الي بلوجر

الي بلوجر في أي شريعة تهدر حقي كمدون بحذفك من مدونات {12} صفحة وبأي حق تسلك هذا المسلك في كل مدوناتي  كف عن ذلك وخاف من الله العلي القدير  وكفي اهدار لجهودي بغير وجه حق// To blogger, in what law do you waste my right as a blogger by deleting you from the blogs of {12} pages, and by what right do you take this path in all my blogs?

الخميس، 21 أبريل 2022

ج 1 و ج2- .المستصفى في علم الأصول للإمام محمد بن محمد الغزالي أبو حامد /سنة الولادة 450/ سنة الوفاة 505 المستصفى في علم الأصول

 

ج 1.المستصفى في علم الأصول محمد بن محمد الغزالي أبو حامد /سنة الولادة 450/ سنة الوفاة 505

المستصفى في علم الأصول 

 الحمد لله القوي القادر الولي الناصر اللطيف القاهر المنتقم الغافر الباطن الظاهر الأول الآخر الذي جعل العقل أرجح الكنوز والذخائر والعلم أربح المكاسب والمتاجر وأشرف المعالي والمفاخر وأكرم المحامد والمآثر وأحمد الموارد والمصادر فشرفت بإثباته الأقلام والمحابر وتزينت بسماعه المحاريب والمنابر وتحلت برقومه الأوراق والدفاتر وتقدم بشرفه الأصاغر على الأكابر واستضاءت ببهائه الأسرار والضمائر وتنورت بأنواره القلوب والبصائر واستحقر في ضيائه ضياء الشمس الباهر على الفلك الدائر واستصغر في نوره الباطن ما ظهر من نور الأحداق والنواظر حتى تغلغل بضيائه في أعماق المغمضات جنود الخواطر وإن كلت عنها النواظر وكثفت عليها الحجب والسواتر
والصلاة على محمد رسوله ذي العنصر الطاهر والمجد المتظاهر والشرف المتناصر والكرم المتقاطر المبعوث بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين وناسخا بشرعه كل شرع غابر ودين داثر المؤيد بالقرآن المجيد الذي لا يمله سامع ولا آثر ولا يدرك كنه جزالته ناظم ولا ناثر ولا يحيط بعجائبه وصف واصف ولا ذكر ذاكر وكل بليغ دون ذوق فهم جليات أسراره قاصر وعلى آله وأصحابه وسلم كثيرا كثرة ينقطع دونها عمر العاد الحاصر
أما بعد فقد تناطق قاضي العقل وهو الحاكم الذي لا يعزل ولا يبدل وشاهد الشرع وهو الشاهد المزكى المعدل بأن الدنيا دار غرور لا دار سرور ومطية عمل لا مطية كسل ومنزل عبور لا متنزه حبور ومحل تجارة لا مسكن عمارة ومتجر بضاعتها الطاعة وربحها الفوز يوم تقوم الساعة والطاعة طاعتان عمل وعلم والعلم أنجحها وأربحها فإنه أيضا من العمل ولكنه عمل القلب الذي هو أعز الأعضاء وسعي العقل الذي هو أشرف الأشياء لأنه مركب الديانة وحامل الأمانة إذ عرضت على الأرض والجبال والسماء فأشفقن من حملها وأبين أن يحملنها غاية الإباء
ثم العلوم ثلاثة 1 عقلي محض لا يحث الشرع عليه ولا يندب إليه كالحساب والهندسة والنجوم وأمثاله من العلوم فهي بين ظنون كاذبة لائقة وإن بعض الظن إثم وبين علوم صادقة لا منفعة لها ونعوذ بالله من علم لا ينفع وليست المنفعة في الشهوات الحاضرة والنعم الفاخرة فإنها فانية داثرة بل النفع ثواب دار الآخرة

____________________

(1/3)


2 ونقلي محض كالأحاديث والتفاسير والخطب في أمثالها يسير إذ يستوي في الاستقلال بها الصغير والكبير لأن قوة الحفظ كافية في النقل وليس فيها مجال للعقل
3 وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد ولأجل شرف علم الفقه وسببه وفر الله دواعي الخلق على طلبه وكان العلماء به أرفع العلماء مكانا وأجلهم شأنا وأكثرهم أتباعا وأعوانا فتقاضاني في عنفوان شبابي اختصاص هذا العلم بفوائد الدين والدنيا وثواب الآخرة والأولى أن أصرف إليه من مهلة العمر صدرا وأن أخص به من متنفس الحياة قدرا فصنفت كتبا كثيرة في فروع الفقه وأصوله ثم أقبلت بعده على علم طريق الآخرة ومعرفة أسرار الدين الباطنة فصنفت فيه كتبا بسيطة ككتاب إحياء علوم الدين ووجيزه ككتاب جواهر القرآن ووسيطه ككتاب كيمياء السعادة ثم ساقني قدر الله تعالى إلى معاودة التدريس والإفادة فاقترح علي طائفة من محصلي علم الفقه تصنيفا في أصول الفقه أصرف العناية فيه إلى التلفيق بين الترتيب والتحقيق وإلى التوسط بين الإخلال والإملال على وجه يقع في الفهم دون كتاب تهذيب الأصول لميله إلى الاستقصاء والاستكثار وفوق كتاب المنخول لميله إلى الإيجاز والاختصار فأجبتهم إلى ذلك مستعينا بالله وجمعت فيه بين الترتيب والتحقيق لفهم المعاني فلا مندوحة لأحدهما على الثاني فصنفته وأتيت فيه بترتيب لطيف عجيب يطلع الناظر في أول وهلة على جميع مقاصد هذا العلم ويفيده الاحتواء على جميع مسارح النطرفيه فكل علم لا يستولي الطالب في ابتداء نظره على مجامعه ولا مبانيه فلا مطمع له في الظفر بأسراره ومباغيه وقد سميته كتاب المستصفى من علم الأصول والله تعالى هو المسؤول لينعم بالتوفيق ويهدي إلى سواء الطريق وهو بإجابة السائلين حقيق

____________________

(1/4)


صدر الكتاب اعلم أن هذا العلم الملقب بأصول الفقه قد رتبناه وجمعناه في هذا الكتاب وبنيناه على مقدمة وأربعة أقطاب المقدمة لها كالتوطئة والتمهيد والأقطاب هي المشتملة على لباب المقصود ولنذكر في صدر الكتاب معنى أصول الفقه وحده وحقيقته أولا ثم مرتبته ونسبته إلى العلوم ثانيا ثم كيفية إنشعابه إلى هذه المقدمة والأقطاب الأربعة ثالثا ثم كيفية اندراج جميع أقسامه وتفاصيله تحت الأقطاب الأربعة رابعا ثم وجه تعلقه بهذه المقدمة خامسا
بيان حد أصول الفقه اعلم أنك لا تفهم معنى أصول الفقه ما لم تعرف أولا معنى الفقه والفقه عبارة عن العلم والفهم في أصل الوضع يقال فلان يفقه الخير والشر أي يعلمه ويفهمه ولكن صار بعرف العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة حتى لا يطلق بحكم العادة اسم الفقيه على متكلم وفلسفي ونحوي ومحدث ومفسر بل يختص بالعلماء بالأحكام الشرعية الثابتة للأفعال الإنسانية كالوجوب والحظر والإباحة والندب والكراهة وكون العقد صحيحا وفاسدا وباطلا وكون العبادة قضاء وأداء وأمثاله
ولا يخفى عليك أن للأفعال أحكاما عقلية أي مدركة بالعقل ككونها أعراضا وقائمة بالمحل ومخالفة للجوهر وكونها أكوانا حركة وسكونا وأمثالها والعارف بذلك يسمى متكلما لا فقيها
وأما أحكامها من حيث إنها واجبة ومحظورة ومباحة ومكروهة ومندوب إليها فإنما يتولى الفقيه بيانها فإذا فهمت هذا فافهم أن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام وعن معرفة وجوه دلالتها على الأحكام من حيث الجملة لا من حيث التفصيل فإن علم الخلاف من الفقه أيضا مشتمل على أدلة الأحكام ووجوه دلالتها ولكن من حيث التفصيل كدلالة حديث خاص في مسألة النكاح بلا ولي على الخصوص ودلالة آية خاصة في مسألة متروك التسمية على الخصوص
وأما الأصول فلا يتعرض فيها لإحدى المسائل ولا على طريق ضرب المثال بل يتعرض فيها لأصل الكتاب والسنة والإجماع ولشرائط صحتها وثوبتها ثم لوجوه دلالتها الجميلة إما من حيث صيغتها أو مفهوم لفظها أو مجرى لفظها أو معقول لفظها وهو القياس من غير أن يتعرض فيها لمسألة خاصة فبهذا تفارق أصول الفقه فروعه وقد عرفت
____________________

(1/5)


من هذا أن أدلة الأحكام الكتاب والسنة والإجماع فالعلم بطرق ثبوت هذه الأصول الثلاثة وشروط صحتها ووجوه دلالتها على الأحكام هو العلم الذي يعبر عنه بأصول الفقه
بيان مرتبة هذا العلم ونسبته إلى العلوم اعلم أن العلوم تنقسم إلى عقلية كالطب والحساب والهندسة وليس ذلك من غرضنا
وإلى دينية كالكلام والفقه وأصوله وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الباطن أعني علم القلب وتطهيره عن الأخلاق الذميمة وكل واحد من العقلية والدينية ينقسم إلى كلية وجزئية فالعلم الكلي من العلوم الدينية هو الكلام وسائر العلوم من الفقه وأصوله والحديث والتفسير علوم جزئية لأن المفسر لا ينظر إلا في معنى الكتاب خاصة والمحدث لا ينظر إلا في طريق ثبوت الحديث خاصة والفقيه لا ينظر إلا في أحكام أفعال المكلفين خاصة والأصولي لا ينظر إلا في أدلة الأحكام الشرعية خاصة
والمتكلم هو الذي ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود
فيقسم الموجود أولا إلى 1 قديم 2 وحادث ثم يقسم المحدث إلى 1 جوهر 2 عرض
ثم يقسم العرض 1 إلى ما تشترط فيه الحياة من العلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر 2 وإلى ما يستغنى عنها كاللون والريح والطعم
ويقسم الجوهر إلى الحيوان والنبات والجماد ويبين أن اختلافها بالأنواع أو بالأعراض ثم ينظر في القديم فيبين أنه لا يتكثر ولا ينقسم انقسام الحوادث بل لا بد أن يكون واحدا وأن يكون متميزا عن الحوادث بأوصاف تجب له وبأمور تستحيل عليه وأحكام تجوز في حقه ولا تجب ولا تستحيل ويفرق بين الجائز والواجب والمحال في حقه ثم يبين أن أصل الفعل جائز عليه وأن العالم فعله الجائز وأنه لجوازه افتقر إلى محدث وأن بعثة الرسل من أفعاله الجائزة وأنه قادر عليه وعلى تعريف صدقهم بالمعجزات وأن هذا الجائز واقع عند هذا ينقطع كلام المتكلم وينتهي تصرف العقل بل العقل يدل على صدق النبي ثم يعزل نفسه ويعترف بأنه يتلقى من النبي بالقبول ما يقول في الله واليوم الآخر مما لا يستقل العقل بدركه ولا يقضي أيضا باستحالته فقد يرد الشرع بما يقصر العقل عن الاستقلال بإدراكه إذ لا يستقل العقل بإدراك كون الطاعة سببا للسعادة في الآخرة وكون المعاصي سببا للشقاوة لكنه لا يقضي باستحالته أيضا ويقضي بوجوب صدق من دلت المعجزة على صدقه فإذا أخبر عنه صدق العقل به بهذه الطريق فهذا ما يحويه علم الكلام فقد عرفت من هذا أنه يبتدى نظره في أعم الأشياء أولا وهو الموجود ثم ينزل بالتدريج إلى التفصيل الذي ذكرناه فيثبت فيه مبادىء سائر العلوم الدينية من الكتاب والسنة وصدق الرسول فيأخذ المفسر من جملة ما نظر فيه المتكلم واحدا خاصا وهو الكتاب فينظر في تفسيره ويأخذ المحدث واحدا خاصا وهو السنة فينظر في طرق ثبوتها والفقيه يأخذ واحدا خاصا وهو فعل المكلف فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الوجوب والحظر والإباحة ويأخذ الأصولي واحدا خاصا وهو قول الرسول الذي دل المتكلم على صدقه فينظر في وجه دلالته على الأحكام إما بملفوظة أو بمفهومه أو بمعقول معناه ومستنبطه ولا يجاوز نظر الأصولي قول الرسول عليه السلام وفعله فإن الكتاب إنما
____________________

(1/6)


يسمعه من قوله والإجماع يثبت بقوله والأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط وقول الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يثبت صدقه وكونه حجة في علم الكلام فإذا الكلام هو المتكفل بإثبات مبادىء العلوم الدينية كلها فهي جزئية بالإضافة إلى الكلام فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات فإن قيل فليكن من شرط الأصولي والفقيه والمفسر والمحدث أن يكون قد حصل علم الكلام لأنه قبل الفراغ من الكلي الأعلى كيف يمكنه النزول إلى الجزئي الأسفل قلنا ليس ذلك شرطا في كونه أصوليا وفقيها ومفسرا ومحدثا وإن كان ذلك شرطا في كونه عالما مطلقا مليئا بالعلوم الدينية وذلك أنه ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مباد تؤخذ مسلمة بالتقليد في ذلك العلم ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر فالفقيه ينظر في نسبة فعل المكلف إلى خطاب الشرع في أمره ونهيه وليس عليه إقامة البرهان على إثبات الأفعال الاختياريات للمكلفين فقد أنكرت الجبرية فعل الإنسان وأنكرت طائفة وجود الأعراض والفعل عرض ولا على الفقيه إقامة البرهان على ثبوت خطاب الشرع وأن لله تعالى كلاما قائما بنفسه هو أمر ونهي ولكن يأخذ ثبوت الخطاب من الله تعالى
وثبوت الفعل من المكلف على سبيل التقليد وينظر في نسبة الفعل إلى الخطاب فيكون قد قام بمنتهى علمه وكذلك الأصولي يأخذ بالتقليد من المتكلم أن قول الرسول حجة ودليل واجب الصدق ثم ينظر في وجوده دلالته وشروط صحته فكل عالم بعلم من العلوم الجزئية فإنه مقلد لا محالة في مبادىء علمه إلى أن يترقى إلى العلم الأعلى فيكون قد جاوز علمه إلى علم آخر
بيان كيفية دورانه على الأقطاب الأربعة اعلم أنك إذا فهمت أن نظر الأصولي في وجوه دلالة الأدلة السمعية على الأحكام الشرعية لم يخف عليك أن المقصود كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة فوجب النظر في الأحكام ثم في الأدلة وأقسامها ثم في كيفية اقتباس الأحكام من الأدلة ثم في صفات المقتبس الذي له أن يقتبس الأحكام فإن الأحكام ثمرات وكل ثمرة لها صفة وحقيقة في نفسها ولها مثمر ومستثمر وطريق في الاستثمار
والثمرة هي الأحكام أعني الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة والحسن والقبح والقضاء والأداء والصحة والفساد وغيرها
والمثمر هي الأدلة وهي ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع فقط
وطرق الاستثمار هي وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها أو بفحواها ومفهومها وباقتضائها وضرورتها أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها
والمستثمر هو المجتهد ولا بد من معرفة صفاته وشروطه وأحكامه فإذا جملة الأصول تدور على أربعة أقطاب
القطب الأول في الأحكام والبداءة بها أولى لأنها الثمرة المطلوبة
القطب الثاني في الأدلة وهي الكتاب والسنة والإجماع وبها التثنية إذ بعد الفراغ من معرفة الثمرة لا أهم من معرفة المثمر
القطب الثالث في طريق الاستثمار وهو وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة دلالة بالمنظوم ودلالة بالمفهوم ودلالة بالضرورة والاقتضاء ودلالة بالمعنى المعقول
القطب الرابع في المستثمر وهو المجتهد الذي يحكم بظنه ويقابله المقلد الذي
____________________

(1/7)


يلزمه اتباعه فيجب ذكر شروط المقلد والمجتهد وصفاتهما
بيان كيفية اندراج الشعب الكثيرة من أصول الفقه تحت هذه الأقطاب الأربعة لعلك تقول أصول الفقه تشتمل على أبواب كثيرة وفصول منتشرة فكيف يندرج جملتها تحت هذه الأقطاب الأربعة فنقول القطب الأول هو الحكم وللحكم حقيقة في نفسه وانقسام وله تعلق بالحاكم وهو الشارع والمحكوم عليه وهو المكلف وبالمحكوم فيه وهو فعل المكلف وبالمظهر له وهو السبب والعلة ففي البحث عن حقيقة الحكم في نفسه يتبين أنه عبارة عن خطاب الشرع وليس وصفا للفعل ولا حسن ولا قبح ولا مدخل للعقل فيه ولا حكم قبل ورود الشرع وفي البحث عن أقسام الحكم يتبين حد الواجب والمحظور والمندوب والمباح والمكروه والقضاء والأداء والصحة والفساد والعزيمة والرخصة وغير ذلك من أقسام الأحكام وفي البحث عن الحاكم يتبين أن لا حكم إلا لله وأنه لا حكم للرسول ولا للسيد على العبد ولا لمخلوق على مخلوق بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه لا حكم لغيره وفي البحث عن المحكوم عليه يتبين خطاب الناسي والمكره والصبي وخطاب الكافر بفروع الشرع وخطاب السكران ومن يجوز تكليفه ومن لا يجوز وفي البحث عن المحكوم فيه يتبين أن الخطاب يتعلق بالأفعال لا بالأعيان وأنه ليس وصفا للأفعال في ذواتها وفي البحث عن مظهر الحكم يتبين حقيقة السبب والعلة والشرط والمحل والعلامة فيتناول هذا القطب جملة من تفاريق فصول الأصول أوردها الأصوليون مبددة في مواضع شتى لا تتناسب ولا تجمعها رابطة فلا يهتدي الطالب إلى مقاصدها ووجه الحاجة إلى معرفتها وكيفية تعلقها بأصول الفقه
القطب الثاني في المثمر وهو الكتاب والسنة والإجماع وفي البحث عن أصل الكتاب يتبين حد الكتاب وما هو منه وما ليس منه وطريق إثبات الكتاب وأنه التواتر فقط وبيان ما يجوز أن يشتمل عليه الكتاب من حقيقة ومجاز وعربية وعجمية وفي البحث عن السنة يتبين حكم الأقوال والأفعال من الرسول وطرق ثبوتها من تواتر وآحاد وطرق روايتها من مسند ومرسل وصفات رواتها من عدالة وتكذيب إلى تمام كتاب الأخبار ويتصل بالكتاب والسنة كتاب النسخ فإنه لا يرد إلا عليهما وأما الإجماع فلا يتطرق النسخ إليه وفي البحث عن أصل الإجماع تتبين حقيقته ودليله وأقسامه وإجماع الصحابة وإجماع من بعدهم إلى جميع مسائل الإجماع
القطب الثالث في طرق الاستثمار وهي أربعة الأولى دلالة اللفظ من حيث صيغته وبه يتعلق النظر في صيغة الأمر والنهي والعموم والخصوص والظاهر والمؤول والنص والنظر في كتاب الأوامر والنواهي والعموم والخصوص نظر في مقتضى الصيغ اللغوية
وأما الدلالة من حيث الفحوى والمفهوم فيشتمل عليه كتاب المفهوم ودليل
____________________

(1/8)


الخطاب
وأما الدلالة من حيث ضرورة اللفظ واقتضاؤه فيتضمن جملة من إشارات الألفاظ كقول القائل أعتق عبدك عني فتقول أعتقت فإنه يتضمن حصول الملك للملتمس ولم يتلفظا به لكنه من ضرورة ملفوظهما ومقتضاه
وأما الدلالة من حيث معقول اللفظ فهو كقوله صلى الله عليه وسلم لا يقضي القاضي وهو غضبان فإنه يدل على الجائع والمريض والحاقن بمعقول معناه ومنه ينشأ القياس وينجر إلى بيان جميع أحكام القياس
وأقسامه
القطب الرابع في المستثمر وهو المجتهد وفي مقابلته المقلد وفيه يتبين صفات المجتهد وصفات المقلد والموضع الذي يجري فيه الاجتهاد دون الذي لا مجال للاجتهاد فيه والقول في تصويب المجتهدين وجملة أحكام الاجتهاد فهذه جملة ما ذكر في علم الأصول وقد عرفت كيفية انشعابها من هذه الأقطاب الأربعة
بيان المقدمة ووجه تعلق الأصول بها اعلم أنه لما رجع حد أصول الفقه إلى معرفة أدلة الأحكام اشتمل الحد على ثلاثة ألفاظ المعرفة والدليل والحكم فقالوا إذا لم يكن بد من معرفة الحكم حتى كان معرفته أحد الأقطاب الأربعة فلا بد أيضا من معرفة الدليل ومعرفة المعرفة أعني العلم ثم العلم المطلوب لا وصول إليه إلا بالنظر فلا بد من معرفة النظر فشرعوا في بيان حد العلم والدليل والنظر ولم يقتصروا على تعريف صور هذه الأمور ولكن انجر بهم إلى إقامة الدليل على إثبات العلم على منكريه من السوفسطائية وإقامة الدليل على النظر على منكري النظر وإلى جملة من أقسام العلوم وأقسام الأدلة وذلك مجاوزة لحد هذا العلم وخلط له بالكلام وإنما أكثر فيه المتكلمون من الأصوليين لغلبة الكلام على طبائعهم فحملهم حب صناعتهم على خلطه بهذه الصنعة كما حمل حب اللغة والنحو بعض الأصوليين على مزج جملة من النحو بالأصول فذكروا فيه من معاني الحروف ومعاني الإعراب جملا هي من علم النحو خاصة وكما حمل حب الفقه جماعة من فقهاء ما وراء النهر كأبي زيد رحمه الله وأتباعه على مزج مسائل كثيرة من تفاريع الفقه بالأصول فإنهم وإن أوردوها في معرض المثال وكيفية إجراء الأصل في الفروع فقد أكثروا فيه وعذر المتكلمين في ذكر حد العلم والنظر والدليل في أصول الفقه أظهر من عذرهم في إقامة البرهان على إثباتها مع المنكرين لأن الحد يثبت في النفس صور هذه الأمور ولا أقل من تصورها إذا كان الكلام يتعلق بها كما أنه لا أقل من تصور الإجماع والقياس لمن يخوض في الفقه وأما معرفة حجية الإجماع وحجية القياس فذلك من خاصية أصول الفقه فذكر حجية العلم والنظر على منكريه استجرار الكلام إلى الأصول كما أن ذكر حجية الإجماع والقياس وخبر الواحد في الفقه استجرار الأصول إلى الفروع
وبعد أن عرفناك إسرافهم في هذا الخلط فإنا لا نرى أن نخلي هذا المجموع عن شيء منه لأن الفطام عن المألوف شديد والنفوس عن الغريب نافرة لكنا نقتصر من ذلك على ما تظهر فائدته على العموم في جملة العلوم من تعريف مدارك العقول وكيفية تدرجها من الضروريات إلى النظريات على وجه يتبين فيه حقيقة العلم والنظر والدليل وأقسامها وحججها تبينا بليغا تخلو عنه مصنفات الكلام

____________________

(1/9)


مقدمة الكتاب نذكر في هذه المقدمة مدارك العقول وانحصارها في الحد والبرهان ونذكر شرط الحد الحقيقي وشرط البرهان الحقيقي وأقسامهما على منهاج أوجز مما ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به بل هي مقدمة العلوم كلها ومن لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلا فمن شاء أن لا يكتب هذه المقدمة فليبدأ بالكتاب من القطب الأول فإن ذلك هو أول أصول الفقه وحاجة جميع العلوم النظرية إلى هذه المقدمة لحاجة أصول الفقه
بيان حصر مدارك العلوم النظرية في الحد والبرهان اعلم أن إدراك الأمور على ضربين الأول إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحادث والقديم وسائر ما يدل عليه بالأسامي المفردة
الثاني إدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى بعض بالنفي أو الإثبات وهو أن تعلم أولا معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد ومعنى لفظ الحادث ومعنى لفظ القديم وهما أيضا أمران مفردان ثم تنسب مفردا إلى مفرد بالنفي أو الإثبات كما تنسب القدم إلى العالم بالنفي فتقول ليس العالم قديما وتنسب الحدوث إليه بالإثبات فتقول العالم حادث والضرب الأخير هو الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب وأما الأول فيستحيل فيه التصديق والتكذيب إذ لا يتطرق التصديق إلا إلى خبر وأقل ما يتركب منه جزآن مفردان وصف وموصوف فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات صدق أو كذب فأما قول القائل حادث أو جسم أو قديم فأفراد ليس فيها صدق ولا كذب ولا بأس أن يصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين فإن حق الأمور المختلفة أن تختلف ألفاظها الدالة عليها إذ الألفاظ مثل المعاني فحقها أن تحاذى بها المعاني وقد سمى المنطقيون معرفة المفردات تصورا و معرفة النسبة الخبرية بينهما تصديقا فقالوا العلم إما تصور وإما تصديق وسمى بعض علمائنا الأول معرفة والثاني علما تأسيا بقول النحاة في قولهم المعرفة تتعدى إلى مفعول واحد إذ تقول عرفت زيدا والظن يتعدى إلى مفعولين إذ تقول ظننت زيدا عالما ولا تقول ظننت زيدا ولا ظننت عالما والعلم من باب الظن فتقول علمت زيدا عدلا والعادة في هذه الاصطلاحات مختلفة وإذا فهمت افتراق الضربين فلا مشاحة في الألقاب فنقول الآن إن
____________________

(1/10)


الإدراكات صارت محصورة في المعرفة والعلم أو في التصور والتصديق وكل علم تطرق إليه تصديق فمن ضرورته أن يتقدم عليه معرفتان أي تصوران فإن من لا يعرف المفرد كيف يعلم المركب ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث
ومعرفة المفردات قسمان أولي وهو الذي لا يطلب بالبحث وهو الذي يرتسم معناه في النفس من غير بحث وطلب كلفظ الوجود والشيء وككثير من المحسوسات
ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل ولا مفسر
فيطلب تفسيره بالحد
وكذلك العلم ينقسم إلى أول كالضروريات وإلى مطلوب كالنظريات والمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق والتكذيب لا يقتنص إلا بالبرهان فالبرهان والحد هو الآلة التي بها يقتنص سائر العلوم المطلوبة فلتكن هذه المقدمة المرسومة لبيان مدارك العقول مشتملة على دعامتين دعامة في الحد ودعامة في البرهان
الدعامة الأولى في الحد ويجب تقديمها لأن معرفة المفردات تتقدم على معرفة المركبات وتشتمل على فنين فن يجري مجرى القوانين وفن يجري مجرى الامتحانات لتلك القوانين
الفن الأول في القوانين وهي ستة القانون الأول أن الحد إنما يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال بل عن بعضه والسؤال طلب وله لا محالة مطلوب وصيغة والصيغ والمطالب كثيرة ولكن أمهات المطالب أربع
المطلب الأول ما يطلب بصيغة هل يطلب بهذه الصيغة أمران إما أصل الوجود كقولك هل الله تعالى موجود أو يطلب حال الموجود ووصفه كقولك هل الله تعالى خالق البشر وهل الله تعالى متكلم وآمر وناه المطلب الثاني ما يطلب بصيغة ما ويطلق لطلب ثلاثة أمور الأول أن يطلب به شرح اللفظ كما يقول من لا يدري العقار ما العقار فيقال له الخمر إذا كان يعرف لفظ الخمر
الثاني أن يطلب لفظ محرر جامع مانع يتميز به المسؤول عنه من غيره كيفما كان الكلام سواء كان عبارة عن عوارض ذاته ولوازمه البعيدة عن حقيقة ذاته أو حقيقة ذاته كما سيأتي الفرق بين الذاتي والعرضي كقول القائل ما الخمر فيقال هو المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة ويحفظ في الدن والمقصود أن لا يتعرض لحقيقة ذاته بل يجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج منه خمر ولا يدخل فيه ما ليس بخمر
والثالث أن يطلب به ماهية الشيء وحقيقة ذاته كمن يقول ما الخمر فيقال هو شراب مسكر معتصر من العنب فيكون ذلك كاشفا عن حقيقته ثم يتبعه لا محالة التمييز واسم الحد في العادة قد يطلق على هذه الأوجه الثلاثة بالاشتراك فلنخترع لكل
____________________

