذا عبدالله بن
عباس يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم فذكر كلمته، إنما
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فكان الحل والنكاح جميعا، فشبه ذلك على ابن
عباس (1) وروى مسلم وأهل السنن من طرق عن يزيد بن الاصم العامري، عن خالته ميمونة
بنت الحارث، قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان (2) بسرف.
لكن قال الترمذي: روى غير واحد هذا الحديث عن يزيد بن الاصم مرسلا، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة.
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن
عبدالله الاصفهاني الزاهد، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، حدثنا سليمان بن حرب،
حدثنا حماد بن زيد، حدثنا مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن، عن سليمان بن
يسار، عن أبي رافع قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو حلال وبنى
(3) بها وهو حلال وكنت الرسول بينهما.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن حماد بن زيد به، ثم قال الترمذي:
حسن ولا نعلم أحدا أسنده عن حماد عن مطر.
ورواه مالك عن ربيعة عن سليمان مرسلا.
[ ورواه سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا.
قلت: وكانت وفاتها بسرف سنة ثلاث وستين، ويقال: سنة ستين، رضى الله عنها ] (4)
__________
(1) ا: على الناس.
(2) غير ا: حلال.
(3) ا: وبنى.
(4) سقطت من ا.
(*)
ذكر
خروجه عليه السلام من مكة بعد قضاء عمرته قد تقدم ما ذكره موسى بن عقبة أن قريشا
بعثوا إليه حويطب بن عبدالعزى بعد مضي أربعة أيام ليرحل عنهم كما وقع به الشرط،
فعرض عليهم أن يعمل وليمة عرسه بميمونة عندهم، وإنما أراد تأليفهم بذلك، فأبوا
عليه وقالوا: بل اخرج عنا.
فخرج.
وكذلك ذكره ابن إسحاق (1) وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن
أبي إسحاق، عن البراء قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل
مكة أن يدعوه يدخل مكة حتى قاضاهم على أن يقيموا بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا
الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله.
قالوا: لا نقر بهذا، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا، ولكن أنت محمد بن
عبدالله.
قال: " أنا رسول الله وأنا محمد بن عبدالله " ثم قال لعلي ابن أبي طالب:
" امح رسول الله " قال: لا والله لا أمحوك أبدا، فأخذ رسول الله صلى
الله عليه وسلم الكتاب، وليس يحسن يكتب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد ابن عبدالله
لا يدخل مكة [ السلاح (2) ] إلا السيف في القراب، وألا تخرج من أهلها بأحد أراد أن
يتبعه، وألا يمنع من أصحابه أحدا أراد أن يقيم بها.
فلما دخل (2) ومضى الاجل أتوا عليا فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الاجل،
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم.
فتناولها علي فأخذها بيدها وقال لفاطمة: دونك ابنة عمك.
فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر (3)، فقال علي: أنا أخذتها وهي ابنة عمي.
وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد:
ابنة أخي.
فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: " الخالة بمنزلة الام
" وقال
__________
(1) في ابن هشام: ثلاثة أيام وأتاه حويطب في اليوم الثالث.
(2) من صحيح البخاري.
(3) ا: دخلها ! (4) ا: وحفص.
وهو تحريف ! (*)
لعلي:
" أنت مني وأنا منك " وقال لجعفر: " أشبهت خلقي وخلقي " وقال
لزيد: " أنت أخونا ومولانا " قال (1) على: ألا تتزوج ابنة حمزة، قال:
" إنها ابنة أخي من الرضاعة ".
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
* * * وقد روى الواقدي قصة ابنة حمزة فقال: حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن
الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أن عمارة ابنة حمزة بن عبدالمطلب وأمها سلمى بنت
عميس كانت بمكة.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم علي بن أبي طالب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: علام نترك ابنة عمنا يتيمة بين ظهراني المشركين ؟ فلم ينه النبي
صلى الله عليه وسلم عن إخراجها، فخرج بها، فتكلم زيد بن حارثة وكان وصي حمزة، وكان
النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين، فقال: أنا أحق
بها، ابنة أخي، فلما سمع بذلك جعفر قال: الخالة والدة، وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي
أسماء بنت عميس.
وقال علي: ألا أراكم تختصمون ! هي ابنة عمي وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين،
وليس لكم إليها سبب دوني، وأنا أحق بها منكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا أحكم بينكم، أما أنت يا زيد فمولى الله
ومولى رسول الله، وأما أنت يا جعفر فتشبه خلقي وخلقي، وأنت يا جعفر أولى بها، تحتك
خالتها ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها " فقضى بها لجعفر.
قال الواقدي: فلما قضى بها لجعفر [ قام جعفر (2) ] فحجل حول رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال: " ما هذا يا جعفر ؟ " فقال: يا رسول الله كان النجاشي
إذا أرضى أحدا قام فحجل حوله.
فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: تزوجها فقال: " ابنة أخي من
__________
(1) ا: فقال ورواية البخاري: وقال.
(2) سقطت من ا.
(*)
الرضاعة
".
فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة، فكان النبي صلى الله عليه
وسلم يقول: " هل جزيت أبا سلمة ".
قلت: لانه ذكر الواقدي وغيره أنه هو الذي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمه
أم سلمة، لانه كان أكبر من أخيه عمر بن أبي سلمة.
والله أعلم.
قال ابن إسحاق: ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ذي الحجة.
وتولى (1) المشركون تلك الحجة.
قال ابن هشام: وأنزل الله في هذه العمرة فيما حدثني أبو عبيدة قوله تعالى: "
لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين
رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا " [
يعني خيبر (2) ].
فصل ذكر البيهقي هاهنا سرية ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم.
ثم ساق بسنده عن الواقدي: حدثني محمد بن عبدالله بن مسلم، عن الزهري قال: لما رجع
رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضية رجع في ذي الحجة من سنة سبع، فبعث
ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين فارسا، فخرج العين إلى قومه فحذرهم وأخبرهم
فجمعوا جمعا كثيرا وجاءهم ابن أبي العوجاء والقوم معدون، فلما أن رآهم (3) أصحاب
رسول الله صلى لله عليه وسلم ورأوا جمعهم دعوهم إلى الاسلام، فرشقوهم بالنبل ولم
يسمعوا قولهم وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه.
فرموهم ساعة وجعلت الامداد
__________
(1) ا: وولى.
(2) من ابن هشام.
(3) غير ا: رأوهم.
(*)
تأتى
حتى أحدقوا بهم من كل جانب، فقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامتهم، وأصيب ابن
أبي العوجاء بجراحات كثيرة، فتحامل حتى رجع إلى المدينة بمن بقى معه من أصحابه في
أول يوم من شهر صفر سنة ثمان.
فصل: قال الواقدي: في الحجة (1) من هذه السنة - يعني سنة سبع - رد رسول الله صلى
الله عليه وسلم ابنته زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع، وقد قدمنا الكلام على
ذلك (2)، وفيها قدم حاطب بن أبي بلتعة من عند المقوقس ومعه مارية وسيرين، وقد
أسلمتا في الطريق، وغلام خصى.
قال الواقدي: وفيها اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منبره درجتين ومقعده، قال:
والثابت عندنا أنه عمل في سنة ثمان.
__________
(1) ا: في المحرم.
(2) في الجزء الثاني.
(*)
بسم
الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن بحولك وقوتك سنة ثمان من الهجرة النبوية فصل في إسلام
عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة (1) رضى الله عنهم
وكان قدومهم في أوائل سنة ثمان على ما سيأتي قد تقدم طرف من ذلك (2) فيما ذكره ابن
إسحاق بعد مقتل أبي رافع اليهودي،
وذلك في سنة خمس من الهجرة.
وإنما ذكره الحافظ البيهقي هاهنا بعد عمرة القضاء، فروى من طريق الواقدي: أنبأنا
عبدالحميد بن جعفر، عن أبيه، قال عمرو بن العاص: كنت للاسلام مجانبا معاندا، حضرت
بدرا مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحدا فنجوت، ثم حضرت الخندق فنجوت.
قال: فقلت في نفسي: كم أوضع (3) ! والله ليظهرن محمد على قريش.
فلحقت بمالي بالرهط (4)، وأقللت من الناس - أي من لقائهم -.
فلما حضر الحديبية وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلح، ورجعت
__________
(1) ا: وطلحة بن أبي طلحة وهو تحريف.
(2) تقدم ذلك في هذا الجزء.
(3) أوضع: أدبر وأحارب.
(4) الرهط: موضع في شعر هذيل.
المراصد: 2 / 645 (*)
قريش
إلى مكة.
جعلت أقول: يدخل محمد قابلا مكة بأصحابه، ما مكة بمنزل ولا الطائف، ولا شئ خير من
الخروج، وأنا بعد ناء عن الاسلام، وأرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم.
فقدمت مكة وجمعت رجالا من قومي، وكانوا يرون رأيي ويسمعون مني ويقدمونني فيما
نابهم، فقلت لهم: كيف أنا فيكم ؟ قالوا: ذو رأينا ومدرهنا (1) في يمن نقيبة (2)
وبركة أمر.
قال: قلت: تعلمون إني والله لارى أمر محمد أمرا يعلو الامور علوا منكرا، وإني قد
رأيت رأيا.
قالوا: وما هو ؟ قلت: نلحق بالنجاشي فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي [
فإنا أن ] نكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن تظهر قريش
فنحن من قد عرفوا.
قالوا: هذا الرأي.
قال: قلت: فاجمعوا ما نهديه له - وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الادم - فجمعنا
له (3) أدما كثيرا ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا
لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه
بكتاب كتبه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فدخل عليه ثم خرج من عنده فقلت لاصحابي:
هذا عمرو بن أمية الضمري ولو قد دخلت على النجاشي فسألته إياه فأعطانيه فضربت
عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش (4) وكنت قد أجزأت عنها حين (5) قتلت رسول محمد.
فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبا بصديقي، أهديت لي من بلادك
شيئا ! قال: قلت: نعم أيها الملك، أهديت لك أدما كثيرا.
ثم قدمته فأعجبه وفرق منه شيئا ؟ بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضع وأمر أن
يكتب ويحتفظ به.
__________
(1) ا: ذا رأى.
والمدره: المدافع.
(2) المطبوعة: نفسه وهو تحريف (3) غير ا: فحملنا أدما.
(4) ا: سررت قريشا.
(5) المطبوعة: حتى.
وهو تحريف.
(*)
فلما
رأيت ريب نفسه قلت: أيها الملك إني قد رأيت رجلا خرج من عندك، وهو رسول عدو لنا قد
وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا، فأعطنيه فأقتله.
فغضب من ذلك ورفع يده فضرب بها أنفي (1) ضربة ظننت أنه كسره، فابتدر منخراي فجعلت
أتلقى الدم بثيابي، فأصابني من الذل مالو انشقت بي الارض دخلت فيها فرقا منه.
ثم قلت: أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتك.
قال: فاستحيا وقال: يا عمرو تسألني أن أعطيك رسول من يأتيه الناموس الاكبر الذي
كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى لتقتله.
قال عمرو: فغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم،
وتخالف أنت ! ثم قلت: أتشهد أيها الملك بهذا ؟ قال: نعم أشهد به
عند الله يا عمرو، فأطعني واتبعه، فوالله إنه لعلى الحق وليظهرن على من خالفه كما
ظهر موسى على فرعون وجنوده.
قلت: أتبايعني له على الاسلام ؟ قال: نعم.
فبسط يده فبايعني على الاسلام، ثم دعا بطست فغسل عني الدم وكساني ثيابا.
وكانت ثيابي قد امتلات بالدم فألقيتها.
ثم خرجت على أصحابي فلما رأوا كسوة النجاشي سروا بذلك وقالوا: هل أدركت من صاحبك
ما أردت ؟ فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة وقلت أعود إليه.
فقالوا: الرأي ما رأيت.
قال: ففارقتهم وكأني أعمد إلى حاجة، فعمدت إلى موضع السفن فأجد سفينة قد شحنت
تدفع، قال: فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعبة وخرجت من السفينة ومعي نفقة،
فابتعت بعيرا وخرجت أريد المدينة حتى مررت على مر الظهران، ثم
__________
(1) في الروايات الاخرى: أنفه.
(*)
ثم
مضيت حتى إذا كنت بالهدة فإذا رجلان قد سبقاني بغير كثير يريدان منزلا، وأحدهما
داخل في الخيمة والآخر يمسك الراحلتين، قال: فنظرت فإذا خالد بن الوليد، قال: قلت:
أين تريد ؟ قال: محمدا، دخل الناس في الاسلام فلم يبق أحد به طعم (5)، والله لو
أقمت لاخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها.
قلت: وأنا والله قد أردت محمدا وأردت الاسلام.
فخرج عثمان بن طلحة فرحب بي، فنزلنا جميعا في المنزل.
ثم اتفقنا حتى أتينا المدينة، فما أنسى قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح: يا
رباح يا رباح يا رباح.
فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين.
فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد، وولى مدبرا إلى المسجد سريعا، فظننت أنه
بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت.
وأنخنا بالحرة، فلبسنا من صالح ثيابنا، ثم نودي بالعصر فانطلقنا حتى اطلعنا عليه،
وإن لوجهه تهللا والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم
تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت
أن أرفع طرفي حياء منه.
قال: فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي ولم يحضرني ما تأخر، فقال: " إن
الاسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها ".
قال: فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحدا من
أصحابه في أمر حزبه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند
عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب.
قال عبدالحميد بن جعفر شيخ الواقدي: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن حبيب
__________
(1) الطعم: القدرة.
(29 - السيرة 3) (*)
فقال:
أخبرني راشد مولى حبيب بن أبي أوس الثقفي، عن مولاه حبيب، عن عمرو ابن العاص نحو
ذلك.
قلت: كذلك رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن راشد، عن مولاه حبيب [
قال: ] حدثني عمرو بن العاص من فيه، فذكر ما تقدم في سنة خمس بعد مقتل أبي رافع.
وسياق الواقدي أبسط وأحسن.
قال الواقدي عن شيخه عبدالحميد: فقلت ليزيد بن أبي حبيب: وقت لك متى قدم عمرو
وخالد ؟ قال: لا، إلا أنه قال قبل الفتح.
قلت: فإن أبي فأخبرني أن عمرا وخالدا وعثمان بن طلحة قدموا لهلال صفر سنة ثمان.
وفي صحيح مسلم ما يشهد لسياق إسلامه وكيفية حسن صحبته لرسول الله صلى الله عليه
وسلم مدة حياته، وكيف مات وهو يتأسف على ما كان منه في مدة مباشرته الامارة بعده
عليه الصلاة والسلام، وصفة موته رضى الله عنه.
طريق إسلام خالد بن الوليد قال الواقدي: حدثني يحيى بن المغيرة بن عبدالرحمن بن
الحارث بن هشام، قال سمعت أبي يحدث عن خالد بن الوليد قال: لما أراد الله بي ما
أراد من الخير قذف في قلبي الاسلام وحضرني رشدي، فقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها
على محمد صلى الله عليه وسلم، فليس في مواطن أشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني
موضع في غير شئ، وأن محمدا سيظهر.
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيل من المشركين
فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان، فقمت بإزائه وتعرضت له،
فصلى بأصحابه الظهر أمامنا فهممنا أن نغير عليهم ثم لم يعزم لنا - وكانت فيه خيرة
- فأطلع على
ما
في أنفسنا من الهم به فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك منا موقعا
وقلت: الرجل ممنوع، فاعتزلنا، وعدل عن سنن (1) خيلنا وأخذ ذات اليمين.
فلما صالح قريشا بالحديبية ودافعته قريش بالرواح قلت في نفسي: أي شئ بقى ؟ أين
أذهب ؟ إلى النجاشي ؟ فقد اتبع محمدا وأصحابه عنده آمنون، فأخرج إلى هرقل فأخرج من
ديني إلى نصرانية أو يهودية ؟ فأقيم في عجم (2)، فأقيم في داري بمن بقى ؟ فأنا في
ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في عمرة القضية [ فتغيبت ولم أشهد
دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة
القضية (3) ] فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتابا فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الاسلام وعقلك عقلك ! ومثل الاسلام جهله
أحد ؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك وقال: أين خالد ؟ فقلت: يأتي
الله به، فقال: " مثله جهل الاسلام ؟ ولو كان جعل نكايته وحده مع المسلمين
كان خيرا له، ولقد مناه على غيره " فاستدرك يا أخي ما قد فاتك [ من ] مواطن
صالحة.
قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج وزادني رغبة في الاسلام، وسرني سؤال رسول الله
صلى الله عليه وسلم عني، وأرى في النوم كأني في بلاد ضيقة مجدبة فخرجت في بلاد
خضراء واسعة، فقلت: إن هذه لرؤيا.
فلما أن قدمت المدينة قلت: لاذكرنها لابي بكر، فقال: مخرجك الذي هداك الله
للاسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك.
قال: فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب أما ترى
__________
(1) السنن: الجهة.
(2) ا: مع عجم.
(3) سقط من ا.
(*)
ما
نحن فيه ؟ إنما نحن كأضراس، وقد ظهر محمد على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمد
واتبعناه فإن شرف محمد لنا شرف ؟ فأبى أشد الاباء فقال: لو لم يبق غيري ما اتبعته
أبدا.
فافترقنا وقلت: هذا رجل قتل أخوه وأبوه ببدر.
فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل ما قلت لصفوان بن أمية، فقال لي مثل ما قال
صفوان بن أمية.
قلت: فاكتم علي.
قال: لا أذكره.
فخرجت لي منزلي فأمرت براحلتي فخرجت بها، إلى أن لقيت عثمان بن طلحة فقلت: إن هذا
لي صديق، فلو ذكرت له ما أرجو.
ثم ذكرت من قتل من آبائه، فكرهت أن أذكره، ثم قلت: وما علي وأنا راحل من ساعتي.
فذكرت له ما صار الامر إليه، فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحر لو صب فيه ذنوب من
ماء لخرج، وقلت له نحوا مما قلت لصاحبي، فأسرع الاجابة، وقلت له: إني غدوت اليوم
وأنا أريد
أن أغدو، وهذه راحلتي بفج مناخة.
قال: فاتعدت أنا وهو يأجج، إن سبقني أقام وأن سبقته أقمت عليه.
قال: فأدلجنا سحرا فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج، فغدونا حتى انتهينا إلى
الهدة فنجد عمرو بن العاص بها، قال: مرحبا بالقوم.
فقلنا: وبك.
فقال: إلى أين مسيركم ؟ فقلنا: وما أخرجك ؟ فقال: وما أخرجكم ؟ قلنا: الدخول في
الاسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: وذاك الذي أقدمني.
