9. إحياء علوم
الدين - الغزالي -كتاب : إحياء علوم الدين للإمام محمد بن محمد الغزالي أبو حامد
وقال أبو سليمان الدارانى رحمه الله تعالى
تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غنى ألف عام
وعن الضحاك قال من دخل السوق فرأى شيئا يشتهيه فصبر واحتسب كان خيرا له من ألف
دينار ينفقها كلها فى سبيل الله تعالى
وقال رجل لبشر بن الحارث رحمه الله ادع الله لى فقد أضر بى العيال فقال إذا قال لك
عيالك ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع الله لى فى ذلك الوقت فإن دعاءك أفضل من دعائى
وكان يقول مثل الغنى المتعبد مثل روضة على مزبلة ومثل الفقير المتعبد مثل عقد
الجوهر فى جيد الحسناء وقد كانوا يكرهون سماع علم المعرفة من الأغنياء وقد قال أبو
بكر الصديق رضى الله عنه اللهم إنى أسالك الذل عند النصف من نفسى والزهد فيما جاوز
الكفاف
وإذا كان مثل الصديق رضى الله عنه فى كماله يحذر من الدنيا ووجودها فكيف يشك فى أن
فقد المال أصلح من وجوده هذا مع أن أحسن أحوال الغنى أن يأخذ حلالا وينفق طيبا ومع
ذلك فيطول حسابه فى عرصات القيامة ويطول انتظاره ومن نوقش الحساب فقد عذب ولهذا
تأخر عبد الرحمن بن عوف عن الجنة إذ كان مشغولا بالحساب كما رآه رسول الله صلى
الله عليه و سلم ولهذا قال أبو الدرداء رضى الله عنه ما أحب أن لى حانوتا على باب
المسجد ولا تخطئنى فيه صلاة وذكر وأربح كل يوم خمسين دينارا وأتصدق بها فى سبيل
الله تعالى قيل وما تكره قال سوء الحساب ولذلك قال سفيان رحمه الله اختار الفقراء
ثلاثة أشياء واختار الأغنياء ثلاثة أشياء اختار الفقراء راحة النفس وفراغ القلب
وخفة الحساب واختار الأغنياء تعب النفس وشغل القلب وشدة الحساب وما ذكره ابن عطاء
من أن الغنى وصف الحق فهو بذلك أفضل فهو صحيح ولكن إذا كان العبد غنيا عن وجود
المال وعدمه جميعا بأن يستوى عنده كلاهما فأما إذا كان غنيا بوجوده ومفتقرا إلى
بقائه فلا يضاهى غناه غنى الله تعالى لأن الله تعالى غنى بذاته لا بما يتصور زواله
والمال يتصور زواله بأن يسرق وما ذكر من الرد عليه بأن الله ليس غنيا بالأعراض
والأسباب صحيح فى ذم غنى يريد بقاء المال وما ذكر من أن صفات الحق لا تليق بالعبد
غير صحيح بل العلم من صفاته وهو أفضل شىء للعبد بل منتهى العبد أن يتخلق بأخلاق
الله تعالى وقد سمعت بعض المشايخ يقول إن سالك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع
الطريق تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافا له أى يكون له من كل واحد نصيب وأما
التكبر فلا يليق بالعبد فإن التكبر على من لا يستحق التكبر عليه ليس من صفات الله
تعالى وأما التكبر على من يستحقه كتكبر المؤمن على الكافر وتكبر العالم على الجاهل
والمطيع على العاصى فيليق به نعم قد يراد بالتكبر الزهو والصلف والإيذاء وليس ذلك
من وصف الله تعالى وإنما وصف الله تعالى أنه أكبر من كل شىء وأنه يعلم أنه كذلك
والعبد مأمور بأنه بأنه يطلب أعلى المراتب إن قدر عليه ولكن بالاستحقاق كما هو حقه
لا بالباطل والتلبيس فعلى العبد أن يعلم أن المؤمن أكبر من الكافر والمطيع أكبر من
العاصى والعالم أكبر من الجاهل والإنسان أكبر من البهيمة والجماد والنبات وأقرب
إلى الله تعالى منها فلو رأى نفسه بهذه الصفة رؤية محققة لا شك فيها لكانت صفة
التكبر حاصلة له ولائقة به وفضيلة فى حقه إلا أنه لا سبيل له إلى معرفته فإن ذلك
موقوف على الخاتمة وليس يدرى الخاتمة كيف تكون وكيف تتفق فلجهله بذلك وجب أن لا
يعتقد لنفسه رتبة فوق رتبة الكافر إذ ربما يختم للكافر بالإيمان وقد يختم له
بالكفر فلم يكن ذلك لائقا به لقصور علمه عن معرفة العاقبة ولما تصور أن يعلم الشىء
على ما هو به كان العلم كمالا فى حقه لأنه
فى صفات الله تعالى ولما كانت معرفة بعض
الأشياء قد تضره صار ذلك العلم نقصانا فى حقه إذ ليس من أوصاف الله تعالى علم يضره
فمعرفة الأمور التى لا ضرر فيها هى التى تتصور فى العبد من صفات الله تعالى فلا
جرم هو منتهى الفضيلة وبه فضل الأنبياء والأولياء والعلماء فإذن لو استوى عنده
وجود المال وعدمه فهذا نوع من الغنى يضاهى بوجه من الوجوه الغنى الذى يوصف به الله
سبحانه وتعالى فهو فضيلة أما الغنى بوجود المال فلا فضيلة فيه أصلا فهذا بيان نسبة
حال الفقير القانع إلى حال الغنى الشاكر
المقام الثانى فى نسبة حال الفقير الحريص إلى حال الغنى الحريص
ولنفرض هذا فى شخص واحد هو طالب للمال وساع فيه وفاقد له ثم وجده فله حالة الفقد
وحالة الوجود فأى حالتيه أفضل فنقول ننظر فإن كان مطلوبه ما لا بد منه فى المعيشة
وكان قصده أن يسلك سبيل الدين ويستعين به عليه فحال الوجود أفضل لأن الفقر يشغله
بالطلب وطالب القوت لا يقدر على الفكر والذكر إلا قدرة مدخولة بشغل والمكفى هو
القادر ولذلك قال صلى الله عليه و سلم اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا وقال كاد
الفقر أن يكون كفرا أى الفقر مع الاضطرار فيما لا بد منه وإن كان المجلوب فوق
الحاجة أو كان المطلوب قدر الحاجة ولكن لم يكن المقصود الاستعانة به على سلوك سبيل
الدين فحالة الفقر أفضل وأصلح لأنهما استويا فى الحرص وحب المال واستويا فى أن كل
واحد منهما ليس يقصد به الاستعانة على طريق الدين واستويا فى أن كل واحد منهما ليس
يتعرض لمعصية بسبب الفقر والغنى ولكن افترقا فى أن الواجد يأنس بما وجده فيتأكد
حبه فى قلبه ويطمئن إلى الدنيا والفاقد المضطر يتجافى قلبه عن الدنيا وتكون الدنيا
عنده كالسجن الذى يبغى الخلاص منه ومهما استوت الأمور كلها وخرج من الدنيا رجلان
أحدهما أشد ركونا إلى الدنيا فحاله أشد لا محالة إذ يلتفت قلبه إلى الدنيا ويستوحش
من الآخرة بقدر تأكد أنسه بالدنيا وقد قال صلى الله عليه و سلم // إن روح القدس
نفث فى روعى أحبب من أحبب فإنك مفارقه // حديث إن روح القدس نفث في روعي أحبب من
أحببت فإنك مفارقه تقدم // وهذا تنبيه على أن فراق المحبوب شديد فينبغى أن تحب من
لا يفارقك وهو الله تعالى ولا تحب ما يفارقك وهو الدنيا فإنك إذا أحببت الدنيا
كرهت لقاء الله تعالى فيكون قدومك بالموت على ما تكرهه وفراقك لما تحبه وكل من
فارق محبوبا فيكون أذاه فى فراقه بقدر حبه وقدر أنسه وأنس الواجد للدنيا القادر
عليها أكثر من أنس الفاقد لها وإن كان حريصا عليها فإذن قد انكشف بهذا التحقيق أن
الفقر هو الأشرف والأفضل والأصلح لكافة الخلق إلا فى موضعين أحدهما غنى مثل غنى
عائشة رضى الله عنها يستوى عنده الوجود والعدم فيكون الوجود مزيدا له إذ يستفيد به
أدعية الفقراء والمساكين وجمع همهم والثانى الفقر عن مقدار الضرورة فإن ذلك يكاد
أن يكون كفرا ولا خير فيه بوجه من الوجوه إلا إذا كان وجوده يبقى حياته ثم يستعين
بقوته وحياته على الكفر والمعاصى ولو مات جزعا لكانت معاصيه أقل فالأصلح له أن
يموت جوعا ولا يجد ما يضطر إليه أيضا فهذا تفصيل القول فى الغنى والفقر
ويبقى النظر فى فقير حريص متكالب على طلب المال ليس له هم سواه وفى غنى دونه فى
الحرص على حفظ المال ولم يكن تفجعه بفقد المال لو فقده كتفجع الفقير بفقهره فهذا
فى محل النظر والأظهر أن بعدهما عن الله تعالى بقدر قوة تفجعهما لفقد المال
وقربهما بقدر ضعف تفجعهما بفقده والعلم عند الله تعالى فيه
بيان آداب الفقير فى فقره
اعلم أن للفقير آدابا فى باطنه وظاهره ومخالطته وأفعاله ينبغى أن يراعيها
فأما أدب باطنه فأن لا يكون فيه كراهية لما ابتلاه الله تعالى به من الفقر أعنى
أنه لا يكون كارها فعل الله تعالى من حيث إنه فعله وإن كان كارها للفقر كالمحجوم
يكون كارها للحجامة لتألمه بها ولا يكون كارها فعل الحجام ولا كارها للحجام بل
ربما يتقلد منه منة فهذا أقل درجاته وهو واجب ونقيضه حرام ومحبط ثواب الفقر وهو
معنى قوله صلى الله عليه و سلم يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا
بثواب فقركم وإلا فلا وأرفع من هذا أن لا يكون كارها للفقر بل يكون راضيا به وأرفع
منه أن يكون طالبا له وفرحا به لعلمه بغوائل الغنى ويكون متوكلا فى باطنه على الله
تعالى واثقا به فى قدر ضرورته أنه يأتيه لا محالة ويكون كارها للزيادة على الكفاف
وقد قال على كرم الله وجهه إن لله تعالى عقوبات بالفقر ومثوبات بالفقر من علامات
الفقر إذا كان مثوبة أن يحسن عليه خلقه ويطيع به ربه ولا يشكو حاله ويشكر الله
تعالى على فقره ومن علاماته إذا كان عقوبة أن يسوء عليه خلقه ويعصى ربه بترك طاعته
ويكثر الشكاية ويتسخط القضاء وهذا يدل أن كل فقير فليس بمحمود بل المحمود الذى لا
يتسخط ويرضى أو يفرح بالفقر ويرضى لعلمه بثمرته إذ قيل ما أعطى عبد شيئا من الدنيا
إلا قيل له خذه على ثلاثة أثلاث شغل وهم وطول حساب
وأما أدب ظاهره فأن يظهر التعفف والتجمل ولا يظهر الشكوى والفقر بل يستر فقره
ويستر أنه يستره ففى الحديث إن الله تعالى يحب الفقير المتعفف أبا العيال وقال
تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وقال سفيان أفضل الأعمال التجمل عند المحنة
وقال بعضهم ستر الفقر من كنوز البر
وأما فى الأعمال فأدبه أن لا يتواضع لغني لأجل غناه بل يتكبر عليه قال علي كرم
الله وجهه ما أحسن تواضع الغنى للفقير رغبة في ثواب الله تعالى وأحسن منه تيه
الفقير على الغنى ثقة بالله عز و جل فهذه رتبة وأقل منها أن لا يخالط الأغنياء ولا
يرغب في مجالستهم لأن ذلك من مبادىء الطمع
قال الثورى رحمه الله إذا خالط الفقير الأغنياء فاعلم أنه مراء وإذا خالط السلطان
فاعلم أنه لص
وقال بعض العارفين إذا خالط الفقير الأغنياء انحلت عروته فإذا طمع فيهم انقطعت
عصمته فإذا سكن إليهم ضل
وينبغي أن لا يسكت عن ذكر الحق مدامنة للأغنياء وطمعا في العطاء
وأما أدبه في أفعاله لا يفتر بسبب الفقر عن عبادة ولا يمنع بذل قليل ما يفضل عنه
فإن ذلك جهد المقل وفضله أكثر من أموال كثيرة تبذل عن ظهر غنى روى زيد بن أسلم قال
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم درهم من الصدقة أفضل عند الله من مائة ألف درهم
قيل وكيف ذلك يا رسول الله قال أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف درهم فتصدق بها
وأخرج رجل درهما من درهمين لا يملك غيرهما طيبة به نفسه فصار صاحب الدرهم أفضل من
صاحب المائة ألف // حديث زيد بن أسلم درهم من الصدقة أفضل عند الله من مائة ألف
قيل وكيف يا رسول الله قال أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف الحديث أخرجه النسائي من
حديث أبي هريرة متصلا وقد تقدم في الزكاة ولا أصل له من رواية زيد بن أسلم مرسلا
// وينبغى أن لا يدخر مالا بل يأخذ قدر الحاجة ويخرج الباقى وفى الادخار ثلاث
درجات إحداها أن لا يدخر إلا ليومه وليلته وهى درجه الصديقين والثانية أن يدخر
لأربعين يوما فإن ما زاد عليه داخل فى طول الأمل وقد فهم العلماء ذلك من ميعاد
الله تعالى لموسى عليه السلام
ففهم منه الرخصة فى أمل الحياة أربعين
يوما
وهذه درجة المتقين والثالثة أن يدخر لسنته وهى أقصى المراتب وهى رتبة الصالحين ومن
زاد فى الادخار على هذا فهو واقع فى غمار العموم خارج عن حيز الخصوص بالكلية فغنى
الصالح الضعيف فى طمأنينة قلبه فى قوت سنته وغنى الخصوص فى أربعين يوما وغنى خصوص
الخصوص فى يوم وليلة وقد قسم النبي صلى الله عليه و سلم نساءه على مثل هذه الأقسام
فبعضهن كان يعطيها قوت سنة عند حصول ما يحصل وبعضهن قوت أربعين يوما وليلة وهو قسم
عائشة وحفصة
بيان آداب الفقير فى قبول العطاء إذا جاءه بغير سؤال
ينبغى أن يلاحظ الفقير فيما جاءه ثلاثة أمور نفس المال
وغرض المعطى وغرضه فى الأخذ
أما نفس المال فينبغى أن يكون حلالا خاليا عن الشبهات كلها فإن كان فيه شبهة
فليحترز من أخذه وقد ذكرنا فى كتاب الحلال والحرام درجات الشبهة وما يجب اجتنابه
وما يستحب
وأما غرض المعطى فلا يخلو إما أن يكون غرضه تطييب قلبه وطلب محبته وهو الهدية أو
الثواب وهو الصدقة والزكاة والذكر والرياء والسمعة إما على التجرد وإما ممزوجا
ببقية الأغراض
أما الأول وهو الهدية فلا بأس بقبولها فإن قبولها سنة رسول اللهA // حديث أن قبول
الهدية سنة تقدم أنه صلى الله عليه و سلم كان يقبل الهدية // ولكن ينبغى أن لا
يكون فيها منة فإن كان فيها منة فالأولى تركها فإن علم أن بعضها مما تعظم فيه
المنة فليرد البعض دون البعض فقد أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم سمن وأقط
وكبش فقبل السمن والأقط ورد الكبش // حديث أهدي إلى النبي صلى الله عليه و سلم سمن
وأقط وكبش فقبل السمن والأقط ورد الكبش
أخرجه أحمد في أثناء حديث ليعلى بن مرة وأهدت إليه كبشين وشيئا من سمن وأقط فقال
النبي صلى الله عليه و سلم خذ الأقط والسمن وأحد الكبشين ورد عليها الآخر وإسناده
جيد وقال وكيع مرة عن يعلى بن مرة عن أبيه // وكان صلى الله عليه و سلم يقبل من
بعض الناس ويرد على بعض // حديث كان يقبل من بعض الناس ويرد على بعض رواه أبو داود
والترمذي من حديث أبي هريرة وأيم الله لا أقبل بعد يومي هذا من أحد هدية إلا أن
يكون مهاجريا الحديث فيه محمد بن إسحق ورواه بالعنعنة //
وقال لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشى أو ثقفى أو أنصارى أو دوسى // حديث لقد هممت
أن لا أتهب إلا من قريشي أو ثقفي أو أنصاري او دوسي أخرجه الترمذي من حديث أبي
هريرة وقال روى من غير وجه عن أبي هريرة قلت ورجاله ثقات // وفعل هذا جماعة من
التابعين
وجاءت إلى فتح الموصلى صرة فيها خمسين درهما فقال حدثنا عطاء عن النبي صلى الله
عليه و سلم أنه قال من أتاه رزق من غير مسألة فرده فإنما يرده على الله // حديث
عطاء مرسلا من أتاه رزق من غير وسيلة فرده فإنما يرد على الله عز و جل لم أجده
مرسلا هكذا ولأحمد وأبي يعلى والطبراني بإسناد جيد من حديث خالد بن عدي الجهني من
بلغه معروف من أخيه من غير مسئلة ولا إشراف نفس فليقبله ولا يرده فإنما هو رزق
ساقه الله عز و جل إليه ولأحمد وأبي داود الطيالسي من حديث أبي هريرة من آتاه الله
من هذا المال شيئا من غير أن يسأله فليقبله وفي الصحيحين من حديث عمر ما أتاك من
هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه الحديث // ثم فتح الصرة فأخذ منها درهما
ورد سائرها
وكان الحسن يروى هذا الحديث أيضا ولكن حمل إليه رجل كيسا ورزمة من رقيق ثياب
خراسان فرد ذلك وقال من جلس مجلسى هذا وقبل من الناس مثل هذا لقى الله عز و جل يوم
القيامة وليس له خلاق
وهذا يدل على أن أمر العالم والواعظ أشد فى قبول العطاء وقد كان الحسن يقبل من
أصحابه
وكان إبراهيم التيمي يسأل من أصحابه الدرهم والدرهمين ونحوه ويعرض عليه غيرهم
المئين فلا يأخذها وكان بعضهم إذا أعطاه صديقه شيئا يقول اتركه عندك وانظر إن كنت
بعد قبوله فى قلبك أفضل مني قبل القبول فأخبرنى
حتى آخذه وإلا فلا وأمارة هذا أن يشق
عليه الرد لو رده ويفرح بالقبول ويرى المنة على نفسه فى قبول صديقه هديته فإن علم
أنه يمازجه منة فأخذه مباح ولكنه مكروه عند الفقراء الصادقين
وقال بشر ما سألت أحدا قط شيئا إلا سريا السقطى لأنه قد صح عندي زهده في الدنيا
فهو يفرح بخروج الشيء من يده ويتبرم ببقائه عنده فأكون عونا له على ما يحب
وجاء خراساني إلى الجنيد رحمه الله بمال وسأله أن يأكله فقال أفرقه على الفقراء
فقال ما أريد هذا قال ومتى أعيش حتى آكل هذا قال ما أريد أن تنفقه فى الخل والبقل
بل في الحلاوات والطيبات فقبل ذلك منه فقال الخراسانى ما أجد فى بغداد أمن على منك
فقال الجنيد ولا ينبغى أن يقبل إلا من مثلك
الثانى أن يكون للثواب المجرد وذلك صدقة أو زكاة فعليه أن ينظر فى صفات نفسه هل هو
مستحق للزكاة فإن اشتبه عليه فهو محل شبهة وقد ذكرنا تفصيل ذلك فى كتاب أسرار
الزكاة
وإن كانت صدقة وكان يعطيه لدينه فلينظر إلى باطنه فإن كان مقارفا لمعصية فى السر
يعلم أن المعطى لو علم ذلك لنفر طبعه ولما تقرب إلى الله بالتصدق عليه فهذا حرام
أخذه كما لو أعطاه لظنه أنه عالم أو علوى ولم يكن فإن أخذه حرام محض لا شبهة فيه
الثالث أن يكون غرضه السمعة والرياء والشهرة فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد ولا
يقبله إذ يكون معينا له على غرضه الفاسد
وكان سفيان الثوري يرد ما يعطي ويقول لو علمت أنهم لا يذكرون ذلك افتخارا به لأخذت
وعوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة فقال إنما أرد صلتهم إشفاقا عليهم ونصحا
لهم لأنهم يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم
وأما غرضه في الأخذ فينبغي أن ينظر أهو محتاج إليه فيما لا بد منه أو هو مستغن عنه
فإن كان محتاجا إليه وقد سلم من الشبهة والآفات التي ذكرناها في المعطي فالأفضل له
الأخذ قال النبي صلى الله عليه و سلم ما المعطي من سعة بأعظم أجرا من الآخذ إذا
كان محتاجا // حديث ما المعطي من سعة بأعظم أجرا من الآخذ إذا كان محتاجا رواه
الطبراني من حديث ابن عمر وقد تقدم في الزكاة // وقالA من أتاه شيء من
هذا المال من غير مسألة ولا استشراف فإنما هو رزق ساقه الله إليه // حديث من أتاه
شيء من هذا المال من غير مسألة ولا استشراف فإنما هو رزق ساقه الله إليه // وفي
لفظ آخر فلا يرده
وقال بعض العلماء من أعطى ولم يأخذ سأل ولم يعط
وقد كان سرى السقطي يوصل إلى أحمد بن حنبل رحمة الله عليهما شيئا فرده مرة فقال له
السري يا أحمد احذر آفة الرد فإنها أشد من آفة الأخذ فقال له أحمد أعد على ما قلت
فأعاده فقال أحمد ما رددت عليك إلا لأن عندي قوت شهر فاحسبه لي عندك فإذا كان بعد
شهر فأنفذه إلي وقد قال بعض العلماء يخاف في الرد مع الحاجة عقوبة من ابتلاء بطمع
أو دخول في شبهة أو غيره فأما إذا كان ما أتاه زائدا على حاجته فلا يخلو إما أن
يكون حاله الاشتغال بنفسه أو التكفل بأمور الفقراء والإنفاق عليهم لما في طبعه من
الرفق والسخاء فإن كان مشغولا بنفسه فلا وجه لأخذه وإمساكه إن كان طالبا طريق
الآخرة فإن ذلك محض اتباع الهوى وكل عمل ليس لله فهو سبيل الشيطان أو داع إليه ومن
حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ثم له مقامان أحدهما أن يأخذ في العلانية ويرد في
السر أو يأخذ في العلانية ويفرق في السر وهذا مقام الصديقين وهو شاق على النفس لا
يطيقه إلا من أطمأنت نفسه بالرياضة والثاني أن يترك ولا يأخذ ليصرفه صاحبه إلى من
هو أحوج منه أو يأخذ ويوصل إلى من هو أحوج منه فيفعل كليهما في السر أو كليهما في
العلانية وقد ذكرنا هل الأفضل إظهار
الأخذ أو إخفاؤه في كتاب أسرار الزكاة مع
جملة من أحكام الفقر فليطلب من موضعه
وأما امتناع أحمد بن حنبل عن قبول عطاء سري السقطي رحمهما الله فإنما كان
لاستغنائه عنه إذ كان عنده قوت شهر ولم يرض لنفسه أن يشتغل بأخذه وصرفه إلى غيره
فإن في ذلك آفات وأخطارا والزرع يكون حذرا من مظان الآفات إذ لم يأمن مكيدهالشيطان
على نفسه
وقال بعض المجاورين بمكة كانت عندي دراهم أعددتها للإنفاق في سبيل الله فسمعت
فقيرا قد فرغ من طوافه وهو يقول بصوت خفي أنا جائع كما ترى عريان كما ترى فما ترى
فيما ترى يا من يرى ولا يرى فنظرت فإذا عليه خلقان لا تكاد تواريه فقلت في نفسي لا
أجد لدراهمي موضعا أحسن من هذا فحملتها إليه فنظر إليها ثم أخذ منها خمسة دراهم
وقال أربعة ثمن مئزرين ودرهم أنفقه ثلاثة فلا حاجة بي إلى الباقي فرده قال فرأيته
الليلة الثانية وعليه مئزران جديدان فهجس في نفسي منه شيء فالتفت إلى فأخذ بيدي
فأطافني معه أسبوعا كل شوط منها على جوهر من معادن الأرض يتخشخش تحت أقدامنا إلى
الكعبين منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر ولم يظهر ذلك للناس فقال هذا كله قد
أعطانيه فرهدت فيه وآخذ من أيدي الخلق لأن هذه أثقال وفتنة وذلك للعباد فيه رحمة
ونعمة والمقصود من هذا أن الزيادة على قدر الحاجة إنما تأتيك ابتلاء وفتنة لينظر
الله إليك ماذا تعمل فيه وقدر الحاجة يأتيك رفقا بك فلا تغفل عن الفرق بين الرفق
والابتلاء
قال الله تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وقد قال
صلى الله عليه و سلم لا حق لابن آدم إلا في ثلاث طعام يقيم صلبه وثوب يواري عورته
وبيت يكنه فما زاد فهو حساب // حديث لا حق لابن آدم إلا في ثلاث طعام يقيم صلبه
وثوب يوارى عورته وبيت يكنه فما زاد فهو حساب أخرجه الترمذي من حديث عثمان بن عفان
وقال وجلف الخبز والماء بدل قوله طعام يقيم صلبه وقال صحيح // فإذن أنت في أخذ قدر
الحاجة من هذه الثلاث مثاب وفيما زاد عليه إن لم تعص الله متعرض للحساب وإن عصيت
الله فأنت متعرض للعقاب
ومن الاختبار أيضا أن تعزم على ترك لذة من اللذات تقربا إلى الله تعالى وكسرا لصلة
النفس فتأتيك عفوا صفوا لتمتحن بها قوة عقلك فالأولى الامتناع عنها فإن النفس إذا
رخص لها في نقض العزم ألفت نقض العهد وعادت لعادتها ولا يمكن قهرها فرد ذلك مهم
وهو الزهد فإن أخذته وصرفته إلى محتاج فهو غاية الزهد ولا يقدر عليه إلا الصديقون
وأما إذا كانت حالك السخاء والبذل والتكفل بحقوق الفقراء وتعهد جماعة من الصلحاء
فخذ ما زاد على حاجتك فإنه غير زائد على حاجة الفقراء وبادر به إلى الصرف إليهم
ولا تدخره فإن إمساكه ولو ليلة واحدة فيه فتنة واختبار فربما يحلو في قلبك فتمسكه
فيكون فتنة عليك وقد تصدى لخدمة الفقراء جماعة اتخذوها وسيلة إلى التوسع في المال
والتنعم في المطعم والمشرب وذلك هو الهلاك ومن كان غرضه الرفق وطلب الثواب به فله
أن يستقرض على حسن الظن بالله لا على اعتماد السلاطين الظلمة فإن رزقه الله من
حلال قضاه وإن مات قبل القضاء قضاه الله تعالى عنه وأرضى غرماءه وذلك بشرط أن يكون
مكشوف الحال عند من يقرضه فلا يغر المقرض ولا يخدعه بالمواعيد بل يكشف حاله عنده
ليقدم على إقراضه على بصيرة ودين مثل هذا الرجل واجب أن يقضي من مال بيت المال ومن
الزكاة وقد قال تعالى ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله قيل معناه ليبع أحد
ثوبيه
وقيل معناه فليستقرض بجاهه فذلك مما آتاه الله
وقال بعضهم إن لله تعالى عبادا ينفقون على قدر بضائعهم ولله عباد ينفقون على قدر
حسن الظن بالله تعالى
ومات بعضهم فأوصى بماله لثلاث طوائف الأقوياء والأسخياء والأغنياء فقيل من هؤلاء
فقال أما الأقوياء فهم أهل
التوكل على الله تعالى وأما الأسخياء فهم
أهل حسن الظن بالله تعالى وأما الأغنياء فهم أهل الانقطاع إلى الله تعالى فإذن
مهما وجدت هذه الشروط فيه وفي المال وفي المعطي فليأخذه وينبغي أن يرى ما يأخذه من
الله لا من المعطي لأن المعطي واسطة قد سخر للعطاء وهو مضطر إليه بما سلط عليه من
الدواعي والإوادات والاعتقادات وقد حكى أن بعض الناس دعا شقيقا في خمسين من أصحابه
فوضع الرجل مائدة حسنة فلما قعد قال لأصحابه إن هذا الرجل يقول من لم يرن صنعت هذا
الطعام وقدمته فطعامي عليه حرام فقاموا كلهم وخرجوا إلا شابا منهم كان دونهم في الدرجة
فقال صاحب المنزل لشقيق ما قصدت بهذا قال أردت أن أختبر توحيد أصحابي كلهم
وقال موسى عليه السلام يا رب جعلت رزقي هكذا على أيدي بني إسرائيل يغديني هذا يوما
ويعشيني هذا ليلة فأوحى الله تعالى إليه هكذا أصنع بأوليائي أجري أرزاقهم على أيدي
البطالين من عبادي ليؤجروا فيهم
فلا ينبغي أن يرى المعطي إلا من حيث إنه مسخر مأجور من الله تعالى نسأل الله حسن
التوفيق لما يرضاه
بيان تحريم السؤال من غير ضرورة وآداب الفقير المضطر فيه
إعلم أنه قد وردت مناه كثيرة في السؤال وتشديدات وورد فيه أيضا ما يدل على الرخصة
إذ قال صلى الله عليه و سلم للسائل حق ولو جاء على فرس // حديث للسائل حق وإن جاء
على فرس رواه أبو داود من حديث الحسين بن علي ومن حديث علي // وفي الحديث ردوا
السائل ولو بظلف محرق // حديث ردوا السائل ولو بظلف محرق رواه أبو داود والترمذي
وقال حسن صحيح والنسائي واللفظ له من حديث أم مجيد وقال ابن عبد البر حديث مضطرب
// ولو كان السؤال حراما مطلقا لما جاز إعانة المتعدي على عدوانه والإعطاء إعانة
فالكاشف للغطاء فيه أن السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة قريبة
من الضرورة فإن كان عنها فهو حرام وإنما قلنا إن الأصل فيه التحريم لأنه لا ينفك
عن ثلاثة أمور محرمة
الأول إظهار الشكوى من الله تعالى إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله
تعالى عنه وهو عين الشكوى وكما أن العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعا على
سيده فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحل إلا
لضرورة كما تحل الميتة
الثاني ان فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير
الله بل عليه أن يذل نفسه لمولاه فإن فيه عزة فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله
فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة وفي السؤال ذل للسائل بالإضافة إلى المسئول
الثالث أنه لا ينفك عن إيذاء المسئول غالبا لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب
قلب منه فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا
وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع
نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة
ومهما فهمت هذه المحذورات الثلاث فقد فهمت قوله صلى الله عليه و سلم مسألة الناس
من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها // حديث مسئلة الناس من الفواحش وما أحل الله
من الفواحش غيرها // فانظر كيف سماها فاحشة ولا يخفى أن الفاحشة إنما تباح
لضرورة كما يباح شرب الخمر لمن غص بلقمة
وهو لا يجد غيره
وقال صلى الله عليه و سلم من سأل عن غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم // حديث من سأل
عن غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم الحديث رواه أبو داود وابن حبان من حديث سهل ابن
الحنظلية مقتصرا على ما ذكر منه وتقدم في الزكاة ولمسلم من حديث أبي هريرة من يسأل
الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا الحديث وللبزار والطبراني من حديث مسعود بن
عمر ولا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه وفي إسناده لين وللشيخين من حديث
ابن عمر ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم
وإسناده جيد // ومن سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ووجهه عظم يتقعقع وليس عليه
لحم وفي لفظ آخر كانت مسألته خدوشا وكدوحا في وجهه // حديث من سأل وله ما يغنيه
كانت مسئلته خدوشا وكدوما في وجهه رواه أصحاب السنن من حديث ابن مسعود وتقدم في
الزكاة // وهذه الألفاظ صريحة في التحريم والتشديد
وبايع رسول الله صلى الله عليه و سلم قوما على الإسلام فاشترط عليهم السمع والطاعة
ثم قال لهم كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا // حديث بايع قوما على الإسلام فاشترط
عليهم السمع والطاعة ثم قال كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا أخرجه مسلم من حديث
عوف بن مالك الأشجعي // وكان صلى الله عليه و سلم يأمر كثيرا بالتعفف عن السؤال
ويقول من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا وقال
صلى الله عليه و سلم استغنوا عن الناس وما قل من السؤال فهو خير قالوا ومنك يا
رسول الله قال ومني وسمع عمر رضي الله عنه سائلا يسأل بعد المغرب فقال لواحد من
قومه عش الرجل فعشاه ثم سمعه ثانيا يسأل فقال ألم أقل لك عش الرجل قال قد عشيته
فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاه مملوءة خبزا فقال لست سائلا ولكنك تاجر ثم أخذ
المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة وضربه بالدرة وقال لا تعد
ولولا أن سؤاله كان حراما لما ضربه ولا أخذ مخلاته ولعل الفقيه الضعيف المنة الضيق
الحوصلة يستبعد هذا من فعل عمر ويقول أما ضربه فهو تأديب وقد ورد الشرع بالتعزير
وأما أخذه ماله فهو مصادرة والشرع لم يرد بالعقوبة بأخذ المال فكيف استجازه وهو
استبعاد مصدره القصور في الفقه فأين يظهر فقه الفقهاء كلهم في حوصلة عمر بن الخطاب
رضي الله عنه واطلاعه على أسرار دين الله ومصالح عباده أفترى أنه لم يعلم أن
المصادرة بالمال غير جائزة أو علم ذلك ولكن أقدم عليه غضبا في معصية الله وحاشاه
أو أراد الزجر بالمصلحة بغير طريق شرعها نبي الله وهيهات فإن ذلك أيضا معصية بل
الفقه الذي لاح له فيه أنه رآه مستغنيا عن السؤال وعلم أن من أعطاه شيئا فإنما
أعطاه على اعتقاد أنه محتاج وقد كان كاذبا فلم يدخل في ملكه بأخذه مع التلبيس وعسر
تمييز ذلك ورده إلى أصحابه إذ لا يعرف أصحابه بأعيانهم فبقي مالا لا مالك له فوجب
صرفه إلى المصالح وإبل الصدقة وعلفها من المصالح ويتنزل أخذ السائل مع إظهار
الحاجة كاذبا كأخذ العلوي بقوله إني علوي وهو كاذب
فإنه لا يملك ما يأخذه كأخذ الصوفي الصالح الذي يعطي لصلاحه وهو في الباطن مقارف
لمعصية لو عرفها المعطي لما أعطاه وقد ذكرنا في مواضع أن ما أخذوه على هذا الوجه
لا يملكونه وهو حرام عليهم ويجب عليهم الرد إلى مالكه فاستدل بفعل عمر رضي الله
عنه على صحة هذا المعنى الذي يغفل عنه كثير من الفقهاء وقد قررناه في مواضع ولا
تستدل بغفلتك عن هذا الفقه على بطلان فعل عمر
فإذا عرفت أن السؤال يباح لضرورة فاعلم أن الشيء إما أن يكون مضطرا إليه أو محتاجا
إليه حاجة
مهمة أو حاجة خفيفة أو مستغني عنه فهذه
أربعة أحوال
أما المضطر إليه فهو سؤال الجائع عند خوفه على نفسه موتا أو مرضا وسؤال العاري
وبدنه مكشوف ليس معه ما يواريه وهو مباح مهما وجدت بقية الشروط في المسئول بكونه
مباحا والمسئول منه بكونه راضيا في الباطن وفي السائل بكونه عاجزا عن الكسب فإن
القادر على الكسب وهو بطال له السؤال إلا إذا استغرق طلب العلم أوقاته وكل من له
خط فهو قادر على الكسب بالوراقة
وأما المستغني فهو الذي يطلب شيئا وعنده مثله وأمثاله فسؤاله حرام قطعا وهذان
طرفان واضحان
وأما المحتاج حاجة مهمة فكالمريض الذي يحتاج إلى دواء ليس يظهر خوفه لو لم يستعمله
ولكن لا يخلو عن خوف وكمن له جبة لا قميص تحتها في الشتاء وهو يتأذى بالبرد تأذيا
لا ينتهى إلى حد الضرورة وكذلك من يسأل لأجل الكراء وهو قادر على المشي بمشقة فهذا
أيضا ينبغي أن تسترسل عليه الإباحة لأنها أيضا حاجة محققة ولكن الصبر عنه أولى وهو
بالسؤال تارك للأولى ولا يسمى سؤاله مكروها مهما صدق في السؤال وقال ليس تحت جبتي
قميص والبرد يؤذيني أذى أطيقه ولكن يشق علي فإذا صدق فصدقه يكون كفارة لسؤاله إن
شاء الله تعالى
وأما الحاجة الخفيفة فمثل سؤال قميصا ليلبسه فوق ثيابه عند خروجه ليستر الخروق من
ثيابه عن أعين الناس وكمن يسأل لأجل الأدم وهو واجد للخبز وكمن يسأل الكراء لفرس
في الطريق وهو واجد كراء الحمار أو يسأل كراء المحمل وهو قادر على الراحلة فهذا
ونحوه إن كان فيه تلبيس حال بإظهار حاجة غير هذه فهو حرام وإن لم يكن وكان فيه شيء
من المحذورات الثلاثة من الشكوى والذل وإيذاء المسؤل فهو حرام لأن مثل هذه الحاجة
لا تصلح لأن تباح بها هذه المحذورات وإن لم يكن فيها شيء من ذلك فهو مباح مع
الكراهة
فإن قلت فكيف يمكن إخلاء السؤال عن هذه المحذورات فاعلم أن الشكوى تندفع بأن يظهر
الشكر لله والاستغناء عن الخلق ولا يسأل سؤال محتاج ولكن يقول أنا مستغن بما أملكه
ولكن تطالبني رعونة النفس بثوب فوق ثيابي وهو فضلة عن الحاجة وفضول من النفس فيخرج
به عن حد الشكوى وأما الذل فبأن يسأل أباه أو قريبه أو صديقه الذي يعلم انه لا
ينقصه ذلك في عينه ولا يزدريه بسبب سؤاله أو الرجل السخي الذي قد أعد ماله لمثل
هذه المكارم فيفرح بوجود مثله ويتقلد منه منة بقبوله فيسقط عنه الذل بذلك فإن الذل
لازم للمنة لا محالة
وأما الإيذاء فسبيل الخلاص عنه أن لا يعين شخصا بالسؤال بعينه بل يلقى الكلام عرضا
بحيث لا يقدم على البذل إلا متبرع بصدق الرغبة وإن كان في القوم شخص مرموق لو لم
يبذل لكان يلام فهذا إيذاء فإنه ربما يبذل كرها خوفا من الملامة ويكون الأحب إليه
في الباطن الخلاص لو قدر عليه من غير الملامة
وأما إذا كان يسأل شخصا معينا فينبغي أن لا يصرح بل يعرض تعريضا يبقى له سبيلا إلى
التغافل إن أراد فإذا لم يتغافل مع القدرة عليه فذلك لرغبته وأنه غير متأذ به
وينبغي أن يسأل من لا يستحيا منه لو رده أو تغافل عنه فإن الحياء من السائل يؤذي
كما أن الرياء مع غير السائل يؤذي
فإن قلت فإذا أخذ مع العلم بأن باعث المعطي هو الحياء منه أو من الحاضرين ولولاه
لما ابتدأه به فهل هو حلال أو شبهة فأقول ذلك حرام محض لا خلاف فيه بين الأمة
وحكمه حكم أخذ مال الغير بالضرب والمصادرة إذ لا فرق بين أن يضرب ظاهر جلده بسياط
الخشب أو يضرب باطن قلبه بسوط الحياء وخوف الملام وضرب الباطن أشد نكاية في قلوب
العقلاء ولا يجوز أن يقال هو في الظاهر قد رضي به وقد قال صلى الله عليه و سلم
إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر
// حديث إنما نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر لم أجد له أصلا وكذا قال المزى لما
سئل عنه // فإن هذه ضرورة القضاء في فصل الخصومات إذ لا يمكن ردهم إلى البواطن
وقرائن الأحوال فاضطروا إلى الحكم بظاهر القول باللسان مع أنه ترجمان كثير الكذب
ولكن الضرورة دعت إليه وهذا سؤال عما بين العبد وبين الله تعالى والحاكم فيه أحكم
الحاكمين والقلوب عنده كالألسنة عند سائر الحكام فلا تنظر في مثل هذا إلا إلى قلبك
وإن أفتوك وأفتوك فإن المفتي معلم للقاضي والسلطان ليحكموا في عالم الشهادة ومفتي
القلوب هم علماء الآخرة وبفتواهم النجاة من سلطان الآخرة كما أن بفتوى الفقيه
النجاة من سطوة سلطان الدنيا فإذا ما أخذه مع الكراهة لا يملكه بينه وبين الله
تعالى ويجب عليه رده إلى صاحبه فإن كان يستحيي من أن يسترده ولم يسترده فعليه أن
يثيبه على ذلك بما يساوي قيمته في معرض الهديه والمقابلة ليتفصى عن عهدته فإن لم
يقبل هديته فعليه أن يرد ذلك إلى ورثته فإن تلف في يده فهو مضمون عليه بينه وبين
الله تعالى وهو عاص بالتصرف فيه وبالسؤال الذي حصل به الأذى
فإن قلت فهذا أمر باطن يعسر الاطلاع عليه فكيف السبيل إلى الخلاص منها فربما يظن
السائل أنه راض ولا يكون هو في الباطن راضيا فأقول لهذا ترك المتقون السؤال رأسا
فما كانوا يأخذون من أحد شيئا أصلا فكان بشر لا يأخذ من أحد أصلا إلا من السري
رحمة الله عليهما وقال لأني علمت أنه يفرح بخروج المال من يده فأنا أعينه على ما
يحب وإنما عظم النكير في السؤال وتأكد الأمر بالتعفف لهذا لأن الأذى إنما يحل
بضرورة وهو أن يكون السائل مشرفا على الهلاك ولم يبق له سبيل إلى الخلاص ولم يجد
من يعطيه من غير كراهة وأذى فيباح له ذلك كما يباح له أكل لحم الخنزير وأكل لحم
الميتة فكان الامتناع طريق الورعين ومن أرباب القلوب من كان واثقا ببصيرته في
الاطلاع على قرائن الأحوال فكانوا يأخذون من بعض الناس دون البعض ومنهم من كان لا
يأخذ إلا من أصدقائه ومنهم من كان يأخذ مما يعطى بعضا ويرد بعضا كما فعل رسول الله
صلى الله عليه و سلم في الكبش والسمن والأقط وكان هذا يأتيهم من غير سؤال فإن ذلك
لا يكون إلا عن رغبة ولكن قد تكون رغبته طمعا في جاه أو طلبا للرياء والسمعة
فكانوا يحترزون من ذلك فأما السؤال فقد امتنعوا عنه رأسا إلا في موضعين أحدهما
الضرورة فقد سأل ثلاثة من الأنبياء في موضع الضرورة سليمان وموسى والخضر عليهم
السلام
ولا شك في أنهم ما سألوا إلا من علموا أنه يرغب في إعطائهم
والثاني السؤال من الأصدقاء والإخوان فقد كانوا يأخذون مالهم بغير سؤال واستئذان
لأن أرباب القلوب علموا أن المطلوب رضا القلب لا نطق اللسان وقد كانوا وثقوا
بإخوانهم أنهم كانوا يفرحون بمباسطتهم فإذا كانوا يسألون الإخوان عند شكهم في
اقتدار إخوانهم على ما يريدونه وإلا فكانوا يستغنون عن السؤال وحد إباحة السؤال أن
تعلم أن المسئول بصفة لو علم ما بك من الحاجة لا لابتدأك دون السؤال فلا يكون
لسؤالك تأثير إلا بتعريف حاجتك فأما في تحريكه بالحياء وإثارة داعيته بالحيل فلا
ويتصدى للسائل حالة لا يشك فيها في الرضا بالباطن وحالة لا يشك في الكراهة ويعلم
ذلك بقرينة الأحوال فالأخذ في الحالة الأولى حلال طلق وفي الثانية سحت ويتردد بين
الحالتين أحوال يشك فيها فليستفت قلبه فيها وليترك حزاز القلب فإنه الإثم وليدع ما
يريبه إلى ما لا يريبه وإدراك ذلك بقرائن الأحوال سهل على من قويت فطنته وضعف حرصه
وشهوته فإن قوى الحرص وضعفت الفطنة تراءى له ما يوافق غرضه فلا يتفطن للقرائن
الدالة على الكراهة وبهذه الدقائق يطلع على سر قوله
صلى الله عليه و سلم إن أطيب ما أكل
الرجل من كسبه // حديث إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه تقدم // وقد أوتي جوامع الكلم
لأن من لا كسب له ولا مال ورثه من كسب أبيه أو أحد قرابته فليأكل من أيدي الناس
وإن أعطي بغير سؤال فإنما يعطي بدينه ومتى يكون باطنه بحيث لو انكشف لا يعطى بدينه
فيكون ما يأخذه حراما وإن أعطى بسؤال فأين من يطيب قلبه بالعطاء إذا سئل وأين من
يقتصر في السؤال على حد الضرورة فإذا فتشت أحوال من يأكل من أيدي الناس علمت أن
جميع ما يأكله أو أكثره سحت وأن الطيب هو الكسب الذي اكتسبته بحلالك أنت أو مورثك
فإذن بعيد أن يجتمع الورع مع الأكل من أيدي الناس فنسأل الله تعالى أن يقطع طمعنا
عن غيره وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه بمنه وسعة جوده فإنه على ما
يشاء قدير
بيان مقدار الغنى المحرم للسؤال
أعلم أن قوله صلى الله عليه و سلم من سأل عن ظهر غنى فإنما يسأل جمرا فليستقل منه
أو ليستكثر صريح في التحريم ولكن حد الغنى مشكل وتقديره عسير وليس إلينا وضع
المقادير بل يستدرك ذلك بالتوقيف وقد ورد في الحديث استغنوا بغنى الله تعالى عن
غيره قالوا وما هو قال غداء يوم وعشاء ليلة // حديث استغنوا بغنى الله قالوا وما
هو قال غداء يوم وعشاء ليلة تقدم في الزكاة من حديث سهل ابن الحنظلية قالوا ما
يغنيه قال ما يغديه أويعشيه ولأحمد من حديث علي بإسناد حسن قالوا وما ظهر غنى قال
عشاء ليلته وأما اللفظ الذي ذكره المصنف فذكره صاحب الفردوس من حديث أبي هريرة //
وفي حديث آخر من سأل وله خمسون درهما أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافا // حديث من
سأل وله خمسون درهما أو عدلها من الذهب فقد سأل إلحافا وفي لفظ آخر أربعون درهما
تقدما في الزكاة // وورد في لفظ آخر أربعون درهما ومهما اختلفت التقديرات وصحت
الأخبار فينبغي أن يقطع بورودها على أحوال مختلفة فإن الحق في نفسه لا يكون إلا
واحدا والتقدير ممتنع وغاية الممكن فيه تقريب ولا يتم ذلك إلا بتقسيم محيط بأحوال
المحتاجين فنقول قال رسولA لا حق لابن آدم
إلا في ثلاث طعام يقيم صلبه وثوب يوارى به عورته وبيت يكنه فما زاد فهو حساب
فلنجعل هذه الثلاث أصلا في الحاجات لبيان أجناسها والنظر في الأجناس والمقادير
والأوقات فأما الأجناس فهى هذه الثلاث ويلحق بها ما في معناها حتى يلحق بها الكراء
للمسافر إذا كان لا يقدر على المشي وكذلك ما يجرى مجراه من المهمات ويلحق بنفسه
عياله وولده وكل من تحت كفالته كالدابة أيضا
وأما المقادير فالثوب يراعى فيه ما يليق بذوي الدين وهو ثوب واحد وقميص ومنديل
وسراويل ومداس وأما الثاني من كل جنس فهو مستغن عنه وليقس على هذا أثاث البيت
جميعا ولا ينبغي أن يطلب رقة الثياب وكون الأواني من النحاس والصفر فيما يكفي فيه
الخزف فإن ذلك مستغنى عنه فيقتصر من العدد على واحد ومن النوع على أخس أجناسه ما
لم يكن في غاية البعد عن العادة
وأما الطعام فقدره في اليوم مد وهو ما قدره الشرع ونوعه ما يقتات ولو كان من
الشعير
والأدم على الدوام فضلة وقطعة بالكلية إضرار ففي طلبه في بعض الأحوال رخصة
وأما المسكن فأقله ما يجزئ من حيث المقدار وذلك من غير زينة فأما السؤال للزينة
والتوسع فهو سؤال عن ظهر غنى وأما بالإضافة إلى الأوقات فما يحتاج إليه في الحال
من طعام يوم وليلة وثوب يلبسه ومأوى يكنه فلا شك فيه
فأما سؤاله للمستقبل فهذا له ثلاث درجات إحداها ما يحتاج إليه في غد والثانية ما
يحتاج إليه في أربعين يوما أو خمسين يوما والثالثة ما يحتاج إليه في السنة ولنقطع
بأن من معه ما يكفيه له ولعياله إن كان له عيال
لسنه فسؤاله حرام فإن ذلك غاية الغنى
وعليه ينزل التقدير بخمسين درهما في الحديث فإن خمسة دنانير تكفي المنفرد في السنة
إذا اقتصد أما المعيل فربما لا يكفيه ذلك وإن كان يحتاج إليه قبل السنة فإن كان
قادرا على السؤال ولا تفوته فرصته فلا يحل له السؤال لأنه مستغن في الحال وربما لا
يعيش إلى الغد فيكون قد سأل مالا يحتاج فيكفيه غداء يوم وعشاء ليلة وعليه ينزل
الخبر الذي ورد في التقدير بهذا القدر
وإن كان يفوته فرصة السؤال ولا يجد من يعطيه لو أخر فيباح له السؤال لأن أمل
البقاء سنة غير بعيد فهو بتأخير السؤال خائف أن يبقى مضطرا عاجزا عما يعينه فإن
كان خوف العجز عن السؤال في المستقبل ضعيفا وكان ما لأجله السؤال خارجا عن محل
الضرورة لم يخل سؤاله عن كراهية وتكون كراهته بحسب درجات ضعف الإضطرار وخوف الفوت
وتراخي المدة التي فيها يحتاج إلى السؤال وكل ذلك لا يقبل الضبط وهو منوط باجتهاد
العبد ونظره لنفسه بينه وبين الله تعالى فيستفتي فيه قلبه ويعمل به إن سالكا طريق
الآخرة وكل من كان يقينه أقوى وثقته بمجيء الرزق في المستقبل أتم وقناعته بقوت
الوقت أظهر فدرجته عند الله تعالى أعلى فلا يكون خوف الاستقبال وقد آتاك الله قوت
يومك لك ولعيالك إلا من ضعف اليقين والإصغاء إلى تخويف الشيطان وقد قال تعالى فلا
تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقال عز و جل الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء
والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والسؤال من الفحشاء التي أبيحت بالضرورة وحال من يسأل
لحاجة متراخية عن يومه وإن كان مما يحتاج إليه في السنة أشد من حال من ملك مالا
موروثا وادخره لحاجة وراء السنة وكلاهما مباحان في الفتوى الظاهرة ولكنهما صادران
عن حب الدنيا وطول الأمل وعدم الثقة بفضل الله وهذه الخصلة من أمهات المهلكات نسأل
الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه
بيان أحوال السائلين كان بشر رحمه الله يقول الفقراء ثلاثة فقير لا
يسأل وإن أعطى لا يأخذ فهذا مع الروحانيين في عليين
وفقير لا يسأل وإن أعطي أخذ فهذا مع المقربين في جنات الفردوس
وفقير يسأل عند الحاجة فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين
فإذن قد أتفق كلهم على ذم السؤال وعلى أنه مع الفاقة يحط المرتبة والدرجة
قال شقيق البلخي لإبراهيم بن أدهم حين قدم عليه من خراسان كيف تركت الفقراء من
أصحابك قال تركتهم إن أعطوا شكروا وإن منعوا صبروا وظن أنه لما وصفهم بترك السؤال
قد أثنى عليهم غاية الثناء فقال شقيق هكذا تركت كلاب بلخ عندنا فقال له إبراهيم
فكيف الفقراء عندك يا أبا إسحاق فقال الفقراء عندنا إن منعوا شكروا وإن أعطوا
آثروا فقبل رأسه وقال صدقت يا أستاذ
فإذن درجات أرباب الأحوال في الرضا والصبر والشكر والسؤال كثيرة فلا بد لسالك طريق
الآخرة من معرفتها ومعرفة انقسامها واختلاف درجاتها فإنه إذا لم يعلم لم يقدر على
الرقى من حضيضها إلى قلاعها ومن أسفل سافلين إلى أعلى أعليين وقد خلق الإنسان في
أحسن تقويم ثم رد إلى أسفل سافلين ثم أمر أن يترقى إلى أعلى عليين ومن لا يميز بين
السفل والعلو لا يقدر على الرقى قطعا وإنما الشك فيمن عرف ذلك فإنه ربما لا يقدر عليه
وأرباب الأحوال قد تغلبهم حالة تقتضي أن يكون السؤال مزيدا لهم في درجاتهم ولكن
بالإضافة إلى حالهم فإن مثل هذه الأعمال بالنيات وذلك كما روى أن بعضهم رأى أبا
إسحاق النورى رحمه الله يمد يده ويسأل الناس في بعض المواضع قال فاستعظمت ذلك
واستقبحته له فأتيت الجنيد رحمه الله فأخبرته بذلك فقال لا يعظم هذا
عليك فإن النوري لم يسأل الناس إلا
ليعطيهم وإنما سألهم ليثيبهم في الآخرة فيؤجرون من حيث لا يضرهم
وكأنه أشار به إلى قوله صلى الله عليه و سلم يد المعطي هي العليا // حديث يد
المعطي هي العليا أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة // فقال بعضهم يد المعطي هي يد
الآخذ للمال لأنه يعطى الثواب والقدر له لا لما يأخذه ثم قال الجنيد هات الميزان
فوزن مائة درهم ثم قبض قبضة فألقاها على المائة ثم قال احملها إليه فقلت في نفسي
إنما يوزن الشيء ليعرف مقداره فكيف خلط به مجهولا وهو رجل حكيم واستحييت أن أسأله
فذهبت بالصرة إلى النوري فقال هات الميزان فوزن مائة درهم وقال ردها عليه وقل له
أنا لا أقبل منك أنت شيئا وأخذ ما زاد على المائة قال فزاد تعجبي فسألته فقال
الجنيد رجل حكيم يريد أن يأخذ الحبل بطرفيه وزن المائة لنفسه طلبا لثواب الآخرة
وطرح عليها قبضة بلا وزن لله عز و جل فأخذت ما كان لله تبارك وتعالى ورددت ما جعله
لنفسه قال فرددتها إلى الجنيد فبكى وقال أخذ ماله ورد مالنا الله المستعان فانظر
الآن كيف صفت قلوبهم وأحوالهم وكيف خلصت لله أعمالهم حتى كان يشاهد كل واحد منهم
قلب صاحبه من غير مناطقة باللسان ولكن بتشاهد القلوب وتناجى الأسرار وذلك نتيجة
أكل الحلال وخلو القلب عن حب الدنيا والإقبال على الله تعالى بكنه الهمة فمن أنكر
ذلك قبل تجربة طريقه فهو جاهل كمن ينكر مثلا كون الدواء مسهلا قبل شربه
ومن أنكره بعد أن طال اجتهاده حتى بذل كنه مجهوده ولم يصل فأنكر ذلك لغيره كان كمن
شرب المسهل فلم يؤثر في حقه خاصة لعلة في باطنه فأخذ ينكر كون الدواء مسهلا وهذا
وإن كان في الجهل دون الأول ولكنه ليس خاليا عن حط واف من الجهل بل البصير أحد
رجلين إما رجل سالك الطريق فظهر له مثل ما ظهر لهم فهو صاحب الذوق والمعرفة وقد
وصل إلى عين اليقين وإما رجل لم يسلك الطريق أو سلك ولم يصل ولكنه آمن بذلك وصدق
به فهو صاحب علم اليقين وإن لم يكن واصلا إلى عين اليقين
ولعلم اليقين أيضا رتبة وإن كان دون عين اليقين ومن خلا عن علم اليقين وعين اليقين
فهو خارج عن زمرة المؤمنين ويحشر يوم القيامة في زمرة الجاحدين المستكبرين الذين
هم قتلى القلوب الضعيفة وأتباع الشياطين
فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من الراسخين في العلم القائلين آمنا به كل من عند ربنا
وما يذكر إلا أولو الألباب الشطر الثاني من الكتاب في الزهد وفيه
بيان حقيقة الزهد
وبيان فضيلة الزهد وبيان درجات الزهد وأقسامه وبيان تفصيل الزهد في المطعم والملبس
والمسكن والأثاث وضروب المعيشة وبيان علامة الزهد بيان حقيقة الزهد
أعلم أن الزهد في الدنيا مقام شريف من مقامات السالكين وينتظم هذا المقام من علم
وحال وعمل كسائر المقامات لأن أبواب الإيمان كلها كما قال السلف ترجع إلى عقد وقول
وعمل وكأن القول لظهوره أقيم مقام الحال إذ به يظهر الحال الباطن وإلا فليس القول
مرادا لعينه وإن لم يكن صادرا عن حال سمي إسلاما ولم يسم إيمانا والعلم هو السبب
في حال يجرى مجرى المثمر والعمل يجرى من الحال مجرى الثمرة فلنذكر الحال مع كلا طرفيه
من العلم والعمل أما الحال فنعني بها ما يسمى زهدا وهو عبارة عن انصراف الرغبة عن
الشيء إلى ما هو خير منه فكل من عدل عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره فإنما عدل
عنه لرغبته عنه وإنما عدل إلى غيره لرغبته
في غيره فحاله بالإضافة إلى المعدول عنه
يسمى زهدا وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبة وحبا فإذن يستدعى حال الزهد
مرغوبا عنه ومرغوبا فيه هو خير من المرغوب عنه وشرط المرغوب عنه أن يكون هو أيضا
مرغوبا فيه بوجه من الوجوه فمن رغب عما ليس مطلوبا في نفسه لا يسمى زاهدا إذ تارك
الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى زاهدا وإنما يسمى زاهدا من ترك الدراهم والدنانير
لأن التراب والحجر ليسا في مظنة الرغبة وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من
المرغوب عنه حتى تغلب هذه الرغبة فالبائع لا يقدم على البيع إلا والمشتري عنده خير
من المبيع فيكون حاله بالإضافة إلى المبيع زهدا فيه وبالإضافة إلى العوض عنه رغبة
فيه وحبا ولذلك قال الله تعالى وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من
الزاهدين معناه باعوه فقد يطلق الشراء بمعنى البيع ووصف إخوة يوسف بالزهد فيه إذ
طمعوا أن يخلو لهم وجه أبيهم وكان ذلك عندهم أحب إليهم من يوسف فباعوه طمعا في
العوض فإذن كل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا وكل من باع الآخرة
بالدنيا فهو أيضا زاهد ولكن في الآخرة ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بمن
يزهد في الدنيا كما خصص اسم الإلحاد بمن يميل إلى الباطل خاصة وإن كان هو للميل في
وضع اللسان
ولما كان الزهد رغبة عن محبوب بالجملة لم يتصور إلا بالعدول إلى شيء هو أحب منه
وإلا فترك المحبوب بغير الأحب محال والذي يرغب عن كل ما سوى الله تعالى حتى
الفراديس ولا يحب إلا الله تعالى فهو الزاهد المطلق والذي يرغب عن كل حظ ينال في
الدنيا ولم يزهد في مثل تلك الحظوظ في الآخرة بل طمع في الحور والقصور والأنهار
والفواكه فهو أيضا زاهد ولكنه دون الأول والذي يترك من حظوظ الدنيا البعض دون
البعض كالذي يترك المال دون الجاه أو يترك التوسع في الأكل ولا يترك التجمل في
الزينة فلا يستحق اسم الزاهد مطلقا ودرجته في الزهاد درجة من يتوب عن بعض المعاصي
في التائبين وهو زهد صحيح كما أن التوبة عن بعض المعاصي صحيحة فإن التوبة عبارة عن