(1/11)


واحد اسما ولنسم الأول حدا لفظيا إذ السائل لا يطلب به إلا شرح اللفظ ولنسم الثاني حدا رسميا إذ هو مطلب مرتسم بالعلم غير متشوف إلى درك حقيقة الشيء ولنسم الثالث حدا حقيقيا إذ مطلب الطالب منه درك حقيقة الشيء وهذا الثالث شرطه أن يشتمل على جميع ذاتيات الشيء فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقيل جسم حساس فقد جيء بوصف ذاتي وهو كاف في الجمع والمنع ولكنه ناقص بل حقه أن يضاف إليه المتحرك بالإرادة فإن كنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع أمرين فأما المرتسم الطالب للتمييز فيكتفي بالحساس وإن لم يقل أنه جسم أيضا
المطلب الثالث ما يطلب بصيغة ( لم ) وهو سؤال عن العلة وجوابه بالبرهان على ما سيأتي حقيقته
المطلب الرابع ما يطلب بصيغة ( أي ) وهو الذي يطلب به تمييز ما عرف جملته عما اختلط به كما إذا قيل ما الشجر فقيل إنه جسم فينبغي أن يقال أي جسم هو فيقول نام وأما مطلب ( كيف ) و ( أين ) و ( متى ) وسائر صيغ السؤال فداخل في مطلب ( هل ) والمطلوب به صفة الوجود
القانون الثاني إن الحاد ينبغي أن يكون بصيرا بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعرضية وذلك غامض فلا بد من بيانه فنقول المعنى إذا نسب إلى المعنى الذي يمكن وصفه به وجد بالإضافة إلى الموصوف
إما ذاتيا له ويسمى صفة نفس
وإما لازما ويسمى تابعا
وإما عارضا لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود
ولا بد من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في الحد والبرهان جميعا
أما الذاتي فإني أعني به كل داخل في ماهية الشيء وحقيقته دخولا لا يتصور فهم المعنى دون فهمه وذلك كاللونية للسواد والجسمية للفرس والشجر فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصا فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولا به قوامها في الوجود والعقل لو قدر عدمها لبطل وجود الشجرية وكذا الفرس ولو قدر خروجها عن الذهن لبطل فهم الشجر والفرس من الذهن وما يجري هذا المجرى فلا بد من إدراجه في حد الشيء فمن يحد النبات يلزمه أن يقول جسم نام لا محالة
وأما اللازم فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات والشجر عند طلوع الشمس فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعبر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له وأعني به أن فهم حقيقته غير موقوف على فهم ذلك له إذ الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل يفهم الجسم الذي هو أعم منه وإن لم يخطر بباله ذلك وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا يتصور مفارقته له ولكن فهم الأرض غير موقوف على فهم كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعد أنهما مخلوقتان فإنا نعلم أولا حقيقة الجسم ثم نطلب بالبرهان كونه مخلوقا ولا يمكننا أن نعلم الأرض والسماء ما لم نعلم الجسم
وأما العارض فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل يتصور مفارقته إما
____________________

(1/12)


سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب وزرقة العين وسواد الزنجي وربما لا يزول في الوجود كزرقة العين ولكن يمكن رفعه في الوهم وأما كون الأرض مخلوقة وكون الجسم الكثيف ذا ظل مانع نور الشمس فإنه ملازم لا تتصور مفارقته ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة واستقصاء ذلك في هذه المقدمة التي هي كالعلاوة على هذا العلم غير ممكن وقد استقصيناه في كتاب معيار العلم فإذا فهمت الفرق بين الذاتي واللازم فلا تورد في الحد الحقيقي إلا الذاتيات وينبغي أن تورد جميع الذاتيات حتى يتصور بها كنه حقيقة الشيء وماهيته وأعني بالماهية ما يصلح أن يقال في جواب ما هو فإن القائل ما هو يطلب حقيقة الشيء فلا يدخل في جوابه إلا الذاتي والذاتي ينقسم إلى عام ويسمى جنسا وإلى خاص ويسمى نوعا فإن كان الذاتي العام لا أعم منه سمي جنس الأجناس وإن كان الذاتي الخاص لا أخص منه سمي نوع الأنواع وهو اصطلاح المنطقيين ولتصالحهم عليه فإنه لا ضرر فيه وهو كالمستعمل أيضا في علومنا ومثاله أنا إذا قلنا الجوهر ينقسم إلى جسم وغير جسم والجسم ينقسم إلى نام وغير نام والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الإنسان وغير عاقل فالجوهر جنس الأجناس إذ لا أعم منه والإنسان نوع الأنواع إذ لا أخص منه والنامي نوع بالإضافة إلى الجسم لأنه أخص منه وجنس بالإضافة إلى الحيوان لأنه أعم منه وكذلك الحيوان بين النامي الأعم والإنسان الأخص فإن قيل كيف لا يكون شيء أعم من الجوهر وكونه موجودا أعم منه وكيف لا يكون شيء أعم من الجوهر وكونه موجودا أعم منه وكيف لا يكون شيء أخص من الإنسان وقولنا شيخ وصبي وطويل وقصير وكاتب وخياط أخص منه قلنا لم نعن في هذا الاصطلاح بالجنس الأعم فقط بل عنينا الأعم الذي هو ذاتي للشيء أي داخل في جواب ما هو بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن وخرج عن كونه مفهوما للعقل وعلى هذا اصطلاح فالموجود لا يدخل في الماهية إذ بطلانه لا يوجب زوال الماهية عن الذهن بيانه إذا قال القائل ما حد المثلث فقلنا شكل يحيط به ثلاثة أضلاع أو قال ما حد المسبع فقلنا شكل يحيط به سبعة أضلاع فهم السائل حد المسبع وإن لم يعلم أن المسبع موجود في العالم أصلا فبطلان العلم بوجوده لا يبطل عن ذهنه فهم حقيقة المسبع ولو بطل عن ذهنه الشكل لبطل المسبع ولم يبق مفهوما عنده وأما ما هو أخص من الإنسان من كونه طويلا أو قصيرا أو شيخا أو صبيا أو كاتبا أو أبيض أو محترفا فشيء منه لا يدخل في الماهية إذ لا يتغير جواب الماهية بتغيره فإذا قيل لنا ما هذا فقلنا إنسان وكان صغيرا فكبر أو قصيرا فطال فسئلنا مرة أخرى ما هو لست أقول من هو لكان الجواب ذلك بعينه ولو أشير إلى ما ينفصل من الأحليل عند الوقاع وقيل ما هو لقلنا نطفة فإذا صار جنينا ثم مولودا فقيل ما هو تغير الجواب ولم يحسن أن يقال نطفة بل يقال إنسان وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو قلنا ماء كما في حالة البرودة ولو استحال بالنار بخارا ثم هواء ثم قيل ما هو تغير الجواب فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل فلنذكر في الحد الحقيقي ما يدخل في الماهية وأما الحد اللفظي والرسمي
____________________

(1/13)


فمؤنتهما خفيفة إذ طالبهما قانع بتبديل لفظ العقار بالخمر وتبديل لفظ العلم بالمعرفة أو بما هو وصف عرضي جامع مانع وإنما العويص المتعذر هو الحد الحقيقي وهو الكاشف عن ماهية الشيء لا غير
القانون الثالث ( أصل السؤال وتعريفه الصحيح ) إن ما وقع السؤال عن ماهيته وأردت أن تحده حدا حقيقيا فعليك فيه وظائف لا يكون الحد حقيقيا إلا بها فإن تركتها سميناه رسميا أو لفظيا ويخرج عن كونه معربا عن حقيقة الشيء ومصورا لكنه معناه في النفس
الأولى أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول فإذا قال لك مشيرا إلى ما ينبت من الأرض ما هو فلا بد أن تقول جسم لكن لو اقتصرت عليه لبطل عليك بالحجر فتحتاج إلى الزيادة فتقول نام فتحترز به عما لا ينمو فهذا الاحتراز يسمى فصلا أي فصلت به المحدود عن غيره
الثانية أن تذكر جميع ذاتياته وإن كانت ألفا ولا تبالي بالتطويل لكن ينبغي أن تقدم الأعم على الأخص فلا تقول نام جسم بل بالعكس وهذه لو تركتها لتشوش النظم ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ فالإنكار عليك في هذا أقل مما في الأول وهو أن تقتصر على الجسم
الثالثة إنك إذا وجدت الجنس القريب فلا تذكر البعيد معه فتكون مكررا تقول مائع شراب أو تقتصر على البعيد فتكون مبعدا كما تقول في حد الخمر جسم مسكر مأخوذ من العنب وإذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذاتي ومطرد ومنعكس لكنه مختل قاصر عن تصوير كنه حقيقة الخمر بل لو قلت مائع مسكر كان أقرب من الجسم وهو أيضا ضعيف بل ينبغي أن تقول شراب مسكر فإنه الأقرب الأخص ولا تجد بعده جنسا أخص منه فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل إذ الشراب يتناول سائر الأشربة فاجتهد أن تفصل بالذاتيات إلا إذا عسر عليك ذلك وهو كذلك عسير في أكثر الحدود فاعدل بعد ذكر الجنس إلى اللوازم واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة فإن الخفي لا يعرف كما إذا قيل ما الأسد فقلت سبع أبخر ليتميز بالبخر عن الكلب فإن البخر من خواص الأسد لنه خفي ولو قلت سبع شجاع عريض الأعالي لكانت هذه اللوازم والأعراض أقرب إلى المقصود لأنها أجلى وأكثر مما ترى في الكتب من الحدود رسمية إذ الحقيقية عسرة جدا وقد يسهل درك بعض الذاتيات ويعسر بعضها فإن درك جميع الذاتيات حتى لا يشذ واحد منها عسر والتمييز بين الذاتي واللازم عسر ورعاية الترتيب حتى لا يبتدأ بالأخص قبل الأعم عسر وطلب الجنس الأقرب عسر فإنك ربما تقول في الأسد إنه حيوان شجاع ولا يحضرك لفظ السبع فتجمع أنواعا من العسر وأحسن الرسميات ما وضع فيه الجنس الأقرب وتمم بالخواص المشهورة المعروفة
الرابعة أن تحترز من الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة واجتهد في الإيجاز ما قدرت وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك فإن أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو أشد مناسبة للغرض واذكر مرادك للسائل فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة للإنباء عنه ولو طول مطول واستعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في
____________________

(1/14)


ذمه إن كان قد كشف عن الحقيقة بذكر جميع الذاتيات فإنه المقصود وهذه المزايا تحسينات وتزيينات كالأبازير من الطعام المقصود وإنما المتحذلقون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار لميل طباعهم القاصرة عن المقصود الأصلي إلى الوسائل والرسوم والتوابع حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث إن الثقة مترددة بين الأمانة والفهم وهذا هوس لأن الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعين فيها جهة الفهم ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا فلا ينبغي أن ينكر من حيث إن لفظ العين مشترك بين الميزان والشمس والعضو الباصر لأن قرينة الحاسة أذهبت عنه الاحتمال وحصل التفهيم الذي هو مطلوب السؤال واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المرتسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها
القانون الرابع في طريق اقتناص الحد اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان لأنا إذا قلنا في حد الخمر أنه شراب مسكر فقيل لنا لم لكان محالا أن يقام عليه برهان فإن لم يكن معنا خصم وكنا نطلبه فكيف نطلبه بالبرهان وقولنا الخمر شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر وحكمها أنه شراب مسكر وهذه القضية إن كانت معلومة بلا وسط فلا حاجة إلى البرهان وإن لم تعلم وافتقرت إلى وسط وهو معنى البرهان أعني طلب الوسط كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه وصحة الحكم للوسط كل واحد قضية واحدة فبماذا تعرف صحتها فإن احتيج إلى وسط تداعى إلى غير نهاية وإن وقف في موضع بغير وسط فبماذا تعرف في ذلك الموضع صحته فليتخذ ذلك طريقا في أول الأمر مثاله لو قلنا في حد العلم إنه المعرفة فقيل لم فقلنا لأن كل علم فهو اعتقاد مثلا وكل اعتقاد فهو معرفة فكل علم إذن معرفة لأن هذا طريق البرهان على ما سيأتي فيقال ولم قلتم كل علم فهو اعتقاد ولم قلتم كل اعتقاد فهو معرفة فيصير السؤال سؤالين وهكذا يتداعى إلى غير نهاية بل الطريق أن النزاع إن كان مع خصم أن يقال عرفنا صحته باطراده وانعكاسه فهو الذي يسلمه الخصم بالضرورة وأما كونه معربا عن تمام الحقيقة ربما ينازع فيه ولا يقر به فإن منع اطراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه وقابلنا أحد الحدين بالآخر وعرفنا ما فيه التفاوت من زيادة أو نقصان وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان وجردنا النظر إلى ذلك الوصف وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة مثاله إذا قلنا المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان مضمونا فقالوا لا نسلم أن ولد المغصوب مغصوب قلنا حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير وقد وجد فربما منع كون اليد عادية وكونه إثباتا بل نقول هذا ثبوت ولكن ليس ذلك من غرضنا بل ربما قال نسلم أن هذا موجود في ولد المغصوب لكن لا نسلم أن هذا حد الغصب فهذا لا يمكن إقامة برهان عليه إلا أنا نقول هو مطرد منعكس فما الحد عندك فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت فيقول بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة فنقول قد زدت وصفا وهو الإزالة فلننظر هل يمكننا أن نقدر على اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف فإن قدرنا عليه بان أن الزيادة عليه محذوفة وذلك بأن نقول الغاصب من الغاصب
____________________

(1/15)


يضمن للمالك وقد أثبت اليد المبطلة ولم يزل المحقة فإنها كانت زائلة فهذا طريق قطع النزاع مع المناظر وأما الناظر مع نفسه إذا تحررت له حقيقة له حقيقة الشيء وتخلص له اللفظ الدال على ما تحرر في مذهبه علم أنه واجد للحد فلا يعاند نفسه
القانون الخامس في حصر مداخل الخلل في الحدود وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من جهة أمر مشترك بينهما أما الخلل من جهة الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في العشق إنه إفراط المحبة وإنما ينبغي أن يقال إنه المحبة المفرطة فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة ومن ذلك أن يؤخذ المحل بدل الجنس كقولك في الكرسي إنه خشب يجلس عليه وفي السيف إنه حديد يقطع به بل ينبغي أن يقال للسيف إنه آلة صناعية من حديد مستطيلة عرضها كذا ويقطع بها كذا فالآلة جنس والحديد محل الصورة لا جنس وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان موجودا والآن ليس بموجود كقولك للرماد إنه خشب محترق وللولد أنه نطفة مستحيلة فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس كما يقال في حد العشرة أنها خمسة وخمسة ومن ذلك أن توضع القدرة موضع المقدور كما يقال حد العفيف هو الذي يقوى على اجتناب اللذات الشهوانية وهو فاسد بل هو الذي يترك وإلا فالفاسق يقوى على الترك ولا يترك ومن ذلك أن يضع اللوازم التي ليست بذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض مثلا ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس كقولك الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشر وأما من جهة الفصل فأن يأخذ اللوازم والعرضيات في الاحتراز بدل الذاتيات وأن لا يورد جميع الفصول وأما الأمور المشتركة فمن ذلك أن يحد الشيء بما هو أخفى منه كقول القائل حد الحادث ما به القدرة ومن ذلك حد الشيء بما هو مساو له في الخفاء كقولك العلم ما يعلم به أو ما يكون الذات به عالما ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد فيقول حد العلم ما ليس بظن ولا جهل وهكذا حتى يحصر الأضداد وحد الزوج ما ليس بفرد ثم يمكنك أن تقول في حد الفرد ما ليس بزوج فيدور الأمر ولا يحصل له بيان ومن ذلك أن يأخذ المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الإضافة كقول القائل حد الأب من له ابن ثم لا يعجز أن يقول حد الابن من له أب بل ينبغي أن يقول الأب حيوان تولد من نطفته حيوان آخر هو من نوعه فهو أب من حيث هو كذلك ولا يحيل على الابن فإنهما في الجهل والمعرفة يتلازمان ومن ذلك أن يأخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يحد المعلول إلا بأن تؤخذ العلة في حده كما يقول في حد الشمس إنه كوكب يطلع نهارا فيقال وما حد النهار فيلزمه أن يقول النهار زمان من طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح ولذلك نظائر لا يمكن إحصاؤها
القانون السادس في أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حده إلا بطريق
____________________

(1/16)


شرح اللفظ أو بطريق الرسم
وأما الحد الحقيقي فلا والمعنى المفرد مثل الموجود فإذا قيل لك ما حد الموجود فغايتك أن تقول هو الشيء أو الثابت فتكون قد أبدلت اسما باسم مرادف له ربما يتساويان في التفهيم وربما يكون أحدهما أخفى في موضع اللسان كمن يقول ما العقار فيقال الخمر وما الغضنفر فيقال الأسد وهذا أيضا إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر من المذكور في السؤال ثم لا يكون إلا شرحا للفظ وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الأسد فلا يتخلص له ذلك في عقله إلا بأن يقول هو سبع من صفته كيت وكيت فأما تكرار الألفاظ المترادفة فلا يغنيه ولو قلت حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور وقيدته بقيد احترزت به عن المعدوم كنت ذكرت شيئا من توابعه ولوازمه وكان حدك رسميا غير معرب عن الذات فلا يكون حقيقيا فإذا الموجود لا حد له فإنه مبدأ كل شرح فكيف يشرح في نفسه وإنما قلنا المعنى المفرد ليس له الحد الحقيقي لأن معنى قول القائل ما حد الشيء قريب من معنى قوله ما حد هذه الدار وللدار جهات متعددة إليها ينتهي الحد فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المختلفة المتعددة التي الدار محصورة مسورة بها فإذا قال ما حد السواد فكأنه يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد فإن السواد سواد ولون وموجود وعرض ومرئي ومعلوم ومذكور واحد وكثير ومشرق وبراق وكدر وغير ذلك من الأوصاف وهذه الأوصاف بعضها عارض يزول وبعضها لازم لا يزول ولكن ليست ذاتية ككونه معلوما وواحدا وكثيرا وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ككونه لونا فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد لتجمع له تلك المعاني المتعددة ويتخلص بأي يبتدىء بالأعم ويختم بالأخص ولا يتعرض للعوارض وربما يطلب أن لا يتعرض للوازم بل للذاتيات خاصة فإذا لم يكن المعنى مؤتلفا من ذاتيات متعددة كالموجود فكيف يتصور تحديده فكان السؤال عنه كقول القائل ما حد الكرة ويقدر العالم كله كرة فكيف يذكر حده على مثال حدود الدار إذ ليس له حدود فإن حده عبارة عن منقطعه ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس سطوحا مختلفة ولا هو منته إلى مختلفة حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا فهذا المثال المحسوس وإن كان بعيدا عن المقصود ربما يفهم مقصود هذا الكلام ولا يفهم من قولي السواد مركب من معنى اللونية والسوادية واللونية جنس والسوادية نوع أن في السواد ذوات متعددة متباينة متفاضلة فلا تقل إن السواد لون وسواد بل لون ذلك اللون بعينه هو سواد ومعناه يتركب ويتعدد للعقل حتى يعقل اللونية مطلقا ولا يخطر له السواد مثلا ثم يعقل السواد فيكون العقل قد عقل أمرا زائدا لا يمكنه جحد تفاصيله في الذهن ولكن لا يمكن أن يعتقد تفاصيله في الوجود ولا تظنن أن منكر الحال يقدر على حد شيء البتة والمتكلمون يسمون اللونية حالا لأن منكر الحال إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه الحد وإن زاد شيئا للاحتراز فيقال له إن الزيادة عين الأول أو غيره فإن كان عينه قلت
____________________

(1/17)


بموجود موجود والمترادفة كالمتكررة فهو إذا يبطل بالعرض وإن كان غيره حتى اندفع النقض بقولك متحيز ولم يندفع بقولك موجود فهو غير بالمعنى لا باللفظ فوجب الإعتراف بتغاير المعنى في العقل والمقصود بيان أن المفرد لا يمكن أن يكون له حد حقيقي وإنما يحد بحد لفظي كقولك في حد الموجود إنه الشيء أو رسمي كقولك في حد الموجود أنه المنقسم إلى الخالق والمخلوق والقادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني أو ما شئت من لوازم الموجود وتوابعه وكل ذلك ليس ينبىء عن ذات الموجود بل عن تابع لازم لا يفارقه البتة
واعلم أن المركب إذا حددته بذكر آحاد الذاتيات توجه السؤال عن حد الآحاد فإذا قيل لك ما حد الشجر فقلت نبات قائم على ساق فقيل لك ما حد النبات فتقول جسم نام فيقال ما حد الجسم فتقول جوهر مؤتلف أو الجوهر الطويل العريض العميق فيقال وما حد الجوهر وهكذا فإن كل مؤلف فيه مفردات فله حقيقة وحقيقته أيضا تأتلف من مفردات ولا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا تحتاج إلى طلب بصيغة الحد كما أن العلوم التصديقية تطلب بالبرهان عليها وكل برهان ينتظم من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضا من برهان يأتلف من مقدمتين وهكذا فيتمادى إلى أن ينتهي إلى أوليات فكما أن في العلوم أوليات فكذلك في المعارف فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل فإن طلب الحقيقة فهو معاند كمن يطلب البرهان على أن الإثنين أكثر من الواحد فهذا بيان ما أردنا ذكره من القوانين
الفن الثاني من دعامة الحد في الامتحانات للقوانين بحدود مفصلة وقد أكثرنا أمثلتها في كتاب معيار العلم ومحك النظر ونحن الآن مقتصرون على حد الحد وحد العلم وحد الواجب لأن هذا النمط من الكلام دخيل في علم الأصول فلا يليق فيه الاستقصاء
الامتحان الأول ( حد الحد ) اختلف الناس في حد الحد فمن قائل يقول حد الشيء هو حقيقته وذاته ومن قائل يقول حد الشيء هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يمنع ويجمع ومن قائل ثالث يقول هذه المسألة خلافية فينصر أحد الحدين على الآخر فانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شيء واحد وهذان قد تباعدا وتنافرا وما تواردا على شيء واحد وإنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الاسم المشترك على ما سنذكره فإن من يحد العين بأنه العضو المدرك للألوان بالرؤية لم يخالف من حده بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود بل حد هذا أمرا مباينا لحقيقة الأمر الآخر وإنما اشتركا في اسم العين فافهم هذا فإنه قانون كثير النفع فإن قلت فما الصحيح عندك في حد الحد فاعلم أن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه ومن قرر المعاني أولا في عقله ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى فلنقرر المعاني فنقول الشيء له في الوجود أربع مراتب الأولى حقيقته في نفسه

____________________

(1/18)


الثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن وهو الذي يعبر عنه بالعلم
الثالثة تأليف صوت بحروف تدل عليه وهو العبارة الدالة على المثال الذي في النفس
الرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ وهو الكتابة فالكتابة تبع للفظ إذ تدل عليه واللفظ تبع للعلم إذ يدل عليه والعلم تبع للمعلوم إذ يطابقه ويوافقه وهذه الأربعة متطابقة متوازية إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والأمم والآخرين وهو اللفظ والكتابة يختلفان بالأعصار والأمم لأنهما موضوعان بالاختيار ولكن الأوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها قصد بها مطابقة الحقيقة ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع وإنما استعير لهذه المعاني لمشاركته في معنى المنع فانظر المنع أين تجده في هذه الأربعة فإذا ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشيء مخصوصة به إذ حقيقة كل شيء خاصيته التي له وليست لغيره فإذا الحقيقة جامعة مانعة وإن نظرت إلى مثال الحقيقة في الذهن وهو العلم وجدته أيضا كذلك لأنه مطابق للحقيقة المانعة والمطابقة توجب المشاركة في المنع وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضا حاصرة فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة فهي أيضا مطابقة فقد وجدت المنع في الكل إلا أن العادة لم تجر بإطلاق الحد على الكتابة التي هي الرابعة ولا على العلم الذي هو الثاني بل هو مشترك بين الحقيقة وبين اللفظ وكل لفظ مشترك بين حقيقتين فلا بد أن يكون له حدان مختلفان كلفظ العين فإذا عند الإطلاق على نفس الشيء يكون حد الحد أنه حقيقة الشيء وذاته وعند الإطلاق الثاني يكون حد الحد أنه اللفظ الجامع المانع إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضا اصطلاحهم مختلف كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي فحد الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ كقولك الموجود هو الشيء والعلم هو المعرفة والحركة هي النقلة هو تبديل اللفظ بما هو أوضح عند السائل على شرط أن يجمع ويمنع
وأما حد الحد عند من يقنع بالرسميات فإنه اللفظ الشارح للشيء بتعديد صفاته الذاتية أو اللازمة على وجه يميزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس
وأما حده عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي فهو إنه القول الدال على تمام ماهية الشيء ولا يحتاج في هذا إلى ذكر الطرد والعكس لأن ذلك تبع للماهية بالضرورة ولا يحتاج إلى التعرض للوازم والعوارض فإنها لا تدل على الماهية بل لا يدل إلا على الماهية إلا الذاتيات فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية فهذه أربعة أمور مختلفة كما دل لفظ العين على أمور مختلفة فتعلم صناعة الحد فإذا ذكر لك اسم وطلب منك حده فانظر فإن كان مشتركا فاطلب عدة المعاني التي فيها الاشتراك فإن كانت ثلاثة فاطلب لها ثلاثة حدود فإن الحقائق إذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود فإذا قيل لك ما الإنسان فلا تطمع في حد واحد فإن الإنسان مشترك بين أمور إذ يطلق على إنسان العين وله حد وعلى الإنسان المعروف وله حد آخر وعلى الإنسان المصنوع على
____________________

(1/19)