فاصطحبنا جميعا حتى دخلنا المدينة، فأنخنا بظهر الحرة ركابنا فأخبر بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فسر بنا، فلبست من صالح ثيابي ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلقيني أخي: فقال أسرع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بك
فسر بقدومك وهو ينتظركم.
فأسرعنا
المشي فاطلعت عليه فما زال يتبسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد علي
السلام بوجه طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال: " تعال " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحمد لله
الذي هداك قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك إلا إلى خير " قلت: يا رسول
الله إني قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معاندا للحق فادع الله أن
يغفرها لي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الاسلام يجب ما كان قبله " قلت:
يا رسول الله على ذلك.
قال: " اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صد عن سبيل الله
".
قال خالد: وتقدم عثمان وعمرو فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، قال: والله ما كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يعدل بي أحدا من أصحابه فيما حزبه.
سرية شجاع بن وهب الاسدي إلى نفر من هوازن
قال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، عن عمر بن
الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا
إلى جمع من هوازن، وأمره أن يغير عليهم، فخرج وكان يسير الليل ويكمن النهار حتى
جاءهم وهم غارون، وقد أوعز إلى أصحابه ألا تمعنوا في الطلب، فأصابوا نعما كثيرا
وشاء فاستاقوا ذلك حتى إذا قدموا المدينة فكانت سهامهم خمسة عشر بعيرا كل رجل وزعم
غيره أنهم أصابوا سبيا أيضا، وأن الامير اصطفى عنهم جارية وضيئة ثم قدم أهلوهم
مسلمين، فشاور النبي صلى الله عليه وسلم أميرهم في ردهن إليهم، فقال: نعم فردوهن،
وخير الجارية التي عنده فاختارت المقام عنده.
وقد تكون هذه السرية هي المذكورة فيما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن
ابن
عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد فكان فيهم عبدالله بن عمر،
قال فأصبنا إبلا كثيرا فبلغت سهامنا اثنى عشر بعيرا ونفلنا رسول لله (1) صلى الله
عليه وسلم بعيرا بعيرا.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك، ورواه مسلم أيضا من حديث الليث ومن حديث عبدالله
كلهم عن نافع عن ابن عمر بنحوه.
وقال أبو داود: حدثنا هناد، حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى نجد فخرجت فيها فأصبنا نعما
كثيرا، فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان، ثم قدمنا على رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقسم بيننا غنيمتنا، فأصاب كل رجل منا أثنا عشر بعيرا بعد الخمس، وما
حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع،
فكان لكل منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله.
سرية كعب بن عمير إلى بني قضاعة من أرض الشام قال الواقدي: حدثنا محمد بن عبدالله
[ عن (2) ] الزهري، قال: بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا حتى انتهوا إلى ذات
أطلاح من الشام، فوجدوا جمعا من جمعهم كثيرا، فدعوهم إلى الاسلام فلم يستجيبوا لهم
ورشقوهم بالنبل، فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد
القتال حتى قتلوا، فارتث (3) منهم رجل جريح في القتلى، فلما أن برد عليه الليل
تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم بالبعثة إليهم فبلغه أنهم ساروا
إلى موضع آخر.
__________
(1) البخاري: ونفلنا بعيرا بعيرا.
بالبناء للمجهول.
(2) من ا.
(3) ارتث: جرح وبه رمق.
(*)
غزوة
مؤتة وهي سرية زيد بن حارثة في نحو من ثلاثة آلاف إلى أرض البلقاء من أطراف (1)
الشام قال محمد بن إسحاق بعد قصة عمرة القضية: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمدينة بقية ذي الحجة - وولى تلك الحجة المشركون - والمحرم وصفرا وشهري ربيع
وبعث في جمادي الاولى بعثه إلى الشام الذين أصيبوا بمؤتة.
فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادي الاولى من سنة ثمان، واستعمل عليهم زيد بن
حارثة، وقال: " إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد
الله بن رواحة على الناس ".
فتجهز الناس ثم تهيأوا للخروج وهم ثلاثة آلاف.
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمرو بن الحكم، عن أبيه قال: جاء النعمان
بن فنحص اليهودي فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد فجعفر بن أبي
طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبدالله بن رواحة
فليرتض المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم ".
فقال النعمان: أبا القاسم إن كنت نبيا فلو سميت من سميت قليلا أو كثيرا أصيبوا
جميعا، إن الانبياء من بني إسرائيل كانوا إذا سموا الرجل على القوم فقالوا: إن
أصيب فلان
__________
(1) غير ا: من أرض.
(*)
ففلان،
فلو سموا مائة أصيبوا جميعا.
ثم جعل يقول لزيد: اعهد فإنك لا ترجع أبدا، إن كان محمد نبيا.
فقال زيد: أشهد أنه نبي صادق بار صلى الله عليه وسلم.
رواه البيهقي.
* * * قال ابن إسحاق: فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه
وسلم وسلموا عليهم، فلما ودع عبدالله بن رواحة [ مع (1) ] من ودع بكى، فقالوا: ما
يبكيك يابن رواحة.
فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار " وإن منكم إلا واردها كان
على ربك حتما مقضيا " (2) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ !.
فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين.
فقال عبدالله بن رواحة: لكنني أسأل الرحمن مغفرة * وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا (3)
أو طعنة بيدي حران مجهزة * بحربة تنفذ الاحشاء والكبدا (4) حتى يقال إذا مروا على
جدثي * أرشده الله من غاز وقد رشدا قال ابن إسحاق: ثم إن القوم تهيأوا للخروج،
فأتى عبدالله بن رواحة رسول الله
صلى الله عليه وسلم فودعه ثم قال: فثبت الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا
كالذي نصروا إني تفرست فيك الخير نافلة * الله يعلم أني ثابت البصر
__________
(1) ليست في ا.
(2) سورة مريم الآية 71.
(3) الفرغ: السعة.
(4) الحران: الشديد.
(*)
أنت
الرسول فمن يحرم نوافله * والوجه منه فقد أزرى به القدر قال بن إسحاق: ثم خرج
القوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيعهم، حتى إذا ودعهم وانصرف، قال
عبدالله بن رواحة: خلف السلام على امرئ ودعته * في النخل خير مشيع وخليل * * * [
وقال الامام أحمد: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا أبو خالد الاحمر، عن الحجاج، عن
الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مؤتة
فاستعمل زيدا، فإن قتل زيد فجعفر، فإن قتل جعفر فابن رواحة، فتخلف ابن رواحة فجمع
مع النبي صلى الله عليه وسلم، فرآه فقال: " ما خلفك ؟ " فقال أجمع معك.
قال: " لغدوة أو روحة خير من الدنيا وما فيها (1) " ].
وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة
(2)، قال: فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة
ثم ألحقهم.
قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه فقال: " ما منعك أن تغدو مع
أصحابك ؟ " فقال: أردت أن أصلي معك الجمعة ثم ألحقهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أنفقت ما في الارض جميعا
ما أدركت غدوتهم ".
وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن أبي معاوية، ثم قال: لا نعرفه إلا من هذا
الوجه.
__________
(1) هذا الجزء مؤخر في ا.
(2) ا: يوم جمعة.
(*)
وقال
شعبة: لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث - وعدها شعبة - وليس هذا الحديث منها
(1).
[ قلت: والحجاج بن أرطاة في روايته نظر والله أعلم (2) ] والمقصود من إيراد هذا
الحديث أنه يقتضي أن خروج الامراء إلى مؤتة كان في يوم جمعة.
والله أعلم.
* * * قال ابن إسحاق: ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد
نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليه من لخم وجذام والقين
وبهراء وبلى مائة ألف منهم عليهم رجل من بلى، ثم أحد إراشة يقال له مالك بن زافلة.
وفي رواية يونس عن ابن إسحاق: فبلغهم أن هرقل نزل بمآب في مائة ألف من الروم ومائة
ألف من المستعربة.
[ وقيل: كان الروم مائتي ألف ومن أعداهم خمسون ألفا.
وأقل ما قيل: إن الروم كانوا مائة ألف ومن العرب خمسون ألفا.
حكاه السهيلي (3) ] فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين ينظرون في
أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا، فإما أن
يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.
قال: فشجع الناس عبدالله بن رواحة وقال: يا قوم والله إن التي تكرهون للتي خرجتم
تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة،
__________
(1) غير ا: " وهذا الحديث قد رواه الترمذي من حديث أبي معاوية عن الحجاج -
وهو ابن أرطاة.
ثم علله الترمذي بما حكاه عن شعبة أنه قال: لم يسمع الحكم عن مقسم إلا خمسة أحاديث
وليس هذا منها ".
(2) ليس في ا.
(3) من ا.
(*)
ما
نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين،
إما ظهور وإما شهادة.
قال: فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة.
فمضى الناس.
فقال عبدالله بن رواحة في محبسهم ذلك: جلبنا الخيل من أجأ وفرع * تعر من الحشيش
إلى العكوم (1) حذوناها من الصوان سبتا * أزل كأن صفحته أديم (2) أقامت ليلتين على
معان * فأعقب بعد فترتها جموم (3) فرحنا والجياد مسومات * تنفس في مناخرها سموم
(4) فلا وأبى مآب لنأتينها * وإن كانت بها عرب وروم فعبأنا أعنتها فجاءت * عوابس
والغبار لها بريم (5) بذي لجب كأن البيض فيه * إذا برزت قوانسها النجوم (6) فراضية
المعيشة طلقتها * أسنتنا فتنكح أو تئيم (7) قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبي بكر
أنه حدث عن زيد بن أرقم قال: كنت (8) يتيما لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج بي
في سفره ذلك مرد في
__________
(1) أجأ: أحد جبلي طئ والآخر سلمى.
وفرع: أطول جبل بأجأ وأوسطه.
وتعر: تطعم وتشبع.
والرواية عند السهيلي: تقر.
بالقاف، وقال: تقر أي يجمع بعضها إلى بعض.
والعكوم: جمع عكم وهو الجانب.
(2) حذوناها: جعلنا لها نعالا من حديد.
والصوان: حجارة ملس، والسبت: النعال التي تصنع
من الجلود المدبوغة.
والازل: الاملس.
والاديم: الجلد.
(3) معان: موضع بالشام.
والفترة: السكون والضعف.
والجموم: اجتماع القوة.
(4) سموم، بضم السين، جمع سم وهما عرقان في خيشوم الفرس.
والسموم بفتح السين: ريح حارة.
وفي ابن هشام: في مناخرها السموم.
(5) البريم: كل ما فيه لونان مختلطان، والدمع المختلط بالاثمد.
(6) اللجب: اختلاط الاصوات من كثرة الجيش.
والقوانس: جمع قونس وهو أعلى بيضة الحديد.
(7) راضية المعيشة: العيشة اللينة المطمئنة.
تئيم: تبقى دون زوج - يريد أنهم قد تجافوا عن الدعة والراحة.
(8) أ: كان.
(*)
على
حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلتئذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه: إذا أدنيتني
وحملت رحلي * مسيرة أربع بعد الحساء (1) فشأنك أنعم وخلاك ذم * ولا أرجع إلى أهلى
ورائي (2) وجاء المسلمون وغادروني * بأرض الشام مشتهى الثواء (3) وردك كل ذي نسب
قريب * إلى الرحمن منقطع الاخاء هنالك لا أبالي طلع بعل * ولا نخل أسافلها رواء
(4) قال: فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة وقال: ما عليك يالكع أن يرزقني الله
الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل ؟ ثم قال عبدالله بن رواحة في بعض سفره ذلك وهو
يرتجز: يا زيد زيد اليعملات الذبل * تطاول الليل هديت فانزل (5) * * * قال ابن
إسحاق: ثم مضى الناس، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم
والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو وانحاز
المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة فالتقى الناس عندها، فتعبي لهم المسلمون، فجعلوا
على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلا من
الانصار يقال له عباية بن مالك.
__________
(1) الحساء: سهل من الارض يستنقع فيه الماء، أو غلظ فوقه رمل يجمع ماء المطر.
(2) شأنك أنعم: يريد أنه يريحها ولا يكلفها عناء السفر بعد ذلك.
ولا أرجع: مجزوم على الدعاء.
(3) مشتهى الثواء: لا يريد رجوعا.
وقد روى: مستنهى الثواء.
قال السهيلي: مستنهى الثواء: مستفعل من النهاية والانتهاء، أي حيث انتهى مثواه.
(4) البعل: ما يشرب بعروقه من الارض.
وأسافلها رواء: كذا في ابن هشام، وغير أ.
وفي أ: أساقيها ورائي.
(5) اليعملات: النوق السريعة.
والذبل: التي أوهنها السير.
(*)
وقال
الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: شهدت مؤتة فلما دنا
منا المشركون رأينا مالا قبل لاحد به من العدة والسلاح والكراع والديباج والحرير
والذهب، فبرق بصرى، فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة كأنك ترى جموعا كثيرة ؟
قلت: نعم.
قال: إنك لم تشهد بدرا معنا، إنا لم ننصر بالكثرة.
رواه البيهقي.
قال إين إسحاق: ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم، ثم أخذها جعفر فقاتل القوم حتى قتل، وكان
جعفر أول [ رجل من ] (1) المسلمين عقر في الاسلام.
وقال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، حدثني
أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال:
والله لكأني أنظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ثم
قاتل القوم حتى قتل وهو يقول: ياحبذا الجنة واقترابها * طيبة وبارد شرابها والروم
روم قد دنا عذابها * [ كافرة بعيدة أنسابها ] (2) * علي إن لاقيتها ضرابها * وهذا
الحديث قد رواه أبو داود من حديث أبي إسحاق ولم يذكر الشعر.
وقد استدل به من جوز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به العدو، كما يقول أبو حنيفة في
الاغنام إذا لم تتبع في السير ويخشى من لحوق العدو وانتفاعهم بها أنها تذبح وتحرق
ليحال (3) بينهم وبين ذلك.
والله أعلم.
قال السهيلي: ولم ينكر على جعفر أحد فدل على جوازه إلا إذا أمن أخذ العدو له،
__________
(1) من أ.
(2) ليست في أ (3) أ: فيحال.
(*)
ولا
يدخل ذلك في النهي عن قتل الحيوان عبثا.
قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر أخذ اللواء بيمينه فقطعت،
فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه
الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء، ويقال: إن رجلا من الروم ضربه يومئذ
ضربة فقطعه نصفين.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد،
قال: حدثني أبي الذي أرضعني، وكان أحد بني مرة بن عوف، قال: فلما قتل جعفر أخذ
عبدالله بن رواحة الراية ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض
التردد ويقول: أقسمت يا نفس لتنزلنه * لتنزلن أو لتكرهنه إن أجلب الناس وشدوا
الرنه * مالى أراك تكرهين الجنه !
قد طال ما قد كنت مطمئنه * هل أنت إلا نطفة في شنه وقال أيضا: يا نفس إن لا تقتلي
تموتي * هذا حمام الموت قد صليت وما تمنيت فقد أعطيت * إن تفعلي فعلهما هديت يريد
صاحبيه زيدا وجعفرا، ثم نزل.
فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم، فقال: شد بهذا صلبك فإنك قد لقيت في أيامك
هذه ما لقيت.
فأخذه من يده فانتهش منه نهشة.
ثم سمع الحطمة (1) في ناحية الناس فقال: وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه من يده ثم أخذ
سيفه ثم تقدم، فقاتل حتى قتل رضى الله عنه.
قال: ثم أخذ الراية ثابت ين أقرم أخو بني العجلان.
فقال: يا معشر المسلمين
__________
(1) الحطمة: النزال والمضاربة.
(*)
اصطلحوا
على رجل منكم، قالوا: أنت.
قال: ما أنا بفاعل، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم
وخاشى (1) بهم، ثم انحاز وانحيز عنه حتى انصرف بالناس.
* * * قال ابن إسحاق: ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما
بلغني -: " أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم أخذها جعفر
فقاتل بها حتى قتل شهيدا " قال: ثم صمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
تغيرت وجوه الانصار وظنوا أنه قد كان في عبدالله بن رواحة بعض ما يكرهون.
ثم قال: أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيدا.
ثم قال: لقد رفعوا إلى الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير
عبدالله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا ؟ فقيل لي: مضيا
وتردد عبدالله بن رواحة بعض التردد ثم مضى.
هكذا ذكر ابن إسحاق هذا منقطعا.
وقد قال البخاري: حدثنا أحمد بن واقد، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن حميد بن
هلال، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وابن رواحة
للناس قبل أن يأتيهم خبر، فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم
أخذها ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان.
حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم.
تفرد به البخاري.
ورواه في موضع آخر وقال فيه وهو على المنبر: " وما يسرهم أنهم عندنا ".
__________
(1) خاشي: حجز بينهم وبين الروم.
(*)
وقال
البخاري: حدثنا أحمد بن أبي بكر، حدثنا مغيرة بن عبدالرحمن المخزومي (1)، وليس
بالحزامي، عن عبدالله بن سعيد، عن نافع، عن عبدالله بن عمر، قال: أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثة، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة.
قال عبدالله: كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في
القتلى، ووجدنا في جسده بضعا وتسعين من ضربة ورمية.
تفرد به البخاري أيضا.
وقال البخاري أيضا: حدثنا أحمد، حدثنا ابن وهب، عن عمرو [ عن ] ابن أبي هلال [ هو
سعيد بن أبي هلال الليثي (2) ] قال: وأخبرني نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على
جعفر بن أبي طالب يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها شئ في
دبره.
وهذا أيضا من أفراد البخاري.
ووجه الجمع بين هذه الرواية والتي قبلها أن ابن عمر اطلع على هذا العدد، وغيره
اطلع على أكثر من ذلك، أو أن هذه في قبله أصيبها قبل أن يقتل، فلما صرع إلى الارض
ضربوه أيضا ضربات في ظهره، فعد ابن عمر ما كان في قبله وهو من وجوه الاعداء قبل أن
يقتل رضى الله عنه.
ومما يشهد لما ذكره ابن هشام من قطع يمينه وهي ممسكة اللواء ثم شماله، ما رواه
البخاري: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا عمر بن علي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن
عامر، قال: كان ابن عمر إذا حيى ابن جعفر قال: السلام عليك يابن ذي الجناحين.
__________
(1) وليس للمخزومي في البخاري سوى هذا الحديث، وهو بطريق المتابعة عنده.
وكان فقيه أهل المدينة بعد مالك.
إرشاد الساري 6 / 383.
(2) ليست في أ.