ترك المحظورات والزهد عبارة عن ترك المباحات التي هي حظ النفس ولا يبعد أن يقدر
على ترك بعض المباحات دون بعض كما لا يبعد ذلك في المحظورات والمقتصر على ترك
المحظورات لا يسمى زاهدا وإن كان قد زهد في المحظور وانصرف عنه ولكن العادة تخصص
هذا الاسم بترك المباحات فإذن الزهد عبارة عن رغبته عن الدنيا عدولا إلى الآخرة أو
عن غير الله تعالى عدولا إلى الله تعالى وهي الدرجة العليا وكما يشترط في المرغوب
فيه أن يكون خيرا عنده فيشترط في المرغوب عنه أن يكون مقدورا عليه فإن ترك ما لا
يقدر عليه محال وبالترك يتبين زوال الرغبة ولذلك قيل لابن المبارك يا زاهد فقال
الزاهد عمر بن عبد العزيز إذ جاءته الدنيا راغمة فتركها وأما أنا ففيماذا زهدت
وأما العلم الذي هو مثمر لهذه الحال فهو العلم بكون المتروك حقيرا بالإضافة إلى
المأخوذ كعلم التاجر بأن العوض خير من المبيع فيرغب فيه وما لم يتحقق هذا العلم لم
يتصور أن تزول الرغبة عن المبيع فكذلك من عرف أن ما عند الله باق وأن الآخرة خير
وأبقى أى لذاتها خير في أنفسها وأبقى كما تكون الجواهر خيرا وأبقى من الثلج مثلا
ولا بعسر على مالك الثلج بيعه بالجواهر واللآلئ فهكذا مثال الدنيا والآخرة فالدنيا
كالثلج الموضوع في الشمس لا يزال في الذوبان إلى الانقراض والآخرة كالجوهر الذي لا
فناء له فبقدر قوة اليقين والمعرفة بالتفاوت بين الدنيا والآخرة تقوى الرغبة في
البيع والمعاملة حتى إن من قوى يقينه يبيع نفسه وماله كما قال الله تعالى إن الله
اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ثم بين أن صفقتهم رابحة فقال
تعالى فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به فليس يحتاج من العلم في الزهد إلا إلى هذا
القدر وهو أن الآخرة
خير وأبقى وقد يعلم ذلك من لا يقدر على
ترك الدنيا إما لضعف علمه ويقينه وإما لإستيلاء الشهوة في الحال عليه وكونه مقهورا
في يد الشيطان وإما لاغتراره بمواعيد الشيطان في التسويف يوما بعد يوم إلى أن
يختطفه الموت ولا يبقى معه إلا الحسرة بعد الفوت وإلى تعريف خساسة الدنيا الإشارة
بقوله تعالى قل متاع الدنيا قليل وإلى تعريف نفاسة الآخرة الإشارة بقوله عز و جل
وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير فنبه على أن العلم بنفاسة الجوهر هو
المرغب عن عوضه ولما لم يتصور الزهد إلا بمعاوضة ورغبة عن المحبوب في أحب منه قال
رجل في دعائه اللهم أرني الدنيا كما تراها فقال له النبي صلى الله عليه و سلم لا
تقل هكذا ولكن قل أرني الدنيا كما أريتها الصالحين من عبادك // حديث قال رجل اللهم
أرني الدنيا كما تراها فقال له لا تقل هكذا ولكن قل أرني الدنيا كما أريتها
الصالحين من عبادك ذكره صاحب الفردوس مختصرا اللهم أرني الدنيا كما تريها صالح
عبادك من حديث أبي القصير ولم يخرجه ولده // وهذا لأن الله تعالى يراها حقيرة كما
هي وكل مخلوق فهو بالإضافة إلى جلاله حقيرة والعبد يراها حقيرة في نفسه بالإضافة
إلى ما هو خير له ولا يتصور أن يرى بائع الفرس وإن رغب عنه فرسه كما يرى حشرات الأرض
مثلا لأنه مستغن عن الحشرات أصلا وليس مستغنيا عن الفرس والله تعالى غني بذاته عن
كل ما سواه فيرى الكل في درجة واحدة بالإضافة إلى جلاله ويراه متفاوتا بالإضافة
إلى غيره والزاهد هو الذي يرى تفاوته بالإضافة إلى نفسه لا إلى غيره وأما العمل
الصادر عن حال الزهد فهو ترك واحد لأنه بيع ومعاملة واستبدال للذي هو خير بالذي هو
أدنى فكما أن العمل الصادر من عقد البيع هو ترك المبيع وإخراجه من اليد وأخذ العوض
فكذلك الزهد يوجب ترك المزهود فيه بالكلية وهي الدنيا بأسرها مع أسبابها ومقدماتها
وعلائقها فيخرج من القلب حبها ويدخل حب الطاعات ويخرج من العين واليد ما أخرجه من
القلب ويوظف على اليد والعين وسائر الجوارح وظائف الطاعات وإلا كان كمن سلم المبيع
ولم يأخذ الثمن فإذا وفى بشرط الجانبين في الأخذ والترك فليستبشر ببيعه الذي بايع
به فإن الذي بايعه بهذا البيع وفى بالعهد فمن سلم حاضرا في غائب وسلم الحاضر وأخذ
يسعى في طلب الغائب سلم إليه الغائب حين فراغه من سعيه إن كان العاقد ممن يوثق
بصدقه وقدرته ووفائه بالعهد وما دام ممسكا للدنيا لا يصح زهده أصلا ولذلك لم يصف
الله تعالى إخوة يوسف بالزهد في بنيامين وإن كانوا قد قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا
منا وعزموا على أبعاده كما عزموا على يوسف حتى تشفع فيه أحدهم فترك ولا وصفهم أيضا
بالزهد في يوسف عند العزم على إخراجه بل عند التسليم والبيع فعلامة الرغبة
والإمساك وعلامة الزهد والإخراج فإن أخرجت عن اليد بعض الدنيا دون البعض فأنت زاهد
فيما أخرجت فقط ولست زاهدا مطلقا وإن لم يكن لك مال ولم تساعدك الدنيا لم يتصور
منك الزهد لأن ما لا يقدر عليه لا يقوى على تركه وربما يستهويك الشيطان بغروره
ويخيل إليك أن الدنيا وإن لم تأتك فأنت زاهدا فيها فلا ينبغي أن تتدلى بحبل غروره
دون أن تستوثق وتستظهر بموثق غليظ من الله فإنك إذا لم تجرب حال القدرة فلا تثق
بالقدرة على الترك عندها فكم من ظان بنفسه كراهة المعاصي عند تعذرها فلما تيسرت له
أسبابها من غير مكدر ولا خوف من الخلق وقع فيها وإذا كان هذا غرور النفس في
المحظورات فإياك أن تثق بوعدها في المباحات والموثق الغليظ الذي تأخذه عليها أن
تجربها مرة بعد مرة في حال القدرة فإذا وفت بما وعدت على الدوام مع انتقاء الصوارف
والأعذار ظاهرا وباطنا فلا بأس أن تثق بها وثوقا ما ولكن تكون من تغيرها أيضا على
حذر فإنها سريعة النقض للعهد قريبة الرجوع إلى مقتضى الطبع وبالجملة فلا أمان منها
إلا عند الترك بالإضافة إلى ما ترك فقط وذلك عند القدرة قال ابن أبي ليلى لابن
شبرمة ألا ترى إلى ابن الحائك هذا
لا نفتي في مسألة إلا رد علينا يعني أبا
حنيفة فقال ابن شبرمة لا أدري أهو ابن الحائك أم ما هو لكن أعلم أن الدنيا غدت
إليه فهرب منها وهربت منا فطلبناها وكذلك قال جميع المسلمين على عهد رسول الله صلى
الله عليه و سلم إنا نحب ربنا ولو علمنا في أي شيء محبته لفعلناه حتى نزل قوله
تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا
قليل منهم // حديث قال المسلمون إنا نحب ربنا ولو علمنا في أي شيء محبته لفعلناه
حتى نزل قوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم الآية لم أقف له على أصل
//
قال ابن مسعود رحمه الله قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم أنت منهم يعني من
القليل قال وما عرفت أن فينا من يحب الدنيا حتى نزل قوله تعالى منكم من يريد الدنيا
ومنكم من يريد الآخرة واعلم أنه ليس من الزهد ترك المال وبذله على سبيل السخاء
والفتوة وعلى سبيل استمالة القلوب وعلى سبيل الطمع فذلك كله من محاسن العادات ولكن
لا مدخل لشيء منه في العبادات وإنما الزهد أن تترك الدنيا لعلمك بحقارتها بالإضافة
إلى نفاسة الآخرة فأما كل نوع من الترك فإنه يتصور ممن لا يؤمن بالآخرة فذلك قد
يكون مروءة وفتوة وسخاء وحسن خلق ولكن لا يكون زهدا إذ حسن الذكر وميل القلوب من
حظوظ العاجلة وهي ألذ وأهنأ من المال وكما أن ترك المال على سبيل السلم طمعا في
العوض ليس من الزهد فكذلك تركه طمعا في الذكر والثناء والاشتهار بالفتوة والسخاء
واستثقالا له لما في حفظ المال من المشقة والعناء
والحاجة إلى التذلل للسلاطين والأغنياء ليس من الزهد أصلا بل هو استعجال حظ آخر
للنفس بل الزاهد من أتته الدنيا راغمة صفوا عفوا وهو قادر على التنعم بها من غير
نقصان جاه وقبح اسم ولا فوات حظ للنفس فتركها خوفا من أن يأنس بها فيكون آنسا بغير
الله ومحبا لما سوى الله ويكون مشركا في حب الله تعالى غيره
أو تركها طمعا في ثواب الله في الآخرة فترك التمتع بأشربة الدنيا طمعا في أشربة
الجنة وترك التمتع بالسراري والنسوان طمعا في الحور العين وترك التفرج في البساتين
طمعا في بساتين الجنة وأشجارها وترك التزين والتجمل بزينة الدنيا طمعا في زينة
الجنة وترك المطاعم اللذيذة طمعا في فواكه الجنة وخوفا من أن يقال له أذهبتم
طيباتكم في حياتكم الدنيا فآثر في جميع ذلك ما وعد به في الجنة على ما تيسر له في
الدنيا عفوا وصفوا لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى وأن ما سوى هذا فمعاملات
دنيوية لا جدوى لها في الآخرة أصلا
بيان فضيلة الزهد قال الله تعالى فخرج على قومه في زينته إلى قوله
تعالى وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن فنسب الزهد إلى العلماء
ووصف أهله بالعلم وهو غاية الثناء وقال تعالى اولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا
وجاء في التفسير على الزهد في الدنيا وقال عز و جل إنا جعلنا ما على الأرض زينة
لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا قيل معناه أيهم أزهد فيها فوصف الزهد بأنه من أحسن
الأعمال وقال تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث
الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب وقال تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما
متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وقال
تعالى الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فوصف الكفار بذلك فمفهومه أن المؤمن
هو الذي يتصف بنقيضه وهو أن يستحب الآخرة على الحياة الدنيا
وأما الأخبار فما ورد منها في ذم الدنيا
كثير وقد أوردنا بعضها في كتاب ذم الدنيا مع ربع المهلكات إذ حب الدنيا من
المهلكات ونحن الآن نقتصر على فضيلة بغض الدنيا فإنه من المنجيات وهو المعنى
بالزهد وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه
أمره وفرق عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن
أصبح وهمه الآخرة جمع الله له همه وحفظ عليه ضيعته وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا
وهي راغمة // حديث من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه أمره الحديث أخرجه ابن ماجة
من حديث زيد بن ثابت بسند جيد والترمذي من حديث أنس بسند ضعيف نحوه // وقالA إذا رأيتم العبد
وقد أعطى صمتا وزهدا في الدنيا فاقتربوا منه فإنه يلقى الحكمة // حديث إذا رأيتم
العبد قد أوتي صمتا وزهدا في الدنيا فاقتربوا منه فأنه يلقى الحكمة رواه ابن ماجة
من حديث أبي خلاد بسند فيه ضعف // وقال تعالى ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا
ولذلك قيل من زهد في الدنيا أربعين يوما أجرى الله ينابيع الحكمة في قلبه وأنطق
بها لسانه وعن بعض الصحابة أنه قال قلنا يا رسول الله أي الناس خير قال كل مؤمن
محموم القلب صدوق اللسان قلنا يا رسول الله وما محموم القلب قال التقي النقي الذي
لا غل فيه ولا غش ولا بغى ولا حسد قلنا يا رسول الله فمن على أثره قال الذي يشنأ
الدنيا ويحب الآخرة // حديث قلنا يا رسول الله وما محموم القلب قال التقي النقي
الحديث رواه ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو دون قوله يارسمول الله
فمن على أثره وقد تقدم ورواه بهذه الزيادة بإسناد المذكور الخرائط في مكارم
الأخلاق // ومفهوم هذا أن شر الناس الذي يحب الدنيا
وقال صلى الله عليه و سلم إن أردت أن يحبك الله فازهد في الدنيا // حديث أن أردت
أن يحبك الله فازهد في الدنيا رواه ابن ماجه من حديث سهل بن سعد بسند ضعيف نحوه
وقد تقدم // فجعل الزهد سببا للمحبة فمن أحبه الله تعالى فهو في أعلى الدرجات
فينبغي أن يكون الزهد في الدنيا من أفضل المقامات ومفهومه أيضا أن من محب الدنيا
متعرض لبغض الله تعالى وفي خبر من طريق أهل البيت الزهد والورع يجولان في القلوب
كل ليلة فإن صادفا قلبا فيه الإيمان والحياء أقاما فيه وإلا ارتحلا // حديث الزهد
والورع يجولان في القلب كل ليلة فإن صادفا قلبا فيه الإيمان والحياء أقاما فيه
وإلا ارتحلا لم أجد له أصلا // ولما قال حارثة لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنا
مؤمن حقا قال وما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي حجرها وذهبها
وكأني بالجنة والنار وكأني بعرش ربي بارزا فقال صلى الله عليه و سلم اعرفت فالزم
عبد نور الله قلبه بالإيمان // حديث لما قال له حارثة أنا مؤمن حقا فقال وما حقيقة
إيمانك الحديث أخرجه البزار من حديث أنس والطبراني من حديث الحارث بن مالك وكلا
الحديثين ضعيف // فانظر كيف بدأ في إظهار حقيقة الإيمان بعزوف النفس عن الدنيا
وقرنه باليقين وكيف زكاة رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ قال عبد نور الله قلبه
بالإيمان
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم عن معنى الشرح في قوله تعالى فمن يرد الله
أن يهديه يشرح صدره للإسلام وقيل له ما هذا الشرح قال إن النور إذا دخل في القلب
انشرح له الصدر وانفسح قيل يا رسول الله وهل لذلك من علامة قال نعم التجافى عن دار
الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله // حديث سئل عن قوله
تعالى فمن يرد الله أن يهديه الحديث أخرجه الحاكم // وقد تقدم فانظر كيف جعل الزهد
شرطا للإسلام وهو التجافي عن دار الغرور وقال صلى الله عليه و سلم استحيوا من الله
حق الحياء قالوا إنا لنستحي منه تعالى فقال ليس كذلك تبنون مالا تسكنون وتجمعون
مالا تأكلون // حديث استحيوا من الله حق الحياء الحديث رواه الطبراني من حديث أمم
الوليد بنت عمر بن الخطاب بإسناد ضعيف // فبين أن ذلك يناقض الحياء من الله تعالى
ولما قدم عليه بعض الوفود قالوا إنا مؤمنون قال وما علامة إيمانكم فذكروا
الصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء
والرضا بمواقع القضاء وترك الشماتة بالمصيبة إذا نزلت بالأعداء فقال صلى الله عليه
و سلم إن كنتم كذلك فلا تجمعوا مالا تأكلون ولا تبنوا مالا تسكنون ولا تنافسوا
فيما عنه ترحلون // حديث لما قدم عليه بعض الوفود قالواإنا مؤمنون قال وما علامة
إيمانكم الحديث رواه الخطيب وابن عساكر في تاريخهما بإسناد ضعيف من حديث جابر فجعل
الزهد تكملة لإيمانهم
وقال جابر رضي الله عنه خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال من جاء بلا إله
إلا الله لا يخلط بها غيرها وجبت له الجنة فقام إليه علي كرم الله وجهه فقال بأبي
أنت وأمي يا رسول الله مالا يخلط بها غيرها صفه لنا فسره لنا فقال حب الدنيا طلبا
لها واتباعا لها وقوم يقولون قول الأنبياء ويعملون عمل الجبابرة فمن جاء بلا إله
إلا الله ليس فيها شيء من هذا وجبت له الجنة // حديث جابر من جاء بلا إله إلا الله
لا يخلط معها شيئا وجبت له الجنة لم أره من حديث جابر وقد رواه الترمذي الحكيم في
النوادر من حديث زيد بن أرقم بإسناد ضعيف // وفي الخبر السخاء من اليقين ولا يدخل
النار موقن والبخل من الشك ولا يدخل الجنة من شك // حديث السخاء من اليقين ولا
يدخل النار موقن الحديث ذكره صاحب الفردوس من حديث أبي الدرداء ولم يخرجه ولده في
مسنده //
وقال أيضا السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة والبخيل بعيد من الله
بعيد من الناس قريب من النار // حديث السخي قريب من الله الحديث أخرجه الترمذي من
حديث أبي هريرةوقد تقدم والبخل ثمرة الرغبة في الدنيا والسخاء ثمرة الزهد
والثناء على الثمرة ثناء على المثمر لا محالة
وروى عن ابن المسيب عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال من زهد في
الدنيا أدخل الله الحكمة قلبه فأنطق بها لسانه وعرفه داء الدنيا ودواءها وأخرجه
منها سالما إلى دار السلام // حديث أبي ذر من زهد الدنيا أدخل الله الحكمة قلبه
الحديث لم أره من حديث أبي ذر ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا من حديث
صفوان بن سليم مرسلا ولابن عدي في الكامل من حديث أبي موسى الأشعري من زهد في
الدنيا أربعين يوما وأخلص فيها العبادة أجرى الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه
وقال حديث منكر وقال الذهبي باطل ورواه أبو الشيخ في كتاب الثواب وأبو نعيم في
الحلية مختصرا من حديث أبي أيوب من أخلص لله وكلها ضعيفة // وروى أنه صلى الله
عليه و سلم مر في أصحابه بعشار من النوق حفل وهي الحوامل وكانت من أحب أموالهم
إليهم وأنفسها عندهم لأنها تجمع الظهر واللحم واللبن والوبر ولعظمها في قلوبهم قال
الله تعالى وإذا العشار عطلت قال فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم وغض
بصره فقيل له يا رسول الله هذه أنفس أموالنا لم لا تنظر إليها فقال قد نهاني الله
عن ذلك ثم تلا قوله تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به الآية // حديث مر في
أصحابه بعشار من النوق حفل الحديث وفيه ثم تلا قوله تعالى ولا تمدن عينيك الآية لم
أجد له أصلا // وروى مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله ألا
تستطعم لله فيطعمك قالت وبكيت لما رأيت به من الجوع فقال يا عائشة والذي نفسي بيده
لو سألت ربي أن يجرى معي جبال الدنيا ذهبا لأجراها حيث شئت من الأرض ولكن اخترت
جوع الدنيا على شبعها وفقر الدنيا على غناها وحزن الدنيا على فرحها يا عائشة إن
الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد يا عائشة إن الله لم يرض لأولى العزم من الرسل
إلا الصبر على مكروه الدنيا والصير عن محبوبها ثم لم يرض إلا أن يكلفني ما كلفهم
فقال فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل والله مالي بد من طاعته وإني والله لأصبرن
كما صبروا بجهدي ولا قوة إلا بالله // حديث مسروق عن عائشة قلت يا رسول الله ألا
تستطعم ربك فيطعمك قالت وبكيت لما رأيت به من الجوع الحديث وفيه يا عائشة إن الله
لم يرض لأولى العزم من الرسل إلا الصبر الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند
الفردوس من طريق أبي عبد الرحمن السلمي من رواية عباد بن عباد عن مجالد عن الشعبي
عن مسروق مختصرا يا عائشة إن الله لم يرض من أولى العزم من الرسل إلا الصبر على
مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم فقال تعالى فاصبر كما
صبر أولوا العزم من الرسل ومجالد مختلف في الاحتجاج به // وروى عن عمر رضي الله
عنه أنه حين فتح عليه الفتوحات قالت له ابنته حفصة رضي الله عنها
إلبس ألين الثياب إذا وفدت عليك الوفود
من الآفاق ومر بصنعة طعام تطعمه وتطعم من حضر فقال عمر يا حفصة ألست تعلمين أن
أعلم الناس بحال الرجل أهل بيته فقالت بلى قال ناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع هو ولا أهل بيته غدوة إلا
جاعوا عشية ولا شبعوا عشية إلا جاعوا غدوة وناشدتك الله هل تعلمين أن النبي صلى
الله عليه و سلم لبث في النبوة كذا وكذا سنة لم يشبع من التمر وهو وأهله حتى فتح
الله عليه خيبر وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قربتم
إليه يوما طعاما على مائدة فيها أرتفاع فشق ذلك عليه حتى تغير لونه ثم أمر
بالمائدة فرفعت ووضع الطعام على دون ذلك أو وضع على الأرض وناشدتك الله هل تعلمين
أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ينام على عباءة مثنية فثنيت له ليلة أربع
طاقات فنام عليها فلما استيقظ قال منعتموني قيام الليلة بهذه العباءة اثنوها
باثنتين كما كنتم تثنونها وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه و
سلم كان يضع ثيابه لتغسل فيأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فما يجد ثوبا يخرج به إلى
الصلاة حتى تجف ثيابه فيخرج بها إلى الصلاة وناشدتك الله هل تعلمين أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم صنعت له امرأة من بني ظفر كساءين إزارا ورداء وبعثت إليه
بأحدهما قبل أن يبلغ الآخر فخرج إلى الصلاة وهو مشتمل به ليس عليه غيره وقد عقد
طرفيه إلى عنقه فصلى كذلك فما زال يقول حتى أبكاها وبكى عمر رضي الله عنه وانتحب
حتى ظننا أن نفسه ستخرج // حديث أن عمر لما فتحت عليه الفتوحات قالت له حفصة إلبس
لين الثياب إذا قدمت عليك الوفود الحديث بطوله وفيه ناشدتك الله هل تعلمين كذا
يذكرها ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم حتى أبكاها وبكى إلخ
لم أجده هكذا مجموعا في حديث وهو مفرق في عدة أحاديث فروى البزار من حديث عمران بن
حصين قال ما شبع رسول الله صلى الله عليه و سلم وأهله غداء وعشاء من خبز حتى لقي
ربه وفيه عمرو بن عبد الله القدري متروك الحديث والترمذي من حديث عائشة قالت ما
أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلا بكيت قلت لم قالت أذكر الحال التي فارق رسول الله
صلى الله عليه و سلم الدنيا عليها والله ما شبع من خبز ولحم مرتين في يوم
وقال حديث حسن وللشيخين من حديثها ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من طعام ثلاث
ليال تباعا حتى قبض
وللبخاري من حديث أنس كان لا يأكل على خوان الحديث وتقدم في آداب الأكل وللترمذي
في الشمائل من حديث حفصة أنها لما سئلت ما كان فراش النبي صلى الله عليه و سلم مسح
نثنيه ثنتين فينام عليه الحديث
ولابن سعد في الطبقات من حديث عائشة أنها كانت تفرش للنبي صلى الله عليه و سلم
عباءة باثنتين الحديث وتقدما في آداب المعيشة وللبزار من حديث أبي الدرداء قال كان
رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينخل له الدقيق ولم لم يكن له إلا قميص واحد
وقال لا نعلم يروى بهذا اللفظ إلا بهذا الإسناد قال يونس بن بكير قد حدث عن سعيد
بن ميسرة البكرى بأحاديث لم يتابع عليها واحتملت على ما فيها قلت فيه سعيد بن
ميسرة فقد كذبه يحيى القطان وضعفه البخاري وابن حبان وابن عدي وغيرهم ولابن ماجة
من حديث عبادة بن الصامت صلى في شملة قد عقد عليها الغطريفى في جزئه المشهور
فعقدها في عنقه ما عليه غيرها وإسناده ضعيف وتقدم في آداب الميشة //
وفي بعض الروايات زيادة من قول عمر وهو أنه قال كان لي صاحبان سلكا طريقا فإن سلكت
غير طريقهما سلك بي طريق غير طريقهما وإني والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلي
أدرك معهما عيشهما الرغيد
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لقد كان الأنبياء قبلي
يبتلى أحدهم بالفقر فلا يلبس إلا العباءة وإن كان أحدهم ليبتلى بالقمل حتى يقتله
القمل وكان ذلك أحب إليهم من العطاء إليكم // حديث أبي سعيد الخدرى كان الأنبياء
يبتلى أحدهم بالفقر فلا يجد إلا العباء الحديث بإسناد صحيح في أثناء حديث أوله
دخلت على النبي صلى الله عليه و سلم وهو يوعك دون قوله وإن كان أحدهم ليبتلى
بالقمل //
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لما ورد موسى عليه السلام ماء مدين
كانت خضرة البقل ترى في بطنه من الهزال فهذا ما كان قد اختاره أنبياء الله ورسله
وهم أعرف خلق الله بالله وبطريق الفوز في الآخرة
وفي حديث عمر رضي الله عنه أنه قال لما نزل قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة
ولا ينفقونها
في سبيل الله قال صلى الله عليه و سلم
تبا للدنيا تبا للدينار والدرهم فقلنا يا رسول الله نهانا الله عن كنز الذهب
والفضة فأي شيء ندخر فقال صلى الله عليه و سلم ليتخذ أحدكم لسانا ذاكرا وقلبا
شاكرا أو زوجة صالحة تعينه على أمر آخرته // حديث عمر لما نزل قوله تعالى والذين
يكنزون الذهب والفضة الآية قال تبا للدينار والدرهم الحديث وفيه فأي شيء ندخر
أخرجه الترمذي وابن ماجه وتقدم في النكاح دون قوله تبا للدينار والدرهم والزيادة
رواها الطبراني في الأوسط وهو من حديث ثوبان وإنما قال المصنف إنه حديث عمر لأن
عمر هو الذي سأل النبي صلى الله عليه و سلم أي المال يتخذ كما في رواية ابن ماجه
وكما رواه البزار من حديث ابن عباس //
وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من آثر الدنيا على
الآخرة ابتلاه الله بثلاث هما لا يفارق قلبه أبدا وفقرا لا يستغنى أبدا وحرصا لا
يشبع أبدا // حديث حذيفة من آثر الدنيا على الآخرة ابتلاه الله بثلاث الحديث لم
أجده من حديث حذيفة أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود بسند حسن من أشر في قلبه حب
الدنيا التاط منها بثلاث شقاء لا ينفد عناء وحرص لا بلغ عناه وأمل لايبلغ منها وفي
آخر زيادة //
وقال النبي صلى الله عليه و سلم لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب
إليه من أن يعرف وحتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته // حديث لا يستكمل عبد
الإيمان حتى يكون أن لا يعرف أحب إليه من أن يعرف وحتى يكون قلته أحب إليه من
كثرته لم أجد له إسنادا وذكره صاحب الفردوس من رواية على بن أبي طلحة مرسلا لا
يستكمل عبد الإيمان حتى يكون قلة الشيء أحب إليه من كثرته وحتى يكون أن يعرف في ذات
الله أحب إليه من أن يعرف في غير ذات الله ولم يخرجه ولده في مسند الفردوس وعلي بن
أبي طلحة أخرج له مسلم
وروى عن ابن عباس لكن روايته عنه مرسلة فالحديث إذن مفصل
وقال المسيح صلى الله عليه و سلم الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها وقيل له يا
نبي الله لو أمرتنا أن نبني بيتا نعبد الله فيه قال اذهبوا فابنوا بيتا على الماء
فقالوا كيف يستقيم بنيان على الماء قال وكيف تستقيم عبادة مع حب الدنيا
وقال نبينا صلى الله عليه و سلم إن ربي عز و جل عرض على أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا
فقلت لا يا رب ولكن أجوع يوما وأشبع يوما فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك
وأدعوك وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك وأثنيعليك
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم يمشي
وجبريل معه فصعد على الصفا فقال له النبي صلى الله عليه و سلم يا جبريل والذي بعثك
الحق ما أمسى لآل محمد كف سويق ولا سفة دقيق فلم يكن أسرع من أن سمع هدة من السماء
أفظعته فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر الله القيامة أن تقوم قال لا ولكن
هذا إسرافيل عليه السلام قد نزل إليك حين سمع كلامك فأتاه إسرافيل فقال إن الله عز
و جل سمع ما ذكرت فبعثني بمفاتيح الأرض وأمرني أن أعرض عليك إن أحببت أن أسير معك
جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة فعلت وإن شئت نبيا ملكا وإن شئت نبيا عبدا
فأومأ إليه جبريل أن تواضع لله فقال نبيا عبدا ثلاثا // حديث ابن عباس خرج رسول
الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم وجبريل معه فصعد على الصفا الحديث في نزول
إسرافيل وقوله إن أحببت أن أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة الحديث
تقدم مختصرا //
وقال صلى الله عليه و سلم إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا ورغبه في الآخرة
وبصره بعيوب نفسه // حديث إذا أراد الله بعبد خيرا زهده في الدنيا ورغبه في الآخرة
وبصره بعيوب نفسه رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس دون قوله ورغبه في
الآخرة وزاد فقهه في الدين وإسناده ضعيف //
وقال صلى الله عليه و سلم لرجل إزهد في
الدنيا يحبك الله وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس // حديث إزهد في الدنيا
يحبك الله الحديث تقدم // وقال صلى الله عليه و سلم من أراد أن يؤتيه الله علما
بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا // حديث من أراد أن يؤتيه الله علما
بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا لم أجد له أصلا // وقال صلى الله عليه
و سلم من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات ومن خاف من النار لها عن الشهوات ومن
ترقب الموت ترك اللذات ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات // حديث من اشتاق إلى
الجنة سارع إلى الخيرات الحديث رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث علي بن أبي طالب
//
ويروى عن نبينا وعن المسيح عليهما السلام أربع لا يدركن إلا بتعب الصمت وهو أول
العبادة والتواضع وكثرة الذكر وقلة الشيء // حديث أربع لا يدركن إلا بتعب الصمت
وهو أول العبادة الحديث رواه الطبراني والحاكم من حديث أنس وقد تقدم // وإيراد
جميع الأخبار الواردة في مدح بغض الدنيا وذم حبها لا يمكن فإن الأنبياء ما بعثوا
إلا لصرف الناس عن الدنيا إلى الآخرة وإليه يرجع أكثر كلامهم مع الخلق وفيما
أوردناه كفاية والله المستعان
وأما الآثار فقد جاء في الأثر لا تزال لا إله إلا الله تدفع عن العباد سخط الله عز
و جل ما لم يسألوا ما نقص من دنياهم
وفي لفظ آخر ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم فإذا فعلوا ذلك وقالوا لا إله إلا
الله قال الله تعالى كذبتم لستم بها صادقين
وعن بعض الصحابة رضي الله عنهم أنه قال تابعنا الأعمال كلها فلم نر في أمر الآخرة
أبلغ من زهد في الدنيا
وقال بعض الصحابة لصدر من التابعين أنتم أكثر أعمالا واجتهادا من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه و سلم وكانوا خيرا منكم قيل ولم ذلك قال كانوا أزهد في الدنيا منكم
وقال عمر رضي الله عنه الزهادة في الدنيا راحة القلب والجسد
وقال بلال بن سعد كفى به ذنبا أن الله تعالى يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها
وقال رجل لسفيان أشتهى أن أرى عالما زاهدا فقال ويحك تلك ضالة لا توجد
وقال وهب بن منبه إن للجنة ثمانية أبواب فإذا صار أهل الجنة إليها جعل البوابون
يقولون وعزة ربنا لا يدخلها أحد قبل الزاهدين في الدنيا العاشقين للجنة
وقال يوسف بن أسباط رحمه الله إني لأشتهى من الله ثلاث خصال أن أموت حين أموت وليس
في ملكي درهم ولا يكون على دين ولا على عظمي لحم فأعطى ذلك كله
وروى أن بعض الخلفاء أرسل إلى الفقهاء بجوائز فقبلوها وأرسل إلى الفضيل بعشرة آلاف
فلم يقبلها فقال له بنوه قد قبل الفقهاء وأنت ترد على حالتك هذه فبكى الفضيل وقال
أتدرون ما مثلي ومثلكم كمثل قوم كانت لهم بقرة يحرثون عليها فلما هرمت ذبحوها لأجل
أن ينتفعوا بجلدها كذلك أنتم أردتم ذبحي على كبر سني موتوا يا أهلي جوعا خير لكم
من أن تذبحوا فضيلا
وقال عبيد بن عميرة كان المسيح ابن مريم عليه السلام يلبس الشعر ويأكل الشجر وليس
له ولد يموت ولا بيت يخرب ولا يدخر لغد أينما أدركه المساء نام
وقالت امرأة أبي حازم لأبي هذا الشتاء قد هجم علينا ولا بد لنا من الطعام والثياب
والحطب
فقال لها أبو حازم من هذا كله بد ولكن لا
بد لنا من الموت ثم البعث ثم الوقوف بين يدى الله تعالى ثم الجنة أو النار
وقيل للحسن لم لا تغسل ثيابك قال الأمر أعجل من ذلك
وقال إبراهيم ابن أدهم قد حجبت قلوبنا بثلاثة أغطية فلن يكشف للعبد اليقين حتى
ترفع هذه الحجب الفرح بالموجود والحزن على المفقود والسرور بالمدح فإذا فرحت
بالموجود فأنت حريص وإذا حزنت على المفقود فأنت ساخط والساخط معذب وإذا سررت
بالمدح فأنت معجب والعجب يحبط العمل
وقال ابن مسعود رضى الله عنه ركعتين من زاهد قلبه خير له وأحب إلى الله من عبادة
المتعبدين المجتهدين إلى آخر الدهر أبدا سرمدا
وقال بعض السلف نعمة الله علينا فيما صرف عنا أكثر من نعمته فيما صرف إلينا وكأنه
التفت إلى معنى قوله صلى الله عليه و سلم إن الله يحمى عبده المؤمن من الدنيا وهو
يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه // حديث إن الله يحيي عبده
المؤمن من الدنيا الحديث تقدم // فإذا فهم هذا علم أن النعمة فى المنع المؤدى إلى
الصحة أكبر منها فى الإعطاء المؤدى إلى السقم
وكان الثورى يقول الدنيا دار التواء لا دار استواء ودار ترح لا دار فرح من عرفها
لم يفرح برخاء ولم يحزن على شقاء
وقال سهل لا يخلص العمل لمتعبد حتى يفرغ من أربعة أشياء الجوع والعرى والفقر والذل
وقال الحسن البصري أدركت أقواما وصحبت طوائف ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل
ولا يأسفون على شىء منها أدبر ولهى كانت فى أعينهم أهون من التراب كان أحدهم يعيش
خمسين سنة أو ستين سنة لم يطوله ثوب ولم ينصب له قدر ولم يجعل بينه وبين الأرض
شيئا ولا أمر من فى بيته بصنعة طعام قط فإذا كان الليل فقيام على أقدامهم يفترشون
وجوههم تجرى دموعهم على خدودهم يناجون ربهم فى فكاك رقابهم كانوا إذا عملوا الحسنة
دأبوا فى شكرها وسألوا الله أن يقبلها وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله أن
يغفرها لهم فلم يزالوا على ذلك ووالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة
رحمة الله عليهم ورضوانه
بيان درجات الزهد وأقسامه بالإضافة إلى نفسه وإلى المرغوب عنه وإلى
المرغوب فيه
اعلم أن الزهد في نفسه يتفاوت بحسب تفاوت قوته على درجات ثلاث الدرجة الأولى وهى
السفلى منها أن يزهد فى الدنيا وهو لها مشته وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة
ولكنه يجاهدها ويكفها وهذا يسمى المتزهد وهو مبدأ الزهد فى حق من يصل إلى درجة
الزهد بالكسب والاجتهاد والمتزهد يذيب أولا نفسه ثم كيسه والزاهد أولا يذيب كيسه
ثم يذيب نفسه في الطاعات لا فى الصبر على ما فارقه والمتزهد على خطر فإنه ربما
تغلبه نفسه وتجذبه شهوته فيعود إلى الدنيا وإلى الاستراحة بها فى قليل أو كثير
الدرجة الثانية الذى يترك الدنيا طوعا لاستحقاره إياها بالإضافة إلى ما طمع فيه
كالذى يترك درهما لأجل درهمين فإنه لا يشق عليه ذلك وإن كان يحتاج إلى انتظار قليل
ولكن هذا الزاهد يرى لا محالة زهده ويلتفت إليه كما يرى البائع المبيع ويلتفت إليه
فيكاد يكون معجبا بنفسه وبزهده ويظن فى نفسه أنه ترك شيئا له قدر لما هو أعظم قدرا
منه وهذا أيضا نقصان الدرجة الثالثة وهى العليا أن يزهد طوعا ويزهد فى زهده فلا
يرى زهده إذ لا يرى أنه ترك شيئا إذ عرف أن الدنيا لا شىء
فيكون كمن ترك خزفه وأخذ جوهرة فلا يرى
ذلك معاوضة ولا يرى نفسه تاركا شيئا والدنيا بالإضافة إلى الله تعالى ونعيم الآخرة
أخس من خزفة بالإضافة إلى جوهرة فهذا هو الكمال فى الزهد
وسببه كمال المعرفة ومثل هذا الزاهد آمن من خطر الالتفات إلى الدنيا كما أن تارك
الخزفة بالجوهرة أمن من طلب الإقالة فى البيع
قال أبو يزيد رحمه الله تعالى لأبى موسى عبد الرحيم فى أى شىء تتكلم قال فى الزهد
قال فى أى شىء قال فى الدنيا فنفض يده وقال ظننت أنه يتكلم فى شىء والدنيا لا شىء
إيش يزهد فيها
ومثل من ترك الدنيا للآخرة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب المعمورة بالمشاهدات
والمكاشفات مثل من منعه من باب الملك كلب على بابه فألقى إليه لقمة من خبز فشغله
بنفسه ودخل الباب ونال القرب عند الملك حتى نفذ أمره فى جميع مملكته أفترى أنه يرى
لنفسه يدا عند الملك بلقمة خبز ألقاها إلى كلبه فى مقابلة ما قد ناله فالشيطان كلب
على باب الله تعالى يمنع الناس من الدخول مع أن الباب مفتوح والحجاب مرفوع والدنيا
كلقمة خبز إن أكلت فلذتها فى حال المضغ وتنقضى على القرب بالابتلاع ثم يبقى ثقلها
فى المعدة ثم تنتهى إلى النتن والقذر ثم يحتاج بعد ذلك إلى إخراج ذلك الثقل فمن
تركها لينال عز الملك كيف يلتفت إليها ونسبة الدنيا كلها أعنى ما يسلم لكل شخص
منها وإن عمر مائة سنة بالإضافة إلى نعيم الآخرة أقل من لقمة بالإضافة إلى ملك
الدنيا إذ لا نسبة للمتناهى إلى مالا نهاية له والدنيا متناهية على القرب ولو كانت
تتمادى ألف ألف سنة صافية عن كل كدر لكان لا نسبة لها إلى نعيم الأبد فكيف ومدة
العمر قصيرة ولذات الدنيا مكدرة غير صافية فأى نسبة لها إلى نعيم الأبد فإذن لا
يلتفت الزاهد إلى زهده إلا إذا التفت إلى ما زهد فيه ولا يلتفت إلى ما زهد فيه إلا
لأنه يراه شيئا معتدا به ولا يراه شيئا معتدا به إلا لقصور معرفته فسبب نقصان
الزهد نقصان المعرفة فهذا تفاوت درجات الزهد وكل درجة من هذه أيضا لها درجات إذ
تصبر المتزهد يختلف ويتفاوت أيضا باختلاف قدر المشقة فى الصبر وكذلك درجة المعجب
بزهده بقدر التفاته إلى زهده
وأما انقسام الزهد بالإضافة إلى المرغوب فيه فهو أيضا على ثلاث درجات الدرجةالسفلى
أن يكون المرغوب فيه النجاة من النار ومن سائر الآلام كعذاب القبر ومناقشة الحساب
وخطر الصراط وسائر ما بين يدى العبد من الأهوال كما وردت به الأخبار إذ فيها إن
الرجل ليوقف في الحساب حتى لو وردت مائة بعير عطاشا على عرقه لصدرت رواء // حديث
إن الرجل ليوقف في الحساب حتى لو وردت مائة بعير عطاشا على عرفه لصدرت رواء أخرجه
أحمد من حديث ابن عباس التقى مؤمنان على باب الجنة مؤمن غني ومؤمن فقير الحديث
وفيه أني حبست بعدك محبسا فظيعا كريها ما وصلت إليك حتى سال مني العرق ما لو ورده
ألف بعير أكلة حمض لصدرت عنه رواء وفيه دريد غير منسوب يحتاج إلى معرفتهقال أحمد
حديثه مثله // فهذا هو زهد الخائفين وكأنهم رضوا بالعدم لو أعدموا فإن الخلاص من
الألم يحصل بمجرد العدم
الدرجة الثانية أن يزهد رغبة في ثواب الله ونعيمه واللذات الموعودة فى جنته من
الحور والقصور وغيرها وهذا زهد الراجين فإن هؤلاء ما تركوا الدنيا قناعة بالعدم
والخلاص من الألم بل طمعوا في وجود دائم ونعيم سرمد لا آخر له الدرجة الثالثة وهى
العليا أن لا يكون له رغبة إلا فى الله وفي لقائه فلا يلتفت قلبه إلى الآلام ليقصد
الخلاص منها ولا إلى اللذات ليقصد نيلها والظفر بها بل هو مستغرق الهم بالله تعالى
وهو الذى أصبح وهمومه هم واحد وهو الموحد الحقيقي الذى لا يطلب غير الله تعالى لأن
من طلب غير الله فقد عبده وكل مطلوب معبود وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه وطلب
غير الله من الشرك الخفى وهذا زهد
المحبين وهم العارفون لأنه لا يحب الله
تعالى خاصة إلا من عرفه وكما أن من عرف الدينار والدرهم وعلم أنه لا يقدر على
الجمع بينهما لم يحب إلا الدينار فكذلك من عرف الله وعرف لذة النظر إلى وجهه
الكريم وعرف أن الجمع بين تلك اللذة وبين لذة التنعم بالحور العين والنظر إلى نقش
القصور وخضرة الأشجار غير ممكن فلا يحب إلا لذة النظر ولا يؤثر غيره ولا تظنن أن
أهل الجنة عند النظر إلى وجه الله تعالى يبقى للذة الحور والقصور متسع في قلوبهم
بل تلك اللذة بالإضافة إلى لذة نعيم أهل الجنة كلذة ملك الدنيا والاستيلاء على
أطراف الأرض ورقاب الخلق بالإضافة إلى لذة الاستيلاء على عصفور واللعب به
والطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة وأرباب القلوب كالصبى الطالب للعب بالعصفور
التارك للذة الملك وذلك لقصوره عن إدراك لذة الملك لا لأن اللعب بالعصفور في نفسه
أعلى وألذ من الاستيلاء بطريق الملك على كافة الخلق
وأما انقسامه بالإضافة إلى المرغوب عنه فقد كثرت فيه الأقاويل ولعل المذكور فيه
يزيد على مائة قول فلا نشتغل بنقل الأقاويل ولكن نشير إلى كلام محيط بالتفاصيل حتى
يتضح أن أكثر ما ذكر فيه قاصر عن الإحاطة بالكل فنقول المرغوب عنه بالزهد له إجمال
وتفصيل ولتفصيله مراتب بعضها أشرح لآحاد الأقسام وبعضها أجمل للجمل
أما الإجمال فى الدرجة الأولى فهو كل ما سوى الله فينبغى أن يزهد فيه حتى يزهد فى
نفسه أيضا والإجمال في الدرجة الثانية أن يزهد فى كل صفة للنفس فيها متعة وهذا
يتناول جميع مقتضيات الطبع من الشهوة والغضب والكبر والرياسة والمال والجاه وغيرها
وفي الدرجة الثالثة أن يزهد في المال والجاه وأسبابهما إذ إليهما ترجع جميع حظوظ
النفس
وفي الدرجة الرابعة أن يزهد في العلم والقدرة والدينار والدرهم والجاه إذا الأموال
وإن كثرت أصنافها فيجمعها الدينار والدرهم والجاه وإن كثرت أسبابه فيرجع إلى العلم
والقدرة وأعنى به كل علم وقدرة مقصودها ملك القلوب إذ معنى الجاه هو ملك القلوب
والقدرة عليها كما أن معنى المال ملك الأعيان والقدرة عليها فإن جاوزت هذا التفصيل
إلى شرح وتفصيل أبلغ من هذا فيكاد يخرج ما فيه الزهد عن الحصر
وقد ذكر الله تعالى في آية واحدة سبعة منها فقال زين للناس حب الشهوات من النساء
والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك
متاع الحياة الدنيا ثم رده في آية أخرى إلى خمسة فقال عز و جل اعلموا أنما الحياة
الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ثم رده تعالى في
موضع آخر إلى اثنين فقال تعالى وإنما الحياة الدنيا لعب ولهو ثم رد الكل إلى واحد
في موضع آخر فقال ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى فالهوى لفظ يجمع جميع
حظوظ النفس في الدنيا فينبغى أن يكون الزهد فيه
وإذا فهمت طريق الإجمال والتفصيل عرفت أن البعض من هذه لا يخالف البعض وإنما
يفارقه فى الشرح مرة والإجمال أخرى
فالحاصل أن الزهد عبارة عن الرغبة عن حظوظ النفس كلها ومهما رغب عن حظوظ النفس رغب
عن البقاء في الدنيا فقصر أمله لا محالة لأنه إنما يريد البقاء ليتمتع ويريد
التمتع الدائم بإرادة البقاء فإن من أراد شيئا أراد دوامه ولا معنى لحب الحياة إلا
حب دوام ما هو موجود أو ممكن في هذه الحياة فإذا رغب عنها لم يردها ولذلك لما كتب
عليهم القتال قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب فقال
تعالى قل متاع الدنيا قليل أى لستم تريدون البقاء إلا لمتاع الدنيا فظهر عند ذلك
الزاهدون وانكشف حال المنافقين
أما الزاهدون المحبون لله تعالى فقاتلوا فى سبيل الله كأنهم بنيان مرصوص وانتظروا
إحدى الحسنيين وكانوا إذا دعوا إلى القتال يستنشقون رائحة الجنة ويبادرون إليه
مبادرة الظمآن إلى الماء البارد حرصا على نصرة دين الله
أو نيل رتبة الشهادة وكان من مات منهم
على فراشه يتحسر على فوت الشهادة حتى إن خالد بن الوليد رضى الله تعالى عنه لما
احتضر للموت على فراشه كان يقول كم غررت بروحى وهجمت على الصفوف طمعا فى الشهادة
وأنا الآن أموات موت العجائز فلما مات عد على جسده ثمانمائة ثقب من آثار الجراحات
هكذا كان حال الصادقين فى الإيمان رضى الله تعالى عنهم أجمعين
وأما المنافقون ففروا من الزحف خوفا من الموت فقيل لهم إن الموت الذين تفرون منه
فإنه ملاقيكم فإيثارهم البقاء على الشهادة استبدال الذى هو أدنى بالذى هو خير
فأولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين
وأما المخلصون فإن الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فلما رأوا
أنهم تركوا تمتع عشرين سنة مثلا أو ثلاثين سنة بتمتع الأبد استبشروا ببيعهم الذى
بايعوا به فهذا بيان المزهود فيه
وإذا فهمت هذا علمت أن ما ذكره المتكلمون في حد الزهد لم يشيروا به إلا إلى بعض
أقسامه فذكر كل واحد منهم ما رآه غالبا على نفسه أو على من كان يخاطبه فقال بشر
رحمه الله تعالى الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس وهذا إشارة إلى الزهد في الجاه
خاصة
وقال قاسم الجوعى الزهد في الدنيا هو الزهد في الجوف فبقدر ما تملك من بطنك كذلك
تملك من الزهد وهذا إشارة إلى الزهد في شهوة واحدة ولعمرى هي أغلب الشهوات على
الأكثر وهي المهيجة لأكثر الشهوات وقال الفضيل الزهد في الدنيا هو القناعة وهذا
إشارة إلى المال خاصة وقال الثورى الزهد هو قصر الأمل وهو جامع لجميع الشهوات فإن
من يميل إلى الشهوات يحدث نفسه بالبقاء فيطول أمله ومن قصر أمله فكأنه رغب عن
الشهوات كلها وقال أويس إذا خرج الزاهد يطلب ذهب الزهد عنه وما قصد بهذا حد الزهد
ولكن جعل التوكل شرطا في الزهد
وقال أويس أيضا الزهد هو ترك الطلب للمضمون وهو إشارة إلى الرزق وقال أهل الحديث
حب الدنيا هو العمل بالرأى والمعقول والزهد إنما هو أتباع العلم ولزوم السنة وهذا
إن أريد به الرأى الفاسد والمعقول الذى يطلب به الجاه في الدنيا فهو صحيح ولكنه
إشارة إلى بعض أسباب الجاه خاصة أو إلى بعض ما هو من فضول الشهوات فإن من العلوم
ما لا فائدة فيه في الآخرة وقد طولوها حتى ينقضى عمر الإنسان في الاشتغال بواحد
منها فشرط الزاهد أن يكون الفضول أول مرغوب عنه عنده وقال الحسن الزاهد الذى إذا
رأى أحدا قال هذا أفضل منى فذهب إلى أن الزهد هو التواضع وهذا إشارة إلى نفى الجاه
والعجب وهو بعض أقسام الزهد وقال بعضهم الزهد هو طلب الحلال وأين هذا ممن يقول
الزهد هو ترك الطلب كما قال أويس ولا شك في أنه أراد به ترك طلب الحلال وقد كان
يوسف بن أسباط يقول من صبر على الأذى وترك الشهوات وأكل الخبز من الحلال فقد أخذ
بأصل الزهد
وفي الزهد أقاويل وراء ما نقلناه فلم نر في نقلها فائدة فإن من طلب كشف حقائق
الأمور من أقاويل الناس رآها مختلفة فلا يستفيد إلا الحيرة وأما من انكشف له الحق
في نفسه وأدركه بمشاهدة من قلبه لا بتلقف من سمعه فقد وثق بالحق واطلع على قصور من
قصر لقصور بصيرته وعلى اقتصار من اقتصر من اقتصر مع كمال المعرفة لاقتصار حاجته
وهؤلاء كلهم اقتصروا لا لقصور في البصيرة لكنهم ذكروا ما ذكروه عند الحاجة فلا جرم
ذكروه بقدر الحاجة والحاجات تختلف فلا جرم الكلمات تختلف وقد يكون سبب الاقتصار
الإخبار عن الحالة الراهنة التى هي مقام العبد في نفسه والأحوال تختلف فلا جرم
الأقوال المخبرة عنها تختلف وأما الحق في نفسه
فلا يكون إلا واحدا ولا يتصور أن يختلف
وإنما الجامع من هذه الأقاويل الكامل في نفسه وإن لم يكن فيه تفصيل ما قاله أبو
سليمان الدارانى إذ قال سمعنا في الزهد كلاما كثيرا والزهد عندنا ترك كل شىء يشغلك
عن الله عز و جل وقد فصل مرة وقال من تزوج أو سافر في طلب المعيشة أو كتب الحديث
فقد ركن إلى الدنيا فجعل جميع ذلك ضدا للزهد وقد قرأ أبو سفيان قوله تعالى إلا من
أتى الله بقلب سليم فقال هو القلب الذي ليس فيه غير الله تعالى وقال إنما زهدوا في
الدنيا لتفرغ قلوبهم من همومها للآخرة فهذا بيان انقسام الزهد بالإضافة إلى أصناف
المزهود فيه فأما بالإضافة إلى أحكامه فينقسم إلى فرض ونفل وسلامة كما قاله
إبراهيم بن أدهم فالفرض هو الزهد في الحرام
والنفل هو الزهد في الحلال
والسلامة هو الزهد في الشبهات
وقد ذكرنا تفاصيل درجات الورع في كتاب الحلال والحرام وذلك من الزهد إذ قيل لمالك
بن أنس ما الزهد قال التقوى وأما بالإضافة إلى خفايا ما يتركه فلا نهاية للزهد فيه
إذ لا نهاية لما تتمتع به النفس في الخطرات واللحظات وسائر الحالات لا سيما خفايا
الرياء فإن ذلك لا يطلع عليه إلا سماسرة العلماء بل الأحوال الظاهرة أيضا درجات
الزهد فيها لا تتناهى فممن أقصى درجاته زهد عيسى عليه السلام إذ توسد حجرا فى نومه
فقال له الشيطان أما كنت تركت الدنيا فما الذى بدا لك قال وما الذى تجدد قال توسدك
الحجر أى تنعمت برفع رأسك عن الأرض فى النوم فرمى الحجر وقال خذه مع ما تركته لك
وروى عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه لبس المسوح حتى ثقب جلده تركا للتنعم
بلين اللباس واستراحة حس اللمس فسألته أمه أن يلبس مكان المسح جبة من صوف ففعل
فأوحى الله تعالى إليه يا يحيى آثرت على الدنيا فبكى ونزع الصوف وعاد إلى ما كان
عليه
وقال أحمد رحمه الله تعالى الزهد زهد أويس بلغ من العرى أن جلس في قوصرة
وجلس عيسى عليه السلام في ظل حائط إنسان فأقامه صاحب الحائط فقال ما أقمتنى أنت
إنما أقامنى الذى لم يرض لى أن أتنعم بظل الحائط فإذن درجات الزهدد ظاهرا وباطنا
لا حصر لها وأقل درجاته الزهد في كل شبهة ومحظور
وقال قوم الزهد هو الزهد الحلال لافى الشبهة والمحظور فليس ذلك من درجاته في شىء
ثم رأوا أنه لم يبق حلال في أموال الدنيا فلا يتصور الزهد الآن
فإن قلت مهما كان الصحيح هو أن الزهد ترك ما سوى الله فكيف يتصور ذلك مع الأكل
والشرب واللبس ومخالطة الناس ومكالمتهم وكل ذلك اشتغال بما سوى الله تعالى فاعلم
أن معنى الانصراف عن الدنيا إلى الله تعالى هو الإقبال بكل القلب عليه ذكرا وفكرا
ولا يتصور ذلك إلا مع البقاء ولا بقاء إلا بضروريات النفس فمهما اقتصرت من الدنيا
على دفع المهلكات عن البدن وكان غرضك الاستعانة بالبدن على العبادة لم تكن مشتغلا
بغير الله فإن ما لا يتوصل إلى الشىء إلا به فهو منه فالمشتغل بعلف الناقة وبسقيها
فى طريق الحج ليس معرضا عن الحج ولكن ينبغى أن يكون بدنك في طريق الله مثل ناقتك
في طريق الحج ولا غرض لك في تنعم ناقتك باللذات بل غرضك مقصور على دفع المهلكات
عنها حتى تسير بك إلى مقصدك فكذلك ينبغى أن تكون في صيانة بدنك عن الجوع والعطش
المهلك بالأكل والشرب وعن الحر والبرد المهلك باللباس والمسكن فتقصر على قدر
الضرورة ولا تقصد التلذذ بل التقوي على طاعة الله تعالى فذلك لا يناقض الزهد بل هو
شرط الزهد وإن قلت فلا بد وأن أتلذذ بالأكل عند الجوع فاعلم أن ذلك لا يضرك إذا لم
يكن قصدك التلذذ فإن شارب الماء البارد قد يستلذ الشرب ويرجع حاصله إلى زوال ألم
العطش ومن يقضى حاجته قد يستريح بذلك
ولكن لا يكون ذلك مقصودا عنده ومطلوبا
بالقصد فلا يكون القلب منصرفا إليه فالإنسان قد يستريح في قيام الليل بتنسم
الأسحار وصوت الأطيار ولكن إذا لم يقصد طلب موضع لهذه الاستراحة فما يصيبه من ذلك
بغير قصد لا يضره ولقد كان في الخائفين من طلب موضعا لا يصيبه فيه نسيم الأسحار
خيفة من الاستراحة به وأنس القلب معه فيكون فيه أنس بالدنيا ونقصان في الأنس بالله
بقدر وقوع الأنس بغير الله ولذلك كان داود الطائى له جب مكشوف فيه ماؤه فكان لا
يرفعه من الشمس ويشرب الماء الحار ويقول من وجد لذة الماء البارد شق عليه مفارقة
الدنيا فهذه مخاوف المحتاطين والحزم في جميع ذلك الاحتياط فإنه وإن كان شاقا فمدته
قريبة والاحتماء مدة يسيرة للتنعم على التأبيد لا يثقل على أهل المعرفة القاهرين
لأنفسهم بسياسة الشرع المعتصمين بعروة اليقين في معرفة المضادة التى بين الدنيا
والدين رضى الله تعالى عنهم أجمعين
بيان تفضيل الزهد فيما هو من ضروريات الحياة