الحائط المنقوش وله حد آخر وعلى الإنسان الميت وله حد آخر فإن اليد المقطوعة والذكر المقطوع يسمى ذكرا وتسمى يدا ولكن بغير الوجه الذي كانت تسمى به حين كانت غير مقطوعة فإنها كانت تسمى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع وبعد القطع تسمى به من حيث أن شكلها شكل آلة البطش حتى لو بطل بالتقطيعات الكثيرة شكلها سلب هذا الاسم عنها ولو صنع شكلها من خشب أو حجر أعطي الاسم وكذلك إذا قيل ما حد العقل فلا تطمع في أن تحده بحد واحد فإنه هوس لأن اسم العقل مشترك يطلق على عدة معان إذ يطلق على بعض العلوم الضرورية ويطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإنسان لدرك العلوم النظرية ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يسمى عاقلا ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدو فيقال فلان عاقل أي في هدو وقد يطلق على من جمع العمل إلى العلم حتى أن المفسد وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلا فلا يقال للحجاج عاقل بل داه ولا يقال للكافر عاقل وإن كان محيطا بجملة العلوم الطبية والهندسية بل إما فاضل وإما داه وإما كيس فإذا اختلفت الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تختلف الحدود فيقال في حد العقل باعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية كجواز الجائزات واستحالة المتسحيلات كما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني رحمه الله وبالاعتبار الثاني أنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات وهكذا بقية الاعتبارات
فإن قلت فنرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الاختلاف في الحد أترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء فاعلم أن الاختلاف في الحد يتصور في موضعين أحدهما أن يكون اللفظ في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو قول إمام من الأئمة يقصد الاطلاع على مراده به فيكون ذلك اللفظ مشتركا فيقع النزاع في مراده به فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل والتباين بعد التوارد فالخلاف تباين بعد التوارد وإلا فلا نزاع بين من يقول السماء قديمة وبين من يقول الإنسان مجبور على الحركات إذ لا توارد فلو كان لفظ الحد في كتاب الله تعالى أو في كتاب إمام لجاز أن يتنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صناعة التفسير لا من صناعة النظر العقلي
الثاني أن يقع الاختلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حده أمرا ثانيا لا يتحد حده على المذهبين فيختلف كما يقول المعتزلي حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به ونحن نخالف في ذكر الشيء فإن المعدوم عندنا ليس بشيء وهو معلوم فالخلاف في مسألة أخرى يتعدى إلى هذا الحد وكذلك يقول القائل حد العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا وكذا ويخالف من يقول في حده إنه غريزة يتميز بها الإنسان عن الذئاب وسائر الحيوانات من حيث إن القائل الأول ينكر تميز العين بغريزة عن العقب وتميز الإنسان بغريزة عن الذئاب بها يتهيأ للنظر في العقليات لكن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم في القلب دون العقب وفي الإنسان دون الذئاب وخلق البصر في العين دون العقب لا لتميزه بغريزة استعد بسببها لقبوله فيكون منشأ الاختلاف في الحد الاختلاف في إثبات هذه الغريزة أو نفيها فهذه أمور وإن أوردناها في
____________________

(1/20)


معرض الامتحان فقد أدرجنا فيها ما يجري على التحقيق مجرى القوانين
امتحان ثان ( حد العلم اختلف في حد العلم فقيل إنه المعرفة وهو حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود فإنه تكرير لفظ بذكر ما يرادفه كما يقال حد الأسد الليث وحد العقار الخمر وحد الموجود الشيء وحد الحركة النقلة ولا يخرج عن كونه لفظيا بأن يقال معرفة المعلوم على ما هو به لأنه في حكم تطويل وتكرير إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو كذلك فهو كقول القائل حد الموجود الشيء الذي له ثبوت ووجود فإن هذا تطويل لا يخرجه عن كونه لفظيا
ولست أمنع من تسمية هذا حدا فإن لفظ الحد مباح في اللغة لمن استعاره لما يريده مما فيه نوع من المنع هذا إذا كان الحد عنده عبارة عن لفظ مانع وإن كان عنده عبارة عن قول شارح لماهية الشيء مصور كنه حقيقته في ذهن السائل فقد ظلم بإطلاق هذا الاسم على قوله العلم هو المعرفة وقيل أيضا أنه الذي يعلم به وأنه الذي تكون الذات به عالمة وهذا أبعد من الأول فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والدلالة على الماهية ولكن قد يتوهم في الأول شرح اللفظ بأن يكون أحد اللفظين عند السائل أشهر من الآخر فيشرح الأخفى بالأشهر أما العالم ويعلم فهما مشتقان من نفس العلم ومن أشكل عليه المصدر كيف يتضح له بالمشتق منه والمشتق أخفى من المشتق منه وهو كقول القائل في حد الفضة إنها التي تصاغ منها الأواني الفضية
وقد قيل في حد العلم إنه الوصف الذي يتأتى للمتصف به إتقان الفعل وأحكامه وهذا ذكر لازم من لوازم العلم فيكون رسميا وهو أبعد مما قبله من حيث أنه أخص من العلم فإنه لا يتناول إلا بعض العلوم ويخرج منه العلم بالله وصفاته إذ ليس يتأتى به إتقان فعل وأحكامه ولكنه أقرب مما قبله بوجه فإنه ذكر لازم قريب من الذات ليفيد شرحا وبيانا بخلاف قوله ما يعلم به وما تكون الذات به عالمة فإن قلت فما حد العلم عندك فاعلم أنه إسم مشترك قد يطلق على الإبصار والإحساس وله حد بحسبه ويطلق على التخيل وله حد بحسبه ويطلق على الظن وله حد آخر ويطلق على علم الله تعالى على وجه آخر أعلى وأشرف ولست أعني به شرفا بمجرد العموم فقط بل بالذات والحقيقة لأنه معنى واحد محيط بجميع التفاصيل ولا تفاصيل ولا تعدد في ذاته وقد يطلق على إدراك العقل وهو المقصود بالبيان وربما يعسر تحديده على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل الذاتي فإنا بينا أن ذلك عسير في أكثر الأشياء بل أكثر المدركات الحسية يتعسر تحديدها فلو أردنا أن نحد رائحة المسك أو طعم العسل لم نقدر عليه وإذا عجزنا عن حد المدركات فنحن عن تحديد الإدراكات أعجز ولكنا نقدر على شرح معنى العلم بتقسيم ومثال أما التقسيم فهو أن نميزه عما يلتبس به ولا يخفى وجه تميزه عن الإرادة والقدرة وسائر صفات النفس وإنما يلتبس بالاعتقادات ولا يخفى أيضا وجه تميزه عن الشك والظن لأن الجزم منتف عنهما والعلم عبارة عن أمر جزم لا تردد فيه ولا تجويز ولا يخفى أيضا وجه تميزه عن الجهل فإنه متعلق بالمجهول على خلاف ما هو به والعلم مطابق للمعلوم وربما يبقى ملتبسا باعتقاد المقلد الشيء على ما هو به عن تلقف لا عن بصيرة وعن جزم لا عن تردد ولأجله خفي على المعتزلة حتى قالوا في حد العلم إنه
____________________

(1/21)


اعتقاد الشيء على ما هو به وهو خطأ من وجهين أحدهما تخصيص الشيء مع أن العلم يتعلق بالمعدوم الذي ليس شيئا عندنا
والثاني إن هذا الاعتقاد حاصل للمقلد وليس بعالم قطعا فإنه كما يتصور أن يعتقد الشيء جزما على خلاف ما هو به لا عن بصيرة كاعتقاد اليهودي والمشرك فإنه تصميم جازم لا تردد فيه يتصور أن يعتقد الشيء بمجرد التلقين والتلقف على ما هو به مع الجزم الذي لا يخطر بباله جواز غيره فوجه تميز العلم عن الاعتقاد هو أن الاعتقاد معناه السبق إلى أحد معتقدي الشاك مع الوقوف عليه من غير إخطار نقيضه بالبال ومن غير تمكين نقيضه من الحلول في النفس فإن الشاك يقول العالم حادث أم ليس بحادث والمعتقد يقول حادث ويستمر عليه ولا يتسع صدره لتجويز القدم والجاهل يقول قديم ويستمر عليه والاعتقاد وإن وافق المعتقد فهو جنس من الجهل في نفسه وإن خالفه بالإضافة فإن معتقد كون زيد في الدار لو قدر استمراره عليه حتى خرج زيد من الدار بقي اعتقاده كما كان لم يتغير في نفسه وإنما تغيرت إضافته فإنه طابق المعتقد في حالة وخالفه في حالة وأما العلم فيستحيل تقدير بقائه مع تغير المعلوم فإنه كشف وانشراح والاعتقاد عقدة على القلب والعلم عبارة عن انحلال العقد فهما مختلفان ولذلك لو أصغى المعتقد إلى المشكك لوجد لنقيض معتقده مجالا في نفسه والعالم لا يجد ذلك أصلا وإن أصغى إلى الشبه المشككة ولكن إذا سمع شبهة فإما أن يعرف حلها وإن لم تساعده العبارة في الحال وإما أن تساعده العبارة أيضا على حلها وعلى كل حال فلا يشك في بطلان الشبهة بخلاف المقلد وبعد هذا التقسيم والتمييز يكاد يكون العلم مرتسما في النفس بمعناه وحقيقته من غير تكلف تحديد
وأما المثال فهو أن إدراك البصيرة الباطنة تفهمه بالمقايسة بالبصر الظاهر ولا معنى للبصر الظاهر إلا انطباع صورة المبصر في القوة الباصرة من إنسان العين كما يتوهم انطباع الصور في المرآة مثلا فكما أن البصر يأخذ صور المبصرات أي ينطبع فيها مثالها المطابق لها لا عينها فإن عين النار لا تنطبع في العين بل مثال يطابق صورتها وكذلك يرى مثال النار في المرآة لا عين النار فكذلك العقل على مثال مرآة تنطبع فيها صور المعقولات على ما هي عليها وأعني بصور المعقولات حقائقها وماهياتها فالعلم عبارة عن أخذ العقل صور المعقولات وهيآتها في نفسه وانطباعها فيه كما يظن من حيث الوهم انطباع الصور في المرآة ففي المرآة ثلاثة أمور الحديد وصقالته والصورة المنطبعة فيها فكذلك جوهر الآدمي كحديدة المرآة وعقله هيئة وغريزة في جوهره ونفسه بها يتهيأ للانطباع بالمعقولات كما أن المرآة بصقالتها واستدارتها تتهيأ لمحاكاة الصور فحصول الصور في مرآة العقل التي هي مثال الأشياء هو العلم والغريزة التي بها يتهيأ لقبول هذه الصورة هي العقل والنفس التي هي حقيقة الآدمي المخصوصة بهذه الغريزة المهيأة لقبول حقائق المعقولات كالمرآة فالتقسيم الأول يقطع العلم عن مظنان الاشتباه وهذا المثال يفهمك حقيقة العلم فحقائق المعقولات إذا انطبع بها النفس العاقلة تسمى علما وكما أن السماء والأرض والأشجار والأنهار يتصور أن ترى في المرآة حتى كأنها موجودة في المرآة وكأن المرآة حاوية لجميعها فكذلك الحضرة
____________________

(1/22)


الإلهية بجملتها يتصور أن تنطبع بها نفس الآدمي والحضرة الإلهية عبارة عن جملة الموجودات فكلها من الحضرة الإلهية إذ ليس في الوجود إلا الله تعالى وأفعاله فإذا انطبعت بها صارت كأنها كل العالم لإحاطتها به تصورا وانطباعا وعند ذلك ربما ظن من لا يدري الحلول فيكون كمن ظن أن الصورة حالة في المرآة وهو غلط لأنها ليست في المرآة ولكن كأنها في المرآة فهذا ما نرى الاقتصار عليه في شرح حقيقة العلم في هذه المقدمة التي هي علاوة على هذا العلم
امتحان ثالث ( تعريف الواجب ) اختلفوا في حد الواجب فقيل الواجب ما تعلق به الإيجاب وهو فاسد كقولهم العلم ما يعلم به وقيل ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه وقيل ما يجب بتركه العقاب وقيل ما لا يجوز العزم على تركه وقيل ما يصير المكلف بتركه عاصيا وقيل ما يلام تاركه شرعا وأكثر هذه الحدود تعرض للوازم والتوابع وسبيلك إن أردت الوقوف على حقيقته أن تتوصل إليه بالتقسيم كما أرشدناك إليه في حد العلم فاعلم أن الألفاظ في هذا الفن خمسة الواجب والمحظور والمندوب والمكروه والمباح فدع الألفاظ جانبا ورد النظر إلى المعنى أولا فأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك إذ يطلقه المتكلم في مقابلة الممتنع ويقول وجود الله تعالى واجب وقال الله تعالى { وجبت جنوبها } الحج 36 ويقال وجبت الشمس وله بكل معنى عبارة والمطلوب الآن مراد الفقهاء وهذه الألفاظ لا شك أنها لا تطلق على جوهر بل على عرض ولا على كل عرض بل من جملتها على الأفعال فقط ومن الأفعال على أفعال المكلفين لا على أفعال البهائم فإذا نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدورا وحادثا ومعلوما ومكتسبا ومخترعا وله بحسب كل نسبة انقسامات إذ عوارض الأفعال ولوازمها كثيرة فلا نظر فيها ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطار الشرع فقط فنقسم الأفعال بالإضافة إلى خطاب الشرع فنعلم أن الأفعال تنقسم إلى ما لا يتعلق به خطاب الشرع كفعل المجنون وإلى ما يتعلق به والذي يتعلق به ينقسم إلى ما يتعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الإقدام عليه وبين الإحجام عنه ويسمى مباحا وإلى ما ترجح فعله على تركه وإلى ما ترجح تركه على فعله والذي ترجح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويسمى مندوبا وإلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه ويسمى واجبا ثم ربما خص فريق اسم الواجب بما أشعر بالعقوبة عليه ظنا وما أشعر به قطعا خصوه باسم الفرض ثم لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني وأما المرجح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسمى مكروها وقد يكون منه ما أشعر بعقاب على فعله في الدنيا كقوله صلى الله عليه وسلم من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه وإلى ما أشعر بعقاب في الآخرة على فعله وهو المسمى محظورا و حراما ومعصية فإن قلت فما معنى قولك أشعر فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة فالإشعار يعم جميع المدارك فإن قلت فما معنى قولك عليه عقاب قلنا معناه أنه أخبر أنه سبب العقاب في الآخرة فإن قلت فما المراد بكونه سببا فالمراد به ما يفهم من قولنا الأكل سبب الشبع وحز الرقبة سبب الموت والضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء فإن قلت فلو كان سببا لكان لا يتصور أن لا يعاقب وكم من تارك واجب يعفى عنه
____________________

(1/23)


ولا يعاقب فأقول ليس كذلك إذ لا يفهم من قولنا الضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء أن ذلك واجب في كل شخص أو في معين مشار إليه بل يجوز أن يعرض في المحل أمر يدفع السبب ولا يدل ذلك على بطلان السببية فرب دواء لا ينفع ورب ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بشيء آخر كمن يجرح في حال القتال وهو لا يحس في الحال به وكما أن العلة قد تستحكم فتدفع أثر الدواء فكذلك قد يكون في سريرة الشخص وباطنه أخلاق رضية وخصال محمودة عند الله تعالى مرضية توجب العفو عن جريمته ولا يوجب ذلك خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب فإن قال قائل هل يتصور أن يكون للشيء الواحد حدان قلنا أما الحد اللفظي فيجوز أن يكون ألفا إذ ذلك بكثرة الأسامي الموضوعة للشيء الواحد
وأما الرسمي فيجوز أيضا أن يكثر لأن عوارض الشيء الواحد ولوازمه قد تكثر
وأما الحد الحقيقي فلا يتصور أن يكون إلا واحدا لأن الذاتيات محصورة فإن لم يذكرها لم يكن حدا حقيقيا وإن ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو فإذا هذا الحد لا يتعدد وإن جاز أن تختلف العبارات المترادفة كما يقال في حد الحادث أنه الموجود بعد العدم أو الكائن بعد أن لم يكن أو الموجود المسبوق بعدم أو الموجود عن عدم فهذه العبارات لا تؤدي إلا معنى واحدا فإنها في حكم المترادفة ولنقتصر في الامتحانات على هذا القدر فالتنبيه حاصل به إن شاء الله تعالى
الدعامة الثانية من مدارك العقول في البرهان الذي به التوصل إلى العلوم التصديقية المطلوبة بالبحث والنظر وهذه الدعامة تشتمل على ثلاثة فنون سوابق ولواحق ومقاصد
الفن الأول في السوابق ويشتمل على تمهيد كلي وثلاثة فصول
التمهيد اعلم أن البرهان عبارة عن أقاويل مخصوصة ألفت تأليفا مخصوصا بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر بالنظر وهذه الأقاويل إذا وضعت في البرهان لاقتباس المطلوب منها سميت مقدمات والخلل في البرهان تارة يدخل من جهة نفس المقدمات إذ قد تكون خالية عن شروطها وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية ومرة منها جميعا ومثاله من المحسوسات البيت المبني فإنه أمر مركب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف بأن تكون الحيطان معوجة والسقف منخفضا إلى موضع قريب من الأرض فيكون فاسدا من حيث الصورة وإن كانت الأحجار والجذوع وسائر الآلات صحيحة وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ولكن يكون الخلل من رخاوة في الجذوع وتشعب في اللبنات هذا حكم البرهان والحد وكل أمر مركب فإن الخلل إما أن يكون في هيئة تركيبه وإما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب كالثوب في القميص والخشب في الكرسي واللبن في الحائط والجذوع في السقف وكما أن من يريد بناء بيت بعيد عن الخلل يفتقر إلى أن يعد الآلات المفردة أولا
____________________

(1/24)


كالجذوع واللبن والطين ثم إن أراد اللبن افتقر إلى إعداد مفرداته وهو التبن والتراب والماء والقالب الذي فيه يضرب فيبتدىء أولا بالأجزاء المفردة فيركبها ثم يركب المركب وهكذا إلى آخر العمل وكذلك طالب البرهان ينبغي أن ينظر في نظمه وصورته وفي المقدمات التي فيها النظم والترتيب وأقل ما ينتظم منه برهان مقدمتان أعني علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب وأقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مخبرا عنها والأخرى خبرا ووصفا فقد انقسم البرهان إلى مقدمتين وانقسمت كل مقدمة إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى وكل مفرد فهو معنى ويدل عليه لا محالة بلفظ فيجب ضرورة أن ننظر في المعاني المفردة وأقسامها ثم في الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها ثم إذا فهمنا اللفظ مفردا والمعنى مفردا ألفنا معنيين وجعلناهما مقدمة وننظر في حكم المقدمة وشروطها ثم نجمع مقدمتين ونصوغ منهما برهانا وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة وكل من أراد أن يعرف البرهان بغير هذا الطريق فقد طمع في المحال وكان كمن طمع في أن يكون كاتبا يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتابة الكلمات أو يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتابة الحروف المفردة وهكذا القول في كل مركب فإن أجزاء المركب تقدم على المركب بالضرورة حى لا يوصف القادر الأكبر بالقدرة على خلق العلم بالمركب دون الآحاد إذ لا يوصف بالقدرة على تعليم الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات فلهذه الضرورة اشتملت دعامة البرهان على فن في السوابق وفن في المقاصد وفن في اللواحق
الفن الأول في السوابق وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول في دلالة الألفاظ على المعاني ويتضح المقصود منه بتقسمات
التقسيم الأول إن دلالة اللفظ على المعنى تنحصر في ثلاثة أوجه وهي المطابقة والتضمن والإلتزام فإن لفظ البيت يدل على معنى البيت بطريق المطابقة ويدل على السقف وحده بطريق التضمن لأن البيت يتضمن السقف لأن البيت عبارة عن السقف والحيطان وكما يدل لفظ الفرس على الجسم إذ لا فرس إلا وهو جسم وأما طريق الالتزام فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط فإنه غير موضوع للحائط وضع لفظ الحائط للحائط حتى يكون مطابقا ولا هو متضمن إذ ليس الحائط جزءا من السقف كما كان السقف جزءا من نفس البيت وكما كان الحائط جزءا من نفس البيت لكنه كالرفيق الملازم الخارج عن ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه وإياك أن تستعمل في نظر العقل من الألفاظ ما يدل بطريق الإلتزام لكن اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة والتضمن لأن الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر في حد إذ السقف يلزم الحائط والحائط الأس والأس الأرض وذلك لا ينحصر
التقسيم الثاني إن الألفاظ بالإضافة إلى خصوص المعنى وشموله تنقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة ونسميه معينا كقولك زيد وهذه الشجرة وهذا الفرس وهذا السواد
وإلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد ونسميه مطلقا
والأول حده اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه فلو قصدت اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم
____________________

(1/25)


اللفظ منه
وأما المطلق فهو الذي لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الاشتراك في معناه كقولك السواد والحركة والفرس والإنسان وبالجملة الإسم المفرد في لغة العرب إذا أدخل عليه الألف واللام للعموم فإن قلت وكيف يستقيم هذا وقولك الإله والشمس والأرض لا يدل إلا على شيء واحد مفرد مع دخول الألف واللام فاعلم أن هذا غلط فإن امتناع الشركة ها هنا ليس لنفس مفهوم اللفظ بل الذي وضع اللغة لو جوز في الإله عددا لكان يرى هذا اللفظ عاما في الآلهة كلها فإن امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ بل لاستحالة وجود إله ثان فلم يكن امتناع الشركة لمفهوم اللفظ والمانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة فلو فرضنا عوالم في كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملا للكل فتأمل هذا فإنه مزلة قدم في جملة من الأمور النظرية فإن من لا يفرق بين قوله السواد وبين قوله هذا السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم سهوه في النظريات من حيث لا يدري
التقسيم الثالث إن الألفاظ المتعددة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل ولنخترع لها أربعة ألفاظ وهي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة
أما المترادفة فنعني بها الألفاظ المختلفة والصيغ المتواردة على مسمى واحد كالخمر والعقار والليث والأسد والسهم والنشاب وبالجملة كل اسمين لمسمى واحد يتناوله أحدهما من حيث يتناوله الآخر من غير فرق
وأما المتباينة فنعني بها الأسامي المختلفة للمعاني المختلفة كالسواد والقدرة والأسد والمفتاح والسماء والأرض وسائر الأسامي وهي الأكثر
وأما المتواطئة فهي التي تنطلق على أشياء متغايرة بالعدد ولكنها متفقة بالمعنى الذي وضع الإسم عليها كاسم الرجل فإنه ينطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد واسم الجسم ينطلق على السماء والأرض والإنسان لاشتراك هذه الأعيان في معنى الجسمية التي وضع الاسم بإزائها وكل اسم مطلق ليس بمعين كما سبق فإنه ينطلق على آحاد مسمياته الكثيرة بطريق التواطؤ كاسم اللون للسواد والبياض والحمرة فإنها متفقة في المعنى الذي به سمي اللون لونا وليس بطريق الاشتراك البتة
وأما المشتركة فهي الأسامي التي تنطلق على مسميات مختلفة لا تشترك في الحد والحقيقة البتة كاسم العين للعضو الباصر وللميزان وللموضع الذي يتفجر منه الماء وهي العين الفوارة وللذهب وللشمس وكاسم المشتري لقابل عقد البيع وللكوكب المعروف ولقد ثار من ارتباك المشتركة بالمتواطئة غلط كثير في العقليات حتى ظن من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من حيث الاسم وإن ذلك كمشاركة الذهب للمحدقة الباصرة في اسم العين وكمشاركة قابل عقد البيع للكوكب في المشتري وبالجملة الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم فلنرد له شرحا فنقول الاسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرناه وقد يدل على المتضادين كالجلل للحقير والخطير والناهل للعطشان والريان والجون للسواد والبياض والقرء للطهر والحيض واعلم أن المشترك قد يكون مشكلا قريب الشبه من المتواطىء ويعسر على الذهن وإن كان في غاية الصفاء الفرق ولنسم ذلك متشابها وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء المبصر
____________________

(1/26)


من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدى في الغوامض فلا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للإنسان في كونها جسما إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتة مع أنه ذاتي لهما ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان فإنه بالاشتراك المحض إذ يراد به من بعض النبات المعنى الذي به نماؤه ومن الحيوان المعنى الذي به يحس ويتحرك بالإرادة وإطلاقه على الباري تعالى إذا تأملت عرفت أنه لمعنى ثالث يخالف الأمرين جميعا ومن أمثال هذه تتابع الأغاليط مغلطة أخرى قد تلتبس المترادفة بالمتباينة وذلك إذا أطلقت أسام مختلفة على شيء واحد باعتبارات مختلفة ربما ظن أنها مترادفة كالسيف والمهند والصارم فإن المهند يدل على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند فخالف إذا مفهومه مفهوم السيف والصارم يدل على السيف مع صفة الحدة والقطع لا كالأسد والليث وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نحتاج إلى تبديل الأسامي على شيء واحد عند تبدل اعتباراته كما أنا نسمي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدى به المتحدي ولم يكن عليه برهان إن كان في مقابلة خصم وإن لم يكن في مقابلة خصم سميناه قضية كأنه قضى فيه على شيء بشيء فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سميناه مطلوبا فإن دل بقياسه على صحته سميناه نتيجة فإن استعمله دليلا في طلب أمر آخر ورتبه في أجزاء القياس سميناه مقدمة وهذا ونظائره مما يكثر
مثال الغلط في المشترك قول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة المكره على القتل يلزمه القصاص لأنه مختار ويقول الحنفي لا يلزمه القصاص لأنه مكره وليس بمختار ويكاد الذهن لا ينبو عن التصديق بالأمرين وأنت تعلم أن التصديق بالضدين محال وترى الفقهاء يتعثرون فيه ولا يهتدون إلى حله وإنما ذلك لأن لفظ المختار مشترك إذ قد يجعل لفظ المختار مراد فاللفظ القادر ومساويا له إذ قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة كالمحمول فيقال هذا عاجز محمول وهذا قادر مختار ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل وتركه وهو صادق على المكره وقد يعبر بالمختار عمن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته بلا تحرك دواعيه من خارج وهذا يكذب على المكره ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه فإذا صدق عليه أنه مختار وأنه ليس بمختار ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت ولهذا نظائر في النظريات لا تحصى تاهت فيها عقول الضعفاء فليستدل بهذا القليل على الكثير
الفصل الثاني من الفن الأول النظر في المعاني المفردة ويظهر الغرض من ذلك بتقسيمات ثلاثة الأول أن المعنى إذا وصف بالمعنى ونسب إليه وجد إما ذاتيا وإما عرضيا وإما لازما وقد فصلناه
والثاني أنه إذا نسب إليه وجد إما أعم كالوجود بالإضافة إلى الجسمية وإما أخص كالجسمية بالإضافة إلى الوجود وإما مساويا كالمتحيز بالإضافة إلى الجوهر عند قوم وإلى الجسم عند قوم
الثالث إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة ولنصطلح على تسمية سبب الإدراك قوة فنقول في حدقتك معنى به تميزت الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر بها وإذا بطل ذلك المعنى
____________________

(1/27)


بطل الإبصار والحالة التي تدركها عند الإبصار شرطها وجود المبصر فلو انعدم المبصر انعدم الإبصار وتبقى صورته في دماغك كأنك تنظر إليها وهذه الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل بل عدمه وغيبته لا تنفي الحالة المسماة تخيلا وتنفي الحالة التي تسمى إبصارا ولما كنت تحس بالمتخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في الدماغ غريزة وصفة بها يتهيأ للتخيل وبها باين البطن والفخذ كما باين العين الجبهة والعقب في الأبصار بمعنى اختص به لا محالة والصبي في أول نشئه تقوى فيه قوة الإبصار لا قوة التخيل فلذلك إذا ولع بشيء فغيبته عنه وأشغلته بغيره اشتغل به ولها عنه وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للتخيل ولا يفسد الأبصار فيرى الأشياء ولكنه كما تغيب عنه ينساها وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الإنسان ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق له وأنه مستلذ لديه فبادر إليه فلو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته لها ثانيا كرؤيته لها أولا حتى لا يبادر إليه ما لم يجربه بالذوق مرة أخرى ثم فيك قوة ثالثة شريفة يباين الإنسان بها البهيمة تسمى عقلا محلها إما دماغك وإما قلبك وعند من يرى النفس جوهرا قائما بذاته غير متحيز محلها النفس وقوة العقل تباين قوة التخيل مباينة أشد من مباينة التخيل للإبصار إذ ليس بين قوة الإبصار وقوة التخيل فرق إلا أن وجود المبصر شرط لبقاء الأبصار وليس شرطا لبقاء التخيل وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبعد منك مخصوص ويبقى في التخيل ذلك البعد وذلك القدر واللون وذلك الوضع والشكل حتى كأنك تنظر إليه ولعمري فيك قوة رابعة تسمى المفكرة شأنها أن تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر ولكن إذا حضر في الخيال صورة إنسان قدر على أن يجعلها نصفين فيصور نصف إنسان وربما ركب شخصا نصفه من إنسان ونصفه من فرس وربما تصور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحده وصورة الطير وحده وهذه القوة تجمع بينهما كما تفرق بين نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال بل كل تصوراتها بالتفريق والتأليف في الصور الحاصلة في الخيال والمقصود أن مباينة إدراك العقل لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيل للإبصار إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العارية عن القرائن الغريبة التي ليست داخلة في ذاتها أعني التي ليست ذاتية كما سبق فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص ووضع مخصوص منك بقرب أو بعد ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل فإن المثلث له شكل واحد صغيرا كان أو كبيرا وإنما إدراك هذه المفردات المجردة بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلا فيدرك السواد ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجردة ويدرك الحيوانية والجسمية مجردة وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره الإلتفات إلى العاقل وغير العاقل وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين وحيث يستمر في نظره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضر معنى السوادية والبياضية وغيرهما وهذه من عجيب خواصها وبديع أفعالها فإذا رأى فرسا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير
____________________