(*)
ورواه
أيضا في المناقب، والنسائي من حديث يزيد بن هرون، عن إسماعيل بن أبي خالد.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن قيس بن أبي حازم، قال:
سمعت خالد بن الوليد يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقى في يدي إلا
صفيحة يمانية.
ثم رواه عن محمد بن المثنى، عن يحيى عن إسماعيل، حدثني قيس، سمعت خالد ابن الوليد
يقول: لقد دق في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وصبرت في يدي صفيحة يمانية انفرد به
البخاري.
* * *
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: حدثنا أبو نصر بن قتادة، حدثنا أبو عمرو مطر، حدثنا
أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، حدثنا (1) سليمان بن حرب، حدثنا الاسود ابن
شيبان، عن خالد بن سمير، قال: قدم علينا عبدالله بن رباح الانصاري، وكانت الانصار
تفقهه، فغشيه الناس فغشيته فيمن غشيه، فقال: حدثنا أبو قتادة فارس رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الامراء وقال: عليكم زيد بن حارثة.
فإن (2) أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله ابن رواحة، قال: فوثب جعفر وقال:
يا رسول الله ما كنت أرغب أن تستعمل زيدا (3) علي.
قال: امض فإنك لا تدري أي ذلك خير.
فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فأمر
فنودي:
__________
(1) أ: أنبأنا.
(2) غير أ: وقال إن.
(3) أ: أن يستعمل زيد.
(30 - السيرة 3) (*)
الصلاة
جامعة.
فاجتمع الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أخبركم عن جيشكم هذا،
إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد شهيدا.
فاستغفر له، ثم أخذ اللواء جعفر فشد على القوم حتى قتل شهيدا، شهد له بالشهادة
واستغفر له، ثم أخذ اللواء عبدالله بن رواحة فأثبت قدميه حتى قتل شهيدا فاستغفر
له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الامراء هو أمر نفسه (1).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم إنه سيف من سيوفك أنت (2)
تنصره " فمن يومئذ سمى خالد سيف الله.
ورواه النسائي من حديث عبدالله بن المبارك، عن الاسود بن شيبان به نحوه، وفيه
زيادة حسنة وهو أنه عليه السلام لما اجتمع إليه الناس قال: باب خير باب خير.
وذكر الحديث.
وقال الواقدي: حدثني عبد الجبار بن عمارة بن غزية، عن عبدالله بن أبي بكر، عن عمرو
بن حزم، قال: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر
وكشف الله له ما بينه وبين الشام فهو ينظر إلى معتركهم، فقال: أخذ الراية زيد ابن
حارثة فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت، وحبب إليه الدنيا، فقال:
الآن حين استحكم الايمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا ! فمضى قدما حتى استشهد
فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: استغفروا له، فقد دخل الجنة وهو
شهيد.
قال الواقدي: وحدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: لما قتل زيد أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فحبب
إليه الحياة وكره إليه الموت ومناه الدنيا، فقال: الآن حين استحكم الايمان في قلوب
المؤمنين يمنيني الدنيا ! ثم مضى قدما حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله
عليه
__________
(1) أ: أمير نفسه.
(2) أ: فأنت.
(*)
وسلم.
وقال: استغفروا لاخيكم فإنه شهيد دخل الجنة، وهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت
حيث شاء من الجنة.
قال: ثم أخذ الراية عبدالله بن رواحة فاستشهد: ثم دخل الجنة معترضا فشق ذلك على
الانصار، فقيل: يا رسول الله ما اعتراضه ؟ قال: لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه
فتشجع واستشهد ودخل الجنة.
فسرى عن قومه.
* * * قال الواقدي: وحدثني عبدالله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه قال: لما أخذ
خالد بن الوليد الراية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن حمى الوطيس.
قال الواقدي: فحدثني العطاف بن خالد، قال: لما قتل ابن رواحة مساء بات خالد ابن
الوليد فلما أصبح غدا وقد جعل مقدمته ساقة وساقته مقدمة وميمنته ميسرة وميسرته
ميمنة.
قال: فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا
وانكشفوا منهزمين، قال: فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم.
وهذا يوافق ما ذكره موسى بن عقبة رحمه الله في مغازيه، فإنه قال، بعد عمرة
الحديبية: ثم صدر (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فمكث بها ستة
أشهر، ثم إنه بعث جيشا إلى مؤتة وأمر عليهم زيد بن حارثة وقال: إن أصيب فجعفر بن
أبي طالب أميرهم، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم، فانطلقوا حتى إذا لقوا
ابن أبي سبرة الغساني بمؤتة وبها جموع (2) من نصارى العرب والروم، بها تنوخ
وبهراء، فأغلق ابن أبي سبرة دون المسلمين الحصن ثلاثة أيام، ثم التقوا (3) على
__________
(1) أ: ثم صد.
(2) أ: جمع.
(3) أ: ثم خرجوا فالتقوا.
(*)
زرع
(1) أحمر فاقتتلوا قتالا شديدا، فأخذ اللواء زيد بن حارثة فقتل، ثم أخذه جعفر
فقتل، ثم أخذه عبدالله بن رواحة فقتل، ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله صلى
الله عليه وسلم على خالد بن الوليد المخزومي فهزم الله العدو وأظهر المسلمين.
قال: وبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمادي الاولى - يعني من سنة ثمان -.
قال موسى بن عقبة: وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مر علي جعفر في
الملائكة يطير كما يطيرون وله جناحان.
قال: وزعموا - والله أعلم - أن يعلى بن أمية قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت فأخبرني وإن شئت
أخبرك.
قال: أخبرني يا رسول الله.
قال: فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم كله ووصفه لهم، فقال: والذي بعثك
بالحق ما تركت من حديثهم حرفا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله رفع لي الارض حتى رأيت معتركهم
".
فهذا السياق فيه فوائد كثيرة ليست عند ابن إسحاق، وفيه مخالفة لما ذكره ابن إسحاق
من أن خالدا إنما حاشى بالقوم حتى تخلصوا من الروم وعرب النصارى فقط.
وموسى بن عقبة والواقدي مصرحان بأنهم هزموا جموع (2) الروم والعرب الذين معهم، وهو
ظاهر الحديث المتقدم عن أنس مرفوعا: " ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح
الله على يديه ".
رواه البخاري، وهذا هو الذي رجحه ومال إليه الحافظ البيهقي بعد حكاية القولين، لما
ذكرناه من الحديث.
__________
(1) أ: ردع.
وهو الزعفران.
(2) أ: جميع.
(*)
[
قلت: ويمكن الجمع بين قول ابن إسحاق وبين قول الباقين، وهو أن خالدا لما أخذ
الراية حاشى بالقوم المسلمين حتى خلصهم من أيدي الكافرين من الروم والمستعربة.
فلما أصبح وحول الجيش ميمنة وميسرة ومقدمة وساقة، كما ذكره الواقدي توهم الروم أن
ذلك عن مدد جاء إلى المسلمين، فلما حمل عليهم خالد هزموهم بإذن الله والله أعلم ]
(1).
* * * وقد قال (2) ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر، عن عروة قال: لما أقبل أصحاب
مؤتة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه [ قال: ولقيهم الصبيان
يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان
فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر.
فأتى بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه (3) ] فجعلوا يحثون عليهم التراب
ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء
الله عزوجل).
وهذا مرسل من هذا الوجه وفيه غرابة.
[ وعندي أن ابن إسحاق قد وهم في هذا السياق فظن أن هذا الجمهور الجيش، وإنما كان
الذين فروا حين التقى الجمعان، وأما بقيتهم فلم يفروا بل نصروا، كما أخبر بذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وهو على المنبر في قوله: ثم أخذ الراية سيف
من سيوف الله ففتح الله على يديه، فما كان المسلمون ليسمونهم فرارا بعد ذلك، وإنما
تلقوهم إكراما وإعظاما، وإنما كان التأنيب وحثى التراب للذين فروا وتركوهم هنالك،
وقد كان فيهم عبد الله بن عمر رضى الله عنهما ] (4).
[ وقد (5) ] قال الامام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا زهير، حدثنا يزيد بن أبي زياد،
__________
(1) سقطت من أ.
(2) أ: لكن قال.
(3) من ابن هشام.
(4) سقطت من أ.
(5) من أ.
(*)
عن
عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن عبدالله بن عمر، قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من
الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة قتلنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا.
فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: من القوم ؟ قال: قلنا: نحن الفرارون (1).
فقال: " لا بل أنتم العكارون (2) أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ".
قال: فأتيناه حتى قبلنا يده.
ثم رواه عن غندر عن شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن ابن أبي ليلى عن ابن عمر، قال:
كنا في سرية ففررنا فأردنا أن نركب البحر، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلنا: يا رسول الله نحن الفرارون.
فقال: لا بل أنتم العكارون.
ورواه [ أبو داود (3) و ] الترمذي وابن ماجه من حديث يزيد بن أبي زياد، وقال
الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديثه.
وقال أحمد (4): حدثنا إسحاق بن عيسى وأسود بن عامر، قالا: حدثنا شريك، عن يزيد بن
أبي زياد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم في سرية، فلما لقينا العدو انهزمنا في أول غادية، فقدمنا المدينة في نفر
ليلا، فاختفينا ثم قلنا: لو خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذرنا
إليه.
فخرجنا إليه فلما لقيناه (5) قلنا: نحن الفرارون يا رسول الله.
قال: " بل أنتم العكارون وأنا فئتكم " قال الاسود: " وأنا فئة كل
مسلم (6) ".
قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عامر بن
__________
(1) غيرا: فرارون.
(2) غيرا: الكرارون.
(3) من.
(4) أ ثم قال أحمد.
(5) المطبوعة: ثم التقيناه.
وهو تحريف.
(6) ا: لكل مسلم.
(*)
عبد
الله بن الزبير، أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لامرأة سلمة بن
هشام بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومع المسلمين ؟ قالت: ما يستطيع أن يخرج، كلما خرج صاح به الناس: يا فرار فررتم في
سبيل الله، حتى قعد في بيته ما يخرج وكان في غزاة مؤتة.
قلت: لعل طائفة منهم فروا لما عاينوا كثرة جموع [ الروم، وكانوا على أكثر من أضعاف
الاضعاف فإنهم كانوا ثلاثة آلاف وكان (1) ] العدو على ما ذكروه مائتي ألف، ومثل
هذا يسوغ الفرار على ما قد تقرر، فلما فر هؤلاء ثبت باقيهم وفتح الله عليهم
وتخلصوا من أيدي أولئك وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، كما ذكره الواقدي وموسى بن
عقبة من قبله.
و [ مما (2) ] يؤيد ذلك أيضا ويزيده قوة ويشهد له (3) بالصحة ما رواه الامام أحمد:
حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني صفوان بن عمرو، عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير، عن
أبيه، عن عوف بن مالك الاشجعي قال: خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة من المسلمين في
غزوة مؤتة، ووافقني مددي (4) من اليمن ليس معه غير سيفه، فنحر رجل من المسلمين
جزورا فسأله المددي طابقة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرقة، ومضينا فلقينا
جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغرى
بالمسلمين، وقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه (5) فخر وعلاه فقتله،
وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله للمسلمين بعث
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(2) من أ.
(3) غير أ: ويؤيد ذلك ويشاكله بالصحة.
(4) الاصل: مدوى وهو تحريف.
والمددى: يعني رجلا من المدد الذين جاءوا يمدون المسلمين.
(5) غير أ: فعرقبه.
(*)
إليه
خالد بن الوليد فأخذ من السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ؟ قال: بلى ولكني استكثرته.
فقلت: لتردنه إليه أو لاعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يرد
عليه.
قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصصت عليه قصة المددي وما
فعل خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا خالد رد عليه ما أخذت منه
" قال عوف: فقلت: دونك يا خالد ألم أف لك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: وما ذاك ؟ فأخبرته، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " يا خالد
لا ترد عليه، هل أنتم تاركوا أمرائي ؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره ".
قال الوليد: سألت ثورا عن هذا الحديث، فحدثني عن خالد بن معدان، عن جبير ابن نفير،
عن عوف بنحوه.
ورواه مسلم وأبو داود من حديث جبير بن نفير عن عوف بن مالك به نحوه.
وهذا يقتضي أنهم غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم وقتلوا من أمرائهم.
وقد تقدم فيما رواه البخاري أن خالدا رضى الله عنه قال: اندقت في يدي يوم مؤتة
تسعة أسياف، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية.
وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا، ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم.
وهذا وحده دليل مستقل والله أعلم.
وهذا هو اختيار موسى بن عقبة والواقدي والبيهقي، وحكاه ابن هشام عن الزهري.
قال البيهقي رحمه الله: اختلف أهل المغازي في فرارهم وانحيازهم، فمنهم من ذهب إلى
ذلك ومنهم من زعم أن المسلمين ظهروا على المشركين وأن المشركين انهزموا.
قال: وحديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ثم أخذها خالد ففتح
الله عليه " يدل على ظهورهم عليهم.
والله أعلم.
قلت:
وقد ذكر ابن إسحاق أن قطبة بن قتادة العذري - وكان رأس ميمنة المسلمين - حمل على
مالك بن زافلة قال ابن هشام (1): ويقال رافلة.
وهو أمير أعراب النصارى فقتله، وقال يفتخر بذلك: طعنت ابن زافلة بن الاراش * برمح
مضى فيه ثم انحطم ضربت على جيده ضربة * فمال كما مال غصن السلم وسقنا نساء بني عمه
* غداة رقوقين سوق النعم (2) وهذا يؤيد ما نحن فيه، لان من عادة أمير الجيش إذا
قتل أن يفر أصحابه، ثم إنه صرح في شعره بأنهم سبوا من نسائهم، وهذا واضح فيما
ذكرناه.
والله أعلم.
* * * وأما ابن إسحاق فإنه ذهب إلى أنه لم يكن إلا المخاشاة والتخلص من أيدي
الروم، وسمى هذا نصرا وفتحا، أي باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو بهم وتراكمهم
وتكاثرهم وتكاثفهم عليهم، وكان مقتضى العادة (3) أن يصطلموا (4) بالكلية، فلما
تخلصوا منهم وانحازوا عنهم كان هذا غاية المرام في هذا المقام.
وهذا محتمل، لكنه خلاف الظاهر من قوله عليه الصلاة والسلام: " ففتح الله
عليهم ".
والمقصود أن ابن إسحاق يستدل على ما ذهب إليه فقال: وقد قال فيما كان أمر الناس
وأمر خالد بن الوليد ومخاشاته بالناس وانصرافه بهم قيس بن المحسر اليعمري يعتذر
مما صنع يومئذ وصنع الناس يقول: فوالله لا تنفك نفسي تلومني * على موقفي والخيل
قابعة قبل (5)
__________
(1) من.
(2) رقوقين: موضع.
(3) غيرا: فكان مقتضى العادات.
(4) المطبوعة: يصطلحوا.
وهو تحريف.
(5) قابعة: منقبضة.
وقبل جمع أقبل وقبلاء وهو الذي يميل عينه في النظر إلى جهة العين الاخرى.
(*)
وقفت
بها لا مستحيزا فنافذا * ولا مانعا من كان حم له القتل (1) على أنني آسيت نفسي
بخالد * ألا خالد في القوم ليس له مثل وجاشت إلى النفس من نحو جعفر * بمؤتة إذ لا
ينفع النابل النبل وضم إلينا حجزتيهم كليهما * مهاجرة لا مشركون ولا عزل قال ابن
إسحاق: فبين قيس ما اختلف فيه الناس من ذلك في شعره، أن القوم حاجزوا وكرهوا
الموت، وحقق انحياز خالد بمن معه.
قال ابن هشام: وأما الزهري فقال - فيما بلغنا عنه - أمر المسلمون عليهم خالد ابن
الوليد ففتح الله عليهم، وكان عليهم حتى رجع إلى المدينة (2).
فصل قال ابن إسحاق: حدثني عبدالله بن أبي بكر، عن أم عيسى الخزاعية، عن أم جعفر
بنت محمد بن جعفر بن أبي طالب، عن جدتها أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر
وأصحابه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين منا (3) وعجنت
عجيني وغسلت بني ودهنتهم ونظفتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
ائتني ببني جعفر " فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه فقلت: يا رسول الله بأبي أنت
وأمي ! ما يبكيك ؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شئ ؟ قال: " نعم أصيبوا هذا اليوم
" قالت: فقمت أصيح، واجتمع إلي النساء، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى أهله فقال: " لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا
بأمر صاحبهم ".
__________
(1) مستحيزا: متحيزا إلى طائفة.
(2) ابن هشام: حتى قفل إلى النبي.
(3) المنا: الرطل الذي يوزن به، تعني أربعين رطلا من دباغ.
(*)
وهكذا
وراه الامام أحمد من حديث ابن إسحاق، ورواه ابن إسحاق من طريق عبدالله بن أبي بكر،
عن أم عيسى، عن أمر عون بنت محمد بن جعفر، عن أسماء، فذكر الامر بعمل الطعام،
والصواب أنها أم جعفر وأم عون.
وقال الامام أحمد: حدثنا سقيان، حدثنا جعفر بن خالد، عن أبيه، عن عبدالله ابن
جعفر، قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اصنعوا
لآل جعفر طعاما فقد أتاهم أمر يشغلهم، أو أتاهم ما يشغلهم ".
وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة، عن جعفر
ابن خالد بن سارة المخزومي المكي، عن أبيه، عن عبدالله بن جعفر.
وقال الترمذي: حسن.
ثم قال محمد بن إسحاق: حدثني عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي
صلى الله عليه وسلم قالت: لما أتى نعى جعفر عرفنا في وجه رسول الله صلى الله عليه
وسلم الحزن.
قالت: فدخل عليه رجل فقال: يا رسول الله [ إن النساء ] عنيننا وفتننا، قال: "
ارجع إليهن فأسكتهن ".
قالت: فذهب ثم رجع فقال له مثل ذلك، قالت: وربما ضر التكلف - يعني أهله - قالت:
قال: " فاذهب فأسكتهن فإن أبين فاحث في أفواههن التراب " قالت: [ وقلت ]
في نفسي: أبعدك الله ! فوالله ما تركت نفسك وما أنت بمطيع رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
قالت: وعرفت أنه لا يقدر يحثي في أفواههن التراب.
انفرد به ابن إسحاق من هذا الوجه، وليس في شئ من الكتب.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا عبد الوهاب، سمعت يحيى بن سعيد قال: أخبرتني
عمرة قالت: سمعت عائشة تقول: لما قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب و عبدالله
ابن
رواحة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الحزن، قالت عائشة: وأنا
أطلع من صائر الباب - شق (1) - فأتاه رجل فقال: أي رسول الله، إن نساء جعفر، وذكر
بكاءهن، فأمره أن ينهاهن قالت: فذهب الرجل ثم أتى فقال: والله لقد غلبننا، فزعمت
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فاحث في أفواههن من التراب ".