اعلم أن ما الناس منهمكون فيه ينقسم إلى فضول وإلى مهم فالفضول كالخيل المسومة
مثلا إذ غالب الناس إنما يقتنيها للترفه بركوبها وهو قادر على المشى والمهم كالأكل
والشرب ولسنا نقدر على تفصيل أصناف الفضول فإن ذلك لا ينحصر وإنما ينحصر المهم
الضرورى والمهم أيضا يتطرق إليه فضول في مقداره وجنسه وأوقاته فلا بد من بيان وجه
الزهد فيه والمهمات ستة أمور المطعم والملبس والمسكن وأثاثه والمنكح والمال والجاه
يطلب لأغراض
وهذه الستة من جملتها وقد ذكرنا معنى الجاه وسبب حب الخلق وكيفية الاحتراز منه في
كتاب الرياء من ربع المهلكات ونحن الآن نقتصر على بيان هذه المهمات الستة
الأول المطعم ولا بد للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه ولكن له طول وعرض فلا بد من
قبض طوله وعرضه حتى يتم به الزهد فأما طوله فبالإضافة إلى جملة العمر فإن من يملك
طعام يومه فلا يقنع به وأما عرضه ففي مقدار الطعام وجنسه ووقت تناوله أما طوله فلا
يقصر إلا بقصر الأمل وأقل درجات الزهد فيه الاقتصار على قدر دفع الجوع عند شدة
الجوع وخوف المرض ومن هذا حاله فإذا استقل بما تناوله لم يدخر من غدائه لعشائه
وهذه هي الدرجة العليا الدرجة الثانية أن يدخر لشهر أو أربعين يوما الدرجة الثالثة
أن يدخر لسنة فقط وهذه رتبة ضعفاء الزهاد ومن ادخر لأكثر من ذلك فتسميته زاهدا
محال لأن من أمل بقاء أكثر من سنة فهو طويل الأمل جدا فلا يتم منه الزهد إلا إذا
لم يكن له كسب ولم يرض لنفسه الأخذ من أيدى الناس كداود الطائى فإنه ورث عشرين
دينارا فأمسكها وأنفقها في عشرين سنة فهذا لا يضاد أصل الزهد إلا عند من جعل
التوكل شرط الزهد وأما عرضه فبالإضافة إلى المقدار وأقل درجاته في اليوم والليلة
نصف رطل وأوسطه رطل وأعلاه مد واحد وهو ما قدره الله تعالى في إطعام المسكين في
الكفارة وما وراء ذلك فهو من اتساع البطن والاشتغال به ومن لم يقدر على الاقتصار
على مد لم يكن له من الزهد في البطن نصيب وأما بالإضافة إلى الجنس فأقله كل ما
يقوت ولو الخبز من النخالة وأوسطه خبز الشعير والذرة وأعلاه خبز البر غير منخول
فإذا ميز من النخالة وصار حوارى فقد دخل في التنعم وخرج عن أخر أبواب الزهد فضلا
عن أوائله
وأما الأدم فأقله الملح أو البقل والخل وأوسطه الزيت أو يسير من الأدهان أى دهن
كان وأعلاه اللحم أي لحم كان وذلك في الأسبوع مرة أو مرتين فإن صار دائما أو أكثر
من مرتين في الأسبوع خرج عن آخر أبواب الزهد فلم يكن صاحبه زاهدا في البطن أصلا
وأما بالإضافة إلى الوقت فأقله في اليوم والليلة مرة وهو أن يكون صائما وأوسطه
أن يصوم ويشرب ليلة ولا يأكل ويأكل ليلة
ولا يشرب وأعلاه أن ينتهى إلى أن يطوى ثلاثة أيام أو أسبوعا وما زاد عليه وقد
ذكرنا طريق تقليل الطعام وكسر شرهه في ربع المهلكات ولينظر إلى أحوال رسول الله
صلى الله عليه و سلم والصحابة رضوان الله عليهم في كيفية زهدهم في المطاعم وتركهم
الأدم
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها كانت تأتى علينا أربعون ليلة وما يوقد في بيت رسول
الله صلى الله عليه و سلم مصباح ولا نار قيل لها فبم كنتم تعيشون قالت بالأسودين
التمر والماء // حديث عائشة كانت تأتي أربعون ليلة وما يوقد في بيت رسول الله صلى
الله عليه و سلم مصباح ولا نار الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة كان يأتي على
آل محمد الشهر ما يرى في بيت من بيوته دخان الحديث
وفي رواية له ما يوقد فيه بنار
ولأحمد كان يمر بنا هلال وهلال ما يوقد في بيت من بيوته نار
وفي رواية له ثلاثة أهله // وهذا ترك اللحم والمرقة والأدم
وقال الحسن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يركب الحمار ويلبس الصوف وينتعل
المخصوف ويلعق أصابعه ويأكل على الأرض
ويقول إنما أنا عبد آكل كما تأكل العبيد وأجلس كما تجلس العبيد // حديث الحسن كان
رسول الله صلى الله عليه و سلم يركب الحمار الحديث تقدم دون قوله إنما أنا عبد
فإنه ليس من حديث الحسن إنما هو من حديث عائشة وقد تقدم //
وقال المسيح عليه السلام بحق أقول لكم إنه من طلب الفردوس فخبز الشعير له والنوم
على المزابل مع الكلاب كثير
وقال الفضيل ما شبع رسول الله صلى الله عليه و سلم منذ قدم المدينة ثلاثة أيام من
خبز البر // حديث ما شبع رسول الله صلى الله عليه و سلم منذ قدم المدينة ثلاثة
أيام من خبز البر تقدم //
وكان المسيح صلى الله عليه و سلم يقول يا بنى إسرائيل عليكم بالماء القراح والبقل
البرى وخبز الشعير وإياكم وخبز البر فإنكم لن تقوموا بشكره
وقد ذكرنا سيرة الأنبياء والسلف في المطعم والمشرب في ربع المهلكات فلا نعيده
ولما أتى النبي صلى الله عليه و سلم أهل قباء أتوه بشربة من لبن مشوبة بعسل فوضع
القدح من يده وقال أما إنى لست أحرمه ولكن أتركه تواضعا لله تعالى // حديث لما أتى
أهل قباء أتوه بشربة من لبن بعسل فوضع القدح من يده الحديث تقدم //
وأتى عمر رضى الله عنه بشربة من ماء بارد وعسل في يوم صائف فقال اعزلوا عنى حسابها
وقد قال يحيى ابن معاذ الرازى الزاهد الصادق قوته ما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه حيث
أدرك الدنيا سجنه والقبر مضجعه والخلوة مجلسه والاعتبار فكرته والقرآن حديثه والرب
أنيسه والذكر رفيقه والزهد قرينه والحزن شأنه والحياء شعاره والجوع إدامه والحكمة
كلامه والتراب فراشه والتقوى زاده والصمت غنيمته والصبر معتمده والتوكل حسبه
والعقل دليله والعبادة حرفته والجنة مبلغه إن شاء الله تعالى
المهم الثانى الملبس
وأقل درجته ما يدفع الحر والبرد ويستر العورة وهو كساء يتغطى به وأوسطه قميص
وقلنسوة ونعلان وأعلاه أن يكون معه منديل وسراويل وما جاوز هذا من حيث المقدار فهو
مجاوز حد الزهد
وشرط الزاهد أن لا يكون له ثوب يلبسه إذا غسل ثوبه بل يلزمه القعود فى البيت فإذا
صار صاحب قميصين وسراويلين ومنديلين فقد خرج من جميع ألوان الزهد من حيث المقدار
أما الجنس فأقله المسوح
الخشنة وأوسطه الصوف الخشن وأعلاه القطن
الغليظ
وأما من حيث الوقت فأقصاه ما يستر سنة وأقله ما يبقى يوما حتى رقع بعضهم ثوبه بورق
الشجر وإن كان يتسارع الجفاف إليه وأوسطه ما يتماسك عليه شهرا ومما يقاربه فطلب ما
يبقى أكثر من سنة خروج إلى طول الأمل وهو مضاد للزهد وإلا إذا كان المطلوب خشونته
ثم قد يتبع ذلك قوته ودوامه فمن وجد زيادة من ذلك فينبغى أن يتصدق به فإن أمسكه لم
يكن زاهدا بل كان محبا للدنيا ولينظر فيه إلى أحوال الأنبياء والصحابة كيف تركوا
الملابس قال أبو بردة أخرجت لنا عائشة رضى الله تعالى عنها كساء ملبدا وإزارا
غليظا فقالت قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذين // حديث أخرجت عائشة كساء
ملبدا وإزارا غليظا فقالت قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذين رواه الشيخان
وقد تقدم في آداب المعيشة // وقال صلى الله عليه و سلم إن الله تعالى يحب المتبذل
الذى لا يبالى مما لبس // حديث إن الله يحب المتبذل لا يبالي ما لبس لم أجد له
أصلا // وقال عمرو بن الأسود العنسى لا ألبس مشهورا أبدا ولا أنام بليل أبدا على
دثار أبدا ولا أركب على مأثور أبدا ولا أملأ جوفى من طعام أبدا فقال عمر من سره أن
ينظر إلى هدى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلينظر إلى عمرو بن الأسود // حديث
عمر من سره أن ينظر إلى هدى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلينظر إلى هدى عمرو بن
الأسود رواه أحمد بإسناد جيد //
وفي الخبر ما من عبد لبس ثوب شهرة إلا أعرض الله عنه حتى ينزعه وإن كان عنده حبيبا
// حديث ما من عبد لبس ثوب شهرة الحديث رواه ابن ماجه من حديث أبي ذر بإسناد جيد
دون قوله وإن كان عنده حبيبا // واشترى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثوبا بأربعة
دراهم // حديث اشترى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثوبا بأربعة دراهم
أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة قال دخلت يوما السوق مع رسول الله صلى الله عليه
و سلم فجلس إلى البزازين فاشترى سراويل بأربعة دراهم الحديث وإسناده ضعيف //
وكانت قيمة ثوبيه عشرة // حديث كان قيمة ثوبية عشرة دراهم لم أجده // وكان إزاره
أربعة أذرع ونصفا // حديث كان إزاره أربعة أذرع ونصفا
أخرجه أبو الشيخ في كتاب أخلاق رسول الله صلى الله عليه و سلم من رواية عروة بن
الزبير مرسلا كان رداء رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعة أذرع وعرضه ذراعان
ونصف الحديث وفيه ابن لهيعة
وفي طبقات ابن سعد من حديث أبي هريرة كان له إزار من نسج عمان طوله أربعة أذرع
وشبر في ذراعين وشبر وفيه محمد بن عمر الواقدي // واشترى سراويل بثلاثة دراهم //
حديث اشترى سراويل بثلاثة دراهم المعروف أنه اشتراه بأربعة دراهم تقدم عند أبي
يعلى وشراؤه السراويل عند أصحاب السنن من حديث سويد بن قيس إلا أنه لم يذكر فيه
مقدار ثمنه قال الترمذي حسن صحيح //
وكان يلبس شملتين بيضاوين من صوف // حديث كان يلبس شملتين بيضاوين من صوف وكانت
تسمى حلة لأنها ثوبان من جنس واحد وربما كان يلبس بردين يمانيين أو سحوليين من هذه
الغلاظ تقدم في آداب وأخلاق النبوة لبسه للشملة والبرد والحبرة
وأما لبسه الحلة ففي الصحيحين من حديث البراء رأيته في حلة حمراء ولأبي داود من
حديث ابن عباس حين خرج إلى الحرورية وعليه أحسن ما يكون من حلل اليمن
وقال رأيت على رسول الله صلى الله عليه و سلم أحسن ما ييكون من الحلل وفي الصحيحين
من حديث عائشة أنه صلى الله عليه و سلم قبض في ثوبين أحدها أزار غليظ مما يصنع
باليمن وتقدم في آداب المعيشة ولأبي داود والترمذي والنسائي من حديث أبي رمثة
وعليه يردان أخضران سكت عليه أبو داود واستغربه الترمذي والبزار من حديث قدامة
الكلابي وعليه حلة حيرة وفيه عريف بن إبراهيم لا يعرف قاله الذهبي // وكانت تسمى
حلة لأنها ثوبان من جنس واحد وربما كان يلبس بردين يمانيين أو سحوليين من هذه
الغلاظ
وفي الخبر كان قميص رسول الله صلى الله عليه و سلم كأنه قميص زيات // حديث كان
قميصه كأنه قميص زيات أخرجه الترمذي من حديث أنس بسند ضعيف كان يكثر دهن رأسه
وتسريح لحيته حتى كأن ثوبه ثوب زيات //
ولبس رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما واحدا ثوبا سيراء من سندس قيمته مائتا
درهم // حديث لبس يوما واحدا ثوبا سيراء من سندس قيمته مائتا درهم إهداء له
المقوقس ثم نزعه الحديث // فكان أصحابه يلمسونه ويقولون
يا رسول الله أنزل عليك هذا من الجنة
تعجبا وكان قد أهداه إليه المقوقس ملك الإسكندرية فأراد أن يكرمه بلبسه ثم نزعه
وأرسل به إلى رجل من المشركين وصله به ثم حرم لبس الحرير والديباج
وكأنه إنما لبسه أولا تأكيدا للتحريم كما لبس خاتما من ذهب يوما ثم نزعه // حديث
لبس يوما خاتما من ذهب ثم نزعه متفق عليه وقد تقدم // فحرم لبسه على الرجال وكما
قال لعائشة فى شأن بريرة اشترطي لأهلها الولاء // حديث قال لعائشة في شأن بريرة
اشترطي لأهلها الحديث متفق عليه من حديثها // فلما اشترطته صعد عليه السلام المنبر
فحرمه وكما أباح المتعة ثلاثا ثم حرمها لتأكيد أمر النكاح // حديث أباح المتعة
ثلاثا ثم حرمها أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع // وقد صلى رسول الله صلى الله
عليه و سلم في خميصة لها علم فلما سلم قال شغلى النظر إلى هذه اذهبوا بها إلى أبى
جهم وائتونى بأنبجانيته // حديث صلى في خميصة لها علم الحديث متفق عليه وقد تقدم
في الصلاة // يعنى كساءه فاختار لبس الكساء على الثوب الناعم وكان شراك نعله قد
أخلق فأبدل بسير جديد فصلى فيه فلما سلم قال أعيدوا الشراك الخلق وانزعوا هذا
الجديد فإنى نظرت إليه في الصلاة ولبس خاتما من ذهب ونظر إليه على المنبر نظرة
فرمى به فقال شغلى هذا عنكم نظرة إليه ونظرة إليكم // حديث لبس خاتما فنظر إليه
على المنبر فرمى به وقال شغلني هذا عنكم الحديث تقدم // وكان صلى الله عليه و سلم
قد احتذى مرة نعلين جديدين فأعجبه حسنهما فخر ساجدا وقال أعجبنى حسنهما فتواضعت
لربى خشية أن يمقتنى ثم خرج بهما فدفعهما إلى أول مسكين رآه // حديث احتذى نعلين
جديدين فأعجبه حسنهما الحديث تقدم //
وعن سنان بن سعد قال حيكت لرسول الله صلى الله عليه و سلم جبة من صوف أنمار وجعلت
حاشيتها سوداء فلما لبسها قال انظروا ما أحسنها ما ألينها قال فقام إليه أعرابي
فقال يا رسول الله هبها لى وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا سئل شيئا لم
يبخل به قال فدفعها إليه وأمر أن يحاك له واحدة أخرى فمات صلى الله عليه و سلم وهى
في المحاكة // حديث سنان بن سعد حيكت لرسول الله صلى الله عليه و سلم جبة صوف من
صوف أنمار الحديث رواه أبو داود الطيالسي والطبراني من حديث سهل بن سعد دون قوله
وأمر أن يحاك له أخرى فهي عند الطبراني فقط وفيه زمعة بن صالح ضعيف ويقع في كثير
من نسخ الإحياء سيار بن سعد وهو غلط //
وعن جابر قال دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم على فاطمة رضى الله تعالى عنها
وهى تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل فلما نظر إليها بكى وقال يا فاطمة تجرعى
مرارة الدنيا لنعيم الأبد فأنزل الله عليه ولسوف يعطيك ربك فترضى // حديث جابر دخل
على فاطمة وهي تطحن بالرحى الحديث أخرجه أبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق بإسناد
ضعيف // وقال صلى الله عليه و سلم إن من خيار أمتى فيما أنبأني الملأ الأعلى قوما
يضحكون جهرا من سعة رحمه الله تعالى ويبكون سرا من خوف عذابه مؤنتهم على الناس
خفيفة وعلى أنفسهم ثقيلة يلبسون الخلقان ويتبعون الرهبان أجسامهم في الأرض
وأفئدتهم عند العرش // حديث إن من خيار أمتي فيما آتاني العلي الأعلى قوما يضحكون
جهرا من سعة رحمة ربهم ويبكون سرا من خوف عذابه الحديث تقدم وهو عند الحاكم
والبيهقي في الشعب وضعفه // فهذه كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم في
الملابس وقد أوصى أمته عامة باتباعه إذ قال من أحبنى فليستن بسنتى // حديث من
أحبني فليستن بسنتي تقدم في النكاح // وقال عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من
بعدى عضوا عليها بالنواجذ // حديث عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الحديث رواه
أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه من حديث العرباض بن سارية // وقال تعالى قل إن
كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله وأوصى رسول الله صلى الله عليه و سلم عائشة
رضى الله عنها خاصة وقال إن أردت اللحوق بى فإياك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعى ثوبا
حتى ترقعيه // حديث قال لعائشة إن أردت اللحوق بي فإياك ومجالسة الأغنياء أخرجه
الترمذي وقال غريب والحاكم وصححه من حديث عائشة وقد تقدم // وعد على قميص عمر رضى
الله عنه اثنتا عشرة رقعة بعضها من أدم
واشترى على بن أبى طالب كرم الله وجهه
ثوبا بثلاثة دراهم ولبسه وهو في الخلافة وقطع كميه من الرسغين وقال الحمد لله الذي
كساني هذا من رياشه
وقال الثورى وغيره إلبس من الثياب مالا يشهرك عند العلماء ولا يحقرك عند الجهال
وكان يقول إن الفقير ليمر بي وأنا أصلى فأدعه يجوز ويمر بى واحد من أبناء الدنيا
وعليه هذه البزة فأمقته ولا أدعه يجوز وقال بعضهم قومت ثوبي سفيان ونعليه بدرهم
وأربعة دوانق وقال ابن شبرمة خير ثيابي ما خدمني وشرها ما خدمته
وقال بعض السلف البس من الثياب ما يخلطك بالسوقة ولا تلبس منها ما يشهرك فينظر
إليك
وقال أبو سليمان الدارانى الثياب ثلاثة ثوب لله وهو ما يستر العورة وثوب للنفس وهو
ما يطلب لينه وثوب للناس وهو ما يطلب جوهره وحسنه
وقال بعضهم من رق ثوبه رق دينه
وكان جمهور العلماء من التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين إلى الثلاثين درهما
وكان الخواص لا يلبس أكثر من قطعتين قميص ومتزر تحته وربما يعطف ذيل قميصه على
رأسه وقال بعض السلف أول النسك الزى وفى الخبر البذاذة من الإيمان وفى الخبر من
ترك ثوب جمال وهو يقدر عليه تواضعا لله تعالى وابتغاء لوجهه كان حقا على الله أن
يدخر له من عبقرى الجنة في تخات الياقوت وأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه قل
لأوليائى لا يلبسوا ملابس أعدائى ولا يدخلوا مداخل أعدائى فيكونوا أعدائي كما هم
أعدائي
ونظر رافع بن خديج إلى بشر بن مروان على منبر الكوفة وهو يعظ فقال انظروا إلى
أميركم يعظ الناس وعليه ثياب الفساق وكان عليه ثياب رقاق وجاء عبد الله بن عامر بن
ربيعة إلى أبى ذر في بزته فجعل يتكلم في الزهد فوضع أبى ذر راحته على فيه وجعل
يضرط به فغضب ابن عامر فشكاه إلى عمر فقال أنت صنعت بنفسك تتكلم في الزهد بين يديه
بهذه البزة وقال على كرم الله وجهه إن الله تعالى أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في
مثل أدنى أحوال الناس ليقتدى بهم الغنى ولا يزرى بالفقير فقره ولما عوتب في خشونة
لباسه قال هو أقرب إلى التواضع وأجدر أن يقتدى به المسلم
ونهى صلى الله عليه و سلم عن التنعم وقال إن لله تعالى عبادا ليسوا بالمتنعمين //
حديث نهى عن التنعم وقال إن لله عبادا ليسوا بالمتنعمين أخرجه أحمد من حديث معاذ
وقد تقدم // ورؤى فضالة بن عبيد وهو والى مصر أشعث حافيا فقيل له أنت الأمير وتفعل
هذا فقال نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الإرفاء وأمرنا أن نحتفى أحيانا
// حديث فضالة بن عبيد نهانا رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الإرفاء وأمرنا أن
نحتفي أحيانا
أخرجه أبو داود بإسناد جيد //
وقال على لعمر رضى الله عنهما إن أردت أن تلحق بصاحبيك فارفع القميص ونكس الإزار
واخصف النعل وكل دون الشبع
وقال عمر اخشوشنوا وإياكم وزى العجم كسرى وقيصر وقال على كرم الله وجهه من تزيا
بزى قوم فهو منهم
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن من شرار أمتى الذين غذوا بالنعيم يطلبون
ألوان الطعام وألوان الثياب ويتشدقون فى الكلام // حديث إن من شرار أمتي الذين
غذوا بالنعيم الحديث رواه الطبراني من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف سيكون رجال من
أمتي يأكلون ألوان الطعام الحديث وآخره أولئك شرار أمتي وقد تقدم // وقال صلى الله
عليه و سلم أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما
أسفل من ذلك ففي النار ولا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا // حديث
إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه الحديث رواه مالك وأبو داود والنسائي وابن حبان من
حديث أبي سعيد ورواه أيضا النسائي من حديث أبي هريرة قال محمد بن يحيى الذهلي كلا
الحديثين محفوظ // وقال أبو سليمان الدارانى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا
يلبس الشعر من أمتى إلا مراء أو أحمق // حديث أبي سليمان لا يلبس الشعر من أمتي
إلا مراء أو أحمق لم أجد له إسنادا // وقال الأوزاعى لباس الصوف في السفر سنة وفي
الحضر بدعة ودخل محمد بن واسع
على قتيبة بن مسلم وعليه جبة صوف فقال له
قتيبة ما دعاك إلى مدرعة الصوف فسكت فقال أكلمك ولا تجيبني فقال أكره أن أقول زهدا
فأزكى نفسى أو فقرا فأشكو ربى
وقال أبو سليمان لما اتخذ الله إبراهيم خليلا أوحى إليه أن وار عورتك من الأرض
وكان لا يتخذ من كل شىء إلا واحدا سوى السراويل فإنه كان يتخذ سراويلين فإذا غسل
أحدهما لبس الآخر حتى لا يأتى عليه حال إلا وعورته مستورة وقيل لسلمان الفارسى رضى
الله عنه مالك لا تلبس الجيد من الثياب فقال وما للعبد والثوب الحسن فإذا عتق فله
والله ثياب لا تبلى أبدا ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كان له جبة شعر
وكساء يلبسهما من الليل إذا قام يصلى
وقال الحسن لفرقد السبخى تحسب أن لك فضلا على الناس بكسائك بلغنى أن أكثر أصحاب
النار أصحاب الأكسية نفاقا وقال يحيى بن معين أرأيت أبا معاوية الأسود وهو يلتقط
الخرق من المزابل ويغسلها ويلفقها ويلبسها فقلت إنك تكسى خيرا من هذا فقال ما ضرهم
ما أصابهم فى الدنيا جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة فجعل يحيى ابن معين يحدث بها
ويبكى
المهم الثالث المسكن وللزهد فيه أيضا ثلاث درجات أعلاها أن لا يطلب موضعا خاصا
لنفسه فيقنع بزوايا المساجد كأصحاب الصفة
وأوسطها أن يطلب موضعا خاصا لنفسه مثل كوخ مبنى من سعف أو خص ما يشبهه وأدناها أن
يطلب حجرة مبنية إما بشراء أو إجارة فإن كان قدر سعة المسكن على قدر حاجته من غير
زيادة ولم يكن فيه زينة لم يخرجه هذا القدر عن آخر درجات الزهد فإن طلب التشييد
والتجصيص والسعة وارتفاع السقف أكثر من ستة أذرع فقد جاوز بالكلية حدد للزهد في
المسكن فاختلاف جنس البناء بأن يكون من الجص أو القصب أو بالطين أو بالآجر واختلاف
قدره بالسعة والضيق واختلاف طوله بالإضافة إلى الأوقات بأن يكون مملوكا أو مستأجرا
أو مستعارا والزهد مدخل في جميع ذلك
وبالجملة كل ما يراد للضرورة فلا ينبغى أن يجاوز حد الضرورة
وقدر الضرورة من الدنيا آلة الدين ووسيلته وما جاوز ذلك فهو مضاد للدين والغرض من
المسكن دفع المطر والبرد ودفع الأعين والأذى وأقل الدرجات فيه معلوم وما زاد عليه
فهو الفضول والفضول كله من الدنيا وطالب الفضول والساعى له بعيد من الزهد جدا وقد
قيل أول شىء ظهر من طول الأمل بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم التدريز والتشييد
يعنى يالتدريز كف دروز الثياب فإنها كانت تشل شلا والتشييد هو البنيان بالجص
والآجر وإنما كانوا يبنون بالسعف والجريد // حديث كانت الثياب تشل شلا وكانوا
يبنون بالسعف والجريد
أما شل الثياب من غير كف فروى الطبراني والحاكم أن عمر قطع ما فضل عن الأصابع من
غير كف وقال
هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأما البناء ففي الصحيحين من حديث أنس في قصة بناء مسجد المدينة فصفوا النخل قبلة
المسجد وجعلوا عضادتيه الحجارة الحديث ولهما من حديث أبي سعيد كان المسجد على عريش
فوكف المسجد // وقد جاء في الخبر يأتى على الناس زمان يوشون ثيابهم كما توشى
البرود اليمانية وأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم العباس أن يهدم علية كان قد
علا بها // حديث أمر العباس أن يهدم علية له كان قد علاها
رواه الطبراني من رواية أبي العالية أن العباس بنى غرفة فقال له النبي صلى الله
عليه و سلم اهدمها الحديث وهو منقطع //
ومر عليه السلام بجنبذة معلاة فقال لمن هذه قالوا لفلان فلما جاءه الرجل أعرض عنه
فلم يكن يقبل عليه كما كان فسأل الرجل أصحابه عن تغيير وجهه صلى الله عليه و سلم
فأخبر فذهب فهدمها فمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالموضع فلم يرها فأخبر بأنه
هدمها فدعا له بخير // حديث مر بجنبذة معلاة فقال لمن هذه فقالوا لفلان فلما جاءه
الرجل أعرض عنه الحديث أخرجه أبو داود من حديث أنس بإسناد جيد بلفظ فرأى قبة مشرفة
الحديث والجنبذة القبة //
وقال الحسن مات رسول الله صلى الله عليه
و سلم ولم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة // حديث الحسن مات رسول الله صلى
الله عليه و سلم ولم يضع لبنة على لبنة الحديث رواه ابن حبان في الثقات وأبو نعيم
في الحلية هكذا مرسلا
والطبراني في الأوسط من حديث عائشة من سأل عني أو سره أن ينظر إلي فلينظر إلى أشعث
شاحب مشمر لم يضع لبنة على لبنة الحديث وإسناده ضعيف // وقال النبي صلى الله عليه
و سلم إذا أراد الله بعبد شرا أهلك ماله في الماء والطين // حديث إذا أراد الله
بعبد شرا أهلك ماله في الماء والطين رواه أبو داود من حديث عائشة بإسناد جيد خضر
له في الطين واللبن حتى يبنى // وقال عبد الله بن عمر مر علينا رسول الله صلى الله
عليه و سلم ونحن نعالج خصا فقال ما هذا قلنا خص لنا قد وهى فقال أرى الأمر أعجل من
ذلك // حديث عبد الله بن عمر مر علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن نعالج
خصا لنا قد وهى الحديث رواه أبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه // واتخذ نوح عليه
السلام بيتا من قصب فقيل له لو بنيت فقال هذا كثير لمن يموت وقال الحسن دخلنا على
صفوان بن محيريز وهو في بيت من قصب قد مال عليه فقيل له لو أصلحته فقال كم من رجل
قد مات وهذا قائم على حاله وقال النبي صلى الله عليه و سلم من بنى فوق ما يكفيه
كلف أن يحمله يوم القيامة // من بنى فوق ما يكفيه كلف يوم القيامة أن يحمله رواه
الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد فيه لين وانقطاع // وفي الخبر كل نفقة في الأرض
يؤجر عليها إلا ما أنفقه في الماء والطين // حديث كل نفقة العبد يؤجر عليهم إلا ما
أنفقه في الماء والطين رواه ابن ماجة من حديث خباب بن الأرت بإسناد جيد بلفظ إلا
في التراب أو قال في البناء // وفي قوله تعالى تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا
يريدون علوا في الأرض ولا فسادا إنه الرياسة والتطاول في البنيان
وقال صلى الله عليه و سلم كل بناء وبال على صاحبه يوم القيامة إلا ما أكن من حر أو
برد // حديث كل بناء وبال على صاحبه إلا ما أكن من حر أو برد رواه أبو داود من
حديث أنس بإسناد جيد بلفظ إلا مالا يعني مالا بد منه // وقالA للرجل الذى شكا
إليه ضيق منزله اتسع في السماء // حديث قال الرجل الذي شكى إليه ضيق منزله اتسع في
السماء قال المصنف أي في الجنة
رواه أبو داود في المراسيل من رواية اليسع بن المغيرة قال شكى خالد بن الوليد
فذكره وقد وصله الطبراني فقال عن اليسع بن المغيرة عن أبيه عن خالد الوليد إلا أنه
قال ارفع إلى السماء واسأل الله السعة وفي إسناده لين // أي في الجنة ونظر عمر رضى
الله عنه في طريق الشام إلى صرح قد بنى بجص وآجر فكبر وقال ما كنت أظن أن يكون في
هذه الأمة من يبنى بنيان هامان لفرعون يعنى قول فرعون فأوقد لى يا هامان على الطين
يعنى به الآجر ويقال إن فرعون هو أول من بنى له بالجص والآجر وأول من عمله هامان
ثم تبعهما الجبابرة وهذا هو الزخرف ورأى بعض السلف جامعا في بعض الأمصار فقال
أدركت هذا المسجد مبنيا من الجريد والسعف ثم رأيته من رهص ثم رأيته الآن مبنيا
باللبن فكان أصحاب السعف خيرا من أصحاب الرهص وكان أصحاب الرهص خير من أصحاب اللبن
وكان من السلف من يبنى داره مرارا في مدة عمره لضعف بنائه وقصر أمله وزهده في
إحكام البنيان وكان منهم من إذا حج أو غزا نزع بيته أو وهبة لجيرانه فإذا رجع
أعاده وكانت بيوتهم من الحشيش والجلود وهي عادة العرب الآن ببلاد اليمن وكان
ارتفاع بناء السقف قامة وبسطة
قال الحسن كنت إذا دخلت بيوت رسول الله صلى الله عليه و سلم ضربت بيدي إلى السقف
وقال عمرو بن دينار إذا أعلى العبد البناء فوق ستة أذرع ناداه ملك إلى أين يا أفسق
الفاسقين وقد نهى سفيان عن النظر إلى بناء مشيد وقال لولا نظر الناس لما شيدوا
فالنظر إليه معين عليه
وقال الفضيل إنى لم أعجب ممن بنى وترك ولكن أعجب ممن نظر إليه ولم يعتبر
وقال ابن مسعود رضى الله عنه يأتى قوم يرفعون الطين ويضعون الدين ويستعملون
البرازين يصلون إلى قبلتكم ويموتون على غير دينكم
المهم الرابع أثاث البيت وللزهد فيه أيضا
درجات أعلاها حال عيسى المسيح صلوات الله عليه وسلامه وعلى كل عبد مصطفى إذ كان لا
يصحبه إلا مشط وكوز فرأى إنسانا يمشط لحيته بأصابعه فرمى بالمشط ورأى آخر يشرب من
النهر بكفيه فرمى بالكوز وهذا حكم كل أثاث فإنه إنما يراد لمقصود فإذا استغنى عنه
فهو وبال في الدنيا والآخرة ومالا يستغنى عنه فيقتصر فيه على أقل الدرجات وهو
الخزف في كل ما يكفي فيه الخزف ولا يبالى بأن يكون مكسور الطرف إذا كان المقصود
يحصل به وأوسطها أن يكون له أثاث بقدر الحاجة صحيح في نفسه ولكن يستعمل الآلة
الواحدة في مقاصد كالذي معه قصعة يأكل فيها ويشرب فيها ويحفظ المتاع فيها وكان
السلف يستحبون استعمال آلة واحدة في أشياء للتخفيف وأعلاها أن يكون له بعدد كل
حاجة آلة من الجنس النازل الخسيس فإن زاد في العدد أو في نفاسة الجنس خرج عن جميع
أبواب الزهد وركن إلى طلب الفضول ولينظر إلى سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم
وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فقد قالت عائشة رضي الله عنها كان ضجاع
رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي ينام عليه وسادة من أدم حشوها ليف // حديث
عائشة كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي ينام عليه وسادة من أدم حشوها
ليف
رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه //
وقال الفضيل ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا عباءة مثنية ووسادة من
أدم حشوها ليف // حديث ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا عباءة مثنية
ووسادة من أدم حشوها ليف
رواه الترمذي في الشمائل من حديث حفصة بقصة العباءة وقد تقدم ومن حديث عائشة بقصة
الوسادة وقد تقدم قبله بعض طرقه //
وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو
نائم على سرير مرمول بشريط فجلس فرأى أثر الشريط في جنبه عليه السلام فدمعت عينا
عمر فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ما الذي أبكاك يا ابن الخطاب قال ذكرت كسرى
وقيصر وما هما فيه من الملك وذكرتك وأنت حبيب الله وصفيه ورسوله نائم على سرير
مرمول بالشريط فقال صلى الله عليه و سلم أما ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا
الآخرة قال بلى يا رسول الله قال فذلك كذلك // حديث دخل عمر على رسول الله صلى
الله عليه و سلم وهو نائم على سرير مرمول بشريط النخل فجلس فرأى أثر الشريط في
جنبه الحديث متفق عليه من حديثه وقد تقدم // ودخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في
بيته فقال يا أبا ذر ما أرى في بيتك متاعا ولا غير ذلك من الأثاث فقال إن لنا بيتا
نوجه إليه صالح متاعنا فقال إنه لا بد لك من متاع ما دمت ههنا فقال إن صاحب المنزل
لا يدعنا فيه ولما قدم عمير بن سعيد أمير حمص على عمر رضي الله عنهما قال له ما
معك من الدنيا فقال معى عصاى أتوكأ عليها وأقتل بها حية إن لقيتها ومعى جرابي أحمل
فيه طعامي ومعي قصعتي آكل فيها وأغسل فيها رأسي وثوبي
ومعي مطهرتي أحمل فيها شرابي وطهوري للصلاة فما كان بعد هذا من الدنيا فهو تبع لما
معي فقال عمر صدقت رحمك الله وقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم من سفر فدخل على
فاطمة رضي الله عنها فرأى على باب منزلها ستر وفي يديها قلبين من فضة فرجع فدخل
عليها أبو رافع وهي تبكي فأخبرته برجوع رسول الله صلى الله عليه و سلم فسأله أبو
رافع فقال من أجل التستر والسوارين فأرسلت بهما بلالا إلى رسول الله صلى الله عليه
و سلم وقالت قد تصدقت بهما فضعهما حيث ترى فقال اذهب فبعه وادفعه إلى أهل الصفة
فباع القلبين بدرهمين ونصف وتصدق بهما عليهم فدخل عليها صلى الله عليه و سلم فقال
بأبي أنت قد أحسنت // حديث قدم من سفره فدخل على فاطمة فرأى على منزلها سترا وفي
يديها قلبين من فضة فرجع الحديث لم أره مجموعا ولأبي داود وابن ماجه من حديث سفينة
بإسناد جيد أنه صلى الله عليه و سلم جاء فوضع يديه على عضادتي الباب فرأى القرام
قد ضرب في ناحية البيت فرجع فقالت فاطمة لعلي انظر فأرجعه
الحديث رواه النسائي من حديث ثوبان بإسناد جيد قال جاءت ابنة هبيرة إلى النبي صلى
الله عليه و سلم وفي يدها فتخ من ذهب الحديث وفيه أنه وجد في يد فاطمة سلسلة من
ذهب وفيه يقول الناس فاطمة بنت محمد في يدها سلسلة من نار وأنه خرج ولم يقعد فأمرت
بالسلسلة فبيعت فاشترت بثمنها عبد فأعتقته فلما سمع قال الحمد لله الذي نجى فاطمة
من النار // ورأى رسول الله صلى الله عليه و سلم على باب عائشة سترا فهتكه
وقال كلما رأيته ذكرت الدنيا أرسلي به
إلى آل فلان // حديث رأى على باب عائشة سترا فهتكه الحديث
أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي في الكبرى من حديثها // وفرشت له عائشة ذات ليلة
فراشا جديدا وقد كان صلى الله عليه و سلم ينام على عباءة مثنية فما زال يتقلب
ليلته فلما أصبح قال لها أعيدي العباءة الخلقة ونحى هذا الفراش عنى قد أسهرني
الليلة // حديث فرشت له عائشة ذات ليلة فراشا جديدا وفيه كان ينام على عباءة مثنية
الحديث رواه ابن حبان في كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم من حديثها قالت
دخلت على امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم عباءة مثنية
فانطلقت فبعثت إلي بفراش حشوه صوف فدخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما
هذا الحديث وفيه أنه أمرها برده ثلاث مرات فردته وفيه مجالد بن سعيد مختلف فيه
والمعروف حديث حفصة المتقدم ذكره من الشمائل // وكذلك أتته دنانير خمسة أو ستة
ليلا فبيتها فسهر ليلته حتى أخرجها من آخر الليل
قالت عائشة رضى الله عنها فنام حينئذ حتى سمعت غطيطه ثم قال ما ظن محمد بربه لو
لقى الله وهذه عنده // حديث أتته دنانير خمسة أو ستة عشاء فبيتها فسهر ليله الحديث
وفيه ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده أخرجه أحمد من حديث عائشة بإسناد حسن
أنه قال في مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما فعلت بالذهب فجاء ما بين الخمسة إلى
الثمانية إلى التسعة فجعل يقلبها بيده ويقول ما ظن محمد الحديث وزاد أنفقها وفي
رواية سبعة أو تسعة دنانير وله من حديث أم سلمة بإسناد صحيح دخل على رسول الله صلى
الله عليه و سلم وهو شاهم الوجه قالت فحسبت ذلك من وجع فقلت يا نبي الله ما لك
شاهم الوجه فقال من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا أمس أمسينا وهي في خصم الفراش
وفي رواية أمسينا ولم ننفقها // وقال الحسن أدركت سبعين من الأخيار ما لأحدهم إلا
ثوبه وما وضع أحدهم بينه وبين الأرض ثوبا قط كان إذا أراد النوم باشر الأرض بجسمه
وجعل ثوبه فوقه
المهم الخامس المنكح وقد قال قائلون لا معنى للزهد في أصل النكاح ولا في كثرته
وإليه ذهب سهل ابن عبد الله وقال قد حبب إلى سيد الزاهدين النساء فكيف نزهد فيهن
ووافقه على هذا القول ابن عيينة وقال كان أزهد الصحابة على بن أبي طالب رضى الله
عنه وكان له أربع نسوة وبضع عشرة سرية
والصحيح ما قاله أبو سليمان الدارانى رحمه الله إذ قال كل ما شغلك عن الله من أهل
ومال وولد فهو عليك مشئوم والمرأة قد تكون شاغلا عن الله
وكشف الحق فيه أنه قد تكون العزوبة أفضل في بعض الأحوال كما سبق في كتاب النكاح
فيكون ترك النكاح من الزهد وحيث يكون النكاح أفضل لدفع الشهوة الغالبة فهو واجب
فكيف يكون تركه من الزهد وإن لم يكن عليه آفة في تركه ولا فعله ولكن ترك النكاح
احترازا عن ميل القلب إليهن والأنس بهن بحيث يشتغل عن ذكر الله فترك ذلك من الزهد
فإن علم أن المرأة لا تشغله عن ذكر الله ولكن ترك ذلك احترازا من لذة النظر
والمضاجعة والمواقعة فليس هذا من الزهد أصلا فإن الولد مقصود لبقاء نسله وتكثير
أمة محمد صلى الله عليه و سلم من القربات واللذة التى تلحق الإنسان فيما هو من
ضرورة الوجود لا تضره إذا لم تكن هي المقصد والمطلب وهذا كمن ترك أكل الخبز وشرب
الماء احترازا من لذة الأكل والشرب وليس ذلك من الزهد في شىء لأن في ترك ذلك فوات
بدنه فكذلك في ترك النكاح انقطاع نسله فلا يجوز أن يترك النكاح زهدا في لذته من
غير خوف آفة أخرى وهذا ما عناه سهل لا محالة ولأجله نكح رسول الله صلى الله عليه و
سلم
وإذا ثبت هذا فمن حاله حال رسول الله صلى الله عليه و سلم في أنه لا يشغله كثرة
النسوة ولا اشتغال القلب بإصلاحهن والإنفاق عليهن // حديث كان لا يشغله كثرة
النسوة ولا اشتغال القلب بإصلاحهن والإنفاق عليهن تقدم في النكاح // فلا معنى
لزهده فيهن حذرا من مجرد لذة الوقاع والنظر ولكن أنى يتصور ذلك لغير الأنبياء
والأولياء فأكثر الناس يشغلهم
كثرة النسوان فينبغى أن يترك الأصل إن كان
يشغله وإن لم يشغله وكان يخاف من أن تشغله الكثرة منهن أو جمال المرأة فلينكح
واحدة غير جميلة وليراع قلبه في ذلك
قال أبو سليمان الزهد في النساء أن يختار المرأة الدون أو اليتيمة على المرأة
الجميلة والشريفة
وقال الجنيد رحمه الله أحب للمريد المبتدى أن لا يشغل قلبه بثلاث وإلا تغير حاله
التكسب وطلب الحديث والتزوج وقال أحب للصوفى أن لا يكتب ولا يقرأ لأنه أجمع لهمه
فإذا ظهر أن لذة النكاح كلذة الأكل فما شغل عن الله فهو محذور فيهما جميعا
المهم السادس ما يكون وسيلة إلى هذه الخمسة وهو المال والجاه أما الجاه فمعناه ملك
القلوب بطلب محل فيها ليتوصل به إلى الاستعانة في الأغراض والأعمال وكل من لا يقدر
على القيام بنفسه في جميع حاجته وافتقر إلى من يخدمه افتقر إلى جاه لا محالة في
قلب خادمه لأنه إن لم يكن له عنده محل وقدر لم يقم بخدمته وقيام القدر والمحل في
القلوب هو الجاه وهذا له أول قريب ولكن يتمادى به إلى هاوية لا عمق لها ومن حام
حول الحمى يوشك أن يقع فيه وإنما يحتاج إلى المحل في القلوب إما لجلب نفع أو لدفع
ضر أو لخلاص من ظلم فأما النفع فيغني عنه المال فإن من يخدم بأجرة يخدم وإن لم يكن
عنده المستأجر قدر وإنما يحتاج إلى الجاه في قلب من يخدم بغير أجرة وأما دفع الضر
فيحتاج لأجله إلى الجاه في بلد لا يكمل فيه العدل أو يكون بين جيران يظلمونه ولا
يقدر على دفع شرهم إلا بمحل له في قلوبهم أو محل له عند للسلطان وقدر الحاجة فيه
لا ينضبط لا سيما إذا انضم إليه الخوف وسوء الظن بالعواقب والخائض في طلب الجاه
سالك طريق الهلاك بل حق الزاهد أن لا يسعى لطلب المحل في القلوب أصلا فإن اشتغاله
بالدين والعبادة يمهد له من المحل في القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين
الكفار فكيف بين المسلمين فأما التوهمات والتقديرات التى تحوج إلى زيادة في الجاه
على الحاصل بغير كسب فهى أوهام كاذبة إذ من طلب الجاه أيضا لم يخل عن أذى في بعض
الأحوال فعلاج ذلك بالاحتمال والصبر أولى من علاجه بطلب الجاه فإذن طلب المحل في
القلوب لا رخصة فيه أصلاواليسير منه داع إلى الكثير وضراوته أشد من ضراوة الخمر
فليحترز من قليله وكثيره
وأما المال فهو ضرورى في المعيشة أعنى القليل منه فإن كان كسوبا فإذا اكتسب حاجة
يومه فينبغى أن يترك الكسب كان بعضهم إذا اكتسب حبتين رفع سفطه وقام هذا شرط الزهد
فإن جاوز ذلك إلى ما يكفيه أكثر من سنة فقد خرج عن حد ضعفاء الزهاد وأقويائهم
جميعا وإن كانت له ضيعة ولم يكن له قوة يقين في التوكل فأمسك منها مقدار ما يكفى
ريعه لسنة واحدة فلا يخرج بهذا القدر عن الزهد بشرط أن يتصدق بكل ما يفضل عن كفاية
سنته ولكن يكون من ضعفاء الزهاد فإن شرط التوكل في الزهد كما شرطه أويس القرنى
رحمه الله فلا يكون هذا من الزهاد وقولنا إنه خرج من حد الزهاد نعنى به أن ما وعد
للزاهدين في الدار الآخرة من المقامات المحمودة لا يناله وإلا فاسم الزهد قد لا
يفارقه بالإضافة إلى ما زهد فيه من الفضول والكثرة وأمر المنفرد في جميع ذلك أخف
من أمر المعيل وقد قال أبو سليمان لا ينبغى أن يرهق الرجل أهله إلى الزهد بل
يدعوهم إليه فإن أجابوا وإلا تركهم وفعل بنفسه ما شاء معناه أن التضييق المشروط
على الزاهد يخصه ولا يلزمه كل ذلك في عياله نعم لا ينبغى أن يجيبهم أيضا فيما يخرج
عن حد الاعتدال وليتعلم من رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ انصرف من بيت فاطمة
رضوان الله عليها بسبب ستر وقلبين لأن ذلك من الزينة لا من الحاجة فإذا ما يضطر
الإنسان إليه من جاه ومال ليس بمحذور بل الزائد على الحاجة سم قائل والمقتصر على
الضرورة دواء
نافع وما بينهما درجات متشابهة فما يقرب
من الزيادة وإن لم يكن سما قاتلا فهو مضر وما يقرب من الضرورة فهو وإن لم يكن دواء
نافعا لكنه قليل الضرر والسم محظور شربه والدواء فرض تناوله وما بينهما مشتبه أمره
فمن احتاط فإنما يحتاط لنفسه ومن تساهل فإنما يتساهل على نفسه ومن استبرأ لدينه
وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ورد نفسه إلى مضيق الضرورة فهو الآخذ بالحزم وهو من
الفرق الناجية لا محالة
والمقتصر على قدر الضرورة والمهم لا يجوز أن ينسب إلى الدنيا بل ذلك القدر من
الدنيا هو عين الدين لأنه شرط الدين والشرط من جملة المشروط
ويدل عليه ما روى أن إبراهيم الخليل عليه السلام أصابته حاجة فذهب إلى صديق له
يستقرضه شيئا فلم يقرضه فرجع مهموما فأوحى الله تعالى إليه لو سألت خليلك لأعطاك
فقال يا رب عرفت مقتك للدنيا فخفت أن أسالك منها شيئا فأوحى الله تعالى إليه ليس
الحاجة من الدنيا فإذن قدر الحاجة من الدين وما وراء ذلك وبال في الآخرة وهو في
الدنيا أيضا كذلك يعرفه من يخبر أحوال الأغنياء وما عليهم من المحنة في كسب المال
وجمعه وحفظه واحتمال الذل فيه وغاية سعادته به أن يسلم لورثته فيأكلون وربما
يكونون أعداء له وقد يستعينون به على المعصية فيكون هو معينا لهم عليها ولذلك شبه
جامع الدنيا ومتبع الشهوات بدود القز لا يزال ينسج على نفسه حيا ثم يروم الخروج
فلا يجد مخلصا فيموت ويهلك بسبب عمله الذى عمله بنفسه فكذلك كل من اتبع شهوات
الدنيا فإنما يحكم على قلبه بسلاسل تقيده بما يشتهيه حتى تتظاهر عليه السلاسل
فيقيده المال والجاه والأهل والولد وشماتة الأعداء ومراءاة الأصدقاء وسائر حظوظ
الدنيا فلو خطر له أنه قد أخطأ فيه فقصد الخروج من الدنيا لم يقدر عليه ورأى قلبه
مقيدا بسلاسل وأغلال لا يقدر على قطعها ولو ترك محبوبا من محابه باختياره كاد أن
يكون قاتلا لنفسه وساعيا في هلاكه إلى أن يفرق ملك الموت بينه وبين جميعها دفعة
واحدة
فتبقى السلاسل في قلبه معلقة بالدنيا التى فاتته وخلفها فهى تجاذبه إلى الدنيا
ومخالب ملك الموت قد علقت بعروق قلبه تجذبه إلى الآخرة فيكون أهون أحواله عند
الموت أن يكون كشخص ينشر بالمنشار ويفصل أحد جانبيه عن الآخر بالمجاذبة من
الجانبين والذى ينشر بالمنشار إنما ينزل المؤلم ببدنه ويؤلم قلبه بذلك بطرق
السراية من حيث أثره فما ظنك بألم يتمكن أولا من صميم القلب مخصوصا به لا بطريق
السراية إليه من غيره فهذا أول عذاب يلقاه قبل ما يراه من حسرة فوت النزول في أعلى
عليين وجوار رب العالمين فبالنزوع إلى الدنيا يحجب عن لقاء الله تعالى وعند الحجاب
تتسلط عليه نار جهنم إذ النار غير مسلطة إلا على محجوب
قال الله تعلى كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم فرتب العذاب
بالنار على ألم الحجاب وألم الحجاب كاف من غير علاوة النار فكيف إذا أضيفت العلاوة
إليه فنسأل الله تعالى أن يقرر في أسماعنا ما نفث في روع رسول الله صلى الله عليه
و سلم حيث قيل له أحبب من أحببت فإنك مفارقه // حديث نفث في روعه أحبب من أحببت
فإنك مفارقه تقدم // وفي معنى ما ذكرناه من المثال قول الشاعر
كدود كدود القز ينسج دائما ... ويهلك غما وسط ما هو ناسجه
ولما انكشف لأولياء الله تعالى أن العبد مهلك نفسه بأعماله واتباعه هوى نفسه إهلاك
دود القز نفسه رفضوا الدنيا بالكلية حتى قال الحسن رأيت سبعين بدريا كانوا فيما
أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم
وفي لفظ آخر كانوا بالبلاء أشد فرحا منكم بالغصب والرخاء لو رأيتموهم قلتم مجانين
ولو رأوا خياركم قالوا
ما لهؤلاء من خلاق ولو رأوا أشراركم
قالوا ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب وكان أحدهم يعرض لهم المال الحلال فلا يأخذه
ويقول أخاف أن يفسد على قلبى فمن كان له قلب فهو لا محالة يخاف من فساده والذين
أمات حب الدنيا قلوبهم فقد أخبر الله عنهم إذ قال تعالى ورضوا بالحياة الدنيا
واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون وقال عز و جل ولا تطع من أغفلنا قلبه عن
ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا
وقال تعالى فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من
العلم فأحال ذلك كله على الغفلة وعدم العلم ولذلك قال رجل لعيسى عليه السلام
احملنى معك في سياحتك فقال اخرج مالك والحقني
فقال لا أستطيع فقال عيسى عليه السلام بعجب يدخل الغنى الجنة أو قال بشدة وقال
بعضهم ما من يوم ذر شارقه إلا وأربعة أملاك ينادون في الآفاق بأربعة أصوات ملكان
بالمشرق وملكان بالمغرب يقول أحدهم بالمشرق يا باغى الخير هلم ويا باغى الشر أقصر
ويقول الآخر اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا ويقول اللذان بالمغرب أحدهما
لدوا للموت وابنوا للخراب
ويقول الآخر كلوا وتمتعوا لطول الحساب
بيان علامات الزهد اعلم أنه قد يظن أن تارك المال زاهد وليس كذلك
فإن ترك المال وإظهار الخشونة سهل على من أحب المدح بالزهد فكم من الرهابين من
ردوا أنفسهم كل يوم إلى قدر يسير من الطعام ولازموا ديرا لا باب له وإنما مسرة
أحدهم معرفة الناس حاله ونظرهم إليه ومدحهم له فذلك لا يدل على الزهد دلالة قاطعة
بل لا بد من الزهد في المال والجاه جميعا حتى يكمل الزهد في جميع حظوظ النفس من
الدنيا بل قد يدعى جماعة الزهد مع لبس الأصواف الفاخرة والثياب الرفيعة كما قال
الخواص في وصف المدعين إذ قال وقوم ادعوا الزهد ولبسوا الفاخر من اللباس يموهون
بذلك على الناس ليهدى إليهم مثل لباسهم لئلا ينظر إليهم بالعين التى ينظر بها إلى
الفقراء فيحتقروا فيعطوا كما تعطى المساكين ويحتجون لنفوسهم بأتباع العلم وأنهم
على السنة وأن الأشياء داخلة إليهم وهم خارجون منها وإنما يأخذون بعلة غيرهم
هذا إذا طولبوا بالحقائق وألجئوا إلى المضايق وكل هؤلاء أكلة الدنيا بالدين لم
يعنوا بتصفية أسرارهم ولا بتهذيب أخلاق نفوسهم فظهرت عليهم صفاتهم فغلبتهم فادعوها
حالا لهم فهم مائلون إلى الدنيا متبعون الهوى
فهذا كله كلام الخواص رحمه الله فإذن معرفة الزهد أمر مشكل بل حال الزهد على
الزاهد مشكل
وينبغى أن يعول في باطنه على ثلاث علامات العلامة الأولى أن لا يفرح بموجود ولا
يحزن على مفقود كما قال تعالى لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم بل
ينبغى أن يكون بالضد من ذلك وهو أن يحزن بوجود المال ويفرح بفقده العلامة الثانية
أن يستوى عنده ذامه ومادحه فالأول علامة الزهد في المال والثانى علامة الزهد في الجاه
العلامة الثالثة أن يكون أنسه بالله تعالى والغالب على قلبه حلاوة الطاعة إذ لا
يخلو القلب عن حلاوة المحبة إما محبة الدنيا وإما محبة الله وهما في القلب كالماء
والهواء في القدح فالماء إذا دخل خرج الهواء ولا يجتمعان وكل من أنس بالله اشتغل
به ولم يشتغل بغيره ولذلك قيل لبعضهم إلى ماذا أفضى بهم الزهد فقال إلى الأنس
بالله فأما الأنس بالدنيا وبالله فلا يجتمعان
وقد قال أهل المعرفة إذا تعلق الإيمان بظاهر القلب أحب الدنيا والآخرة جميعا وعمل
لهما وإذا بطن الإيمان في سويداء القلب وباشره أبغض الدنيا فلم ينظر إليها ولم
يعمل لها ولهدا ورد فى دعاء آدم عليه السلام
اللهم إنى أسألك إيمانا يباشر قلبى
وقال أبو سليمان من شغل بنفسه شغل عن الناس وهذا مقام العاملين ومن شغل بربه شغل
عن نفسه وهذا مقام العارفين
والزاهد لا بد وأن يكون في أحد هذين المقامين ومقامه الأول أن يشغل نفسه بنفسه
وعند ذلك يستوى عنده المدح والذم والوجود والعدم ولا يستدل بإمساكه قليلا من المال
على فقد زهده أصلا
قال ابن أبى الحوارى قلت لأبى سليمان أكان داود الطائى زاهدا قال نعم قلت قد بلغنى
أنه ورث عن أبيه عشرين دينارا فأنفقها في عشرين سنة فكيف كان زاهدا وهو يمسك
الدنانير فقال أردت منه أن يبلغ حقيقة الزهد وأراد بالحقيقة الغاية فإن الزهد ليس
له غاية لكثرة صفات النفس
ولا يتم الزهد إلا بالزهد في جميعها فكل من ترك من الدنيا شيئا مع القدرة عليه
خوفا على قلبه وعلى دينه فله مدخل في الزهد بقدر ما تركه وآخره أن يترك كل ما سوى
الله حتى لا يتوسد حجرا كما فعله المسيح عليه السلام فنسأل الله تعالى أن يرزقنا
من مباديه نصيبا وإن قل فإن أمثالنا لا يستجرىء على الطمع في غاياته وإن كان قطع
الرجاء عن فضل الله غير مأذون فيه وإذا لاحظنا عجائب نعم الله تعالى علينا علمنا
أن الله تعالى لا يتعاظمه شىء فلا بعد في أن نعظم السؤال اعتمادا على الجود
المجاوز لكل كمال
فإذن علامة الزهد استواء الفقر والغنى والعز والذل والمدح والذم وذلك لغلبة الأنس
بالله
ويتفرع عن هذه العلامات علامات أخرى لا محالة مثل أن يترك الدنيا ولا يبالى من
أخذها
وقيل علامته أن يترك الدنيا كما هي فلا يقول أبنى رباطا أو أعمر مسجدا
وقال يحيى بن معاذ علامة الزهد السخاء بالموجود
وقال ابن خفيف علامته وجود الراحة في الخروج من الملك وقال أيضا الزهد هو عزوف
النفس عن الدنيا بلا تكلف
وقال أبو سليمان الصوف علم من أعلام الزهد فلا ينبغى أن يلبس صوفا بثلاثة دراهم
وفي قلبه رغبة خمسة دراهم
وقال أحمد بن حنبل وسفيان رحمهما الله علامة الزهد قصر الأمل وقال سرى لا يطيب عيش
الزاهد إذا اشتغل عن نفسه ولا يطيب عيش العارف إذا اشتغل بنفسه
وقال النصراباذي الزاهد غريب في الدنيا والعارف غريب في الآخرة
وقال يحيى بن معاذ علامة الزهد ثلاث عمل بلا علاقة وقول بلا طمع وعز بلا رياسة
وقال أيضا الزاهد لله يسعطك الخل والخردل والعارف يشمك المسك والعنبر
وقال له رجل متى أدخل حانوت التوكل وألبس رداء الزهد وأقعد مع الزاهدين فقال إذا
صرت من رياضتك لنفسك في السر إلى حد لو قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف في