(1/28)


والكبير والأشهب والكميت والبعيد منه في المكان والقريب بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة متنزهة عن كل قرينة ليست ذاتية لها فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيا بل عارضا أو لازما في الوجود إذ مختلفات اللون والقدر تشترك في حقيقة الفرسية وهذه المطلقات المجردة الشاملة لأمور مختلفة هي التي يعبر عنها المتكلمون بالأحوال والوجوه والأحكام ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان وتارة يعبرون عنها بأنها غير موجودة من خارج بل من داخل يعنون خارج الذهن وداخله ويقول أرباب الأحوال إنها أمور ثابتة تارة يقولون إنها موجودة معلومة وتارة يقولون لا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة وقد دارت فيه رؤوسهم وحارت عقولهم والعجب أنه أول منزل ينفصل فيه المعقول عن المحسوس إذ من هاهنا يأخذ العقل الإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك التخيل البهيمي فيه التخيل الإنساني ومن تحير في أول منزل من منازل العقل كيف يرجى فلاحه في تصرفاته
الفصل الثالث من السوابق في أحكام المعاني المؤلفة قد نظرنا في مجرد اللفظ ثم في مجرد المعنى فننظر الآن في تأليف المعنى على وجه يتطرق إليه التصديق والتكذيب كقولنا مثلا العالم حادث والباري تعالى قديم فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردتين بنسبة إحداهما إلى الأخرى إما بالإثبات كقولك العالم حادث أو بالسلب كقولك العالم ليس بقديم وقد التأم هذا من جزأين يسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبرا ويسمي المتكلمون أحدهما وصفا والآخر موصوفا ويسمي المنطقيون أحدهما موضوعا والآخر محمولا ويسمي الفقهاء أحدهما حكما والآخر محكوما عليه ويسمي المجموع قضية وأحكام القضايا كثيرة ونحن نذكر منها ما تكثر الحاجة إليه وتضر الغفلة عنه وهو حكمان الأول إن القضية تنقسم بالإضافة إلى المقضى عليه إلى التعيين والإهمال والعموم والخصوص فهي أربع الأولى قضية في عين كقولنا زيد كاتب وهذا السواد عرض
الثانية قضية مطلقة خاصة كقولنا بعض الناس عالم وبعض الأجسام ساكن
الثالثة قضية مطلقة عامة كقولنا كل جسم متحيز وكل سواد لون
الرابعة قضية مهملة كقولنا الإنسان في خسر
وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عينا مشارا إليه أو لا يكون عينا فإن لم يكن عينا فإما أن يحصر بسور يبين مقداره بكليته فتكون مطلقة عامة أو بجزئيته فتكون خاصة أو لا يحصر بسور فتكون مهملة والسور هو قولك كل وبعض وما يقوم مقامهما ومن طرق المغالطين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة فإن المهملات قد يراد بها الخصوص والعموم فيصدق طرفا النقيض كقولك الإنسان في خسر تعني الكافر الإنسان ليس في خسر تعني الأنبياء ولا ينبغي أن يسامح بهذا في النظريات مثاله أن يقول الشفعوي مثلا معلوم أن المطعوم ربوي والسفرجل مطعوم فهو إذا ربوي فإن قيل لم قلت المطعوم ربوي فتقول دليله البر والشعير والتمر بمعنى فإنها مطعومات وهي ربوية فينبغي أن يقال فقولك المطعوم ربوي أردت به كل المطعومات أو بعضها فإن أردت البعض لم تلزم النتيجة إذ يمكن أن يكون السفرجل من
____________________

(1/29)


البعض الذي ليس بربوي ويكون هذا خللا في نظم القياس كما يأتي وجهه وإن أردت الكل فمن أين عرفت هذا وما عددته من البر والشعير ليس كل المطعومات
النظر الثاني في شروط النقيض وهو محتاج إليه إذ رب مطلوب لا يقوم الدليل عليه ولكن على بطلان نقيضه فيستبان من إبطاله صحة نقيضه والقضيتان المتناقضتان يعني بهما كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة كقولنا العالم حادث العالم ليس بحادث وإنما يلزم صدق إحداهما عند كذب الأخرى بستة شروط الأول أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحدا بالذات لا بمجرد اللفظ فإن اتحد اللفظ دون المعنى لم يتناقضا كقولك النور مدرك بالبصر النور غير مدرك بالبصر إذا أردت بأحدهما الضوء وبالآخر العقل ولذلك لا يتناقض قول الفقهاء المضطر مختار المضطر ليس بمختار وقولهم المضطر آثم المضطر ليس بآثم إذ قد يعبر بالمضطر عن المرتعد والمحمول المطروح على غيره وقد يعبر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل فالاسم متحد والمعنى مختلف
الثاني أن يكون الحكم واحدا والإسم مختلفا كقولك العالم قديم العالم ليس بقديم أردت بأحد القديمين ما أراده الله تعالى بقوله { كالعرجون القديم } يس 39 ولذلك لم يتناقض قولهم المكره مختار المكره ليس بمختار لأن المختار عبارة عن معنيين مختلفين
الثالث أن تتحد الإضافة في الأمور الإضافية فإنك لو قلت زيد أب زيد ليس بأب لم يتناقضا إذ يكون أبا لبكر ولا يكون أبا لخالد وكذلك تقول زيد أب زيد ابن فلا يتعدد بالإضافة إلى شخصين والعشرة نصف والعشرة ليست بنصف أي بالإضافة إلى العشرين والثلاثين وكما يقال المرأة مولى عليها المرأة غير مولى عليها وهما صادقان بالإضافة إلى النكاح والبيع لا إلى شيء واحد وإلى العصبة والأجنبي لا إلى شخص واحد
الرابع أن يتساويا في القوة والفعل فإنك تقول الماء في الكوز مرو أي بالقوة وليس الماء بمرو أي بالفعل والسيف في الغمد قاطع وليس بقاطع ومنه ثار الخلاف في أن البارىء في الأزل خالق أو ليس بخالق
الخامس التساوي في الجزء والكل فإنك تقول الزنجي أسود الزنجي ليس بأسود أي ليس بأسود الأسنان وعنه نشأ الغلط حيث قيل إن العالمية حال لزيد بجملته لأن زيدا عبارة عن جملته ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد إذ لم نعن به أنه في جميع بغداد بل في جزء منها وهو مكان يساوي مساحته
السادس التساوي في المكان والزمان فإنك تقول العالم حادث العالم ليس بحادث أي هو حادث عن أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده بل قبله معدوم وبعده باق والصبي تنبت له أسنان والصبي لا تنبت له أسنان ونعني بأحدهما السنة الأولى
____________________

(1/30)


وبالآخر التي بعدها وبالجملة فالقضية المتناقضة هي التي تسلب ما أثبتته الأولى بعينه عما أثبتته بعينه وفي ذلك الوقت والمكان والحال وبتلك الإضافة بعينها وبالقوة إن كان ذلك بالقوة وبالفعل إن كان ذلك بالفعل وكذلك في الجزء والكل وتحصيل ذلك بأن لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبادل النفي بالإثبات فقط
الفن الثاني في المقاصد وفيه فصلان فصل في صورة البرهان وفصل في مادته
الفصل الأول في صورة البرهان والبرهان عبارة عن مقدمتين معلومتين تؤلف تأليفا مخصوصا بشرط مخصوص فيتولد بينهما نتيجة وليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها
النمط الأول ثلاثة أضرب مثال الأول قولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف حادث فلزم أن كل جسم حادث ومن الفقه قولنا كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فلزم أن كل نبيذ حرام فهاتان مقدمتان إذا سلمتا على هذا الوجه لزم بالضرورة تحريم النبيذ فإن كانت المقدمات قطعية سميناها برهانا وإن كانت مسلمة سميناها قياسا جدليا وإن كانت مظنونة سميناها قياسا فقهيا وسيأتي الفرق بين اليقين والظن إذا ذكرنا أصل القياس فإن كل مقدمة أصل فإذا ازدوج أصلان حصلت النتيجة وعادة الفقهاء في مثل هذا النظم أنهم يقولون النبيذ مسكر فكان حراما قياسا على الخمر وهذا لا تنقطع المطالبة عنه ما لم يرد إلى النظم الذي ذكرناه فإن رد إلى هذا النظم ولم يكن مسلما فلا تلزم النتيجة إلا بإقامة الدليل حتى يثبت كونه مسكرا إن نوزع فيه بالحس والتجربة وكون المسكر حراما بالخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام وقد ذكرنا في كتاب أساس القياس أن تسمية هذا قياسا تجوز فإن حاصله راجع إلى ازدواج خصوص تحت عموم وإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا البرهان مقدمتين إحداهما قولنا كل نبيذ مسكر والأخرى قولنا كل مسكر حرام وكل مقدمة تشتمل على جزأين مبتدأ وخبر المبتدأ محكوم عليه والخبر حكم فيكون مجموع أجزاء البرهان أربعة أمور إلا أن أمرا واحدا يتكرر في المقدمتين فيعود إلى ثلاثة أجزاء بالضرورة لأنها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شيء واحد وبطل الازدواج بينهما فلا تتولد النتيجة فإنك إذا قلت النبيذ مسكر ثم لم تتعرض في المقدمة الثانية لا للنبيذ ولا للمسكر لكن قلت والمغصوب مضمون أو العالم حادث فلا ترتبط إحداهما بالأخرى فبالضرورة ينبغي أن تكرر أحد الأجزاء الأربعة فلنصطلح على تسمية المتكرر علة وهو الذي يمكن أن يقترن بقولك لأن في جواب المطالبة بلم فإنه إذا قيل لك لم قلت أن النبيذ حرام قلت لأنه مسكر ولا تقول لأنه نبيذ ولا تقول لأنه حرام فما يقترن به لأن هو العلة ولنسم ما يجري مجرى النبيذ محكوما عليه وما يجري مجرى الحرام حكما فإنا في النتيجة نقول فالنبيذ حرام ولنشتق للمقدمتين اسمين منهما لا من العلة لأن العلة متكررة فيهما فنسمي المقدمة المشتملة على المحكوم المقدمة الأولى وهي قولنا كل نبيذ مسكر والمشتملة على الحكم المقدمة الثانية وهي
____________________

(1/31)


قولنا كل مسكر حرام أخذا من النتيجة فإنا نقول فكل نبيذ حرام فتذكر النبيذ أولا ثم الحرام وغرض هذه التسمية سهولة التعريف عند التفصيل والتحقيق ومهما كانت المقدمات معلومة كان البرهان قطعيا وإن كانت مظنونة كان فقيها وإن كانت ممنوعة فلا بد من إثباتها وأما بعد تسليمها فلا يمكن الشك في النتيجة أصلا بل كل عاقل صدق بالمقدمتين فهو مضطر إلى التصديق بالنتيجة مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف لأنا إذا قلنا النبيذ مسكر جعلنا المسكر وصفا فإذا حكمنا على كل مسكر بأنه حرام فقد حكمنا على الوصف فبالضرورة يدخل الموصوف فيه فإنه إن بطل قولنا النبيذ حرام مع كونه مسكرا بطل قولنا كل مسكر حرام إذا ظهر لنا مسكر ليس بحرام وهذا الضرب له شرطان في كونه منتجاز شرط في المقدمة الأولى وهو أن تكون مثبتة فإن كانت نافية لم تنتج لأنك إذا نفيت شيئا عن شيء لم يكن الحكم على المنفي حكما على المنفي عنه فإنك إذا قلت لا خل واحد مسكر وكل مسكر حرام لم يلزم منه حكم في الخل إذا وقعت المباينة بين المسكر والخل فحكمك على المسكر بالنفي والإثبات لا يتعدى إلى الخل
الشرط الثاني في المقدمة الثانية وهو أن تكون عامة كلية حتى يدخل المحكوم عليه بسبب عمومها فيها فإنك إذا قلت كل سفرجل مطعوم وبعض المطعوم ربوي لم يلزم منه كون السفرجل ربويا إذ ليس من ضرورة الحكم على بعض المطعوم أن يتناول السفرجل نعم إذا قلت وكل مطعوم ربوي لزم في السفرجل ويثبت ذلك بعموم الخبر فإن قلت فبماذا يفارق هذا الضرب الضربين الآخرين بعده فاعلم أن العلة إما أن توضع محكوما عليها في المقدمتين أو محكوما بها في المقدمتين أو توضع حكما في إحداهما محكومة في الأخرى وهذا الأخير هو النظم الأول والثاني والثالث لا يتضحان غاية الاتضاح إلا بالرد إليه فلذلك قدمنا ذكره
النظم الثاني أن تكون العلة حكما في المقدمتين مثاله قولنا الباري تعالى ليس بجسم لأن الباري غير مؤلف وكل جسم مؤلف فالباري تعالى إذن ليس بجسم فهاهنا ثلاثة معان الباري والمؤلف والجسم والمكرر هو المؤلف فهو العلة وتراه خبرا في المقدمتين وحكما بخلاف المسكر في النظم الأول إذ كان خبرا في إحداهما مبتدأ في الأخرى ووجه لزوم النتيجة منه أن كل شيئين ثبت لأحدهما ما انتفى عن الآخر فهما متباينان فالتأليف ثابت للجسم منتف عن الباري تعالى فلا يكون بين معنى الجسم وبين الباري التقاء أي لا يكون الباري جسما ولا الجسم هو الباري تعالى ويمكن بيان لزوم النتيجة بالرد إلى النظم الأول بطريق العكس كما أوضحناه في كتاب معيار العلم وكتاب محك النظر فلا نطول الآن به وهذا النظم هو الذي يعبر عنه الفقهاء بالفرق إذ يقولون الجسم مؤلف والباري غير مؤلف وخاصية هذا النظم أنه لا ينتج إلا قضية نافية سالبة وأما النظم الأول فإنه ينتج النفي والإثبات جميعا ومن شروط هذا النظم أن تختلف المقدمتان في النفي والإثبات فإن كانتا مثبتتين لم ينتجا لأن حاصل هذا النظم يرجع إلى الحكم بشيء واحد على شيئين وليس من
____________________

(1/32)


ضرورة كل شيئين يحكم عليهما بشيء واحد أن يخبر بأحدهما عن الآخر فإنا نحكم على السواد والبياض باللونية ولا يلزم أن يخبر عن السواد بأنه بياض ولا عن البياض بأنه سواد ونظمه أن يقال كل سواد لون وكل بياض لون فلا يلزم كل سواد بياض ولا كل بياض سواد نعم كل شيئين أخبر عن أحدهما بما يخبر عن الآخر بنفيه يجب أن يكون بينهما انفصال وهو النفي
النظم الثالث أن تكون العلة مبتدأ في المقدمتين وهذا يسميه الفقهاء نقضا وهذا إذا اجتمعت شروطه أنتج نتيجة خاصة لا عامة مثاله قولنا كل سواد عرض وكل سواد لون فيلزم منه أن بعض العرض لون وكذلك لو قلت كل بر مطعوم وكل بر ربوي فيلزم منه أن بعض المطعوم ربوي ووجه دلالته أن الربوي والمطعوم شيئان حكمنا بهما على شيء واحد وهو البر فالتقيا عليه وأقل درجات الإلتقاء أن يوجب حكما خاصا وإن لم يكن عاما فأمكن أن يقال بعض المطعوم ربوي وبعض الربوي مطعوم
النمط الثاني من البرهان وهو نمط التلازم يشتمل على مقدمتين والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر إحدى تينك القضيتين تسليما إما بالنفي أو بالإثبات حتى تستنتج منه إحدى تينك القضيتين أو نقيضها ولنسم هذا نمط التلازم ومثاله قولنا إن كان العالم حادثا فله محدث فهذه مقدمة ومعلوم أنه حادث وهي المقدمة الثانية فيلزم منه أن له محدثا والأولى اشتملت على قضيتين لو أسقط منهما حرف الشرط لانفصلتا إحداهما قولنا إن كان العالم حادثا والثانية قولنا فله محدث ولنسم القضية الأولى المقدم ولنسم القضية الثانية اللازم والتابع والقضية الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سميناها مقدما وهو قولنا ومعلوم أن العالم حادث فتلزم منه النتيجة وهو أن للعالم محدثا وهو عين اللازم ومثاله في الفقه قولنا إن كان الوتر يؤدى على الراحلة بكل حال فهو نفل ومعلوم أنه يؤدى على الراحلة فثبت أنه نفل وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات تنتج منها اثنتان ولا تنتج اثنتان أما المنتج فتسليم عين المقدم ينتج عين اللازم مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة فيلزم أن يكون المصلي متطهرا ومثاله من الحس إن كان هذا سوادا فهو لون ومعلوم أنه سواد فإذا هو لون
وأما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم فإنه ينتج نقيض المقدم مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي غير متطهر فينتج أن الصلاة غير صحيحة وإن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الإلزام ومعلوم أنه لا يلزم بصريح الإلزام فيلزم منه أنه ليس بصحيح ووجه دلالة هذا النمط على الجملة أن ما يفضي إلى المحال فهو محال وهذا يفضي إلى المحال فهو إذا محال كقولنا لو كان الباري سبحانه وتعالى مستقرا على العرش لكان إما مساويا للعرش أو أكبر أو أصغر وكل ذلك محال فما يفضي إليه محال وهذا يفضي إلى المحال فهو إذا محال
وأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم فإنا لو قلنا إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر فلا يلزم منه لا صحة الصلاة ولا فسادها إذ قد تفسد الصلاة بعلة أخرى
وكذلك تسليم نقيض المقدم لا ينتج عين اللازم ولا نقيضه فإنا
____________________

(1/33)


لو قلنا ومعلوم أن الصلاة ليست صحيحة فلا يلزم من هذا كون المصلي متطهرا ولا كونه غير متطهر وتحقيق لزوم النتيجة من هذا النمط أنه مهما جعل شيء لازما لشيء فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم بل إما أخص أو مساويا ومهما كان أخص فثبوت الأخص بالضرورة يوجب ثبوت الأعم إذ يلزم من ثبوت السواد ثبوت اللون وهو الذي عنيناه بتسليم عين اللازم وانتفاء الأعم يوجب انتفاء الأخص بالضرورة إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم وأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص فإن ثبوت اللون لا يوجب ثبوت السواد فلذلك قلنا تسليم عين اللازم لا ينتج وأما انتفاء الأخص فلا يوجب انتفاء الأعم ولا ثبوته فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته وهو الذي عنيناه بقولنا إن تسليم نقيض المقدم لا ينتج أصلا وإن جعل الأخص لازما للأعم فهو خطأ كمن يقول إن كان هذا لونا فهو سواد فإن كان اللازم مساويا للمقدم أنتج منه أربع تسليمات كقولنا إن كان زنا المحصن موجودا فالرجم واجب لكنه موجود فإذا هو واجب لكنه واجب فإذا هو موجود لكن الرجم غير واجب فالزنا غير موجود لكن زنا المحصن غير موجود فالرجم غير واجب وكذلك كل معلول له علة واحدة كقولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فالنهار موجود لكن النهار موجود فهي إذا طالعة لكنها غير طالعة فالنهار غير موجود لكن النهار غير موجود فهي إذا غير طالعة
النمط الثالث نمط التعاند وهو على ضد ما قبله والمتكلمون يسمونه السبر والتقسيم والمنطقيون يسمونه الشرطي المنفصل ويسمون ما قبله الشرطي المتصل وهو أيضا يرجع إلى مقدمتين ونتيجة ومثاله العالم إما قديم وإما حادث وهذه مقدمة وهي قضيتان الثانية أن تسلم إحدى القضيتين أو نقيضها فيلزم منه لا محالة نتيجة وينتج فيه أربع تسليمات فإنا نقول لكنه حادث فليس بقديم لكنه قديم فليس بحادث لكنه ليس بحادث فهو قديم لكنه ليس بقديم فهو حادث وبالجملة كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفي أحدهما إثبات الآخر ولا يشترط أن تنحصر القضية في قسمين بل شرطه أن تستوفي أقسامه فإن كانت ثلاثة فإنا نقول العدد إما مساو أو أقل أو أكثر فهذه ثلاثة لكنها حاصرة فإثبات واحد ينتج نفي الآخرين وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث وإثبات واحد ينتج انحصارا الحق في الآخرين في أحدهما لا بعينه والذي لا ينتج فيه انتفاء واحد هو أن لا يكون محصورا كقولك زيد إما بالعراق وإما بالحجاز فهذا مما يوجب إثبات واحد نفي الآخر أما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر إذ ربما يكون في صقع آخر وقول من أثبت رؤية الله بعلة الوجود يكاد لا ينحصر كلامه إلا أن نتكلف له وجها فإن قول مصحح الرؤية لا يخلو إما أن يكون كونه جوهرا فيبطل بالعرض أو كونه عرضا فيبطل بالجوهر أو كونه سوادا أو لونا فيبطل بالحركة فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود وهذا غير حاصر إذ يمكن أن يكون قد بقي أمر آخر مشترك سوى الوجود لم يعثر عليه الباحث مثل كونه بجهة من الرائي مثلا فإن أبطل
____________________

(1/34)


هذا فلعله لمعنى آخر إلا أن يتكلف حصر المعاني وينفي جميعها سوى الوجود فعند ذلك ينتج فهذه أشكال البراهين فكل دليل لا يمكن رده إلى واحد من هذه الأنواع الخمسة فهو غير منتج البتة ولهذا شرح أطول من هذا ذكرناه في كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم
الفصل الثاني من فن المقاصد في بيان مادة البرهان وهي المقدمات الجارية من البرهان مجرى الثوب من القميص والخشب من السرير فإن ما ذكرناه يجري مجرى الخياطة من القميص وشكل السرير من السرير وكما لا يمكن أن يتخذ من كل جسم سيف وسرير إذ لا يتأتى من الخشب قميص ولا من الثوب سيف ولا من السيف سرير فكذلك لا يمكن أن يتخذ من كل مقدمة برهان منتج بل البرهان المنتج لا ينصاغ إلا من مقدمات يقينية إن كان المطلوب يقينا أو ظنية إن كان المطلوب فقهيا فلنذكر معنى اليقين في نفسه لتفهم ذاته ولنذكر مدركه لتفهم الآلة التي بها يقتنص اليقين أما اليقين فشرحه أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت إليها فلها ثلاثة أحوال أحدها أن يتيقن ويقطع به وينضاف إليه قطع ثان وهو أن يقطع بأن قطعها به صحيح ويتيقن بأن يقينها فيه لا يمكن أن يكون به سهو ولا غلط ولا التباس فلا يجوز الغلط في يقينها الأول ولا في يقينها الثاني ويكون صحة يقينها الثاني كصحة يقينها الأول بل تكون مطمئنة آمنة من الخطأ بل حيث لو حكى لها عن نبي من الأنبياء أنه أقام معجزة وادعى ما يناقضها فلا تتوقف في تكذيب الناقل بل تقطع بأنه كاذب أو تقطع بأن القائل ليس بنبي وأن ما ظن من معجزة فهي مخرقة وبالجملة فلا يؤثر هذا في تشكيكها بل تضحك من قائله وناقله وإن خطر ببالها إمكان أن يكون الله قد أطلع نبيا على سر به انكشف له نقيض اعتقادها فليس اعتقادها يقينا مثاله قولنا الثلاثة أقل من الستة وشخص واحد لا يكون في مكانين والشيء الواحد لا يكون قديما حادثا موجودا معدوما ساكنا متحركا في حالة واحدة
الحالة الثانية أن تصدق بها تصديقا جزما لا تتمارى فيه ولا تشعر بنقيضها البتة ولو أشعرت بنقيضها تعسر إذعانها للإصغاء إليه ولكنها لو ثبتت وأصغت وحكى لها نقيض معتقدها عمن هو أعلم الناس عندها كنبي أو صديق أورث ذلك فيها توقفا ولنسم هذا الجنس اعتقادا جزما وهو أكثر اعتقادات عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم بل اعتقاد أكثر المتكلمين في نصرة مذاهبهم بطريق الأدلة فإنهم قبلوا المذهب والدليل جميعا بحسن الظن في الصبا فوقع عليه نشؤهم فإن المستقل بالنظر الذي يستوي ميله في نظره إلى الكفر والإسلام عزيز
الحالة الثالثة أن يكون لها سكون إلى الشيء والتصديق به وهي تشعر بنقيضه أو لا تشعر لكن لو أشعرت به لم ينفر طبعها عن قبوله وهذا يسمى ظنا وله درجات في الميل إلى الزيادة والنقصان لا تحصى فمن سمع من عدل شيئا سكنت إليه نفسه فإن انضاف إليه ثان زاد السكون وإن انضاف إليه ثالث زاد السكون والقوة فإن انضافت إليه تجربة لصدقهم على الخصوص زادت القوة فإن انضافت إليه قرينة كما إذا أخبروا عن أمر مخوف وقد اصفرت وجوههم واضطربت أحوالهم زاد الظن وهكذا لا يزال
____________________

(1/35)


يترقى قليلا قليلا إلى أن ينقلب الظن علما عند الانتهاء إلى حد التواتر والمحدثون يسمون أكثر هذه الأحوال علما ويقينا حتى يطلقوا القول بأن الأخبار التي تشتمل عليها الصحاح توجب العلم والعمل وكافة الخلق إلا آحاد المحققين يسمون الحالة الثانية يقينا ولا يميزون بين الحالة الثانية والأولى والحق أن اليقين هو الأول والثاني مظنة الغلط فإذا ألفت برهانا من مقدمات يقينية على الذوق الأول وراعيت صورة تأليفه على الشروط الماضية فالنتيجة ضرورية يقينية يجوز الثقة بها هذا بيان نفس اليقين
أما مدارك اليقين فجميع ما يتوهم كونه مدركا لليقين والاعتقاد الجزم ينحصر في سبعة أقسام
الأول الأوليات وأعني بها العقليات المحضة التي أفضى ذات العقل بمجرده إليها من غير استعانة بحس أو تخيل مجبل على التصديق بها مثل علم الإنسان بوجود نفسه وبأن الواحد لا يكون قديما حادثا وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر وأن الاثنين أكثر من الواحد ونظائره وبالجملة هذه القضايا تصادف مرتسمة في العقل منذ وجوده حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالما بها ولا يدري متى تجدد ولا يقف حصوله على أمر سوى وجود العقل إذ يرتسم فيه الموجود مفردا والقديم مفردا والحادث مفردا والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتنسب بعضها إلى بعض مثل أن القديم حادث فيكذب بالعقل به وأن القديم ليس بحادث فيصدق العقل به فلا يحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات وإلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض فينتهض العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب
الثاني المشاهدات الباطنة وذلك كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وفرحه وجميع الأحوال الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس فهذه ليست من الحواس الخمس ولا هي عقلية بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل وكذا الصبي والأوليات لا تكون للبهائم ولا للصبيان
الثالث المحسوسات الظاهرة كقولك الثلج أبيض والقمر مستدير والشمس مستنيرة وهذا الفن واضح لكن الغلط يتطرق إلى الأبصار لعوارض مثل بعد مفرط وقرب مفرط أو ضعف في العين وأسباب الغلط في الأبصار التي هي على الاستقامة ثمانية والذي بالانعكاس كما في المرآة أو بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج فيتضاعف في أسباب الغلط واستقصاء ذلك في هذه العلاوة غير ممكن فإن أردت أن تفهم منه أنموذجا فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكنا والعقل يقضي بأنه متحرك وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة وإلى الصبي في أول نشوئه والنبات في أول النشوء وهو في النمو والتزايد في كل لحظة على التدريج فتراه واقفا وأمثال ذلك مما يكثر
الرابع التجربيات وقد يعبر عنها باطراد العادات وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة والخبز مشبع والحجر هاو إلى أسفل والنار صاعدة إلى فوق والخمر مسكر والسقمونيا مسهل فإذا المعلومات التجربية يقينية عند من جربها والناس يختلفون في هذه العلوم
____________________