قالت عائشة رضى الله عنها: فقلت: أرغم الله أنفك ! فوالله ما أنت تفعل ذلك وما
تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء.
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من طرق، عن يحيى بن سعيد الانصاري عن عمرة
عنها.
وقال الامام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبي، سمعت محمد بن أبي يعقوب يحدث عن
الحسن بن سعد، عن عبدالله بن جعفر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا
استعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: " إن قتل زيد أو استشهد فأميركم جعفر، فإن
قتل أو استشهد فأميركم عبدالله بن رواحة " فلقوا العدو فأخذ الراية زيد فقاتل
حتى قتل، ثم أخذ الراية جعفر فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل حتى
قتل، ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه.
وأتى خبرهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال:
" إن إخوانكم لقوا العدو، وإن زيدا أخذ الراية فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم
أخذ الراية بعده جعفر بن أبي طالب فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية عبد
الله بن رواحة فقاتل حتى قتل أو استشهد، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله خالد بن
الوليد ففتح الله عليه " قال: ثم أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم، ثم أتاهم
فقال: " لا تبكوا على أخي بعد اليوم، ادعوا لي بني أخي " قال: فجئ بنا
كأننا أفرخ، فقال " ادعوا
__________
(1) البخاري: تعني من شق الباب.
(*)
لى
الحلاق " فجئ بالحلاق فحلق رؤوسنا، ثم قال: " أما محمد فشبيه عمنا أبي
طالب، وأما عبدالله فشبيه خلقي وخلقي " ثم أخذ بيدي فأشالها (1) وقال: "
اللهم اخلف جعفرا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه " قالها ثلاث مرات.
قال: فجاءت أمنا فذكرت له يتمنا وجعلت تفرح (2) له فقال: " العيلة تخافين
عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة ؟ ".
وهذا يقتضى أنه عليه الصلاة والسلام أرخص لهم في البكاء ثلاثة أيام ثم نهاهم عنه
بعدها ولعله معنى الحديث الذى رواه الامام أحمد من حديث الحكم بن عبدالله
ابن شداد، عن أسماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها لما أصيب جعفر:
" تسلبي ثلاثا ثم اصنعي ما شئت ".
تفرد به أحمد.
فيحتمل أنه أذن لها في التسلب، وهو المبالغة في البكاء وشق الثياب، ويكون هذا من
باب التخصيص لها بهذا لشدة حزنها على جعفر أبى أولادها، وقد يحتمل أن يكون أمرا
لها بالتسلب وهو المبالغة في الاحداد ثلاثة أيام، ثم تصنع بعد ذلك ما شاءت مما
يفعله المعتدات على أزواجهن من الاحداد المعتاد.
والله أعلم.
ويروى: تسلى ثلاثا - أي تصبري - وهذا بخلاف الرواية الاخرى والله أعلم.
فأما الحديث الذى قال الامام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد بن طلحة، حدثنا الحكم
بن عيينة، عن عبدالله بن شداد عن أسماء بنت عميس، قالت: دخل رسول الله صلى الله
عليه وسلم اليوم الثالث من قتل جعفر فقال: لا تحدى بعد يومك هذا.
فإنه من أفراد أحمد أيضا وإسناده لا بأس به، ولكنه مشكل إن حمل على ظاهره، لانه قد
ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لامرأة تؤمن
بالله
__________
(1) شالها: رفعها.
(2) تفرح له: تحزنه.
(*)
واليوم
الآخر أن تحد على ميتها أكثر من ثلاثة أيام، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ".
فإن كان ما رواه الامام أحمد محفوظا فتكون مخصوصة بذلك، أو هو أمر بالمبالغة في
الاحداد هذه الثلاثة أيام كما تقدم.
والله أعلم.
قلت: ورثت أسماء بنت عميس زوجها بقصيدة تقول فيها: فآليت لا تنفك نفسي حزينة *
عليك ولا ينفك جلدى أغبرا فلله عينا من رأى مثله فتى * أكر وأحمى في الهياج وأصبرا
ثم لم تنشب أن انقضت عدتها، فخطبها أبو بكر الصديق رضى الله عنه فتزوجها فأولم
وجاء الناس للوليمة، فكان فيهم على بن أبى طالب، فلما ذهب الناس استأذن على أبا
بكر رضى الله عنهما في أن يكلم أسماء من وراء الستر فأذن له، فلما اقترب من الستر
نفحه ريح طيبها فقال لها على: - على وجه البسط - من القائلة في شعرها: فآليت لا
تنفك نفسي حزينة * عليك ولا ينفك جلدى أغبرا ؟ قالت: دعنا منك يا أبا الحسن فإنك
امرؤ فيك دعابة ! فولدت للصديق محمد بن أبى بكر، ولدته بالشجرة بين مكة والمدينة
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهب إلى حجة الوداع، فأمرها أن تغتسل وتهل وسيأتى
في موضعه، ثم لما توفى الصديق تزوجها بعده على بن أبى طالب، وولدت له أولادا رضى
الله عنه وعنها وعنهم أجمعين.
فصل قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: فلما
دنوا من المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون.
قال:
ولقيهم الصبيان يشتدون ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة،
فقال: " خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر " فأتى بعبد الله بن
جعفر فحمله بين يديه، قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار
فررتم في سبيل الله ! قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليسوا
بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله ".
وهذا مرسل.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عاصم، عن مؤرق العجلى، عن عبدالله
بن جعفر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقى
الصبيان من أهل بيته، وإنه قدم من سفر فسبق بى إليه، قال: فحملني بين يديه ثم قال:
" جئ بأحد بنى فاطمة " إما حسن وإما حسين، فأردفه خلفه فدخلنا المدينة
ثلاثة على دابة.
وقد رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عاصم الاحول عن مؤرق به.
وقال الامام أحمد: حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، حدثنا خالد بن سارة، أن أباه أخبره
أن عبدالله بن جعفر قال: لو رأيتنى وقثما وعبيد الله ابني العباس ونحن صبيان نلعب
إذ مر النبي صلى الله عليه وسلم على دابة فقال: " ارفعوا هذا إلى "
فحملني أمامه وقال لقثم: " ارفعوا هذا إلى " فجعله وراءه، وكان عبيد
الله أحب إلى عباس من قثم، فما استحى من عمه أن حمل قثما وتركه.
قال: ثم مسح على رأسه ثلاثا وقال كلما مسح: " اللهم اخلف جعفرا في ولده
".
قال: قلت لعبد الله: ما فعل قثم ؟ قال: استشهد ؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم
بالخير.
قال: أجل.
ورواه
النسائي في اليوم والليلة من حديث ابن جريج به.
[ وهذا كان بعد الفتح، فإن العباس إنما قدم المدينة بعد الفتح، فأما الحديث الذى
رواه الامام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا حبيب بن الشهيد، عن عبدالله بن أبى مليكة،
قال: قال عبدالله بن جعفر لابن الزبير: أتذكر إذ تلقينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنا وأنت وابن عباس ؟ قال: نعم فحملنا وتركك.
وبهذا اللفظ أخرجه البخاري ومسلم من حديث حبيب بن الشهيد وهذا يعد من الاجوبة
المسكتة، ويروى أن عبدالله بن عباس أجاب به ابن الزبير أيضا، وهذه القصة قصة أخرى
كانت بعد الفتح كما قدمنا بيانه.
والله أعلم (1) ].
فصل في فضل هؤلاء الامراء الثلاثة: زيد وجعفر و عبدالله رضى الله عنهم أما زيد بن
حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس بن عامر ابن النعمان بن عامر
بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن
كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة الكلبى القضاعى، [ فهو
] مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أمه ذهبت تزور أهلها فأغارت عليهم
خيل فأخذوه، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، وقيل اشتراه رسول الله
صلى الله عليه وسلم لها، فوهبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة،
فوجده أبوه فاختار المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه، فكان
يقال له زيد بن محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا شديدا.
__________
(1) سقط من ت.
(*)
وكان
أول من أسلم من الموالى، ونزل فيه آيات من القرآن منها قوله تعالى: " وما جعل
أدعياءكم أبناءكم " وقوله تعالى: " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله
" وقوله تعالى: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " وقوله: "
وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى في نفسك
ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها
" الآية.
أجمعوا أن هذه الآيات أنزلت فيه، ومعنى: " أنعم الله عليه " أي بالاسلام
" وأنعمت عليه " أي بالعتق، وقد تكلمنا عليها في التفسير.
والمقصود أن الله تعالى لم يسم أحدا من الصحابة في القرآن غيره، وهداه إلى
الاسلام، وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه مولاته أم أيمن واسمها بركة
فولدت له أسامة بن زيد، فكان يقال له الحب بن الحب، ثم زوجه بابنة عمته زينب بنت
جحش، وآخى بينه وبين عمه حمزة بن عبدالمطلب وقدمه في الامرة على ابن عمه جعفر بن
أبى طالب يوم مؤتة كما ذكرناه.
وقد قال الامام أحمد والامام الحافظ أبو بكر بن أبى شيبة - وهذا لفظه -: حدثنا
محمد بن عبيد، عن وائل بن داود: سمعت البهى يحدث أن عائشة كانت تقول: ما بعث رسول
الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقى بعد
لاستخلفه.
ورواه النسائي عن أحمد بن سلمان، عن محمد بن عبيد الطنافسى به.
وهذا إسناد جيد قوى على شرط الصحيح، وهو غريب جدا.
والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان، حدثنا إسماعيل، أخبرني ابن دينار، عن ابن عمر رضى
الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد،
فطعن
بعض الناس في إمرته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن تطعنوا في
إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للامارة وإن
كان لمن أحب الناس إلى، وإن هذا لمن أحب الناس إلى بعده ".
وأخرجاه في الصحيحين، عن قتيبة عن إسماعيل - هو ابن جعفر بن أبى كثير المدنى - عن
عبدالله بن دينار، عن ابن عمر فذكره.
ورواه البخاري من حديث موسى بن عقبة عن سالم عن أبيه.
ورواه البزار من حديث عاصم بن عمر، عن عبيد الله بن عمر العمرى، عن نافع، عن ابن
عمر، ثم استغربه من هذا الوجه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمر بن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبى، عن
مسروق، عن عائشة قالت: لما أصيب زيد بن حارثة وجئ بأسامة بن زيد وأوقف بين يدى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخر، ثم عاد من الغد فوقف بين يديه فقال: " ألاقى منك اليوم ما لقيت
منك أمس ".
وهذا الحديث فيه غرابة والله أعلم.
وقد تقدم في الصحيحين أنه لما ذكر مصابهم وهو عليه السلام فوق المنبر جعل يقول
" أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبدالله بن رواحة
فأصيب، ثم أخذها سيف من سيوف الله ففتح الله عليه ".
قال: وإن عينيه لتذرفان، وقال: " وما يسرهم أنهم عندنا " وفى الحديث
الآخر أنه شهد لهم بالشهادة، فهم ممن يقطع لهم بالجنة.
وقد قال حسان بن ثابت يرثى زيد بن حارثة وابن رواحة: عين جودى بدمعك المبزور *
واذكري في الرخاء أهل القبور واذكري مؤتة وما كان فيها * يوم راحوا في وقعة
التغوير
حين
راحوا وغادروا ثم زيدا * نعم مأوى الضريك والمأسور (1) حب خير الانام طرا جميعا *
سيد الناس حبه في الصدور ذاكم أحمد الذى لا سواه * ذاك حزنى له معا وسروري إن زيدا
قد كان منا بأمر * ليس أمر المكذب المغرور ثم جودى للخزرجي بدمع * سيدا كان ثم غير
نزور قد أتانا من قتلهم ما كفانا * فبحزن نبيت غير سرور * * * وأما جعفر بن أبى
طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أكبر من
أخيه عليه بعشر سنين، وكان عقيل أسن من جعفر بعشر سنين، وكان طالب أسن من عقيل
بعشر سنين.
أسلم جعفر قديما وهاجر إلى الحبشة وكانت له هناك مواقف مشهورة، ومقامات محمودة،
وأجوبة سديدة، وأحوال رشيدة، وقد قدمنا ذلك في هجرة الحبشة (2) ولله الحمد.
وقد قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر فقال عليه الصلاة والسلام:
" ما أدرى أنا بأيهما أسر، أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر " وقام إليه
واعتنقه وقبل بين عينيه، وقال له يوم خرجوا من عمرة القضية: " أشبهت خلقي
وخلقي " فيقال: إنه حجل عند ذلك فرحا.
كما تقدم في موضعه ولله الحمد والمنة.
ولما بعثه إلى مؤتة جعل في الامرة مصليا - أي نائبا - لزيد بن حارثة، ولما قتل
وجدوا فيه بضعا وتسعين ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهو في
__________
(1) الضريك: والفقير السئ الحال.
(2) تقدم ذلك في الجزء الثاني 14 - 26.
(*)
ذلك
كله مقبل غير مدبر، وكانت قد طعنت يده اليمنى ثم اليسرى وهو ممسك للواء، فلما
فقدهما احتضنه حتى قتل وهو كذلك.
فيقال: إن رجلا من الروم ضربه بسيف فقطعه باثنتين، رضى الله عن جعفر ولعن قاتله.
وقد أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه شهيد فهو ممن يقطع له بالجنة.
وجاء بالاحاديث تسميته بذى الجناحين.
وروى البخاري عن ابن عمر، أنه كان إذا سلم على ابنه عبدالله بن جعفر يقول: السلام
عليك يابن ذى الجناحين.
وبعضهم يرويه عن عمر بن الخطاب نفسه، والصحيح ما في الصحيح عن ابن عمر.
قالوا: لان الله تعالى عوضه عن يديه بجناحين في الجنة وقد تقدم بعض ما روى
في ذلك.
قال الحافظ أبو عيسى الترمذي: حدثنا على بن حجر، حدثنا عبدالله بن جعفر، عن العلاء
بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبى هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: " رأيت
جعفرا يطير في الجنة مع الملائكة ".
وتقدم في حديث أنه رضى الله عنه قتل وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
وقال ابن لاثير في الغابة: كان عمره يوم قتل إحدى وأربعين.
قال: وقيل غير ذلك.
قلت: وعلى ما قيل إنه كان أسن من على بعشر سنين، يقتضى أن عمره يوم قتل تسع
وثلاثون سنة، لان عليا أسلم وهو ابن ثمانى سنين على المشهور فأقام بمكة ثلاث عشرة
سنة، وهاجر وعمره إحدى وعشرون سنة، ويوم مؤتة كان في سنة ثمان من الهجرة والله
أعلم.
وقد
كان يقال لجعفر بعد قتله الطيار، لما ذكرنا، وكان كريما جوادا ممدحا، وكان لكرمه
يقال له: أبا المساكين، لاحسانه إليهم.
قال الامام أحمد: وحدثنا عفان بن وهيب، حدثنا خالد، عن عكرمة، عن أبى هريرة، قال:
ما احتذى النعال ولا انتعل، ولا ركب المطايا ولا لبس الثياب من رجل بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبى طالب.
وهذا إسناد جيد إلى أبى هريرة، وكأنه إنما يفضله في الكرم، فأما في الفضيلة
الدينية فمعلوم أن الصديق والفاروق بل وعثمان بن عفان أفضل منه، وأما أخوه على رضى
الله عنهما فالظاهر أنهما متكافئان أو على أفضل منه.
وإنما أراد أبو هريرة تفضيله في الكرم، بدليل ما رواه البخاري: حدثنا أحمد بن أبى
بكر، حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار أبو عبد الله الجهنى، عن ابن أبى ذئب، عن
سعيد المقبرى، عن أبى هريرة، أن الناس كانوا يقولون: أكثر أبو هريرة وإنى كنت
ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني خبزا لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير
ولا يخدمني فلان وفلانة، وكنت ألصق بطني بالحصباء من الجوع، وإن كنت لاستقرئ الرجل
الآية هي معى كى ينقلب بى فيطعمني، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبى طالب،
وكان ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التى ليس
فيها شئ فنشقها فنلعق ما فيها.
تفرد به البخاري.
وقال حسان بن ثابت يرثى جعفرا: ولقد بكيت وعز مهلك جعفر * حب النبي على البرية
كلها ولقد جزعت وقلت حين نعيت لى * من للجلاد لدى العقاب وظلها بالبيض حين تسل من
أغمادها * ضربا وإنهال الرماح وعلها
بعد
ابن فاطمة المبارك جعفر * خير البرية كلها وأجلها رزءا وأكرمها جميعا محتدا *
وأعزها متظلما وأذلها للحق حين ينوب غير تنحل * كذبا وأنداها يدا وأقلها فحشا
وأكثرها إذا ما يجتدى * فضلا وأنداها يدا وأبلها بالعرف غير محمد لا مثله * حى من
احياء البرية كلها * * * وأما ابن رواحة فهو عبدالله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ
القيس بن عمرو بن امرئ القيس الاكبر بن مالك بن الاغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج
بن الحارث بن الخزرج، أبو محمد ويقال: أبو رواحة، ويقال: أبو عمرو، الانصاري
الخزرجي، وهو خال النعمان بن بشير، أخته عمرة بنت رواحة.
أسلم قديما وشهد العقبة، وكان أحد النقباء ليلتئذ لبنى الحارث بن الخزرج، وشهد
بدرا وأحدا والخندق والحديبية وخيبر وكان يبعثه على خرصها، كما قدمنا، وشهد عمرة
القضاء ودخل يومئذ وهو ممسك بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل بغرزها
- يعنى الركاب - وهو يقول: * خلوا بنى الكفار عن سبيله * الابيات كما تقدم.
وكان أحد الامراء الشهداء يوم مؤتة كما تقدم، وقد شجع المسلمين للقاء الروم حين
اشتوروا في ذلك، وشجع نفسه أيضا حتى نزل بعد ما قتل صاحباه، وقد شهد له رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالشهادة فهو ممن يقطع له بدخول الجنة.
ويروى أنه لما أنشد النبي صلى الله عليه وسلم شعره حين ودعه الذى يقول فيه: فثبت
الله ما آتاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا كالذى نصروا
قال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وأنت فثبتك الله " قال.
هشام بن عروة: فثبته الله حتى قتل شهيدا ودخل الجنة.
وروى حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبدالرحمن بن أبى ليلى، أن عبدالله بن رواحة أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعه يقول: " اجلسوا ".
فجلس مكانه خارجا من المسجد حتى فرغ الناس من خطبته، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: " زادك الله حرصا على طواعية الله وطواعية رسوله ".