نفسك فأما ما لم تبلغ هذه الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل ثم لا آمن عليك أن
تفتضح وقال أيضا الدنيا كالعروس ومن يطلبها ما شطتها والزاهد فيها يسخم وجهها
وينتف شعرها ويخرق ثوبها والعارف يشتغل بالله تعالى ولا يلتفت إليها
وقال السرى مارست كل شىء من أمر الزهد فنلت منه ما أريد إلا الزهد في الناس فإنى
لم أبلغه ولم أطقه
وقال الفضيل رحمه الله جعل الله الشر كله
في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا
فهذا ما أردنا أن نذكره من حقيقة الزهد وأحكامه وإذا كان الزهد لا يتم إلا بالتوكل
فلنشرع في بيانه إن شاء الله تعالى
كتاب التوحيد والتوكل وهو الكتاب الخامس من ربع المنجيات من كتاب
إحياء علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مدبر الملك والملكوت المنفرد بالعزة والجبروت
الرافع السماء بغير عماد المقدر فيها أرزاق العباد الذى صرف أعين ذوي القلوب
والألباب عن ملاحظة الوسائط والأسباب إلى مسبب الأسباب ورفع همهم عن الالتفات إلى
ما عداه والاعتمام على مدبر سواه فلم يعبدوا إلا أياه علما بأنه الواحد الفرد
الصمد الإله وتحقيقا بأن جميع أصناف الخلق عباد أمثالهم لا يبتغي عندهم الرزق وأنه
ما من ذرة إلا إلى الله خلقها وما من دابة إلا على الله رزقها فلما تحققوا أنه
لرزق عباده ضامن وبه كفيل توكلوا عليه فقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
والصلاة على محمد قامع الأباطيل الهادي إلى سواء السبيل وعلى آله وسلم تسليما
كثيرا
أما بعد فإن التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين بل هو من معالى
درجات المقربين وهو في نفسه غامض من حيث العلم ثم هو شاق من حيث العمل ووجه غموضه
من حيث الفهم أن ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد والتثاقل عنها
بالكلية طعن في السنة وقدح فى الشرع والاعتماد على الأسباب من غير أن ترى أسبابا
تغيير في وجه العقل وانغماس في غمرة الجهل وتحقيق معنى التوكل على وجه يتوافق فيه
مقتضى التوحيد والنقل والشرع في غاية الغموض والعسر ولا يقوى على كشف هذا الغطاء
مع شدة الخفاء إلا سماسرة العلماء الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق
فأبصروا وتحققوا ثم نطقوا بالإعراب عما شاهدوه من حيث استنطقوا
ونحن الآن نبدأ بذكر فضيلة التوكل على سبيل التقدمة ثم نردفه بالتوحيد في الشطر
الأول من الكتاب ونذكر حال التوكل وعمله في الشطر الثاني
بيان فضيلة التوكل أما من الآيات فقد قال تعالى وعلى الله فتوكلوا
إن كنتم مؤمنين وقال عز و جل وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال تعالى ومن يتوكل
على الله فهو حسبه وقال سبحانه وتعالى إن الله يحب المتوكلين وأعظم بمقام موسوم
بمحبة الله تعالى صاحبه ومضمون كفاية الله تعالى ملابسه فمن الله تعالى حسبه
وكافيه ومحبه ومراعيه فقد فاز الفوز العظيم فإن المحبوب لا يعذب ولا يبعد ولا يحجب
وقال تعالى أليس الله بكاف عبده فطالب الكفاية من غيره والتارك للتوكل هو المكذب
لهذه الآية
فإنه سؤال في معرض استنطاق بالحق كقوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم
يكن شيئا مذكورا وقال عز و جل ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم أي عزيز لا
يذل من استجار به ولا يضيع من لاذ بجنا به والتجأ إلى
ذمامه وحماه وحكيم لا يقصر عن تدبير من
توكل على تدبيره
وقال تعالى إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم بين أن كل ما سوى الله تعالى
عبد مسخر
حاجته مثل حاجتكم فكيف يتوكل عليه
وقال تعالى إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله
الرزق واعبدوه وقال عز و جل ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون
وقال عز و جل يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه وكل ما ذكر في القرآن من
التوحيد فهو تنبيه على قطع الملاحظة عن الأغيار والتوكل على الواحد القهار
وأما الأخبار فقد قال صلى الله عليه و سلم فيما رواه ابن مسعود أريت الأمم في
الموسم فرأيت أمتى قد ملأوا السهل والجبل فأعجبتنى كثرتهم وهيأتهم فقيل لى أرضيت
قلت نعم قيل ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب قيل من هم يا رسول الله
قال الذين لا يكتوون ولا يتطيرون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة وقال
يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم
اجعله منهم فقام آخر فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال صلى الله
عليه و سلم سبقك بها عكاشة // حديث ابن مسعود أريت الأمم في الموسم فرأيت أمتي قد
ملأوا السهل والجبل الحديث رواه ابن منيع بإسناد حسن واتفق عليه الشيخان من حديث
ابن عباس // وقال صلى الله عليه و سلم لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم
كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا // حديث لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله
لرزقكم كما يرزق الطير الحديث أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه من حديث عمر وقد تقدم
// وقال صلى الله عليه و سلم من انقطع إلى الله عز و جل كفاه الله تعالى كل مؤنة
ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها // حديث من انقطع إلى
الله كفاه الله كل مؤنة الحديث أخرجه الطبراني في الصغير وابن أبي الدنيا ومني
طريقة البيهقي في الشعب من رواية عن عمران بن حصين ولم يسمع منه وفيه إبراهيم بن
الأشعث تكلم فيه أبو حاتم // وقال صلى الله عليه و سلم من سره أن يكون أغنى الناس
فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يديه // حديث من سره أن يكون أغنى الناس
فليسكن بما عند الله أوثق منه بما في يده رواه الحاكم والبيهقي في الزهد من حديث
ابن عباس بإسناد ضعيف // ويروى عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه كان إذا أصاب
أهله خصاصة قال قوموا إلى الصلاة ويقول بهذا أمرنى ربى عز و جل قال عز و جل وأمر
أهلك بالصلاة واصطبر عليها // حديث كان إذا أصاب أهله خصاصة قال قوموا إلى الصلاة
ويقول بهذا أمرني ربي قال تعالى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها رواه الطبراني في
الأوسط من حديث محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام قال كان النبي صلى الله عليه و
سلم إذا نزل بأهله الضيق أمرهم بالصلاة ثم قرأ هذه الآية
ومحمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام إنما ذكروا له روايته عن أبيه عن جده فيبعد
سماعه من جد أبيه // الآية وقال صلى الله عليه و سلم لم يتوكل من استرقى واكتوى //
حديث لم يتوكل من استرقى واكتوى أخرجه الترمذي وحسنه والنسائي في الكبير والطبراني
واللفظ له إلا أنه قال أو من حديث المغيرة بن شعبة وقال الترمذي من اكتوت أو
استرقى فقد برىء من التوكل وقال النسائي ما توكل من اكتوى أو استرقى //
وروى أنه لما قال جبريل لإبراهيم عليهما السلام وقد رمى إلى النار بالمنجنيق ألك
حاجة قال أما إليك فلا وفاء بقوله حسبى الله ونعم الوكيل إذ قال ذلك حين أخذ ليرمي
فأنزل الله تعالى وإبراهيم الذى وفى
وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام يا داود ما من عبد يعتصم بي دون خلقي
فتكيده السموات والأرض إلا جعلت له مخرجا
وأما الآثار فقد قال سعيد بن جبير لدغتنى عقرب فأقسمت على أمى لتسترقين فناولت
الراقى يدى التى لم تلدغ
وقرأ الخواص قوله تعالى وتوكل على الحى
الذى لا يموت إلى آخر فقال ما ينبغى للعبد بعدد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير
الله تعالى
وقيل لبعض العلماء في منامه من وثق بالله تعالى فقد أحرز قوته وقال بعض العلماء لا
يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيع أمر آخرتك ولا تنال من
الدنيا إلا ما قد كتب الله لك
وقال يحيى بن معاذ في وجود العبد الرزق من غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب
العبد
وقال إبراهيم بن أدهم سألت بعض الرهبان من أين تأكل فقال لى ليس هذا العلم عندى
ولكن سل ربى من أين يطعمنى
وقال هرم بن حيان لأويس القرنى أين تأمرنى أن أكون فأومأ إلى الشام قال هرم كيف
المعيشة قال أويس أف لهذه القلوب قد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة
وقال بعضهم متى رضيت بالله وكيلا وجدت إلى كل خير سبيلا ونسأل الله تعالى حسن
الأدب
بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل
اعلم أن التوكل من باب الإيمان وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل
والتوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل وعمل هو الثمرة وحال هو المراد باسم التوكل
فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل وهو المسمى إيمانا في أصل اللسان إذ الإيمان هو
التصديق وكل تصديق بالقلب فهو علم وإذا قوى سمى يقينا ولكن أبواب اليقين كثيرة
ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبنى عليه التوكل وهو التوحيد الذى يترجمه قولك لا
إله إلا الله وحده لا شريك له والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك له الملك
والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك وله الحمد فمن قال لا إله إلا الله
وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير تم له الإيمان الذي هو
أصل التوكل أعنى أن يصير معنى هذا القول وصفا لازما لقلبه غالبا عليه فأما التوحيد
فهو الأصل والقول فيه يطول وهو من علم المكاشفة ولكن بعض علوم المكاشفات متعلق
بالأعمال بواسطة الأحوال ولا يتم علم المعاملة إلا بها فإذن لا نتعرض إلا للقدر
الذي يتعلق بالمعاملة وإلا فالتوحيد هو البحر الخضم الذي لا ساحل له فنقول
للتوحيد أربع مراتب وينقسم إلى لب وإلى لب اللب وإلى قشر وإلى قشر القشر
ولنمثل ذلك تقريبا إلى الأفهام الضعيفة بالجوز في قشرته العليا فإن له قشرتين وله
لب وللب دهن هو لب اللب فالرتبة الأولى من التوحيد هي أن يقول الإنسان بلسانه لا
إله إلا الله وقلبه غافل عنه أو منكر له كتوحيد المنافقين
والثانية أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام
والثالثة أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق وهو مقام المقربين وذلك بأن
يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار
والرابعة أن لا يرى في الوجود إلا واحدا وهي مشاهدة الصديقين وتسمية الصوفية
الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا فلا يرى نفسه أيضا وإذا لم ير
نفسه لكونه مستغرقا بالتوحيد كان فانيا عن نفسه في توحيده بمعنى أنه فنى عن رؤية
نفسه والخلق فالأول موحد بمجرد اللسان ويعصم ذلك صاحبه في الدنيا عن السيف والسنان
والثاني موحد بمعنى أنه معتقد بقلبه مفهوم لفظه وقلبه خال عن التكذيب بما انعقد
عليه قلبه وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب
في الآخرة إن توفى عليه ولم تضعف
بالمعاصي عقدته ولهذا العقد حيل يقصد بها
تضعيفه وتحليله تسمى بدعة وله حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتضعيف ويقصد بها
أيضا إحكام هذه العقدة وشدها على القلب وتسمى كلاما والعارف به يسمى متكلما وهو في
مقابلة المبتدع ومقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام وقد يخص
المتكلم باسم الموحد من حيث إنه يحمى بكلامه مفهوم لفظ التوحيد على قلوب العوام
حتى لا تنحل عقدته
والثالث موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلا واحدا إذا انكشف له الحق كما هو عليه
ولا يرى فاعلا بالحقيقة إلا واحدا وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه لأنه كلف
قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين إذ لم يفارق
المتكلم العامى في الاعتقاد بل في صنعة تلفيق الكلام الذي به حيل المبتدع عن تحليل
هذه العقدة
والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد فلا يرى الكل من حيث إنه كثير
بل من حيث إنه واحد وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد فالأول كالقشرة العليا من
الجوز والثاني كالقشرة السفلي والثالث كاللب والرابع كالدهن المستخرج من اللب
وكما أن القشرة العليا من الجوز لا خير فيها بل إن أكل فهو مر المذاق وإن نظر إلى
باطنه فهو كريه المنظر وإن اتخذ حطبا أطفأ النار وأكثر الدخان وإن ترك في البيت
ضيق المكان فلا يصلح إلا أن يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى به عنه فكذلك
التوحيد بمجرد اللسان دون التصديق بالقلب عديم الجدوى كثير الضرر مذموم الظاهر
والباطن لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلىإلى وقت الموت والقشرة السفلى هي القلب
والبدن
وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب والسيف إنما
يصيب جسم البدن وهو القشرة وإنما يتجرد عنه بالموت فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده
وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنها تصون اللب
وتحرسه عن الفساد عند الادخار وإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطبا لكنها نازلة القدر
بالإضافة إلى اللب وكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع بالإضافة إلى مجرد
نطق اللسان ناقص القدر بالإضافة إلى الكشف والمشاهدة التى تحصل بانشراح الصدر
وانفساحه وإشراق نور الحق فيه إذ ذاك الشرح هو المراد بقوله تعالى فمن يرد الله أن
يهديه يشرح صدره للإسلام وبقوله عز و جل أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور
من ربه وكما أن اللب نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر وكله المقصود ولكنه لا يخلو
عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدهن المستخرج منه فكذلك توحيد الفعل مقصد عال
للسالكين لكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة بالإضافة إلى من
لا يشاهد سوى الواحد الحق
فإن قلت كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحد وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام
المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحدا فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات
وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب فقد قال العارفون إفشاء سر الربوبية كفر
ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة نعم ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن وهو أن الشيء
قد يكون كثيرا بنوع مشاهدة واعتبار ويكون واحدا بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار
وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه
وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد إذ نقول إنه إنسان واحد فهو بالإضافة إلى
الإنسانية واحد وكم من شخص يشاهد إنسانا ولا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه
وأطرافه وتفصيل روحه وجسده وأعضائه والفرق بينهما أنه فى حالة الاستغراق
والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق وكأنه في عين الجمع والملتفت إلى الكثرة
في تفرقه فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق له اعتبارات ومشاهدات كثيرة
مختلفة فهو باعتبار واحد من
الاعتبارات واحد وباعتبارات أخر سواه
كثير وبعضها أشد كثرة من بعض ومثاله الإنسان وإن كان لا يطابق الغرض ولكنه ينبه في
الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحدا ويستبين بهذا الكلام ترك
الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه وتؤمن به إيمان تصديق فيكون لك من حيث إنك مؤمن
بهذا التوحيد نصيب وإن لم يكن ما آمنت به صفتك كما أنك إذا آمنت بالنبوة وإن لم
تكن نبيا كان لك نصيب منه بقدر قوة إيمانك
وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق تارة تدوم وتارة تطرأ كالبرق
الخاطف وهو الأكثر والدوام نادر عزيز وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلاج حيث
رأى الخواص يدور في الأسفار فقال فيماذا أنت فقال أدور في الأسفار لأصحح حالتي في
التوكل وقد كان من المتوكلين فقال الحسين قد أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين
الفناء في التوحيد فكأن الخواص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد فطالبه
بالمقام الرابع فهذه مقامات الموحدين في التوحيد على سبيل الإجمال
فإن قلت فلا بد لهذا من شرح بمقدار ما يفهم كيفية ابتناء التوكل عليه فأقول أما
الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه وليس التوكل أيضا مبنيا عليه بل يحصل حال التوكل
بالتوحيد الثالث
وأما الأول وهو النفاق فواضح وأما الثاني وهو الاعتقاد فهو موجود في عموم المسلمين
وطريق تأكيده بالكلام ودفع حيل المبتدعة فيه مذكور في عالم الكلام وقد ذكرنا في
كتاب الاقتصاد في الاعتقاد القدر المهم منه
وأما الثالث فهو الذي يبني عليه التوكل فلنذكر منه القدر الذي يرتبط التوكل به دون
تفصيله الذي لا يحتمله أمثال هذا الكتاب وحاصله أن ينكشف لك أن لا فاعل إلا الله
تعالى وأن كل موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وحياة وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك مما
ينطلق عليه اسم فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز و جل لا شريك له فيه وإذا
انكشف لك هذا لم تنظر الى غيره بل كان منه خوفك واليه رجاؤك وبه ثقتك وعليه اتكالك
فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره وما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة من
ملكوت السموات والأرض وإذا انفتحت لك أبواب المكاشفة اتضح لك هذا اتضاحا أتم من
المشاهدة بالبصر وإنما يصدك الشيطان عن هذا التوحيد في مقام يبتغى به أن يطرق إلى
قلبك شائبة الشرك بسببين أحدهما الالتفات إلى اختيار الحيوانات
والثاني الالتفاف إلى الجمادات أما الالتفاف إلى الجمادات فكاعتمادك على المطر في
خروج الزرع ونباته ونمائه وعلى الغيم في نزول المطر وعلى البرد في اجتماع الغيم
وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها وهذا كله شرك في التوحيد وجهل بحقائق الأمور
ولذلك قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى
البر إذا هم يشركون قيل معناه أنهم يقولون لولا استواء الريح لما نجونا
ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه علم أن الريح هو الهواء والهواء لا يتحرك
بنفسه مالم يحركه محرك وكذلك محركه وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا
محرك له ولا هو متحرك في نفسه عز و جل فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهى
التفات من أخذ لتحزرقبته كتب الملك توقيعا بالعفو عنه وتخليته فأخذ يشتغل بذكر
الحبر والكاغد والقلم الذي به يكتب التوقيع يقول
لولا القلم لما تخلصت فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم وهو غاية الجهل ومن
علم أن القلم لا حكم له في نفسه وإنما هو مسخر في يد الكاتب لم يلتفت إليه ولم
يشكر إلا الكاتب بل ربما يدهشه فرح النجاة وشكر الملك والكاتب من أن يخطر بباله
القلم والحبر والدواة والشمس والقمر والنجوم والمطر والغيم والأرض وكل حيوان وجماد
مسخرات في قبضة القدرة كتسخير القلم في يد الكاتب بل هذا تمثيل في حقك لاعتقادك أن
الملك
الموقع هو الكاتب التوقيع والحق أن الله
تبارك وتعالى هو الكاتب لقوله تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فإذا انكشف لك
أن جميع ما في السموات والأرض مسخرات على هذا الوجه انصرف عنك الشيطان خائبا وأيس
عن مزج توحيدك بهذا الشرك فأتاك في المهلكة الثانية وهي الالتفات إلى اختيار
الحيوانات في الأفعال الاختيارية ويقول كيف ترى الكل عن الله وهذا الإنسان يعطيك
رزقك باختياره فإن شاء أعطاك وإن شاء قطع عنك وهذا الشخص هو الذي يحز رقبتك بسيفه
وهو قادر عليك إن شاء حزن رقبتك وإن شاء عفا عنك فكيف لا تخافه وكيف لا ترجوه
وأمرك بيده وأنت تشاهد ذلك ولا تشك فيه ويقول له أيضا نعم إن كنت لا ترى القلم
لأنه مسخر فكيف لا ترى الكاتب بالقلم وهو المسخر له وعند هذا زل أقدام الأكثرون
إلا عباد الله المخلصين الذين لا سلطان عليهم للشيطان اللعين فشاهدوا بنور البصائر
كون الكاتب مسخرا مضطرا كما شاهد جميع الضعفاء كون القلم مسخرا وعرفوا أن غلط
الضعفاء في ذلك كغلظ النملة مثلا لو كانت تدب على الكاغد فترى رأس القلم يسود
الكاغد ولم يمتد بصرها إلى اليد والأصابع فضلا عن صاحب اليد فغلطت وظنت أن القلم
هو المسود للبياض وذلك لقصور بصرها عن مجاوزة رأس القلم لضيق حدقتها فكذلك من لم
ينشرح بنور الله تعالى صدره للإسلام قصرت بصيرته عن ملاحظة جبار السموات والأرض
ومشاهدة كونه قاهرا وراء الكل فوقف في الطريق على الكاتب وهو جهل محض بل أرباب
القلوب والمشاهدات قد انطق الله تعالى في حقهم كل ذرة في السموات والأرض بقدرته
التي بها نطق كل شيء حتى سمعوا تقديسها وتسبيحها لله تعالى وشهادتها على نفسها
بالعجز بلسان ذلق تتكلم بلا حرف ولا صوت لا يسمعه الذين هم عن السمع معزلون ولست
أعنى به السمع الظاهر الذي لا يجاوز بالأصوات فإن الحمار شريك فيه ولا قدر لما
يشارك فيه البهائم وإنما أريد به سمعا يدرك به كلام ليس بحرف ولا صوت ولا هو عربي
ولا عجمي
فإن قلت فهذه أعجوبة لا يقبلها العقل فصف لي كيفية نطقها وإنها كيف نطقت وبماذا
نطقت وكيف سبحت وقدست وكيف شهدت على نفسها بالعجز فاعلم إن لكل ذرة في السموات
والأرض مع أرباب القلوب مناجاة في السر وذلك مما لا ينحصر ولا يتناهى فإنها كلمات
تستمد من بحر كلام الله تعالى الذي لا نهاية له قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي
لنفد البحر الآية ثم إنها تتناجى بأسرار الملك والملكوت وإفشاء السر لؤم بل صدور
الأحرار قبور الأسرار وهل رأيت قط أمينا على أسرار ملك قد نوجى بخفاياه فنادى بسره
على ملأ من الخلق ولو جاز إفشاء كل سر لنا لما قال صلى الله عليه و سلم لو تعلمون
ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا // حديث لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا
الحديث تقدم غير مرة // بل كان يذكر ذلك لهم حتى يبكون ولا يضحكون
ولما نهى عن إفشاء سر القدر // حديث النهى عن إفشاء سر القدر رواه أبو عدي وأبو
نعيم في الحلية من حديث ابن عمر القدر سر الله فلا تفشوا لله عز و جل سره لفظ أبي
نعيم وقال ابن عدي لا تكلموا في القدر فإنه سر الله الحديث وهو ضعيف وقد تقدم //
ولما قال إذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا
// حديث إذا ذكر النجوم فأمسكوا وإذا ذكر القدر فأمسكوا الحديث أخرجه الطبراني
وابن حبان في الضعفاء وتقدم في العلم // ولما خص حذيفة رضي الله عنه ببعض الأسرار
// حديث أنه خص حذيفة ببعض الأسرار تقدم // فإذن عن حكايات مناجاة ذرات الملك
والملكوت لقلوب أرباب المشاهدات مانعان أحدهما استحالة إفشاء السر والثاني خروج
كلماتها عن الحصر والنهاية ولكنا في المثال الذي كنا فيه وهي حركة القلم
نحكى من مناجاتها قدرا يسيرا يفهم به على
الإجمال كيفية ابتناء التوكل عليه ونرد كلماتها إلى الحروف والأصوات وإن لم تكن
حروفا وأصواتا ولكن هي ضرورة التفهيم فنقول قال بعض الناظرين عن مشكاة نور الله
تعالى للكاغد وقد رآه أسود وجهه بالحبر ما بال وجهك كان أبيض مشرقا والآن قد ظهر
عليه السواد فلم سودت وجهك وما السبب فيه فقال الكاغد ما أنصفتني في هذه المقالة
فإني ما سودت وجهي بنفسي ولكن سل الحبر فإنه كان مجموعا في المحبرة التي هي مستقرة
ووطنه فسافر عن الوطن ونزل بساحة وجهي ظلما وعدوا فقال صدقت فسأل الحبر عن ذلك
فقال ما أنصفتني فإني كنت في المحبرة وادعا ساكنا عازما على أن لا أبرح منها
فأعتدي على القلم بطمعه الفاسد وأختطفني من وطني وأجلاني عن بلادي وفرق جمعي وبدني
كما ترى على ساحة بيضاء فالسؤال عليه لا على فقال صدقت ثم سأل القلم عن السبب في
ظلمه وعدوانه وإخراج الحبر من أوطانه فقال سل اليد والأصابع فإني كنت قصبا نابتا
على شط الأنهار متنزها بين خضرة الأشجار فجاءتني اليد بسكين فنحت عني قشري ومزقت
عني ثيابي واقتلعتني من أصلي وفصلت بين أنابيبي ثم برتني وشقت رأسي ثم غمستني في
سواد الخبر ومرارته وهي تستخدمني وتمشيني على قمة رأسي ولقد نثرت الملح على جرحي
بسؤالك وعتابك فتنح عني وسل من قهرني فقال صدقت ثم سأل اليد عن ظلمها وعدولها على
القلم واستخدامها له فقالت اليد ما أنا إلا لحم وعظم ودم وهل رأيت لحما يظلم أو
جسما يتحرك بنفسه وإنما أنا مركب مسخر ركبني فارس يقال له القدرة والعزة فهي التي
ترددني وتجول بي في نواحي الأرض أما ترى المدر والحجر والشجر لا يتعدى شيئا منها
مكانه ولا يتحرك بنفسه إذ لم يركبه مثل هذا الفارس القوى القاهر أما ترى أيدي
الموتى تساويني في صورة اللحم والعظم والدم ثم لا معاملة بينها وبين القلم فأنا
أيضا من حيث أنا لا معاملة بيني وبين القلم فسل القدرة عن شأني فإني مركب أزعجي من
ركبني فقال صدقت ثم سأل القدرة عن شأنها في استعمالها اليد وكثرة استخدامها
وترديدها فقالت دع عنك لومي ومعاتبتي فكم من لائم ملوم وكم من ملوم لا ذنب له وكيف
خفي عليك أمري وكيف ظننت أني ظلمت اليد لما ركبتها وقد كنت لها راكبة قبل التحريك
وما كنت أحركها ولا أستسخرها بل كنت نائمة ساكنة نوما ظن الظانون بي أني ميتة أو
معدومة لأني ما كنت أتحرك ولا أحرك حتى جاءني موكل أزعجني وأرهقني إلى ما تراه مني
فكانت لي قوة على مساعدته ولم تكن لي قوة على مخالفته وهذا الموكل يسمى الإرادة
ولا أعرفه إلا باسمه وهجومه وصياله إذ أزعجني من غمرة النوم وأرهقني إلى ما كان لي
مندوحة عنه لو خلاني ورأبي فقال صدقت ثم سأل الإرادة ما الذي جرأك على هذه القدرة
الساكنة المطمئنة حتى صرفتها إلى التحريك وأرهقتها إليه إرهاقا لم تجد عنه مخلصا
ولا مناصا فقالت الإرادة لا تعجل على فلعل لنا عذرا وأنت تلوم فإني ما انتهضت
بنفسي ولكني انهضت وما أن انبعثت ولكني بعثت بحكم قاهر وأمر جازم وقد كنت ساكنة
قبل مجيئه ولكن ورد على من حضرة القلب رسول العلم على لسان العقل بالأشخاص للقدرة
فأشخصتها باضطرار فإني مسكينة مسخرة تحت قهر العلم والعقل ولم أدري بأي جرم وقفت
عليه وسخرت له وألزمت طاعته لكني أدري أني في دعة وسكون مالم يرد على هذا الولود
القاهر وهذا الحاكم العادل أو الظالم وقد وقفت عليه وقفا وألزمت طاعته إلزاما بل
لا يبقى لي معه مهما جزم حكمه طاقة على المخالفة لعمري ما دام هو في التردد مع
نفسه والتحير في حكمه فأنا ساكنة لكن مع استشعار وانتظار لحكمه فإذا انجزم حكمه
أزعجت بطبع وقهر تحت طاعته وأشخصت القدرة لتقوم بموجب حكمه فسل العلم عن شأني ودع
عني عتابك
فإني كما قال القائل
متى ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم
فقال صدقت وأقبل على العلم والعقل والقلب مطالبا لهم ومعاتبا إياهم على استنهاض
الإرادة وتسخيرها لإشخاص القدرة فقال العقل أما أنا فسراج ما اشتعلت بنفسى ولكن
أشعلت وقال القلب أما أنا فلوح ما انبسطت بنفسى ولكن بسطت وقال العلم أما أنا فنقش
نقشت في بياض لوح القلب لما أشرق سراج العقل وما انخططت بنفسى فكم كان هذا اللوح
قبل خاليا عنى فسل القلم عنى لأن الخط لا يكون إلا بالقلم فعند ذلك تتعتع السائل
ولم يقنعه جواب وقال قد طال تعبى في هذا الطريق وكثرت منازلى ولا يزال يحيلنى من
طمعت في معرفة هذا الأمر منه على غيره ولكنى كنت أطيب نفسا بكثرة الترداد لما كنت
أسمع كلاما مقبولا لا في الفؤاد وعذرا ظاهرا في دفع السؤال فأما قولك إنى خط ونقش
وإنما خطى قلم فلست أفهمه فإنى لا أعلم قلما إلا من القصب ولا لوحا إلا من الحديد
أو الخشب ولا خطا إلا بالحبر ولا سراجا إلا من النار وإنى لأسمع في هذا المنزل
حديث اللوح والسراج والخط والقلم ولا أشاهد من ذلك شيئا أسمع جعجعة ولا أرى طحنا
فقال له القلم إن صدقت فيما قلت فبضاعتك مزجاة وزادك قليل ومركبك ضعيف واعلم أن
المهالك في الطريق التي توجهت إليها كثيرة فالصواب لك أن تنصرف وتدع ما أنت فيه
فما هذا بعشك فادرج عنه فكل ميسر لما خلق له وإن كنت راغبا في استتمام الطريق إلى
المقصد فألق سمعك وأنت شهيد
واعلم أن العوالم في طريقك هذا ثلاثة عالم الملك والشهادة أولها ولقد كان الكاغد
والحبر والقلم واليد من هذا العالم وقد جاوزت تلك المنازل على سهولة والثاني عالم
الملكوت وهو ورائى فإذا جاوزتنى انتهيت إلى منازله وفيه المهامة الفيح والجبال
الشاهقة والبحار المغرقة ولا أدرى كيف تسلم فيها والثالث هو عالم الجبروت وهو بين
عالم الملك وعالم الملكوت ولقد قطعت منها ثلاث منازل في أوائلها منزلة القدرة
والإرادة والعلم وهو واسطة بين عالم الملك والشهادة والملكوت لأن عالم الملك أسهل
منه طريقا وعالم الملكوت أوعر منه منهجا وإنما عالم الجبروت بين عالم الملك وعالم
الملكوت يشبه السفينة التي هي في الحركة بين الأرض والماء فلا هي في حد اضطراب
الماء ولا هي في حد سكون الأرض وثبرتها وكل من يمشى على الأرض يمشى في عالم الملك
والشهادة فإن جاوزت قوته إلى أن يقوى على ركوب السفينة كان كمن يمشى في عالم
الجبروت فإن انتهى إلى أن يمشى على الماء من غير سفينة مشى في عالم الملكوت من غير
تتعتع فإن كنت لا تقدر على المشى على الماء فانصرف فقد جاوزت الأرض وخلفت السفينة
ولم يبق بين يديك إلا الماء الصافى وأول عالم الملكوت مشاهدة القلم الذي يكتب به
العلم في لوح القلب وحصول اليقين الذي يمشى به على الماء أما سمعت قول رسول الله
صلى الله عليه و سلم في عيسى عليه السلام لو ازداد يقينا لمشى على الهواء // حديث
قيل له أن عيسى يمشي على الماء قال لو ازداد يقينا لمشى على الهواء تقدم // لما
قيل له إنه كان يمشى على الماء فقال السالك السائل قد تحيرت في أمري وأستشعر قلبي
خوفا مما وصفته من خطر الطريق ولست أدرى أطيق قطع هذه المهامة التي وصفتها أم لا
فهل لذلك من علامة قال نعم افتح بصرك واجمع ضوء عينيك وحدقهنحوي فإن ظهر لك القلم
الذي به أكتب في لوح القلب فيشبه أن تكون أهلا لهذا الطريق فإن كل من جاوز عالم
الجبروت وقرع بابا من أبواب الملكوت كوشف بالقلم أما ترى أن النبي صلى الله عليه و
سلم في أول أمره كوشف بالقلم إذ أنزل عليه اقرأ وربك
الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما
لم يعلم فقال السالك لقد فتحت بصري وحدقته فو الله ما أرى قصبا ولا خشبا ولا أعلم
قلما إلا كذلك فقال العلم لقد أبعدت النجعة أما سمعت أن متاع البيت يشبه رب البيت
أما علمت أن الله تعالى لا تشبه ذاته سائر الذوات فكذلك لا تشبه يده الأيدى ولا
قلمه الأقلام ولا كلامه سائر الكلام ولا خطه سائر الخطوط وهذه أمور إلهية من عالم
الملكوت فلبس الله تعالى في ذاته بجسم ولا هو في مكان بخلاف غيره ولا يده لحم وعظم
ودم بخلاف الأيدي ولا قلمه من قصب ولا لوحه من خشب ولا كلامه بصوت وحرف ولا خطه
رقم ورسم ولا حبره زاج وعفص فإن كنت لا تشاهد هذا هكذا فما أراك إلا مخنثا بين
فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه مذبذبا بين هذا وذا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء فكيف
نزهت ذاته وصفاته تعالى عن الأجسام وصفاتها ونزهت كلامه عن معانى الحروف والأصوات
وأخذت تتوقف في يده وقلمه ولوحه وخطه فإن كنت قد فهمت من قوله صلى الله عليه و سلم
إن الله خلق آدم على صورته الصورة الظاهرة المدركة بالبصر فكن مشبها مطلقا كما
يقال كن يهوديا صرفا وإلا فلا تلعب بالتوراة وإن فهمت منه الصورة الباطنة التي
تدرك بالبصائر لا بالأبصار فكن منزها صرفا ومقدسا فحلا واطو الطريق فإنك بالواد
المقدس طوى واستمع بسر قلبك لما يوحى فلعلك تجد على النار هدى ولعلك من سرادقات
العرش تنادى بما نودى به موسى إنى أنا ربك فلما سمع السالك من العلم ذلك استشعر
قصور نفسه وانه مخنث بين التشبيه والتنزيه فاشتعل قلبه نارا من حدة غضبه على نفسه
لما رآها بعين النقص ولقد كان زيته الذى في مشكاة قلبه يكاد يضىء ولو لم تمسه نار
فلما نفخ فيه العلم بحدته اشتعل زيته فأصبح نورا على نور فقال له العلم اغتنم الآن
هذه الفرصة وافتح بصرك لعلك تجد على النار هدى ففتح بصره فانكشف له القلم الإلهي
فإذا هو كما وصفه العلم فى التنزيه ما هو من خشب ولا قصب ولا له رأس ولا ذنب وهو
يكتب على الدوام في قلوب البشر كلهم أصناف العلوم وكأن له في كل قلب رأسا ولا رأس
له فقضى منه العجب وقال نعم الرفيق العلم فجزاه الله تعالى عني خيرا إذ الآن ظهر
لي صديق أنبائه عن أوصاف القلم فإني أراه قلما لا كالأقلام فعند هذا ودع العلم
وشكره وقال قد طال مقامي عندك ومرادتى لك وأنا عازم على أن أسافر إلى حضرة القلم
وأسأله عن شأنه فسافر إليه وقال له ما بالك ايها القلم تخط على الدوام في القلوب
من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى إشخاص القدر وصرفها إلى المقدورات فقال أو قد
نسيت ما رأيت في عالم الملك والشهادة وسمعت من جواب القلم إذ سألته فأحالك على
اليد قال لم انس ذلك
قال فجوابي مثله جوابه قال كيف وأنت لا تشبهه قال القلم أما سمعت أن الله تعالى
خلق آدم على صورته قال نعم
قال فسل عن شأني الملقب بيمين الملك فإني في قبضته وهو الذي يرددني وأنا مقهور
مسخر فلا فرق بين القلم الإلهي وقلم الآدمي في معنى التسخير وإنما الفرق في ظاهر
الصورة
فقال فمن يمين الملك فقال القلم أما سمعت قوله تعالى والسموات مطويات بيمينه قال
نعم قال والأقلام أيضا في قبضة يمينه هو الذي يرددها فسافر السالك من عنده إلى
اليمين حتى شاهده ورأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم ولا يجوز وصف شيء من ذلك
ولا شرحه بل لا تحوى مجلدات كثيرة عشر عشير وصفه والجملة فيه أنه يمين لا كالإيمان
ويد لا كالأيدي وأصبع لا كالأصابع فرأى القلم محركا في قبضته فظهر له عذر القلم
فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم فقال جوابي مثل ما سمعته من اليمين التي رأيتها
في عالم الشهادة وهي الحوالة على القدرة إذ اليد لا حكم لها في نفسها وإنما
محركها القدرة لا محالة فسافر السالك إلى
عالم القدرة ورأى فيه من العجائب ما استحقر عندها ما قبله وسألها عن تحريك اليمين
فقالت إنما أنا صفة فاسأل القادر إذ العمدة على الموصوفات لا على الصفات وعند هذا
كاد أن يزيغ ويطلق بالجراءة لسان السؤال فثبت بالقول الثابت ونودي من وراء حجاب
سرادقات الحضرة لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فغشيته هيبة الحضرة فخر صعقا يضطرب في
غشيته فلما أفاق قال سبحانك ما أعظم شأنك تبت إليك وتوكلت عليك وآمنت بأنك الملك
الجبار الواحد القهار فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ولا أعوذ إلا بعفوك من عقابك
وبرضاك من سخطك وما لي إلا أن أسألك وأتضرع إليك وأبتهل بين يديك فأقول اشرح لي
صدري لأعرفك واحلل عقدة من لساني لأثني عليك فنودي من وراء الحجاب إياك أن تطمع في
الثناء وتزيد على سيد الأنبياء بل إرجع إليه فما آتاك فخذه وما نهاك عنه فانته عنه
وما قاله لك فقله فإنه ما زاد في هذه الحضرة على أن قال سبحانك لا أحصي ثناء عليك
أنت كما أثنيت على نفسك // حديث سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
تقدم // فقال إلهي إن لم يكن للسان جراءة على الثناء عليك فهل للقلب مطمع في
معرفتك فنودي إياك أن تتخطى رقاب الصديقين فارجع إلى الصديق الأكبر فاقتد به فإن
أصحاب سيد الأنبياء كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم أما سمعته يقول العجز عن درك
الإدراك إدراك فيكفيك نصيبا من حضرتنا أن تعرف أنك محروم عن حضرتنا عاجز عن ملاحظة
جمالنا وجلالنا فعند ذلك رجع السالك واعتذر عن أسئلته ومعاتباته وقال لليمين
والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها اقبلوا عذري فإني كنت غريبا حديث العهد
بالدخول في هذه البلاد ولكل داخل دهشة فما كان إنكاري عليكم إلا عن قصور وجهل
والآن قد صح عندي عذركم وانكشف لي أن المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت هو
الواحد القهار فما انتم إلا مسخرون تحت قهره وقدرته مرددون في قبضته وهو الأول
والآخر والظاهر والباطن فلما ذكر ذلك في عالم الشهادة استبعد منه ذلك وقيل له كيف
يكون هو الأول والآخر وهما وصفان متناقضان وكيف يكون هو الظاهر والباطن فالأول ليس
بآخر والظاهر ليس بباطن فقال هو الأول بالإضافة إلى الموجودات إذ صدر منه الكل على
ترتيبه واحدا بعد واحد وهو الآخر بالإضافة إلى سير السائرين إليه فإنهم لا يزالون
مترقين من منزل إلى منزل إلى أن يقع الانتهاء إلى تلك الحضرة فيكون ذلك آخر السفر
فهو آخر في المشاهدة أول في الوجود وهو باطن بالإضافة إلى العاكفين في عالم
الشهادة الطالبين لإدراكه بالحواس الخمس ظاهر بالإضافة إلى من يطلبه في السراج
الذي اشتعل في قلبه بالبصيرة الباطنة النافذة في عالم الملكوت فهذا كان توحيد
السالكين لطريق التوحيد في الفعل أعني من انكشف له أن الفاعل واحد
فإن قلت قد انتهى هذا التوحيد إلى أنه يبتني على الإيمان بعالم الملكوت فمن لم
يفهم ذلك أو يجحده فما طريقه فأقول أما الجاحد فلا علاج له إلا أن يقال له إنكارك
لعالم الملكوت كإنكار السمنية لعالم الجبروت وهم الذين حصروا العلوم في الحواس
الخمس فأنكروا القدرة والإرادة والعلم لأنها لا ندرك بالحواس الخمس فلازموا حضيض
عالم الشهادة بالحواس الخمس فإن قال وأنا منهم فإني لا أهتدي إلا إلى عالم الشهادة
بالحواس الخمس ولا أعلم شيئا سواه فيقال إنكارك لما شاهدناه مما وراء الحواس الخمس
كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس فإنهم قالوا ما نراه لا نثق به فلعلنا نراه في
المنام فإن قال وأنا من جملتهم فإني شاك أيضا في
المحسوسات فيقال هذا شخص فسد مزاجه
وامتنع علاجه فيترك أياما قلائل وما كل مريض يقوى على علاجه الأطباء هذا حكم
الجاحد
وأما الذي لا يجحد ولكن لا يفهم فطريق السالكين معه أن ينظروا إلى عينه التي يشاهد
بها عالم الملكوت فإن وجدوها صحيحة في الأصل وقد نزل فيها ماء أسود يقبل الإزالة
والتنقية اشتغلوا بتنقيته اشتغال الكحال بالأبصار الظاهرة فإذا استوى بصره أرشد
إلى الطريق ليسلكها كما فعل ذلك صلى الله عليه و سلم بخواص أصحابه فإن كان غير
قابل للعلاج فلم يمكنه أن يسلك الطريق الذي ذكرناه في التوحيد ولم يمكنه أن يسمع
كلام ذرات الملك والملكوت بشهادة التوحيد كلموه بحرف وصوت وردوا ذروة التوحيد إلى
حضيض فهمه فإن في عالم الشهادة أيضا توحيدا إذ يعلم كل أحد أن المنزل يفسد بصاحبين
والبلد يفسد بأميرين فيقال له على حد عقله
إله العالم واحد والمدبر واحد إذ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فيكون ذلك على
ذوق ما رآه في عالم الشهادة فينغرس اعتقاد التوحيد في قلبه بهذا الطريق اللائق
بقدر عقله وقد كلف الله الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم ولذلك نزل القرآن
بلسان العرب على حد عادتهم في المحاورة
فإن قلت فمثل هذا التوحيد الاعتقادي هل يصلح أن يكون عمادا للتوكل وأصلا فيه فأقول
نعم فإن الاعتقاد إذا قوى عمل عمل الكشف في أثارة الأحوال إلا أنه في الغالب يضعف
ويتسارع إليه الاضطراب والتزلزل غالبا ولذلك يحتاج صاحبه إلى متكلم يحرسه بكلامه
أو إلى أن يتعلم هو الكلام ليحرس به العقيدة التي تلقنها من أستاذه أو من أبويه أو
من أهل بلده
وأما لذى شاهد الطريق وسلكه بنفسه فلا يخاف عليه شيء من ذلك بل لو كشف الغطاء لما
ازداد يقينا وإن كان يزداد وضوحا كما أن الذي يرى إنسانا في وقت الإسفار لا يزداد
يقينا عند طلوع الشمس بأنه إنسان ولكن يزداد وضوحا في تفصيل خلقته وما مثال
المكاشفين والمعتقدين إلا كسحرة فرعون مع أصحاب السامري فإن سحرة فرعون لما كانوا
مطلعين على منتهى تأثير السحر لطول مشاهدتهم وتجربتهم رأوا من موسى عليه السلام
تجاوز حدود السحر وانكشف لهم حقيقة الأمر فلم يكترثوا بقول فرعون لأقطعن أيديكم
وأرجلكم من خلاف بل قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا قاقض ما
أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فإن البيان والكشف يمنع التغيير وأما أصحاب
السامري لما كان إيمانهم عن النظر إلى ظاهر الثعبان فلما نظروا إلى عجل السامري
وسمعوا خواره تغيروا وسمعوا قوله هذا إلهكم وإله موسى ونسوا أنه لا يرجع إليهم
قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا فكل من آمن بالنظر إلى ثعبان يكفر لا محالة إذا
نظر إلى عجل لأن كليهما من عالم الشهادة والاختلاف والتضاد في عالم الشهادة كثير
وأما عالم الملكوت فهو من عند الله تعالى فلذلك لا نجد فيه اختلافا وتضادا أصلا
فإن قلت ما ذكرته من التوحيد ظاهر مهما ثبت أن الوسائط والأسباب مسخرات وكل ذلك
ظاهر إلا في حركات الإنسان فإنه يتحرك إن شاء ويسكن إن شاء فكيف يكون مسخرا فأعلم
انه لو كان مع هذا يشاء إن أراد أن يشاء ولا يشاء إن لم يرد أن يشاء لكان هذا مزلة
القدم وموقع الغلط ولكن علم أنه يفعل ما يشاء إذا شاء إن يشأ أم لم يشأ فليست
المشيئة إليه إذ لو كانت إليه لافتقرت إلى مشيئة أخرى وتسلسل إلى غير نهاية وإذا
لم تكن إليه المشيئة فمهما وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت
القدرة لا محالة ولم يكن لها سبيل إلى المخالفة فالحركة لازمة ضرورة بالقدرة
والقدرة متحركة ضرورة عند انجزام المشيئة فالمشيئة تحدث ضرورة في القلب فهذا
ضرورات ترتب بعضها على بعض
وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة ولا انصراف
القدرة إلى المقدور بعدها ولا وجود
الحركة بعد بعث المشيئة المقدرة فهو مضطر في الجميع
فإن قلت فهذا جبر محض والجبر يناقض الاختيار وأنت لا تنكر الاختيار فكيف يكون
مجبورا مختارا فأقول لو انكشف الغطاء لعرفت أنه في عين الاختيار مجبور فهو إذن
مجبور على الاختيار فكيف يفهم هذا من لا يفهم الاختيار فلنشرح الاختيار بلسان
المتكلمين شرحا وجيزا يليق بما ذكر متطفلا وتابعا فإن هذا الكتاب لم نقصد به إلا
علم المعاملة ولكني أقول لفظ الفعل في الإنسان يطلق على ثلاثة أوجه إذ يقال
الإنسان يكتب بالأصابع ويتنفس بالرئة والحنجرة ويخرق الماء إذا وقف عليه بجسمه
فينسب إليه الخرق في الماء والتنفس والكتابة وهذه الثلاثة في حقيقة الاضطرار
والجبر واحدة ولكنها تختلف وراء ذلك في أمور فأعرب لك عنها بثلاث عبارات فنسمي
خرقة للماء عند وقوعه على وجهه فعلا طبيعيا ونسمي تنفسه فعلا إراديا ونسمي كتابته
فعلا اختياريا والجبر ظاهر في الفعل الطبيعي لأنه مهما وقف على وجه الماء أو تخطى
من السطح للهواء انخرق الهواء لا محالة وقد يكون الخرق بعد التخطي ضروريا والتنفس في
معناه فإن نسبة حركة الحنجرة إلى إرادة التنفس كنسبة انخراق الماء إلى ثقل البدن
فمهما كان الثقل موجودا وجد الإنخراق بعده وليس الثقل إليه وكذلك الإرادة ليست
إليه ولذلك لو قصد عين الإنسان بإبرة طبق الأجفان اضطرارا ولو أراد أن يتركها
مفتوحة لم يقدر مع أن تغميض الأجفان اضطرارا فعل إرادي ولكنه إذا تمثل صورة الإبرة
في مشاهدته بالإدراك حدثت الإرادة بالتغميض ضرورة وحدثت الحركة بها ولو أراد أن
يترك ذلك لم يقدر عليه مع أنه فعل بالقدرة والإرادة فقد التحق هذا بالفعل الطبيعي
في كونه ضروريا
وأما الثالث وهو الاختيار فهو مظنة الالتباس كالكتابة والنطق وهو الذي يقال فيه إن
شاء فعل وإن شاء لم يفعل وتارة لا يشاء فيظن من هذا أن الأمر إليه وهذا للجهل
بمعنى الاختيار فلنكشف عنه وبيانه أن الإرادة تبع للعلم الذي يحكم بأن الشيء موافق
لك والأشياء تنقسم إلى ما تحكم مشاهدتك الظاهرة أو الباطنة بأنه يوافقك من غير
تحير وتردد وإلى ما قد يتردد العقل فيه فالذي نقطع به من غير تردد أن من يقصد عينك
مثلا بإبرة أو بدنك بسيف فلا يكون في علمك تردد في أن دفع ذلك خير لك وموافق فلا
جرم تنبعث الإرادة بالعلم
والقدرة بالإرادة وتحصل حركة الأجفان بالدفع وحركة اليد بدفع السيف ولكن من غير
روية وفكرة ويكون ذلك بالإرادة ومن الأشياء ما يتوقف التمييز والعقل فيه فلا يدرى
أنه موافق أم لا فيحتاج إلى روية فكر حتى يتميز أن الخير في الفعل أو الترك فإذا
حصل بالفكر والروية العلم بأن أحدهما خير التحقق ذلك بالذي يقطع به من غير روية
فكر فانبعثت الإرادة ههنا كما تنبعث لدفع السيف والسنان فإذا انبعثت لفعل ما ظهر
للعقل أنه خير سميت هذه الإرادة اختيارا مشتقا من الخير أي هو انبعاث إلى ما ظهر
للعقل أنه خير وهو عين تلك الإرادة ولم ينتظر في انبعاثها إلى ما انتظرت تلك
الإرادة وهو ظهور خيرية الفعل في ححقه إلا أن الخيرية في دفع السيف ظهرت من غير
روية بل على البديهة وهذا افتقر إلى الروية فالاختيار عبارة عن إرادة خاصة وهي
التي انبعثت بإشارة العقل فيما له في إدراكه توقف وعن هذا قيل إن العقل يحتاج إليه
للتمييز بين خير الخيرين وشر الشرين ولا يتصور أن تنبعث الإرادة إلا بحكم الحس
والتخيل أو بحكم جزم من العقل ولذلك لو أراد الإنسان أن يحز رقبة نفسه مثلا لم
يمكنه لا لعدم القدرة في اليد ولا لعدم السكين ولكن لفقد الإرادة الداعية المشخصة
للقدرة وإنما فقدت الإرادة لأنها تنبعث بحكم العقل أو الحسن بكون الفعل موافقا
وقتله نفسه ليس موافقا له فلا يمكنه مع قوة الأعضاء أن يقتل نفسه إلا إذا كان في
عقوبة مؤلمة لا تطاق فإن العقل هنا يتوقف في الحكم ويتردد لأن
تردده بين شر الشرين فإن ترجح له بعد
الروية أن ترك القتل أقل شرا لم يمكنه قتل نفسه وإن حكم بأن القتل أقل شرا وكان
حكمه جزما لا ميل فيه ولا صارف منه انبعثت الإرادة والقدرة وأهلك نفسه كالذي يتبع
بالسيف للقتل فإنه يرمى بنفسه من السطح مثلا وإن مهلكا ولا يبالى ولا يمكنه أن لا
يرمى نفسه فإن كان يتبع بضرب خفيف فإن انتهى إلى طرف السطح حكم العقل بأن الضرب
أهون من الرمى فوقفت أعضاؤه فلا يمكنه أن يرمى نفسه ولا تنبعث له داعية ألبتة لأن
داعية الإرادة مسخرة بحكم العقل والحس والقدرة مسخرة للداعية والحركة مسخرة للقدرة
والكل مقدر بالضرورة فيه من حيث لا يدري فإنما هو محل ومجرى لهذه الأمور فأما أن
يكون منه فكلا ولا فإذن معنى كونه مجبورا أن جميع ذلك حاصل فيه من غيره لا منه
ومعنى كونه مختارا أنه محل لإرادة حدثت فيه جبرا بعد حكم العقل بكون الفعل خيرا
محضا موافقا وحدث الحكم أيضا جبرا فإذا هو مجبور على الاختيار ففعل النار في
الإحراق مثلا جبر محض وفعل الله تعالى اختيارا محض وفعل الإنسان على منزلة بين
المنزلتين فإنه جبر على الاختيار فطلب أهل الحق لهذا عبارة ثالثة لأنه لما كان فنا
ثالثا وائتموه فيه بكتاب الله تعالى فسموه كسبا وليس مناقضا للجبر ولا للاختيار بل
هو جامع بينهما عند من فهمه وفعل الله تعالى يسمى اختيارا بشرط أن لا يفهم من الاختيار
إرادة بعد تحير وتردد فإن ذلك في حقه محال وجميع الألفاظ المذكورة في اللغات لا
يمكن أن تستعمل في حق الله تعالى إلا على نوع من الاستعارة والتجوز وذكر ذلك لا
يليق بهذا العلم ويطول القول فيه
فإن قلت فهل تقول إن العلم ولد الإرادة والإرادة ولدت القدرة والقدرة ولدت الحركة
وأن كل متأخر حدث من المتقدم فإن قلت ذلك فقد حكمت بحدوث شيء لا من قدرة الله
تعالى وإن أبيت ذلك فما معنى ترتب البعض من هذا على البعض فاعلم أن القول بأن بعض
ذلك حدث عن بعض جهل محض سواء عبر عنه بالتولد أو بغيره بل حوالة جميع ذلك على معنى
الذي يعبر عنه بالقدرة الأزلية وهو الأصل الذي لم يقف كافة الخلق عليه إلا
الراسخون في العلم فإنهم وقفوا على كنه معناه والكافة وقفوا على مجرد لفظه مع نوع
تشبيه بقدرتنا وهو بعيد عن الحق وبيان ذلك يطول ولكن بعض المقدورات مترتب على
البعض في الحدوث ترتب المشروط على الشرط فلا تصدر من القدرة الأزلية إرادة إلا بعد
علم ولا علم إلا بعد حياة ولا حياة إلا بعد محل الحياة وكما لا يجوز أن يقال
الحياة تحصل من الجسم الذي هو شرط الحياة فكذلك في سائر درجات الترتيب ولكن بعض
الشروط ربما ظهرت للعامة وبعضها لم يظهر إلا للخواص المكاشفين بنور الحق وإلا فلا
يتقدم متقدم ولا يتأخر متأخر إلا بالحق واللزوم وكذلك جميع أفعال الله تعالى ولولا
ذلك لكان التقديم والتأخير عبثا يضاهي فعل المجانين تعالى الله عن قول الجاهلين
علوا كبيرا وإلى هذا أشار قوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله
تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق فكل ما
بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم لا يتصور أن يكون إلا كما حدث
وعلى هذا الترتيب الذي وجد فما تأخر متأخر إلا لانتظار شرطه والمشروط قبل الشرط
محال والمحال لا يوصف بكونه مقدورا فلا يتأخر العلم عن النطفة إلا لفقد شرط الحياة
ولا تتأخر عنها الإرادة بعد العلم إلا لفقد شرط العلم وكل ذلك منهاج الواجب وترتيب
الحق ليس في شيء من ذلك لعب واتفاق بل كل ذلك بحكمة وتدبير وتفهيم ذلك عسير ولكنا
نضرب لتوقف المقدور مع وجود القدرة على وجود الشرط مثالا يقرب مبادئ الحق من
الأفهام الضعيفة وذلك بأن
نقدر إنسانا محدثا قد انغمس في الماء إلى