(1/36)


لاختلافهم في التجربة فمعرفة الطبيب بأن السقمونيا مسهل كمعرفتك بأن الماء مرو وكذلك الحكم بأن المغناطيس جاذب للحديد عند من عرفه وهذه غير المحسوسات لأن مدرك الحس هو أن هذا الحجر يهوي إلى الأرض وأما الحكم بأن كل حجر هاو فهي قضية عامة لا قضية في عين وليس للحس إلا قضية في عين وكذلك إذا رأى مائعا وقد شربه فسكر فحكم بأن جنس هذا المائع مسكر فالحس لم يدرك إلا شربا وسكرا واحدا معينا فالحكم في الكل إذا هو للعقل ولكن بواسطة الحس أو بتكرر الإحساس مرة بعد أخرى إذ المرة الواحدة لا يحصل العلم بها فمن تألم له موضع فصب عليه مائعا فزال ألمه لم يحصل له العلم بأنه المزيل إذ يحتمل أن زواله بالاتفاق بل هو كما لو قرأ عليه سورة الإخلاص فزال فربما يخطر له أن إزالته بالاتفاق فإذا تكرر مرات كثيرة في أحوال مختلفة انغرس في النفس يقين وعلم بأنه المؤثر كما حصل بأن الاصطلاء بالنار مزيل للبرد والخبز مزيل لألم الجوع وإذا تأملت هذا عرفت أن العقل قد ناله بعد التكرر على الحس بواسطة قياس خفي ارتسم فيه ولم يشعر بذلك القياس لأنه لم يلتفت إليه ولم يشغله بلفظ وكأن العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد في الأكثر ولو كان بالاتفاق لاختلف وهذا الآن يحرك قطبا عظيما في معنى تلازم الأسباب والمسببات التي يعبر عنها باطراد العادات وقد نبهنا على غورها في كتاب تهافت الفلاسفة والمقصود تمييز التجربيات عن الحسيات ومن لم يمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من اليقينيات فيتعذر عليه ما يلزم منها من النتائج فيستفيدها من أهل المعرفة بها وهذا كما أن الأعمى والأصم تعوزهما جملة من العلوم التي تستنتج من مقدمات محسوسة حتى يقدر الأعمى على أن يعرف بالبرهان أن الشمس أكبر من الأرض فإن ذلك يعرف بأدلة هندسية تنبني على مقدمات حسية ولما كان السمع والبصر شبكة جملة من العلوم قرنهما الله تعالى بالفؤاد في كتابه في مواضع
الخامس متواترات كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلوات الخمس بل كعلمنا بأن من مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي فإن هذا أمر وراء المحسوس إذ ليس للحس إلا أن يسمع صوت المخبر بوجود مكة وأما الحكم بصدقة فهو للعقل وآلته السمع ولا مجرد السمع بل تكرر السماع ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو كتكرر التجربة ولكل مرة في التجربة شهادة أخرى إلى أن ينقلب الظن علما ولا يشعر بوقته فكذلك التواتر فهذه مدارك العلوم اليقينية الحقيقية الصالحة لمقدمات البراهين وما بعدها ليس كذلك
السادس الوهميات وذلك مثل قضاء الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشارا إلى جهته فإن موجودا لا متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه ولا داخلا ولا خارجا محال وأن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال وهذا عمل قوة في التجويف الأوسط من الدماغ وتسمى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات ومتابعتها والتصرف فيها فكل ما لا يكون على وفق المحسوسات التي ألفتها فليس في طباعها إلا النبوة عنها وإنكارها ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ليس وراء العالم خلاء ولا ملاء وهاتان قضيتان وهميتان
____________________

(1/37)


كاذبتان والأولى منهما ربما وقع لك الأنس بتكذيبها لكثرة ممارستك للأدلة العقلية الموجبة لإثبات موجود ليس في جهة والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك لأدلتها وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلاء والملاء غير ممكن لأن الخلاء باطل بالبراهين القاطعة إذ لا معنى له والملاء متناه بأدلة قاطعة إذ يستحيل وجود أجسام لا نهاية لها وإذا ثبت هذان الأصلان علم أنه لا خلاء ولا ملاء وراء العالم وهذه القضايا مع أنها وهمية فهي في النفس لا تتميز عن الأوليات القطعية مثل قولك لا يكون شخص في مكانين بل يشهد به أول الفطرة كما يشهد بالأوليات العقلية وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعا هو صادق بل الصادق ما يشهد به قوة العقل فقط ومداركه الخمسة المذكورة وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل ثم بعد معرفة الدليل أيضا لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها فإن قلت فبماذا أميز بينها وبين الصادقة والفطرة قاطعة بالكل ومتى يحصل الأمان منها فاعلم أن هذه ورطة تاه فيها جماعة فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيد العلم اليقين فقال بعضهم طلب اليقين غير ممكن وقالوا بتكافؤ الأدلة وادعوا اليقين بتكافؤ الأدلة وقال بعضهم لا تيقن أيضا بتكافؤ الأدلة بما هو أيضا في محل التوقف وكشف الغطاء عن هذه الورطة يستدعي تطويلا فلا نشتغل به ونفيدك الآن طريقين نستعين بهما في تكذيب الوهم الأول جملي وهو أنك لا تشك في وجود الوهم والقدرة والعلم والإرادة وهذه الصفات ليست من النظريات ولو عرضت على الوهم نفس الوهم لأنكره فإنه يطلب له سمكا ومقدارا ولونا فإذا لم يجده أباه ولو كلفت الوهم أن يتأمل ذات القدرة والعلم والإرادة لصور لكل واحد قدرا ومكانا مفردا ولو فرضت له اجتماع هذه الصفات في جزء واحد أو جسم واحد لقدر بعضها منطبقا على البعض كأنه ستر رقيق مرسل على وجهه ولم يقدر على اتحاد البعض بالبعض بأسره فإنه ربما يشاهد الأجسام ويراها متميزة في الوضع فيقضي في كل شيئين بأن أحدهما متميز في الوضع عن الآخر
الطريق الثاني وهو معيار في آحاد المسائل وهو أن نعلم أن جميع قضايا الوهم ليست كاذبة فإنها توافق العقل في استحالة وجود شخص في مكانين بل لا تنازع في جميع العلوم الهندسية والحسابية وما يدرك بالحس وإنما تنازع فيما وراء المحسوسات لأنها تمثل غير المحسوسات بالمحسوسات إذ لا تقبله إلا على نحو المحسوسات فحيلة العقل مع الوهم في أن يثق بكذبه مهما نظر في غير محسوس أن يأخذ مقدمات يقينية ليساعده الوهم عليها وينظمها نظم البرهان الذي ذكرناه فإن الوهم يساعد على أن اليقينيات إذا نظمت كذلك كانت النتيجة لازمة كما سبق في الأمثلة وكما في الهندسيات فتجد ذلك ميزانا وحاكما بينه وبينه فإذا رأى الوهم قد زاغ عن قبول نتيجة دليل قد ساعد على مقدماته وساعد على صحة نظمها وعلى كونها نتيجة علم أن ذلك من قصور في طباعه عن إدراك مثل هذا الشيء الخارج عن المحسوسات فاكتف بهذا القدر فإن تمام الإيضاح فيه تطويل
السابع المشهورات وهي آراء محمودة يوجب التصديق بها إما شهادة الكل أو الأكثر أو شهادة جماهير الأفاضل كقولك الكذب قبيح وإيلام البريء قبيح وكفران النعم قبيح وشكر المنعم وإنقاذ الهلكى حسن وهذه قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة فلا يجوز أن يعول
____________________

(1/38)


عليها في مقدمات البرهان فإن هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية فإن الفطرة الأولى لا تقضي بها بل إنما ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبا وذلك بأن تكرر على الصبي ويكلف اعتقادها ويحسن ذلك عنده وربما يحمل عليها حب التسالم وطيب المعاشرة وربما تنشأ من الحنان ورقة الطبع فترى أقواما يصدقون بأن ذبح البهائم قبيح ويمتنعون عن أكل لحومها وما يجري هذا المجرى فالنفوس المجبولة على الحنان والرقة أطوع لقبولها وربما يجبل على التصديق بها الاستقراء الكثير وربما كانت القضية صادقة ولكن بشرط دقيق لا يفطن الذهن لذلك الشرط ويستمر على تكرير التصديق فيرسخ في نفسه كمن يقول مثلا التواتر لا يورث العلم لأن كل واحد من الآحاد لا يورث العلم فالمجموع لا يورث لأنه لا يزيد على الآحاد وهذا غلط لأن قول الواحد لا يوجب العلم بشرط الإنفراد وعند التواتر فات هذا الشرط فيذهل عن هذا الشرط لدقته ويصدق به مطلقا وكذلك يصدق بقوله إن الله على كل شيء قدير مع أنه ليس قادرا على خلق ذاته وصفاته وهو شيء لكن هو قدير على كل شيء بشرط كونه ممكنا في نفسه فيذهل عن هذا الشرط ويصدق به مطلقا لكثرة تكرره على اللسان ووقع الذهول عن شرطه الدقيق وللتصديق بالمشهورات أسباب كثيرة وهي من مثارات الغلط العظيمة وأكثر قياسات المتكلمين والفقهاء مبنية على مقدمات مشهورة يسلمونها بمجرد الشهرة فلذلك ترى أقيستهم تنتج نتائج متناقضة فيتحيرون فيها فإن قلت فبم يدرك الفرق بين المشهور والصادق فأعرض قول القائل العدل جميل والكذب قبيح على العقل الأول الفطري الموجب للأوليات وقدر أنك لم تعاشر أحدا ولم تخالط أهل ملة ولم تأنس بمسموع ولم تتأدب باستصلاح ولم تهذب بتعليم أستاذ ومرشد وكلف نفسك أن تشكك فيه فإنك تقدر عليه وتراه متأتيا وإنما الذي يعسر عليك هذه التقديرات أنك على حالة تضادها فإن تقدير الجوع في حال الشبع عسير وكذا تقدير كل حالة أنت منفك عنها في الحال ولكن إذا تحذقت فيها أمكنك التشكك ولو كلفت نفسك الشك في أن الاثنين أكثر من الواحد لم يكن الشك متأتيا بل لا يتأتى الشك في أن العالم ينتهي إلى خلاء أو ملاء وهو كاذب وهمي لكن فطرة الوهم تقتضيه والآخر يقتضيه فطرة العقل وأما كون الكذب قبيحا فلا يقتضيه فطرة العقل الوهم ولا فطرة العقل بل ما ألفه الإنسان من العادات والأخلاق والاستصلاحات وهذه أيضا معارضة مظلمة يجب التحرز عنها فهذا القدر كاف في المقدمات التي منها ينتظم البرهان فالمستفاد من المدارك الخمسة بعد الاحتراز عن مواقع الغلط فيها يصلح لصناعة البرهان والمستفاد من غلط الوهم لا يصلح البتة والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية والأقيسة الجدلية ولا تصلح لإفادة اليقين البتة
الفن الثالث من دعامة البرهان في اللواحق وفيه فصول الفصل الأول في بيان أن ما تنطق به الألسنة في معرض الدليل والتعليل في جميع أقسام العلوم يرجع إلى الضروب التي ذكرناها فإن لم يرجع إليها لم يكن دليلا وحيث يذكر لا على ذلك النظم فسببه إما قصور علم الناظر أو إهماله إحدى المقدمتين للوضوح أو لكون التلبيس في ضمنه حتى لا ينتبه له أو لتركيب الضروب وجمع جملة منها في سياق
____________________

(1/39)


كلام واحد
مثال ترك إحدى المقدمتين لوضوحها وذلك غالب في الفقهيات والمحاورات احترازا عن التطويل كقول القائل هذا يجب عليه الرجم لأنه زنى وهو محصن وتمام القياس أن تقول كل من زنى وهو محصن فعليه الرجم وهذا زنى وهو محصن ولكن ترك المقدمة الأولى لاشتهارها وكذلك يقال العالم محدث فيقال لم فيقول لأنه جائز ويقتصر عليه وتمامه أن يقول كل جائز فله فاعل والعالم جائز فإذا له فاعل ويقول في نكاح الشغار هو فاسد لأنه منهي عنه وتمامه أن يقول كل منهي عنه فهو فاسد والشغار منهي عنه فهو إذا فاسد ولكن ترك الأولى لأنها موضع النزاع ولو صرح بها لتنبه الخصم لها فربما تركها للتلبيس مرة كما تركها للوضوح أخرى وأكثر أدلة القرآن كذلك تكون مثل قوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } الأنبياء 22 فينبغي أن يضم إليها ومعلوم أنهما لم تفسدا وقوله تعالى { إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } الإسراء 42 وتمامه أنه معلوم أنهم لم يبتغوا إلى ذي العرش سبيلا
ومثال ما يترك للتلبيس أن يقال فلان خائن في حقك فتقول لم فيقال لأنه كان يناجي عدوك وتمامه أن يقال كل من يناجي العدو فهو عدو وهذا يناجي العدو فهو إذا عدو ولكن لو صرح به لتنبه الذهن بأن من يناجي العدو فقد ينصحه وقد يخدعه فلا يجب أن يكون عدوا وربما يترك المقدمة الثانية وهي مقدمة المحكوم عليه مثاله أن يقال لا تخالط فلانا فيقول لم فيقال لأن الحساد لا يخالطون وتمامه أن يضم إليه إن هذا حاسد والحاسد لا يخالط فهذا إذا لا يخالط وسبيل من يريد التلبيس إهمال المقدمة التي التلبيس تحتها استغفالا للخصم واستجهالا له وهذا غلط في النظم الأول ويتطرق ذلك إلى النظم الثاني والثالث مثاله قولك كل شجاع ظالم فيقال لم فيقال لأن الحجاج كان شجاعا وظالما وتمامه أن يقول الحجاج شجاع والحجاج ظالم فكل شجاع ظالم وهذا غير منتج لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث وقد بينا أنه لا ينتج إلا نتيجة خاصة وإنما كان من النظم الثالث لأن الحجاج هو العلة لأنه المتكرر في المقدمتين لأنه محكوم عليه في المقدمتين فيلزم منه أن بعض الشجعان ظالم ومن هاهنا غلط من حكم على كل المتصوفة أو كل المتفقهة بالفساد إذا رأى ذلك من بعضهم ونظم قياسه أن فلانا متفقه وفلان فاسق فكل متفقه فاسق وذلك لا يلزم بل يلزم أن بعض المتفقهة فاسق وكثيرا ما يقع مثل هذا الغلط في الفقه أن يرى الفقيه حكما في موضع معين فيقضي بذلك الحكم على العموم فيقول مثلا البر مطعوم والبر ربوي فالمطعوم ربوي وبالجملة مهما كانت العلة أخص من الحكم والمحكوم عليه في النتيجة لم يلزم منه إلا نتيجة جزئية وهو معنى النظم الثالث ومهما كانت العلة أعم من المحكوم عليه وأخص من الحكم أو مساوية له كان من النظم الأول وأمكن استنتاج القضايا الأربعة منه أعني الموجبة العامة والخاصة والنافية العامة والخاصة ومهما كانت العلة أعم من الحكم والمحكوم عليه جميعا كان من النظم الثاني ولم ينتج منه إلا النفي فأما الإيجاب فلا
ومثال المختلطات المركبة من كل نمط كقولك الباري تعالى إن كان على العرش أما مساو أو أكبر أو أصغر وكل مساو وأصغر وأكبر مقدر وكل مقدر فإما أن يكون جسما أو لا
____________________

(1/40)


يكون جسما وباطل أن لا يكون جسما فثبت أنه جسم فيلزم أن يكون الباري تعالى جسما ومحال أن يكون جسما فمحال أن يكون على العرش وهذا السياق اشتمل على النظم الأول والثاني والثالث مختلطا كذلك فمن لا يقدر على تحليله وتفصيله فربما انطوى التلبيس في تفاصيله وتضاعيفه فلا يتنبه لموضعه ومن عرف المفردات أمكنه رد المختلطات إليها فإذا لا يتصور النطق بالاستدلال إلا ويرجع إلى ما ذكرناه
الفصل الثاني في بيان رجوع الاستقراء والتمثيل إلى ما ذكرناه أما الاستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات كقولنا في الوتر ليس بفرض لأنه يؤدى على الراحلة والفرض لا يؤدى على الراحلة فيقال لم قلتم أن الفرض لا يؤدى على الراحلة فيقال عرفناه بالاستقراء إذ رأينا القضاء والأداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدى على الراحلة فقلنا إن كل فرض لا يؤدى على الراحلة ووجه دلالة هذا لا يتم إلا بالنظم الأول بأن يقول كل فرض فإما قضاء أو أداء أو نذر وكل قضاء وأداء ونذر فلا يؤدى على الراحلة فكل فرض لا يؤدى على الراحلة وهذا مختل يصلح للظنيات دون القطعيات والخلل تحت قوله إما أداء فإن حكمه بأن كل أداء لا يؤدى على الراحلة يمنعه الخصم إذ الوتر عنده أداء واجب ويؤدى على الراحلة وإنما يسلم الخصم من الأداء الصلوات الخمس وهذه صلاة سادسة عنده فيقول وهل استقريت حكم الوتر في تصفحك وكيف وجدته فإن قلت وجدته لا يؤدى على الراحلة فالخصم لا يسلم فإن لم تتصفحه فلم يبين لك إلا بعض الأداء فخرجت المقدمة الثانية عن أن تكون عامة وصارت خاصة وذلك لا ينتج لأنا بينا أن المقدمة الثانية في النظم الأول ينبغي أن تكون عامة ولهذا غلط من قال أن صانع العالم جسم لأنه قال كل فاعل جسم وصانع العالم فاعل فهو إذا جسم فقيل لم قلت أن كل فاعل جسم فيقول لأني تصفحت الفاعلين من خياط وبناء وإسكاف وحجام وحداد وغيرهم فوجدتهم أجساما فيقال وهل تصفحت صانع العالم أم لا فإن لم تتصفحه فقد تصفحت البعض دون الكل فوجدت بعض الفاعلين جسما فصارت المقدمة الثانية خاصة لا تنتج وإن تصفحت الباري فكيف وجدته فإن قلت وجدته جسما فهو محل النزاع فكيف أدخلته في المقدمة فثبت بهذا أن الاستقراء إن كان تاما رجع إلى النظم الأول وصلح للقطعيات وإن لم يكن تاما لم يصلح إلا للفقهيات لأنه مهما وجد الأكثر على نمط غلب على الظن أن الآخر كذلك
الفصل الثالث في وجه لزوم النتيجة من المقدمات وهو الذي يعبر عنه بوجه الدليل ويلتبس الأمر فيه على الضعفاء فلا يتحققون أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره فنقول كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات وعرضته على العقل لم يخل العقل فيه من أحد أمرين إما أن يصدق به أو يمتنع من التصديق فإن صدق فهو الأولى المعلوم بغير واسطة ويقال إنه معلوم بغير نظر ودليل وحيلة وتأمل وكل ذلك بمعنى واحد وإن لم يصدق فلا مطمع في التصديق إلا بواسطة وتلك الواسطة هي التي تنسب إلى الحكم فيكون خبرا عنها وتنسب إلى المحكوم عليه فتجعل
____________________

(1/41)


خبرا عنه فيصدق فيلزم من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه
بيانه أنا إذا قلنا للعقل احكم على النبيذ بالحرام فيقول لا أدري ولم يصدق به فعلمنا أنه ليس يلتقي في الذهن طرفا هذه القضية وهو الحرام والنبيذ فلا بد أن يطلب واسطة ربما صدق العقل بوجودها في النبيذ وصدق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب فيقال هل النبيذ مسكر فيقول نعم إذا كان قد علم ذلك بالتجربة فيقال وهل المسكر حرام فيقول نعم إذا كان قد حصل ذلك بالسماع وهو المدرك بالسمع قلنا فإن صدقت بهاتين المقدمتين لزمك التصديق بالثالث لا محالة وهو أن النبيذ حرام بالضرورة فيلزمه أن يصدق بذلك ويذعن للتصديق به فإن قلت فهذه القضية ليست خارجة عن القضيتين وليست زائدة عليهما فاعلم أن ما توهمت حق من وجه وغلط من وجه أما الغلط فهو أن هذه قضية ثالثة لأن قولك النبيذ حرام غير قولك النبيذ مسكر وغير قولك المسكر حرام بل هذه ثلاث مقدمات مختلفات وليس فيها تكرير أصلا بل النتيجة اللازمة غير المقدمات الملتزمة وأما وجه كونه حقا فهو أن قولك المسكر حرام شمل بعمومه النبيد الذي هو أحد المسكرات فقولك النبيذ حرام ينطوي فيه لكن بالقوة لا بالفعل وقد يحضر العام في الذهن ولا يحضر الخاص فمن قال الجسم متحيز ربما لا يخطر بباله ذلك الوقت أن الثعلب متحيز بل ربما لا يخطر بباله ذلك الثعلب فضلا عن أن يخطر بباله أنه متحيز فإذا النتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة القريبة والموجود بالقوة القريبة لا يظن أنه موجود بالفعل فاعلم أن هذه النتيجة لا تخرج من القوة إلى الفعل بمجرد العلم بالمقدمتين ما لم تحضر المقدمتين في الذهن وتخطر ببالك وجه وجود النتيجة في المقدمتين بالقوة فإذا تأملت ذلك صارت النتيجة بالفعل إذ لا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيتوهم أنها حامل فيقال له هل تعلم أن البغلة عاقر لا تحمل فيقول نعم فيقال وهل تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم فيقال كيف توهمت أنها حامل فيتعجب من توهم نفسه مع علمه بالمقدمتين إذ نظمهما أن كل بغلة عاقر وهذه بغلة فهي إذا عاقر والانتفاخ له أسباب فإذا انتفاخها من سبب آخر ولما كان السبب الخاص لحصول النتيجة في الذهن التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء فلم يعرفوا أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره فالحق أن المطلوب هو المدلول المستنتج وأنه غير التفطن لوجوده في المقدمتين بالقوة ولكن هذا التفطن هو سبب حصوله على سبيل التولد عند المعتزلة وعلى سبيل استعداد القلب لحضور المقدمتين مع التفطن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة الذي هو العقل الفعال عند الفلاسفة وعلى سبيل تضمن المقدمات للنتيجة بطريق اللزوم الذي لا بد منه عند أكثر أصحابنا المخالفين للتولد الذي ذكره المعتزلة وعلى سبيل حصوله بقدرة الله تعالى عقيب حضور المقدمتين في الذهن والتفظن لوجه تضمنهما له بطريق إجراء الله تعالى العادة على وجه يتصور خرقها بأن لا يخلق عقيب تمام النظر عند بعض أصحابنا ثم ذلك من غير نسبة له إلى القدرة الحادثة عند بعضهم بل بحيث لا تتعلق به قدرة العبد وإنما قدرته على إحضار المقدمتين ومطالعة
____________________

(1/42)


وجه تضمن المقدمتين للنتيجة على معنى وجودها فيهما بالقوة فقط أما صيرورة النتيجة بالفعل فلا تتعلق بها القدرة وعند بعضهم هو كسب مقدور والرأي الحق في ذلك لا يليق بما نحن فيه والمقصود كشف الغطاء عن النظر وإن وجه الدليل ما هو والمدلول ما هو والنظر الصحيح ما هو والنظر الفاسد ما هو وترى الكتب مشحونات بتطويلات في هذه الألفاظ من غير شفاء وإنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط فلا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور بل بالكلام المفيد الموضح وإن خالف المعتاد
مغالطة من منكري النظر وهو أن يقول ما تطلب بالنظر وهو معلوم لك أم لا فإن علمت فكيف تطلب وأنت واجد وإن جهلته فإذا وجدته فبم تعرف أنه مطلوبك وكيف يطلب العبد الآبق من لا يعرفه فإنه لو وجده لم يعرف أنه مطلوبه فنقول أخطأت في نظم شبهتك فإن تقسيمك ليس بحاصر إذ قلت تعرفه أو لا تعرفه بل هاهنا قسم ثالث وهو أني أعرفه من وجه وأعلمه من وجه وأجهله من وجه وأعني الآن بالمعرفة غير العلم فإني أفهم مفردات أجزاء المطلوب بطريق المعرفة والتصور وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة لا بالفعل أي في قوتي أن أقبل التصديق بها بالفعل وأجهلها من وجه أي لا أعلمها بالفعل ولو كنت أعلمها بالفعل لما طلبتها ولو لم أعلمها بالقوة لما طمعت في أن أعلمها إذ ما ليس في قوتي علمه يستحيل حصوله كاجتماع الضدين ولولا أني أفهمه بالمعرفة والتصور لأجزائه المنفردة لما كنت أعلم الظفر بمطلوبي إذا وجدته وهو كالعبد الآبق فإني أعرف ذاته بالتصور وإنما أطلب مكانه وأنه في البيت أم لا وكونه في البيت أفهمه بالمعرفة والتصور أي أفهم البيت مفردا والكون مفردا وأعلمه بالقوة أي في قوتي أن أصدق بكونه في البيت وأطلب حصوله بالفعل من جهة حاسة البصر فإذا رأيته في البيت صدقت بكونه في البيت فكذلك طلبي لكون العالم حادثا إذا وجدته
الفصل الرابع في انقسام البرهان إلى برهان علة وبرهان دلالة أما برهان الدلالة فهو أن يكون الأمر المتكرر في المقدمتين معلولا ومسببا فإن العلة والمعلول يتلازمان وكذلك السبب والمسبب والموجب والموجب فإن استدللت بالعلة على المعلول فالبرهان برهان علة وإن استدللت بالمعلول على العلة فهو برهان دلالة وكذلك لو استدللت بأحد المعلولين على الآخر
ومثال قياس العلة من المحسوسات أن تستدل على المطر بالغيم وعلى شبع زيد بأكله فتقول من أكل كثيرا فهو في الحال شبعان وزيد قد أكل كثيرا فهو إذا شبعان وإن قلت إن كل شبعان قد أكل كثيرا وزيد شبعان فإذا قد أكل كثيرا فهذا برهان دلالة ومثاله من الكلام قولك كل فعل محكم ففاعله عالم والعالم فعل محكم فصانعه عالم ومثال الاستدلال بإحدى النتيجتين على الأخرى في الفقه قولنا الزنا يوجب حرمة المصاهرة لأن كل وطء لا يوجب المحرمية فلا يوجب الحرمة وهذا لا يوجب المحرمية فلا يوجب الحرمة فإن الحرمة والمحرمية ليست إحداهما علة للأخرى بل هما نتيجتا علة واحدة وحصول إحدى النتيجتين يدل على حصول الأخرى بواسطة العلة فإنها تلازم علتها والنتيجة الثانية أيضا تلازم علتها وملازم الملازم ملازم لا محالة وجميع استدلالات الفراسة
____________________