وقال البخاري في صحيحه: وقال معاذ: اجلس بنا نؤمن ساعة (1).
وقد ورد الحديث المرفوع في ذلك عن عبدالله بن رواحة بنحو ذلك، فقال الامام أحمد:
حدثنا عبد الصمد، عن عمارة، عن زياد النحوي، عن أنس قال: كان عبدالله ابن رواحة
إذا لقى الرجل من أصحابه يقول: تعالى نؤمن بربنا ساعة.
فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل فجاء فقال: يا رسول الله ألا ترى ابن رواحة ؟ يرغب
عن إيمانك
إلى إيمان ساعة ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " رحم الله ابن رواحة، إنه
يحب المجالس التى تتباهى بها الملائكة ".
وهذا حديث غريب جدا.
وقال البيهقى: حدثنا الحاكم، حدثنا أبو بكر، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا أحمد ابن
يونس، حدثنا شيخ من أهل المدينة، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، أن عبدالله
بن رواحة قال لصاحب له: تعال حتى نؤمن ساعة، قال: أو لسنا بمؤمنين ؟ قال: بلى
ولكنا نذكر الله فنزداد إيمانا.
وقد روى الحافظ أبو القاسم اللكى (2) من حديث أبى اليمان، عن صفوان بن سليم، عن
شريح بن عبيد، أن عبدالله بن رواحة كان يأخذ بيد الرجل من أصحابه
__________
(1) صحيح البخاري 1 / 5 (2) نسبة إلى الملك وهى بليدة من أعمال برقة الغرب.
وفى الاصل: اللاكائى.
وما أثبته عن اللباب 3 / 70 (*)
فيقول:
قم بنا نؤمن ساعة فنجلس في مجلس ذكر.
وهذا مرسل من هذين الوجهين وقد استقصينا الكلام على ذلك في أول شرح البخاري ولله
الحمد والمنة.
وفى صحيح البخاري عن أبى الدرداء قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر
في حر شديد، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة
رضى الله عنه.
وقد كان من شعراء الصحابة المشهورين، ومما نقله البخاري من شعره في رسول الله صلى
الله عليه وسلم: وفينا رسول الله نتلو كتابه * إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت
يجافى جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا * به موقنات أن ما قال واقع وقال البخاري: حدثنا
عمران بن ميسرة، حدثنا محمد بن فضيل، عن حصين، عن عامر عن النعمان بن بشير قال:
أغمى على عبدالله بن رواحة فجعلت أخته عمرة تبكى، واجبلاه واكذا واكذا تعدد عليه،
فقال حين أفاق: ما قلت شيئا إلا قيل لى: أنت كذلك ؟ حدثنا قتيبة، حدثنا خيثمة، عن
حصين، عن الشعبى عن النعمان بن بشير قال: أغمى على عبدالله بن رواحة، بهذا.
فلما مات لم تبك عليه.
وقد قدمنا ما رثاه به حسان بن ثابت مع غيره.
وقال شاعر من المسلمين ممن رجع من مؤتة مع من رجع رضى الله عنهم: كفى حزنا أنى
رجعت وجعفر * وزيد وعبد الله في رمس أقبر قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم * وخلفت
للبلوى مع المتغير وسيأتى إن شاء الله تعالى بقية ما رثى به هؤلاء الامراء الثلاثة
من شعر حسان بن ثابت وكعب بن مالك رضى الله عنهما وأرضاهما.
فصل
في ذكر من استشهد يوم مؤتة من المسلمين فمن المهاجرين جعفر بن أبى طالب، ومولاهم
زيد بن حارثة الكلبى، ومسعود بن الاسود بن حارثة بن نضلة العدوى، ووهب بن سعد بن
أبى سرح، فهؤلاء أربعة نفر.
ومن الانصار عبدالله بن رواحة، وعباد بن قيس الخزرجيان، والحارث بن النعمان بن
إساف بن نضلة النجارى، وسراقة بن عمرو بن عطية بن خنساء المازنى، أربعة نفر.
فمجموع من قتل من المسلمين يومئذ هؤلاء الثمانية، على ما ذكره ابن إسحاق، لكن قال
ابن هشام: وممن استشهد يوم مؤتة فيما ذكره ابن شهاب الزهري: أبو كليب وجابر
ابنا عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول المازنيان، وهما شقيقان لاب وأم، وعمرو وعامر
ابنا سعد بن الحارث بن عباد بن سعد بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى.
فهؤلاء أربعة من الانصار أيضا، فالمجموع على القولين اثنا عشر رجلا.
وهذا عظيم جدا، أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما وهو الفئة التى تقاتل
في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة وعدتها مائتا ألف مقاتل، من الروم
مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون ثم مع هذا كله لا يقتل من
المسلمين الا اثنا عشر رجلا، وقد قتل من المشركين خلق كثير ! هذا خالد وحده يقول:
لقد اندقت في يدى يومئذ تسعة أسياف وما صبرت في يدى إلا صفيحة يمانية، فماذا ترى
قد قتل بهذه الاسياف كلها ! دع غيره من الابطال والشجعان من حملة القرآن، وقد
تحكموا في عبدة الصلبان عليهم لعائن الرحمن، في ذلك الزمان وفى كل أوان.
وهذا
مما يدخل في قوله تعالى: " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل
الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين، والله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك
لعبرة لاولى الابصار ".
حديث فيه فضيلة عظيمة لامراء هذه السرية (1) وهم: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبى
طالب، وعبد الله بن رواحة رضى الله عنهم.
قال الامام العالم الحافظ أبو زرعة عبدالله بن عبد الكريم الرازي، نضر الله وجهه،
في كتابه دلائل النبوة - وهو كتاب جليل -: حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي، حدثنا
الوليد، حدثنا ابن جابر.
وحدثنا عبدالرحمن بن إبراهيم الدمشقي، حدثنا الوليد وعمرو - يعنى ابن عبد الواحد -
قالا: حدثنا ابن جابر، سمعت سليم بن عامر الخبائرى
يقول: أخبرني أبو أمامة الباهلى، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "
بينا أنا نائم إذ أتانى رجلان فأخذا بضبعى، فأتيا بى جبلا وعرا فقالا: اصعد، فقلت:
لا أطيقه.
فقالا: إنا سنسهله لك.
قال: فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا أنا بأصوات شديدة، فقلت: ما هؤلاء
الاصوات ؟ فقالا: عواء أهل النار.
ثم انطلقا بى فإذا بقوم معلقين بعراقيبهم مشققة أشداقهم، تسيل أشداقهم دما، فقلت:
ما هؤلاء ؟ فقالا: هؤلاء الذين يفطرون قبل تحلة صومهم.
فقال: خابت اليهود والنصارى " قال سليم: سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أم من رأيه ؟ " ثم انطلقا بى، فإذا قوم أشد شئ انتفاخا وأنتن شئ ريحا كأن
ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء ؟ قالا: هؤلاء قتلى الكفار.
ثم انطلقا بى فإذا بقوم أشد انتفاخا وأنتن
__________
(1) سقط هذا الفصل من ا.
(*)
شئ
ريحا كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء ؟ قالا: هؤلاء الزانون.
والزوانى.
ثم انطلقا بى فإذا بنساء ينهش ثديهن الحيات، فقلت: ما بال هؤلاء ؟ قالا: هؤلاء
اللاتى يمنعن أولادهن ألبانهن.
ثم انطلقا بى فإذا بغلمان يلعبون بين بحرين قلت: من هؤلاء ؟ قالا: هؤلاء ذرارى
المؤمنين.
ثم أشرفا بى شرفا فإذا بنفر ثلاثة يشربون من خمر لهم فقلت: من هؤلاء ؟ قالا: هذا
جعفر بن أبى طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة.
ثم أشرفا بى شرفا آخر فإذا أنا بنفر ثلاثة، فقلت: من هؤلاء ؟ قالا: هذا إبراهيم
وموسى وعيسى عليهم السلام وهم ينتظرونك.
فصل فيما قيل من الاشعار في غزوة مؤتة قال ابن إسحاق: وكان مما بكى به أصحاب مؤتة
قول حسان: تأوبنى ليل بيثرب أعسر * وهم إذا ما نوم الناس مسهر
لذكرى حبيب هيجت لى عبرة * سفوحا وأسباب البكاء التذكر بلى إن فقدان الحبيب بلية *
وكم من كريم يبتلى ثم يصبر رأيت خيار المسلمين تواردوا * شعوبا وخلفا بعدهم يتأخر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا (1) * بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر وزيد وعبد الله
حين تتابعوا (1) * جميعا وأسباب المنية تخطر غداة مضوا بالمؤمنين يقودهم * إلى
الموت ميمون النقيبة أزهر أغر كضوء البدر من آل هاشم * أبى إذا سيم الظلامة مجسر
فطاعن حتى مال غير مؤسد * بمعترك فيه القنا متكسر
__________
(1) الاصل: تبايعوا.
وما أثبته من ابن هشام.
(*)
فصار
مع المستشهدين ثوابه * جنان وملتف الحدائق أخضر وكنا نرى في جعفر من محمد * وفاء
وأمرا حازما حين يأمر وما زال في الاسلام من آل هاشم * دعائم عز لا يزلن ومفخر هم
جبل الاسلام والناس حولهم * رضام (1) إلى طود يروق ويبهر (2) بهاليل منهم جعفر
وابن أمه * على ومنهم أحمد المتخير وحمزة والعباس منهم ومنهم * عقيل وماء العود من
حيث يعصر بهم تفرج اللاواء في كل مأزق * عماس إذا ما ضاق بالناس مصدر (3) هم
أولياء الله أنزل حكمه * عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهر وقال كعب بن مالك رضى الله
عنه: نام العيون ودمع عينك يهمل * سحا كما وكف الطباب المخضل (4) في ليلة وردت على
همومها * طورا أحن وتارة أتململ واعتادني حزن فبت كأننى * ببنات نعش والسماك (5)
موكل
وكأنما بين الجوانح والحشا * مما تأوبنى شهاب مدخل وجدا على النفر الذين تتابعوا *
يوما بمؤتة أسندوا لم ينقلوا صلى الاله عليهم من فتية * وسقى عظامهم الغمام المسبل
صبروا بمؤتة للاله نفوسهم * حذر الردى ومخافة أن ينكلوا فمضوا أمام المسلمين كأنهم
* فنق عليهن الحديد المرفل (6) إذ يهتدون بجعفر ولوائه * قدام أولهم فنعم الاول
__________
(1) الرضام: صخور عظام يوضع بعضها فوق بعض.
(2) في ا: ويقهر.
(3) العماس: المظلم.
(4) الطباب: جمع طبابة وهى سير في أسفل القربة يين الخرزتين في المزادة.
وفى ا: الضباب.
وفى غيرها: الظباء.
وهو تحريف.
(5) ا: الشمال.
(6) الفنق: جمع فنيق، وهو الفحل المكرم الذى لا يركب.
والمرفل: السابغ.
(*)
حتى
تفرجت الصفوف وجعفر * حيث التقى وعث الصفوف مجدل (1) فتغير القمر المنير لفقده *
والشمس قد كسفت وكادت تأفل قرم علا بنيانه من هاشم * فرعا أشم وسؤددا ما ينقل قوم
بهم عصم الاله عباده * وعليهم نزل الكتاب المنزل فضلوا المعاشر عزة وتكرما *
وتغمدت أحلامهم من يجهل لا يطلقون إلى السفاه حباهم * ويرى خطيبهم بحق يفصل (2)
بيض الوجوه ترى بطون أكفهم * تندى إذا اعتذر الزمان الممحل وبهديهم رضى الاله
لخلقه * وبحدهم نصر النبي المرسل
__________
(1) الوعث: الاختلاط والالتحام.
(2) إطلاق الحباء: كناية عن النهضة للنجدة.
(*)
بسم
الله الرحمن الرحيم
كتاب بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الآفاق وكتبه إليهم يدعوهم إلى
الله عزوجل وإلى الدخول في دين الاسلام ذكر الواقدي أن ذلك كان في آخر سنة ست في
ذى الحجة بعد عمرة الحديبية، وذكر البيهقى هذا الفصل في هذا الموضع بعد غزوة مؤتة.
والله أعلم.
ولا خلاف بينهم أن بدء ذلك كان قبل فتح مكة وبعد الحديبية، لقول أبى سفيان لهرقل
حين سأله: هل يغدر ؟ فقال: لا، ونحن منه في مدة لا ندرى ما هو صانع فيها.
وفى لفظ البخاري: وذلك في المدة التى ماد فيها أبو سفيان رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وقال محمد بن إسحاق: كان ذلك ما بين الحديبية ووفاته عليه السلام.
ونحن نذكر ذلك هاهنا وإن كان قول الواقدي محتملا.
والله أعلم.
وقد روى مسلم عن يوسف بن حماد المعنى، عن عبدالاعلى، عن سعيد بن أبى عروبة، عن
قتادة، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب قبل مؤتة إلى كسرى
وقيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عزوجل، وليس بالنجاشى الذى صلى
عليه.
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، حدثنى الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن
عتبة، عن عبدالله بن عباس، حدثنى أبو سفيان من فيه إلى في قال:
كنا
قوما تجارا، وكانت الحرب قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا، فلما كانت الهدنة - هدنة
الحديبية - بيننا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم لم (1) نأمن إن وجدنا أمنا،
فخرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا إلا
وقد حملني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام غزة من أرض فلسطين.
فخرجنا حتى قدمناها وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس
فأخرجهم منها، ورد عليه صليبه الاعظم وقد كان استلبوه إياه، فلما أن بلغه ذلك وقد
كان منزله بحمص من الشام فخرج منها يمشى متشكرا إلى بيت المقدس ليصلى فيه تبسط له
البسط ويطرح عليها الرياحين، حتى انتهى إلى إيلياء فصلى بها.
فأصبح ذات غداة وهو مهموم يقلب طرفه إلى السماء، فقالت [ له ] (2) بطارقته: أيها
الملك لقد أصبحت مهموما ؟ فقال: أجل.
فقالوا: وما ذاك ؟ فقال: أريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر، فقالوا: والله ما
نعلم أمة من الامم تختتن إلا اليهود وهم تحت يديك وفى سلطانك فإن كان قد وقع [ ذلك
] (3) في نفسك منهم فابعث في مملكتك كلها فلا يبقى يهودى إلا ضربت عنقه، فتستريح
من هذا الهم.
فإنهم في ذلك من رأيهم يديرونه بينهم إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل من العرب قد
وقع إليهم، فقال: أيها الملك إن هذا الرجل من العرب من أهل الشاء والابل يحدثك عن
حدث كان ببلاده فاسأله عنه.
فلما انتهى إليه قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذى كان في بلاده ؟ فسأله فقال:
هو رجل من العرب من قريش خرج يزعم أنه نبى وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت
بينهم ملاحم في مواطن، فخرجت من بلادي وهم على ذلك.
__________
(1) غير ا: لا.
(2) ليست في ا.
(3) ا: هذا.
(*)
فلما
أخبره الخبر قال: جردوه.
فإذا هو مختتن فقال: هذا والله الذى قد أريت لا ما تقولون، أعطه ثوبه، انطلق
لشأنك.
ثم إنه دعا صاحب شرطته فقال له: قلب لى الشام ظهرا لبطن حتى تأتى برجل من قوم هذا
أسأله (1) عن شأنه.
* * * قال أبو سفيان: فوالله إنى وأصحابي لبغزة إذ هجم علينا فسألنا: ممن أنتم ؟
فأخبرناه، فساقنا إليه جميعا.
فلما انتهينا إليه قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من
ذلك الاغلف - يريد هرقل - قال: فلما انتهينا إليه قال: أيكم أمس به رحما ؟ فقلت:
أنا.
قال: أدنوه منى.
قال: فأجلسني بين يديه ثم أمر أصحابي فأجلسهم خلفي وقال: إن كذب فردوا عليه، قال
أبو سفيان: فلقد عرفت أنى لو كذبت ما ردوا على، ولكني كنت امرءا سيدا أتكرم وأستحي
من الكذب، وعرفت أن أدنى ما يكون في ذلك أن يرووه عنى ثم يتحدثوا به عنى بمكة، فلم
أكذبه.
فقال: أخبرني عن هذا الرجل الذى خرج فيكم.
فزهدت له شأنه وصغرت له أمره [ فوالله ما التفت إلى ذلك منى وقال لى: أخبرني عما
أسألك عنه من أمره (2) ] فقلت: سلنى عما بدا لك.
فقال: كيف نسبه فيكم ؟ فقلت: محضا من أوسطنا نسبا.
قال: فأخبرني، هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به ؟ فقلت: لا.
__________
(1) ا: فأسأله.
(2) سقط من المطبوعة.
(*)
قال:
فأخبرني هل له ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوه عليه ! فقلت: لا.
قال: فأخبرني عن أتباعه، من هم ؟ فقلت: الاحداث والضعفاء والمساكين، فأما أشرافهم
وذوو الانساب [ منهم (1) ] فلا.
قال: فأخبرني عمن صحبه أيحبه ويكرمه أم يقليه
ويفارقه ؟ قلت: ما صحبه رجل ففارقه.
قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه ؟ فقلت: سجال يدال علينا وندال عليه.
قال: فأخبرني هل يغدر ؟ فلم أجد شيئا أغره به إلا هي، قلت: لا ونحن منه في مدة ولا
نأمن غدره فيها.
فوالله ما التفت إليها منى.
قال: فأعاد على الحديث، قال: زعمت أنه من أمحضكم نسبا، وكذلك يأخذ الله النبي، لا
يأخذه إلا من أوسط قومه.
وسألتك: هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله فهو يتشبه به ؟ فقلت: لا.
وسألتك: هل كان له من ملك فاستلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه ؟
فقلت: لا.
وسألتك عن أتباعه، فزعمت أنهم الاحداث والضعفاء والمساكين.
وكذلك أتباع الانبياء في كل زمان.
وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويكرمه أم يقليه ويفارقه ؟ فزعمت أنه قل من يصحبه فيفارقه.
وكذلك حلاوة الايمان لا تدخل قلبا فتخرج منه.
وسألتك كيف الحرب بينكم وبينه ؟ فزعمت أنها سجال يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك
يكون حرب الانبياء ولهم تكون العاقبة.
سألتك هل يغدر فزعمت أنه لا يغدر.
__________
(1) ليست في ا.
(*)
فلئن
كنت صدقتني ليغلبن على ما تحت قدمى هاتين، ولوددت أنى عنده فأغسل عن قدميه ! ثم
قال: الحق بشأنك.