رقبته فالحدث لا يرتفع عن أعضائه وإن كان الماء هو الرافع وهو ملاق له فقدر القدرة
الأزلية حاضرة ملاقية للمقدورات متعلقة بها ملاقاة الماء للأعضاء ولكن لا يحصل بها
المقدور كما لا يحصل رفع الحدث بالماء انتظارا للشرط وهو غسل الوجه فإذا وضع
الواقف في الماء وجهه على الماء عمل الماء في سائر أعضائه وارتفع الحدث فربما يظن
الجاهل أن الحدث ارتفع عن اليدين برفعه عن الوجه لأنه حدث عقيبه إذ يقول كان الماء
ملاقيا ولم يكن رافعا والماء لم يتغير عما كان فكيف حصل منه ما لم يحصل من قبل بل
حصل ارتفاع الحدث عن اليدين عند غسل الوجه فإذن غسل الوجه هو الرافع للحدث عن
اليدين وهو جهل يضاهي ظن من يظن أن الحركة تحصل بالقدرة والقدرة بالإرادة والإرادة
بالعلم وكل ذلك خطأ بل عند ارتفاع الحدث عن الوجه ارتفع الحدث عن اليد بالماء
الملاقي لها لا بغسل الوجه والماء لم يتغير واليد لم تتغير ولم يحدث فيهما شيء
ولكن حدث وجود الشرط فظهر أثر العلة فهكذا ينبغي أن تفهم صدور المقدرات عن القدرة
الأزلية مع أن القدرة قديمة والمقدورات حادثة وهذا قرع باب آخر لعالم آخر من عوالم
المكاشفات فلنترك جميع ذلك فإن مقصودنا التنبيه على طريق التوحيد في الفعل فإن
الفاعل بالحقيقة واحد فهو المخوف والمرجو وعليه التوكل والاعتماد ولم نقدر على أن
نذكر من بحار التوحيد إلا قطرة من بحر المقام الثالث من مقامات التوحيد واستيفاء
ذلك في عمر نوح محال كاستيفاء ماء البحر بأخذ القطرات منه وكل ذلك ينطوي تحت قول
لا إله إلا الله وما أخف مؤنته على اللسان وما أسهل اعتقاد مفهوم لفظه على القلب
وما أعز حقيقته ولبه عند العلماء الراسخين في العلم فكيف عند غيرهم
فإن قلت فكيف الجمع بين التوحيد والشرع ومعنى التوحيد أن لا فاعل إلا الله تعالى
ومعنى الشرع إثبات الأفعال للعباد فإن كان العبد فاعلا فكيف يكون الله تعالى فاعلا
وإن كان الله تعالى فاعلا فكيف يكون العبد فاعلا ومفعول بين فاعلين غير مفهوم
فأقول نعم ذلك غير مفهوم إذا كان للفاعل معنى واحد وإن كان له معنيان ويكون الاسم
مجملا مرددا بينهما لم يتناقض كما يقال قتل الأمير فلانا ويقال قتله الجلاد ولكن
الأمير قاتل بمعنى والجلاد قاتل بمعنى آخر فكذلك العبد فاعل بمعنى والله عز و جل
فاعل بمعنى آخر فمعنى كون الله تعالى فاعلا أنه المخترع الموجد ومعنى كون العبد
فاعلا أنه المحل الذي خلق فيه القدرة بعد أن خلق فيه الإرادة بعد أن خلق فيه العلم
فارتبطت القدرة بالإرادة والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط وارتبط بقدرة الله
ارتباط المعلول بالعلة وارتباط المخترع بالمخترع وكل ما له ارتباط بقدرة فإن محل
القدرة يسمى فاعلا له كيفما كان الارتباط كما يسمى الجلاد قاتلا والأمير قاتلا لأن
القتل ارتبط بقدرتهما ولكن على وجهين مختلفين فلذلك سمي فعلا لهما فكذلك ارتباط
المقدورات بالقدرتين ولأجل توافق ذلك وتطابقه نسب الله تعالى الأفعال في القرآن
مرة إلى الملائكة ومرة إلى العباد ونسبها بعينها مرة أخرى إلى نفسه فقال الله
تعالى في الموت قل يتوفاكم ملك الموت ثم قال عز و جل الله يتوفى الأنفس حين موتها
وقال تعالى افرأيتم ما تحرثون أضاف إلينا ثم قال تعالى أنا صببنا الماء صبا ثم
شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقال عز و جل فأرسلنا إليها روحنا فتمثل
لها بشرا سويا ثم قال تعالى فنفخنا فيها من روحنا وكان النافخ جبريل عليه السلام
وكما قال تعالى فإذا قرأناه فاتبع قرآنه قيل في التفسير معناه إذا قرأه عليك جبريل
وقال تعالى قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم فأضاف القتل إليهم والتعذيب إلى نفسه
والتعذيب هو عين
القتل بل صرح وقال تعالى فلم تقتلوهم
ولكن الله قتلهم وقال تعالى وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وهو جمع بين النفي
والإثبات ظاهرا ولكن معناه وما رميت بالمعنى الذي يكون الرب به راميا إذ رميت
بالمعنى الذي يكون العبد به راميا إذ هما معنيان مختلفان
وقال الله تعالى الذي علم بالقلم علم الإنسان مالم يعلم ثم قال الرحمن علم القرآن
وقال علمه البيان وقال ثم إن علينا بيانه وقال أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم
نحن الخالقون ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في وصف ملك الأرحام إنه يدخل
الرحم فيأخذ النطفة في يده ثم يصورها جسدا فيقول يا رب أذكر أم أنثى أسوى أم معوج
فيقول الله تعالى ما شاء ويخلق الملك // حديث وصف ملك الأرحام أنه يدخل الرحم
فيأخذ النطفة بيده ثم يصورها جسدا الحديث رواه البزار وابن عدي من حديث عائشة إن
الله تبارك وتعالى حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل الرحم فيقول يا رب ماذا
الحديث وفي آخره فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم وفي سنده جهالة وقال ابن
عدي أنه منكر وأصله متفق عليه من حديث ابن مسعود بنحوه // وفي لفظ آخر ويصور الملك
ثم ينفخ فيه الروح بالسعادة أو بالشقاوة
وقد قال بعض السلف إن الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجساد
وأنه يتنفس بوصفه فيكون كل نفس من أنفاسه روحا يلج في جسم ولذلك سمي روحا وما ذكره
في مثل هذا الملك وصفته فهو حق شاهده أرباب القلوب ببصائرهم فأما كون الروح عبارة
عنه فلا يمكن أن يعلم إلا بالنقل والحكم به دون النقل تخمين مجرد وكذلك ذكر الله
تعالى في القرآن من الأدلة والآيات في الأرض والسموات ثم قال أو لم يكف بربك أنه
على كل شيء شهيد وقال شهد الله أنه لا إله إلا هو فبين أنه الدليل على نفسه وذلك
ليس متناقضا بل طرق الاستدلال مختلفة
فكم من طالب عرف الله تعالى بالنظر إلى الموجودات وكم من طالب عرف كل الموجودات
بالله تعالى كما قال بعضهم عرفت ربي بربي ولولا ربي لما عرفت ربي وهو معنى قوله
تعالى أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد وقد وصف الله تعالى نفسه بأنه المحيي
والمميت ثم فوض الموت والحياة إلى ملكين ففي الخبر أن ملكي الموت والحياة تناظرا فقال
ملك الموت أنا أميت الأحياء وقال ملك الحياة أنا أحيي الموتى فأوحى الله تعالى
إليهما كونا على عملكما وما سخرتكما له من الصنع وأنا المميت والمحيي لا يميت ولا
يحيى سواى // حديث إن ملك الموت والحياة تناظرا فقال ملك الموت أنا أميت الأحياء
وقال ملك الحياة أنا أحيي الأموات فأوحى الله إليهما أن كونا على عملكما الحديث لم
أجد له أصلا // فإذن الفعل يستعمل على وجوه مختلفة فلا تتناقض هذه المعاني إذا
فهمت ولذلك قال صلى الله عليه و سلم للذي ناوله التمرة خذها لو لم تأتها لأتتك //
حديث قال للذي ناوله التمرة خذها لو لم تأتها لأتتك أخرجه ابن حبان في كتاب روضة
العقلاء من رواية هذيل ابن شرحبيل ووصله الطبراني عن هذيل عن ابن عمر ورجاله رجال
الصحيح // أضاف الإتيان إليه وإلى التمرة ومعلوم أن التمرة لا تأتي على الوجه الذي
يأتي الإنسان إليها وكذلك لما قال التائب أتوب إلى الله تعالى ولا أتوب إلى محمد
فقال صلى الله عليه و سلمعرف الحق لأهله // حديث إنه قال للذي قال أتوب إلى الله
ولا أتوب إلى محمد عرف الحق لأهله تقدم في الزكاة // فكل من أضاف الكل إلى الله
تعالى فهو المحقق الذي عرف الحق والحقيقة ومن أضافه إلى غيره فهو المتجوز
والمستعير في كلامه وللتجوز وجه كما أن للح4قيقة وجها واسم الفاعل وضعه واضع اللغة
للمخترع ولكن ظن أن الإنسان مخترع بقدرته فسماه فاعلا بحركته وظن أنه تحقيق وتوهم
أن نسبته إلى الله تعالى على سبيل المجاز مثل نسبة القتل إلى الأمير فإنه مجاز
بالإضافة إلى نسبته إلى الجلاد فلما انكشف الحق لأهله عرفوا أن الأمر بالعكس
وقالوا إن الفاعل قد وضعته أيها اللغوى
للمخترع فلا فاعل إلا الله فالاسم له بالحقيقة ولغيره بالمجاز
أي تتجوز به عما وضعه اللغوى له ولما جرى حقيقة المعنى على لسان بعض الأعراب قصدا
أو اتفاقا صدقه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أصدق بيت قاله الشاعر قول لبيد
ألا كل شيء ما خلا الله باطل // حديث أصدق بيت قالته العرب بيت لبيد ألا كل شيء ما
خلا الله باطل متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ قاله الشاعر وفي رواية لمسلم أشعر
كلمة تكلمت بها العرب // أي كل ما لا قوام له بنفسه وإنما قوامه بغيره فهو باعتبار
نفسه باطل وإنما حقيته وحقيقته بغيره لا بنفسه فإذن لا حق بالحقيقة إلى الحي
القيوم الذي ليس كمثله شيء فإنه قائم بذاته وكل ما سواه قائم بقدرته فهو الحق وما
سواه باطل ولذلك قال سهل يا مسكين كان ولم تكن ويكون ولا تكون فلما كنت اليوم صرت
تقول أنا وأنا كن الآن كما لم تكن فإنه اليوم كما كان
فإن قلت فقد ظهر الآن أن الكل جبر فما معنى الثواب والعقاب والغضب والرضا وكيف
غضبه على فعل نفسه فاعلم أن معنى ذلك قد أشرنا إليه في كتاب الشكر فلا نطول
بإعادته فهذا هو القدر الذي رأينا الرمز إليه من التوحيد الذي يورث حال التوكل ولا
يتم هذا إلا بالإيمان بالرحمة والحكمة فإن التوحيد يورث النظر إلى مسبب الأسباب
والإيمان بالرحمة وسعتها هو الذي يورث الثقة بمسبب الأسباب ولا يتم حال التوكل كما
سيأتي إلا بالثقة بالوكيل وطمأنينة القلب إلى حسن نظر الكفيل وهذا الإيمان أيضا
باب عظيم من أبواب الإيمان وحكاية طريق المكاشفين فيه تطول فلنذكر حاصله ليعتقده
الطالب لمقام التوكل اعتقادا قاطعا لا يستريب فيه
وهو أن يصدق تصديقا يقينيا لا ضعف فيه ولا ريب أن الله عز و جل لو خلق الخلق كلهم
على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم وأفاض عليهم من
الحكمة مالا منتهى لوصفها ثم زاد مثل عدد جميعهم علما وحكمة وعقلا ثم كشف لهم عن
عواقب الأمور وأطلعهم على أسرار الملكوت وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى
اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما
أعطوا من العلوم والحكم لما أقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزاد
فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة ولا أن ينقص منها
جناح بعوضة ولا أن يرفع منها ذرة ولا أن يخفض منها ذرة ولا أن يدفع مرض أو عيب أو
نقص أو فقر أو ضر عمن بلى به ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم الله
به عليه بل كل ما خلقه الله تعالى من السموات والأرض إن رجعوا فيها البصر وطولوا
فيها النظر ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور وكل ما قسم الله تعالى بين عباده من
رزق وأجل وسرور وحزن وعجز وقدرة وإيمان وكفر وطاعة ومعصية فكله عدل محض لا جور فيه
وحق صرف لا ظلم فيه بل هو على الترتيب الواجب الحق على ما ينبغي وكما ينبغي بالقدر
الذي ينبغي وليس في الإمكان أصلا أحسن منه ولا أتم ولا أكمل ولو كان وادخره مع
القدرة ولم يتفضل بفعله لكان بخلا يناقض الجود وظلما يناقض العدل ولو لم يكن قادرا
لكان عجزا يناقض الإلهية بل كل فقر وضر في الدنيا فهو نقصان من الدنيا وزيادة في
الآخرة وكل نقص في الآخرة بالإضافة إلى شخص فهو نعيم بالإضافة إلى غيره إذ لولا
الليل لما عرف قدر النهار ولولا المرض لما تنعم الأصحاء بالصحة ولولا النار لما
عرف أهل الجنة قدر النعمة وكما أن فداء أرواح الإنس بأرواح البهائم وتسليطهم على
ذبحها ليس بظلم بل تقديم الكامل على الناقص عين العدل فكذلك تفخيم النعم على سكان
الجنان بتعظيم العقوبة على أهل النيران وفداء
أهل الإيمان بأهل الكفران عين العدل وما
لم يخلق الناقص لا يعرف الكامل ولولا خلق البهائم لما ظهر شرف الإنس فإن الكمال
والنقص يظهر بالإضافة فمقتضى الجود والحكمة خلق الكامل والناقص جميعا وكما أن قطع
اليد إذا تأكلت إبقاء على الروح عدل لأنه فداء كامل بناقص فكذلك الأمر في التفاوت
الذي بين الخلق في القسمة في الدنيا والآخرة فكل ذلك عدل لا جور فيه وحق لا لعب
فيه وهذا الآن بحر آخر عظيم العمق واسع الأطراف مضطرب الأمواج قريب في السعة من
بحر التوحيد فيه غرق طوائف من القاصرين ولم يعلموا أن ذلك غامض لا يعقله إلا
العالمون ووراء هذا البحر سر القدر الذي تحير فيه الأكثرون ومنع من إفشاء سره
المكاشفون والحاصل أن الخير والشر مقضى به وقد كان ما قضى به واجب الحصول بعد سبق
المشيئة فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره بل كل صغير وكبير مستطر وحصوله بقدر
معلوم منتظر وما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولنقتصر على هذه
المرامز من علوم المكاشفة التي هي أصول مقام التوكل ولنرجع إلى علم المعاملة إن
شاء الله تعالى وحسبنا الله ونعم الوكيل الشطر الثاني من الكتاب في أحوال التوكل
وأعماله
وفيه
بيان حال التوكل
وبيان ما قاله الشيوخ في حد التوكل وبيان التوكل في الكسب للمنفرد والمعيل وبيان
التوكل بقدر الادخار وبيان التوكل في دفع المضار وبيان التوكل في إزالة الضرر
بالتداوى وغيره والله الموفق برحمته بيان حال التوكل
قد ذكرنا أن مقام التوكل ينتظم من علم وحال وعمل وذكرنا العلم
فأما الحال فالتوكل بالتحقيق عبارة عنه وإنما العلم أصله والعمل ثمرته وقد أكثر
الخائضون في بيان حد التوكل واختلفت عباراتهم وتكلم كل واحد عن مقام نفسه وأخبر عن
حده كما جرت عادة أهل التصوف به ولا فائدة في النقل والإكثار فلنكشف الغطاء عنه
ونقول التوكل مشتق من الوكالة يقال وكل أمره إلى فلان أي فوضه إليه واعتمد عليه
فيه ويسمى الموكول إليه وكيلا ويسمى المفوض إليه متكلا عليه ومتوكلا عليه مهما
اطمأنت إليه نفسه ووثق به ولم يتهمه فيه بتقصير ولم يعتقد فيه عجزا وقصورا فالتوكل
عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده ولنضرب للوكيل في الخصومة مثلا فنقول من
ادعى عليه دعوى باطلة بتلبيس فوكل للخصومة من يكشف ذلك التلبيس لم يكن متوكلا عليه
ولا واثقا به ولا مطمئن النفس بتوكيله إلا إذا اعتقد فيه أربعة أمور منتهى الهداية
ومنتهى القوة ومنتهى الفصاحة ومنتهى الشفقة أما الهداية فليعرف بها مواقع التلبيس
حتى لا يخفى عليه من غوامض الحيل شيء أصلا وأما القدرة والقوة فليستجرئ على
التصريح بالحق فلا يداهن ولا يخاف ولا يستحى ولا يجبن فإنه ربما يطلع على وجه
تلبيس خصمه فيمنعه الخوف أو الجبن أو الحياء أو صارف آخر من الصوارف المضعفة للقلب
عن التصريح به وأما الفصاحة فهي أيضا من القدرة إلا أنها قدرة في اللسان على الإفصاح
عن كل ما استجرأ القلب عليه وأشار إليه فلا كل عالم بمواقع التلبيس قادر بذلاقة
لسانه على حل عقدة التلبيس وأما منتهى الشفقة فيكون باعثا له على بذل كل ما يقدر
عليه في حقه من المجهود فإن قدرته لا
تغني دون العناية به إذا كان لا يهمه أمره ولا يبالى به ظفر خصمه أو لم يظفر هلك
به حقه أو لم يهلك فإن كان شاكا في الأربعة أو في واحدة منها أو جوز أن يكون خصمه
في هذه الأربعة أكمل منه لم تطمئن نفسه إلى وكيله بل بقي منزعج القلب مستغرق الهم
بالحيلة والتدبير ليدفع ما يحذره من قصور وكيله وسطوة خصمه ويكون تفاوت درجة أحواله
في شدة الثقة والطمأنينة بحسب تفاوت قوة اعتقاده لهذه الخصال فيه والاعتقادات
والظنون في القوة والضعف تتفاوت تفاوتا لا ينحصر فلا جرم تتفاوت أحوال المتوكلين
في قوة الطمأنينة والثقة تفاوتا لا ينحصر إلى أن ينتهى إلى اليقين الذي لا ضعف فيه
كما لو كان الوكيل والد الموكل وهو الذي يسعى لجمع الحلال والحرام لأجله فإنه يحصل
له يقين بمنتهى الشفقة والعناية فتصير خصلة واحدة من الخصال الأربعة قطعية وكذلك
سائرا الخصال يتصور أن يحصل القطع به وذلك بطول الممارسة والتجربة وتواتر الأخبار
بأنه أفصح الناس لسانا وأقدرهم بيانا وأقدرهم على نصرة الحق بل على تصوير الحق
بالباطل والباطل بالحق فإذا عرفت التوكل في هذا المثال فقس عليه التوكل على الله
تعالى فإن ثبت في نفسك كشف أو باعتقاد جازم أنه لا فاعل إلا الله كما سبق واعتقدت
مع ذلك تمام العلم والقدرة على كفاية العباد ثم تمام العناية والعطف والرحمة بجملة
العباد والآحاد وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة ولا وراء منتهى علمه علم ولا وراء
منتهى عنايته بك ورحمته لك عناية ورحمة اتكل لا محالة قلبك عليه وحده ولم يلتفت
إلى غيره بوجه ولا إلى نفسه وحوله وقوته فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله كما سبق في
التوحيد عند ذكر الحركة والقدرة فإن الحول عبارة عن الحركة والقوة عبارة عن القدرة
فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك فسببه أحد أمرين إما ضعف اليقين بإحدى هذه
الخصال الأربعة وإما ضعف القلب ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الأوهام
الغالبة عليه فإن القلب قد ينزعج تبعا للوهم وطاعة له عن غير نقصان في اليقين فإن
من يتناول عسلا فشبه بين يديه بالعذرة ربما نفر طبعه وتعذر عليه تناوله ولو كلف
العاقل أن يبيت مع الميت في قبر أو فراش أو بيت نفر طبعه عن ذلك وإن كان متيقنا
بكونه ميتا وأنه جماد في الحال وأن سنة الله تعالى مطردة بأنه لا يحشره الآن ولا
يحييه وإن كان قادرا عليه كما أنها مطردة بأن لا يقلب القلم الذي في يده حية ولا
يقلب السنور أسدا وإن كان قادرا عليه ومع أنه لا يشك في هذا اليقين ينفر طبعه عن
مضاجعة الميت في فراش أو المبيت معه في البيت ولا ينفر عن سائر الجمادات وذلك جبن
في القلب وهو نوع ضعيف فلما يخلو الإنسان عن شيء منه وإن قل وقد يقوى فيصير مرضا
حتى يخاف أن يبيت في البيت وحده مع إغلاق الباب وإحكامه فإذن لا يتم التوكل إلا
بقوة القلب وقوة اليقين جميعا إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته فالسكون في القلب
شيء واليقين شيء آخر فكم من يقين لا طمأنينتة معه كما قال تعالى لإبراهيم عليه
السلام أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي فالتمس أن يكون مشاهدا إحياء الميت
بعينه ليثبت في خياله فإن النفس تتبع الخيال وتطمئن به ولا تطمئن باليقين في
ابتداء أمرها إلى أن تبلغ بالآخرة إلى درجة النفس المطمئنة وذلك لا يكون في
البداية أصلا وكم من مطمئن لا يقين له كسائر أرباب الملل والمذاهب فإن اليهودي
مطمئن القلب إلى تهوده وكذا النصراني ولا يقين لهم أصلا وإنما يتبعون الظن وما
تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى وهو سبب اليقين إلا أنهم معرضون عنه فإذن
الجبن والجراءة غرائز ولا ينفع اليقين معها فهي أحد الأسباب التي تضاد حال التوكل
كما أن ضعف اليقين بالخصال الأربعة أحد الأسباب وإذا اجتمعت هذه الأسباب حصلت
الثقة بالله تعالى وقد قيل مكتوب في التوراة ملعون من ثقته إنسان مثله وقد قال صلى
الله عليه و سلم
من استعز بالعبيد أذله الله تعالى //
حدديث من اعتز بالعبيد أذلة الله أخرجه العقيلى في الضعفاء وأبو نعيم في الحلية من
حديث عمر أورده العقيلي في ترجمة عبد الله بن عبد الله الأموي وقال لا يتابع على
حديثه وقد ذكره ابن حبان في الثقات وقال يخالف في روايته وإذا انكشف لك معنى
التوكل وعلمت الحالة التي سميت توكلا فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف
ثلاث درجات
الدرجة الأولى ما ذكرناه وهو أن يكون حاله في حق الله تعالى والثقة بكفالته
وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل الثانية وهي أقوى أن يكون حاله مع الله تعالى كحال
الطفل مع أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى أحد سواها ولا يعتمد إلا إياها فإذا
رآها تعلق في كل حال بذيلها ولم يخلها وإن نابه أمر في غيبتها كان أول سابق إلى
لسانه يا أماه وأول خاطر يخطر في قلبه أمه فإنها مفزعه فإنه قد وثق بكفالتها
وكفايتها وشفقتها ثقة ليست خالية عن نوع إدراك بالتمييز الذي له ويظن أنه طبع من
حيث إن الصبي لو طولب بتفصيل هذه الخصال لم يقدر على تلقين لفظه ولا على إحضاره
مفصلا في ذهنه ولكن كل ذلك وراء الإدراك فمن كان باله إلى الله عز و جل ونظره إليه
واعتماده عليه كلف به كما يكلف الصبي بأمه فيكون متوكلا حقا فإن الطفل متوكل على
أمه والفرق بين هذا وبين الأول أن هذا متوكل وقد فني في توكله عن توكله إذ ليس
يلتفت قلبه إلى التوكل وحقيقته بل إلى المتوكل عليه فقط فلا مجال في قلبه لغير
المتوكل عليه وأما الأول فيتوكل بالتكلف والكسب وليس فانيا عن توكله لأن له التفاتا
إلى توكله وشعورا به وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده وإلى هذه الدرجة
أشار سهل حيث سئل عن التوكل ما أدناه قال ترك الأماني قيل وأوسطه قال ترك الاختيار
وهو إشارة إلى الدرجة الثانية وسئل عن أعلاه فلم يذكره وقال لا يعرفه إلا من بلغ
أوسطه الثالثة وهي أعلاها أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت
بين يدي الغاسل لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتا تحركه القدرة الأزلية كما تحرك
يد الغاسل الميت وهو الذي قوى يقينه بأنه مجرى للحركة والقدرة والإرادة والعلم
وسائر الصفات وأن كلا يحدث جبرا فيكون بائنا عن الانتظار لما يجرى عليه ويفارق
الصبي فإن الصبي يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها ويعدو خلفها بل هو مثل صبي علم
أنه وإن لم يزعق بأمه فالأم تطلبه وأنه وإن لم يتعلق بذيل أمه فالأم تحمله وإن لم
يسألها اللبن فالأم تفاتحه وتسقيه وهذا المقام في التوكل يثمر ترك الدعاء والسؤال
منه ثقة بكرمه وعنايته وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يسئل فكم من نعمة ابتدأها قبل
السؤال والدعاء وبغير الاستحقاق والمقام الثاني لا يقتضى ترك الدعاء والسؤال منه
وإنما يقتضى ترك السؤال من غيره فقط
فإن قلت فهذه الأحوال هل يتصور وجودها فاعلم أن ذلك ليس بمحال ولكنه عزيز نادر
والمقام الثاني والثالث أعزها والأول أقرب إلى الإمكان ثم إذا وجد الثالث والثاني
فداومه أبعد منه بل يكاد لا يكون المقام الثالث في دوامه إلا كصفرة الوجل فإن
انبساط القلب إلى ملاحظة الحول والقوة والأسباب طبع وانقباضه عارض كما إن انبساط
الدم إلى جميع الأطراف طبع وانقباضه عارض والوجل عبارة عن انقباض الدم عن ظاهر
البشرة إلى الباطن حتى تنمحى عن ظاهر البشرة الحمرة التي كانت ترى من وراء الرقيق
من ستر البشرة فإن البشرة ستر رقيق تتراءى من ورائه حمرة الدم وانقباضه يوجب
الصفرة وذلك لا يدوم وكذا انقباض القلب بالكلية عن ملاحظة الحول والقوة وسائر
الأسباب الظاهرة لا يدوم وأما المقام الثاني فيشبه صفرة المحموم فإنه قد يدوم يوما
ويومين والأول يشبه صفرة مريض استحكم مرضه فلا يبعد أن يدوم ولا يبعد أن يزول
فإن قلت فهل يبقى مع العبد تدبير وتعلق
بالأسباب فى هذه الأحوال فاعلم إن المقام الثالث ينفى التدبير رأسا ما دامت الحالة
باقية بل يكون صاحبها كالمبهوت والمقام الثانى ينفى كل تدبير إلا من حيث الفزع إلى
الله بالدعاء والابتهال كتدبير الطفل فى التعلق بأمه فقط والمقام الأول لا ينفى
أصل التدبير والاختيار ولكن ينفى بعض التدبيرات كالمتوكل على وكيله فى الخصومة
فإنه يترك تدبيره من جهة غير الوكيل ولكن لا يترك التدبير الذى أشار إليه وكيله به
أو التدبير الذى عرفه من عادته وسننه دون صريح إشارته فأما الذى يعرفه بإشارته بأن
يقول له لست أتكلم إلا فى حضورك فيشتغل لا محالة بالتدبير للحضور ولا يكون هذا
مناقضا توكله عليه إذ ليس هو فزعا منه إلى حول نفسه وقوته فى إظهار الحجة ولا إلى
حول غيره بل من تمام توكله عليه أن يفعل ما رسمه له إذ لو لم يكن متوكلا عليه ولا
معتمدا عليه فى قوله لما حضر فقوله وأما المعلوم من عادته وإطراد سننه فهو أن يعلم
من عادته أن لا يحاج الخصم إلا من السجل فتمام توكله إن كان متوكلا عليه أن يكون
معولا على سنته وعادته ووافيا بمقتضاها وهو أن يحمل السجل مع نفسه إليه عند
مخاصمته فإذن لا يستغنى عن التدبير فى الحضور وعن التدبير فى إحضار السجل ولو ترك
شيئا من ذلك كان نقصا فى توكله فكيف يكون فعله نقصا فيه نعم بعد أن حضر وفاء
بإشارته وأحضر السجل وفاء بسنته وعادته وقعد ناظرا إلى محاجته فقد ينتهى إلى
المقام الثانى والثالث فى حضوره حتى يبقى كالبهوت المنتظر لا يفزع إلى حوله وقوته
إذ لم يبق له حول ولا قوة وقد كان فزعه إلى حوله وقوته فى الحضور وإحضار السجل
بإشارة الوكيل وسنته وقد انتهى نهايته فلم يبق إلا طمأنينة النفس والثقة بالوكيل
والانتظار لما يجرى وإذا تأملت هذا اندفع عنك كل إشكال فى التوكل وفهمت أنه ليس من
شرط التوكل ترك كل تدبير وعمل وأن كل تدبير وعمل لا يجوز أيضا مع التوكل بل هو على
الانقسام وسيأتى تفصيله فى الأعمال فإذا فزع المتوكل إلى حوله وقوته فى الحضور
والإحضار لا يناقض التوكل لأنه يعلم أنه لو لا الوكيل لكان حضوره وإحضاره باطلا
وتعبا محضا بلا جدوى فإذن لا يصير مفيدا من حيث إنه حوله وقوته بل من حيث إن
الوكيل جعله معتمدا لمحاجته وعرفه ذلك بإشارته وسنته فإذن لا حول ولا قوة إلا
بالوكيل إلا أن هذه الكلمة لا يكمل معناها فى حق الوكيل لأنه ليس خالقا حوله وقوته
بل هو جاعل لهما مفيدين فى أنفسهما ولم يكونا مفيدين لولا فعله وإنما يصدق ذلك فى
حق الوكيل وهو الله تعالى إذ هو خالق الحول والقوة كما سبق فى التوحيد وهو الذى
جعلهما مفيدين إذ جعلهما شرطا لما سيخلقه من بعدهما من الفوائد والمقاصد فإذن لا
حول ولا قوة إلا بالله حقا وصدقا فمن شاهد هذا كله كان له الثواب العظيم الذى وردت
به الأخبار فيمن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله // أحاديث ثواب قول لا حول ولا قوة
إلا بالله تقدمت فى الدعوات // وذلك قد يستبعد فيقال كيف يعطى هذا الثواب كله بهذه
الكلمة مع سهولتها على اللسان وسهولة اعتقاد القلب بمفهوم لفظها وهيهات فإنما ذلك
جزاء على هذه المشاهدة التى ذكرناها فى التوحيد ونسبة هذه الكلمة وثوابها إلى كلمة
لا إله إلا الله وثوابها كنسبة معنى إحداهما إلى الأخرى إذ فى هذه الكلمة إضافة
إلى شيئين إلى الله تعالى فقط وهما الحول والقوة وأما كلمة لا إله إلا الله فهو
نسبة الكل إليه فانظر إلى التفاوت بين الكل وبين شيئين لتعرف به ثواب لا إله إلا
الله بالإضافة إلى هذا وكما ذكرنا من قبل أن للتوحيد قشرين ولبين فكذلك لهذه
الكلمة ولسائر الكلمات وأكثر الخلق قيدوا بالقشرين وما طرقوا إلى اللبين وإلى
اللبين الإشارة بقوله صلى الله عليه و سلممن قال لا إله إلا الله
صادقا من قلبه مخلصا وجبت له الجنة //
حديث من قال لا إله إلا الله صادقا مخلصا من قلبه وجبت له الجنة رواه الطبراني من
حديث زيد بن أرقم وأبو يعلى من حديث أبي هريرة وقد تقدم // وحيث أطلق من غير الصدق
والإخلاص أراد بالمطلق هذا المقيد كما أضاف المغفرة إلى الإيمان والعمل الصالح فى
بعض المواضع وأضافها إلى مجرد الإيمان فى بعض المواضع والمراد به المقيد بالعمل
الصالح فالملك لا ينال بالحديث وحركة اللسان حديث وعقد القلب أيضا حديث ولكنه حديث
نفس وإنما الصدق والإخلاص وراءهما ولا ينصب سرير الملك إلا للمقربين وهم المخلصون
نعم لمن يقرب منهم فى الرتبة من أصحاب اليمين أيضا درجات عند الله تعالى وإن كانت
لا تنتهى إلا بالملك أما ترى أن الله سبحانه لما ذكر فى سورة الواقعة المقربين
السابقين تعرض لسرير الملك فقال على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين ولما انتهى
إلى أصحاب اليمين ما زاد فى ذكر الماء والظل والفواكه والأشجار والحور العين وكل
ذلك من لذات المنظور والمشروب والمأكول والمنكوح ويتصور ذلك للبهائم على الدوام
وأين لذات البهائم من لذة الملك والنزول فى أعلى عليين فى جوار رب العالمين ولو
كان لهذه اللذات قدر لما وسعت على البهائم ولما رفعت عليها درجة الملائكة أفترى أن
أحوال البهائم وهى مسيبة فى الرياض متنعمة بالماء والأشجار وأصناف المأكولات
متمتعة بالنزوان والسفاد أعلى وألذ وأشرف وأجدر بأن تكون عند ذوى الكمال مغبوطة من
أحوال الملائكة فى سرورهم بالقرب من جوار رب العالمين فى أعلى عليين هيهات هيهات
ما أبعد عن التحصيل من إذا خير بين أن يكون حمارا أو يكون فى درجة جبريل عليه
السلام فيختار درجة الحمار على درجة جبريل عليه السلام وليس يخفى أن شبه كل شىء
منجذب إليه وأن النفس التى نزوعها إلى صنعه الأساكفة أكثر من نزوعها إلى صنعة
الكتابة فهو بالأساكفه أشبه فى جوهره منه بالكتاب وكذلك من نزوع نفسه إلى نيل لذات
البهائم أكثر من نزوعها إلى نيل لذات الملائكة فهو بالبهائم أشبه منه بالملائكة لا
محالة وهؤلاء هم الذين يقال فيهم أولئك كالأنعام بل هم أضل وإنما كانوا أضل لأن
الأنعام ليس فى قوتها طلب درجة الملائكة فتركها الطلب للعجز وأما الإنسان ففى قوته
ذلك والقادر على نيل الكمال أحرى بالذم وأجدر بالنسبة إلى الضلال مهما تقاعد عن
طلب الكمال وإذا كان هذا كلاما معترضا فلنرجع إلى المقصود فقد بينا معنى قول لا
إله إلا الله ومعنى قول لا حول ولا قوة إلا بالله وإن من ليس قائلا بهما عن مشاهدة
فلا يتصور منه حال التوكل
فإن قلت ليس فى قولك لا حول ولا قوة إلا بالله إلا نسبة شيئين إلى الله فلو قال
قائل السماء والأرض خلق الله فهل يكون ثوابه مثل ثوابه فأقول لا لأن الثواب على
قدر درجة المثاب عليه ولا مساواة بين الدرجتين ولا ينظر إلى عظم السماء والأرض
وصغر الحول والقوة إن جاز وصفهما بالصغر تجوزا فليست الأمور بعظم الأشخاص بل كل
عامى يفهم أن الأرض والسماء ليستا من جهة الآدميين بل هما من خلق الله تعالى فأما
الحول والقوة فقد أشكل أمرهما على المعتزلة والفلاسفة وطوائف كثيرة ممن يدعى أنه
يدقق النظر فى الرأى والمعقول حتى يشق الشعر بحدة نظره فهى مهلكة مخطرة ومزلة
عظيمة هلك فيها الغافلون إذ أثبتوا لأنفسهم أمرا وهو شرك فى التوحيد وإثبات خالق
سوى الله تعالى فمن جاوز هذه العقبة بتوفيق الله تعالى إياه فقد علت رتبته وعظمت
درجته فهو الذى يصدق قول لا حول ولا قوة إلا بالله وقد ذكرنا أنه ليس فى التوحيد
إلا عقبتان إحداهما النظر
إلى السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم
والغيم والمطر وسائر الجمادات والثانية النظر إلى اختيار الحيوانات وهى أعظم
العقبتين وأخطرهما وبقطعهما كمال سر التوحيد فلذلك عظم ثواب هذه الكلمة أعنى ثواب
المشاهدة التى هذه الكلمة ترجمتها فإذا رجع حال التوكل إلى التبرى من الحول والقوة
والتوكل على الواحد الحق وسيتضح عند ذكرنا تفصيل أعمال التوكل إن شاء الله تعالى
بيان ما قاله الشيوخ فى أحوال التوكل
ليتبين أن شيئا منها لا يخرج عما ذكرنا ولكن كل واحد يشير إلى بعض الأحوال فقد قال
أبو موسى الديلى قلت لأبى يزيد ما التوكل فقال ما تقول أنت قلت إن أصحابنا يقولون
لو أن السباع والأفاعى عن يمينك ويسارك ما تحرك لذلك سرك فقال أبو يزيد نعم هذا
قريب ولكن لو أن أهل الجنة فى الجنة يتنعمون وأهل النار فى النار يعذبون ثم وقع بك
تمييز بينهما خرجت من جملة التوكل فما ذكره أبو موسى فهو خبر عن أجل أحوال التوكل
وهو المقام الثالث وما ذكره أبو يزيد عبارة عن أعز أنواع العلم الذى هو من أصول
التوكل وهو العلم بالحكمة وأن ما فعله الله تعالى فعله بالواجب فلا تمييز بين أهل
النار وأهل الجنة بالإضافة إلى أصل العدل والحكمة وهذا أغمض أنواع العلم ووراءه سر
القدر وأبو يزيد قلما يتكلم إلا عن أعلى المقامات وأقصى الدرجات وليس ترك الاحتراز
عن الحيات شرطا فى المقام الأول من التوكل فقد احترز أبو بكر رضى الله عنه فى
الغار إذ سد منافذ الحيات // حديث إن أبا بكر سد منافذ الحيات فى الغار شفقة على
النبي صلى الله عليه و سلم تقدم // إلا أن يقال فعل ذلك برجله ولم يتغير بسببه سره
أو يقال إنما فعل ذلك شفقة فى حق رسول الله صلى الله عليه و سلم لا فى حق نفسه
وإنما يزول التوكل بتحرك سره وتغيره لأمر يرجع إلى نفسه وللنظر فى هذا مجال ولكن
سيأتى بيان أن أمثال ذلك وأكثر منه لا يناقض التوكل فإن حركة السر من الحيات هو
الخوف وحق المتوكل أن يخاف مسلط الحيات إذ لا حول للحيات ولا قوة لها إلا بالله
فإن احترز لم يكن اتكاله على تدبيره وحوله وقوته فى الاحتراز بل على خالق الحول
والقوة والتدبير
وسئل ذو النون المصرى عن التوكل فقال خلع الأرباب وقطع الأسباب فخلع الأرباب إشارة
إلى علم التوحيد وقطع الأسباب إشارة إلى الأعمال وليس فيه تعرض صريح للحال وإن كان
اللفظ يتضمنه فقيل له زدنا فقال إلقاء النفس فى العبودية وإخراجها من الربوبية
وهذا إشارة إلى التبرى من الحول والقوة فقط
وسئل حمدون القصار عن التوكل فقال إن كان لك عشرة آلاف درهم وعليك دانق دين لم
تأمن أن تموت ويبقى دينك فى عنقك ولو كان عليك عشرة آلاف درهم دين من غير أن تترك
لها وفاء لا تيأس من الله تعالى أن يقضيها عنك وهذا إشارة إلى مجرد الإيمان بسعة
القدرة وأن فى المقدورات أسبابا خفية سوى هذه الأسباب الظاهرة
وسئل أبو عبد الله القرشى عن التوكل فقال التعلق بالله تعالى فى كل حال فقال
السائل زدنى فقال ترك كل سبب يوصل إلى سبب حتى يكون الحق هو المتولى لذلك فالأول
عام للمقامات الثلاث والثانى إشارة إلى المقام الثالث خاصة وهو مثل توكل إبراهيم
صلى الله عليه و سلم إذ قال له جبريل عليه السلام ألك حاجة فقال أما إلبك فلا إذ
كان سؤاله سببا يفضى إلى سبب وهو حفظ جبريل له فترك ذلك ثقة بأن الله تعالى إن
أراد سخر جبريل لذلك فيكون هو المتولى لذلك وهذا حال مبهوت غائب عن نفسه بالله
تعالى فلم ير معه غيره
وهو حال عزيز فى نفسه ودوامه إن وجد أبعد
منه وأعز
وقال أبو سعيد الخراز التوكل اضطراب بلا سكون وسكون بلا اضطراب ولعله يشير إلى
المقام الثانى فسكونه بلا اضطراب إشارة إلى سكون القلب إلى الوكيل وثقته به
واضطراب بلا سكون إشارة إلى فزعه إليه وابتهاله وتضرعه بين يديه كاضطراب الطفل
بيديه إلى أمه وسكون قلبه إلى تمام شفقتها
وقال أبو على الدقاق التوكل ثلاث درجات التوكل ثم التسليم ثم التفويض فالمتوكل
يسكن إلى وعده والمسلم يكتفى بعلمه وصاحب التفويض يرضى بحكمه وهذا إشارة إلى تفاوت
درجات نظره بالإضافة إلى المنظور إليه فإن العلم هو الأصل والوعد يتبعه والحكم
يتبع الوعد ولا يبعد أن يكون الغالب على قلب المتوكل ملاحظة شىء من ذلك وللشيوخ فى
التوكل أقاويل سوى ما ذكرناه فلا نطول بها فإن الكشف أنفع من الرواية والنقل فهذا
ما يتعلق بحال التوكل والله الموفق برحمته ولطفه
بيان أعمال المتوكلين
اعلم أن العلم يورث الحال والحال يثمر الأعمال وقد يظن أن معنى التوكل ترك الكسب
بالبدن وترك التدبير بالقلب والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة وكاللحم على الوضم
وهذا ظن الجهال فإن ذلك حرام فى الشرع والشرع قد أثنى على المتوكلين فكيف ينال
مقام من مقامات الدين بمحظورات الدين بل نكشف الغطاء عنه ونقول إنما يظهر تأثير
التوكل فى حركة العبد وسعيه بعلمه إلى مقاصده وسعى العبد باختياره إما أن يكون
لأجل جلب نافع هو مفقود عنده كالكسب أو لحفظ نافع هو موجود عنده كالادخار أو لدفع
ضار لم ينزل به كدفع الصائل والسارق والسباع أو لإزالة ضار قد نزل به كالتداوى من
المرض فمقصود حركات العبد لا تعدو هذه الفنون الأربعة وهو جلب النافع أو حفظه أو
دفع الضار أو قطعه فلنذكر شروط التوكل ودرجاته فى كل واحد منها مقرونا بشواهد
الشرع الفن الأول فى جلب النافع فنقول فيه الأسباب التى بها يجلب النافع على ثلاث
درجات مقطوع به ومظنون ظنا يوثق به وموهوم وهما لا تثق النفس به ثقة تامة ولا
تطمئن إليه الدرجة الأولى المقطوع به وذلك مثل الأسباب التى ارتبطت المسببات بها
بتقدير الله ومشيئته ارتباطا مطردا لا يختلف كما أن الطعام إذا كان موضوعا بين
يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول أنا متوكل وشرط التوكل ترك
السعى ومد اليد إليه سعى وحركة وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالى الحنك
على أسافله فهذا جنون محض وليس من التوكل فى شىء فإنك إن انتظرت أن يخلق الله
تعالى فيك شبعا دون الخبز أو يخلق فى الخبز حركة إليك أو يسخر ملكا ليمضغه لك
ويوصله إلى معدتك فقد جهلت سنة الله تعالى وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت فى أن
يخلق الله تعالى نباتا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع كما ولدت مريم عليها
السلام فكل ذلك جنون وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه أليس التوكل فى هذا
المقام بالعمل بل بالحال والعلم أما العلم فهو أن تعلم أن الله تعالى خلق الطعام
واليد والأسنان وقوة الحركة وأنه هو الذى يطعمك ويسقيك وأما الحال فهو أن يكون
سكون قلبك واعتمادك على فعل الله تعالى لا على اليد والطعام وكيف تعتمد على صحة
يدك وربما تجف فى الحال وتفلج وكيف تعول على قدرتك وربما يطرأ عليك فى الحال ما
يزيل عقلك ويبطل قوة حركتك وكيف تعول على حضور الطعام وربما يسلط الله تعالى
من يغلبك عليه أو يبعث حية تزعجك عن
مكانك وتفرق بينك وبين طعامك وإذا احتمل أمثال ذلك ولم يكن لها علاج إلا بفضل الله
تعالى فبذلك فلتفرح وعليه فلتعول فإذا كان هذا حاله وعلمه فليمد اليد فإنه متوكل
الدرجة الثانية الأسباب التى ليست متيقنة ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها
وكان احتمال حصولها دونها بعيدا كالذى يفارق الأمصار والقوافل ويسافر فى البوادى
التى لا يطرقها الناس إلا نادرا ويكون سفره من غير استصحاب زاد فهذا ليس شرطا فى
التوكل بل استصحاب الزاد فى البوادى سنة الأولين ولا يزول التوكل به بعد أن يكون
الاعتماد على فضل الله تعالى لا على الزاد كما سبق ولكن فعل ذلك جائز وهو من أعلى
مقامات التوكل ولذلك كان يفعله الخواص
فإن قلت فهذا سعى فى الهلاك وإلقاء النفس فى التهلكة فاعلم أن ذلك يخرج عن كونه
حراما بشرطين أحدهما أن يكون الرجل قد راض نفسه وجاهدها وسواها على الصبر عن
الطعام أسبوعا وما يقاربه بحيث يصبر عنه بلا ضيق قلب وتشوش خاطر وتعذر فى ذكر الله
تعالى والثانى أن يكون بحيث يقوى على التقوت بالحشيش وما يتفق من الأشياء الخسيسة
فبعد هذين الشرطين لا يخلو فى غالب الأمر فى البوادى فى كل أسبوع عن أن يلقاه آدمى
أو ينتهى إلى حلة أو قرية أو إلى حشيش يجتزئ به فيحيا به مجاهدا نفسه والمجاهدة
عماد التوكل وعلى هذا كان يعول الخواص ونظراؤه من المتوكلين والدليل عليه أن
الخواص كان لا تفارقه الإبرة والمقراض والحبل والركوة ويقول هذا لا يقدح فى التوكل
وسببه أنه علم أن البوادى لا يكون الماء فيها على وجه الأرض وما جرت سنة الله
تعالى بصعود الماء من البئر بغير دلو ولا حبل ولا يغلب وجود الحبل والدلو فى
البوادى كما يغلب وجود الحشيش والماء يحتاج إليه لوضوئه كل يوم مرات ولعطشه فى كل
يوم أو يومين مرة فإن المسافر مع حرارة الحركة لا يصبر عن الماء وإن صبر عن الطعام
وكذلك يكون له ثوب واحد وربما يتخرق فتنكشف عورته ولا يوجد المقراض والإبرة فى
البوادى غالبا عند كل صلاة ولا يقوم مقامهما فى الخياطة والقطع شىء مما يوجد فى
البوادى فكل ما فى معنى الأربعة أيضا يلتحق بالدرجة الثانية لأنه مظنون ظنا ليس
مقطوعا به لأنه يحتمل أن لا يتخرق الثوب أو يعطيه إنسان ثوبا أو يجد على رأس البئر
من يسقيه ولا يحتمل أن يتحرك الطعام ممضوغا إلى فيه فبين الدرجتين فرقان ولكن
الثانى فى معنى الأول ولهذا نقول لو انحاز إلى شعب من شعاب الجبال حيث لا ماء ولا
حشيش ولا يطرقه طارق فيه وجلس متوكلا فهو آثم به ساع فى هلاك نفسه كما روى أن
زاهدا من الزهاد فارق الأمصار وأقام فى سفح جبل سبعا وقال لا أسال أحدا شيئا حتى
فائتني ربى برزقى فقعد سبعة فكاد يموت ولم يأته رزق فقال يا رب إن أحييتنى فأئتنى
برزقى الذى قسمت لى وإلا فاقبضنى إليك فأوحى الله جل ذكره إليه وعزتى لا أرزقنك
حتى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس فدخل المصر وقعد فجاءه هذا بطعام وهذا بشراب
فأكل وشرب وأوجس فى نفسه من ذلك فأوحى الله تعالى إليه أردت أن تذهب حكمتى بزهدك
فى الدنيا أما علمت أنى أرزق عبدي بأيدي عبادى أحب إلى من أن أرزقه بيد قدرتى فإذن
التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهل بسنة الله تعالى والعمل بموجب سنة
الله تعالى مع الاتكال على الله عز و جل دون الأسباب لا يناقض التوكل كما ضربناه
مثلا فى الوكيل بالخصومة من قبل ولكن الأسباب تنقسم إلى ظاهرة وإلى خفية فمعنى
التوكل الاكتفاء بالأسباب الخفية عن الأسباب الظاهرة مع سكون النفس إلى مسبب السبب
لا إلى السبب
فإن قلت ما قولك فى القعود فى البلد بغير
كسب أهو حرام أو مباح أو مندوب فاعلم أن ذلك ليس بحرام لأنه كفعل صاحب السياحة فى
البادية إذا لم يكن مهلكا نفسه فهذا كيف كان لم يكن مهلكا نفسه حتى يكون فعله
حراما بل لا يبعد أن يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب ولكن قد يتأخر عنه والصبر ممكن
إلى ان يتفق ولكن لو أغلق باب البيت على نفسه بحيث لا طريق لأحد إليه ففعله ذلك
حرام وإن فتح باب البيت وهو بطال غير مشغول بعبادة فالكسب والخروج أولى له ولكن
ليس فعله حراما إلا أن يشرف على الموت فعند ذلك يلزمه الخروج والسؤال والكسب وإن
كان مشغول القلب بالله غير مستشرف إلى الناس ولا متطلع إلى من يدخل من الباب
فيأتيه برزقه بل تطلعه إلى فضل الله تعالى واشتغاله بالله فهو أفضل وهو من مقامات
التوكل وهو أن يشتغل بالله تعالى ولا يهتم برزقه فإن الرزق يأتيه لا محالة وعند
هذا يصح ما قاله بعض العلماء وهو أن العبد لو هرب من رزقه لطلبه كما لو هرب من
الموت لأدركه وأنه لو سأل الله تعالى أن لا يرزقه لما استجاب وكان عاصيا ولقال له
يا جاهل كيف أخلقك ولا أرزقك ولذلك قال ابن عباس رضى الله عنهما اختلف الناس فى كل
شىء إلا فى الرزق والأجل فإنهم أجمعوا على أن لا رزاق ولا مميت إلا الله تعالى
وقال صلى الله عليه و سلملو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو
خماصا وتروح بطانا ولزالت بدعائكم الجبال // حديث لو توكلتم على الله حق توكله
الحديث وزاد فى آخره ولزالت بدعائكم الجبال وقد تقدما قريبا دون هذه الزيادة
فرواها الإمام محمد بن نصر فى كتاب تعظيم قدر الصلاة من حديث معاذ بن جبل بإسناد
فيه لين لو عرفتم الله حق معرفته لمشيتم على البحور ولزالت بدعائكم الجبال ورواه
البيهقى فى الزهد من رواية وهيب المكى مرسلا دون قوله لمشيتم على البحور وقال هذا
منقطع // وقال عيسى عليه السلام انظروا إلى الطير لا تزرع ولا تحصد ولا تدخر والله
تعالى يرزقها يوما بيوم فإن قلتم نحن أكبر بطونا فانظروا إلى الأنعام كيف قيض الله
تعالى لها هذا الحق للرزق وقال أبو يعقوب السوسى المتوكلون تجرى أرزاقهم على أيدى
العباد بلا تعب منهم وغيرهم مشغولون مكدودون وقال بعضهم العبيد كلهم فى رزق الله
تعالى ولكن بعضهم يأكل بذل كالسؤال وبعضهم بتعب وانتظار كالتجار وبعضهم بامتهان
كالصناع وبعضهم بعز كالصوفية يشهدون العزيز فيأخذون رزقهم من يده ولا يرون الواسطة
الدرجة الثالثة ملابسة الأسباب التى يتوهم إفضاؤها إلى المسببات من غير ثقة ظاهرة
كالذى يستقصى فى التدبيرات الدقيقة فى تفصيل الاكتساب ووجوهه وذلك يخرج بالكلية عن
درجات التوكل كلها وهو الذى فيه الناس كلهم أعنى من يكتسب بالحيل الدقيقة اكتسابا
مباحا لمال مباح فأما أخذ الشبهة أو اكتساب بطريق فيه شبهة فذلك غاية الحرص على
الدنيا والاتكال على الأسباب فلا يخفى أن ذلك يبطل التوكل وهذا مثل الأسباب التى
نسبتها إلى جلب النافع مثل نسبة الرقية والطير والكي بالإضافة إلى إزالة الضار فإن
النبي صلى الله عليه و سلم وصف المتوكلين بذلك ولم يصفهم بأنهم لا يكتسبون ولا
يسكنون الأمصار ولا يأخذون من أحد شيئا بل وصفهم بأنهم يتعاطون هذه الأسباب وأمثال
هذه الأسباب التى يوثق بها فى المسببات مما يكثر فلا يمكن إحصاؤها وقال سهل فى
التوكل إنه ترك التدبير وقال إن الله خلق الخلق ولم يحجبهم عن نفسه وإنما حجابهم
بتدبيرهم ولعله أراد به استنباط الأسباب البعيدة بالفكر فهى التى تحتاج إلى
التدبير دون الأسباب الجلية فإذن قد ظهر أن الأسباب منقسمة إلى ما يخرج التعلق بها
عن التوكل وإلى ما لا يخرج وأن الذى يخرج ينقسم إلى مقطوع به وإلى مظنون وأن
المقطوع به لا يخرج عن التوكل عند وجود حال التوكل وعلمه وهو الاتكال على مسبب
الأسباب فالتوكل فيها بالحال والعلم لا بالعمل وأما المظنونات
فالتوكل فيها بالحال والعلم والعمل جميعا
والمتوكلون فى ملابسة هذه الأسباب على ثلاثة مقامات الأول مقام الخواص ونظرائه وهو
الذى يدور فى البوادى بغير زاد ثقة بفضل الله تعالى عليه فى تقويته على الصبر
أسبوعا وما فرقه أو تيسير حشيش له أو قوت أو تثبيته على الرضا بالموت إن لم يتيسر
شىء من ذلك فإن الذى يحمل الزاد قد يفقد الزاد أو يضل بعيره ويموت جوعا فذلك ممكن
مع الزاد كما أنه يمكن مع فقده المقام الثانى أن يقعد فى بيته أو فى مسجد ولكنه فى
القرى والأمصار وهذا أضعف من الأول لكنه أيضا متوكل لأنه تارك للكسب والأسباب الظاهرة
معول على فضل الله تعالى فى تدبير أمره من جهة الأسباب الخفية ولكنه بالقعود فى
الأمصار متعرض لأسباب الرزق فإن ذلك من الأسباب الجاية إلا أن ذلك لا يبطل توكله
إذا كان نظره إلى الذى يسخر له سكان البلد لإيصال رزقه إليه لا إلى سكان البلد إذ
يتصور أن يغفل جميعهم عنه ويضيعوه لولا فضل الله تعالى بتعريفهم وتحريك دواعيهم
المقام الثالث أن يخرج ويكتسب اكتسابا على الوجه الذى ذكرناه فى الباب الثالث
والرابع من كتاب آداب الكسب وهذا السعى لا يخرجه أيضا عن مقامات التوكل إذا لم يكن
طمأنينة نفسه إلى كفايته وقوته وجاهه وبضاعته فإن ذلك ربما يهلكه الله تعالى جميعه
فى لحظة بل يكون نظره إلى الكفيل الحق بحفظ جميع ذلك وتيسير أسبابه له بل يرى كسبه
وبضاعته وكفايته بالإضافة إلى قدرة الله تعالى كما يرى القلم فى يد الملك الموقع
فلا يكون نظره إلى القلم بل إلى قلب الملك أنه بماذا يتحرك وإلى ماذا يميل وبم
يحكم ثم إن كان هذا المكتسب مكتسبا لعياله أو ليفرق على المساكين فهو ببدنه مكتسب
وبقلبه عنه منقطع فحال هذا أشرف من حال القاعد فى بيته والدليل على أن الكسب لا
ينافى حال التوكل إذا روعيت فيه الشروط وانضاف إليه الحال والمعرفة كما سبق أن
الصديق رضى الله عنه لما بويع بالخلافة أصبح آخذا الأثواب تحت حضنه والذراع بيده
ودخل السوق ينادى حتى كرهه المسلمون وقالوا كيف تفعل ذلك وقد أقمت لخلافة النبوة
فقال لا تشغلونى عن عيالى فإنى إن أضعتهم كنت لما سواهم أضيع حتى فرضوا له قوت
أهلبيت من المسلمين فلما رضوا بذلك رأى مساعدتهم وتطييب قلوبهم واستغراق الوقت
بمصالح المسلمين أولى ويستحيل أن يقال لم يكن الصديق فى مقام التوكل فمن أولى بهذا
المقام منه فدل على أنه كان متوكلا لا باعتبار ترك الكسب والسعى بل باعتبار قطع
الالتفات إلى قوته وكفايته والعلم بأن الله هو ميسر الاكتساب ومدبر الأسباب وبشروط
كان يراعيها فى طريق الكسب من الاكتفاء بقدر الحاجة من غير استكثار وتفاخر وادخار
ومن غير أن يكون درهمه أحب إليه من درهم غيره فمن دخل السوق ودرهمه أحب إليه من
درهم غيره فهو حريص على الدنيا ومحب لها ولا يصح التوكل إلا مع الزهد فى الدنيا
نعم يصح الزهد دون التوكل فإن التوكل مقام وراء الزهد وقال أبو جعفر الحداد وهو
شيخ الجنيد رحمة الله عليها وكان من المتوكلين أخفيت التوكل عشرين سنة وما فارقت
السوق كنت أكتسب فى كل يوم دينارا ولا أبيت منه دانقا ولا أستريح منه إلى قيراط
أدخل به الحمام بل أخرجه كله قبل الليل وكان الجنيد لا يتكلم فى التوكل بحضرته
وكان يقول أستحى أن أتكلم فى مقامه وهو حاضر عندى واعلم أن الجلوس فى رباطات
الصوفية مع معلوم بعيد من التوكل فإن لم يكن معلوم ووقف وأمروا الخادم بالخروج
للطلب لم يصح معه التوكل إلا على ضعف ولكن يقوى بالحال والعلم كتوكل المكتسب وإن
لم يسألوا بل قنعوا بما يحمل
إليهم فهذا أقوى فى توكلهم لكنه بعد
اشتهار القوم بذلك فقد صار لهم سوقا فهو كدخول السوق ولا يكون داخل السوق متوكلا
إلا بشروط كثيرة كما سبق
فإن قلت فما الأفضل أن يقعد فى بيته أو يخرج ويكتسب فاعلم أنه إن كان يتفرغ بترك
الكسب لفكر وذكر وإخلاص واستغراق وقت بالعبادة وكان الكسب يشوش عليه ذلك وهو مع
هذا لا تستشرف نفسه إلى الناس فى انتظار من يدخل عليه فيحمل إليه شيئا بل يكون قوى
القلب فى الصبر والاتكال على الله تعالى فالمقصود له أولى وإن كان يضطرب قلبه فى
البيت ويستشرف إلى الناس فالكسب أولى لأن استشراف القلب إلى الناس سؤال بالقلب
وتركه أهم من ترك الكسب وما كان المتوكلون يأخذون ما تستشرف إليه نفوسهم كان أحمد
بن حنبل قد أمر ابا بكر المروزى أن يعطى بعض الفقراء شيئا فضلا عما كان استأجره
عليه فرده فلما ولى قال له أحمد الحقه وأعطه فإنه يقبل فلحقه وأعطاه فأخذه فسأل
أحمد عن ذلك فقال كان قد استشرفت نفسه فرد فلما خرج انقطع طمعه وأيس فأخذه وكان
الخواص رحمه الله إذا نظر إلى عبد فى العطاء أو خاف اعتياد النفس لذلك لم يقبل منه
شيئا
وقال الخواص بعد أن سئل عن أعجب ما رآه فى أسفاره رأيت الخضر ورضى بصحبتى ولكنى
فارقته خيفة أن تسكن نفسى إليه فيكون نقصا فى توكلى فإذن المكتسب إذا راعى آداب
الكسب وشروط نيته كما سبق فى كتاب الكسب وهو أن لا يقصد به الاستكثار ولم يكن
اعتماده على بضاعته وكفايته كان متوكلا
فإن قلت فما علامة عدم اتكاله على البضاعة والكفاية فأقول علامته أنه إن سرقت
بضاعته أو خسرت تجارته أو تعوق أمر من أموره كان راضيا به ولم تبطل طمأنينته ولم