(1/43)


من قبيل الاستدلال بإحدى النتيجتين على الأخرى حتى أنه يستدل بخطوط حمر في كتف الشاة على إراقة الدماء في تلك السنة ويستدل بالخلق على الأخلاق ولا يمكن ذلك إلا بطريق تلازم النتائج الصادرة عن سبب واحد ولنقتصر من مدارك العقول على هذا القدر فإنه كالعلاوة على علم الأصول ومن أراد مزيدا عليه فليطلبه من كتاب محك النظر وكتاب معيار العلم ولنشتغل الآن بالأقطاب الأربعة التي يدور عليها علم الأصول والحمد لله وحده والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وعلى جميع أصحابه

____________________

(1/44)


بسم الله الرحمن الرحيم القطب الأول في الثمرة وهي الحكم والكلام فيه ينقسم إلى فنون أربعة فن في حقيقة الحكم وفن في أقسامه وفن في أركانه وفن فيما يظهره
الفن الأول في حقيقته ويشتمل على تمهيد وثلاث مسائل أما التمهيد فهو أن الحكم عندنا عبارة عن خطاب الشرع إذا تعلق بأفعال المكلفين فالحرام هو المقول فيه إتركوه ولا تفعلوه والواجب هو المقول فيه إفعلوه ولا تتركوه والمباح هو المقول فيه إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه فإن لم يوجد هذا الخطاب من الشارع فلا حكم فلهذا قلنا العقل لا يحسن ولا يقبح ولا يوجب شكر المنعم ولا حكم للأفعال قبل ورود الشرع فلنرسم كل مسألة برأسها
مسألة ( الحسن والقبح في الفعل ) ذهبت المعتزلة إلى أن الأفعال تنقسم إلى حسنة وقبيحة فمنها ما يدرك بضرورة العقل كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى وشكر المنعم ومعرفة حسن الصدق وكقبح الكفران وإيلام البريء والكذب الذي لا غرض فيه ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر وقبح الكذب الذي فيه نفع ومنها ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة والحج وسائر العبادات وزعموا أنها متميزة بصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة لكن العقل لا يستقل بدركه فنقول قول القائل هذا حسن وهذا قبيح لا يحس بفهم معناه ما لم يفهم معنى الحسن والقبح فإن الاصطلاحات في إطلاق لفظ الحسن والقبح مختلفة فلا بد من تلخيصها والاصطلاحات فيه ثلاثة الأول الاصطلاح المشهور العامي وهو أن الأفعال تنقسم إلى ما يوافق غرض الفاعل وإلى ما يخالفه وإلى ما لا يوافق ولا يخالف فالموافق يسمى حسنا والمخالف يسمى قبيحا والثالث يسمى عبثا وعلى هذا الاصطلاح إذا كان الفعل موافقا لشخص مخالفا لآخر فهو حسن في حق من وافقه قبيح في حق من خالفه حتى أن قتل الملك الكبير يكون حسنا في حق أعدائه قبيحا في حق أوليائه وهؤلاء لا يتحاشون عن تقبيح فعل الله تعالى إذا خالف غرضهم ولذلك يسبون الدهر والفلك ويقولون خرب الفلك وتعس الدهر وهم يعلمون أن الفلك مسخر ليس إليه شيء ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر فإطلاق اسم الحسن والقبح على الأفعال عند هؤلاء كإطلاقه على الصور فمن مال طبعه إلى صورة أو صوت شخص قضى بحسنه ومن نفر طبعه عن
____________________

(1/45)


شخص استقبحه ورب شخص ينفر عنه طبع ويميل إليه طبع فيكون حسنا في حق هذا قبيحا في حق ذاك حتى يستحسن سمرة اللون جماعة ويستقبحها جماعة فالحسن والقبح عند هؤلاء عبارة عن الموافقة والمنافرة وهما أمران إضافيان لا كالسواد والبياض إذ لا يتصور أن يكون الشيء أسود في حق زيد أبيض في حق عمرو
الاصطلاح الثاني التعبير بالحسن عما حسنه الشرع بالثناء على فاعله فيكون فعل الله تعالى حسنا في كل حال خالف الغرض أو وافقه ويكون المأمور به شرعا ندبا كان أو إيجابا حسنا والمباح لا يكون حسنا
الاصطلاح الثالث التعبير بالحسن عن كل ما لفاعله أن يفعله فيكون المباح حسنا مع المأمورات وفعل الله يكون حسنا بكل حال
وهذه المعاني الثلاثة كلها أوصاف إضافية وهي معقولة ولا حجر على من يجعل لفظ الحسن عبارة عن شيء منها فلا مشاحة في الألفاظ فعلى هذا إذا لم يرد الشرع لا يتميز فعل عن غيره إلا بالموافقة والمخالفة ويختلف ذلك بالإضافات ولا يكون صفة للذات فإن قيل نحن لا ننازعكم في هذه الأمور الإضافية ولا في هذه الاصطلاحات التي تواضعتم عليها ولكن ندعي الحسن والقبح وصفا ذاتيا للحسن والقبيح مدركا بضرورة العقل في بعض الأشياء كالظلم والكذب والكفران والجهل ولذلك لا نجوز شيئا من ذلك على الله تعالى لقبحه ونحرمه على كل عاقل قبل ورود الشرع لأنه قبيح لذاته وكيف ينكر ذلك والعقلاء بأجمعهم متفقون على القضاء به من غير إضافة إلى حال دون حال قلنا أنتم منازعون فيما ذكرتموه في ثلاثة أمور أحدها في كون القبح وصفا ذاتيا
والثاني في قولكم أن ذلك مما يعلمه العقلاء بالضرورة
والثالث في ظنكم أن العقلاء لو توافقوا عليه لكان ذلك حجة مقطوعا بها ودليلا على كونه ضروريا
أما الأول وهو دعوى كونه وصفا ذاتيا فهو تحكم بما لا يعقل فإن القتل عندهم قبيح لذاته بشرط أن لا تسبقه جناية ولا يعقبه عوض حتى جاز إيلام البهائم وذبحها ولم يقبح من الله تعالى ذلك لأنه يثيبها عليه في الآخرة والقتل في ذاته له حقيقة واحدة لا تختلف بأن تتقدمه جناية أو تتعقبه لذة إلا من حيث الإضافة إلى الفوائد والأغراض وكذلك الكذب كيف يكون قبحه ذاتيا ولو كان فيه عصمة دم نبي بإخفاء مكانه عن ظالم يقصد قتله لكان حسنا بل واجبا يعصى بتركه والوصف الذاتي كيف يتبدل بالإضافة إلى الأحوال
وأما الثاني وهو كونه مدركا بالضرورة وكيف يتصور ذلك ونحن ننازعكم فيه والضروري لا ينازع فيه خلق كثير من العقلاء وقولكم أنكم مضطرون إلى المعرفة وموافقون عليه ولكنكم تظنون أن مستند معرفتكم السمع كما ظن الكعبي أن مستند علمه بخبر التواتر النظر ولا يبعد التباس مدرك العلم وإنما يبعد الخلاف في نفس المعرفة ولا خلاف فيها قلنا هذا كلام فاسد لأنا نقول يحسن من الله تعالى إيلام البهائم ولا نعتقد لها جريمة ولا ثوابا فدل أنا ننازعكم في نفس العلم
وأما الثالث فهو أنا لو سلمنا اتفاق العقلاء على هذا أيضا لم تكن فيه حجة إذ لم يسلم كونهم مضطرين إليه بل
____________________

(1/46)


يجوز أن يقع الاتفاق منهم على ما ليس بضروري فقد اتفق الناس على إثبات الصانع وجواز بعثه الرسل ولم يخالف إلا الشواذ فلو اتفق أن ساعدهم الشواذ لم يكن ذلك ضروريا فكذلك اتفاق الناس على هذا الاعتقاد يمكن أن يكون بعضه عن دليل السمع الدال على قبح هذه الأشياء وبعضه عن تقليد مفهوم من الآخذين عن السمع وبعضه عن الشبهة التي وقعت لأهل الضلال فالتئام الإتفاق من هذه الأسباب لا يدل على كونه ضروريا فلا يدل على كونه حجة لولا منع السمع عن تجويز الخطأ على كافة هذه الأمة خاصة إذ لا يبعد اجتماع الكافة على الخطأ عن تقليد وعن شبهة وكيف وفي الملحدة من لا يعتقد قبح هذه الأشياء ولا حسن نقائضها فكيف يدعى اتفاق العقلاء احتجوا بأنا نعلم قطعا أن من استوى عنده الصدق والكذب آثر الصدق ومال إليه إن كان عاقلا وليس ذلك إلا لحسنه وإن الملك العظيم المستولي على الأقاليم إذا رأى ضعيفا مشرفا على الهلاك يميل إلى إنقاذه وإن كان لا يعتقد أصل الدين لينتظر ثوابا ولا ينتظر منه أيضا مجازاة وشكرا ولا يوافق ذلك أيضا غرضه بل ربما يتعب به بل يحكم العقلاء بحسن الصبر على السيف إذا أكره على كلمة الكفر أو على إفشاء السر ونقض العهد وهو على خلاف غرض المكره وعلى الجملة استحسان مكارم الأخلاق وإفاضة النعم مما لا ينكره عاقل إلا عن عناد والجواب أنا لا ننكر اشتهار هذه القضايا بين الخلق وكونها محمودة مشهورة ولكن مستندها إما التدين بالشرائع وإما الأغراض ونحن إنما ننكر هذا في حق الله تعالى لانتفاء الأغراض عنه فأما إطلاق الناس هذه الألفاظ فيما يدور بينهم فيستمر من الأغراض ولكن قد تدق الأغراض وتخفى فلا يتنبه لها إلا المحققون ونحن ننبه على مثارات الغلط فيه وهي ثلاث مثارات يغلط الوهم فيها الأولى إن الإنسان يطلق اسم القبح على ما يخالف غرضه وإن كان يوافق غرض غيره من حيث إنه لا يلتفت إلى الغير فإن كل طبع مشغوف بنفسه ومستحقر لغيره فيقضي بالقبح مطلقا وربما يضيف القبح إلى ذات الشيء ويقول هو بنفسه قبيح فيكون قد قضى بثلاثة أمور هو مصيب في واحد منها وهو أصل الاستقباح ومخطىء في أمرين أحدهما إضافة القبح إلى ذاته إذ غفل عن كونه قبيحا لمخالفة غرضه
والثاني حكمه بالقبح مطلقا ومنشؤه عدم الالتفات إلى غيره بل عدم الالتفات إلى بعض أحوال نفسه فإنه قد يستحسن في بعض الأحوال عين ما يستقبحه إذا اختلف الغرض
الغلطة الثانية أن ما هو مخالف للغرض في جميع الأحوال إلا في حالة واحدة نادرة قد لا يلتفت الوهم إلى تلك الحالة النادرة بل لا يخطر بالبال فيراه مخالفا في كل الأحوال فيقضي بالقبح مطلقا لاستيلاء أحوال قبحه على قلبه وذهاب الحالة النادرة عن ذكره كحكمه على الكذب بأنه قبيح مطلقا وغفلته عن الكذب الذي تستفاد به عصمة دم نبي أو ولي وإذا قضى بالقبح مطلقا واستمر عليه مدة وتكرر ذلك على سمعه ولسانه انغرس في نفسه استقباح منفر فلو وقعت تلك الحالة النادرة وجد في نفسه نفرة عنه لطول نشوه على الاستقباح فإنه ألقي إليه منذ الصبا على سبيل التأديب والإرشاد أن الكذب قبيح لا ينبغي أن يقدم عليه
____________________

(1/47)


أحد ولا ينبه على حسنه في بعض الأحوال خيفة من أن لا تستحكم نفرته عن الكذب فيقدم عليه وهو قبيح في أكثر الأحوال والسماع في الصغر كالنقش في الحجر فينغرس في النفس ويحن إلى التصديق به مطلقا وهو صدق لكن لا على الإطلاق بل في أكثر الأحوال وإذا لم يكن في ذكره إلا أكثر الأحوال فهو بالإضافة إليه كل الأحوال فلذلك يعتقده مطلقا
الغلطة الثالثة سببها سبق الوهم إلى العكس فإن ما يرى مقرون بالشيء يظن أن الشيء أيضا لا محالة مقرون به مطلقا ولا يدري أن الأخص أبدا مقرون بالأعم والأعم لا يلزم أن يكون مقرونا بالأخص ومثاله نفرة نفس السليم وهو الذي نهشته الحية عن الحبل المبرقش اللون لأنه وجد الأذى مقرونا بهذه الصورة فتوهم أن هذه الصورة مقرونة بالأذى وكذلك تنفر النفس عن العسل إذا شبه بالعذرة لأنه وجد الأذى والاستقذار مقرونا بالرطب الأصفر فتوهم أن الرطب الأصفر مقرون به الاستقذار ويغلب الوهم حتى يتعذر الأكل وإن حكم العقل بكذب الوهم لكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة حتى أن الطبع لينفر عن حسناء سميت باسم اليهود إذ وجد الاسم مقرونا بالقبح فظن أن القبح أيضا ملازم للاسم ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية جليلة فيقبلها فإذا قلت هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نسبته إليه وليس هذا طبع العامي خاصة بل طبع أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس ولذلك ينفر طبع الإنسان عن المبيت في بيت فيه ميت مع قطعه بأنه لا يتحرك ولكنه كأنه يتوهم في كل ساعة حركته ونطقه
فإذا تنبهت لهذه المثارات فنرجع ونقول إنما يترجح الإنقاذ على الإهمال في حق من لا يعتقد الشرائع لدفع الأذى الذي يلحق الإنسان من رقة الجنسية وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه وسببه أن الإنسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه فيستقبحه منه بمخالفة غرضه فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه فهو بعيد تصوره ولو تصور فيبقى أمر آخر وهو طلب الثناء على إحسانه فإنه فرض حيث لا يعلم أنه المنقذ فيتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع باعثا فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم فيبقى ميل النفس وترجح يضاهي نفرة طبع السليم عن الحبل المبرقش وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فظن أن الثناء مقرون بها بكل حال كما أنه لما رأى الأذى مقرونا بصورة الحبل وطبعه ينفر عن الأذى فنفر عن المقرون بالأذى فالمقرون باللذيذ لذيذ والمقرون بالمكروه مكروه بل الإنسان إذا جالس من عشقه في مكان فإذا انتهى إليه أحس في نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره ولذلك قال الشاعر أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا وما تلك الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
____________________

(1/48)


وقال ابن الرومي منبها على سبب حب الأوطان وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا وشواهد ذلك مما يكثر وكل ذلك من حكم الوهم وأما الصبر على السيف في ترك كلمة الكفر مع طمأنينة النفس فلا يستحسنه جميع العقلاء لولا الشرع بل ربما استقبحوه وإنما استحسنه من ينتظر الثواب على الصبر أو من ينتظر الثناء عليه بالشجاعة والصلابة في الدين وكم من شجاع يركب متن الخطر ويتهجم على عددهم أكثر منه وهو يعلم أنه لا يطيقهم ويستحقر ما يناله من الألم لما يعتاضه من توهم الثناء والحمد ولو بعد موته وكذلك إخفاء السر وحفظ العهد إنما تواصى الناس بهما لما فيهما من المصالح وأكثروا الثناء عليهما فمن يحتمل الضرر فيه فإنما يحتمله لأجل الثناء فإن فرض حيث لا ثناء فقد وجد مقرونا بالثناء فيبقى ميل الوهم إلى المقرون باللذيذ وإن كان خاليا عنه فإن فرض من لا يستولي عليه هذا الوهم ولا ينتظر الثواب والثناء فهو مستقبح للسعي في هلاك نفسه بغير فائدة ويستحمق من يفعل ذاك قطعا فمن يسلم أن مثل هذا يؤثر الهلاك على الحياة وعلى هذا يجري الجواب عن الكذب وعن جميع ما يفرضونه ثم نقول نحن لا ننكر أن أهل العادة يستقبح بعضهم من بعض الظلم والكذب وإنما الكلام في القبح والحسن بالإضافة إلى الله تعالى ومن قضى به فمستنده قياس الغائب على الشاهد وكيف يقيس والسيد لو ترك عبيده وإماءه وبعضهم يموج في بعض ويرتكبون الفواحش وهو مطلع عليهم وقادر على منعهم لقبح منه وقد فعل الله تعالى ذلك بعباده ولم يقبح منه وقولهم أنه تركهم لينزجروا بأنفسهم فيستحقوا الثواب هوس لأنه علم أنهم لا ينزجرون فليمنعهم قهرا فكم من ممنوع عن الفواحش بعنة أو عجز وذلك أحسن من تمكينهم مع العلم لأنهم لا ينزجرون
مسألة ( شكر الخالق ) لا يجب شكر المنعم عقلا خلافا للمعتزلة ودليله أن لا معنى للواجب إلا ما أوجبه الله تعالى وأمر به وتوعد بالعقاب على تركه فإذا لم يرد خطاب فأي معنى للوجوب ثم تحقيق القول فيه أن العقل لا يخلو إما أن يوجب ذلك لفائدة أو لا لفائدة ومحال أن يوجب لا لفائدة فإن ذلك عبث وسفه وإن كان لفائدة فلا يخلو إما أن ترجع إلى المعبود وهو محال إذ يتعالى ويتقدس عن الأغراض أو إلى العبد وذلك لا يخلو إما أن تكون في الدنيا أو في الآخرة ولا فائدة له في الدنيا بل يتعب بالنظر والفكر والمعرفة والشكر ويحرم به عن الشهوات واللذات ولا فائدة له في الآخرة فإن الثواب تفضل من الله يعرف بوعده وخبره فإذا لم يخبر عنه فمن أين يعلم أنه يثاب عليه فإن قيل يخطر له أنه إن كفر وأعرض ربما يعاقب والعقل يدعو إلى سلوك طريق الأمن قلنا لا بل العقل يعرف طريق الأمن ثم الطبع يستحث على سلوكه إذ كل إنسان مجبول على حب نفسه وعلى كراهة الألم فقد غلطتم في قولكم أن العقل داع بل العقل هاد والبواعث والدواعي تنبعث من النفس تابعة لحكم العقل وغلطتم أيضا في قولكم أنه يثاب على جانب الشكر والمعرفة خاصة لأن هذا الخاطر مستنده توهم غرض في جانب الشكر يتميز به عن الكفر وهما متساويان بالإضافة إلى
____________________

(1/49)


جلال الله تعالى بل إن فتح باب الأوهام فربما يخطر له أن الله يعاقبه لو شكره ونظر فيه لأنه أمده بأسباب النعم فلعله خلقه ليترفه وليتمتع فإتعابه نفسه تصرف في مملكته بغير إذنه ولهم شبهتان إحداهما قولهم إتفاق العقلاء على حسن الشكر وقبح الكفران لا سبيل إلى إنكاره وذلك مسلم لكن في حقهم لأنهم يهتزون ويرتاحون للشكر ويغتمون بالكفران والرب تعالى يستوي في حقه الأمران فالمعصية والطاعة في حقه سيان ويشهد له أمران أحدهما أن المتقرب إلى السلطان بتحريك أنملته في زاوية بيته وحجرته مستهين بنفسه وعبادة العباد بالنسبة إلى جلال الله دونه في الرتبة
والثاني أن من تصدق عليه السلطان بكسرة خبز في مخمصة فأخذ يدور في البلاد وينادي على رؤوس الأشهاد بشكره كان ذلك بالنسبة إلى الملك قبيحا وافتضاحا وجملة نعم الله تعالى على عباده بالنسبة إلى مقدوراته دون ذلك بالنسبة إلى خزائن الملك لأن خزانة الملك تفنى بأمثال تلك الكسرة لتناهيها ومقدورات الله تعالى لا تتناهى بأضعاف ما أفاضه على عباده
الشبهة الثانية قولهم حصر مدارك الوجوب في الشرع يفضي إلى إفحام الرسل فإنهم إذا أظهروا المعجزات قال لهم المدعوون لا يجب علينا النظر في معجزاتكم إلا بالشرع ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزاتكم فثبتوا علينا وجوب النظر حتى ننظر ولا نقدر على ذلك ما لم ننظر فيؤدي إلى الدور والجواب من وجهين أحدهما من حيث التحقيق وهو أنكم غلطتم في ظنكم بنا أنا نقول استقرار الشرع موقوف على نظر الناظرين بل إذا بعث الرسول وأيد بمعجزته بحيث يحصل بها إمكان المعرفة لو نظر العاقل فيها فقد ثبت الشرع واستقر ورود الخطاب بإيجاب النظر إذ لا معنى للواجب إلا ما ترجح فعله على تركه بدفع ضرر معلوم أو موهوم فمعنى الوجوب رجحان الفعل على الترك والموجب هو المرجح والله تعالى هو المرجح وهو الذي عرف رسوله وأمره أن يعرف الناس أن الكفر سم مهلك والمعصية داء والطاعة شفاء فالمرجح هو الله تعالى والرسول هو المخبر والمعجزة سبب يمكن العاقل من التوصل إلى معرفة الترجيح والعقل هو الآلة التي بها يعرف صدق المخبر عن الترجيح والطبع المجبول على التألم بالعذاب والتلذذ بالثواب هو الباعث المستحث على الحذر من الضرر وبعد ورود الخطاب حصل الإيجاب الذي هو الترجيح وبالتأييد بالمعجزة حصل الإمكان في حق العاقل الناظر إذ قدر به على معرفة الرجحان فقوله لا أنظر ما لم أعرف ولا أعرف ما لم أنظر مثاله ما لو قال الأب لولده التفت فإن وراءك سبعا عاديا هوذا يهجم عليك إن غفلت عنه فيقول لا ألتفت ما لم أعرف وجوب الإلتفات ولا يجب الإلتفات ما لم أعرف السبع ولا أعرف السبع ما لم ألتفت فيقول له لا جرم تهلك بترك الالتفات وأنت غير معذور لأنك قادر على الإلتفات وترك العناد فكذلك النبي يقول الموت وراءك ودونه الهوام المؤذية والعذاب الأليم إن تركت الإيمان والطاعة وتعرف ذلك بأدنى نظر في معجزتي فإن نظرت وأطعت نجوت وإن غفلت وأعرضت فالله تعالى غني عنك وعن عملك وإنما أضررت بنفسك فهذا أمر معقول لا تناقض فيه
الجواب الثاني المقابلة بمذهبهم فإنهم قضوا بأن العقل هو الموجب وليس يوجب بجوهره إيجابا ضروريا لا ينفك منه أحد إذ لو
____________________

(1/50)


كان كذلك لم يخل عقل عاقل عن معرفة الوجوب بل لا بد من تأمل ونظر ولو لم ينظر لم يعرف وجوب النظر وإذا لم يعرف وجوب النظر فلا ينظر فيؤدي أيضا إلى الدور كما سبق فإن قيل العاقل لا يخلو عن خاطرين يخطران له أحدهما أنه إن نظر وشكر أثيب والثاني أنه إن ترك النظر عوقب فيلوك له على القرب وجوب سلوك طريق الأمن قلنا كم من عاقل انقضى عليه الدهر ولم يخطر له هذا الخاطر بل قد يخطر له أنه لا يتميز في حق الله تعالى أحدهما عن الآخر فكيف أعذب نفسي بلا فائدة ترجع إلي ولا إلى المعبود ثم إن كان عدم الخلو عن الخاطر كافيا في التمكين من المعرفة فإذا بعث النبي ودعا وأظهر المعجزة كان حضور هذه الخواطر أقرب بل لا ينفك عن هذا الخاطر بعد إنذار النبي وتحذيره ونحن لا ننكر أن الإنسان إذا استشعر المخافة استحثه طبعه على الاحتراز فإن الاستشعار إنما يكون بالتأمل الصادر عن العقل فإن سمى مسم معترف الوجوب موجبا فقد تجوز في الكلام بل الحق الذي لا مجاز فيه أن الله موجب أي مرجح للفعل على الترك والنبي مخبر والعقل معرف والطبع باعث والمعجزة ممكنة من التعريف والله تعالى أعلم
مسألة ( حكم الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة ) ذهب جماعة من المعتزلة إلى أن الأفعال قبل ورود الشرع على الإباحة وقال بعضهم على الحظر وقال بعضهم على الوقف ولعلهم أرادوا بذلك فيما لا يقضي العقل فيه بتحسين ولا تقبيح ضرورة أو نظرا كما فصلناه من مذهبهم وهذه المذاهب كلها باطلة أما إبطال مذهب الإباحة فهو أنا نقول المباح يستدعي مبيحا كما يستدعي العلم والذكر ذاكرا وعالما والمبيح هو الله تعالى إذا خير بين الفعل والترك بخطابه فإذا لم يكن خطاب لم يكن تخيير فلم تكن إباحة وإن عنوا بكونه مباحا أنه لا حرج في فعله ولا تركه فقد أصابوا في المعنى وأخطأوا في اللفظ فإن فعل البهيمة والصبي والمجنون لا يوصف بكونه مباحا وإن لم يكن في فعلهم وتركهم حرج والأفعال في حق الله تعالى أعني ما يصدر من الله لا توصف بأنها مباحة ولا حرج عليه في تركها لكنه انتفى التخيير من المخير انتفت الإباحة فإن استجرأ مستجرىء على إطلاق اسم المباح على أفعال الله تعالى ولم يرد به إلا نفي الحرج فقد أصاب في المعنى وإن كان لفظه مستكرها فإن قيل العقل هو المبيح لأنه خير بين فعله وتركه إذ حرم القبيح وأوجب الحسن وخير فيما ليس بحسن ولا قبيح قلنا تحسين العقل وتقبيحه قد أبطلناه وهذا مبني عليه فيبطل ثم تسمية العقل مبيحا مجاز كتسميته موجبا فإن العقل يعرف الترجيح ويعرف انتفاء الترجيح ويكون معنى وجوبه رجحان فعله على تركه والعقل يعرف ذلك ومعنى كونه مباحا انتفاء الترجيح والعقل معرف لا مبيح فإنه ليس بمرجح ولا مسو لكنه معرف للرجحان والاستواء ثم نقول بم تنكرون على أصحاب الوقف إذا أنكروا استواء الفعل والترك وقالوا ما من فعل مما لا يحسنه العقل ولا يقبحه إلا ويجوز أن يرد الشرع بإيجابه فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي لأجله يكون لطفا ناهيا عن الفحشاء داعيا إلى العبادة ولذلك أوجبه الله تعالى والعقل لا يستقل بدركه ويجوز أن يرد الشرع بتحريمه فيدل على أنه متميز بوصف ذاتي يدعو بسببه إلى الفحشاء لا يدركه العقل وقد استأثر الله بعلمه هذا مذهبهم ثم يقولون بم تنكرون على أصحاب الحظر إذ قالوا لا نسلم استواء الفعل وتركه فإن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح والله
____________________

(1/51)