قال: فقمت وأنا أضرب إحدى يدى على الاخرى وأقول: يا عباد الله لقد أمر أمر ابن أبى
كبشة، وأصبح ملوك بنى الاصفر يخافونه في سلطانهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري قال: حدثنى أسقف من النصارى قد أدرك ذلك
الزمان قال: قدم دحية بن خليفة على هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع
الهدى أما بعد فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن أبيت فإن إثم الاكارين (1)
عليك.
قال: فلما انتهى إليه كتابه وقرأه أخذه فجعله بين فخذه وخاصرته، ثم كتب إلى رجل من
أهل رومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ يخبره عما جاء من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فكتب إليه، إنه النبي الذى ينتظر لا شك فيه فاتبعه.
فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه ثم أمر بها فأشرجت (2) عليهم، واطلع
عليهم من علية له وهو منهم خائف، فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءني كتاب أحمد،
وإنه والله النبي الذى كنا ننتظر (3) ومجمل ذكره في كتابنا، نعرفه بعلاماته وزمانه
(4)، فأسلموا واتبعوه تسلم لكم دنياكم وآخرتكم.
فنخروا نخرة رجل واحد، وابتدروا أبواب الدسكرة فوجدوها مغلقة دونهم.
فخافهم وقال: ردوهم على.
فردوهم عليه فقال لهم: يا معشر الروم، إنى إنما قلت لكم هذه المقالة أختبركم بها
لانظر كيف صلابتكم في دينكم ؟ فلقد رأيت منكم ما سرنى.
فوقعوا له سجدا، ثم فتحت لهم أبواب الدسكرة فخرجوا.
__________
(1) الاكار: الحراث.
(2) أشرجت: أغلقت.
(3) ا: الذى ينتظر.
(4) ا: بعلامات زمانة.
(*)
وقد
روى البخاري قصة أبى سفيان مع هرقل بزيادات أخر، أحببنا أن نوردها بسندها وحروفها
من الصحيح ليعلم ما بين السياقين من التباين وما فيهما من الفوائد.
قال البخاري قبل الايمان من صحيحه: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أنبأنا شعيب،
عن الزهري، أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، أن عبدالله بن
عباس أخبره أن أبا سفيان أخبره، أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا
بالشام، في المدة التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار
قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا
بالترجمان فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذى يزعم أنه نبى ؟ قال أبو سفيان:
فقلت: أنا أقربهم نسبا.
قال: أدنوه منى وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره.
ثم قال لترجمانه: قل لهم: إنى سائل هذا عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه.
[ قال (2) ] فوالله لولا [ الحياء من ] (2) أن يأثروا عنى كذبا لكذبت عنه.
ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم ؟ قلت (1): هو فينا ذو نسب.
قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله ؟ قلت: لا.
قال: فهل كان من آبائه من ملك ؟ قلت: لا.
قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم ؟ قلت: بل ضعفاؤهم.
قال: أيزيدون أم ينقصون ؟ قلت: بل يزيدون.
قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قلت: لا.
قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قلت: لا.
قال: فهل يغدر ؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندرى ما هو فاعل فيها.
قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة.
قال: فهل قاتلتموه ؟ قلت: نعم.
قال: فكيف (3) كان قتالكم إياه ؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه.
قال: ماذا يأمركم ؟
__________
(1) ا: فقلت.
(2) من صحيح البخاري 1 / 4 (3) ا: كيف.
(*)
قلت:
يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم.
ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم (1) ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث
في نسب قومها.
وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول قبله ؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد قال هذا
القول قبله لقلت: رجل يتأسى بقول قيل قبله.
وسألتك: هل كان من آبائه من ملك ؟ فذكرت أن لا، فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل
يطلب ملك أبيه.
وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه
لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله ! وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم
ضعفاءهم ؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل.
وسألتك: أيزيدون أم ينقصون ؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الايمان حتى يتم.
وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ فذكرت أن لا.
وكذلك الايمان حين تخالط بشاشته القلوب.
وسألتك: هل يغدر ؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك: بم يأمركم ؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم
عن عبادة الاوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف.
فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمى هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج،
__________
(1) ا: منكم.
(*)
لم
أكن أظن أنه منكم، فلو أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى بعث به مع دحية إلى عظيم بصرى
فدفعه إلى هرقل فإذا فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد عبدالله ورسوله
إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإنى أدعوك بدعاية الاسلام
أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين و " يا
أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به
شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا
مسلمون ".
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت
الاصوات وأخرجنا، فقلت لاصحابي حين خرجنا: لقد أمر أمر ابن أبى كبشة إنه يخافه ملك
بنى الاصفر ! فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله على الاسلام.
* * * قال: وكان ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل أسقف على نصارى الشام يحدث أن هرقل
حين قدم إيلياء أصبح يوما خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك.
قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إنى رأيت
حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الامة (1) ؟ قالوا: ليس
يختتن إلا اليهود ولا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من
اليهود.
__________
(1) غير ا: الامم.
(*)
فبينما
هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان فخبرهم عن خبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا ؟ فنظروا إليه
فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب فقال: هم يختتنون.
فقال هرقل: هذا ملك هذه الامة قد ظهر.
ثم كتب إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم.
وسار هرقل إلى حمص فلم يرم (1) حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأى هرقل على
خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبى، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة (2) له
بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت.
ثم اطلع فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح (3) والرشد وأن يثبت لكم ملككم ؟
فتبايعوا لهذا (4) النبي.
فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الابواب فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من
الايمان قال: ردوهم على.
وقال: إنى إنما قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت.
فسجدوا له ورضوا عنه.
فكان ذلك آخر شأن هرقل.
قال البخاري: ورواه صالح بن كيسان ويونس ومعمر عن الزهري.
وقد رواه البخاري في مواضع كثيرة في صحيحه بألفاظ يطول استقصاؤها.
وأخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق عن الزهري.
وقد تكلمنا على هذا الحديث مطولا في أول شرحنا لصحيح البخاري بما فيه كفاية،
وذكرنا ما فيه من الفوائد والنكت المعنوية واللفظية ولله تعالى الحمد والمنة.
* * * وقال ابن لهيعة عن الاسود، عن عروة قال: خرج أبو سفيان بن حرب إلى الشام
__________
(1) لم يرم: لم يبرح.
وفى الاصل بحمص.
وما أثبته عن البخاري.
(2) الدسكرة: بناء كالقصر حوله بيوت.
(3) ا: الصلاح.
(4) الاصل: فتتابعوا.
وما أثبته عن صحيح البخاري 1 / 5 (*)
تاجرا
في نفر من قريش، وبلغ هرقل شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يعلم ما
يعلم من شأن (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى صاحب العرب الذى بالشام
في ملكه يأمره (2) أن يبعث إليه برجال من العرب يسألهم عنه، فأرسل إليه
ثلاثين رجلا منهم أبو سفيان بن حرب، فدخلوا عليه في كنيسة إيلياء التى في جوفها،
فقال هرقل: أرسلت إليكم لتخبروني عن هذا الذى بمكة ما أمره ؟ قالوا: ساحر كذاب
وليس بنبى.
قال: فأخبروني من أعلمكم به وأقربكم منه رحما ؟ قالوا: هذا أبو سفيان ابن عمه وقد
قاتله.
فلما أخبروه ذلك أمر بهم فأخرجوا عنه، ثم أجلس أبا سفيان فاستخبره، قال: أخبرني يا
أبا سفيان ؟ فقال: هو ساحر كذاب.
فقال هرقل: إنى لا أريد شتمه ولكن كيف نسبه فيكم ؟ قال: هو والله من بيت قريش.
قال: كيف عقله ورأيه ؟ قال: لم نعب له رأيا (3) قط.
قال هرقل: هل كان حلافا كذابا مخادعا في أمره ؟ قال: لا والله ما كان كذلك.
قال: لعله يطلب ملكا أو شرفا كان لاحد من أهل بيته قبله ؟ قال أبو سفيان: لا.
ثم قال: من يتبعه منكم.
هل يرجع إليكم منهم أحد ؟ قال: لا.
قال هرقل: هل يغدر إذا عاهد ؟ قال: لا إلا أن يغدر مدته هذه.
فقال هرقل: وما تخاف من مدته هذه ؟ قال: إن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه وهو
بالمدينة.
قال هرقل: إن كنتم أنتم بدأتم فأنتم أغدر.
__________
(1) ا: أمر.
(2) ا: فأمره (3) غير ا: لم يغب له رأى.
(*)
فغضب
أبو سفيان وقال: لم يغلبنا إلا مرة واحدة وأنا يومئذ غائب، وهو يوم بدر، ثم غزوته
مرتين في بيوتهم نبقر البطون ونجدع الآذان والفروج.
فقال هرقل: كاذبا تراه أم صادقا ؟ فقال: بل هو كاذب.
فقال: إن كان فيكم نبى فلا تقتلوه.
فإن أفعل الناس لذلك اليهود.
ثم رجع أبو سفيان.
ففى هذا السياق غرابة، وفيه فوائد ليست عند ابن إسحاق ولا البخاري.
وقد أورد موسى بن عقبة في مغازيه قريبا مما ذكره عروة بن الزبير.
والله أعلم.
* * * وقال ابن جرير في تاريخه: حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، حدثنا محمد بن إسحاق،
عن بعض أهل العلم قال: إن هرقل قال لدحية بن خليفة الكلبى حين قدم عليه بكتاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم: والله إنى لاعلم أن صاحبك نبى مرسل، وأنه الذى كنا ننتظر
ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى صغاطر
الاسقف فاذكر له أمر صاحبكم، فهو والله في الروم أعظم منى وأجوز قولا عندهم منى،
فانظر ماذا يقول لك ؟ قال: فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى هرقل وبما يدعو إليه، فقال صغاطر: صاحبك والله نبى مرسل نعرفه بصفته
ونجده في كتابنا باسمه.
ثم دخل وألقى ثيابا كانت عليه سودا وليس بياضا ثم أخذ عصاه، فخرج على الروم في
الكنيسة فقال: يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله وإنى
أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله.
قال: فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى قتلوه.
قال: فلما رجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر قال: قد قلت لك، إنا نخافهم على أنفسنا،
فصغاطر والله كان أعظم عندهم وأجوز قولا منى.
[
وقد روى الطبراني من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه عن عبدالله بن شداد عن
دحية الكلبى قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر صاحب الروم
بكتاب فقلت: استأذنوا لرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأتى قيصر فقيل له: إن على الباب رجلا يزعم أنه رسول رسول الله: ففزع لذلك وقال:
أدخله، فأدخله عليه وعنده بطارقته فأعطيته الكتاب فإذا فيه، بسم الله الرحمن
الرحيم، من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم.
فنخر ابن أخ له أحمر أزرق سبط (1) فقال: لا تقرأ الكتاب اليوم فإنه بدأ بنفسه
وكتب: صاحب الروم ولم يكتب ملك الروم.
قال: فقرئ الكتاب حتى فرغ منه، ثم أمرهم فخرجوا من عنده ثم بعث إلى فدخلت عليه،
فسألني فأخبرته، فبعث إلى الاسقف فدخل عليه - وكان صاحب أمرهم يصدرون عن رأيه وعن
قوله - فلما قرأ الكتاب قال الاسقف: هو والله الذى بشرنا به موسى وعيسى الذى كنا
ننتظر.
قال قيصر: فما تأمرني ؟ قال الاسقف: أما أنا فإنى مصدقه ومتبعه، فقال قيصر: أعرف
أنه كذلك، ولكن لا أستطيع أن أفعل، أن فعلت ذهب ملكى وقتلني الروم (2) ].
* * * وبه قال محمد بن إسحاق، عن خالد بن يسار، عن رجل من قدماء أهل الشام قال:
لما أراد هرقل الخروج من أرض الشام إلى القسطنطينية لما بلغه من أمر النبي صلى
الله عليه وسلم جمع الروم فقال: يا معشر الروم إنى عارض عليكم أمورا فانظروا فيما
أردت بها.
قالوا: ما هي ؟ قال: تعلمون والله أن هذا الرجل لنبى مرسل، نجده نعرفه بصفته التى
وصف (3) لنا، فهلم فلنتبعه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا (4).
__________
(1) السبط: الطويل.
(2) سقط من ا.
(3) ا: وصفت.
(4) ا: وأخرانا.
(*)
فقالوا:
نحن نكون تحت أيدى العرب ونحن أعظم الناس ملكا، وأكثره
رجالا وأقصاه بلدا ! قال: فهلم أعطيه الجزية كل سنة، أكسر عنى شوكته وأستريح من
حربه بما أعطيه إياه.
قالوا: نحن نعطى العرب الذل والصغار بخرج يأخذونه منا، ونحن أكثر الناس عددا،
وأعظمه ملكا، وأمنعه بلدا ! لا والله لا نفعل هذا أبدا.
قال: فهلم فلاصالحه على أن أعطيه أرض سورية ويدعنى وأرض الشام.
قال: وكانت أرض سورية فلسطين والاردن ودمشق وحمص، وما دون الدرب [ من أرض (1) ]
سورية، وما كان وراء الدرب عندهم فهو الشام.
فقالوا: نحن نعطيه أرض سورية، وقد عرفت أنها سرة (2) الشام، لا نفعل هذا أبدا.
فلما أبوا عليه قال: أما والله لترون (3) أنكم قد ظفرتم إذا امتنعتم منه في
مدينتكم.
قال: ثم جلس على بغل له فانطلق، حتى إذا أشرف على الدرب استقبل أرض الشام ثم قال:
السلام عليك يا أرض سورية تسليم الوداع.
ثم ركض حتى دخل إلى القسطنطينية والله أعلم.
ذكر إرساله عليه السلام إلى ملك العرب من النصارى الذين بالشام قال ابن إسحاق: ثم
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب أخا بنى أسد بن خزيمة إلى المنذر بن
الحارث بن أبى شمر الغساني صاحب دمشق (4).
قال الواقدي: وكتب معه: " سلام على من اتبع الهدى وآمن به، وأدعوك (5) إلى أن
تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك ".
__________
(1) سقطت من المطبوعة.
(2) الاصل: أنها أرض سورية الشام.
وما أثبته عن الطبري 3 / 651.
(3) الاصل: لتودن.
والتصويب من الطبري.
(4) ابن هشام: بعث شجاع بن وهب الاسدي إلى الحارث بن أبى شمر الغساني ملك تخوم
الشام.
(5) ا: إنى أدعوك.
(*)
فقدم
شجاع بن وهب فقرأه عليه فقال: ومن ينزع ملكى ! إنى سأسير إليه.
ذكر بعثه إلى كسرى ملك الفرس روى البخاري من حديث الليث، عن يونس، عن الزهري، عن
عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
بكتابه (1) مع رجل إلى كسرى وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين
إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه.
قال: فحسبت أن ابن المسيب قال: فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزقوا
كل ممزق.
وقال عبدالله بن وهب: عن يونس عن الزهري، حدثنى عبدالرحمن بن القارى، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قام ذات يوم على المنبر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم
قال: " أما بعد فإنى أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الاعاجم، فلا تختلفوا على
كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى بن مريم ".
فقال المهاجرون: يا رسول الله إنا لا نختلف عليك في شئ أبدا فمرنا وابعثنا.
فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى، فأمر كسرى بإيوانه أن يزين ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن
لشجاع بن وهب، فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يقبض منه، فقال شجاع بن وهب: لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرنى رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
فقال كسرى: ادنه.
فدنا فناوله الكتاب.
ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة فقرأه فإذا فيه: " من محمد عبدالله ورسوله إلى
كسرى عظيم فارس " قال: فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه،
وصاح وغضب ومزق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وهب فأخرج،
__________
(1) ا: كتابه.
(*)
فلما
رأى ذلك قعد على راحلته ثم سار، ثم قال: والله ما أبالى على أي الطريقين أكون إذا
أديت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ! قال: ولما ذهب عن كسرى سورة (1) غضبه
بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتمس فلم يوجد، فطلب إلى الحيرة فسبق.
فلما قدم شجاع على النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما كان من أمر كسرى وتمزيقه
لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
مزق كسرى ملكه ".
وروى محمد بن إسحاق، عن عبدالله بن أبى بكر، عن أبى سلمة، أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعث عبدالله بن حذافة [ بكتابه (2) ] إلى كسرى.
فلما قرأه مزقه، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مزق ملكه
".
* * * وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد (3)، حدثنا سلمة، حدثنا ابن إسحاق، عن يزيد
بن أبى حبيب قال: وبعث عبدالله بن حذافة بن قيس بن عدى بن سعيد بن سهم إلى كسرى بن
هرمز ملك فارس وكتب معه: " بسم الله الرحمن الرحيم.
من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله
وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمد عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله،
فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة لانذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين.
فإن تسلم تسلم وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك ".
قال: فلما قرأه شقه (4) وقال: يكتب إلى بهذا وهو عبدى ؟ !
__________
(1) ا: ثورة.
(2) ليست في ا.
(3) غير ا: حدثنا أحمد ابن حميد.
(4) الطبري: مزقه.
(*)
قال:
ثم كتب كسرى إلى باذام وهو نائبه على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل بالحجاز رجلين
من عندك جلدين فليأتياني به.
فبعث باذام (1) قهرمانه - وكان كاتبا حاسبا بكتاب فارس - وبعث معه رجلا من الفرس
يقال له خرخرة (2)، وكتب معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره أن ينصرف
معهما إلى كسرى وقال: لاباذويه (3): إيت بلاد هذا الرجل وكلمه وائتنى بخبره.
فخرجا حتى قدما الطائف، فوجدا رجلا من قريش في أرض الطائف فسألوه عنه، فقال: هو
بالمدينة.
واستبشر أهل الطائف - يعنى وقريش - بهما وفرحوا.
وقال بعضهم لبعض: أبشروا فقد نصب له كسرى ملك الملوك، كفيتم الرجل ! فخرجا حتى
قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أبا ذويه فقال: شاهنشاه ملك الملوك
كسرى قد كتب إلى الملك باذام يأمره أن يبعث إليه من يأتيه بك، وقد بعثنى إليك
لتنطلق معى، فإن فعلت كتب لك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد
علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.
ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما، فكره
النظر إليهما وقال: " ويلكما من أمركما بهذا ؟ ! " قالا: أمرنا ربنا -
يعنيان كسرى - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولكن ربى أمرنى بإعفاء
لحيتى وقص شاربى " ثم قال: " ارجعا حتى تأتياني غدا ".
قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بأن الله قد سلط على كسرى
ابنه شيرويه فقتله.
__________
(1) ا: باذانه.
وفى الطبري 2 / 655: باذان (2) في الطبري: خرخسرة.
(3) الطبري: بابويه.