يضطرب قلبه بل كان حال قلبه فى السكون قبله وبعده واحدا فإن من لم يسكن إلى شىء لم
يضطرب لفقده ومن اضطرب لفقد شىء فقد سكن إليه وكان بشر يعمل المغازل فتركها وذلك
لأن البعادى كاتبه قال بلغنى أنك استعنت على رزقك بالمغازل أرأيت إن أخذ الله سمعك
وبصرك الرزق على من فوقع ذلك فى قلبه فأخرج آلة المغازل من يده وتركها وقيل تركها
لما نوهت باسمه وقصد لأجلها وقيل فعل ذلك لما مات عياله كما كان لسفيان خمسون دينارا
يتجر فيها فلما مات عياله فرقها
فإن قلت فكيف يتصور أن يكون له بضاعة ولا يسكن إليها وهو يعلم أن الكسب بغير بضاعة
لا يمكن فأقول بأن يعلم أن الذين يرزقهم الله تعالى بغير بضاعة فيهم كثرة وأن
الذين كثرت بضاعتهم فسرقت وهلكت فيهم كثرة وأن يوطن نفسه على أن الله لا يفعل به
إلا ما فيه صلاحه فإن أهلك بضاعته فهو خير له فلعله لو تركه كان سببا لفساد دينه
وقد لطف الله تعالى به وغايته أن يموت جوعا فينبغى أن يعتقد أن الموت جوعا خير له
فى الآخرة مهما قضى الله تعالى عليه بذلك من غير تقصير من جهته فإذا اعتقد جميع
ذلك استوى عنده وجود البضاعة وعدمها ففى الخبر إن العبد ليهم من الليل بأمر من
أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله تعالى إليه من فوق عرشه
فيصرفه عنه فيصبح كئيبا حزينا يتطير بجاره وابن عمه من سبقنى من دهانى وما هى إلا
رحمة رحمه الله بها // حديث إن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو
فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه الحديث أخرجه أبو
نعيم فى الحلية من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف جدا نحوه إلا أنه قال إن العبد ليشرف
على حاجة من حاجات الدنيا الحديث بنحوه // ولذلك قال عمر رضى الله عنه لا أبالى
أصبحت غنيا أو فقيرا فإنى قلبه فأخرج آلة المغازلة من يده وتركها وقيل تركها لما
نوهت باسمه وقصد لأجلها وقيل فعل ذلك لما مات عياله كما كان لسقيان خمسون دينارا
يتجر فيها فلما مات عياله فرقها
فإن قلت فكيف يتصور أن يكون له بضاعة ولا يسكن غليها وهو يعلم أن الكسب بغير بضاعة
لا يمكن فأقول بأن يعلم أن الذين يرزقهم الله تعالى بغير بضاعة فيهم كثرة وأن
الذين كثرت بضاعتهم فسرقت وهلكت فيهم كثرة وأن يوطن نفسه على أن الله لا يفعل به
إلا ما فيه صلاحه فإن أهلك بضاعته فهو خير له فلعله لو تركه كان سببا لفساد دينه
وقد لطف الله تعالى به وغايته أن يموت جوعا فينبغى أن يعتقد أن الموت جوعا خير له
فى الآخرة مهما قضى الله تعالى عليه بذلك من غير تقصير من جهته فإذا اعتقد جميع
ذلك استوى عنده وجود البضاعة وعدمها ففى الخبر إن العبد ليهم من الليل بأمر من
أمور التجارة مما لو فعله لكان فيه هلاكه فينظر الله تعالى إليه من فوق عرشه
فيصرفه عنه فيصبح كثيبا حزينا بجاره وابن عمه من سبقنى من دهانى وما هى إلا رحمة
رحمه الله بها // حديث غن العبد ليهم من الليل بأمر من أمور التجارة مما لو فعله
لكان فيه هلاكه فينظر الله إليه من فوق عرشه فيصرفه عنه الحديث أخرجه ابو نعيم فى
الحلية من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف جدا نحوه إلا أنه قال إن العبد ليشرف على
حاجة من حاجات الدنيا الحديث بنحوه // ولذلك قال عمر رضى الله عنه لا أبالى أصبحت
غنيا أو فقيرا فإنى
لا أدرى أيهما خير لى ومن لم يتكامل
يقينه بهذه الأمور لم يتصور منه التوكل ولذلك قال أبو سليمان الدارانى لأحمد بن
أبى الحوارى لى من كل مقام نصيب إلا من هذا التوكل المبارك فإنى ما شممت منه رائحة
هذا كلامه مع علو قدره ولم ينكر كونه من المقامات الممكنة ولكنه قال ما أدركته
ولعله أراد إدراك أقصاه وما لم يكمل الإيمان بأن لا فاعل إلا الله ولا رازق سواه
وأن كل ما يقدره على العبد من فقر وغنى وموت وحياة فهو خير له مما يتمناه العبد لم
يكمل حال التوكل فبناء التوكل على قوة الإيمان بهذه الأمور كما سبق وكذا سائر
مقامات الدين من الأقوال والأعمال تنبنى على أصولها من الإيمان وبالجملة التوكل
مقام مفهوم ولكن يستدعى قوة القلب وقوة اليقين ولذلك قال سهل من طعن على التكسب
فقد طعن على السنة ومن طعن على ترك التكسب فقد طعن على التوحيد
فإن قلت فهل من دواء ينتفع به فى صرف القلب عن الركون إلى الأسباب الظاهرة وحسن
الظن بالله تعالى فى تيسير الأسباب الخفية فأقول نعم هو أن تعرف أن سوء الظن تلقين
الشيطان وحسن الظن تلقين الله تعالى قال الله تعالى الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم
بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا فإن الإنسان بطبعه مشغوف بسماع تخويف
الشيطان ولذلك قيل الشفيق بسوء الظن مولع وإذا انضم إليه الجبن وضعف القلب ومشاهدة
المتكلين على الأسباب الظاهرة والباعثين عليها غلب سوء الظن وبطل التوكل بالكلية
بل رؤية الرزق من الأسباب الخفية أيضا تبطل التوكل فقد حكى عن عابد أنه عكف فى
مسجد ولم يكن له معلوم فقال له الإمام لو اكتسبت لكان أفضل لك فلم يجبه حتى أعاد
عليه ثلاثا فقال فى الرابعة يهودى فى جوار المسجد قد ضمن لى كل يوم رغيفين فقال إن
كان صادقا فى ضمانه فعكوفك فى المسجد خير لك فقال يا هذا لو لم تكن إماما تقف بين
يدى الله وبين العباد مع هذا النقص فى التوحيد كان خيرا لك إذ فضلت وعد يهودى على
ضمان الله تعالى بالرزق وقال إمام المسجد لبعض المصلين من أين تأكل فقال يا شيخ
اصبر حتى أعيد الصلاة التى صليتها خلفك ثم أجيبك
وينفع حسن الظن بمجىء الرزق من فضل الله تعالى بواسطة الأسباب الخفية أن تسمع
الحكايات التى فيها عجائب صنع الله تعالى فى وصول الرزق إلى صاحبه وفيها عجائب قهر
الله تعالى فى إهلاك أموال التجار والأغنياء وقتلهم جوعا كما روى عن حذيفة المرعشى
وقد كان خدم إبراهيم بن أدهم فقيل له ما أعجب ما رأيت منه فقال بقينا فى طريق
مكةأياما لم نجد طعاما ثم دخلنا الكوفة فأوينا إلى مسجد خراب فنظر إلى إبراهيم
وقال يا حذيفة أرى بك الجوع فقلت هو ما رأى الشيخ فقال علي بدواة وقرطاس فجئت به
إليه فكتب بسم الله الرحمن الرحيم أنت المقصود إليه بكل حال والمشار إليه بكل معنى
وكتب شعرا
أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر ... أنا جائع أنا ضائع أنا عارى
هى ستة وأنا الضمين لنصفها ... فكن الضمين لنصفها يا بارى
مدحى لغيرك لهب نار خضتها ... فأجر عبيدك من دخول النار
ثم دفع إلى الرقعة فقال اخرج ولا تعلق قلبك بغير الله تعالى وادفع الرقعة إلى أول
من يلقاك فخرجت فأول من لقينى كان رجلا على بغلة فناولته الرقعة فأخذها فلما وقف
عليها بكى وقال ما فعل صاحب هذه الرقعة فقلت هو فى المسجد الفلانى فدفع إلي صرة
فيها ستمائة دينار ثم لقيت رجلا آخر فسألته عن راكب البغلة
فقال هذا نصراني فجئت إلى إبراهيم
وأخبرته بالقصة فقال لا تمسها فإنه يجيىء الساعة فلما كان بعد ساعة دخل النصراني
وأكب على رأس إبراهيم يقبله وأسلم
وقال أبو يعقوب الأقطع البصرى جعت مرة بالحرم عشرة أيام فوجدت ضعفا فحدثتني نفسى
بالخروج فخرجت إلى الوادى لعلي أجد شيئا يسكن ضعفي فرأيت سلجمة مطروحة فأخذتها
فوجدت في قلبي منها وحشة وكأن قائلا يقول لي جعت عشرة أيام وآخره يكون حظك سلجمة
متغيرة فرميت بها ودخلت المسجد وقعدت فإذا أنا برجل أعجمي قد أقبل حتى جلس بين يدي
ووضع قمطرة وقال هذه لك فقلت كيف خصصتني بها قال إعلم أنا كنا في البحر منذ عشرة
أيام وأشرفت السفينة على الغرق فنذرت إن خلصني الله تعالى أن أتصدق بهذه على على
أول من يقع عليه بصرى من المجاورين وأنت أول من لقيته فقلت افتحها ففتحتها فإذا
فيها سميد مصري ولوز مقشور وسكر كعاب فقبضت قبضة من ذا وقبضة من ذا وقلت رد الباقى
إلى أصحابك هدية مني إليكم وقد قبلتها ثم قلت في نفسى رزقك يسير إليك من عشرة أيام
وأنت تطلبه من الوادي
وقال ممشاد الدينورى كان على دين فاشتغل قلبى بسببه فرأيت في النوم كأن قائلا يقول
يا بخيل أخذت علينا هذا المقدار من الدين خذ عليك الأخذ وعلينا العطاء فما حاسبت
بعد ذلك بقالا ولا قصابا ولا غيرهما
وحكى عن بنان الحمال قال كنت في طريق مكة أجيء من مصر ومعى زاد فجاءتني امرأة
وقالت لي يابنات أنت حمال تحمل على ظهرك الزاد وتتوهم أنه لا يرزقك قال فرميت
بزادي ثم أتى على ثلاث لم آكل فوجدت خلخالا في الطريق فقلت في نفسى أحمله حتى يجئ
صاحبه فربما يعطيني شيئا فأرده عليه فإذا أنا بتلك المرأة فقالت لى أنت تاجر تقول
عسى يجيئ صاحبه فآخذ منه شيئا ثم رمت لي شيئا من الدراهم وقالت أنفقها فاكتفيت بها
إلى قريب مكة
وحكى أن بنانا احتاج إلى جارية تخدمه فانبسط إلى إخوانه فجمعوا له ثمنها وقالوا هو
ذا يجيئ النفير فنشترى ما يوافق فلما ورد النفير اجتمع رأيهم على واحدة وقالوا
إنها تصلح له فقالوا لصاحبها بكم هذه فقال إنها ليست للبيع فألحوا عليه فقال إنها
لبنان الحمال أهدتها إليه امرأة من سمرقند فحملت إلى بنان وذكرت له القصة
وقيل كان في الزمان الأول رجل في سفر ومعه قرص فقال إن أكلته مت فركل الله عز و جل
به ملكا وقال إن أكله فارزقه وأن لم يأكله فلا تعطه غيره فلم يزل القرص معه إلى أن
مات ولم يأكله وبقى القرص عنده
وقال أبو سعيد الخراز دخلت البادية بغير زاد فأصابتني فاقة فرأيت المرحلة من بعيد
فسررت بأن وصلت ثم فكرت في نفسى أني سكنت واتكلت على غيره وآليت أن لا أدخل
المرحلة إلا أن أحمل إليها فحفرت لنفسى في الرمل حفرة واريت جسدي فيها إلى صدرى
فسمعت صوتا في نصف الليل عاليا يا أهل المرحلة إن لله تعالى وليا حبس نفسه في هذا
الرمل فألحقوه فجاء جماعة فأخرجوني وحملوني إلى القرية
وروى أن رجلا لازم باب عمر رضي الله عنه فإذا هو بقائل يقول يا هذا هاجرت إلى عمر
أو إلى الله تعالى اذهب فتعلم القرآن فإنه سيغنيك عن باب عمر فذهب الرجل وغاب حتى
افتقده عمر فإذا هو قد اعتزل واشتغل بالعبادة فجاءه عمر فقال له إنى قد اشتقت إليك
فما الذى شغلك عنى فقال إنى قرأت القرآن فأغناني
عن عمر وآل عمر فقال عمر
رحمك الله فماالذي وجدت فيه فقال وجدت فيه وفي السماء رزقكم وما توعدون فقلت رزقي
في السماء وأنا أطلبه في الأرض فبكى عمر وقال صدقت فكان عمر بعد ذلك يأتيه ويجلس
إليه
وقال أبو حمزة الخراساني حججت سنة من السنين فبينا أنا أمشى في الطريق إذ وقعت في
بئر فنازعتني نفسى أن أستغيث فقلت لا والله لا أستغيث فما استتممت هذا الخاطر حتى
مر برأس البئر رجلان فقال أحدهما للآخر تعالى حتى نسد رأس هذا البئر لئلا يقع فيه
أحد فأتوا بقصب وبارية وطموا رأس البئر فهممت أن أصيح فقلت في نفسى إلى من أصيح هو
أقرب منهما وسكنت فبينا أنا بعد ساعة إذ أنا بشيء جاء وكشف عن رأس البئر وأدلى
رجله وكأنه يقول تعلق بي في همهمة له كنت أعرف ذلك فتعلقت به فأخرجني فإذا هو سبع
فمر وهتف بي هاتف يا أبا حمزة أليس هذا أحسن نجيناك من التلف بالتلف فمشيت وأنا
أقول
نهانى حيائى منك أن أكشف الهوى ... وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
تلطفت في أمرى فأبديت شاهدى ... إلى غائبي واللطف يدرك باللطف
تراءيت لى بالغيب حتى كأنما ... تبشرنى بالغيب أنك في الكف
أراك وبي من هيبتي لك وحشة ... فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيى محبا أنت في الحب حتفه ... وذا عجب كون الحياة مع الحتف
وأمثال هذه الوقائع مما يكثر وإذا قوى الإيمان به وانضم إليه القدرة على الجوع قدر
أسبوع من غير ضيق صدر وقوى الإيمان بأنه إن لم يسق إليه رزقه في أسبوع فالموت خير
له عند الله عز و جل ولذلك حبسه عنه تم التوكل بهذه الأحوال والمشاهدات وإلا فلا
يتم أصلا
بيان توكل المعيل
إعلم أن من له عيال فحكمه يفارق المنفرد لأن المنفرد لا يصح توكله إلا بأمرين
أحدهما قدرته على الجوع أسبوعا من غير استشراف وضيق نفس والآخر أبواب من الإيمان
ذكرناها من جملتها أن يطيب نفسا بالموت إن لم يأته رزقه علما بأن رزقه الموت
والجوع وهو إن كان نقصا في الدنيا فهو زيادة في الآخرة فيرى أنه سيق إليه خير
الرزقين له وهو رزق الآخرة وأن هذا هو المرض الذي به يموت ويكون راضيا بذلك وأنه
كذا قضي وقدر له فبهذا يتم التوكل المنفرد ولا يجوز تكليف العيال الصبر على الجوع
ولا يمكن أن يقرر عندهم الإيمان بالتوحيد وأن الموت على الجوع رزق مغبوط عليه في
نفسه إن اتفق ذلك نادرا وكذا سائر أبواب الإيمان فإذن لا يمكنه في حقهم إلا توكل
المكتسب وهو المقام الثالث كتوكل أبي بكر الصديق رضى الله عنه إذ خرج للكسب فأما
دخول البوادى وترك العيال توكلا في حقهم أو القعود عن الاهتمام بأمرهم توكلا في
حقهم فهذا حرام وقد يفضى إلى هلاكهم ويكون هو مؤاخذا بهم بل التحقيق أنه لا فرق
بينه وبين عياله فإنه إن ساعده العيال على الصبر على الجوع مدة وعلى الاعتداد
بالموت على الجوع رزقا وغنيمة في الآخرة فله أن يتوكل في حقهم ونفسه أيضا عيال
عنده ولا يجوز له أن يضيعها إلا أن تساعده على الصبر على الجوع مدة فإن كان لا
يطيقه ويضطرب عليه قلبه وتتشوش عليه عبادته لم يجز له التوكل ولذلك روى أن أبا
تراب النخشبي نظر إلى صوفى مد يده إلى قشر بطيخ ليأكله بعد ثلاثة أيام فقال له لا
يصلح لك التصوف إلزم السوق أى لا تصوف إلا مع التوكل
ولا يصح التوكل إلا لمن يصبر عن الطعام
أكثر من ثلاثة أيام وقال أبو علي الروذباري إذا قال الفقير بعد خمسة أيام أنا جائع
فألزموه السوق ومروه بالعمل والكسب فإن بدنه عياله وتوكله فيما يضر ببدنه كتوكله
في عياله وإنما يفارقهم في شيءواحد وهو أن له تكليف نفسه الصبر على الجوع وليس له
ذلك في عياله وقد انكشف لك من هذا أن التوكل ليس انقطاعا عن الأسباب بل الاعتماد
على الصبر على الجوع مدة والرضا بالموت إن تأخر الرزق نادرا وملازمة البلاد
والأمصار أو ملازمة البوادى التي لا تخلو عن حشيش وما يجرى مجراه فهذه كلها أسباب
البقاء ولكن مع نوع من الأذى إذ لا يمكن الاستمرار عليه إلا بالصبر والتوكل في
الأمصار أقرب إلى الأسباب من التوكل في البوادي وكل ذلك ذلك من الأسباب إلا أن
الناس عدلوا إلى أسباب أظهر منها فلم يعدوا تلك أسبابا وذلك لضعف إيمانهم وشدة
حرصهم وقلة صبرهم على الأذى في الدنيا لأجل الآخرة واستيلاء الجبن على قلوبهم
بإساءة الظن وطول الأمل ومن نظر في ملكوت السموات والأرض انكشف له تحقيقا أن الله
تعالى دبر الملك والملكوت تدبيرا لا يجاوز العبد رزقه وأن ترك الاضطراب فإن العاجز
عن الاضطراب لم يجاوزه رزقه أما ترى الجنين في بطن أمه لما أن كان عاجزا عن
الاضطراب كيف وصل سرته بالأم حتى تنتهى إليه فضلات غذاء الأم بواسطة السرة ولم يكن
ذلك بحيلة الجنين ثم لما انفصل سلط الحب والشفقة على الأم لتتكفل به شاءت أم أبت
اضطرارا من الله تعالى إليه بما أشعل في قلبها من نار الحب ثم لما لم يكن له سن
يمضغ به الطعام جعل رزقه من اللبن الذى لا يحتاج إلى المضغ ولأنه لرخاوة مزاجه كان
لا يحتمل الغذاء الكثيف فأدر له اللبن اللطيف في ثدى الأم عند انفصاله على حسب
حاجته أفكان هذا بحيلة الطفل أو بحيلة الأم إذا صار بحيث يوافقه الغذاء الكثيف
أنبت له أسنانا قواطع وطواحين لأجل المضغ فإذا كبر واستقل يسر له أسباب التعلم
وسلوك سبيل الآخرة فجنبه بعد البلوغ جهل محض لأنه ما نقصت أسباب معيشته ببلوغه بل
زادت فإنه لم يكن قادرا على الاكتساب فالآن قد قدر فزادت قدرته نعم كان المشفق
عليه شخصا واحدا وهي الأم أو الأب وكانت شفقته مفرطة جدا فكان يطعمه ويسقيه في
اليوم مرتين وكان إطعامه بتسليط الله تعالى الحب والشفقة على قلبه فكذلك قد سلط
الله الشفقة والمودة والرحمة والرقة على قلوب المسلمين بل أهل البلد كافة حتى إن
كل واحد منهم إذا أحس بمحتاج تألم قلبه ورق عليه وانبعثت له داعية إلى إزالة حاجته
فقد كان المشفق عليه واحدا والآن المشفق عليه ألف وزيادة وقد كانوا لا يشفقون عليه
لأنهم رأوه في كفالة الأم والأب وهو مشفق خاص فما رأوه محتاجا ولو رأوه يتيما لسلط
الله داعية الرحمة على واحد من المسلمين أو على جماعة حتى يأخذونه ويكفلونه فما
رؤى إلى الآن في سنى الخصب يتيم قد مات جوعا مع أنه عاجز عن الاضطراب وليس له كافل
خاص والله تعالى كافله بواسطة الشفقة التي خلقها في قلوب عباده فلماذا ينبغى أن
يشتغل قلبه برزقه بعد البلوغ ولم يشتغل في الصبا وقد كان المشفق واحدا والمشفق
الآن ألف نعم كانت شفقة الأم أقوى وأحظى ولكنها واحدة وشفقة آحاد الناس وإن ضعفت
فيخرج من مجموعها ما يفيد الغرض فكم من يتيم قد يسر الله تعالى له حالا هو أحسن من
حال من له أب وأم فينجبر ضعف شفقة الآحاد بكثرة المشفقين وبترك التنعم والاقتصار
على قدر الضرورة ولقد أحسن الشاعر حيث يقول
جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين
فإن قلت الناس يكفلون اليتيم لأنهم يرونه
عاجزا بصباه وأما هذا فبالغ قادر على الكسب فلا يلتفتون إليه ويقولون هو مثلنا
فليجتهد لنفسه فأقول إن كان هذا القادر بطالا فقد صدقوا فعليه الكسب ولا معنى
للتوكل في حقه فإن التوكل من مقامات الدين يستعان به على التفرغ لله تعالى فما
للبطال والتوكل وإن كان مشتغلا بالله ملازما لمسجد أو بيت وهو مواظب على العلم
والعبادة فالناس لا يلومونه في ترك الكسب ولا يكلفونه ذلك بل اشتغاله بالله تعالى
يقرر حبه في قلوب الناس حتى يحملون إليه فوق كفايته وإنما عليه أن لا يغلق الباب
ولا يهرب إلى جبل من بين الناس وما رؤى إلى الآن عالم أو عابد استغرق الأوقات
بالله تعالى وهو في الأمصار فمات جوعا ولا يرى قط بل لو أراد أن يطعم جماعة من
الناس بقوله لقدر عليه فإن من كان لله تعالى كان الله عز و جل له ومن اشتغل بالله
عز و جل ألقى الله حبه في قلوب الناس وسخر له القلوب كما سخر قلب الأم لولدها فقد
دبر الله تعالى الملك والملكوت تدبيرا كافيا لأهل الملك والملكوت
فمن شاهد هذا التدبير وثق بالمدبر واشتغل به وآمن ونظر إلى مدبر الأسباب لا إلى
الأسباب نعم ما دبره تدبيرا يصل إلى المشتغل به الحلو والطيور السمان والثياب
الرقيقة والخيول النفيسة على الدوام لا محالة وقد يقع ذلك أيضا في بعض الأحوال لكن
دبره تدبيرا يصل إلى كل مشتغل بعبادة الله تعالى في كل أسبوع قرص شعير أو حشيش
يتناوله لا محالة والغالب أنه يصل أكثر منه بل يصل ما يزيد على قدر الحاجة والكفاية
فلا سبب لترك التوكل إلا رغبة النفس في التنعم على الدوام ولبس الثياب الناعمة
وتناول الأغذية اللطيفة وليس ذلك من طريق الآخرة وذلك قد لا يحصل بغير اضطراب وهو
في الغالب أيضا ليس يحصل مع الاضطراب وإنما يحصل نادرا وفي النادر أيضا قد يحصل
بغير اضطراب فأثر الاضطراب ضعف عند من انفتحت بصيرته فلذلك لا يطمئن إلى اضطرابه
بل إلى مدبر الملك والملكوت تدبيرا لا يجاوز عبدا من عباده رزقه وإن سكن إلا نادرا
ندورا عظيما يتصور مثله في حق المضطرب فإذا انكشفت هذه الأمور وكان معه قوه في
القلب وشجاعة في النفس أثمر ما قاله الحسن البصري رحمه الله إذ قال وددت أن أهل
البصرة في عيالي وأن حبة بدينار
وقال وهيب بن الورد لو كانت السماء نحاسا والأرض رصاصا واهتممت برزقي لظننت أنى
مشرك
فإذا فهمت هذه الأمور فهمت أن التوكل مقام مفهوم في نفسه ويمكن الوصول إليه لمن
قهر نفسه وعلمت أن من أنكر أصل التوكل وإمكانه أنكره عن جهل فإياك أن تجمع بين
الإفلاسين الإفلاس عن وجود المقام ذوقا والإفلاس عن الإيمان به علما فإذن عليك
بالقناعة بالنزر القليل والرضا بالقوت فإنه يأتيك لا محالة وإن فررت منه وعند ذلك
على الله أن يبعث إليك رزقك على يدى من لا تحتسب فإن اشتغلت بالتقوى والتوكل شاهدت
بالتجربة مصداق قوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب
الآية إلا أنه لم يتكفل له أن يرزقه لحم الطير ولذائذ الأطعمة فما ضمن إلا الرزق
الذي تدوم به حياته وهذا المضمون مبذول لكل من اشتغل بالضامن واطمأن إلى ضمانه فإن
الذي أحاط به تدبير الله من الأسباب الخفية للرزق أعظم مما ظهر للخلق بل مداخل
الرزق لا تحصى ومجاريه لا يهتدى إليها وذلك لأن ظهوره على الأرض وسببه في السماء
قال الله تعالى وفي السماء رزقكم وما توعدون وأسرار السماء لا يطلع عليها ولهذا
دخل جماعة على الجنيد فقال ماذا تطلبون قالوا نطلب الرزق فقال إن علمتم في أي موضع
هو فاطلبوه
قالوا نسأل الله
قال إن علمتم أنه ينساكم فذكروه فقالوا ندخل البيت ونتوكل وننظر ما يكون
فقال التوكل على التجربة شك قالوا فما الحيلة قال ترك الحيلة
وقال أحمد بن عيسى
الخراز كنت في البادية فنالنى جوع شديد
فغلبتني نفسي أن أسأل الله تعالى طعاما فقلت ليس هذا من أفعال المتوكلين فطالبتنى
أن أسأل الله صبرا فلما هممت بذلك سمعت هاتفا يهتف بي ويقول
ويزعم أنه منا قريب ... وأنا لا نضيع من أتانا
ويسألنا على الإقتار جهدا ... كأنا لا نراه ولا يرانا
فقد فهمت أن من انكسرت نفسه وقوى قلبه ولم يضعف بالجبن باطنه وقوى إيمانه بتدبير
الله تعالى كان مطمئن النفس أبدا واثقا بالله عز و جل فإن أسوأ حاله أن يموت ولا
بد أن يأتيه الموت كما يأتى من ليس مطمئنا فإذن تمام التوكل بقناعة من جانب ووفاء
بالمضمون من جانب والذي ضمن رزق القانعين بهذه الأسباب التي دبرها صادق فاقنع وجرب
تشاهد صدق الوعد تحقيقا بما يرد عليك من الأرزاق العجيبة التي لم تكن في ظنك
وحسابك ولا تكن في توكلك منتظرا للأسباب بل لمسبب الأسباب كما لا تكون منتظرا لقلم
الكاتب بل لقلب الكاتب فإنه أصل حركة القلم والمحرك الأول واحد فلا ينبغي أن يكون
النظر إلا إليه وهذا شرط توكل من يخوض البوادى بلا زاد أو يقعد في الأمصار وهو
خامل
وأما الذي له ذكر بالعبادة والعلم فإذا قنع في اليوم والليلة بالطعام مرة واحدة
كيف كان وإن لم يكن من اللذائذ وثوب خشن يليق بأهل الدين فهذا يأتيه من حيث يحتسب
ولا يحتسب على الدوام بل يأتيه أضعافه فتركه التوكل واهتمامه بالرزق غاية الضعف
والقصور فإن اشتهاره بسبب ظاهر يجلب الرزق إليه أقوى من دخول الأمصار في حق الخامل
مع الاكتساب فالاهتمام بالرزق قبيح بذوى الدين وهو بالعلماء أقبح لأن شرطهم القناعة
والعالم القانع يأتيه رزقه ورزق جماعة كثيرة إن كانوا معه إلا إذا أراد أن لا يأخذ
من أيدى الناس ويأكل من كسبه فذلك له وجه لائق بالعالم العامل الذي سلوكه بظاهر
العلم والعمل ولم يكن له سير بالباطن فإن الكسب يمنع عن السير بالفكر الباطن
فاشتغاله بالسلوك مع الأخذ من يد من يتقرب إلى الله تعالى بما يعطيه أولى لأنه
تفرغ لله عز و جل وإعانة للمعطى على نيل الثواب ومن نظر إلى مجارى سنة الله تعالى
علم أن الرزق ليس على قدر الأسباب ولذلك سأل بعض الأكاسرة حكيما عن الأحمق المرزوق
والعاقل المحروم فقال أراد الصالح أن يدل على نفسه إذ لو رزق كل عاقل وحرم كل أحمق
لظن أن العقل رزق صاحبه فلما رأوا خلافة علموا أن الرازق غيرهم ولا ثقة بالأسباب
الظاهرة لهم قال الشاعر
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا ... هلكن إذن من جهلهن البهائم
بيان أحوال المتوكلين في التعلق بالأسباب بضرب مثال
أعلم أن مثال الخلق مع الله تعالى مثل طائفة من السؤال وقفوا في ميدان على باب قصر
الملك وهم محتاجون إلى الطعام فأخرج إليهم غلمانا كثيرة ومعهم أرغفة من الخبز
وأمرهم أن يعطوا بعضهم رغيفين رغيفين وبعضهم رغيفا رغيفا ويجتهدوا في أن لا يغفلوا
عن واحد منهم وأمر مناديا حتى نادى فيهم أن اسكنوا ولا تتعلقوا بغلماني إذا خرجوا
إليكم بل ينبغى أن يطمئن كل واحد منكم في موضعه فإن الغلمان مسخرون وهم مأمورون
بأن يوصلوا إليكم طعامكم فمن تعلق بالغلمان وآذاهم وأخذ رغيفين فإذا فتح باب
الميدان وخرج اتبعته بغلام يكون موكلا به إلى أن أتقدم لعقوبته في ميعاد معلوم
عندى ولكن أخفيه ومن لم يؤذ الغلمان وقنع برغيف واحد أتاه من يد الغلام وهو ساكن
فإنى اختصه بخلعة سنية في الميعاد المذكور لعقوبة الآخر ومن ثبت في مكانه ولكنه
أخذ رغيفين فلا عقوبة عليه ولا خلعة له ومن أخطأه غلماني فما أوصلوا إليه شيئا
فبات الليلة جائعا غير متسخط للغلمان
ولا قائلا ليته أوصل إلى رغيفا فإنى غدا
أستوزره وأفوض ملكي إليه فانقسم السؤال إلى أربعة أقسام قسم غلبت عليهم بطونهم فلم
يلتفتوا إلى العقوبة الموعودة وقالوا من اليوم إلى غد فرج ونحن الآن جائعون
فبادروا إلى الغلمان فآذوهم وأخذوا الرغيفين فسبقت العقوبة إليهم في الميعاد
المذكور فندموا ولم ينفعهم الندم وقسم تركوا التعلق بالغلمان خوف العقوبة ولكن
أخذوا رغيفين لغلبة الجوع فسلموا من العقوبة وما فازوا بالخلعة وقسم قالوا إنا
نجلس بمرأى من الغلمان حتى لا يخطئونا ولكن نأخذ إذا أعطونا رغيفا واحدا ونقنع به
فلعلنا نفوز بالخلعة ففازوا بالخلعة وقسم رابع اختفوا في زوايا الميدان وانحرفوا
عن مرأى أعين الغلمان وقالوا إن اتبعونا وأعطونا قنعنا برغيف واحد وإن أخطأونا
قاسينا شدة الجوع الليلة فلعلنا نقوى على ترك التسخط فننال رتبة الوزارة ودرجة القرب
عند الملك فما نفعهم ذلك إذ اتبعهم الغلمان في كل زاوية وأعطوا كل واحد رغيفا
واحدا وجرى مثل ذلك أياما حتى اتفق على الندور أن اختفى ثلاثة في زاوية ولم تقع
عليهم أبصار الغلمان وشغلهم شغل صارف عن طول التفتيش فباتوا في جوع شديد فقال
اثنان منهم ليتنا تعرضنا للغلمان وأخذنا طعامنا فلسنا نطيق الصبر وسكت الثالث إلى
الصباح فنال درجة القرب والوزارة فهذا مثال الخلق والميدان هو الحياة في الدنيا
وباب الميدان الموت والميعاد المجهول يوم القيامة والوعد بالوزارة هو الوعد
بالشهادة للمتوكل إذا مات جائعا راضيا من غير تأخير ذلك إلى ميعاد القيامة لأن
الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون والمتعلق بالغلمان هو المعتدي في الأسباب والغلمان
المسخرون هم الأسباب والجالس في ظاهر الميدان بمرأى الغلمان هم المقيمون في
الأمصار في الرباطات والمساجد على هيئة السكون والمختفون في الزوايا هم السائحون في
البوادى على هيئة التوكل والأسباب تتبعهم والرزق يأتيهم إلا على سبيل الندور فإن
مات واحد منهم جائعا راضيا فله الشهادة والقرب من الله تعالى وقد انقسم الخلق إلى
هذه الأقسام الأربعة ولعل من كل مائة تعلق بالأسباب تسعون وأقام سبعة من العشرة
الباقية في الأمصار متعرضين للسبب بمجرد حضورهم واشتهارهم وساح في البوادي ثلاثة
وتسخط منهم اثنان وفاز بالقرب واحد ولعله كان كذلك في الأعصار السالفة وأما الآن
فالتارك للأسباب لا ينتهي إلى واحد من عشرة آلاف
الفن الثاني في التعرض لأسباب الادخار فمن حصل له مال بإرث أو كسب أو سؤال أو سبب
من الأسباب فله في الادخار ثلاثة أحوال الأولى أن يأخذ قدر حاجته في الوقت فيأكل
إن كان جائعا ويلبس إن كان عاريا ويشترى مسكنا مختصرا إن كان محتاجا ويفرق الباقى
في الحال ولا يأخذه ولا يدخره إلا بالقدر الذي يدرك به من يستحقه ويحتاج إليه
فيدخره على هذه النية فهذا هو الوفي بموجب التوكل تحقيقا وهى الدرجة العليا الحالة
الثانية المقابلة لهذه المخرجة له عن حدود التوكل أن يدخر لسنة فما فوقها فهذا ليس
من المتوكلين أصلا وقد قيل لا يدخر من الحيوانات إلا ثلاثة الفأرة والنملة وابن
آدم الحالة الثالثة أن يدخر لأربعين يوما فما دونها فهذا هل يوجب حرمانه من المقام
المحمود الموعود في الآخرة للمتوكلين اختلفوا فيه فذهب سهل إلى أنه يخرج عن حد
التوكل
وذهب الخواص إلى أنه لا يخرج بأربعين يوما ويخرج بما يزيد على الأربعين
وقال أبو طالب المكي لا يخرج عن حد التوكل بالزيادة على الأربعين أيضا وهذا اختلاف
لا معنى له بعد تجويز أصل الادخار نعم يجوز أن يظن ظان أن أصل الادخار يناقض
التوكل فأما التقدير بعد ذلك فلا مدرك له وكل ثواب موعود على رتبة فإنه يتوزع على
تلك الرتبة وتلك الرتبة لها بداية
ونهاية ويسمي أصحاب النهايات السابقين
وأصحاب البدايات أصحاب اليمين ثم أصحاب اليمين أيضا على درجات وكذلك السابقون
وأعالى درجات أصحاب اليمين تلاصق أسافل درجات السابقين فلا معنى للتقدير في مثل
هذا بل التحقيق أن التوكل بترك الادخار لا يتم إلا بقصر الأمل وأما عدم آمال
البقاء فيبعد اشتراطه ولو في نفس فإن ذلك كالممتنع وجوده أما الناس فمتفاوتون في
طول الأمل وقصره وأقل درجات الأمل يوم وليلة فما دونه من الساعات وأقصاه ما يتصور
أن يكون عمر الإنسان وبينهما درجات لا حصر لها فمن لم يؤمل أكثر من شهر أقرب إلى
المقصود ممن يؤمل سنة وتقييده بأربعين لأجل ميعاد موسى عليه السلام بعيد فإن تلك
الواقعة ما قصد بها بيان مقدار مارخص الأمل فيه ولكن استحقاق موسى لنيل الموعود
كان لا يتم إلا بعد أربعين يوما لسر جرت به وبأمثاله سنة الله تعالى في تدريج
الأمور كما قال عليه السلام إن الله خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا // حديث خمر
طينة آدم بيده أربعين صباحا رواه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من حديث ابن
مسعود وسلمان الفارسي بإسناد ضعيف جدا وهو باطل // لأن استحقاق تلك الطينة التخمر
كان موقوفا على مدة مبلغها ما ذكر فإذن ما وراء السنة لا يدخر له إلا بحكم ضعف
القلب والركون إلى ظاهر الأسباب فهو خارج عن مقام التوكل غير واثق بإحاطة التدبير
من الوكيل الحق بخفايا الأسباب فإن أسباب الدخل في الارتفاعات والزكوات تتكرر
بتكرر السنين غالبا ومن ادخر لأقل من سنة فله درجة بحسب قصر أمله ومن كان أمله
شهرين لم تكن درجته كدرجة من أمل شهرا ولا درجة من أمل ثلاثة أشهر بل هو بينهما في
الرتبة ولا يمنع من الادخار إلا قصر الأمل فالأفضل أن لا يدخر أصلا وإن ضعف قلبه
فكلما قل ادخاره كان فضله أكثر وقد روى في الفقير الذي أمر صلى الله عليه و سلم
عليا كرم الله وجهه وأسامة أن يغسلاه فغسلاه وكفناه ببردته فلما دفنه قال لأصحابه
إنه يبعث يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ولولا خصلة كانت فيه لبعث ووجهه
كالشمس الضاحية قلنا وما هي يا رسول الله قال كان صواما قواما كثير الذكر لله
تعالى غير أنه كان إذا جاء الشتاء ادخر حلة الصيف لصيفه وإذا جاء الصيف ادخر حلة
الشتاء لشتائه ثم قال صلى الله عليه و سلم بل أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر
// حديث أنه قال في حق الفقير الذى أمر عليا أو أسامة فغسله وكفنه ببردته أنه يبعث
يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر الحديث وفي آخره من أقل ما أوتيتم اليقين
وعزيمة الصبر لم أجد له أصلا وتقدم آخر الحديث قبل هذا // الحديث وليس الكوز
والشفرة وما يحتاج إليه على الدوام معنى ذلك فإن ادخاره لا ينقص الدرجة وأما ثوب
الشتاء فلا يحتاج إليه في الصيف وهذا في حق من لا ينزعج قلبه بترك الادخار ولا
تستشرف نفسه إلى أيدى الخلق بل لا يلتفت قلبه إلا إلى الوكيل الحق فإن كان يستشعر
في نفسه اضطرابا يشغل قلبه عن العبادة والذكر والفكر فالادخار له أولى بل لو أمسك
ضيعة يكون دخلها وافيا بقدر كفايته وكان لا يتفرغ قلبه إلا به فذلك له أولى لأن
المقصود إصلاح القلب ليتجرد لذكر الله ورب شخص يشغله وجود المال ورب شخص يشغله
عدمه والمحذور ما يشغل عن الله عز و جل وإلا فالدنيا في عينها غير محذورة لا
وجودها ولا عدمها ولذلك بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أصناف الخلق وفيهم
التجار والمحترفون وأهل الحرف والصناعات فلم يأمر التجار بترك تجارته ولا المحترف
بترك حرفته ولا أمر التارك لهما بالاشتغال بهما بل دعا الكل إلى الله تعالى
وأرشدهم إلى أن فوزهم ونجاتهم في انصراف قلوبهم عن الدنيا إلى الله تعالى وعمدة
الاشتغال بالله عز و جل القلب فصواب الضعيف ادخار قدر حاجته كما أن صواب القوى ترك
الادخار
وهذا كله حكم المنفرد فأما المعيل فلا
يخرج عن حد التوكل بادخار قوت سنة لعياله جبرا لضعفهم وتسكينا لقلوبهم وادخار أكثر
من ذلك مبطل للتوكل لأن الأسباب تتكرر عند تكرر السنين فادخاره ما يزيد عليه سببه
ضعف قلبه وذلك يناقض قوة التوكل فالمتوكل عبارة عن موحد قوى القلب مطمئن النفس إلى
فضل الله تعالى واثق بتدبيره دون وجود الأسباب الظاهرة وقد ادخر رسول الله صلى
الله عليه و سلم لعياله قوت سنة // حديث ادخر لعياله قوت سنة متفق عليه وتقدم في
الزكاة // ونهى أم أيمن وغيرها أن تدخر له شيئا لغد // حديث نهى أم أيمن وغيرها أن
تدخر شيئا لغد تقدم نهيه لأم أيمن وغيرها // ونهى بلالا عن الادخار في كسرة خبز
ادخرها ليفطر عليها فقال صلى الله عليه و سلمأنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش
إقلالا // حديث نهى بلالا عن الادخار وقال أنفق بلالا ولا تخش من ذى العرش إقلالا
رواه البزار من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وبلال دخل عليه النبي صلى الله عليه و
سلم وعنده صبر من تمر فقال ذلك وروى أبو يعلى والطبرانى في الأوسط حديث أبي هريرة
وكلها ضعيفة
وأما ما ذكره المصنف من أنه ادخر كسرة خبز فلم أره // وقال صلى الله عليه و سلمإذا
سئلت فلا تمنع وإذا أعطيت فلا تخبأ // حديث قال لبلال إذا سئلت فلا تمنع وإذا
أعطيت فلا تخبأ رواه الطبراني والحاكم من حديث أبي سعيد وهو ثقة // اقتداء بسيد
المتوكلين صلى الله عليه و سلم وقد كان قصر أمله بحيث كان إذا بال تيمم مع قرب
الماء ويقول ما يدريني لعلي لا أبلغه // حديث أنه صلى الله عليه و سلم بال وتيمم
مع قرب الماء ويقول ما يدريني لعلى لا أبلغه أخرجه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل من
حديث ابن عباس بسند ضعيف // وكان صلى الله عليه و سلم لو أخر لم ينقص ذلك من توكله
إذ كان لا يثق بما ادخره ولكنه عليه السلام ترك ذلك تعليما للأقوياء من أمته فإن
أقوياء أمته ضعفاء بالإضافة إلى قوته وادخر عليه السلام لعياله سنة لا لضعف قلب
فيه وفي عياله ولكن ليسن ذلك للضعفاء من أمته بل أخبر إن الله تعالى يحب أن تؤتى
رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه // حديث إن الله يحب أن تؤتى رخصه الحديث أخرجه أحمد
والطبرانى والبيهقي من حديث أم عمر وقد تقدم // تطييبا لقلوب الضعفاء حتى لا ينتهى
بهم الضعف إلى اليأس والقنوط فيتركون الميسور من الخير عليهم بعجزهم عن منتهى
الدرجات فما أرسل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا رحمة للعالمين كلهم عليه
اختلاف أصنافهم ودرجاتهم وإذا فهمت هذا علمت أن الادخار قد يضر بعض الناس وقد لا
يضر ويدل على ما روى أبو أمامة الباهلى أن بعض أصحاب الصفة توفى فما وجد له كفن
فقال صلى الله عليه و سلمفتشوا ثوبه فوجدوا فيه دينارين في داخل إزاره فقال صلى
الله عليه و سلم كيتان // حديث أبي أمامة توفى بعض أصحاب الصفة فوجدوا دينارين في
داخلة إزاره فقال صلى الله عليه و سلم كيتان رواه أحمد من رواية شهر بن حوشب عنه
// وقد كان غيره من المسلمين يموت ويخلف أموالا ولا يقول ذلك في حقه وهذا يحتمل
وجهين لأن حاله يحتمل حالين أحدهما أنه أراد كيتين من النار كما قال تعالى تكوى
بها جباههم وجنوبهم وظهورهم وذلك إذا كان حاله إظهار الزهد والفقر والتوكل مع
الإفلاس عنه فهو نوع تلبيس والثاني أن لا يكون ذلك عن تلبيس فيكون المعنى به
النقصان عن درجة كماله كما ينقص من جمال الوجه اثر كيتين في الوجه وذلك لا يكون عن
تلبيس فإن كل ما يخلفه الرجل فهو نقصان عن درجته في الآخرة إذ لا يؤتى أحد من
الدنيا شيئا إلا نقص بقدره من الآخرة وأما بيان أن الادخار مع فراغ القلب عن
المدخر ليس من ضرورته بطلان التوكل فيشهد له ما روى عن بشر قال الحسين المغازلى من
أصحابه كنت عنده ضحوة من النهار فدخل عليه رجل كهل أسمر خفيف العارضين فقام إليه
بشر قال وما رأيته قام لأحد غيره قال ودفع إلى كفا من دراهم وقال اشتر لنا من أطيب
ما تقدر عليه من الطعام الطيب وما قال لي قط
مثل ذلك قال فجئت بالطعام فوضعته فأكل
معه وما رأيته أكل مع غيره قال فأكلنا حاجتنا وبقى من الطعام شىء كثير فأخذه الرجل
وجمعه في ثوبه وحمله معه وانصرف فعجبت من ذلك وكرهته له فقال لي بشر لعلك أنكرت
فعله قلت نعم أخذ بقية الطعام من غير إذن فقال ذاك أخونا فتح الموصلى زارنا اليوم
من الموصل فإنما أراد أن يعلمنا أن التوكل إذا صح لم يضر معه الادخار
الفن الثالث في مباشرة الأسباب الدافعة للضرر المعرض للخوف أعلم أن الضرر قد يعرض
للخوف في نفس أو مال وليس من شروط التوكل ترك الأسباب الدافعة رأسا أما في النفس
فكالنوم في الأرض المسبعة أو في مجاري السيل من الوادى أو تحت الجدار المائل
والسقف المنكسر فكل ذلك منهى عنه وصاحبه قد عرض نفسه للهلاك بغير فائدة نعم تنقسم
هذه الأسباب إلى مقطوع بها ومظنونة وإلى موهومة فترك الموهوم منها من شرط التوكل
وهى التى نسبتها إلى دفع الضرر نسبة الكى والرقية فإن الكى والرقية قد تقدم به على
المحذور دفعا لما يتوقع وقد يستعمل بعد نزول المحذور للإزالة ورسول الله صلى الله
عليه و سلم لم يصف المتوكلين إلا بترك الكى والرقية والطيرة ولم يصفهم بأنهم إذا
خرجوا إلى موضع بارد لم يلبسوا جبة والجبة تلبس دفعا للبرد المتوقع وكذلك كل مافي
معناها من الأسباب نعم الاستظهار بأكل الثوم مثلا عند الخروج إلى السفر في الشتاء
تهييجا لقوة الحرارة من الباطن ربما يكون من قبيل التعمق في الأسباب والتعويل
عليها فيكاد يقرب من الكي بخلاف الجبة ولترك الأسباب الدافعة وإن كانت مقطوعة وجه
إذا ناله الضرر من إنسان فإنه إذا أمكنه الصبر وأمكنه الدفع والتشفى فشرط التوكل
الاحتمال والصبر قال الله تعالى فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون وقال تعالى
ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون وقال عز و جل ودع آذاهم
وتوكل على الله وقال سبحانه تعالى فاصبر كما صبر أولى العزم من الرسل وقال تعالى
نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وهذا في أذى الناس وأما الصبر على
أذى الحيات والسباع والعقارب فترك دفعها ليس من التوكل في شىء إذ لا فائدة فيه ولا
يراد السعى ولا يترك السعى لعينه بل لإعانته على الدين وترتب الأسباب ههنا كترتبها
في الكسب وجلب المنافع فلا نطول بالإعادة وكذلك في الأسباب الدافعة عن المال فلا
ينقص التوكل بإغلاق باب البيت عند الخروج ولا بأن يعقل البعير لأن هذه أسباب عرفت سنة
الله تعالى إما قطعا وإما ظنا ولذلك قال صلى الله عليه و سلم للإعرابي لما أن أهمل
البعير وقال توكلت على الله اعقلها وتوكل // حديث اعقلها وتوكل أخرجه الترمذى من
حديث أنس قال يحيى القطان منكر ورواه ابن خزيمة في التوكل والطبراني من حديث عمرو
بن أمية الضمرى بإسناد جيد قيدها // وقال تعالى خذوا حذركم وقال في كيفية صلاة
الخوف وليأخذوا أسلحتهم وقال سبحانه وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
وقال تعالى لموسى عليه السلام فأسر بعبادى ليلا والتحصن بالليل اختفاء عن أعين
الأعداء ونوع تسبب واختفاء رسول الله صلى الله عليه و سلم في الغار اختفاء عن أعين
الأعداء دفعا للضرر // حديث اختفى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن أعين الأعداء
دفعا للضرر تقدم في قصة اختفائه في الغار عند إرادة الهجرة // وأخذ السلاح في
الصلاة فليس دافعا قطعا كقتل الحية والعقرب فإنه دافع قطعا ولكن أخذ السلاح سبب
مظنون وقد بينا أن المظنون كالمقطوع وإنما الموهوم هو الذي يقتضى التوكل تركه
فإن قلت فقد حكى عن جماعة أن منهم من وضع الأسد يده على كتفه ولم يتحرك فأقول وقد
حكى عن جماعة أنهم ركبوا الأسد وسخروه فلا ينبغى أن يغرك ذلك المقام فإنه وإن كان
صحيحا في نفسه فلا يصلح للاقتداء
بطريق التعلم من الغير بل ذلك مقام رفيع
في الكرامات وليس ذلك شرطا في التوكل وفيه أسرار لا يقف عليها من لم ينته إليها
فإن قلت وهل من علامة أعلم بها أنى قد وصلت إليها فأقول الواصل لا يحتاج إلى طلب
العلامات ولكن من العلامات على ذلك المقام السابقة عليه أن يسخر لك كلب هو معك في
إهابك يسمى الغضب فلا يزال يعضك ويعض غيرك فإن سخر لك هذا الكلب بحيث إذا هيج
وأشلى لم يستشل إلا بإشارتك وكان مسخرا لك فربما ترتفع درجتك إلى أن يسخر لك الأسد
الذى هو ملك السباع وكلب دارك أولى أن يكون مسخرا لك من كلب البوادى وكلب إهابك
أولى بأن يتسخر من كلب دارك فإذا لم يسخر لك الكلب الباطن فلا تطمع في استسخار
الكلب الظاهر
فإن قلت فإذا اخذ المتوكل سلاحه حذرا من العدو وأغلق بابه حذرا من اللص وعقل بعيره
حذرا من أن ينطلق فبأى اعتبار يكون متوكلا فأقول يكون متوكلا بالعلم والحال فأما
العلم فهو أن يعلم أن اللص إن اندفع لم يندفع بكفايته في إغلاق الباب بل لم يندفع
إلا بدفع الله تعالى إياه فكم من باب يغلق ولا ينفع وكم من بعير يعقل ويموت أو
يفلت وكم من آخذ سلاحه يقتل أو يغلب فلا تتكل على هذه الأسباب أصلا بل على مسبب
الأسباب كما ضربنا المثل في الوكيل في الخصومة فإنه إن حضر وأحضر السجل فلا يتكل
على نفسه وسجله بل يتكل على كفاية الوكيل وقوته وأما الحال فهو أن يكون راضيا بما
يقضى الله تعالى به في بيته ونفسه ويقول اللهم إن سلطت على ما في البيت من يأخذه
فهو في سبيلك وأنا راض بحكمك فإنى لا أدرى أن ما أعطيتني هبة فلا تسترجعها أو
عارية ووديعة فتستردها ولا أدرى أنه رزقى أو سبقت مشيئتك في الأزل بأنه رزق غيرى
وكيفما قضيت فأنا راض به وما أغلقت الباب تحصنا من قضاؤك وتسخطا له بل جريا على
مقتضى سنتك في ترتيب الأسباب فلا ثقة إلا بك يا مسبب الأسباب فإذا كان هذا حاله
وذلك الذى ذكرناه علمه لم يخرج عن حدود التوكل بعقل البعير وأخذ السلاح وإغلاق
الباب ثم إذا عاد فوجد متاعه في البيت فينبغى أن يكون ذلك عنده نعمة جديدة من الله
تعالى وإن لم يجده بل وجده مسروقا نظر إلى قلبه فإن وجده راضيا أو فرحا بذلك عالما
أنه ما أخذ الله تعالى ذلك منه إلا ليزيد رزقه في الآخرة فقد صح مقامه في التوكل
وظهر له صدقه وإن تألم قلبه به ووجد قوة الصبر فقد بان له أنه ما كان صادقا في
دعوى التوكل لان التوكل مقام بعد الزهد ولا يصح الزهد إلا ممن لا يتأسف على ما فات
من الدنيا ولا يفرح بما يأتى بل يكون على العكس منه فكيف يصح له التوكل نعم قد يصح
له مقام الصبر إن أخفاه ولم يظهر شكواه ولم يكثر سعيه في الطلب والتجسس وإن لم
يقدر على ذلك حتى تأذى بقلبه وأظهر الشكوى بلسانه واستقصى الطلب ببدنه فقد كانت
السرقة مزيدا له في ذنبه من حيث إنه ظهر له قصوره عن جميع المقامات وكذبه في جميع
الدعاوي فبعد هذا ينبغى أن يجتهد حتى لا يصدق نفسه في دعاويها ولا يتدلى بحبل
غرورها فإنها خداعة أمارة بالسوء مدعية للخير
فإن قلت فكيف يكون للمتوكل مال حتى يؤخذ فأقول المتوكل لا يخلوا بيته من متاع
كقصعة يأكل فيها وكوز يشرب منه وإناء يتوضأ منه وجراب يحفظ به زاده وعصا يدفع بها
عدوه وغير ذلك من ضرورات المعيشة من اثاث البيت وقد يدخل في يده مال وهو يمسكه
ليجد محتاجا فيصرفه إليه فلا يكون ادخاره على هذه النية مبطلا لتوكله وليس من شرط
التوكل إخراج الكوز الذي يشرب منه والجراب الذي فيه زاده وإنما ذلك في
المأكول وفي كل مال زائد على قدر الضرورة
لأن سنة الله جارية بوصول الخير إلى الفقراء المتوكلين في زوايا المساجد وما جرت
السنة بتفرقة الكيزان والأمتعة في كل يوم ولا في كل أسبوع والخروج عن سنة الله عز
و جل ليس شرطا في التوكل ولذلك كان الخواص يأخذ في السفر الحبل والركوة والمقراض
والإبرة دون الزاد لكن سنة الله تعالى جارية بالفرق بين الأمرين
فإن قلت فكيف يتصور أن لا يحزن إذا أخذ متاعه الذي هو محتاج إليه ولا يتأسف عليه
فإن كان لا يشتهيه فلم أمسكه وأغلق الباب عليه وإن كان أمسكه لأنه يشتهيه لحاجته
إليه فكيف لا يتأذى قلبه ولا يحزن وقد حيل بينه وبين ما يشتهيه فأقول إنما كان
يحفظه ليستعين به على دينه إذ كان يظن أن الخيرة له في أن يكون له ذلك المتاع
ولولا أن الخيرة له فيه لما رزقه الله تعالى ولما أعطاه إياه فاستدل على ذلك
بتيسير الله عز و جل وحسن الظن بالله تعالى مع ظنه أن ذلك معين له على أسباب دينه
ولم يكن ذلك عنده مقطوعا به إذ يحتمل أن تكون خيرته في أن يبتلى بفقده ذلك حتى
ينصب في تحصيل غرضه ويكون ثوابه في النصب والتعب أكثر فلما أخذه الله تعالى منه
بتسليط اللص تغير ظنه لأنه في جميع الأحوال واثق بالله حسن الظن به فيقول لولا أن
الله عز و جل علم أن الخيرة كانت لي في وجودها إلى الآن والخيرة لي الآن في عدمها
لما أخذها منى فبمثل هذا الظن يتصور أن يندفع عنه الحزن إذ به يخرج عن ان يكون
فرحه بأسباب من حيث إنها أسباب بل من حيث إنه يسرها مسبب الأسباب عناية وتلطفا وهو
كالمريض بين يدى الطبيب الشفيق يرضى بما يفعله فإن قدم إليه الغذاء فرح وقال لولا
أنه يعرف أن الغذاء ينفعنى وقد قويت على احتماله لما قربه إلى وأن أخر عنه الغذاء
بعد ذلك أيضا فرح وقال لولا أن الغذاء يضرني ويسوقني إلى الموت لما حال بينى وبينه
وكل من لا يعتقد لطف الله تعالى ما يعتقده المريض في الوالد المشفق الحاذق لعلم
الطب فلا يصح منه التوكل أصلا ومن عرف الله تعالى وعرف أفعاله وعرف سنته في إصلاح
عباده لم يكن فرحه بالأسباب فإنه لا يدرى أي الأسباب خير له كما قال عمر رضى الله
عنه لا أبالى أصبحت غنيا أو فقيرا فإنى لا أدرى أيهما خير لي فكذلك ينبغي أن لا
يبالى المتوكل يسرق متاعه أو لا يسرق فإنه لا يدرى أيهما خير له في الدنيا أو في
الآخرة فكم من متاع في الدنيا يكون سبب هلاك الإنسان وكم من غنى يبتلى بواقعة لأجل
غناه يقول ياليتنى كنت فقيرا
بيان آداب المتوكلين إذا سرق متاعهم
للمتوكل آداب في متاع بيته إذا خرج عنه الأول أن يغلق الباب ولا يستقصى في أسباب
الحفظ كالتماسك من الجيران الحفظ مع الغلق وكجمعه أغلاقا كثيرة فقد كان مالك بن
دينار لا يغلق بابه ولكن يشده بشريط ويقول لولا الكلاب ما شددته أيضا الثاني أن لا
يترك في البيت متاعا يحرض عليه السراق فيكون هو سبب معصيتهم أو إمساكه يكون سبب
هيجان رغبتهم ولذلك لما أهدى المغيرة إلى مالك بن دينار ركوة قال خذها لا حاجة لي
إليها قال لم قال يوسوس إلى العدو أن اللص يأخذها فكأنه احترز من أن يعصى السارق
ومن شغل قلبه بوسواس الشيطان بسرقتها ولذلك قال أبو سليمان هذا من ضعف قلوب
الصوفية هذا قد زهد في الدنيا فما عليه من أخذها الثالث أن ما يضطر إلى تركه في
البيت ينبغى أن ينوى عند خروجه الرضا بما يقضى الله فيه من تسليط سارق عليه ويقول
ما يأخذه السارق فهو منه في حل أو في سبيل الله تعالى وإن كان فقيرا فهو عليه صدقة
وإن لم يشترط الفقر فهو أولى فيكون له نيتان لو أخذه غنى أو فقير إحداهما أن يكون
ماله مانعا من المعصية فإنه ربما يستغنى
به فيتوانى عن السرقة بعده وقد زال عصيانه بأكل الحرام لما أن جعله في حل والثانية
أن لا يظلم مسلما آخر فيكون ماله فداء لمال مسلم آخر ومهما ينوى حراسة مال غيره
بمال نفسه أو ينوى دفع المعصية عن السارق أو تخفيفها عليه فقد نصح للمسلمين وامتثل
قوله صلى الله عليه و سلمانصر أخاك ظالما أو مظلوما // حديث انصر أخاك ظالما أو
مظلوما متفق عليه من حديث أنس وقد تقدم // ونصر الظالم أن تمنعه من الظلم وعفوه
عنه إعدام للظلم ومنع له وليتحقق أن هذه النية لا تضره بوجه من الوجوه إذ ليس فيها
ما يسلط السارق ويغير القصاء الأزلى ولكن يتحقق بالزهد نيته فإن أخذ ماله كان له
بكل درهم سبعمائة درهم لأنه نواه وقصده وإن لم يؤخذ حصل له الأجر أيضا كما روى عن
رسول الله صلى الله عليه و سلم فيمن ترك العزل فأقر النطفة قرارها أن له أجر غلام
ولد له من ذلك الجماع وعاش فقتل في سبيل الله تعالى وإن لم يولد له // حديث من ترك
العزل وأقر النطفة قرارها كان له أجر غلام // لأنه ليس أمر الولد إلا الوقاع فأما
الخلق والحياة والرزق والبقاء فليس إليه فلو خلق لكان ثوابه على فعله وفعله لم
ينعدم فكذلك أمر السرقة الرابع أنه إذا وجد المال مسروقا فينبغى أن لا يحزن بل
يفرح إن أمكنه ويقول لولا أن الخيرة كانت فيه لما سلبه الله تعالى ثم إن لم يكن قد
جعله في سبيل الله عز و جل فلا يبالغ في طلبه وفي إساءة الظن بالمسلمين وإن كان قد
جعله في سبيل الله فيترك طلبه فإنه قد قدمه ذخيرة لنفسه إلى الآخرة فإن أعيد عليه
فالأولى أن لا يقبله بعد أن كان قد جعله في سبيل الله عز و جل وإن قبله فهو في
ملكه في ظاهر العلم لأن الملك لا يزول بمجرد تلك النية ولكنه غير محبوب عند
المتوكلين
وقد روى أن ابن عمر سرقت ناقته فطلبها حتى أعيا ثم قال في سبيل الله تعالى فدخل
المسجد فصلى فيه ركعتين فجاءه رجل فقال يا أبا عبد الرحمن إن ناقتك في مكان كذا
فلبس نعله وقام ثم قال استغفر الله وجلس فقيل له ألا تذهب فتأخذها فقال إنى كنت
قلت في سبيل الله
وقال بعض الشيوخ رأيت بعض إخواني في النوم بعد موته فقلت ما فعل الله بك قال غفر
لي وأدخلنى الجنة وعرض على منازلي فيها فرأيتها قال وهو مع ذلك كئيب حزين فقلت قد
غفر لك ودخلت الجنة وأنت حزين فتنفس الصعداء ثم قال نعم إنى لا أزال حزينا إلى يوم
القيامة قلت ولم قال إنى لما رأيت منازلى في الجنة رفعت لي مقامات في عليين ما
رأيت مثلها فيما رأيت ففرحت بها فلما هممت بدخولها نادى منادى من فوقها اصرفوه
عنها فليست هذه له إنما هى لمن أمضى السبيل فقلت وما إمضاء السبيل فقيل لي كنت
تقول للشىء إنه في سبيل الله ثم ترجع فيه فلو كنت أمضيت السبيل لأمضينا لك
وحكى عن بعض العباد بمكة أنه كان نائما إلى جنب رجل معه هميانه فانتبه الرجل ففقد
هميانه فاتهمه به فقال له كم كان في هميانك فذكر له فحمله من البيت ووزنه من عنده