تعالى هو المالك ولم يأذن فإن قيل لو كان قبيحا لنهى عنه وورد السمع به فعدم ورود السمع دليل على انتفاء قبحه قلنا لو كان حسنا لأذن فيه وورد السمع به فعدم ورود السمع به دليل على انتفاء حسنه فإن قيل إذا أعلمنا الله تعالى أنه نافع ولا ضرر فيه فقد أذن فيه قلنا فإعلام المالك إيانا أن طعامه نافع لا ضرر فيه ينبغي أن يكون أذنا فإن قيل المالك منا يتضرر والله لا يتضرر فالتصرف في مخلوقاته بالإضافة إليه يجري مجرى التصرف في مرآة الإنسان بالنظر فيها وفي حائطه بالاستظلال به وفي سراجه بالاستضاءة به قلنا لو كان قبح التصرف في ملك الغير لتضرره لا لعدم أذنه لقبح وإن أذن إذا كان متضررا كيف ومنع المالك من المرآة والظل والاستضاءة بالسراج قبيح وقد منع الله عباده من جملة من المأكولات ولم يقبح فإن كان ذلك لضرر العبد فما من فعل إلا ويتصور أن يكون فيه ضرر خفي لا يدركه العقل ويرد التوقيف بالنهي عنه ثم نقول قولكم أنه إذا كان لا يتضرر الباري بتصرفنا فيباح فلم قلتم ذلك فإن نقل مرآة الغير من موضع إلى موضع وإن كان لا يتضرر به صاحبها يحرم وإنما يباح النظر لأن النظر ليس تصرفا في المرآة كما أن النظر إلى الله تعالى وإلى السماء ليس تصرفا في المنظور فيه ولا في الاستظلال تصرف في الحائط ولا في الاستضاءة تصرف في السراج فلو تصرف في نفس هذه الأشياء ربما يقضي بتحريمه إلا إذا دل السمع على جوازه فإن قيل خلق الله تعالى الطعوم فيها والذوق دليل على أنه أراد انتفاعنا بها فقد كان قادرا على خلقها عارية عن الطعوم قلنا الأشعرية وأكثر المعتزلة مطبقون على استحالة خلوها عن الأعراض التي هي قابلة لها فلا يستقيم ذلك وإن سلم فلعله خلقها لا لينتفع بها أحد بل خلق العالم بأسره لا لعلة أو لعله خلقها ليدرك ثواب اجتنابها مع الشهوة كما يثاب على ترك القبائح المشتهاة
وأما مذهب أصحاب الحظر فأظهر بطلانا إذ لا يعرف حظرها بضرورة العقل ولا بدليله ومعنى الحظر ترجيح جانب الترك على جانب الفعل لتعلق ضرر بجانب الفعل فمن أين يعلم ذلك ولم يرد سمع والعقل لا يقضي به بل ربما يتضرر بترك اللذات عاجلا فكيف يصير تركها أولى من فعلها وقولهم إنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو قبيح فاسد لأنا لا نسلم قبح ذلك لولا تحريم الشرع ونهيه ولو حكم فيه العادة فذلك يقبح في حق من تضرر بالتصرف في ملكه بل القبيح المنع مما لا ضرر فيه ثم قد بينا أن حقيقة درك القبح ترجع إلى مخالفة الغرض وأن ذلك لا حقيقة له
وأما مذهب الوقف إن أرادوا به أن الحكم موقوف على ورود السمع ولا حكم في الحال فصحيح إذ معنى الحكم الخطاب ولا خطاب قبل ورود السمع وإن أريد به أنا نتوقف فلا ندري أنها محظورة أو مباحة فهو خطأ لأنا ندري أنه لا حظر إذ معنى الحظر قول الله تعالى لا تفعلوه ولا إباحة إذ معنى الإباحة قوله إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه ولم يرد شيء من ذلك
الفن الثاني في أقسام الأحكام ويشتمل على تمهيد ومسائل خمس عشرة
أما التمهيد فإن أقسام الأحكام الثابتة لأفعال المكلفين خمسة الواجب والمحظور والمباح والمندوب والمكروه ووجه هذه القسمة أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل أو
____________________

(1/52)


اقتضاء الترك أو التخيير بين الفعل والترك فإن ورد باقتضاء الفعل فهو أمر فإما أن يقترن به الإشعار بعقاب على الترك فيكون واجبا ولا يقترن فيكون ندبا والذي ورد باقتضاء الترك فإن أشعر بالعقاب على الفعل فحظر وإلا فكراهية وإن ورد بالتخيير فهو مباح
ولا بد من ذكر حد كل واحد على الرسم فأما حد الواجب فقد ذكرنا طرفا منه في مقدمة الكتاب ونذكر الآن ما قيل فيه
فقال قوم إنه الذي يعاقب على تركه فاعترض عليه بأن الواجب قد يعفي عن العقوبة على تركه ولا يخرج عن كونه واجبا لأن الوجوب ناجز والعقاب منتظر وقيل ما توعد بالعقاب على تركه فاعترض عليه بأنه لو توعد لوجب تحقيق الوعيد فإن كلام الله تعالى صدق ويتصور أن يعفي عنه ولا يعاقب وقيل ما يخاف العقاب على تركه وذلك يبطل بالمشكوك في تحريمه ووجوبه فإنه ليس بواجب ويخاف العقاب على تركه وقال القاضي أبو بكر رحمه الله الأولى في حده أن يقال هو الذي يذم تاركه ويلام شرعا بوجه ما لأن الذم أمر ناجز والعقوبة مشكوك فيها وقوله بوجه ما قصد أن يشمل الواجب المخير فإنه يلام على تركه مع بدله والواجب الموسع فإنه يلام على تركه مع ترك العزم على امتثاله فإن قيل فهل من فرق بين الواجب والفرض قلنا لا فرق عندنا بينهما بل هما من الألفاظ المترادفة كالحتم واللازم وأصحاب أبي حنيفة اصطلحوا على تخصيص اسم الفرض بما يقطع بوجوبه وتخصيص اسم الواجب بما لا يدرك إلا ظنا ونحن لا ننكر انقسام الواجب إلى مقطوع ومظنون ولا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعاني وقد قال القاضي لو أوجب الله علينا شيئا ولم يتوعد بعقاب على تركه لوجب فالوجوب إنما هو بإيجابه لا بالعقاب وهذا فيه نظر لأن ما استوى فعله وتركه في حقنا فلا معنى لوصفه بالوجوب إذ لا نعقل وجوبا إلا بأن يترجح فعله على تركه بالإضافة إلى أغراضنا فإذا انتفى الترجيح فلا معنى للوجوب أصلا
وإذا عرفت حد الواجب فالمحظور في مقابلته ولا يخفى حده
وأما حد المباح فقد قيل فيه ما كان تركه وفعله سيين ويبطل بفعل الطفل والمجنون والبهيمة ويبطل بفعل الله تعالى وكثير من أفعاله يساوي الترك في حقنا وهما في حق الله تعالى أبدا سيان وكذلك الأفعال قبل ورود الشرع تساوي الترك ولايسمى شيء من ذلك مباحا بل حده أنه الذي ورد الإذن من الله تعالى بفعله وتركه غير مقرون بذم فاعله ومدحه ولا بذم تاركه ومدحه ويمكن أن يحد بأنه الذي عرف الشرع أنه لا ضرر عليه في تركه ولا فعله ولا نفع من حيث فعله وتركه احترازا عما إذا ترك المباح بمعصية فإنه يتضرر لا من حيث ترك المباح بل من يحث ارتكاب المعصية
وأما حد الندب فقيل فيه إنه الذي فعله خير من تركه من غير ذم يلحق بتركه ويرد عليه الأكل قبل ورود الشرع فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة وبقاء الحياة وقالت القدرية هو الذي إذا فعله فاعله استحق المدح ولا يستحق الذم بتركه ويرد عليه فعل الله تعالى فإنه لا يسمى ندبا مع أنه يمدح على كل فعل ولا يذم فالأصح في حده أنه المأمور به الذي لا يلحق الذم بتركه من حيث هو ترك له من غير حاجة إلى بدل احترازا عن الواجب المخير والموسع
وأما المكروه فهو لفظ مشترك في عرف الفقهاء بين معاني أحدها المحظور فكثيرا ما يقولالشافعي رحمه الله وأكره كذا
____________________

(1/53)


وهو يريد التحريم
الثاني ما نهي عنه نهي تنزيه وهو الذي أشعر بأن تركه خير من فعله وإن لم يكن عليه عقاب كما أن الندب هو الذي أشعر بأن فعله خير من تركه
الثالث ترك ما هو الأولى وإن لم ينه عنه كترك صلاة الضحى مثلا لا لنهي ورد عنه ولكن لكثرة فضله وثوابه قيل فيه إنه مكروه تركه
الرابع ما وقعت الريبة والشبهة في تحريمه كلحم السبع وقليل النبيذ وهذا فيه نظر لأن من أداه اجتهاده إلى تحريمه فهو عليه حرام ومن أداه اجتهاده إلى حله فلا معنى للكراهية فيه إلا إذا كان من شبهة الخصم حزازة في نفسه ووقع في قلبه فقد قال صلى الله عليه وسلم الإثم حزاز القلب فلا يقبح إطلاق لفظ الكراهة لما فيه من خوف التحريم وإن كان غالب الظن الحل ويتجه هذا على مذهب من يقول المصيب واحد فأما من صوب كل مجتهد فالحل عنده مقطوع به إذا غلب على ظنه الحل
وإذا فرغنا من تمهيد الأقسام فلنذكر المسائل المتشعبة عنها
مسألة ( أصناف الواجب ) الواجب ينقسم إلى معين وإلى مبهم بين أقسام محصورة ويسمى واجبا مخيرا كخصلة من خصال الكفارة فإن الواجب من جملتها واحد لا بعينه وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا لا معنى للإيجاب مع التخيير فإنهما متناقضان ونحن ندعي أن ذلك جائز عقلا وواقع شرعا أما دليل جوازه عقلا فهو أن السيد إذا قال لعبده أوجبت عليك خياطة هذا القميص أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به وأثبتك عليه وإن تركت الجميع عاقبتك ولست أوجب الجميع وإنما أوجب واحدا لا بعينه أي واحد أردت فهذا كلام معقول ولا يمكن أن يقال أنه لم يوجب عليه شيئا لأنه عرضه للعقاب بترك الجميع فلا ينفك عن الوجوب ولا يمكن أن يقال أوجب الجميع فإنه صرح بنقيضه ولا يمكن أن يقال أوجب واحدا بعينه من الخياطة أو البناء فإنه صرح بالتخيير فلا يبقى إلا أن يقال الواجب واحد لا بعينه
وأما دليل وقوع شرعا فخصال الكفارة بل إيجاب إعتاق الرقبة فإنه بالإضافة إلى أعيان العبيد مخير وكذلك تزويج البكر الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين واجب ولا سبيل إلى إيجاب الجمع وكذلك عقد الإمامة لأحد الإمامين الصالحين للإمامة واجب والجمع محال فإن قيل الواجب جميع خصال الكفارة فلو تركها عوقب على الجميع ولو أتى بجميعها وقع الجميع واجبا ولو أتى بواحد سقط عنه الآخر وقد يسقط الواجب بأسباب دون الأداء وذلك غير محال قلنا هذا لا يطرد في الإمامين والكفؤين فإن الجمع فيه حرام فكيف يكون الكل واجبا ثم هو خلاف الإجماع في خصال الكفارة إذ الأمة مجمعة على أن الجميع غير واجب
واحتجوا بأن الخصال الثلاث إن كانت متساوية الصفات عند الله تعالى بالإضافة إلى صلاح العبد فينبغي أن يجب الجميع تسوية بين المتساويات وأن تميز بعضها بوصف يقتضي الإيجاب فينبغي أن يكون هو الواجب ولا يجعل مبهما بغيره كيلا يلتبس بغيره قلنا ومن سلم لكم أن للأفعال أوصافا في ذواتها لأجلها يوجبها الله تعالى بل الإيجاب إليه وله أن يعين واحدة من الثلاث المتساويات فيخصصها بالإيجاب دون غيرها وله أن يوجب واحدا لا بعينه ويجعل مناط التعيين اختيار المكلف لفعله حتى لا يتعذر عليه الامتثال احتجوا بأن الواجب هو الذي يتعلق به الإيجاب وإذا كان الواجب واحدا من الخصال الثلاث علم الله تعالى ما تعلق به الإيجاب فيتميز ذلك في علمه فكان هو الواجب قلنا إذا أوجب واحدا لا بعينه
____________________

(1/54)


فإنا نعلمه غير معين ولو خاطب السيد عبده بأني أوجبت عليك الخياطة أو البناء فكيف يعلمه الله تعالى ولا يعلمه إلا على ما هو عليه من نعته ونعته أنه غير معين فيعلمه غير معين كما هو عليه وهذا التحقيق وهو أن الواجب ليس له وصف ذاتي من تعلق الإيجاب به وإنما هو إضافة إلى الخطاب والخطاب بحسب النطق والذكر وخلق السواد في أحد الجسمين لا بعينه وخلق العلم في أحد الشخصين لا بعينه غير ممكن فأما ذكر واحد من اثنين لا على التعيين فممكن كمن يقول لزوجتيه إحداكما طالق فالإيجاب قول يتبع النطق فإن قيل الموجب طالب ومطلوبه لا بد أن يتميز عنده قلنا يجوز أن يكون طلبه متعلقا بأحد أمرين كما تقول المرأة زوجني من أحد الخاطبين أيهما كان وأعتق رقبة من هذه الرقاب أيها كانت وبايع أحد هذين الإمامين أيهما كان فيكون المطلوب أحدهما لا بعينه وكل ما تصور طلبه تصور إيجابه فإن قيل أن الله سبحانه يعلم ما سيأتي به المكلف ويتأدى به الواجب فيكون معينا في علم الله تعالى قلنا يعلمه الله تعالى غير معين ثم يعلم أنه يتعين بفعله ما لم يكن متعينا قبل فعله ثم لو أتى بالجميع أو لم يأت بالجميع فكيف يتعين واحد في علم الله تعالى فإن قيل فلم لا يجوز أن يوجب على أحد شخصين لا بعينه ولم قلتم بأن فرض الكفاية على الجميع مع أن الوجوب يسقط بفعل واحد قلنا لأن الوجوب يتحقق بالعقاب ولا يمكن عقاب أحد الشخصين لا بعينه ويجوز أن يقال أنه يعاقب على أحد الفعلين لا بعينه
مسألة ( أصناف الواجب من حيث الوقت ) الواجب ينقسم بالإضافة إلى الوقت إلى مضيق وموسع وقال قوم التوسع يناقض الوجوب وهو باطل عقلا وشرعا
أما العقل فإن السيد إذا قال لعبده خط هذا الثوب في بياض هذا النهار إما في أوله أو في أوسطه أو في آخره كيفما أردت فمهما فعلت فقد امتثلت إيجابي فهذا معقول ولا يخلو إما أن يقال لم يوجب شيئا أصلا أو أوجب شيئا مضيقا وهما محالان فلم يبق إلا أنه أوجب م 9 وسعا
وأما الشرع فالإجماع منعقد على وجوب الصلاة عند الزوال وأنه مهما صلى كان مؤديا للفرض وممتثلا لأمر الأيجاب مع أنه لا تضييق فإن قيل حقيقة الواجب ما لا يسع تركه بل يعاقب عليه والصلاة والخياطة إن أضيفا إلى آخر الوقت فيعاقب على تركه فيكون وجوبه في آخر الوقت أما قبله فيتخير بين فعله وتركه وفعله خير من تركه وهذا حد الندب قلنا كشف الغطاء عن هذا أن الأقسام في العقل ثلاثة فعل لا عقاب على تركه مطلقا وهو الندب وفعل يعاقب على تركه مطلقا وهو الواجب وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت ولكن لا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت وهذا قسم ثالث فيفتقر إلى عبارة ثالثة وحقيقته لا تعدو الندب والوجوب فأولى الألقاب به الواجب الموسع أو الندب الذي لا يسع تركه وقد وجدنا الشرع يسمي هذا القسم واجبا بدليل انعقاد الإجماع على نية الفرض في ابتداء وقت الصلاة وعلى أنه يثاب على فعله ثواب الفرض لا ثواب الندب فإذا الأقسام الثلاثة لا ينكرها العقل والنزاع يرجع إلى اللفظ والذي ذكرناه أولى فإن قيل ليس هذا قسما ثالثا بل هو بالإضافة إلى أول الوقت ندب إذ يجوز تركه وبالإضافة إلى آخر الوقت حتم إذ لا
____________________

(1/55)


يسع تأخيره عنه وقولكم أنه ينوي الفرض فمسلم لكنه فرض بمعنى أنه يصير فرضا كمعجل الزكاة ينوي فرض الزكاة ويثاب ثواب معجل الفرض لا ثواب الندب ولا ثواب الفرض الذي ليس بمعجل قلنا قولكم أنه بالإضافة إلى أول الوقت يجوز تأخيره فهو ندب خطأ إذ ليس هذا حد الندب بل الندب ما يجوز تركه مطلقا وهذا لا يجوز تركه إلا بشرط وهو الفعل بعده أو العزم على الفعل وما جاز تركه ببدل وشرط فليس بندب بدليل ما لو أمر بالإعتاق فإنه ما من عبد إلا ويجوز له ترك اعتاقه لكن بشرط أن يعتق عبدا آخر وكذلك خصال الكفارة ما من واحدة إلا ويجوز تركها لكن ببدل ولا يكون ندبا بل كما يسمى ذلك واجبا مخيرا يسمى هذا واجبا غير مضيق وإذا كان حظ المعنى منه متفقا عليه وهو الانقسام إلى الأقسام الثلاثة فلا معنى للمناقشة وما جاز تركه بشرط يفارق ما لا يجوز تركه مطلقا وما يجوز تركه مطلقا فهو قسم ثالث وأما ما ذكرتموه من أنه تعجيل للفرض فلذلك سمي فرضا فمخالف للإجماع إذ يجب نية التعجيل في الزكاة وما نوى أحد من السلف في الصلاة في أول الوقت إلا ما نواه في آخره ولم يفرقوا أصلا وهو مقطوع به فإن قيل قد قال قوم يقع نفلا ويسقط الفرض عنده وقال قوم يقع موقوفا فإن بقي بنعت المكلفين إلى آخر الوقت تبين وقوعه فرضا وإن مات أو جن وقع نفلا قلنا لو كان يقع نفلا لجازت بنية النفل بل استحال وجود نية الفرض من العالم بكونه نفلا إذ النية قصد يتبع العلم والوقف باطل إذ الأمة مجمعة على أن من مات في وسط الوقت بعد الفراغ من الصلاة مات مؤديا فرض الله تعالى كما نواه وأداه إذا قال نويت أداء فرض الله تعالى فإن قيل بنيتم كلامكم على أن تركه جائز بشرط وهو العزم على الامتثال أو الفعل وليس كذلك فإن الواجب المخير ما خير فيه بين شيئين كخصال الكفارة وما خير الشرع بين فعل الصلاة والعزم ولأن مجرد قوله صل في هذا الوقت ليس فيه تعرض للعزم فإيجابه زيادة على مقتضى الصيغة ولأنه لو غفل وخلا عن العزم ومات في وسط الوقت لم يكن عاصيا قلنا أما قولكم لو ذهل لا يكون عاصيا فمسلم وسببه أن الغافل لا يكلف أما إذا لم يغفل عن الأمر فلا يلخو عن العزم إلا بضده وهو العزم على الترك مطلقا وذلك حرام وما لا خلاص من الحرام إلا به فهو واجب فهذا الدليل قد دل على وجوبه وإن لم يدل عليه مجرد الصيغة من حيث وضع اللسان ودليل العقل أقوى من دلالة الصيغة فإذا يرجع حاصل الكلام إلى أن الواجب الموسع كالواجب المخير بالإضافة إلى أول الوقت وبالإضافة إلى آخره أيضا فإنه لو أخلي عنه في آخره لم يعص إذا كان قد فعل في أوله
مسألة ( حكم من توفي أثناء وقت الصلاة بعد العزم عليها ) إذا مات في أثناء وقت الصلاة فجأة بعد العزم على الامتثال لا يكون عاصيا وقال بعض من أراد تحقيق معنى الوجوب أنه يعصي وهو خلاف إجماع السلف فإنا نعلم أنهم كانوا لا يؤثمون من مات فجأة بعد انقضاء مقدار أربع ركعات من وقت الزوال أو بعد انقضاء مقدار ركعتين من أول الصبح وكانوا لا ينسبونه إلى تقصير ولا سيما إذا اشتغل بالوضوء أو نهض إلى المسجد فمات في الطريق بل محال أن يعصي وقد جوز له التأخير فمن فعل ما يجوز له كيف يمكن تعصيته فإن قيل جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة
____________________

(1/56)


قلنا هذا محال فإن العاقبة مستورة عنه فإذا سألنا وقال العاقبة مستورة عني وعلي صوم يوم وأنا أريد أن أؤخره إلى غد فهل يحل لي التأخير مع الجهل بالعاقبة أم أعصي بالتأخير فلا بدل له من جواب فإن قلنا لا يعصي فلم أثم بالموت الذي ليس إليه وإن قلنا يعصي فهو خلاف الإجماع في الواجب الموسع وإن قلنا إن كان في علم الله تعالى أنك تموت قبل الغد فأنت عاص وإن كان في علمه أن تحيا فلك التأخير فيقول وما يدريني ماذا في علم الله فما فتواكم في حق الجاهل فلا بد من الجزم بالتحليل أو التحريم فإن قيل فإن جاز تأخيره أبدا ولا يعصي إذا مات فأي معنى لوجوبه قلنا تحقق الوجوب بأنه لم يجز التأخير إلا بشرط العزم ولا يجوز العزم على التأخير إلا إلى مدة يغلب على ظنه البقاء إليها كتأخيره الصلاة من ساعة إلى ساعة وتأخيره الصوم من يوم إلى يوم مع العزم على التفرغ له في كل وقت وتأخيره الحج من سنة إلى سنة فلو عزم المريض المشرف على الهلاك على التأخير شهرا أو الشيخ الضعيف على التأخير سنين وغالب ظنه أنه لا يعيش إلى تلك المدة عصي بهذا التأخير وإن لم يمت ووفق للعمل لكنه مأخوذ بموجب ظنه كالمعزر إذا ضرب ضربا يهلك أو قاطع سلعة وغالب ظنه الهلاك أثم وإن سلم ولهذا قال أبو حنيفة لا يجوز تأخير الحج لأن البقاء إلى سنة لا يغلب على الظن وأما تأخير الصوم والزكاة إلى شهر وشهرين فجائز لأنه لا يغلب على الظن الموت إلى تلك المدة و الشافعي رحمع الله يرى البقاى إلى السنة الثانية غالبا على الظن في حق الشاب الصحيح دون الشيخ والمريض ثم المعزر إذا فعل ما غالب ظنه السلامة فهلك ضمن لا لأنه آثم لكن لأنه أخطأ في ظنه والمخطىء ضامن غير آثم
مسألة ( ما لا يتم الواجب إلا به ) اختلفوا في أن ما لا يتم الوجب إلا به هل يوصف بالوجوب والتحقيق في هذا أن هذا ينقسم إلى ما ليس إلى المكلف كالقدرة على الفعل وكاليد في الكتابة وكالرجل في المشي فهذا لا يوصف بالوجوب بل عدمه يمنع الإيجاب إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا يطاق وكذلك تكليف حضور الإمام الجمعة وحضور تمام العدد فإنه ليس إليه فلا يوصف بالوجوب بل يسقط بتعذره الواجب
وأما ما يتعلق باختيار العبد فينقسم إلى الشرط الشرعي وإلى الحسي
فالشرعي كالطهارة في الصلاة يجب وصفها بالوجوب عند وجوب الصلاة فإن إيجاب الصلاة إيجاب لما يصير به الفعل صلاة
وأما الحسي فكالسعي إلى الجمعة وكالمشي إلى الحج وإلى مواضع المناسك فينبغي أن يوصف أيضا بالوجوب إذ أمر البعيد عن البيت بالحج أمر بالمشي إليه لا محالة وكذلك إذا وجب غسل الوجه ولم يمكن إلا بغسل جزء من الرأس وإذا وجب الصوم ولم يمكن إلا بالإمساك جزء من الليل قبل الصبح فيوصف ذلك بالوجوب ونقول ما لا يتصول إلى الواجب إلا به وهو فعل المكلف فهو واجب وهذا أولى من أن نقول يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب إذ قولنا يجب فعل ما ليس بواجب متناقض وقولنا ما ليس بواجب صار واجبا غير متناقض فإنه واجب لكن الأصل وجب بالإيجاب قصدا إليه والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود وقد وجب كيفما كان وإن كان علة وجوبه غير علة وجوب المقصود فإن قيل لو كان واجبا
____________________

(1/57)


لكان مقدرا فما المقدار الذي يجب غسله من الرأس وإمساكنه من الليل قلنا قد وجب التوصل به إلى الواجب وهو غير مقدر بل يجب مسح الرأس ويكفي أقل ما ينطلق عليه الاسم وهو غير مقدر فكذلك الواجب أقل ما يمكن به غسل الوجه وهذا التقدير كاف في الوجوب فإن قيل لو كان واجبا لكان يثاب على فعله ويعاقب على تركه وتارك الوضوء لا يعاقب على ما تركه من غسل الرأس بل من غسل الوجه وتارك الصوم لا يعاقب على ترك الإمساك ليلا قلنا ومن أنبأكم بذلك ومن أين عرفتم أن ثواب البعيد عن البيت لا يزيد على ثواب القريب في الحج وأن من زاد عمله لا يزيد ثوابه وإن كان بطريق التوصل وأما العقاب فهو عقاب على ترك الصوم والوضوء وليس يتوزع على أجزاء الفعل فلا معنى لإضافته إلى التفاصيل فإن قيل لو قدر على الاقتصار على غسل الوجه لم يعاقب قلنا هذا مسلم لأنه إنما يجب على العاجز أما القادر فلا وجوب عليه
مسألة ( حكم اختلاط المنكوحة بالأجنبية ) قال قائلون إذا اختلطت منكوحة بأجنبية وجب الكف عنهما لكن الحرام هي الأجنبية والمنكوحة حلال ويجب الكف عنها وهذا متناقض بل ليس الحرمة والحل وصفا ذاتيا لهما بل هو متعلق بالفعل فإذا حرم فعل الوطء فيهما فأي معنى لقولنا وطء المنكوحة حلال ووطء الأجنبية حرام بل هما حرامان إحداهما بعلة الأجنبية والأخرى بعلة الاختلاط بالأجنبية فالاختلاف في العلة لا في الحكم وإنما وقع هذا في الأوهام من حيث ضاهى الوصف بالحل والحرمة الوصف بالعجز والقدرة والسواد والبياض والصفات الحسية وذلك وهم نبهنا عليه إذ ليست الأحكام صفات للأعيان أصلا بل نقول إذا اشتبهت رضيعة بنساء بلدة فنكح واحدة حلت واحتمل أن تكون هي الرضيعة في علم الله تعالى ولا نقول إنها ليست في علم الله تعالى زوجة له إذ لا معنى للزوجة إلا من حل وطؤها بنكاح وهذه قد حل وطؤها فهي حلال عنده وعند الله تعالى ولا نقول هي حرام عند الله تعالى وحلال عنده في ظنه بل إذا ظن الحل فهي حلال عند الله تعالى وسيأتي تحقيق هذا في مسألة تصويب المجتهد أما إذا قال لزوجتيه إحداكما طالق فيحتمل أن يقال يحل وطؤها والطلاق غير واقع لأنه لم يعين له محلا فصار كما إذا باع أحد عبديه ويحتمل أن يقال حرمتا جميعا فإنه لا يشترط تعيين محل الطلاق ثم عليه التعيين وإليه ذهب أكبر الفقهاء والمتبع في ذلك موجب ظن المجتهد أما المصير إلى أن إحداهما محرمة والأخرى منكوحة كما توهموه في اختلاط المنكوحة بالأجنية فلا ينقدح هاهنا لأن ذلك جهل من الآدمي عرض بعد التعيين وأما هنا فليس متعينا في نفسه بل يعلمه الله تعالى مطلقا لإحداهما لا بعينها فإن قيل إذا وجب عليه التعيين فالله تعالى يعلم ما سيعينه فتكون هي المحرمة المطلقة بعينها في علم الله تعالى وإنما هو مشكل علينا قلنا الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه فلا يعلم الطلاق الذي لم يعين محله متعينا بل يعلمه قابلا للتعيين إذا عينه المطلق ويعلم أنه سيعين زينب مثلا فيتعين الطلاق بتعيينه إذا عين لا قبله وكذلك نقول في الواجب المخير الله تعالى يعلم ما سيفعله العبد من خلال الكفارة ولا يعلمه واجبا بعينه بل واجبا غير معين في حال ثم يعلم صيرورته متعينا بالتعيين بدليل أنه لو علم أنه يموت
____________________