(*)
[
في شهر كذا وكذا في ليلة كذا وكذا من الليل سلط عليه ابنه شيرويه فقتله (1) ] قال:
فدعاهما فأخبرهما فقالا: هل تدرى ما تقول ؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا،
فنكتب عنك بهذا ونخبر الملك باذام ؟ قال: " نعم أخبراه ذاك عنى، وقولا له: إن
دينى وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى وينتهى إلى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت
أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك من الابناء ".
ثم أعطى خرخرة منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها إليه بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذام فأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا بكلام ملك،
وإنى لارى الرجل نبيا كما يقول، وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقا فهو نبى
مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.
فلم ينشب باذام أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد، فإنى قد قتلت كسرى، ولم أقتله
إلا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم ونحرهم (2) في ثغورهم، فإذا جاءك
كتابي هذا فخذ لى الطاعة ممن قبلك، وانطلق إلى الرجل الذى كان كسرى قد كتب فيه فلا
تهجه حتى يأتيك أمرى فيه.
فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذام قال: إن هذا الرجل لرسول.
فأسلم وأسلمت الابناء من فارس من كان منهم باليمن.
قال: وقد قال باذويه لباذام: ما كلمت أحدا أهيب عندي منه.
فقال له باذام: هل معه شرط ؟ قال: لا.
* * * قال الواقدي رحمه الله: وكان قتل كسرى على يدى ابنه شيرويه ليلة الثلاثاء
لعشر ليال مضين من جمادى الآخرة، من سنة سبع من الهجرة لست ساعات مضت منها.
__________
(1) ليست في ا.
(2) ا: وغيرهم.
وفى الطبري 2 / 656 وتجميرهم.
أي حبسهم.
(*)
قلت:
وفى شعر بعضهم ما يرشد أن قتله كان في شهر حرام وهو قول بعض الشعراء: قتلوا كسرى
بليل محرما * فتولى لم يمتع بكفن وقال بعض شعراء العرب (1): وكسرى إذا تقاسمه بنوه
* بأسياف كما اقتسم اللحام تمخضت المنون له بيوم * أتى (2) ولكل حاملة تمام وروى
الحافظ البيهقى من حديث حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن أبى بكرة، أن رجلا من
أهل فارس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن ربى قد قتل الليلة ربك ".
قال: وقيل له: - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم -: إنه قد استخلف ابنته.
فقال: " لا يفلح قوم تملكهم امرأة ".
قال البيهقى: وروى في حديث دحية بن خليفة أنه لما رجع من عند قيصر وجد عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم رسل كسرى، وذلك أن كسرى بعث يتوعد صاحب صنعاء ويقول له:
ألا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه ؟ ! لتكفينه أو لافعلن بك.
فبعث إليه، فقال لرسله: " أخبروه أن ربى قد قتل ربه الليلة " فوجدوه كما
قال.
قال: وروى داود بن أبى هند، عن عامر الشعبى نحو هذا.
ثم روى البيهقى من طريق أبى بكر بن عياش، عن داود بن أبى هند، عن أبيه، عن أبى هريرة
قال: أقبل سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن في وجه
__________
(1) ورد هذان البيتان في الجزء الاول من هذا الكتاب ص 49 منسوبين إلى خالد بن حق
الشيباني.
(2) سبقت الرواية: ألا.
انظر الجزء الاول ص 49.
(*)
سعد
خبرا " فقال: " يا رسول الله هلك كسرى " فقال: " لعن الله
كسرى، أول الناس هلاكا فارس ثم العرب ".
قلت: الظاهر أنه لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاك كسرى لذينك الرجلين،
يعنى الاميرين اللذين قدما من نائب اليمن باذام، فلما جاء الخبر بوفق ما أخبر به
عليه السلام وشاع في البلاد وكان سعد بن أبى وقاص أول من سمع، جاء إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأخبره بوفق إخباره عليه السلام.
وهكذا بنحو هذا التقرير ذكره البيهقى رحمه الله.
* * * ثم روى البيهقى من غير وجه عن الزهري، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أنه
بلغه أن كسرى بينما هو في دسكرة ملكه بعث له - أو قيض له - عارض يعرض عليه الحق
فلم يفجأ كسرى إلا برجل (1) يمشى وفى يده عصا فقال: يا كسرى هل لك في الاسلام قبل
أن أكسر هذه العصا ؟ فقال كسرى: نعم لا تكسرها.
فولى الرجل.
فلما ذهب أرسل كسرى إلى حجابه فقال: من أذن لهذا الرجل على ؟ فقالوا: ما دخل عليك
أحد.
فقال: كذبتم، قال: فغضب عليهم وتهددهم ثم تركهم.
قال: فلما كان رأس الحول أتى ذلك الرجل ومعه العصا، فقال: يا كسرى هل لك في
الاسلام قبل أن أكسر هذه العصا ؟ قال: نعم لا تكسرها.
فلما انصرف عنه دعا حجابه فقال لهم كالمرة الاولى.
فلما كان العام المستقبل أتاه ذلك الرجل معه العصا فقال له: هل لك يا كسرى في
الاسلام قبل أن أكسر العصا ؟ فقال: لا تكسرها لا تكسرها.
فكسرها (2).
__________
(1) أ: بالرجل.
(2) أ: لا تكسرها.
فكسرها (*)
فأهلك
الله كسرى عند ذلك.
* * * وقال الامام الشافعي: أنبأنا ابن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن
أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا هلك كسرى فلا كسرى
بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذى (1) نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل
الله ".
أخرجه مسلم من حديث ابن عيينة وأخرجاه من حديث الزهري به.
قال الشافعي: ولما أتى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مزقه، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " يمزق ملكه " وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم ووضعه في مسك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
ثبت ملكه ".
قال الشافعي وغيره من العلماء: ولما كانت العرب تأتى الشام والعراق للتجارة فأسلم
من أسلم منهم، شكوا خوفهم من ملكى العراق والشام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: " إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ".
قال: فباد ملك الاكاسرة بالكلية، وزال ملك قيصر عن الشام بالكلية، وإن ثبت لهم ملك
في الجملة، ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حين عظموا كتابه.
والله أعلم.
قلت: وفى هذا بشارة عظيمة بأن ملك الروم لا يعود أبدا إلى أرض الشام.
وكانت العرب تسمى قيصر لمن ملك الشام مع الجزيرة من الروم، وكسرى لمن ملك الفرس،
والنجاشى لمن ملك الحبشة، والمقوقس لمن ملك الاسكندرية، وفرعون
__________
(1) غير أ: فوالذي.
(33 - السيرة 3) (*)
لمن
ملك مصر كافرا، وبطليموس لمن ملك الهند.
ولهم أعلام أجناس غير ذلك، وقد
ذكرناها في غير هذا الموضع (1) والله أعلم.
وروى مسلم عن قتيبة وغيره عن أبى عوانة، عن سماك، عن جابر بن سمرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " لتفتحن عصابة من المسلمين كنوز كسرى في القصر
الابيض ".
وروى أسباط، عن سماك، عن جابر بن سمرة مثل ذلك وزاد: وكنت أنا وأبى فيهم فأصبنا من
ذلك ألف درهم.
بعثه عليه السلام إلى المقوقس صاحب مدينة الاسكندرية، واسمه جريج بن مينا القبطى
قال يونس بن بكير عن ابن إسحاق: حدثنى الزهري، عن عبدالرحمن بن عبد القارى، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حاطب بن أبى بلتعة إلى المقوقس صاحب الاسنكدرية،
فمضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، فقبل الكتاب وأكرم حاطبا وأحسن
نزله وسرحه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأهدى له مع حاطب كسوة وبغلة بسرجها
وجاريتين إحداهما أم إبراهيم، وأما الاخرى فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم
لمحمد بن قيس العبدى.
رواه البيهقى.
ثم روى من طريق عبدالرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه حدثنا يحيى بن عبدالرحمن ابن حاطب،
عن أبيه، عن جده حاطب بن أبى بلتعة قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
المقوقس ملك الاسكندرية، قال: فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلني
في منزله وأقمت عنده، ثم بعث إلى وقد جمع بطارقته وقال: إنى سائلك عن كلام فأحب أن
تفهم عنى.
قال: قلت: هلم قال أخبرني عن صاحبك أليس هو نبى ؟ قلت: بلى
__________
(1) تقدم ذلك في الجزء الثاني 29.
(*)
هو
رسول الله.
قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها ؟ قال:
فقلت: عيسى بن مريم أليس تشهد أنه رسول الله ؟ قال: بلى.
قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه، ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله
حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا ؟ فقال لى: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم، هذه
هدايا أبعث بها معك إلى محمد، وأرسل معك ببذرقة (1) يبذرقونك إلى مأمنك.
قال: فأهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث جوار منهن أم ابراهيم ابن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وواحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان ابن
ثابت الانصاري، وأرسل إليه بطرف من طرفهم.
وذكر ابن إسحاق أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع جوار إحداهن مارية
أم إبراهيم، والاخرى سيرين التى وهبها لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن بن حسان
قلت: وكان في جملة الهدية غلام أسود خصى اسمه مأبور، وخفان ساذجان أسودان وبغلة
بيضاء اسمها الدلدل.
وكان مابور هذا خصيا ولم يعلموا بأمره (2) بادئ الامر، فصار يدخل على مارية، كما
كان من عاداتهم ببلاد مصر، فجعل بعض الناس يتكلم فيهما بسبب ذلك ولا يعلمون بحقيقة
الحال وأنه خصى، حتى قال بعضهم: إنه الذى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن
أبى طالب بقتله فوجده خصيا فتركه.
والحديث في صحيح مسلم من طريق [ حماد بن سلمة ] قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم سليط بن عمرو بن عبد ود أخا بنى عامر بن لؤى إلى هوذة بن على صاحب
اليمامة.
وبعث العلاء بن الحضرمي إلى جيفر ابن الجلندى وعمار بن الجلندى الازديين صاحبي
عمان (3).
__________
(1) البذرقة: الخفارة.
(2) انظر الاصابة 6 / 13.
(3) ابن هشام: بعث العلاء بن الحضرى إلى المنذر بن ساوى العبدى ملك البحرين.
وبعث عمرو بن العاص السهمى إلى جيفر وعبد ابني الجلندى.
وبعث سليط بن عمرو..إلى ثمامة بن أثال وهوذة بن على.
(*)
غزوة
ذات السلاسل ذكرها الحافظ البيهقى هاهنا قبل غزوة الفتح، فساق من طريق موسى بن
عقبة وعروة بن الزبير قالا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى
ذات السلاسل من مشارف الشام في بلى و عبدالله ومن يليهم من قضاعة.
قال عروة بن الزبير: وبنو بلى أخوال العاص بن وائل، فلما صار إلى هناك خاف من كثرة
عدوه، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستمده، فندب رسول الله صلى الله
عليه وسلم المهاجرين الاولين فانتدب أبو بكر وعمر في جماعة من سراة المهاجرين رضى
الله عنهم أجمعين، وأمر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة ابن الجراح.
قال موسى بن عقبة: فلما قدموا على عمرو قال: أنا أميركم وأنا أرسلت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أستمده بكم.
فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك وأبو عبيدة أمير المهاجرين.
فقال عمرو: إنما أنتم مدد أمددته.
فلما رأى ذلك أبو عبيدة - وكان رجلا حسن الخلق لين الشيمة - قال: تعلم يا عمرو أن
آخر ما عهد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: " إذا قدمت على صاحبك
فتطاوعا " وإنك إن عصيتني لاطيعنك.
فسلم أبو عبيدة الامارة لعمرو ابن العاص.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الحصين التميمي، قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الاسلام (1)
__________
(1) ابن هشام: إلى الشام.
ولعله تحريف.
(*)
وذلك
أن أم العاص بن وائل كانت من بنى بلى، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم
إليهم يتألفهم بذلك، حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل - وبه سميت
تلك الغزوة ذات السلاسل - قال: فلما كان عليه وخاف بعث إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في المهاجرين الاولين، فيهم أبو
بكر وعمر، وقال لابي عبيدة حين وجهه " لا تختلفا ".
فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه قال له عمرو: إنما جئت مددا لى، فقال له أبو
عبيدة: لا ولكني على ما أنا عليه وأنت على ما أنت عليه.
وكان أبو عبيدة رجلا لينا سهلا، هينا عليه أمر الدنيا.
فقال له عمرو: [ بل ] (1) أنت مددى.
فقال له أبو عبيدة: يا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لى: " لا
تختلفا " وإنك إن عصيتني أطعتك فقال له عمرو: فإنى أمير عليك وإنما أنت مدد
لى.
قال: فدونك.
فصلى عمرو بن العاص بالناس.
* * * وقال الواقدي: حدثنى ربيعة بن عثمان، عن يزيد بن رومان، أن أبا عبيدة لما آب
إلى عمرو بن العاص فصاروا خمسمائة فساروا الليل والنهار حتى وطئ بلاد بلى ودوخها،
وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان بهذا الموضع جمع فلما سمعوا بك (2) تفرقوا،
حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلى وعذرة وبلقين، ولقى في آخر ذلك جمعا ليس بالكثير
فاقتتلوا ساعة، وتراموا بالنبل ساعة، ورمى يومئذ عامر بن ربيعة وأصيبت ذراعه، وحمل
المسلمون عليهم فهزموا وأعجزوا هربا في البلاد وتفرقوا، ودوخ عمرو ما هناك وأقام
أياما لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء
والنعم، فكانوا ينحرون ويذبحون ولم يكن في ذلك أكثر من ذلك، ولم تكن غنائم تقسم.
__________
(1) من ابن هشام.
(2) ا: " بذلك ".
(*)
وقال
أبو داود، حدثنا ابن المثنى، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبى، سمعت يحيى ابن أيوب
يحدث عن يزيد بن أبى حبيب، عن عمران بن أبى أنس، عن عبدالرحمن ابن جبير، عن عمرو
بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن
أهلك، قال: فتيممت ثم صليت بأصحابى الصبح، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " قال: فأخبرته بالذى
منعنى من الاغتسال وقلت: إنى سمعت الله يقول: " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله
كان بكم رحيما " فضحك نبى الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.
حدثنا محمد بن سلمة [ أخبرنا ابن وهب ] (1) حدثنا ابن لهيعة (2) وعمرو بن الحارث،
عن يزيد بن أبى حبيب، عن عمران بن أنس، عن عبدالرحمن بن جبير (3)، عن أبى قيس مولى
عمرو بن العاص - وكان على سرية (4) فذكر الحديث بنحوه - قال: فغسل مغابنه وتوضأ
(5) وضوءه للصلاة ثم صلى بهم.
فذكر نحوه ولم يذكر التيمم.
قال أبو داود: وروى هذه القصة عن الاوزاعي، عن حسان بن عطية، وقال فيه: فتيمم.
وقال الواقدي: حدثنى أفلح بن سعيد، عن أبى عبدالرحمن بن رقيش، عن أبى بكر بن حزم
قال: كان عمرو بن العاص حين قفلوا احتلم في ليلة باردة كأشد ما يكون من البرد،
فقال لاصحابه: ما ترون والله، احتلمت فإن اغتسلت مت.
فدعا بماء فتوضأ وغسل فرجه وتيمم، ثم قام فصلى بهم، فكان أول من بعث عوف بن مالك
بريدا.
__________
(1) من سنن أبى داود 1 / 56.
(2) سنن أبى داود: عن ابن لهيعة.
(3) قال أبو داود: عبدالرحمن بن جبير مصرى مولى خارجة بن حذافة، وليس هو ابن جبير
بن نفير.
(4) أبو داود: أن عمرو بن العاص كان على سرية.
(5) المغابن: بواطن الافخاذ.
(*)
قال
عوف: فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر وهو يصلى في بيته، فسلمت
عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عوف بن مالك ؟ " فقلت: عوف
بن مالك يا رسول الله.
قال: " صاحب الجزور ؟ " قلت: نعم.
ولم يزد على هذا بعد ذلك شيئا.
ثم قال: " أخبرني " فأخبرته بما كان من مسيرنا وما كان بين أبى عبيدة
وعمرو ومطاوعة أبى عبيدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله
أبا عبيدة بن الجراح ".
قال: ثم أخبرته أن عمرا صلى بالناس وهو جنب ومعه ماء، لم يزد على أن غسل فرجه
وتوضأ.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن صلاته فأخبره فقال: والذى
بعثك بالحق إنى لو اغتسلت لمت، لم أجد بردا قط مثله، وقد قال تعالى: " ولا
تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ".
قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغنا أنه قال شيئا.
* * * وقال ابن إسحاق: حدثنى يزيد بن أبى حبيب، عن عوف بن مالك الاشجعى، قال: كنت
في الغزوة التى بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص، وهى غزوة
ذات السلاسل، فصحبت أبا بكر وعمر، فمررت بقوم وهم على جزور قد نحروها وهم لا
يقدرون على أن يبعضوها، وكنت امرءا جازرا، فقلت لهم: تعطوني منها عشرا (1) على أن
أقسمها بينكم ؟ قالوا: نعم.
فأخذت الشفرة فجزأتها مكاني، وأخذت منها جزءا فحمتله إلى أصحابي فاطبخناه وأكلناه،
فقال أبو بكر وعمر: أنى لك
__________
(1) العشر: النصيب من لحم الجزور.
وفى ا: عشيرا.
(*)
هذا
اللحم يا عوف ؟ فأخبرتهما فقالا: لا والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا.
ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما منه.
فلما أن قفل الناس من ذلك السفر كنت أول قادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجئته وهو يصلى في بيته، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته.
فقال: " أعوف بن مالك ؟ " فقلت: نعم بأبى أنت وأمى.
فقال: " صاحب الجزور ؟ " ولم يزد على ذلك شيئا.
هكذا رواه محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبى حبيب، عن عوف بن مالك، وهو منقطع بل معضل.
قال الحافظ البيهقى: وقد رواه ابن لهيعة وسعيد بن أبى أيوب، عن يزيد بن أبى حبيب،
عن ربيعة بن لقيط، عن مالك بن زهدم، أظنه عن عوف بن مالك فذكر نحوه إلا أنه قال:
فعرضته على عمر فسألني عنه فأخبرته فقال: قد تعجلت أجرك ولم يأكله.
ثم حكى عن أبى عبيدة مثله، ولم يذكر فيه أبا بكر، وتمامه كنحو ما تقدم.
* * * وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبى عمرو
قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الاصم، حدثنا يحيى بن أبى طالب، حدثنا على
بن عاصم، حدثنا خالد الحذاء، عن أبى عثمان النهدي، سمعت عمرو بن العاص يقول: بعثنى
رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، وفى القوم أبو بكر وعمر، فحدثت
نفسي أنه لم يبعثنى على أبى بكر وعمر إلا لمنزلة لى عنده، قال: فأتيته حتى قعدت
بين يديه فقلت: يا رسول الله من أحب الناس إليك ؟ قال: " عائشة " ؟ قلت:
إنى لست أسألك عن أهلك.