ثم بعد ذلك أعلمه أصحابه أنهم كانوا أخذوا الهميان مزحا معه فجاء هو وأصحابه معه
وردوا الذهب فأبى وقال خذه حلالا طيبا فما كنت لأعود في مال أخرجته في سبيل الله
عز و جل فلم يقبل فألحوا عليه فدعا ابنه وجعل يصره صررا ويبعث به إلى الفقراء حتى
لم يبق منه شىء
فهكذا كانت أخلاق السلف وكذلك من أخذ رغيفا ليعطيه فقيرا فغاب عنه كان يكره رده
إلى البيت بعد إخراجه فيعطيه فقيرا آخر وكذلك يفعل في الدراهم والدنانير وسائر
الصدقات الخامس وهو أقل الدرجات
أن لا يدعو على السارق الذى ظلمه بالأخذ
فإن فعل بطل توكله ودل ذلك على كراهته وتأسفه على ما فات وبطل زهده ولو بالغ بطل
أجره أيضا فيما أصيب به ففي الخبر من دعا على ظالمه فقد انتصر // حديث من دعا على
من ظلمه فقد انتصر تقدم // وحكى أن الربيع بن خثيم سرق فرس له وكان قيمته عشرين
ألفا وكان قائما يصلى فلم يقطع صلاته ولم ينزعج لطلبه فجاءه قوم يعزونه فقال أما
إنى قد كنت رأيته وهو يحله قيل وما منعك أن تزجره قال كنت فيما هو أحب إلى من ذلك
يعنى الصلاة فجعلوا يدعون عليه فقال لا تفعلوا وقولوا خيرا فإنى قد جعلتها صدقة
عليه
وقيل لبعضهم في شىء قد كان سرق له ألا تدعو على ظالمك قال ما أحب أن أكون عونا
للشيطان عليه
قيل أرأيت لو رد عليك قال لا آخذه ولا أنظر إليه لأنى كنت قد أحللته له
وقيل لآخر ادع الله على ظالمك فقال ماظلمنى أحد ثم قال إنما ظلم نفسه ألا يكفيه
المسكين ظلم نفسه حتى أزيده شرا
وأكثر بعضهم شتم الحجاج عند بعض السلف في ظلمه فقال لا تغرق في شتمه فإن الله
تعالى ينتصف للحجاج فمن انتهك عرضه كما ينتصف منه لمن أخذ ماله ودمه
وفي الخبر إن العبد كيظلم المظلمة فلا يزال يشتم ظالمه ويسبه حتى يكون بمقدار ما
ظلمه ثم يبقى للظالم عليه مطالبة بما زاد عليه يقتص له من المظلوم // حديث إن
العبد ليظلم المظلمة فلا يزال يشتم ظالمه ويسبه حتى يكون بمقدار ما ظلمه ثم يبقى
للظالم عليه مطالبة الحديث تقدم // السادس أن يغتم لأجل السارق وعصيانه وتعرضه
لعذاب الله تعالى ويشكر الله تعالى إذ جعله مظلوما ولم يجعله ظالما وجعل ذلك نقصا
في دنياه لا نقصا في دينه فقد شكا بعض الناس إلى عالم أنه قطع عليه الطريق وأخذ
ماله فقال إن لم يكن لك غم أنه قد صار في المسلمين من يستحل هذا أكثر من غمك بمالك
فما نصحت للمسلمين
وسرق من على بن الفضيل دنانير وهو يطوف بالبيت فرآه أبوه وهو يبكي ويحزن فقال أعلى
الدنانير تبكى فقال لا والله ولكن على المسكين أن يسئل يوم القيامة ولا تكون له
حجة
وقيل لبعضهم ادع على من ظلمك فقال إنى مشغول بالحزن عليه عن الدعاء عليه فهذه
أخلاق السلف رضى الله عنهم أجمعين
الفن الرابع في السعى في إزالة الضرر كمداواة المرض وأمثاله أعلم أن الأسباب
المزيلة للمرض أيضا تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش والخبز المزيل
لضرر الجوع وإلى مظنون كالفصد والحجامة وشرب الدواء المسهل وسائر أبواب الطب أعنى
معالجة البرودة بالحرارة والحرارة بالبرودة وهى الأسباب الظاهرة في الطب وإلى
موهوم كالكى والرقية أما المقطوع فليس من التوكل تركه بل تركه حرام عند خوف الموت
وأما الموهوم فشرط التوكل تركه إذ به وصف رسول الله صلى الله عليه و سلم المتوكلين
وأقواها الكى ويليه الرقية والطيرة آخر درجاتها والاعتماد عليها والاتكال إليها
غاية التعمق في ملاحظة الأسباب وأما الدرجة المتوسطة وهى المظنونة كالمداواة
بالأسباب الظاهرة عند الأطباء ففعله ليس مناقضا للتوكل بخلاف الموهوم وتركه ليس
محظورا بخلاف المقطوع بل قد يكون أفضل من فعله في بعض الأحوال وفي بعض الأشخاص فهى
على درجة بين الدرجتين ويدل على أن التداوى غير مناقض للتوكل فعل رسول الله صلى
الله عليه و سلم
وقوله وأمره به أما قوله فقد قال صلى
الله عليه و سلمما من داء إلا وله دواء عرفه من عرفه وجهله من جهله إلا السام //
حديث ما من داء إلا له دواء عرفه من عرفه جهله من جهله إلا السام رواه أحمد
والطبرانى من حديث ابن مسعود دون قوله إلا السام وهو عند ابن ماجه مختصرا دون قوله
عرفه إلى آخره واسناد حسن وللترمذي وصححه من حديث أسامة بن شريك إلا الهرم
وللطبرانى في الأوسط والبزار من حديث أبي سعيد الخدرى والطبراني في الكبير من حديث
ابن عباس وسندهما ضعيف والبخارى من حديث أبي هريرة ما أنزل الله داء إلا أنزل له
شفاء ولمسلم من حديث جابر لكل داء دواء // يعنى الموت وقال عليه السلام تداووا
عباد الله فإن الله خلق الداء والدواء // حديث تداووا عباد الله رواه الترمذي
وصححه وابن ماجه واللفظ له من حديث أسامة ابن شريك // وسئل عن الدواء والرقى هل
ترد من قدر الله شيئا قال هى من قدر الله // حديث سئل عن الدواء والرقى هل يرد من
قدر الله فقال هى من قدر الله أخرجه الترمذى وابن ماجه من حديث أبي خزامة وقيل عن
أبي خزامة عن أبيه قال الترمذى وهذا أصح // وفي الخبر المشهور ما مررت بملأ من
الملائكة إلا قالوا مر أمتك بالحجامة // حديث ما مررت بملأ من الملائكة إلا قالوا
مر أمتك بالحجامة رواه الترمذى من حديث ابن مسعود وقال حسن غريب ورواه ابن ماجه من
حديث أنس بسند ضعيف // وفي الحديث أنه أمر بها وقال احتجموا لسبع عشرة وتسع عشرة
وإحدى وعشرين لا يتبيغ بكم الدم فيقتلكم // حديث احتجموا لسبع عشرة وتسع عشرة
وإحدى وعشرين الحديث أخرجه البزار من حديث ابن عباس بسند حسن موقوفا ورفعه الترمذى
بلفظ إن خير ما تحتجمون فيه سبع عشرة الحديث دون ذكر التبيغ وقال حسن غريب وقال
البزار إن طريقه المتقدمة أحسن من هذا الطريق ولابن ماجه من حديث أنس بسند ضعيف من
أراد الحجامة فليتحر سبعة عشر الحديث // فذكر أن تبيغ الدم سبب الموت وأنه قاتل
بإذن الله تعالى وبين أن إخراج الدم خلاص منه إذ لا فرق بين إخراج الدم المهلك من
الإهاب وبين إخراج العقرب من تحت الثياب وإخراج الحية من البيت وليس من شرط التوكل
ترك ذلك بل هو كصب الماء على النار لإطافئها ودفع ضررها عند وقوعها في البيت وليس
من التوكل الخروج عن سنة الوكيل أصلا وفي خبر مقطوع من احتجم يوم الثلاثاء لسبع
عشرة من الشهر كان له دواء من داء سنة // حديث من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة من
الشهر كان له دواء من داء سنة رواه الطبرانى من حديث معقل بن يسار وابن حيان في
الضعفاء من حديث أنس وإسنادهما واحد اختلف على راوية في الصحابي وكلاهما فيه زين
العمى وهو ضعيف // وأما أمره صلى الله عليه و سلم فقد أمر غير واحد من الصحابة
بالتداوى وبالحمية // حديث أمره بالتداوى لغير واحد من الصحابة أخرجه الترمذى وابن
ماجه من حديث أسامة بن شريك أنه قال للأعراب حين سألوه تداووا الحديث وسيأتى في
قصة على وصهيب في الحمية بعده // وقطع لسعد بن معاذ عرقا // حديث قطع عرقا لسعد
ابن معاذ أخرجه مسلم من حديث جابر قال رمى سعد في أكحله فحسمه النبي صلى الله عليه
و سلم بيده بمشقص الحديث // أى فصده وكوى سعد بن زرارة // حديث أنه كوى أسعد بن
زرارة رواه الطبراني من حديث سهل بن حنيف بسند ضعيف ومن حديث أبي أسامة بن سهل بن
حنيف دون ذكر سهل // وقال لعلى رضي الله تعالى عنه وكان رمد العين لا تأكل من هذا
يعنى الرطب وكل من هذا فإنه أوفق لك // حديث قال لعلى وكان رمدا لا تأكل من هذا
الحديث رواه أبو داود والترمذى وقال حسن غريب وابن ماجه من حديث أم المنذر // يعنى
سلقا قد طبخ بدقيق شعير وقال لصهيب وقد رآه يأكل التمر وهو وجع العين تأكل تمرا
وأنت أرمد فقال إنى آكل من الجانب الآخر فتبسم // صلى الله عليه و سلم حديث قال
لصهيب وقد رآه يأكل التمر وهو وجع العين تأكل تمرا وأنت رمد الحديث تقدم في آفات
اللسان // وأما فعله عليه الصلاة و السلام فقد روى في حديث من طريق أهل البيت أنه
كان يكتحل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب الدواء كل سنة // حديث من طريق أهل البيت
أنه كان يكتحل كل ليلة ويحتجم كل شهر ويشرب الدواء كل سنة أخرجه ابن عدي من حديث
عائشة وقال إنه منكر وفيه سيف بن محمد كذبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين // قيل
السنا المكى
وتداوى صلى الله عليه و سلم غير مرة من
العقرب وغيرها // حديث أنه تداوى غير مرة من العقرب وغيرها رواه الطبراني بإسناد
حسن من حديث جبلة بن الأزرق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لدغته عقرب فغشى
عليه فرقاه الناس الحديث له في الأوسط من رواية سعيد بن ميسرة وهو ضعيف عن أنس أن
النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا اشتكي تقمح كفا من شونيز ويشرب عليه ماء وعسلا
ولأبي يعلى والطبراني في الكبير من حديث عبدالله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه و
سلم احتجم بعد ماسم وفيه جابر الجعفي ضعفه الجمهور وروي أنه كان إذا نزل عليه
الوحي صدع رأسه فكان يغلفه بالحناء // حديث كان إذى نزل الوحي صدع رأسه فيغلفه
بالحناء أخرجه البزار وابن عدي في الكامل من حديث أبي هريرة وقد اختلف في إسناده
على الأحوص بن حكيم كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء رواه الترمذي وابن ماجة
من حديث سلمى قال الترمذي غريب وفي خبر : أنه كان إذا خرجت به قرحة جعل عليها حناء
وقد جعل على قرحة خرجت به ترابا جعل على قرحة خرجت بيده ترابا حديث جعل على قرحة
خرجة بيده ترابا رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة كان إذا إشتكى الإنسان الشيء
منه أو كانت فرحة أو جرح قال النبي صلى الله عليه و سلم بيده ووضع سفيان عيينه
الراوي سبابته بالأرض ثم رفعها وقال بسم الله تربة أرضنا وريقة بعضنا يشفى سقيمنا
// وما روى في تداويه وأمره بذلك كثير خارج عن الحصر وقد صنف في ذلك كتاب وسمي طب
النبي صلى الله عليه و سلم وذكر بعض العلماء في الإسرائيليات أن موسى عليه السلام
اعتل بعلة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علته فقالوا له لو تداويت بكذا لبرئت فقال
لا أتداوى حتى يعافيني هو من غير دواء فطالت علته فقالوا له أن دواء هذه العلة
معروف مجرب وانا نتداوى به فنبرأ فقال لا أتداوى وأقامت علته فأوحى الله تعالى
إليه وعزتي وجلالي لا أبرأتك حتى تتداوى بما ذكروه لك فقال لهم داووني بما ذكرتم
فداووه فبرأ فأوجس في نفسه من ذلك فأوحى الله تعالى إليه أردت أن تبطل حكمتي
بتوكلك على من أودع العقاقير منافع الأشياء غيري وروى في خبر آخر أن نبيا من
الأنبياء عليهم السلام شكا علة يجدها فأوحى الله تعالى إليه كل البيض وشكا نبي آخر
الضعف فأوحى الله تعالى إليه كل اللحم باللبن فان فيهما القوة قيل هو الضعف عن
الجماع وقد روى أن قوما شكوا إلى نبيهم قبح أولادهم فأوحى الله تعالى إليه مرهم أن
يطعموا نساءهم الحبلى السفرجل فانه يحسن الولد ويفعل ذلك في الشهر الثالث والرابع
إذ فيه يصور الله تعالى الولد وقد كانوا يطعمون الحبلى السفرجل والنفساء الرطب
فبهذا تبين ان مسبب الأسباب اجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهارا للحكمة
والأدوية أسباب مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب فكما ان الخبز دواء الجوع
والماء دواء العطش فالسكنجبين دواء الصفراء والسقمونيا دواء الإسهال لا يفارقه إلا
في أحد أمرين أحدهما أن معالجة الجوع والعطش بالماء والخبز جلى واضح يدركه كافة
الناس ومعالجة الصفراء بالسكنحبين يدركه بعض الخواص فمن أدرك ذلك بالتجربة التحق
في حقه بالأول والثاني آن الدواء يسهل والسكنجبين يسكن الصفراء بشروط أخر في
الباطن واسباب في المزاج ربما يتعذر الوقوف على جميع شروطها وربما يفوت بعض الشروط
فيتقاعد الدواء عن الإسهال وأما زوال العطش فلا يستدعي سوى الماء شروطا كثيرة وقد
يتفق من العوارض ما يوجب داء العطش مع كثرة شرب الماء ولكنه نادر واختلال الأسباب
ابدا ينحصر في هذين الشيئين وإلا فالمسبب يتلو السبب لا محالة مهما تمت شروط السبب
وكل ذلك بتدبير مسبب الأسباب وتسخيره وترتيبه بحكم حكمته وكمال قدرته فلا يضر
المتوكل استعماله مع النظر إلى مسبب الأسباب دون الطبيب والدواء فقد روى عن موسى
صلى صلى الله عليه و سلم انه قال يارب ممن الداء والدواء فقال تعالى مني قال : فما
يصنع الأطباء قال يأكلون أرزاقهم ويطيبون نفوس
عبادي حتى يأتي شفائي أو قضائي فإذن معنى
التوكل مع التداوي التوكل بالعلم والحال كما سبق في فنون الاعمال الدافعة للضرر
الجالبة للنفع فأما ترك التداوي رأسا فليس شرطا فيه
فان قلت فالكي أيضا من الأسباب الظاهرة النفع فأقول ليس كذلك اذ الأسباب الظاهرة
مثل الفصد والحجامة وشرب المسهل وسقي المبردات للمحرور واما الكي فلو كان مثلها في
الظهور لما خلت البلاد الكثيرة عنه وقلما يعتاد الكي في أكثر البلاد وانما ذلك
عادة بعض الأتراك والأعراب فهذا من الأسباب الموهومة كالرقى إلا أنه يتميز عنها
بأمر وهو أنه احراق النار فى الحال مع الاستغناء عنه فإنه ما من وجع يعالج بالكي
الا وله دواء يغنى عنه ليس فيه احراق فالاحراق بالنار جرح مخرب للبنية محذور
السراية مع الاستغناء عنه بخلاف الفصد والحجامة فان سرايتهما بعيدة ولا يسد مسدها
غيرهما ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الكي دون الرقي // حديث نهى
رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الكي دون الرقى رواه البخاري من حديث ابن عباس
وأنهى أمتي عن الكي وفي الصحيحين من حديث عائشة رخص رسول الله صلى الله عليه و سلم
في الرقية من كل ذي حمة //
وكل واحد منهما بعيد عن التوكل وروى ان عمران بن الحصين اعتل فأشاروا عليه بالكي
فامتنع فلم يزالوا به وعزم عليه الامر حتى اكتوى فكان يقول كنت أرى نورا واسمع
صوتا وتسلم علي الملائكة فلما اكتويت انقطع ذلك عني وكان يقول اكتوينا كيات فوالله
ما أفلحت ولا أنجحت ثم تاب من ذلك وأناب إلى الله تعالى فرد الله تعالى عليه ما
كان يجد من أمر الملائكة وقال لمطرف بن عبد الله : ألم تر إلى الملائكة التي كان
أكرمني الله بها قد ردها الله تعالى علي ! بعد أن كان أخبره بفقدها : فاذن الكي
وما يجري مجراه هو الذي لا يليق بالمتوكل لأنه يحتاج في استنباطه إلى تدبير ثم هو
مذموم ويدل ذلك على شدة ملاحظة الأسباب وعلى التعمق فيها والله أعلم
بيان ان ترك التداوي قد يحمد في بعض الأحوال ويدل على قوة التوكلوان ذلك
لا يناقض فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم
اعلم ان الذين تداووا من السلف لا ينحصرون ولكن قد ترك التداوي أيضا جماعة من
الأكابر فربما يظن أن ذلك نقصان لأنه لو كان كمالا لتركه رسول الله صلى الله عليه
و سلم اذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله
وقد روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه انه قيل له لو دعونا لك طبيبا فقال الطبيب
قد نظر الي وقال : اني فعال لما أريد
وقيل لأبي الدرداء في مرضه ما تشتكي قال ذنوبي قيل فما تشتهي قال مغفرة ربي قالوا
ألا ندعو لك طبيبا قال الطبيب أمرضني وقيل لأبي ذر وقد رمدت عيناه لو داويتهما قال
اني عنهما مشغول فقيل لو سألت الله تعالى أن يعافيك فقال أسأله فيما هو أهم على
منهما
وكان الربيع بن خثيم أصابه فالج فقيل له لو تداويت فقال قد هممت ثم ذكرت عادا
وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكان فيهم الأطباء فهلك المداوي والمداوى
ولم تغن الرقي شيئا
وكان أحمد بن حنبل يقول أحب لمن اعتقد التوكل وسلك هذا الطريق ترك التداوي من شرب
الدواء وغيره وان كان به علل فلا يخبر المتطبب بها أيضا إذا سأله
وقيل لسهل متى يصح للعبد التوكل قال إذا
دخل عليه الضرر في جسمه والنقص في ماله فلم يلتفت إليه شغلا بحاله وينظر إلى قيام
الله تعالى عليه
فإذا منهم من ترك التداوي وراءه ومنهم من كرهه ولا يتضح وجه الجمع بين فعل
رسولالله صلى الله عليه و سلم وأفعالهم الا بحصر الصوارف عن التداوي
فنقول ان لترك التداوي أسبابا السبب الأول ان يكون المريض من المكاشفين وقد كوشف
بأنه انتهى أجله وأن الدواء لا ينفعه ويكون ذلك معلوما عنده تارة برؤيا صادقة
وتارة بحدس وظن وتارة بكشف محقق ويشبه ان يكون ترك الصديق رضي الله عنه التداوي من
هذا السبب فانه كان من المكاشفين فإنه قال لعائشة رضي الله عنها في أمر الميراث
إنما هن أختاك وانما كان لها أخت واحدة ولكن كانت امرأته حاملا فولدت أنثى فعلم
انه كان قد كوشف بأنها حامل بأنثى فلا يبعد ان يكون قد كوشف ايضا بانتهاء اجله
والا فلا يظن به انكار التداوي وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه و سلم تداوي وامر
به السبب الثاني ان يكون المريض مشغولا بحاله وبخوف عاقبته واطلاع الله تعالى عليه
فينسيه ذلك ألم المرض فلا يتفرغ قلبه للتداوي شغلا بحاله وعليه يدل كلام أبى ذر اذ
قال أنى عنهما مشغول وكلام ابي الدرداء اذ قال انما اشتكي ذنوبي فكان تألم قلبه
خوفا من ذنوبه اكثر من تألم بدنه بالمرض ويكون هذا كالمصاب بموت عزيز من أعزته أو
كالخائف الذي يحمل إلى ملك من الملوك ليقتل إذا قيل له الا تاكل وانت جائع فيقول
أنا مشغول عن ألم الجوع فلا يكون ذلك انكارا لكون الاكل نافعا من الجوع ولا طعنا
فيمن اكل ويقرب من هذ اشتغال سهل حيث قيل له ما القوت فقال هو ذكر الحي القيوم
فقيل انما سألناك عن القوام فقال : القوام هو العلم قيل سألناك عن الغذاء قال
الغذاء هو الذكر قيل سألناك عن طعمة الجسد قال مالك وللجسد دع من تولاه أولا
يتولاه آخرا : اذا دخل عليه علة فرده إلى صانعه اما رايت الصنعة اذا عيبت ردوها
إلى صانعها حتى يصلحها السبب الثالث ان تكون العلة مزمنة والدواء الذي يؤمر به
بالإضافة إلى علته موهوم النفع جار مجري الكي والرقية فيتركه المتوكل واليه يشير
قول الربيع بن خثيم اذ قال ذكرت عادا وثمود وفيهم الأطباء فهلك المداوي والمداوى
أي ان الدواء غير موثوق به وهذا قد يكون كذلك في نفسه وقد يكون عند المريض كذلك
لقلة ممارسته للطب وقلة تجربته له فلا يغلب على ظنه كونه نافعا ولا شك في أن
الطبيب المجرب اشد اعتقادا لي الأدوية من غيره فتكون الثقة والظن بحسب الاعتقاد
والاعتقاد بحسب التجربة وأكثر من ترك التداوي من العباد والزهاد هذا مستندهم لانه
يبقى الدواء عنده شيئا موهوما لا اصل له وذلك صحيح في بعض الأدوية عند من عرف
صناعة الطب غير صحيح في البعض ولكن غير الطبيب قد ينظر إلى الكل نظرا واحدا فيرى
التداوي تعمقا في الأسباب كالكي والرقي فيتركه السبب الرابع ان يقصد العبد بترك
التداوي استبقاء المرض لينال ثواب المرض بحسن الصبر على بلاء الله تعالى أو ليجرب
نفسه في القدرة على الصبر فقد ورد في ثواب المرض ما يكثر ذكره فقد قال عليه السلام
نحن معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى العبد على قدر إيمانه
فان كان صلب الإيمان شدد عليه البلاء وان كان في إيمانه ضعف حفف عنه البلاء // وفي
الخبر ان الله تعالى يجرب عبده بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار // حديث نحن
معاشر الأنبياء أشد الناس بلاء ثم الأمثل فالأمثل الحديث رواه أحمد وأبو يعلي
والحاكم وصححه على شرط مسلم نحوه مع اختلاف وقد تقدم مختصرا ورواه الحاكم ايضا من
حديث سعد بن ابي وقاص وقال صحيح على شرط الشيخين
فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز لا يزبد
ومنهم دون ذلك ومنهم من يخرج اسود محترقا حديث أن الله تعالى يجرب عبد بالبلاء كما
يجرب أحكم ذهبه الحديث رواه الطبراني من حديث أبي أمامة بسند ضعيف // وفي حديث من
طريق أهل البيت أن الله تعالى إذا احب عبدا ابتلاه فان صبر اجتباه فان رضي اصطفاه
حديث من طريق أهل البيت إن الله إذا أحب عبدا // وقال صلى الله عليه و سلم تحبون
ان تكونوا كالحمر الضالة لا تمرضون ولا تسقمون // // حديث تحبون ان تكونوا كالحمر
الضالة لا تمرضون ولا تسقمون أخرجه ابن ابي عاصم في الآحاد والمثاني وأبو نعيم
وابن عبد البر في الصحابة والبيهقي في الشعب من حديث ابي فاطمة وهو صدر حديث ان
الرجل تكون له المنزلة عند الله الحديث وقد تقدم قال ابن مسعود رضي الله عنه تجد
المؤمن أصح شىء قلبا وأمرضه جسما وتجد المنافق اصح شئ جسما وأمرضه قلبا فلما عظم
الثناء على المرض والبلاء احب قوم المرض واغتنموه لينالوا ثواب الصبر عليه فكان
منهم من له علة يخفيها ولا يذكرها للطبيب ويقاسي العلة ويرضى بحكم الله تعالى
ويعلم أن الحق اغلب على قلبه من أن يشغله المرض عنه وإنما يمنع المرض جوارحه
وعلموا ان صلاتهم قعودا مثلا مع الصبر على قضاء الله تعالى افضل من الصلاة قياما
مع العافية والصحة ففي الخبر ان الله تعالى يقول لملائكته : اكتبوا لعبدي الصالح
ما كان يعمله فانه في وثاقي ان أطلقته أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خير من دمه
وان توفيته توفيته إلى رحمتي // // حديث ان الله يقول للملائكة : اكتبو لعبدي صالح
ما كان يعمل فانه في وثاقي الحديث أخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر وقد
تقدم وقال صلى الله عليه و سلم افضل الأعمال ما أكرهت عليه النفوس // حديث افضل
الاعمال ما أكرهت عليه النفوس تقدم ولم أجده مرفوعا فقيل : معناه ما دخل عليه من
الامراض والمصائب واليه الاشارة بقوله تعالى وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم وكان
سهل يقول ترك التداوي وان ضعف عن الطاعات وقصر عن الفرائض أفضل من التداوي لأجل
الطاعات وكانت به علة عظيمة فلم يكن يتداوى منها وكان يداوي الناس منها وكان اذا
رأى العبد يصلى من قعود ولا يستطيع اعمال البر من الامراض فيتداوى للقيام إلى
الصلاة والنهوض إلى الطاعات يعجب من ذلك ويقول صلاته من قعود مع الرضا بحاله أفضل
من التداوي للقوة والصلاة قائما وسئل عن شرب الدواء فقال كل من دخل في شىء من
الدواء فانما هو سعة من الله تعالى لأهل الضعف ومن لم يدخل في شىء فهو افضل لانه
ان اخذ شيئا من الدواء ولو كان هو الماء البارد يسئل عنه لم أخذه ومن لم يأخذ فلا
سؤال عليه وكان مذهبه ومذهب البصريين تضعيف النفس بالجوع وكسر الشهوات لعلمهم بأن ذرة
من اعمال القلوب مثل الصبر والرضا والتوكل افضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح
والمرض لا يمنع من أعمال القلوب إلا إذا كان ألمه غالبا مدهشا وقال سهل رحمه الله
علل الأجسام رحمة الله وعلل القلوب عقوبة السبب الخامس ان يكون العبد قد سبق له
ذنوب وهو خائف منها عاجز عن تكفيرها فيرى المرض اذا طال تكفيرا فيترك التداوي خوفا
من أن يسرع زوال المرض فقد قال صلى الله عليه و سلم لا تزال الحمى والمليلة بالعبد
حتى يمشي على الأرض كالبردة ما عليه ذنب ولا خطيئة // حديث لا تزال الحمى والمليلة
بالعبد حتى يمشي على الأرض كالبردة ما عليه خطيئة أخرجه أبو يعلي وابن عدي من حديث
ابي هريرة والطبراني من حديث ابي الدرداء نحوه وقال الصداع بدل الحمى وللطبراني في
الأوسط من حديث انس مثل المريض اذا صح وبرأ من مرضه كمثل البردة تقع من السماء تقع
في صفائها ولونها وأسانيده ضعيفة // وفي الخبر حمى يوم كفارة سنة // // حديث حمى
يوم كفارة سنة رواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث ابن مسعود بسند ضعيف وقال ليلة
بدل يوم فقيل لأنها تهد قوة سنة وقيل للإنسان ثلثمائة وستون مفصلا فتدخل الحمى
جميعها ويجد من كل واحد ألما فيكون كل // حديث ان الله تعالى يجرب عبده بالبلاء
كما يجرب احدكم ذهبه الحديث رواه الطبراني من حديث ابي امامة بسند ضعيف
ألم كفارة يوم ولما ذكر صلى الله عليه و
سلم كفارة الذنوب بالحمى سأل زيد بن ثابت ربه عز و جل أن لا يزال محموما فلم تكن
الحمى تفارقه حتى مات رحمه الله وسأل ذلك طائفة من الأنصار فكانت الحمى لا تزايلهم
// حديث لما ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم كفارة الذنوب بالحمى سأل زيد بن
ثابت أن لا يزال محموما الحديث وسأل ذلك طائفة من الأنصار : أخرجه أحمد وأبو يعلي
من حديث أبي سعيد الخدري باسناد جيد ان رجلا من المسلمين قال يارسول الله ارايت
هذه الأمراض تصيبنا مالنا فيها قال كفارات قال أبي : وان قلت قال فان شوكة فما
فوقها قال فدعا أبي أن لا يفارقه الوعك حتى يموت الحديث وللطبراني في الأوسط من
حديث أبي بن كعب أنه قال يارسول الله ما جزاء الحمى قال تجري الحسنات على صاحبها
ما اختلج عليه قدم أو ضرب عليه عرق فقال : اللهم اني أسألك حمى لا تمنعني خروجا في
سبيلك ولا خروجا إلى بيتك ولا لمسجد نبيك الحديث والاسناد مجهول قاله علي بن
المديني // ولما قال صلى الله عليه و سلم من أذهب الله كريمتيه لم يرض له ثوابا
دون الجنة حديث من أذهب الله كريمتيه لم يرضى له ثوابا دون الجنة تقدم المرفوع منه
دون قوله قال فلقد كان من الأنصار من يتمنى العمى وقال عيسى عليه السلام لا يكون
عالما من لم يفرح بدخول المصائب والأمراض على جسده وماله لما يرجو في ذلك من كفارة
خطاياه وروي ان موسى عليه السلام نظر إلى عبد عظيم البلاء فقال : يا رب ارحمه فقال
تعالى : كيف أرحمه فيما به أرحمه أي به أكفر ذنوبه وأزيد في درجاته السبب السادس
أن يستشعر العبد في نفسه مبادىء البطر والطغيان بطول مدة الصحة فيترك التداوي خوفا
من ان يعاجله زوال المرض فتعاوده الغفلة والبطر والطغيان أو طول الأمل والتسويف في
تدارك الفائت وتأخير الخيرات فإن الصحة عبارة عن قوة الصفات وبها ينبعث الهوى
وتتحرك الشهوات وتدعو إلى المعاصي واقلها ان تدعو إلى التنعم في المباحات وهو
تضييع الأوقات واهمال للربح العظيم في مخالفة النفس وملازمة الطاعات واذا أراد
الله بعبد خيرا لم يخله عن التنبه بالأمراض والمصائب ولذلك قيل لا يخلو المؤمن من
علة أو قلة او زلة
وقد روى وقد روي ان الله تعالى يقول : الفقر سجني والمرض قيدي أحبس به من أحب من
خلقي فإذا كان في المرض حبس عن الطغيان وركوب المعاصي فأي خير يزيد عليه ولم ينبغ
ان يشتغل بعلاجه من يخاف ذلك على نفسه فالعافية في ترك المعاصي فقد قال بعض
العارفين لإنسان كيف كنت بعدي قال في عافية قال ان كنت لم تعص الله عز و جل فأنت
في عافية وان كنت قد عصيته فأي داء أدوا من المعصية ما عوفي من عصي الله وقال على
كرم الله وجهه لما رأى زينة النبط بالعراق في يوم عيد ما هذا الذي أظهروه قالوا :
يا أمير المؤمنين هذا يوم عيد لهم فقال : كل يوم لا يعصى الله عز و جل فيه فهو لنا
عيد وقال تعالى من بعد ما أراكم ما تحبون قيل العوافي ان الانسان ليطغى ان رآه
استغنى وكذلك اذا استغنى بالعافية قال بعضهم : انما قال فرعون : انا ربكم الأعلى
لطول العافية لأنه لبث أربعمائة سنة لم يصدع له رأس ولم يحم له جسم ولم يضرب عليه
عرق فادعى الربوبية لعنه الله ولو أخذته الشقيقة يوما لشغلته عن الفضول فضلا عن
دعوى الربوبية وقال صلى الله عليه و سلم أكثروا من ذكر هاذم اللذات حديث اكثروا
ذكر هاذم اللذات أخرجه الترمذي وقال : حسن غريب والنسائي وابن ماجه من حديث أبي
هريرة وقد تقدم // وقيل : الحمى رائد الموت فهو مذكر له ودافع للتسويف
وقال تعالى أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم
يذكرون قيل يفتنون بأمراض يختبرون بها ويقال أن العبد اذا مرض مرضتين ثم لم يتب
قال له ملك الموت : يا غافل جاءك مني رسول بعد رسول فلم تجب
وقد كان السلف لذلك يستوحشون إذا خرج عام
ولم يصابوا فيه بنقص في نفس أو مال وقالوا لا يخلو المؤمن في كل أربعين يوما أن
يروع روعة أو يصاب ببلية حتى روى أن عمار بن ياسر تزوج امرأة فلم تكن تمرض فطلقها
وأن النبي صلى الله عليه و سلم عرض عليه امرأة فحكى من وصفها حتى هم أن يتزوجها
فقيل وإنها ما مرضت قط فقال لا حاجة لي فيها // حديث عرضت عليه أمرأة فذكر من
وصفها حتى هم أن يتزوجها فقيل فإنها ما مرضت قط قال لا حاجة لي فيها أخرجه أحمد من
حديث أنس بنحوه بإسناد جيد وذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم الأمراض والأوجاع
كالصداع وغيره فقال رجل وما الصداع ما أعرفه فقال صلى الله عليه و سلم إليك عني من
أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا وهذا // حديث ذكر رسول الله صلى
الله عليه و سلم الأمراض والأوجاع كالصداع وغير فقال رجل وما الصداع ما أعرفه فقال
إليك عنى الحديث رواه أبو داود من حديث عارم البرام أخي الحضر بنوه وفي إسناده من
لم يسم لانه ورد في الخبر الحمى حظ كل مؤمن من النار حديث الحمى حظ كل مؤمن من
النار رواه البزار من حديث عائشة وأحمد ومن حديث عائشة وأحمد من حديث أبي أمامة
والطبراني في الأوسط من حديث أنس وأبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن
مسعود وحديث أنس ضعيف وباقيها حسان وفي حديث أنس وعائشة رضي الله عنهما قيل يا
رسول الله هل يكون مع الشهداء يوم القيامة غيرهم قال نعم من ذكر الموت كل يوم عشرين
مرة حديث أنس وعائشة حديث أنس وعائشة قيل يا رسل الله هل يكون مع الشهداء يوم
القيامة غيرهم فقال نعم من ذكر الموت كل يوم عشرين مرة لم أقف له على إسناده //
وفي لفظ آخر الذي يذكر ذنوبه فتحزنه ولا شك في أن ذكر الموت على المريض أغلب فلما
أن كثرت فوائد المرض رأى جماعة ترك الحيلة في زوالها إذ رأوا لأنفسهم مزيدا فيها
لا من حيث رأوا التداوي نقصانا وكيف يكون نقصانا وقد فعل ذلك صلى الله عليه و سلم
بيان الرد على من قال : ترك التداوي أفضل بكل حال
فلو قال قائل : انما فعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ليسن لغيره والا فهو حال
الضعفاء ودرجة الأقوياء توجب التوكل بترك الدواء فيقال : ينبغي أن يكون من شروط
التوكل ترك الحجامة والفصد عند تبغ الدم
فإن قيل : إن ذلك أيضا شرط فليكن من شرطه أن تلدغه العقرب أو الحية فلا ينحيها عن
نفسه إذ الدم يلدغ الباطن والعقرب تلدغ الظاهر فأي فرق بينهما فإن قال : وذلك أيضا
شرط التوكل فيقال : ينبغي أن لا يزيل لدغ العطش بالماء ولدغ الجوع بالخبز ولدغ
البرد بالجبة وهذا لا قائل به
ولا فرق بين هذه الدرجات فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى
وأجرى بها سنته ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روى عن عمر رضي الله عنه وعن
الصحابه في قصة الطاعون فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن
به موتا عظيما ووباء ذريعا فافترق الناس فرقتين فقال بعضهم لا ندخل على الوباء
فنلقى بأيدينا إلى التهلكة وقالت طائفة أخرى : بل ندخل ونتوكل ولا نهرب من قدر
الله تعالى ولا نفر من الموت فنكون كمن قال الله تعالى فيهم ألم تر إلى الذين
خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه فقال نرجع ولا
ندخل على الوباء فقال له المخالفون في رأيه أنفر من قدر الله تعالى قال عمر نعم
نفر من قدر الله إلى قدر الله ثم ضرب لهم مثلا فقال أرأيتم لو كان لأحدكم غنم فهبط
واديا له شعبتان : إحداهما مخصبة : والأخرى مجدبة أليس إن رعى المخصبة رعاها بقدر
الله تعالى وإن رعى المجدبة رعاها بقدر الله تعالى فقالوا : نعم ثم طلب عبد الرحمن
بن عوف ليسأله عن رأيه وكان غائبا فلما أصبحوا جاء
عبد الرحمن فسأله عمر عن ذلك فقال : عندي
فيه يا أمير المؤمنين شىء سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال عمر : الله
أكبر فقال عبد الرحمن : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول اذا سمعتم
بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه واذا وقع في أرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه
// حديث عبدالرحمن بن عوف إذا سمعتم بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه الحديث وفي
أوله قصة خروج عمرو بالناس إلى الجابيه وأنه بلنهم أن بالشام وباء الحديث رواه
البخاري ففرح عمر رضي الله عنه بذلك وحمد الله تعالى إذ وافق رأيه ورجع من الجابية
بالناس فإذن كيف اتفق الصحابة كلهم على ترك التوكل وهو من أعلى المقامات إن كان
أمثال هذا من شروط التوكل
فإن قلت : فلم نهى عن الخروج من البلد الذي فيه الوباء وسبب الوباء في الطب الهواء
وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر والهواء هو المضر وترك التوكل في أمثال هذا
مباح وهذا لا يدل على المقصود ولكن الذي ينقدح فيه والعلم عند الله تعالى أن
الهواء لا يضر من حيث إنه يلاقى ظاهر البدن بل من حيث دوام الاستنشاق له فانه اذا
كان فيه عفونة ووصل إلى الرئة والقلب وباطن الأحشاء أثر فيها بطول الاستنشاق فلا
يظهر الوباء على الظاهر إلا بعد طول التأثير في الباطن فالخروج من البلد لا يخلص
غالبا من الأثر الذي استحكم من قبل ولكن يتوهم الخلاص فيصير هذا من جنس الموهومات
كالرقي والطيرة وغيرهما ولو تجرد هذا المعنى لكان مناقضا للتوكل ولم يكن منهيا عنه
ولكن صار منهيا عنه لانه انضاف اليه أمر آخر وهو أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لما
بقي في البلد إلا المرضى الذين أقعدهم الطاعون فانكسرت قلوبهم وفقدوا المتعهدين
ولم يبق في البلد من يسقيهم الماء ويطعمهم الطعام وهم يعجزون عن مباشرتهما بأنفسهم
فيكون ذلك سعيا في اهلاكهم تحقيقا وخلاصهم منتظر كما أن خلاص الأصحاء منتظر فلو
أقاموا لم تكن الاقامة قاطعة بالموت ولو خرجوا لم يكن الخروج قاطعا بالخلاص وهو
قاطع في اهلاك الباقين والمسلمون كالبنيان يشد بعضه بعضا والمؤمنون كالجسد الواحد
اذا اشتكى منه عضو تداعى اليه سائر أعضائه فهذا هو الذي ينقدح عندنا في تعليل
النهي وينعكس هذا فيمن لم يقدم بعد على البلد فانه لم يؤثر الهواء في باطنهم ولا
بأهل البلد حاجة إليهم نعم لو لم يبق بالبلد إلا مطعونون وافتقروا إلى المتعهدين
وقدم عليهم قوم فربما كان ينقدح استحباب الدخول ههنا لأجل الإعانة ولا ينهى عن
الدخول لأنه تعرض لضرر موهوم على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين وبهذا شبه الفرار
من الطاعون في بعض الأخبار بالفرار من الزحف // حديث تشبيه الفرار من الطاعون
بالفار من الزحف رواه أحمد من حديث عائشة بإسناد جيد ومن حديث جابر بإسناد ضعيف
وقد تقدم لأن فيه كسرا لقلوب بقية المسلمين وسعيا في اهلاكهم فهذه أمور دقيقة فمن
لا يلاحظها وينظر إلى ظواهر الأخبار والآثار يتناقض عنده أكثر ما سمعه وغلط العباد
والزهاد فى مثل هذا كثير وانما شرف العلم وفضيلته لأجل ذلك فإن قلت : ففي ترك
التداوي فضل كما ذكرت فلم لم يترك رسول الله صلى الله عليه و سلم التداوي لينال
الفضل فنقول : فيه فضل بالإضافة إلى من كثرت ذنوبه ليكفرها أو خاف على نفسه طغيان
العافية وغلبة الشهوات أو احتاج إلى ما يذكره الموت لغلبة الغفلة أو احتاج إلى نيل
ثواب الصابرين لقصوره عن مقامات الراضين والمتوكلين أو قصرت بصيرته عن الاطلاع على
ما أودع الله تعالى في الأدوية من لطائف المنافع حتى صار في حقه موهوما كالرقى أو
كان شغله بحاله يمنعه عن التداوي وكان التداوي يشغله عن حاله لضعفه عن الجمع فإلى
هذه المعاني رجعت الصوارف في ترك التداوي وكل ذلك كمالات بالإضافة إلى بعض الخلق
ونقصان بالإضافة إلى درجة رسول الله صلى الله عليه و سلم بل كان مقامه أعلى من هذه
المقامات كلها إذ كان حاله يقتضى أن تكون // حديث عبد الرحمن بن عوف اذا سمعتم
بالوباء في أرض فلا تقدموا عليه الحديث وفي أوله قصة خروج عمر بالناس إلى الجابية
وأنه بلغهم أن بالشام وباء الحديث رواه البخاري // حديث تشبيه الفرار من الطاعون
بالفار من الزحف رواه أحمد من حديث عائشة بإسناد جيد ومن حديث جابر باسناد ضعيف
وقد تقدم
مشاهدته على وتيرة واحدة عند وجود
الأسباب وفقدها فانه لم يكن له نظر في الأحوال الا إلى مسبب الأسباب ومن كان هذا
مقامه لم تضره الأسباب كما أن الرغبة في المال نقص والرغبة عن المال كراهية له وان
كانت كمالا فهي أيضا نقص بالإضافة إلى من يستوي عنده وجود المال وعدمه فاستواء
الحجر والذهب أكمل من الهرب من الذهب دون الحجر وكان حاله صلى الله عليه و سلم
استواء المدر والذهب عنده وكان لايمسكه لتعليم الخلق مقام الزهد فانه منتهى قوتهم
لا لخوفه على نفسه من امساكه فانه كان أعلى رتبة من أن تغره الدنيا وقد عرضت عليه
خزائن الأرض فأبى أن يقبلها فكذلك يستوى عنده مباشرة الأسباب وتركها لمثلهذه
المشاهده وإنما لم يترك استعمال الدواء جريا على سنة الله تعالى وترخيصا لأمته
فيما تمس إليه حاجتهم مع أنه لا ضرر فيه بخلاف ادخار الأموال فإن ذلك يعظم ضرره نعم
التداوي لا يضر الامن حيث رؤية الدواء نافعا دون خالق الدواء وهذا قد نهى عنه ومن
حيث أنه يقصد به الصحة ليستعان بها على المعاصي وذلك منهى عنه والمؤمن في غالب
الأمر لا يقصد ذلك وأحد من المؤمنين لا يرى الدواء نافعا بنفسه بل من حيث إنه جعله
الله تعالى سببا للنفع كما لا يرى الماء مروريا ولا الخبز مشبعا فحكم التداوي في
مقصوده كحكم الكسب فانه ان اكتسب للاستعانة على الطاعة أو على المعصية كان له
حكمها وان اكتسب للتنعم المباح فله حكمه فقد ظهر بالمعاني التي أوردناها أن ترك
التداوي قد يكون أفضل في بعض الأحوال وأن التداوي قد يكون أفضل في بعض وأن ذلك
يختلف باختلاف الاحوال والأشخاص والنيات وأن واحدا من الفعل والترك ليس شرطا في
التوكل الا ترك الموهومات كالكي والرقى فإن ذلك تعمق في التدبيرات لا يليق
بالمتوكلين
بيان أحوال المتوكلين في إظهار المرض وكتمانه
أعلم أن كتمان المرض وإخفاء الفقر وأنواع البلاء من كنوز البر وهو من أعلى
المقامات : لأن الرضا بحكم الله والصبر على بلائه معاملة بينه وبين الله عز و جل
فكتمانه أسلم عن الآفات
ومع هذا فالإظهار لا بأس به إذا صحت فيه النية والمقصد ومقاصد الإظهار ثلاثة :
الأول : أن يكون غرضه التداوي فيحتاج إلى ذكره للطبيب فيذكره لا في معرض الشكاية
بل في معرض الحكاية لما ظهر عليه من قدرة الله تعالى فقد كان بشر يصف لعبد الرحمن
المطبب أوجاعه وكان أحمد بن حنبل يخبر بأمراض يجدها ويقول : انما أصف قدرة الله
تعالى في
الثاني : أن يصف لغير الطبيب وكان ممن يقتدى به وكان مكينا في المعرفة فأراد من
ذكره أن يتعلم منه حسن الصبر في المرض بل حسن الشكر بأن يظهر أنه يرى أن المرض
نعمة فيشكر عليها فيتحدث به كما يتحدث بالنعم قال الحسن البصري : اذا حمد المريض
الله تعالى وشكره ثم ذكر أوجاعه لم يكن ذلك شكوى
الثالث : أن يظهر بذلك عجزه وافتقاره إلى الله تعالى وذلك يحسن ممن تليق به القوة
والشجاعة ويستبعد منه العجز كما روى أنه قيل لعلي في مرضه رضي الله عنه كيف أنت
قال : بشر فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم كرهوا ذلك وظنوا أنه شكاية فقال : أتجلد على
الله فأحب أن يظهر عجزه وافتقاره مع ما علم به من القوة والضراوة وتأدب فيه بأدب
النبي صلى الله عليه و سلم إياه حيث مرض علي كرم الله وجهه فسمعه // حديث : أنه
عرضت عليه خزائن الأرض فأبى ان يقبلها ولفظه : عرضت عليه مفاتيح خزائن السماء
وكنوز الأرض فردها
عليه السلام وهو يقول : اللهم صبرني على
البلاء فقال له صلى الله عليه و سلم لقد سألت الله تعالى البلاء فسل الله العافية
// حديث مرض على فسمعه رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقول اللهم صبرني على
البلاء فقال لقد سألت الله البلاء فسل الله العافيه تقدم مع إختلاف
فبهذه النيات يرخص في ذكر المرض وإنما يشترط ذلك لأن ذكره شكاية والشكوى من الله
تعالى حرام كما ذكرته في تحريم السؤال على الفقراء الا بضرورة ويصير الإظهار شكاية
بقرينة السخط وإظهار الكراهة لفعل الله تعالى فإن خلا عن قرينه السخط وعن النيات
التي ذكرناها فلا يوصف بالتحريم ولكن يحكم فيه بأن الأولى تركه لأنه ربما يوهم
الشكاية ولأنه ربما يكون فيه تصنع ومزيد في الوصف على الموجود من العلة ومن ترك
التداوي توكلا فلا وجه في حقه للإظهار لأن الاستراحة إلى الدواء أفضل من الاستراحة
إلى الإفشاء وقد قال بعضهم : من بث لم يصبر وقيل في معنى قوله فصبرجميل لا شكوى
فيه وقيل ليعقوب عليه السلام : ما الذي أذهب بصرك قال مر الزمان وطول الأحزان
فأوحى الله تعالى اليه تفرغت لشكواي إلى عبادي فقال يا رب أتوب إليك : وروي عن
طاوس ومجاهد أنهما قالا : يكتب على المريض أنينه في مرضه وكانوا يكرهون أنين المرض
لأنه إظهار معنى يقتضي الشكوى حتى قيل ما أصاب إبليس لعنه الله من أيوب عليه
السلام إلا أنينه في مرضه فجعل الأنين حظه منه وفي الخبر اذا مرض العبد أوحى الله
تعالى إلى الملكين انظرا ما يقول لعواده فإن حمد الله وأثنى بخير دعوا له وأن شكا
وذكر شرا قالا كذلك تكون // حديث إذا مرض العبد أوحى الله إلى الملكين انظر ما
يقول لعواده الحديث تقدم وإنما كره بعض العباد العيادة خشية الشكاية خوف الزيادة
في الكلام فكان بعضهم اذا مرض أغلق بابه فلم يدخل عليه أحد حتى يبرأ فيخرج إليهم
منهم : فضيل ووهيب وبشر وكان فضيل يقول : اشتهي أن أمرض بلا عواد وقال : لا أكره العلة
الا لأجل العواد رضي الله عنه وعنهم أجمعين كمل كتاب التوحيد والتوكل بعون الله
وحسن توفيقه يتلوه إن شاء الله تعالى :
كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا
والله سبحانه وتعالى الموفق كتاب المحبة والشوق والأنس والرضا وهو الكتاب السادس
من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزه أوليائه عن الالتفات إلى زخرف الدنيا ونضرته وصفى أسراهم من
ملاحظة غير حضرته ثم استخلصها للعكوف على بساط عزته ثم تجلى لهم بأسمائه وصفاته
حتى أشرقت بأنوار معرفته ثم // حديث مرض علي فسمعه رسول الله صلى الله عليه و سلم
وهو يقول : اللهم صبرني على البلاء فقال لقد سألت الله البلاء فسل الله العافية
تقدم مع اختلاف // حديث اذا مرض العبد أوحى الله إلى الملكين انظرا ما يقول لعواده
الحديث تقدم
كشف لهم عن سبحات وجهه حتى احترقت بنار
محبته ثم احتجب عنها بكنه جلاله حتى تاهت في بيداء كبريائه وعظمته فكلما اهتزت
لملاحظة كنه الجلال غشيها من الدهش ما اغبر في وجه العقل وبصيرته وكلما همت
بالانصراف آيسة نوديت من سرادقات الجمال صبرا أيها الآيس عن نيل الحق بجهله وعجلته
فبقيت بين الرد والقبول والصد والوصول غرقى في بحر معرفته ومحترقة بنار محبته
والصلاة على محمد خاتم الأنبياء بكمال نبوته وعلى آله وأصحابه سادة الخلق وأئمته
وقادة الحق وأزمته وسلم كثيرا
أما بعد : فان المحبة لله هي الغاية القصوى من المقامات والذروة العليا من الدرجات
فما بعد إدراك المحبة مقام إلا وهو ثمرة من ثمارها وتابع من توابعها كالشوق والأنس
والرضا وأخواتها ولا قبل المحبة مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها كالتوبة والصبر
والزهد وغيرها وسائر المقامات إن عز وجودها فلم تخل القلوب عن الإيمان بإمكانها
وأما محبة الله تعالى فقد عز الإيمان بها حتى أنكر بعض العلماء إمكانها وقال : لا
معنى لها إلا المواظبة على طاعة الله تعالى وأما حقيقة المحبة فمحال إلا مع الجنس
والمثال ولما أنكروا المحبة أنكروا الأنس والشوق ولذة المناجاة وسائر لوازم الحب
وتوابعه ولا بد من كشف الغطاء عن هذا الأمر
ونحن نذكر في هذا الكتاب : بيان شواهد الشرع في المحبة ثم بيان حقيقتها وأسبابها
ثم بيان أن لا مستحق للمحبة إلا الله تعالى ثم بيان أن أعظم اللذات لذة النظر إلى
وجه الله تعالى ثم بيان سبب زيادة لذة النظر في الآخرة على المعرفة في الدنيا ثم
بيان الأسباب المقوية لحب الله تعالى ثم بيان السبب في تفاوت الناس في الحب ثم
بيان السبب في قصور الأفهام عن معرفة الله تعالى ثم بيان معنى الشوق ثم بيان محبة
الله تعالى للعبد ثم القول في علامات محبة العبد لله تعالى ثم بيان معنى الأنس
بالله تعالى ثم بيان معنى الانبساط في الأنس ثم القول في معنى الرضا وبيان فضيلته
ثم بيان حقيقته ثم بيان أن الدعاء وكراهة المعاصي لا تناقضه وكذا الفرار من
المعاصي ثم بيان حكايات وكلمات للمحبين متفرقة فهذه جميع بيانات هذا الكتاب
بيان شواهد الشرع في حب العبد لله تعالى
أعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم فرض وكيف
يفرض مالا وجود له وكيف يفسر الحب بالطاعة والطاعة تبع الحب وثمرته فلا بد وأن
يتقدم الحب ثم بعد ذلك يطيع من أحب ويدل على إثبات الحب لله تعالى قوله عز و جل
يحبهم ويحبونه وقوله تعالى والذين آمنوا أشد حبا لله وهو دليل على إثبات الحب
واثبات التفاوت فيه وقد جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم الحب لله من شرط
الإيمان في أخبار كثيرة إذ قال أبو رزين العقيلى : يا رسول الله ما الإيمان قال أن
يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما // حديث أبو رزين العقيلي أنه قال يا رسول
الله مالإيمان قال أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما أخرجه أحمد بزيادة في
أوله وفي حديث آخر لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما //
حديث لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما متفق عليه من حديث
أنس بلفظ لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى أكون أحب إليه من أهلاه وماله وذكر بزيادة //
وفي حديث آخر لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين //
حديث لا يؤمن العبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله ونفسه والناس أجمعين وفي
رواية ومن نفسه متفق عليه من حديث أنس واللفظ لمسلم دون قوله ومن نفسه وقال
البخاري من والده وولده وله من حديث عبد الله بن هشام : قال عمر يا رسول الله لأنت
أحب إلي من كل شىء إلا نفسي فقال لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك
فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي فقال : الآن يا عمر
نفسه كيف وقد قال تعالى قل إن كان آباؤكم
وأبناؤكم وأخوانكم الآية وانما أجرى ذلك في معرض التهديد والإنكار وقد أمر رسول
الله صلى الله عليه و سلم بالمحبة فقال أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني
لحب الله إياي // // حديث أحبوا الله لما غدوكم به من نعمه الحديث أخرجه الترمذي
من حديث ابن عباس وقال حسن غريب ويروى أن رجلا قال : يا رسول الله أني أحبك فقال
صلى الله عليه و سلماستعد للفقر فقال إني أحب الله تعالى فقال استعد للبلاء // //
حديث ان رجلا قال يا رسول الله أني أحبك فقال استعد للفقر الحديث أخرجه الترمذي من
حديث عبد الله بن منفل بلف فأعد للفقر تجفاف دون أخر الحديث وقال حسن غريب وعن عمر
رضى الله عنه قال : نظر النبي صلى الله عليه و سلم إلى مصعب بن عمير مقبلا وعليه
إهاب كبش قد تنطق له فقال النبي صلى الله عليه و سلمانظروا إلى هذا الرجل الذي نور
الله قلبه لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب الله ورسوله
إلى ما ترون // // حديث عمر قال نظر النبي صلى الله عليه و سلم إلى مصعب بن عمير
مقبلا وعليه أهاب كبش قد تنطق به الحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية باسناد حسن
وفي الخبر المشهور إن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت إذ جاءه لقبض روحه : هل
رأيت خليلا يميت خليله فأوحى الله تعالى إليه : هل رأيت محبا يكره لقاء حبيبه فقال
يا ملك الموت الآن فاقبض // // حديث ان ابراهيم قال لملك الموت اذا جاءه ليقبض
روحه هل رأبت خلالا يقبض خليله الحديث لم أجد له أصلا // حديث اللهم ارزقني حبك
وحب من يحبك الحديث تقدم وهذا لا يجده إلا عبد يحب الله بكل قلبه فإذا علم أن
الموت سبب اللقاء انزعج قلبه إليه ولم يكن له محبوب غيره حتى يلتفت إليه
وقد قال نبينا صلى صلى الله عليه و سلم في دعائه اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب
ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلى من الماء البارد // حديث قال أعرابي يا رسول
الله متى الساعة قال ما أعددت لها الحديث متفق عليه من حديث أنس ومن حديث أبي موسى
وابن مسعود بنحوه وجاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه و سلم وسلم فقال : يا رسول
الله متى الساعة قال ما أعددت لها فقال : ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام إلا أني
أحب الله ورسوله فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلمالمرء مع من أحب قال انس :
فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك وقال أبو بكر الصديق رضى
الله عنه من ذاق من خالص محبة الله تعالى شغله ذلك عن طلب الدنيا وأوحشه عن جميع
البشر وقال الحسن : من عرف ربه أحبه ومن عرف الدنيا زهد فيها والمؤمن لا يلهو حتى
يغفل فإذا تفكر حزن وقال أبو سليمان الدارانى : إن من خلق الله خلقا ما يشغلهم
الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون عنه بالدنيا
ويروى أن عيسى عليه السلام مر بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم وتغيرت ألوانهم فقال لهم
: ما الذي بلغ بكم ما أرى فقالوا الخوف من النار فقال : حق على الله أن يؤمن
الخائف ثم جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وتغيرا فقال : ما الذي بلغ
بكم ما أرى قالوا : الشوق إلى الجنة فقال حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم
جاوزهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولا وتغيرا كان وجوههم المرائي من النور
فقال : ما الذي بلغ بكم ما أرى قالوا : نحب الله عز و جل فقال انتم المقربون انتم
المقربون وقال عبد الواحد بن زيد : مررت برجل قائم في الثلج فقلت أما تجد البرد
فقال من شغله حب الله لم يجد البرد
وعن سرى السقطى : تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها عليهم السلام فيقال يا أمة
موسى ويا أمة عيسى ويا أمة محمد غير المحبين لله تعالى فانهم ينادون يا أولياء
الله هلموا إلى الله سبحانه فتكاد قلوبهم تنخلع فرحا
وقال هرم بن حيان : المؤمن إذا عرف ربه
عز و جل أحبه وإذا أحبه أقبل إليه وإذا وجد حلاوة الإقبال إليه لم ينظر إلى الدنيا
بعين الشهوة ولم ينظر إلى الآخرة بعين الفترة وهي تحسره في الدنيا وتروحه في
الآخرة وقال يحي ابن معاذ عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه ورضوانه يستغرق الآمال
فكيف حبه وحبه يدهش العقول فكيف وده ووده ينسى ما دونه فكيف لطفه وفي بعض الكتب
عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محبا وقال يحي بن معاذ : مثقال خردلة من
الحب احب إلي من عبادة سبعين سنة بلا حب وقال يحي بن معاذ إلهي إني مقيم بفنائك
مشغول بثنائك صغيرا أخذتني إليك وسربلتني بمعرفتك وامكنتني من لطفك ونقلتني في
الأحوال وقلبتني في الأعمال سترا وتوبة وزهدا وشوقا ورضا وحبا تسقيني من حياضك
وتهملني في رياضك ملازما لأمرك ومشغوفا بقولك ولما طر شاربي ولاح طائري فكيف أنصرف
اليوم عنك كبيرا وقد اعتدت هذا منك صغيرا فلي ما بقيت حولك دندنة وبالضراعة إليك
همهمة لأني محب وكل محب بحبيبه مشغوف وعن غير حبيبه مصروف وقد ورد في حب الله
تعالى من الأخبار والآثار مالا يدخل في حصر حاصر وذلك أمر ظاهر وانما الغموض في
تحقيق معناه فلنشتغل به
بيان حقيقة المحبة وأسبابها وتحقيق معنى محبة العبد لله تعالى
اعلم أن المطلب من هذا الفصل لا ينكشف إلا بمعرفة حقيقة المحبة في نفسها ثم معرفة
شروطها وأسبابها ثم النظر بعد ذلك في تحقيق معناها في حق الله تعالى : فأول ما
ينبغي أن يتحقق انه لا يتصور محبة إلا بعد معرفة وأدراك إذ لا يحب الإنسان إلا ما
يعرفه ولذلك لم يتصور أن يتصف بالحب جماد بل هو من خاصية الحي المدرك ثم المدركات
في انقسامها تنقسم إلى ما يوافق طبع المدرك ويلائمه ويلذه والى ما ينافيه وينافره
ويؤلمه والى ما لا يؤثر فيه بإيلام والذاذ فكل ما في إدراكه لذة وراحة فهو محبوب
عند المدرك وما في إدراكه ألم فهو مبغوض عند المدرك وما يخلو عن استعقاب ألم ولذة
لا يوصف بكونه محبوبا ولا مكروها فإذن كل لذيذ محبوب عند الملتذ به ومعنى كونه
محبوبا أن في الطبع ميلا إليه ومعنى كونه مبغوضا أن في الطبع نفره عنه فالحب عبارة
عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فان تأكد ذلك الميل وقوى سمي عشقا والبغض عبارة عن
نفره الطبع عن المؤلم المتعب فإذا قوى سمى مقتا فهذا أصل في حقيقة معنى الحب لا بد
من معرفته
الأصل الثاني أن الحب لما كان تابعا للإدراك والمعرفة انقسم لا محالة بحسب انقسام
المدركات والحواس فلكل حاسة إدراك لنوع من المدركات ولكل واحد منها لذة في بعض
المدركات وللطبع بسبب تلك اللذة ميل إليها فكانت محبوبات عند الطبع السليم فلذة
العين في الإبصار وإدراك المبصرات الجميلة والصور المليحة الحسنة المستلذة ولذة
الأذن في النغمات الطيبة الموزونة ولذة الشم في الروائح الطيبة ولذة الذوق في
الطعوم ولذة اللمس في اللين والنعومة
ولما كانت هذه المدركات بالحواس ملذة كانت محبوبة أى كان للطبع السليم ميل إليها
حتى قال رسول صلى الله عليه و سلمحبب إلي من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء وجعل قرة
عيني في الصلاة فسمى الطيب محبوبا ومعلوم انه لا حظ للعين والسمع فيه بل للشم فقط
وسمى النساء محبوبات ولاحظ فبهن إلا للبصر واللمس دون // حديث حبب إلي من دنياكم
ثلاث : الطيب والنساء أخرجه النسائي من حديث أنس دون قوله ثلاث وقد تقدم
الشم والذوق والسمع وسمى الصلاة قرة عين
وجعلها أبلغ المحبوبات ومعلوم انه ليس تحظى بها الحواس الخمس بل حس سادس مظنته
القلب لا يدركه إلا من كان له قلب ولذات الحواس الخمس تشارك فيها البهائم الإنسان
فان كان الحب مقصورا على مدركات الحواس الخمس حتى يقال إن الله تعالى لا يدرك
بالحواس ولا يتمثل في الخيال فلا يحب فإذن قد بطلت خاصية الإنسان وما تميز به من
الحس السادس الذي يعبر عنه إما بالعقل أو بالنور أو بالقلب أو بما شئت من العبارات
فلا مشاحة فيه وهيهات فالبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب اشد إدراكا من
العين وجمال المعاني المدركة بالعقل اعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار فتكون لا
محالة لذة القلب بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل عن أن تدركها
الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى ولا معنى للحب
إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة كما سيأتي تفصيله فلا ينكر إذن حب الله تعالى إلا
من قعد به القصور في درجة البهائم فلم يجاوز إدراك الحواس أصلا
الأصل الثالث أن الإنسان لا يخفى انه يحب نفسه ولا يخفى انه قد يحب غيره لاجل نفسه
وهل يتصور آن يحب غيره لذاته لا لاجل نفسه هذا مما قد يشكل على الضعفاء حتى يظنون
انه لا يتصور أن يحب الإنسان غيره لذاته ما لم يرجع منه حظ إلى المحب سوى إدراك
ذاته والحق أن ذلك متصور وموجود فلنبين أسباب المحبة وأقسامها وبيانه أن المحبوب
الأول عند كل حي نفسه وذاته ومعنى حبه لنفسه آن في طبعه ميلا إلى دوام وجوده ونفرة
عن عدمه وهلاكه لان المحبوب بالطبع هو الملائم للمحب وأي شىء أتم ملاءمة من نفسه
ودوام وجوده وأي شىء أعظم مضادة ومنافرة له من عدمه وهلاكه فلذلك يحب الإنسان دوام
الوجود ويكره الموت والقتل لا لمجرد ما يخافه بعد الموت ولا لمجرد الحذر من سكرات
الموت بل لو اختطف من غير آلم وأميت من غير ثواب ولا عقاب لم يرض به وكان كارها
لذلك ولا يحب الموت والعدم المحض إلا لمقاساة ألم في الحياة ومهما كان مبتلى ببلاء
فمحبوبه زوال البلاء فان أحب العدم لم يحبه لأته عدم بل لان فيه زوال البلاء
فالهلاك والعدم ممقوت ودوام الوجود محبوب وكما أن دوام الوجود محبوب فكمال الوجود
أيضا محبوب لان الناقص فاقد للكمال والنقص عدم بالإضافة إلى القدر المفقود وهو
هلاك بالنسبة إليه والهلاك والعدم ممقوت في الصفات وكمال الوجود كما انه ممقوت في
اصل الذات ووجود صفات الكمال محبوب كما أن دوام اصل الوجود محبوب وهذه غريزة في
الطباع بحكم سنة الله تعالى ولن تجد لسنة الله تبديلا
فإذن المحبوب الأول للإنسان ذاته ثم سلامة أعضاءه ثم ماله وولده وعشيرته وأصدقائه
فالأعضاء محبوبة وسلامتها مطلوبة لان كمال الوجود ودوام الوجود موقوف عليها والمال
محبوب لانه أيضا آلة في دوام الوجود وكماله وكذا سائر الأسباب فالإنسان يحب هذه
الأشياء لا لأعيانها بل لارتباط حظه في دوام الوجود وكماله بها حتى انه ليحب ولده
وان كان لا يناله منه حظ بل يتحمل المشاق لأجله لانه يخلفه في الوجود بعد عدمه
فيكون في بقاء نسله نوع بقاء له فلفرط حبه في بقاء نفسه يحب بقاء من هو قائم مقامه
وكأنه جزء منه لما عجز عن الطمع في بقاء نفسه أبدا نعم لو خير بين قتله وقتل ولده
وكان طبعه باقيا على اعتداله آثر بقاء نفسه على بقاء ولده لان بقاء ولده يشبه
بقاءه من وجه وليس هو بقاء المحقق وكذلك حبه لأقاربه وعشيرته يرجع إلى حبه لكمال
نفسه فانه يرى نفسه كثيرا بهم قويا بسببهم متجملا بكمالهم فان العشيرة والمال
والأسباب الخارجة كالجناح المكمل للانسان وكمال الوجود ودوامه محبوب بالطبع لا
محالة فإذن المحبوب الاول عند كل حي ذاته وكمال ذاته ودوام
ذلك كله والمكروه عنده ضد ذلك فهذا هو
أول الأسباب
السبب الثاني : الإحسان فان الإنسان عبد الإحسان وقد جبلت القلوب على حب من أحسن
إليها وبغض من أساء إليها وقال رسول الله صلى الله عليه و سلماللهم لا تجعل لفاجر
على يدا فيحبه قلبي // حديث اللهم لا تجعل لكافر على يدا فيحبه قلبي رواه أبو
منصور الديلمي مسند الفردوس : من حديث معاذ بن جبل بسند ضعيف منقطع وقد تقدم إشارة
إلى ان حب القلب للمحسن اضطرارا لا يستطاع دفعه وهو جبلة وفطرة لا سبيل إلى
تغييرها وبهذا السبب قد يحب الإنسان الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبينه ولا علاقة
وهذا إذا حقق رجع إلى السبب الأول فان المحسن من أمد بالمال والمعونة وسائر
الأسباب الموصلة إلى دوام الوجود وكمال الوجود وحصول الحظوظ التي بها يتهيأ الوجود
إلا أن الفرق أن أعضاء الإنسان محبوبة لان بها كمال وجوده وهى عين الكمال المطلوب
فأما المحسن فليس هو عين الكمال المطلوب ولكن قد يكون سببا له كالطبيب يكون سببا
فى دوام صحة الأعضاء ففرق بين حب الصحة وبين حب الطبيب الذى هو سبب الصحة إذ الصحة
مطلوبة لذاتها والطبيب محبوب لا لذاته بل لأنه سبب الصحة وكذلك العلم محبوب
والأستاذ محبوب ولكن العلم محبوب لذاته والأستاذ محبوب لكونه سبب العلم المحبوب
وكذلك الطعام والشراب محبوب والدنانير محبوبة لكن الطعام محبوب لذاته والدنانير
محبوبة لأنها وسيلة إلى الطعام فإذن يرجع الفرق إلى تفاوت الرتبة وإلا فكل واحد
يرجع إلى محبة الإنسان نفسه فكل من احب المحسن لإحسانه فما احب ذاته تحقيقا بل احب
إحسانه وهو فعل من أفعاله لو زال زال الحب مع بقاء ذاته تحقيقا ولو نقص نقص الحب
ولو زاد زاد ويتطرق اليه الزيادة والنقصان بحسب زيادة الإحسان ونقصانه
السبب الثالث : أن يحب الشيء لذاته لا لحظ ينال منه وراء ذاته بل تكون ذاته عين
حظه وهذا هو الحب الحقيقي البالغ الذي يوثق بدوامه وذلك كحب الجمال والحسن فان كل
جمال محبوب عند مدرك الجمال وذلك لعين الجمال لان إدراك الجمال فيه عين اللذة
واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها ولا تظنن أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل
قضاء الشهوة فان قضاء الشهوة لذة أخرى قد تحب الصور الجميلة لأجلها وإدراك نفس
الجمال أيضا لذيذ فيجوز أن يكون محبوبا لذاته وكيف ينكر ذلك والخضرة والماء الجاري
محبوب لا ليشرب الماء وتؤكل الخضرة أو ينال منها حظ سوى نفس الرؤية وقد كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم يعجبه الخضرة والماء الجاري // حديث : كان يعجبه الخضرة
والماء الجاري أخرجه أبو نعيم في الطب النبوي من حديث ابن عباس ان النبي صلى الله
عليه و سلم كان يحب أن ينظر إلى الخضرة وإلى الماء الجاري وإسناده ضعيف // والطباع
السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والأزهار والأطيار المليحة الألوان
الحسنة النقش المتناسبة الشكل حتى أن الإنسان لتنفرج عنه الغموم والهموم بالنظر
إليها لا لطلب حظ وراء النظر فهذه الأسباب ملذة وكل لذيذ محبوب وكل حسن وجمال فلا
يخلو إدراكه عن لذة ولا أحد ينكر كون الجمال محبوبا بالطبع فان ثبت أن الله جميل كان
لا محالة محبوبا عند من انكشف له جماله وجلاله كما قال رسول الله صلى الله عليه و
سلمان الله جميل يحب الجمال // حديث إن الله جميل يحب الجمال رواه مسلم في أثناء
حديث لابن مسعود
الأصل الرابع في بيان معنى الحسن والجمال اعلم أن المحبوس في مضيق الخيالات والمحسوسات
ربما يظن أنه لا معنى للحسن والجمال إلا تناسب الخلقة والشكل وحسن اللون وكون
البياض مشربا بالحمرة وامتداد القامة إلى غير ذلك مما يوصف من جمال شخص الإنسان
فان الحسن الأغلب على الخلق حسن الإبصار وأكثر التفاتهم
إلى صور الأشخاص فيظن أن ما ليس مبصرا
ولا متخيلا ولا متشكلا ولا ملونا مقدر فلا يتصور حسنه وإذا لم يتصور حسنه لم يكن
في إدراكه لذة فلم يكن محبوبا وهذا خطأ ظاهر فإن الحسن ليس مقصورا على مدركات
البصر ولا على تناسب الخلقة وامتزاج البياض بالحمرة فأنا نقول هذا خط حسن وهذا صوت
حسن وهذا فرس حسن بل نقول هذا ثوب حسن وهذا إناء حسن فأي معنى لحسن الصوت والخط
وسائر الأشياء إن لم يكن الحسن إلا في الصورة ومعلوم أن العين تستلذ بالنظر إلى
الخط الحسن والأذن تستلذ استماع النغمات الحسنة الطيبة وما من شىء من المدركات إلا
وهو منقسم إلى حسن وقبيح فما معنى الحسن الذى تشترك فيه هذه الأشياءفلا بد من
البحث عنه وهذا البحث يطول ولا يليق بعلم المعاملة الإطناب فيه فنصرح بالحق ونقول
: كل شىء فجماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به الممكن له فاذا كان جميع
كمالاته الممكنة حاضرة فهو في غاية الجمال وان كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال
بقدر ما حضر فالفرس الحسن هو الذي جمع كل ما يليق بالفرس من هيئة وشكل ولون وحسن
عدو وتيسر كر وفر عليه والخط الحسن كل ما جمع كل ما يليق بالخط من تناسب الحروف
وتوازيها واستقامة ترتيبها وحسن انتظامها ولكل شىء كمال يليق به وقد يليق بغير ضد
فحسن كل شىء في كماله الذي يليق به فلا يحسن الإنسان بما يحسن به الفرس ولا يحسن
الخط بما يحسن به الصوت ولا تحسن الأواني بما تحسن به الثياب وكذلك سائر الأشياء
فإن قلت : فهذه الأشياء وإن لم تدرك جميعها بحس البصر مثل الأصوات والطعوم فإنها
لا تنفك عن إدراك الحواس لها فهي محسوسات وليس ينكر الحسن والجمال للمحسوسات ولا
ينكر حصول اللذة بادراك حسنها وإنما ينكر ذلك في غير المدرك بالحواس فاعلم أن
الحسن والجمال موجود في غير المحسوسات إذ يقال : هذا خلق حسن وهذا علم حسن وهذه
سيرةحسنة وهذه أخلاق جميلة وإنما الأخلاق الجميلة يراد بها العلم والعقل والعفة
والشجاعة والتقوى والكرم والمروءة وسائر خلال الخير وشىء من هذه الصفات لا يدرك
بالحواس الخمس بل يدرك بنور البصيرة الباطنة وكل هذه الخلال الجميلة محبوبة
والموصوف بها محبوب بالطبع عند من عرف صفاته وآية ذلك وأن الأمر كذلك إن الطباع
مجبولة على حب الأنبياء صلوات الله عليهم وعلى حب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع
أنهم لم يشاهدوا بل حب أرباب المذاهب مثل الشافعي وأبي حنيفة ومالك وغيرهم حتى أن
الرجل قد يجاوز به حبه لصاحب مذهبه حد العشق فيحمله ذلك على أن تنفق جميع ماله في
نصرة مذهبه والذب عنه ويخاطر بروحه في قتال من يطعن في إمامه ومتبوعه فكم من دم
أريق في نصرة أرباب المذاهب وليت شعري من يحب الشافعي مثلا فلم يحبه ولم يشاهد قط
صورته ولو شاهده ربما لم يستحسن صورته فاستحسانه الذي حمله على إفراط الحب هو
لصورته الباطنة لا لصورته الظاهرة فان صورته الظاهرة قد انقلبت ترابا مع التراب
وانما يحبه لصفاته الباطنة من الدين والتقوى وغزارة العلم والاحاطة بمدارك الدين
وانتهاضه لإفادة علم الشرع ولنشره هذه الخيرات في العالم وهذه أمور جميلة لا يدرك
جمالها الا بنور البصيرة فأما الحواس فقاصرة عنها وكذلك من يحب أبا بكر الصديق رضي
الله عنه ويفضله على غيره أو يحب عليا رضي الله عنه ويفضله ويتعصب له فلا يحبهم
الا لاستحسان صورهم الباطنة من العلم والدين والتقوى والشجاعة والكرم وغيره فمعلوم
أن من يحب الصديق رضي الله تعالى عنه مثلا ليس يحب عظمه ولحمه وجلده وأطرافه وشكله
اذ كل ذلك زال وتبدل وانعدم ولكن بقي ما كان الصديق به صديقا وهي الصفات المحمودة
التي هي مصادر السير الجميلة فكان
الحب باقيا ببقاء تلك الصفات مع زوال
جميع الصور وتلك الصفات ترجع جملتها إلى العلم والقدرة اذا علم حقائق الأمور وقدر
على حمل نفسه عليها بقهر شهواته فجميع خلال الخير يتشعب على هذين الوصفين وهما غير
مدركين بالحس ومحلهما من جملة البدن جزء لا يتجزأ فهو المحبوب بالحقيقة وليس للجزء
الذي لا يتجزأ صورة وشكل ولون يظهر للبصر حتى يكون محبوبا لأجله فإذن الجمال موجود
في السير ولو صدرت السيرة الجميلة من غير علم وبصيرة لم يوجب ذلك حبا فالمحبوب
مصدر السير الجميلة وهى الأخلاق الحميدة والفضائل الشريفة وترجع جملتها إلى كمال
العلم والقدرة وهو محبوب بالطبع وغير مدرك بالحواس حتى ان الصبي المخلي وطبعه اذ
أردنا أن نحبب إليه غائبا أو حاضرا حيا أو ميتا لم يكن لنا سبيل الا بالإطناب في
وصفه بالشجاعة والكرم والعلم وسائر الحضال الحميدة فمهما اعتقد ذلك لم يتمالك في
نفسه ولم يقدر أن لا يحبه فهل فل غلب الصحابة به رضي الله تعالى عنهم وبغض ابي جهل
وبعض إبليس لعنه الله إلا بالإطناب في وصف المحاسن والمقابح التي لا تدرك بالحواس
بل لما وصف الناس حاتما بالسخاء ووصفوا خالدا بالشجاعة أحبتهم القلوب حبا ضروريا
وليس ذلك عن نظر إلى صورة محسوسة ولا عن حظ يناله المحب منهم بل إذا حكى من سيرة
بعض الملوك في بعض أقطار الأرض العدل والإحسان وافاضة الخير غلب حبه على القلوب مع
اليأس من انتشار إحسانه إلى المحبين لبعد المزار ونأي الديار فإذن ليس حب الإنسان
مقصورا على من أحسن إليه بل المحسن في نفسه محبوب وان كان لا ينتهي قط إحسانه إلى
المحب لأن كل جمال وحسن فهو محبوب والصورة ظاهرة وباطنه والحسن والجمال يشملهما
وتدرك الصور الظاهرة بالبصر الظاهر والصور الباطنة بالبصيرة الباطنة فمن حرم
البصيرة الباطنة لا يدركها ولا يلتذ بها ولا يحبها ولا يميل إليها ومن كانت
الباطنة أغلب عليه من الحواس الظاهرة كان حبه للمعاني الباطنة أكثر من حبه للمعاني
الظاهرة فشتان بين من يحب نقشا مصورا على الحائط لجمال صورته الظاهرة وبين من يحب
نبيا من الأنبياء لجمال صورته الباطنة
السبب الخامس : المناسبة الخفية بين المحب والمحبوب إذ رب شخصين تتأكد المحبة
بينهما لا بسبب جمال أو حظ ولكن بمجرد تناسب الأرواح كمال قال صلى الله عليه و سلم
فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف // حديث فما تعارف منها ائتلف أخرجه
مسلم من أبي هريرة وقد تقدم في آداب الصحبة وقد حققنا ذلك في كتاب آداب الصحبة عند
ذكر الحب في الله فليطلب منه لأنه أيضا من عجائب أسباب الحب فإذن ترجع أقسام الحب
إلى خمسة أسباب : وهو حب الإنسان وجود نفسه وكماله وبقائه وحبه من أحسن إليه فيما
يرجع إلى دوام وجوده ويعين على بقائه ودفع المهلكات عنه وحبه من كان محسنا في نفسه
إلى الناس وان لم يكن محسنا إليه وحبه لكل ما هو جميل في ذاته سواء كان من الصور
الظاهرة أو الباطنه وحبه لمن بينه وبينه مناسبة خفية في الباطن فلو اجتمعت هذه
الأسباب في شخص واحد تضاعف الحب لا محالة كما لو كان للإنسان ولد جميل الصورة حسن
الخلق كامل العلم حسن التدبير محسن إلى الخلق ومحسن إلى الوالد كان محبوبا لا
محالة غاية الحب وتكون قوة الحب بعد اجتماع هذه الخصال بحسب قوة هذه الخلال في
نفسها فان كانت هذه الصفات في أقصى درجات الكمال كان الحب لا محالة في أعلى الدرجات
فلقبين الآن أن هذه الأسباب كلها لا يتصور كمالها واجتماعها إلا في حق الله تعالى
فلا يستحق المحبة بالحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى
بيان أن المستحق للمحبة هو الله وحده
وأن من أحب غير الله لا من حيث نسبته إلى الله فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله
تعالى وحب الرسول // حديث فما تعارف منها ائتلف أخرجه مسلم من حديث ابي هريرة وقد
تقدم في آداب الصحبة
صلى الله عليه و سلم محمود لأنه عين حب
الله تعالى وكذلك حب العلماء والأتقياء لأن محبوب المحبوب محبوب ورسول المحبوب
محبوب ومحب المحبوب محبوب وكل ذلك يرجع إلى حب الأصل فلا يتجاوزه إلى غيره فلا
محبوب بالحقيقة عند ذوى البصائر إلا الله تعالى ولا مستحق للمحبة سواه وإيضاحه بأن
نرجع إلى الأسباب الخمسة التي ذكرناها ونبين أنها مجتمعة في حق الله تعالى بحملتها
ولا يوجد في غيره إلا آحادها وأنها حقيقة في حق الله تعالى ووجودها في حق غيره وهم
وتخيل وهو مجاز محض لا حقيقة له ومهما ثبت ذلك انكشف لكل ذى بصيرة ضد ما تخيله
ضعفاء العقول والقلوب من استحالة حب الله تعالى تحقيقا وبان أن التحقيق يقتضى أن
لا نحب أحدا غير الله تعالى
فأما السبب الأول وهو حب الإنسان نفسه وبقاءه وكماله ودوام وجوده وبغضه لهلاكه
وعدمه ونقصانه وقواطع كماله فهذه جبلة كل حى ولا يتصور أن ينفك عنها وهذا يقتضى
غاية المحبة لله تعالى فإن من عرف نفسه وعرف ربه عرف قطعا أنه لا وجود له من ذاته
وإنما وجود ذاته ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وإلى الله وبالله فهو المخترع
الموجد له وهو المبقى له وهو المكمل لوجوده بخلق صفات الكمال وخلق الأسباب الموصلة
إليه ذو خلق الهداية إلى استعمال الأسباب وإلا فالعبد من حيث ذاته لا وجود له من
ذاته بل هو محو محض وعدم صرف لولا فضل الله تعالى عليه بالإيجاد وهو هالك عقيب
وجوده لولا فضل الله عليه بالإبقاء وهو ناقص بعد الوجود لولا فضل الله عليه
بالتكميل لخلقته وبالجملة فليس في الوجود شيء له بنفسه قوام إلا القيوم الحى الذى
هو قائم لوجوده والمديم له إن عرفه خالقا موجدا ومخترعا مبقيا وقيوما بنفسه ومقوما
لغيره فإن كان لا يحبه فهو لجهله بنفسه وبربه والمحبة ثمرة المعرفة فتنعدم
بانعدامها وتضعف بضعفها وتقوى بقوتها ولذلك قال الحسن البصرى رحمه الله تعالى من
عرف ربه أحبه ومن عرف الدنيا زهد فيها وكيف يتصور أن يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه
الذى به قوام نفسه ومعلوم أن المبتلى بحر الشمس لما كان يحب الظل فيحب بالضرورة
الأشجار التى بها قوام الظل وكل ما في الوجود بالإضافة إلى قدرة الله تعالى فهو
كالظل بالإضافة إلى الشجر والنور بالإضافة إلى الشمس فإن الكل من آثار قدرته ووجود
الكل تابع لوجوده كما أن وجود النور تابع للشمس ووجود الظل تابع للشجر بل هذا
المثال صحيح بالإضافة إلى أوهام العوام إذ تخيلوا أن النور أثر الشمس وفائض منها
وموجود بها وهو خطأ محض إذا انكشف لأرباب القلوب انكشافا أظهر من مشاهدة الأبصار
أن النور حاصل من قدرة الله تعالى اختراعا عند وقوع المقابلة بين الشمس والأجسام
الكثيفة كما أن نور الشمس وعينها وشكلها وصورتها أيضا حاصل من قدرة الله تعالى
ولكن الغرض من الأمثلة التفهيم فلا يطلب فيها الحقائق فإذن إن كان حب الإنسان نفسه
ضروريا فحبه لمن به قوامه أولا ودوامه ثانيا في أصله وصفاته وظاهره وباطنه وجواهره
وأعراضه أيضا ضروري إن عرف ذلك كذلك ومن خلا عن الحب هذا فلأنه اشتغل بنفسه
وشهواته وذهل عن ربه وخالقه فلم يعرفه حق معرفته وقصر نظره على شهواته ومحسوساته
وهو عالم الشهادة الذي يشاركه البهائم في التنعم به والاتساع فيه دون عالم الملكوت
الذي لا يطأ أرضه إلا من يقرب إلى شبه من الملائكة فينظر فيه بقدر قربه في الصفات
من الملائكة ويقصر عنه بقدر انحطاطه إلى حضيض عالم البهائم
وأما السبب الثاني وهو حبه من أحسن عليه فواساه بماله ولاطفه بكلامه وأمده بمعونته
وانتدب لنصرته
وقمع أعداءه وقام بدفع شر الأشرار عنه
وانتهض وسيلة إلى جميع حظوظه وأغراضه في نفسه وأولاده وأقاربه فإنه محبوب لا محالة
عنده وهذا بعينه يقتضى أن لا يحب إلا الله تعالى فإنه لو عرف حق المعرفة لعلم أن
المحسن إليه هو الله تعالى فقط فأما أنواع إحسانه إلى كل عبيده فلست أعدها إذ ليس
يحيط بها حصر حاصر كما قال تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقد أشرنا إلى طرف
منه في كتاب الشكر ولكنا نقتصر الآن على بيان أن الإحسان من الناس غير متصور إلا
بالمجاز وإنما المحسن هو الله تعالى ولنفرض ذلك فيمن أنعم عليك بجميع خزائنه ومكنك
منها لتتصرف فيها كيف تشاء فإنك تظن أن هذا الإحسان منه وهو غلط فإنه إنما تم
إحسانه به وبماله وبقدرته على المال وبداعيته الباعثة له على صرف المال إليك فمن
الذى أنعم بخلقه وخلق ماله وخلق قدرته وخلق إرادته وداعيته ومن الذى حببك إليه
وصرف وجهه إليك وألقى في نفسه أن صلاح دينه أو دنياه في الإحسان إليك ولولا كل ذلك
لما أعطاك حبة من ماله ومهما سلط الله عليه الدواعى وقرر في نفسه أن صلاح دينه أو
دنياه في أن يسلم إليك ماله كان مقهورا مضطرا في التسليم لا يستطيع مخالفته
فالمحسن هو الذى اضطره لك وسخره وسلط عليه الدواعى الباعثة المرهقة إلى الفعل وأما
يده فواسطة يصل بها إحسان الله إليك وصاحب اليد مضطر في ذلك اضطرارا مجرى الماء في
جريان الماء فيه فإن اعتقدته محسنا أو شكرته من حيث هو بنفسه محسن لا من حيث هو
واسطة كنت جاهلا بحقيقة الأمر فإنه لا يتصور الإحسان من الإنسان إلا إلى نفسه أما
الإحسان إلى غيره فمحال من المخلوقين لأنه لا يبذل ماله إلا لغرض له البذل إما آجل
وهو الثواب وإما عاجل وهو المنة والاستسخار أو الثناء والصيت والاشتهار بالسخاء
والكرم أو جذب قلوب الخلق إلى الطاعة والمحبة وكما أن الإنسان لا يلقى ماله في
البحر إذ لا غرض له فيه فلا يلقيه في يد إنسان إلا لغرض له فيه وذلك الغرض هو
مطلوبه ومقصده وأما أنت فلست مقصودا بل يدك آلة له في القبض حتى يحصل غرضه من
الذكر والثناء أو الشكر أو الثواب بسبب قبضك المال فقد استسخرك في القبض للتوصل
إلى غرض نفسه فهو إذن محسن إلى نفسه ومعتاض عما بذله من ماله عوضا هو أرجح عنده من
ماله ولولا رجحان ذلك الحظ عنده لما نزل عن ماله لأجلك أصلا ألبتة فإذن هو غير
مستحق للشكر والحب من وجهين
أحدهما أنه مضطر بتسليط الله الدواعى عليه فلا قدرة له على المخالفة فهو جار مجرى
خازن الأمير فإنه لا يرى محسنا بتسليم خلعة الأمير إلى من خلع عليه لأنه من جهة
الأمير مضطر إلى الطاعة والامتثال لما يرسمه ولا يقدر على مخالفته ولو خلاه الامير
ونفسه لما سلم ذلك فكذلك كل محسن لو خلاه الله ونفسه لم يبذل حبة من ماله حتى سلط
الله الدواعى عليه وألقى في نفسه أن حظه دينا ودنيا في بذله فبذله لذلك والثاني
أنه معتاض عما بذله حظا هو أوفى عنده وأحب مما بذله فكما لا يعد البائع محسنا لأنه
بذل بعوض هو أحب عنده مما بذله فكذلك الواهب اعتاض الثواب أو الحمد والثناء أو
عوضا آخر وليس من شرط العوض أن يكون عينا متمولا بل الحظوظ كلها أعواض تستحقر
الأموال والأعيان بالإضافة إليها فالإحسان في الجود والجود هو بذل المال من غير
عوض وحظ يرجع إلى الباذل وذلك محال من غير الله سبحانه فهو الذى أنعم على العالمين
إحسانا إليهم ولأجلهم لا لحظ وغرض يرجع إليه فإنه يتعالى عن الأغراض فلفظ الجود
والإحسان في حق غيره كذب أو مجاز ومعناه في حق غيره محال وممتنع امتناع الجمع بين
السواد والبياض فهو المنفرد بالجود والإحسان والطول والامتنان فان كان في الطبع حب
المحسن فينبغي أن لا يحب العارف إلا الله تعالى إذ الإحسان
من غيره محال فهو المستحق لهذه المحبة
وحده وأما غيره فيستحق المحبة على الإنسان بشرط الجهل بمعنى الإحسان وحقيقته
وأما السبب الثالث وهو حبك المحسن في نفسه وإلى لم يصل إليك إحسانه وهذا أيضا
موجود في الطباع
فإنه إذا بلغك خبر ملك عابد عادل عالم رفيق بالناس متلطف بهم متواضع لهم وهو في
قطر من أقطار الأرض بعيد عنك وبلغك خبر ملك آخر ظالم متكبر فاسق متهتك شرير وهو
أيضا بعيد عنك فإنك تجد في قلبك تفرقة بينهما إذ تجد في القلب ميلا إلى الأول وهو
الحب ونفرة عن الثاني وهو البغض مع أنك آيس من خير الأول وآمن من شر الثاني
لانقطاع طمعك عن التوغل إلى بلادهما فهذا حب المحسن من حيث إنه محسن فقط لا من حيث
إنه محسن إليك وهذا أيضا يقتضى حب الله تعالى بل يقتضى أن لا يحب غيره أصلا إلا من
حيث يتعلق منه بسبب فإن الله هو المحسن إلى الكافة والمتفضل على جميع أصناف
الخلائق أولا بإيجادهم وثانيا بتكميلهم بالأعضاء والأسباب التى هى من ضروراتهم
وثالثا بترفيههم وتنعيمهم بخلق الأسباب التى هى في مظان حاجاتهم وإن لم تكن في
مظان الضرورة ورابعا بتجميلهم بالمزايا والزوائد التى هى في مظنة زينتهم وهى خارجة
عن ضروراتهم وحاجاتهم
ومثال الضرورى من الأعضاء الرأس والقلب والكبد ومثال المحتاج إليه العين واليد
والرجل ومثال الزينة استقواس الحاجبين وحمرة الشفتين وتلون العينين إلى غير ذلك
مما لو فات لم تنخرم به حاجة ولا ضرورة
ومثال الضرورى من النعم الخارجة عن بدن الإنسان الماء والغذاء ومثال الحاجة الدواء
واللحم والفواكه ومثال المزايا والزوائد خضرة الأشجار وحسن أشكال الأنوار والأزهار
ولذائذ الفواكه والأطعمة التى لا تنخرم بعدمها حاجة ولا ضرورة
وهذه الأقسام الثلاثة موجودة لكل حيوان بل لكل نبات بل لكل صنف من أصناف الخلق من
ذروة العرش إلى منتهى الفرش فإذن هو المحسن فكيف يكون غيره محسنا وذلك المحسن حسنة
من حسنات قدرته فإنه خالق الحسن وخالق المحسن وخالق الإحسان وخالق أسباب الإحسان
فالحب بهذه العلة لغيره أيضا جهل محض ومن عرف ذلك لم يحب بهذه العلة إلا الله
تعالى
وأما السبب الرابع وهو حب كل جميل لذات الجمال لا لحظ ينال من وراء إدراك الجمال
فقد بينا أن ذلك مجبول في الطباع وأن الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظاهرة
المدركة بعين الرأس وإلى جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة
والأول يدركه الصبيان والبهائم والثاني يختص بدركه أرباب القلوب ولا يشاركهم فيه
من لا يعلم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وكل جمال فهو محبوب عند مدرك الجمال فإن
كان مدركا بالقلب فهو محبوب القلب ومثال هذا في المشاهدة حب الأنبياء والعلماء
وذوى المكارم السنية والأخلاق المرضية فإن ذلك منضور مع تشوش صورة الوجه وسائر
الأعضاء وهو المراد بحسن الصورة الباطنة والحس لا يدرك نعم يدرك بحسن آثاره
الصادرة منه الدالة عليه حتى إذا دل القلب عليه مال القلب إليه فأحبه فمن يحب رسول
الله صلى الله عليه و سلم أو الصديق رضي الله تعالى عنه أو الشافعى رحمة الله عليه
فلا يحبهم إلا لحسن ما ظهر له منهم وليس ذلك لحسن صورهم ولا لحسن أفعالهم بل دل
حسن أفعالهم على حسن الصفات التى هى مصدر الأفعال إذ الأفعال آثار صادرة عنها
ودالة عليها فمن رأى حسن تصنيف المصنف وحسن شعر الشاعر بل
حسن نقش النقاش وبناء البناء انكشف له من
هذه الأفعال صفاتها الجميلة الباطنة التى يرجع حاصلها عند البحث إلى العلم والقدرة
ثم كلما كان المعلوم أشرف وأتم جمالا وعظمة كان العلم أشرف وأجمل وكذا المقدور
كلما كان أعظم رتبة وأجل منزلة كانت القدرة عليه أجل رتبة وأشرف قدرا وأجل
المعلومات هو الله تعالى فلا جرم أحسن العلوم وأشرفها معرفة الله تعالى وكذلك ما
يقاربه ويختص به فشرفه على قدر تعلقه به
فإذن جمال صفات الصديقين الذين تحبهم القلوب طبعا ترجع إلى ثلاثة أمور أحدها علمهم
بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائع أنبيائه والثانى قدرتهم على إصلاح أنفسهم
وإصلاح عباد الله بالإرشاد والسياسة والثالث تنزههم عن الرذائل والخبائث والشهوات
الغالبة الصارفة عن سنن الخير الجاذبة إلى طريق الشر وبمثل هذا يحب الأنبياء
والعلماء والخلفاء والملوك الذين هم أهل العدل والكرم فأنسب هذه الصفات إلى صفات
الله تعالى
أما العلم فأين علم الأولين والآخرين من علم الله تعالى الذى يحيط بالكل إحاطة
خارجة عن النهاية حتى لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وقد خاطب
الخلق كلهم فقال عز و جل وما أوتيتم من العلم إلا قليلا بل لو اجتمع أهل الأرض
والسماء على أن يحيطوا بعلمه وحكمته في تفصيل خلق نملة أو بعوضة لم يطلعوا على عشر
عشير ذلك ولا يحيطون بشىء من علمه إلا بما شاء والقدر اليسير الذى علمه الخلائق
كلهم فبتعليمه علموه كما قال تعالى خلق الإنسان علمه البيان فإن كان جمال العلم
وشرفه أمرا محبوبا وكان هو في نفسه زينة وكمالا للموصوف به فلا ينبغى أن يحب بهذا
السبب إلا الله تعالى
فعلوم العلماء جهل بالإضافة إلى علمه بل من عرف أعلم أهل زمانه وأجهل أهل زمانه
استحال أن يحب بسبب العلم الأجهل ويترك الأعلم وإن كان الأجهل لا يخلو عن علم ما
تتقاضاه معيشته والتفاوت بين علم الله وبين علم الخلائق أكثر من التفاوت بين علم
أعلم الخلائق وأجهلهم لأن الأعلم لا يفضل الأجهل إلا بعلوم معدودة متناهية يتصور
في الإمكان أن ينالها الأجهل بالكسب والاجتهاد وفضل علم الله تعالى على علوم
الخلائق كلهم خارج عن النهاية إذ معلوماته لا نهاية لها ومعلومات الخلق متناهية
وأما صفة القدرة فهى أيضا كمال والعجز نقص فكل كمال وبهاء وعظمة واستيلاء فإنه
محبوب وإدراكه لذيذ حتى إن الإنسان ليسمع في الحكاية شجاعة على وخالد رضى الله
عنهما وغيرهما من الشجعان وقدرتهما واستيلاؤهما على الأقران فيضاف في قلبه اهتزازا
وفرحا وارتياحا ضروريا بمجرد لنة السماع فضلا عن المشاهدة ويورث ذلك حبا في القلب
ضروريا للمتصف به فإنه نوع كمال فانسب الآن قدرة الخلق كلهم إلى قدرة الله تعالى
فأعظم الأشخاص قوة وأوسعهم ملكا وأقواهم بطشا وأقهرهم للشهوات وأقمعهم لخبائث
النفس وأجمعهم للقدرة على سياسة نفسه وسياسة غيره ما منتهى قدرته وإنما غايته أن
يقدر على بعض صفات نفسه وعلى بعض أشخاص الإنس في بعض الأمور وهو مع ذلك لا يملك
لنفسه موتا ولا حياة ولا نشورا ولا ضرا ولا نفعا بل لا يقدر على حفظ عينه من العمى
ولسانه من الخرس وأذنه من الصمم وبدنه من المرض ولا يحتاج إلى عد ما يعجز عنه في
نفسه وغيره مما هو على الجملة متعلق قدرته فضلا عما لا تتعلق به قدرته من ملكوت
السموات وأفلاكها وكواكبها والأرض وجبالها وبحارها ورياحها وصواعقها ومعادنها
ونباتها وحيواناتها وجميع أجزائها فلا قدرة له على ذرة منها وما هو قادر عليه من
نفسه وغيره فليست قدرته من نفسه وبنفسه بل الله خالقه وخالق قدرته وخالق أسبابه
والممكن له من ذلك ولو سلط بعوضا على أعظم ملك وأقوى شخص من الحيوانات لأهلكه فليس
للعبد
قدرة إلا بتمكين مولاه كما قال في أعظم
ملوك الأرض ذى القرنين إذ قال إنا مكنا له في الأرض فلم يكن جميع ملكه وسلطنته إلا
بتمكين الله تعالى إياه في جزء من الأرض والأرض كلها مدرة بالإضافة إلى أجسام
العالم وجميع الولايات التى يحظى بها الناس من الأرض غبرة من تلك المدرة ثم تلك
الغبرة أيضا من فضل الله تعالى وتمكينه فيستحيل أن يحب عبدا من عباد الله تعالى
لقدرته وسياسته وتمكينه واستيلائه وكمال قوته ولا يحب الله تعالى لذلك ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلى العظيم فهو الجبار القاهر والعليم القادر السموات مطويات
بيمينه والأرض وملكها وما عليها في قبضته وناصية جميع المخلوقات في قبضة قدرته إن
أهلكهم من عند آخرهم لم ينقص من سلطانه وملكه ذرة وإن خلق أمثالهم ألف مرة لم يعى
بخلقها ولا يمسه لغوب ولا فتور في اختراعها فلا قدرة ولا قادر إلا وهو أثر من آثار
قدرته فله الجمال والبهاء والعظمة والكبرياء والقهر والاستيلاء فإن كان يتصور أن
يحب قادر لكمال قدرته فلا يستحق الحب بكمال القدرة سواه أصلا
وأما صفة التنزه عن العيوب والنقائص والتقدس عن الرذائل والخبائث فهو أحد موجبات
الحب ومقتضيات الحسن والجمال في الصور الباطنة والأنبياء والصديقون وإن كانوا
منزهين عن العيوب والخبائث فلا يتصور كمال التقدس والتنزه إلا للواحد الحق الملك
والقدوس ذى الجلال والإكرام
وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص وعن نقائص بل كونه عاجزا مخلوقا مسخرا مضطرا هو عين
العيب والنقص فالكمال لله وحده وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله وليس في
المقدور أن ينعم بمنتهى الكمال على غيره فإن منتهى الكمال أقل درجاته أن لا يكون
عبدا مسخرا لغيره قائما بغيره وذلك محال في حق غيره فهو المنفرد بالكمال المنزه عن
النقص المقدس عن العيوب وشرح وجوه التقدس والتنزه في حقه عن النقائص يطول وهو من
أسرار علوم المكاشفات فلا نطول بذكره فهذا الوصف أيضا إن كان كمالا وجمالا محبوبا
فلا تتم حقيقته إلا له وكمال غيره وتنزهه لا يكون مطلقا بل بالإضافة إلى ما هو أشد
منه نقصانا كما أن للفرس كمالا بالإضافة إلى الحمار وللإنسان كمالا بالإضافة إلى
الفرس وأصل النقص شامل للكل وإنما يتفاوتون في درجات النقصان
فإذن الجميل محبوب والجميل المطلق هو الواحد الذى لا ند له الفرد الذى لا ضد له
الصمد الذى لا منازع له الغنى الذى لا حاجة له القادر الذى يفعل ما يشاء ويحكم ما
يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه العالم الذى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في
السموات والأرض القاهر الذى لا يخرج عن قبضة قدرته أعناق الجبابرة ولا ينفلت من
سطوته وبطشه رقاب القياصرة الأزلى الذى لا أول لوجوده الأبدى الذى لا آخر لبقائه
الضرورى الوجود الذى لا يحوم إمكان العدم حول حضرته القيوم الذى يقوم بنفسه ويقوم
كل موجود به جبار السموات والأرض خالق الجماد والحيوان والنبات المنفرد بالعزة
والجبروت والمتوحد بالملك والملكوت ذو الفضل والجلال والبهاء والجمال والقدرة
والكمال الذى تتحير في معرفة جلاله العقول وتخرس في وصفه الألسنة الذى كمال معرفة
العارفين الاعتراف بالعجز عن معرفته ومنتهى نبوة الأنبياء الإقرار بالقصور عن وصفه
كما قال سيد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين لا أحصى ثناء عليك أنت كما
أثنيت على نفسك // حديث لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك تقدم // وقال
سيد الصديقين رضى الله تعالى عنه العجز عن درك الإدراك إدراك سبحان من لم يجعل
للخلق طريقا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فليت شعرى من ينكر إمكان حب الله
تعالى تحقيقا ويجعله مجازا أينكر أن هذه الأوصاف من أوصاف الجمال
والمحامد ونعوت الكمال والمحاسن أن ينكر
كون الله تعالى موصوفا بها أو ينكر كون الكمال والجمال والبهاء والعظمة محبوبا
بالطبع عند من أدركه فسبحان من احتجب عن بصائر العميان غيرة على جماله وجلاله أن
يطلع عليه إلا من سبقت له منه الحسنى الذين هم عن نار الحجاب مبعدون وترك الخاسرين
في ظلمات العمى يتيهون وفي مسارح المحسوسات وشهوات البهائم يترددون يعلمون ظاهرا
من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون
فالحب بهذا السبب أقوى من الحب بالإحسان لأن الإحسان يزيد وينقص ولذلك أوحى الله
تعالى إلى داود عليه السلام إن أود الأوداء إلى من عبدنى بغير نوال لكن ليعطى
الربوبية حقها وفي الزبور من أظلم ممن عبدنى لجنة أونار لو لم أخلق جنة ولا نارا
ألم أكن أهلا أن أطاع ومر عيسى عليه السلام على طائفة من العباد قد نحلوا فقالوا
نخاف النار ونرجو الجنة فقال لهم مخلوقا خفتم ومخلوقا رجوتم ومر بقوم آخرين كذلك
فقالوا نعبده حبا له وتعظيما لجلاله فقال أنتم أولياء الله حقا معكم أمرت أن أقيم
وقال أبو حازم إنى لأستحى أن أعبده للثواب والعقاب فأكون كالعبد السوء إن لم يخف
لم يعمل وكالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل
وفي الخبر لا يكونن أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجرا لم يعمل ولا كالعبد السوء
إن لم يخف لم يعمل // حديث لا يكونن أحدكم كالأجير السوء إن لم يعط أجرا لم يعمل
لم أجد له أصلا //
وأما السبب الخامس للحب فهو المناسبة والمشاكلة لأن شبه الشيء منجذب إليه والشكل
إلى الشكل أميل
ولذلك ترى الصبى يألف الصبى والكبير يألف الكبير ويألف الطير نوعه وينفر من غير
نوعه وأنس العالم بالعالم أكثر منه بالمحترف وأنس النجار بالنجار أكثر من أنسه
بالفلاح وهذا أمر تشهد به التجربة وتشهد له الأخبار والآثار كما استقصيناه في باب
الأخوة في الله من كتاب آداب الصحبة فليطلب منه
وإذا كانت المناسبة سبب المحبة فالمناسبة قد تكون في معنى ظاهر كمناسبة الصبى
الصبى في معنى الصبا وقد يكون خفيا حتى لا يطلع عليه كما ترى من الاتحاد الذى يتفق
بين شخصين من غير ملاحظة جمال أو طمع في مال أو غيره كما أشار إليه النبي صلى الله
عليه و سلم إذ قال الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف
فالتعارف هو التناسب والتناكر هو التباين وهذا السبب أيضا يقتضى حب الله تعالى
لمناسبة باطنة لا ترجع إلى المشابهة في الصور والأشكال بل إلى معان باطنة يجوز أن
يذكر بعضها في الكتب وبعضها لا يجوز أن يسطر بل يترك تحت غطاء الغبرة حتى يعثر
عليه السالكون للطريق إذا استكملوا شرط السلوك
فالذى يذكر هو قرب العبد من ربه عز و جل في الصفات التى أمر فيها بالاقتداء
والتخلق بأخلاق الربوبيه حتى قيل تخلقوا بأخلاق الله وذلك في اكتساب محامد الصفات
التى هى من صفات الإلهية من العلم والبر والإحسان واللطف وإفاضة الخير والرحمة على
الخلق والنصيحة لهم وإرشادهم إلى الحق ومنعهم من الباطل إلى غير ذلك من مكارم
الشريعة فكل ذلك يقرب إلى الله سبحانه وتعالى لا بمعنى طلب القرب بالمكان بل بالصفات
وأما ما لا يجوز أن يسطر في الكتب من المناسبة الخاصة التى اختص بها الآدمي فهى
التى يومىء إليها قوله تعالى ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي إذ بين أنه
أمر ربانى خارج عن حد عقول الخلق وأوضح من ذلك قوله تعالى فإذا سويته ونفخت فيه من
روحى ولذلك أسجد له ملائكته ويشير إليه قوله تعالى إنا جعلناك خليفة في الأرض إذ
لم يستحق آدم خلافة الله تعالى إلا بتلك المناسبة وإليه يرمز قوله صلى الله عليه و
سلم
إن الله خلق آدم على صورته // حديث إن
الله خلق آدم على صورته تقدم // حتى ظن القاصرون أن لا صورة إلا الصورة الظاهرة
المدركة بالحواس فشبهوا وجسموا وصوروا تعالى الله رب العالمين عما يقول الجاهلون
علوا كبيرا وإليه الإشارة بقوله تعالى لموسى عليه السلام مرضت فلم تعدنى فقال يا
رب وكيف ذلك قال مرض عبدى فلان فلم تعده ولو عدته وجدتنى عنده // حديث قوله تعالى
مرضت فلم تعدنى فقال وكيف ذاك قال مرض فلان الحديث تقدم // وهذه المناسبة لاتظهر
إلا بالمواظبة على النوافل بعد إحكام الفرائض كما قال الله تعالى لا يزال يتقرب
العبد إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر
به ولسانه الذى ينطق به // حديث قوله تعالى لا يزال يتقرب العبد إلى بالنوافل حتى
أحبه الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة وقد تقدم // وهذا موضع يجب قبض عنان
القلم فيه فقد تحزب الناس فيه إلى قاصرين مالوا إلى التشبيه الظاهر وإلى غالين
مسرفين جاوزوا حد المناسبة إلى الاتحاد وقالوا بالحلول حتى قال بعضهم أنا الحق وضل
النصارى في عيسى عليه السلام فقالوا هو الإله وقال آخرون منهم تذرع الناسوت
باللاهوت وقال آخرون اتحد به وأما الذين انكشف لهم استحالة التشبيه والتمثيل
واستحالة الانحاد والحلول واتضح لهم مع ذلك حقيقة السر فهم الأقلون ولعل أبا الحسن
النوري عن هذا المقام كان ينظر إذا غلبه الوجد في قول القائل
لازلت أنزل من ودادك منزلا ... تتحير الألباب عند نزوله
فلم يزل يعدو في وجده على أجمة قد قطع قصبها وبقى أصوله حتى تشققت قدماه وتورمتا
مات من ذلك وهذا هوأعظم أسباب الحب وأقواها وهو أعزها وأبعدها وأقلها وجودا فهذه
هى المعلومة من أسباب الحب وجملة ذلك متظاهرة في حق الله تعالى تحقيقا لا مجانا
وفي أعلى الدرجات لا في أدناها فكان المعقول المقبول عند ذوى البصائر حب الله
تعالى فقط كما أن المعقول الممكن عند العميان حب غير الله تعالى فقط ثم كل من يحب
من الخلق بسبب من هذه الأسباب يتصور أن يحب غير لمشاركته إياه في السبب والشركة
نقصان في الحب وغض من كماله ولا ينفرد أحد بوصف محبوب إلا وقد يوجد له شريك فيه
فإن لم يوجد فيمكن أن يوجد إلا الله تعالى فإنه موصوف بهذه الصفات التى هى نهاية
الجلال والكمال ولا شريك له في ذلك وجودا ولا يتصور أن يكون ذلك إمكانا فلا جرم لا
يكون في حبه شركة فلا يتطرق النقصان إلى حبه كما لا تتطرق الشركة إلى صفاته فهو
المستحق إذا لأصل المحبة ولكمال المحبة استحقاقا لا يساهم فيه أصلا
بيان أن أجل اللذات وأعلاها معرفة الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم
وأنه لا يتصور أن لا يؤثر عليها لذة أخرى إلا من حرم هذه اللذة
أعلم أن اللذات تابعة للإدراكات والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز ولكل قوة
وغريزة لذة ولذتها في نيلها المقتضى طبعها الذى خلقت له فإن هذه الفرائز ما ركبت
في الإنسان عبثا بل ركبت كل قوة وغريزة لأمر من الأمور هو مقتضاها بالطبع فغريزة
الغضب خلقت للنشفى والانتقام فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام الذى هو مقتضى
طبعها وغريزة شهوة الطعام مثلا خلقت لتحصيل الغذاء الذى به القوام فلا جرم لذتها
في نيل هذا الغذاء الذى هو مقتضى طبعها وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الإبصار
والاستماع والشم فلا تخلو غريزة من هذه الغرائز عن ألم ولذة بالإضافة إلى مدركاتها
فكذلك في القلب غريزة تسمى النور الإلهى لقوله تعالى أفمن شرح الله صدره للإسلام
فهو على نور من ربه وقد تسمى العقل وقد تسمى البصيرة الباطنة وقد تسمى
نور الإيمان واليقين ولا معنى للاشتغال
بالأسامى فإن الاصطلاحات مختلفة والضعيف يظن أن الاختلاف واقع في المعانى لأن
الضعيف يطلب المعانى من الألفاظ وهو عكس الواجب فالقلب مفارق لسائر أجزاء البدن
بصفة بها يدرك المعانى التى ليست متخيلة ولا محسوسة كإدراكه خلق العالم أو افتقاره
إلى خالق قديم مدبر حكيم موصوف بصفات إلهية ولنسم تلك الغريزة عقلا بشرط أن لا
يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طرق المجادلة والمناظرة فقد اشتهر اسم العقل بهذا
ولهذا ذمه بعض الصوفية وإلا فالصفة التى فارق الإنسان بها البهائم وبها يدرك معرفة
الله تعالى أعز الصفات فلا ينبغى أن تذم وهذه الغريزة خلقت ليعلم بها حقائق الأمور
كلها فمقتضى طبعها المعرفه والعلم وهى لذتها كما أن مقتضى سائر الغرائز هو لذتها
وليس يخفى أن في العلم والمعرفة لذة حتى إن الذى ينسب إلى العلم والمعرفة ولو في
شىء خسيس يفرح به والذى ينسب إلى الجهل ولو في شىء حقير يغتم به وحتى أن الإنسان
لا يكاد يصبر عن التحدى بالعلم والتمدح به في الأشياء الحقيرة فالعالم باللعب
بالشطرنج على خسته لا يطيق السكوت فيه عن التعليم وينطلق لسانه بذكر ما يعلمه وكل
ذلك لفرط لذة العلم وما يستشعره من كمال ذاته به فإن العلم من أخص صفات الربوبية وهى
منتهى الكمال ولذلك يرتاح الطبع إذا أثنى عليه بالذكاء وغزارة العلم لأنه يستشعر
عند سماع الثناء كمال ذاته وكمال علمه فيعجب بنفسه ويلتذ به ثم ليست لذة العلم
بالحراثة والخياطة كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمر الخلق ولا لذة العلم بالنحو
والشعر كلذة العلم بالله تعالى وصفاته وملائكته وملكوت السموات والأرض بل لذة
العلم بقدر شرف العلم وشرف العلم بقدر شرف المعلوم حتى إن الذى يعلم بواطن أحوال
الناس ويخبر بذلك يجد له لذة وإن جهله تقاضاه طبعه أن يفحص عنه فإن علم بواطن
أحوال رئيس البلد وأسرار تدبيره في رياسته كان ذلك ألذ عنده وأطيب من علمه بباطن
حال فلاح أو حائك فإن اطلع على أسرار الوزير وتدبيره وما هو عازم عليه في أمور
الوزارة فهو أشهى عنده وألذ من علمه بأسرار الرئيس فإن كان خبيرا بباطن أحوال
الملك والسلطان الذى هو المستولى على الوزير كان ذلك أطيب عنده وألذ من علمه بباطن
أسرار الوزير وكان تمدحه بذلك وحرصه عليه وعلى البحث عنه أشد وحبه له أكثر لأن
لذته فيه أعظم
فهذا استبان أن ألذ المعارف أشرفها وشرفها بحسب شرف المعلوم فإن كان في المعلومات
ما هو الأجل والأكمل والأشرف والأعظم فالعلم به ألذ العلوم لا محالة وأشرفها وأطيبها
وليت شعرى هل في الوجود شئ أجل وأعلى وأشرف وأكمل وأعظم من خالق الأشياء كلها
ومكملها ومزينها ومبدئها ومعيدها ومدبرها ومرتبها وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك
والكمال والجمال والبهاء والجلال أعظم من الحضرة الربانية التى لا يحيط بمبادى
جلالها وعجائب أحوالها وصف الواصفين فإن كنت لا تشك في ذلك فلا ينبغى أن تشك في أن
الاطلاع على أسرار الربوبية والعلم بترتب الأمور الإلهية المحيطة بكل الموجودات هو
أعلى أنواع المعارف والاطلاعات وألذها وأطيبها وأشهاها وأحرى ما تستشعر به النفوس
عند الاتصاف به كمالها وجمالها واجدر ما يعظم به الفرح والارتياح والاستبشار وبهذا
تبين أن العلم لذيذ وأن ألذ العلوم العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وتدبيره في
مملكته من منتهى عرشه إلى تخوم الأرضين فينبغي أن يعلم أن لذة المعرفة أقوى من
سائر اللذات أعنى لذة الشهوات والغضب ولذة سائر الحواس الخمس فإن اللذات مختلفة
بالنوع أولا كمخالفة لذة الوقاع للذة السماع ولذة المعرفة للذة الرياسة
وهى مختلفة بالضعف والقوة كمخالفة لذة الشبق المغتلم من الجماع للذة الفاتر للشهوة
وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه الجميل الفائق الجمال للذة النظر إلى ما دونه في
الجمال وإنما تعرف أقوى
اللذات بأن تكون مؤثرة على غيرها فإن
المخير بين النظر إلى صورة جميلة والتمتع بمشاهدتها وبين استنشاق روائح طيبة إذا
اختار النظر إلى الصورة الجميلة علم أنها ألذ عنده من الروائح الطيبة وكذلك إذا
حضر الطعام وقت الأكل واستمر اللاعب بالشطرنج على اللعب وترك الأكل فيعلم به أن
لذة الغلبة في الشطرنج أقوى عنده من لذة الاكل
فهذا معيا صادق في الكشف عن ترجيح اللذات فنعود ونقول
اللذات تنقسم إلى ظاهرة كلذة الحواس الخمس وإلى باطنة كلذة الرياسة والغلبة
والكرامة والعلم وغيرها إذ ليست هذه اللذة للعين ولا للأنف ولا الأذن ولا للمس ولا
للذوق والمعانى الباطنة أغلب على ذوى الكمال من اللذات الظاهرة فلو خير الرجل بين
لذة الدجاج السمين واللوزينج وبين لذة الرياسة وقهر الأعداء ونيل درجة الاستيلاء
فإن كان المخير خسيس الهمة ميت القلب شديد النهمة اختار اللحم والحلاوة وإن كان على
الهمة كامل العقل اختار الرياسة وهان عليه الجوع والصبر عن ضرورة القوت أياما
كثيرة فاختياره للرياسة يدل على أنها ألذ عنده من الطعومات الطيبة نعم الناقص الذى
لم تكمل معانيه الب