قال: " فأبوها " قلت: ثم من ؟ قال: " عمر " قلت: ثم من ؟ حتى
عدد رهطا.
قال: قلت في نفسي: لا أعود أسأل عن هذا.
وهذا
الحديث مخرج في الصحيحين من طريق خالد بن مهران الحذاء، عن أبى عثمان النهدي،
واسمه عبدالرحمن بن مل، حدثنى عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك ؟ قال: " عائشة
" قلت: فمن الرجال ؟ قال: " أبوها " قلت: ثم من ؟ قال: " ثم
عمر بن الخطاب " فعدد رجالا.
وهذا لفظ البخاري.
وفى رواية قال عمرو: فسكت مخافة أن يجعلني في آخرهم.
سرية أبى عبيدة إلى سيف البحر قال الامام مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر، قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا قبل الساحل وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح
وهم ثلاثمائة.
قال جابر: وأنا فيهم.
فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فنى الزاد فأمر (1) أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش
فجمع كله، فكان مزودى تمرا، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فنى ولم يكن
يصيبنا إلا تمرة تمرة، قال: فقلت: وما تغنى تمرة ؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت
! قال: ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظرب (2).
قال: فأكل منه ذلك الجيش ثمانى عشرة ليلة، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه
فنصبا، ثم أمر براحلته فرحلت ثم مر تحتهما فلم يصبهما.
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك بنحوه.
وهو في الصحيحين أيضا من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر
__________
(1) غير ا: فأتوا أبا عبيدة.
(2) الظرب: الجبل المنبسط أو الصغير.
(*)
قال:
بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح
نرصد عيرا لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط (1)، فسمى ذلك الجيش جيش
الخبط.
قال: ونحر رجل ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم ثلاثا.
فنهاه أبو عبيدة.
قال: وألقى البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلنا منها نصف شهر وادهنا حتى ثابت
إلينا أجسامنا وصلحت.
ثم ذكر قصة الضلع.
فقوله في الحديث: " نرصد عيرا لقريش " دليل على أن هذه السرية كانت قبل
صلح الحديبية.
والله أعلم.
والرجل الذى نحر لهم الجزائر هو قيس بن سعد بن عبادة رضى الله عنهما.
* * * وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو بكر بن إسحاق، حدثنا إسماعيل بن قتيبة،
حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا أبو خيثمة، وهو زهير بن معاوية، عن أبى الزبير، عن جابر
قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش،
وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة.
قال فقلت: كيف كنتم تصنعون بها ؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبى ثم نشرب عليها
الماء فتكفينا يومنا إلى الليل.
وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله.
قال: فانطلقنا إلى ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم،
فأتيناه فإذا به دابة تدعى العنبر، فقال أبو عبيدة: ميتة.
ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى سبيل الله، وقد اضطررتم
فكلوا.
قال: فأقمنا عليه شهرا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد كنا نغرف من وقب (2) عينه
بالقلال الدهن،
__________
(1) الخبط: ورق الشجر.
(2) الوقب: كل نقرة في الجسد كنقرة العين والكتف.
(*)
ونقتطع
منه القدر كالثور أو كقدر الثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم
في عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير منها فمر تحتها، وتزودنا
من لحمها وشائق (1)، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكرنا ذلك له فقال: " هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم شئ من لحمه تطعمونا ؟
" قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منه.
ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، وأحمد بن يونس وأبو داود عن النفيلى، ثلاثتهم عن أبى
خيثمة زهير بن معاوية الجعفي الكوفى، عن أبى الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكى عن
جابر بن عبدالله الانصاري به.
قلت: ومقتضى أكثر هذه السياقات أن هذه السرية كانت قبل صلح الحديبية، ولكن
أوردناها ها هنا تبعا للحافظ البيهقى رحمه الله، فإنه أوردها بعد مؤتة وقبل غزوة
الفتح.
والله أعلم.
وقد ذكر البخاري بعد غزوة مؤتة سرية أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة فقال:
حدثنا عمرو بن محمد، حدثنا هشيم، أنبأنا حصين بن جندب، حدثنا أبو ظبيان، قال: سمعت
أسامة بن زيد يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة فصبحنا القوم
فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الانصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا
الله.
فكف الانصاري وطعنته برمحى حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: " يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ؟ " قلت: كان متعوذا،
فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم.
وقد تقدم هذا الحديث والكلام عليه فيما سلف.
__________
(1) الوشائق: جمع وشيقة، وهى لحم يقدد حتى ييبس.
(*)
ثم
روى البخاري من حديث يزيد بن أبى عبيد، عن سلمة بن
الاكوع قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات وخرجت فيما يبعث من
البعوث تسع غزوات، علينا مرة أبو بكر ومرة أسامة بن زيد رضى الله عنهما.
* * * ثم ذكر الحافظ البيهقى هاهنا موت النجاشي صاحب الحبشة على الاسلام ونعى رسول
الله صلى الله عليه وسلم له إلى المسلمين وصلاته عليه.
فروى من طريق مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم نعى إلى الناس النجاشي في اليوم الذى مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى
فصف بهم وكبر أربع تكبيرات.
أخرجاه من حديث مالك، وأخرجاه أيضا من حديث الليث عن عقيل، عن الزهري، عن سعيد
وأبى سلمة، عن أبى هريرة بنحوه.
وأخرجاه من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " مات اليوم رجل صالح فصلوا على أصحمة ".
وقد تقدمت (1) هذه الاحاديث أيضا والكلام عليها ولله الحمد.
قلت: والظاهر أن موت النجاشي كان قبل الفتح بكثير، فإن في صحيح مسلم أنه لما كتب
إلى ملوك الآفاق كتب إلى النجاشي، وليس هو بالمسلم.
وزعم آخرون كالواقدي أنه هو والله أعلم.
وروى الحافظ البيهقى من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن موسى بن عقبة،
__________
(1) تقدم ذلك في الجزء الثاني 29.
(*)
عن
أبيه، عن أم كلثوم قالت: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال: "
قد أهديت إلى النجاشي أواقى من مسك وحلة وإنى لاراه قد مات، ولا أرى الهدية
إلا سترد على، فإن ردت على - أظنه قال - قسمتها بينكن، أو فهى لك ".
قال: فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات النجاشي وردت الهدية، فلما
ردت عليه أعطى أمرأة من نسائه أوقية، من ذلك المسك، وأعطى سائره أم سلمة، وأعطاها
الحلة.
والله أعلم.
بسم
الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم غزوة الفتح
الاعظم وكانت في رمضان سنة ثمان.
وقد ذكرها الله تعالى في القرآن في غير موضع فقال تعالى: " لا يستوى منكم من
أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد
الله الحسنى (1) " الآية.
وقال تعالى: " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله
أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ".
وكان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ما ذكره محمد بن إسحاق: حدثنى الزهري، عن عروة
بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، أنهما حدثاه جميعا قالا: كان في
صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد
قريش وعهدهم [ دخل (2) ].
فتواثبت خزاعة وقالوا: نحن ندخل في عقد محمد وعهده وتواثبت بنو بكر وقالوا: نحن
ندخل في عقد قريش وعهدهم.
فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة أو الثمانية عشر شهرا، ثم إن بنى بكر وثبوا على
خزاعة ليلا بماء يقال له الوتير، وهو قريب من مكة، وقالت قريش: ما يعلم بنا محمد
وهذا الليل وما يرانا من أحد.
فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
وإن عمرو بن سالم ركب عندما كان من أمر خزاعة وبنى بكر بالوتير حتى قدم على
__________
(1) سورة الحديد 10.
(2) ابن هشام: ومن أحب أن يدخل.
فليدخل.
(*)
رسول
الله صلى الله عليه وسلم يخبر الخبر وقد قال أبيات شعر، فلما قدم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنشدها إياه: يا رب إنى ناشد محمدا * حلف أبيه وأبينا الا تلدا
(1) قد كنتم ولدا وكنا والدا * ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا فانصر رسول الله نصرا أبدا
* وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا * إن سيم خسفا وجهه تربدا في
فيلق كالبحر يجرى مزبدا * إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا * وجعلوا
لى في كداء رصدا (2) وزعموا أن لست أدعو أحدا * فهم أذل وأقل عددا هم بيتونا
بالوتير هجدا * وقتلونا ركعا وسجدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
نصرت يا عمرو بن سالم " فما برح حتى مرت بنا عنانة (3) في السماء فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذه السحابة لتستهل بنصر بنى كعب ".
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمى
على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.
* * * قال ابن إسحاق: وكان السبب الذى هاجهم أن رجلا من بنى الحضرمي اسمه مالك ابن
عباد، من حلفاء الاسود بن رزن، خرج تاجرا فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه
وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من بنى خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة
__________
(1) الا تلد: القديم.
(2) كداء: جبل بأعلى مكة.
(3) العنان: السحاب.
(*)
قبيل
الاسلام على بنى الاسود بن رزن الدئلى، وهم مفخر بنى كنانة وأشرافهم، سلمى وكلثوم
وذؤيب، فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من الديل قال: كان بنو الاسود بن رزن يودون في الجاهلية
ديتين ديتين [ ونودى دية دية لفضلهم فينا ] (1).
قال ابن إسحاق: فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك إذ حجز بينهم الاسلام، فلما كان يوم
الحديبية ودخل بنو بكر في عقد قريش ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وكانت الهدنة، اغتنمها بنو الديل من بنى بكر وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأرا
من أولئك النفر، فخرج نوفل بن معاوية الديلى في قومه وهو يومئذ سيدهم وقائدهم وليس
كل بنى بكر تابعه، فبيت خزاعة وهم على الوتير - ماء لهم - فأصابوا رجلا منهم
وتحاوزوا واقتتلوا، ورفدت قريش بنى بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل
بالليل مستخفيا حتى حاوزوا (2) خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر:
إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك ! فقال كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بنى بكر أصيبوا
ثأركم فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم ! ولجأت خزاعة إلى دار بديل
بن ورقاء بمكة وإلى دار مولى لهم يقال له رافع، وقد قال الاخزر بن لعط الديلى في
ذلك: ألا هل أتى قصوى الاحابيش أننا * رددنا بنى كعب بأفوق ناصل (3) حبسناهم في
دارة العبد رافع * وعند بديل محبسا غير ط ؟ ؟ ؟ بدار الذليل الآخذ الضيم بعد ما * شفينا
النفوس منهم بالمناصل
__________
(1) من ابن هشام.
(2) حاوزوا: ساقوا.
(3) الافوق: السهم الذى وضع فوقه في الوتر.
والناصل: ماله نصل وهو حد السهم.
(*)
حبسناهم
حتى إذا طال يومهم * نفحنا لهم من كل شعب بوابل (1) نذبحهم ذبح التيوس كأننا *
أسود نبارى فيهم بالقواصل (2) هم ظلمونا واعتدوا في مسيرهم * وكانوا لدى الانصاب
أول قاتل كأنهم بالجزع إذ يطردونهم * قفا ثور حفان النعام الجوافل (3) قال: فأجابه
بديل بن عبد مناة بن سلمة بن عمرو بن الاجب، وكان يقال له بديل ابن أم أصرم فقال:
تعاقد قوم يفخرون ولم ندع * لهم سيدا يندوهم غير نافل أمن خيفة القوم الاولى
تزدريهم * تجيز الوتير خائفا غير آيل وفى كل يوم نحن نحبو حباءنا * لعقل ولا يحبى
لنا في المعاقل ونحن صبحنا بالتلاعة داركم * بأسيافنا يسبقن لوم العواذل (4) ونحن
منعنا بين بيض وعتود * إلى خيف رضوى من مجر القبائل (5) ويوم الغميم قد تكفت ساعيا
* عبيس فجعناه بجلد حلاحل (6) أإن أجمرت في بيتها أم بعضكم * بجعموسها تنزون إن لم
نقاتل (7) كذبتم وبيت الله ما إن قتلتم * ولكن تركنا أمركم في بلابل قال ابن
إسحاق: فحدثني عبدالله بن أبى سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
كأنكم بأبى سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة ".
__________
(1) الشعب: المطمئن بين جبلين.
والوابل: المطر الشديد.
(2) القواصل: السيوف القواطع.
(3) ثور: جبل بمكة ومنعه من الصرف لانه أراد به البقعة.
وقفاه: وراءه.
وتروى: بفاثور.
قال أبو ذر: ظاهره أنه اسم موضع.
والحفان: صغار النعام.
والجوافل: الهاربة المسرعة.
(4) التلاعة: ماء لبنى كنانة بالحجاز.
(5) بيض: من منازل بنى كنانة بالحجاز.
وعتود: ماء لكنانة.
(6) تكفت: حاد عن طريقه.
والجلد: القوى.
والحلاحل: السيد الشجاع.
(7) الجعموس: الرجيع.
وأجمرت: رمت به بسرعة.
يريد: الفزع والحذر.
(*) (34 - السيرة 3)
قال
ابن إسحاق: ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأخبروه بما أصيب منهم ومظاهرة قريش بنى بكر عليهم، ثم انصرفوا
راجعين حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يشد العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا للذى صنعوا، فلما لقى أبو سفيان بديلا قال: من
أين أقبلت يا بديل ؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سرت في
خزاعة في هذا الساحل في بطن هذا الوادي.
قال: فعمد أبو سفيان إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى.
فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا.
ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخل على
ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته،
فقال: يا بنية ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أو رغبت به عنى ؟ فقالت: هو فراش
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه.
فقال: يا بنية والله لقد أصابك بعدى شر ! ثم ذهب إلى أبى بكر فكلمه أن يكلم له
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل.
ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ! فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر (1) لجاهدتكم به.
ثم خرج فدخل على على ابن أبى طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وعندها حسن غلام يدب بين يديهما، فقال: يا على إنك أمس القوم بى رحما وأقربهم منى قرابة،
وقد جئت في حاجة،
فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال: ويحك أبا سفيان ! والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما
نستطيع أن نكلمه فيه.
فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس
__________
(1) الذر: النمل.
وهو كالمثل، لان الذر لا يقاتل به.
(*)
فيكون
سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ فقالت: والله ما بلغ بنى ذلك أن يجير بين الناس وما
يجير أحد على النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا أبا الحسن إنى أرى الامور قد اشتدت على فانصحني.
قال: والله ما أعلم شيئا يغنى عنك، ولكنك سيد بنى كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم
الحق بأرضك.
فقال: أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا ؟ قال: لا والله ما أظن، ولكن لا أجد لك غير ذلك.
فقام أبو سفيان في المسجد فقال: أيها الناس إنى قد أجرت بين الناس.
ثم ركب بعيره فانطلق، فلما أن قدم على قريش قالوا: ما وراءك ؟ قال: جئت محمدا
فكلمته، فوالله ما رد على شيئا، ثم جئت ابن أبى قحافة فوالله ما وجدت فيه خيرا، ثم
جئت عمر فوجدته أعدى عدو، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار على بأمر صنعته
فوالله ما أدرى هل يغنى عنا شيئا أم لا ؟ قالوا: بماذا أمرك ؟ قال: أمرنى أن أجير
بين الناس ففعلت: قالوا: هل أجاز ذلك محمد ؟ قال: لا.
قالوا: ويحك ما زادك الرجل على أن لعب بك فما يغنى عنا ما قلت.
فقال: لا والله ما وجدت غير ذلك.
[ فائدة ذكرها السهيلي.
فتكلم على قول فاطمة في هذا الحديث: " وما يجير أحد على رسول الله صلى الله
عليه وسلم " على ما جاء في الحديث: " ويجير على المسلمين أدناهم "
قال: وجه الجمع بينهما بأن المراد بالحديث من يجير واحدا أو نفرا يسيرا، وقول
فاطمة: فمن يجير عددا من غزو الامام إياهم فليس له ذلك.
قال: كان سحنون وابن الماجشون يقولان: إن أمان المرأة موقوف على إجازة الامام
لقوله لام هانئ: " قد أجرنا من
أجرت يا أم هانئ " قال: ويروى هذا عن عمرو بن العاص وخالد بن الوليد.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد وفى قوله عليه السلام: " ويجير عليهم
أدناهم " ما يقتضى دخول العبد والمرأة.
والله أعلم ] (1).
__________
(1) سقط من ح.
(*)
وقد
روى البيهقى من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة
قال: قالت بنو كعب: اللهم إنى ناشد محمدا * حلف أبينا وأبيه الا تلدا فانصر هداك
الله نصرا أعتدا * وادع عباد الله يأتوا مددا (1) وقال موسى بن عقبة في فتح مكة:
ثم إن بنى نفاثة من بنى الديل أغاروا على بنى كعب، وهم في المدة التى بين رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وكانت بنو كعب في صلح رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وكانت بنو نفاثة في صلح قريش، فأعانت بنو بكر بنى نفاثة، وأعانتهم قريش
بالسلاح والرقيق، واعتزلتهم بنو مدلج ووفوا بالعهد الذى كانوا عاهدوا عليه رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وفى بنى الديل رجلان هما سيداهم، سلمى بن الاسود وكلثوم
بن الاسود، ويذكرون أن ممن أعانهم صفوان بن أمية وشيبة بن عثمان وسهيل بن عمرو.
فأغارت بنو الديل على بنى عمرو وعامتهم، زعموا، نساء وصبيان وضعفاء الرجال
فألجأوهم وقتلوهم حتى أدخلوهم إلى دار بديل بن ورقاء بمكة.
فخرج ركب من بنى كعب حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له الذى أصابهم
وما كان من أمر قريش عليهم في ذلك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
ارجعوا فتفرقوا في البلدان ".
وخرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخوف الذى كان،
فقال: يا محمد اشدد العقد وزدنا في المدة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ولذلك قدمت ؟ هل كان من حدث قبلكم ؟
" فقال معاذ الله ! نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لا نغير ولا نبدل.
__________
(1) الاعتد: الحاضر.
(*)
فخرج
من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى أبا بكر فقال: جدد العقد وزدنا في
المدة.
فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو وجدت الذر
تقاتلكم لاعنتها عليكم.
ثم خرج فأتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر بن الخطاب: ما كان من حلفنا جديدا
فأخلقه الله، وما كان منه مثبتا فقطعه الله، وما كان منه مقطوعا فلا وصله الله !
فقال له أبو سفيان: جزيت من ذى رحم شرا.
ثم دخل على عثمان فكلمه فقال عثمان: جواري في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم اتب