(1/58)


قبل التكفير وقبل التعيين فيعلم الوجوب والطلاق على ما هو عليه من عدم التعيين
مسألة ( حكم الواجب غير المعروف ) اختلفوا في الواجب الذي لا يتقدر بحد محدود كمسح الرأس والطمأنينة في الركوع والسجود ومدة القيام إنه إذا زاد على أقل الواجب هل توصف الزيادة بالوجوب فلو مسح جميع الرأس هل يقع فعله بجملته واجبا أو الواجب الأقل والباقي ندب فذهب قوم إلى أن الكل يوصف بالوجوب لأن نسبة الكل إلى الأمر واحد والأمر في نفسه أمر واحد وهو أمر إيجاب ولا يتميز البعض من البعض فالكل امتثال والأولى أن يقال الزيادة على الأقل ندب فإنه لم يجب إلا أقل ما ينطلق عليه الاسم وهذا في الطمأنينة والقيام وما وقع متعاقبا أظهر وكذلك المسح إذا وقع متعاقبا وما وقع من جملته معا وإن كان لا يتميز بعضه من بعض بالإشارة والتعيين فيحتمل أن يقال قدر الأقل منه واجب والباقي ندب وإن لم يتميز بالإشارة المندوب عن الواجب لأن الزيادة على الأقل لا عقاب على تركها مطلقا من غير شرط بدل فلا يتحقق فيه حد الوجوب
مسألة ( حقيقة الوجوب والجواز ) الوجوب يباين الجواز والإباحة بحده فلذلك قلنا يقضي بخطأ من ظن أن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز بل الحق أنه إذا نسخ رجع الأمر إلى ما كان قبل الوجوب من تحريم أو إباحة وصار الوجوب بالنسخ كأن لم يكن فإن قيل كل واجب فهو جائز وزيادة إذ الجائز ما لا عقاب على فعله والواجب أيضا لا عقاب على فعله وهو معنى الجواز فإذا نسخ الوجوب فكأنه أسقط العقاب على تركه فيبقى سقوط العقاب على فعله وهو معنى الجواز قلنا هذا كقول القائل كل واجب فهو ندب وزيادة فإذا نسخ الوجوب بقي الندب ولا قائل به
ولا فرق بين الكلامين وكلاهما وهم بل الواجب لا يتضمن معنى الجواز فإن حقيقة الجواز التخيير بين الفعل والترك والتساوي بينهما بتسوية الشرع وذلك منفي عن الواجب وذكر هذه المسألة ههنا أولى من ذكرها في كتاب النسخ فإنه نظر في حقيقة الوجوب والجواز لا في حقيقة النسخ
مسألة ( الجواز ليس فيه أمر ) كما فهمت أن الواجب لا يتضمن الجواز فافهم أن الجائز لا يتضمن الأمر وأن المباح غير مأمور به لتناقض حديهما كما سبق خلافا للبلخي فإنه قال المباح مأمور به لكنه دون الندب كما أن الندب مأمور به لكنه دون الواجب وهذا محال إذ الأمر اقتضاء وطلب والمباح غير مطلوب بل مأذون فيه ومطلق له فإن استعمل لفظ الأمر في الإذن فهو تجوز فإن قيل ترك الحرام واجب والسكون المباح يترك به الحرام من الزنا والسرقة والسكوت المباح أو الكلام المباح يترك به الكفر والكذب وترك الكفر والكذب والزنا مأمور به قلنا قد يترك بالندب حرام فليكن واجبا وقد يترك بالحرام حرام آخر فليكن الشيء الواحد واجبا حراما وهو تناقض ويلزم هذا على مذهب من زعم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده بل يلزم عليه كون الصلاة حراما إذا تحرم بها من ترك الزكاة
____________________

(1/59)


الواجبة لأنه أحد أضداد الواجب وكل ذلك قياس مذهب هؤلاء لكنهم لم يقولوا به فإن قيل فالمباح هل يدخل تحت التكليف وهل هو من التكاليف قلنا إن كان التكليف عبارة عن طلب ما فيه كلفة فليس ذلك في المباح وإن أريد به ما عرف من جهة الشرع إطلاقه والإذن فيه فهو تكليف وإن أريد به أنه الذي كلف اعتقاد كونه من الشرع فقد كلف ذلك لكن لا بنفس الإباحة بل بأصل الإيمان وقد سماه الأستاذ أبو إسحق رحمه الله تكليفا بهذا التأويل الأخير وهو بعيد مع أنه نزاع في اسم فإن قيل فهل المباح حسن قلنا إن كان الحسن عبارة عما لفاعله أن يفعله فهو حسن وإن كان عبارة عما أمر بتعظيم فاعله والثناء عليه أو وجب اعتقاد استحقاقه للثناء والقبيح ما يجب اعتقاد استحقاق صاحبه للذم أو العقاب فليس المباح بحسن واحترزنا باعتقاد الاستحقاق عن معاصي الأنبياء فقد دل الدليل على وقوعها منهم ولم يأمر بإهانتهم وذمهم لكنا نعتقد استحقاقهم لذلك مع تفضل الله تعالى بإسقاط المستحق من حيث أمرنا بتعظيمهم والثناء عليهم
مسألة ( هل المباح من الشريعة ) المباح من الشرع وقد ذهب بعض المعتزلة إلى أنه ليس من الشرع إذ معنى المباح رفع الحرج عن الفعل والترك وذلك ثابت قبل السمع فمعنى إباحة الشرع شيئا أنه تركه على ما كان عليه قبل ورود السمع ولم يغير حكمه وكل ما لم يثبت تحريمه ولا وجوبه بقي على النفي الأصلي فعبر عنه بالمباح وهذا له غور وكشف الغطاء عنه أن الأفعال ثلاثة أقسام قسم بقي على الأصل فلم يرد فيه من الشرع تعرض لا بصريح اللفظ ولا بدليل من أدلة السمع فينبغي أن يقال استمر فيه ما كان ولم يتعرض له السمع فليس فيه حكم
وقسم صرح الشرع فيه بالتخيير وقال إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه فهذا خطاب والحكم لا معنى له إلا الخطاب ولا سبيل إلى إنكاره وقد ورد
وقسم ثالث لم يرد فيه خطاب بالتخيير لكن دل دليل السمع على أنه نفي الحرج عن فعله وتركه فقد عرف بدليل السمع ولولا هذا الدليل لكان يعرف بدليل العقل نفي الحرج عن فاعله وبقاؤه على النفي الأصلي فهذا فيه نظر إذ اجتمع عليه دليل العقل والسمع وفي الطرفين الآخرين أيضا نظر إذ يمكن أن يقال قول الشارع إن شئت فقم وإن شئت فاقعد ليس بتجديد حكم هو تقرير للحكم السابق ومعنى تقريره أنه ليس يغير أمره بل يتركه على ما هو عليه فليس ذلك أمرا حادثا بالشرع فلا يكون شرعيا وأما الطرف الآخر وهو الذي لم يرد فيه خطاب ولا دليل فيمكن أيضا إنكاره بأن يقال قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا طلب ترك فالمكلف فيه مخير وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من الأفعال فلا يبقى فعل إلا مدلولا عليه من جهة الشرع فتكون إباحته من الشرع وإلا عورض أن الإباحة من جهة الشرع تقرير لا تغيير وليس مع التقرير تجديد أمر بل بيان أنه لم يجدد فيه أمرا بل كف عن التعرض له وسيأتي لهذا تحقيق في مسألة إقامة الدليل على النافي
مسألة ( التفريق بين المندوب والمباح المندوب مأمور به ) وإن لم يكن المباح مأمورا به لأن الأمر اقتضاء وطلب والمباح غير مقتضى أما المندوب فإنه مقتضى لكن مع إسقاط الذم عن تاركه والواجب مقتضى لكن مع ذم تاركه إذا تركه مطلقا أو تركه وبدله وقال قوم المندوب غير داخل تحت
____________________

(1/60)


الأمر وهو فاسد من وجهين أحدهما أنه شاع في لسان العلماء أن الأمر ينقسم إلى أمر إيجاب وأمر استحباب وما شاع أنه ينقسم إلى أمر إباحة وأمر إيجاب مع أن صيغة الأمر قد تطلق لإرادة الإباحة كقوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا } المائدة 2 { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا } الجمعة 10
الثاني إن فعل المندوب طاعة بالاتفاق وليس طاعة لكونه مرادا إذ الأمر عندنا يفارق الإرادة ولا لكونه موجودا أو حادثا أو لذاته أو نفسه إذ يجري ذلك في المباحات ولا لكونه مثابا عليه فإن المأمور وإن لم يثب ولم يعاقب إذا امتثل كان مطيعا وإنما الثواب للترغيب في الطاعة ولأنه قد يحبط بالكفر ثواب طاعته ولا يخرج عن كونه مطيعا فإن قيل الأمر عبارة عن اقتضاء جازم لا تخيير معه والندب مقرون بتجويز الترك والتخيير فيه وقولكم أنه يسمى مطيعا يقابله أنه لو ترك لا يسمى عاصيا قلنا الندب اقتضاء جازم لا تخيير فيه لأن التخيير عبارة عن التسوية فإذا رجح جهة الفعل بربط الثواب به ارتفعت التسوية والتخيير وقد قال تعالى في المحرمات أيضا { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } الكهف 29 فلا ينبغي أن يظن أن الأمر اقتضاء جازم بمعنى أن الشرع يطلب منه شيئا لنفسه بل يطلب منه لما فيه من صلاحه والله تعالى يقتضي من عباده ما فيه صلاحهم ولا يرضى الكفر لهم وكذلك يقتضي الندب لنيل الثواب ويقول الفعل والترك سيان بالإضافة إلي أما في حقك فلا مساواة ولا خيرة إذ في تركه ترك صلاحك وثوابك فهو اقتضاء جازم وأما قولهم أنه لا يسمى عاصيا فسببه أن العصيان اسم ذم وقد أسقط الذم عنه نعم يسمى مخالفا وغير ممتثل كما يسمى فاعله موافقا ومطيعا
مسألة ( الواجب غير الحرام ) إذا عرفت أن الحرام ضد الواجب لأنه المقتضى تركه والواجب هو المقتضى فعله فلا يخفى عليك أن الشيء الواحد يستحيل أن يكون واجبا حراما طاعة معصية لكن ربما تخفى عليك حقيقة الواحد فالواحد ينقسم إلى واحد بالنوع وإلى واحد بالعدد أما الواحد بالنوع كالسجود مثلا فإنه نوع واحد من الأفعال فيجوز أن ينقسم إلى الواجب والحرام ويكون انقسامه بالأوصاف والإضافات كالسجود لله تعالى والسجود للصنم إذ أحدهما واجب والآخر حرام ولا تناقض وذهب بعض المعتزلة إلى أنه تناقض فإن السجود نوع واحد مأمور به فيستحيل أن ينهى عنه بل الساجد للصنم عاص بقصد تعظيم الصنم لا بنفس الجسود وهذا خطأ فاحش فإنه إذا تغاير متعلق الأمر والنهي لم يتناقض والسجود للصنم غير السجود لله تعالى لأن اختلاف الإضافات والصفات يوجب المغايرة إذ الشيء لا يغاير نفسه والمغايرة تارة تكون باختلاف النوع وتارة باختلاف الوصف وتارة باختلاف الإضافة وقد قال الله تعالى { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله } فصلت 37 وليس المأمور به هو المنهي عنه والإجماع منعقد على أن الساجد للشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعا فقولهم إن السجود نوع واحد لا يغني مع انقسام هذا النوع إلى أقسام مختلفة المقاصد إذ مقصود بهذا السجود تعظيم الصنم دون تعظيم الله تعالى واختلاف وجوه الفعل كاختلاف نفس الفعل في حصول الغيرية الرافعة للتضاد فإن التضاد إنما يكون بالإضافة إلى واحد ولا وحدة مع المغايرة

____________________

(1/61)


مسألة ( الواحد بالتعيين ) ما ذكرناه في الواحد بالنوع ظاهر أما الواحد بالتعيين كصلاة زيد في دار مغصوبة من عمرو فحركته في الصلاة فعل واحد بعينه هو مكتسبه ومتعلق قدرته فالذين سلموا في النوع الواحد نازعوا ههنا فقالوا لا تصح هذه الصلاة إذ يؤدي القول بصحتها إلى أن تكون العين الواحدة من الأفعال حراما واجبا وهو متناقض فقيل لهم هذا خلاف إجماع السلف فإنهم ما أمروا الظلمة عند التوبة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة مع كثرة وقوعها ولا نهوا الظالمين عن الصلاة في الأراضي المغصوبة فأشكل الجواب على القاضي أبي بكر رحمه الله فقال يسقط الوجوب عندها لا بها بدليل الإجماع ولا يقع واجبا لأن الواجب ما يثاب عليه وكيف يثاب على ما يعاقب عليه وفعله واحد وهو كون في الدار المغصوبة وسجوده وركوعه أكوان اختيارية هو معاقب عليها ومنهي عنها وكل من غلب عليه الكلام قطع بهذا نظرا إلى اتحاد أكوانه في كل حالة من أحواله وإن الحادث منه الأكوان لا غيرها وهو معاقب عليها عاص بها فكيف يكون متقربا بما هو معاقب عليه ومطيعا بما هو به عاص وهذا غير مرضي عندنا بل نقول الفعل وإن كان واحدا في نفسه فإذا كان له وجهان متغايران يجوز أن يكون مطلوبا من أحد الوجهين مكروها من الوجه الآخر وإنما المحال أن يطلب من الوجه الذي يكره بعينه وفعله من حيث أنه صلاة مطلوب ومن حيث أنه غصب مكروه والغصب معقول دون الصلاة والصلاة معقولة دون الغصب وقد اجتمع الوجهان في فعل واحد ومتعلق الأمر والنهي الوجهان المتغايران وكذلك يعقل من السيد أن يقول لعبده صل اليوم ألف ركعة وخط هذا الثواب ولا تدخل هذه الدار فإن ارتكبت النهي ضربتك وإن امتثلت الأمر أعتقتك فخاط الثوب في الدار وصلى ألف ركعة في تلك الدار فيحسن من السيد أن يضربه ويعتقه ويقول أطاع بالخياطة والصلاة وعصى بدخول الدار فكذلك فيما نحن فيه من غير فرق فالفعل وإن كان واحدا فقد تضمن تحصيل أمرين مختلفين يطلب أحدهما ويكره الآخر ولو رمى سهما واحدا إلى مسلم بحيث يمرق إلى كافر أو إلى كافر بحيث يمرق إلى مسلم فإنه يثاب ويعاقب ويملك سلب الكافر ويقتل بالمسلم قصاصا لتضمن فعله الواحد أمرين مختلفين فإن قيل ارتكاب المنهى عنه إذا أخل بشرط العبادة أفسدها بالاتفاق ونية التقرب بالصلاة شرط والتقرب بالمعصية محال فكيف ينوي التقرب فالجواب من أوجه الأول إن الإجماع إذا انعقد على صحة هذه الصلاة فليعلم به بالضرورة أن نية التقرب ليس بشرط أو نية التقرب بهذه الصلاة ممكن وأبو هاشم والجبائي ومن خالف في صحة الصلاة مسبوق بإجماع الأمة على ترك تكليف الظلمة قضاء الصلوات مع كثرتهم وكيف ينكر سقوط نية التقرب وقد اختلفوا في اشتراط نية الفرضية ونية الإضافة إلى الله تعالى فقال قوم لا يجب إلا أن ينوي الظهر أو العصر فهو في محل الاجتهاد وقد ذهب قوم إلى أن الصلاة تجب في آخر الوقت والصبي إذا صلى في أول الوقت ثم بلغ آخره أجزأه ولو بلغ في وسط الوقت مع أنه لا تتحقق الفرضية في حقه فإن قيل من نوى الصلاة فقد تضمنت نيته القربة قلنا إذا صحت الصلاة بالإجماع واستحالت نية التقرب فتلغى تلك النية ويصح أن يقال تعلقت نية التقرب ببعض أجزاء
____________________

(1/62)


الصلاة من الذكر والقراءة وما لا يزاحم حق المغصوب منه فإن الأكوان هي التي تتناول منافع الدار ثم كيف يستقيم من المعتزلة هذا وعندهم لا يعلم المأمور كونه مأمورا ولا كون العبادة واجبة قبل الفراغ من الامتثال كما سيأتي فكيف ينوي التقرب بالواجب وهو لا يعرف وجوبه الجواب الثاني وهو الأصح أنه ينوي التقرب بالصلاة ويعصي بالغصب وقد بينا انفصال أحدهما عن الآخر ولذلك يجد المصلي من نفسه نية التقرب بالصلاة وإن كان في دار مغصوبة لأنه لو سكن ولم يفعل فعلا لكان غاصبا في حالة النوم وعدم استعمال القدرة وإنما يتقرب بأفعاله وليست تلك الأفعال شرطا لكونه غاصبا فإن قيل هو في حالة القعود والقيام غاصب بفعله ولا فعل له إلا قيامه وقعوده وهو متقرب بفعله فيكون متقربا بعين ما هو عاص به قلنا هو من حيث أنه مستوف منافع الدار غاصب ومن حيث أنه أتى بصورة الصلاة متقرب كما ذكرناه في صورة الخياطة إذ قد يعقل كونه غاصبا ولا يعلم كونه مصليا ويعلم كونه مصليا ولا يعلم كونه غاصبا فهما وجهان مختلفان وإن كان ذات الفعل واحدا
الجواب الثالث هو أنا نقول بم تنكرون على القاضي رحمه الله حيث حكم بأن الفرض يسقط عندها لا بها بدليل الإجماع فسلم أنه معصية ولكن الأمر لا يدل على الأجزاء إذا أتى بالمأمور ولا النهي يدل على عدم الأجزاء بل يؤخذ الأجزاء من دليل آخر كما سيأتي
فإن قيل هذه المسألة اجتهادية أم قطعية قلنا هي قطعية والمصيب فيها واحد لأن من صحح أخذ من الإجماع وهو قاطع ومن أبطل أخذ من التضاد الذي بين القربة والمعصية ويدعى كون ذلك محالا بدليل العقل فالمسألة قطعية فإن قيل ادعيتم الإجماع في هذه المسألة وقد ذهب أحمد بن حنبل إلى بطلان هذه الصلاة وبطلان كل عقد منهي عنه حتى البيع في وقت النداء يوم الجمعة فكيف تحتجون عليه بالإجماع قلنا الإجماع حجة عليه إذ علمنا أن الظلمة لم يؤمروا بقضاء الصلوات مع كثرة وقوعها مع أنهم لو أمروا به لانتشر وإذا أنكر هذا فيلزمه ما هو أظهر منه وهو أن لا تحل امرأة لزوجها وفي ذمته دانق ظلم به ولا يصح بيعه ولا صلاته ولا تصرفاته وأنه لا يحصل التحليل بوطء من هذه حاله لأنه عصى بترك رد المظلمة ولم يتركها إلا بتزويجه وبيعه وصلاته وتصرفاته فيؤدي إلى تحريم أكثر النساء وفوات أكثر الأملاك وهو خرق للإجماع قطعا وذلك لا سبيل إليه
مسألة ( المكروه غير الواجب ) كما يتضاد الحرام والواجب فيتضاد المكروه والواجب فلا يدخل مكروه تحت الأمر حتى يكون شيء واحد مأمورا به مكروها إلا أن تنصرف الكراهية عن ذات المأمور إلى غيره ككراهية الصلاة في الحمام وأعطان الإبل وبطن الوادي وأمثاله فإن المكروه في بطن الوادي التعرض لخطر السيل وفي الحمام التعرض للرشاش أو لتخبط الشياطين وفي أعطان الإبل التعرض لنفارها وكل ذلك مما يشغل القلب في الصلاة وربما شوش الخشوع بحيث لا ينقدح صرف الكراهة عن المأمور إلى ما هو في جواره وصحبته لكونه خارجا عن ماهيته وشروطه وأركانه فلا يجتمع الأمر والكراهية فقوله تعالى { وليطوفوا بالبيت العتيق } الحج 29 لا يتناول طواف المحدث الذي نهي عنه لأن المنهي عنه لا يكون مأمورا به والمنهي عنه في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة انفصل
____________________

(1/63)


عن المأمور إذ المأمور به الصلاة والمنهي عنه الغصب وهو في جواره
مسألة ( أصناف الترك ذات المتروك ) المتفقون على صحة الصلاة في الدار المغصوبة ينقسم النهي عندهم إلى ما يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه وإلى ما يرجع إلى غيره فلا يضاد وجوبه وإلى ما يرجع إلى وصف المنهي عنه لا إلى أصله وقد اختلفوا في هذا القسم الثالث ومثال القسمين الأولين ظاهر ومثال القسم الثالث أن يوجب الطواف وينهى عن إيقاعه مع الحدث أو يأمر بالصوم وينهى عن إيقاعه في يوم النحر فيقال الصوم من حيث أنه صوم مشروع مطلوب ومن حيث أنه واقع في هذا اليوم غير مشروع والطواف مشروع بقوله تعالى 22 { وليطوفوا بالبيت العتيق } الحج 29 ولكن وقوعه في حالة الحدث مكروه والبيع من حيث أنه بيع مشروع ولكن من حيث وقوعه مقترنا بشرط فاسد أو زيادة في العوض في الربويات مكروه والطلاق من حيث أنه طلاق مشروع ولكن من حيث وقوعه في الحيض مكروه وحراثة الولد من حيث أنها حراثة مشروعة ولكنها من حيث وقوعها في غير المنكوحة مكروهة والسفر من حيث أنه سفر مشروع ولكن من حيث قصد الأباق به عن السيد غير مشروع فجعلأبو حنيفة هذا قسما ثالثا وزعم أن ذلك يوجب فساد الوصف لا انتفاء الأصل لأنه راجع إلى الوصف لا إلى الأصل والشافعي رحمه الله ألحق هذا بكراهة الأصل ولم يجعله قسما ثالثا وحيث نفذ الطلاق في الحيض صرف النهي عن أصله ووصفه إلى تطويل العدة أو لو حق الندم عند الشك في الولد وأبو حنيفة حيث أبطل صلاة المحدث دون طواف المحدث زعم أن الدليل قد دل على كون الطهارة شرطا في الصلاة فإنه قال عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بطهور فهو نفي للصلاة لا نهي وفي المسألة نظران أحدهما في موجب مطلق النهي من حيث اللفظ وذلك نظر في مقتضى الصيغة وهو بحث لغوي نذكره في كتاب الأوامر والنواهي
والنظر الثاني نظر في تضاد هذه الأوصاف وما يعقل اجتماعه وما لا يعقل إذا وقع التصريح به من القائل وهو أنه هل يعقل أن يقول السيد لعبده أنا آمرك بالخياطة وأنهاك عنها ولا شك في أن ذلك لا يعقل منه فإنه فيه يكون الشيء الواحد مطلوبا مكروها ويعقل منه أن يقول أنا أطلب منك الخياطة وأكره دخول هذه الدار والكون فيها ولا يتعرض في النهي للخياطة وذلك معقول وإذا خاط في تلك الدار أتى بمطلوبه ومكروهه جميعا وهل يعقل أن يقول أطلب منك الخياطة وأنهاك عن إيقاعها في وقت الزوال فإذا خاط في وقت الزوال فهل جمع بين المكروه والمطلوب أو ما أتى بالمطلوب هذا في محل النظر والصحيح أنه ما أتى بالمطلوب وأن المكروه هي الخياطة الواقعة وقت الزوال لا الوقوع في وقت الزوال مع بقاء الخياطة مطلوبة إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن الواقع فإن قيل فلم صحت الصلاة في أوقات الكراهة ولم صحت الصلاة الواقعة في الأماكن السبعة من بطن الوادي وأعطان الإبل وما الفرق بينهما وبين النهي عن صوم يوم النحر قلنا من صحح هذه الصلوات لزمه صرف النهي عن أصل الصلاة ووصفها إلى غيره وقد اختلفوا في انعقاد الصلاة في الأوقات المكروهة لترددهم في أن النهي نهي عن إيقاع الصلاة من حيث أنه إيقاع صلاة أو من أمر آخر مقترن
____________________

(1/64)


به وأما صوم يوم النحر فقطع الشافعي رحمه الله ببطلانه لأنه لم يظهر انصراف النهي عن عينه ووصفه ولم يرتض قولهم أنه نهى عنه لما فيه من ترك إجابة الدعوة بالأكل فإن الأكل ضد الصوم فكيف يقال له كل أي أجب الدعوة ولا تأكل أي صم والآن تفصيل هذه المسائل ليس على الأصولي بل هو موكول إلى نظر المجتهدين في الفروع وليس على الأصولي إلا حصر هذه الأقسام الثلاثة وبيان حكمها في التضاد وعدم التضاد وأما النظر في آحاد المسائل أنها من أي قسم هي فإلى المجتهد وقد يعلم ذلك بدليل قاطع وقد يعلم ذلك بظن وليس على الأصولي شيء من ذلك وتمام النظر في هذا ببيان أن النهي المطلق يقتضي من هذه الأقسام أيها وأنه يقتضي كون المنهي عنه مكروها لذاته أو لغيره أو لصفته وسيأتي
مسألة ( هل الأمر بشيء ترك لغيره ) اختلفوا في أن الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده وللمسألة طرفان أحدهما يتعلق بالصيغة ولا يستقيم ذلك عند من لا يرى للأمر صيغة ومن رأى ذلك فلا شك في أن قوله قم غير قوله لا تقعد فإنهما صورتان مختلفتان فيجب عليهم الرد إلى المعنى وهو أن قوله قم له مفهومان أحدهما طلب القيام والآخر ترك القعود فهو دال على المعنيين فالمعنيان المفهومان منه متحدان أو أحدهما غير الآخر فيجب الرد إلى المعنى
والطرف الثاني البحث عن المعنى القائم بالنفس وهو أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك القعود أم لا وهذا لا يمكن فرضه في حق الله تعالى فإن كلامه واحد هو أمر ونهي ووعد ووعيد فلا تتطرق الغيرية إليه فليفرض في المخلوق وهو أن طلبه للحركة هل هو بعينه كراهة للسكون وطلب لتركه وقد أطلق المعتزلة أنه ليس الأمر بالشيء نهيا عن ضده واستدل القاضي أبو بكر رحمه الله عليهم بأن قال لا خلاف أن الآمر بالشيء ناه عن ضده فإذا لم يقم دليل على اقتران شيء آخر بأمره دل على أنه ناه بما هو آمر به قال وبهذا علمنا أن الكسون عين ترك الحركة وطلب السكون عين طلب ترك الحركة وشغل الجوهر بحيز انتقل إليه عين تفريغه للحيز المنتقل عنه والقرب من المغرب عين البعد من المشرق فهل فعل واحد بالإضافة إلى المشرق بعد وبالإضافة إلى المغرب قرب وكون واحد بالإضافة إلى خير شغل وبلإضافة إلى آخر تفريغ زكذلك ههنا طلب واحد بالإضافة إلى السكون أمر وإلى الحركة نهي قال والدليل على أنه ليس معه غيره أن ذلك الغير لا يخلو من أن يكون ضدا له أو مثلا أو خلافا ومحال كونه ضدا لأنهما لا يجتمعان وقد اجتمعا ومحال كونه مثلا لتضاد المثلين ومحال كونه خلافا إذ لو كان خلافا لجاز وجود أحدهما دون الآخر أما هذا دون ذاك أو ذاك دون هذا كإرادة الشيء مع العلم به لما اختلفا تصور وجود العلم دون الإرادة وإن لم يتصور وجود الإرادة دون العلم بل كان يتصور وجوده مع ضد الآخر وضد النهي عن الحركة الأمر بها فلنجز أن يكون آمرا بالسكون والحركة معا فيقول تحرك واسكن وقم واقعد وهذا الذي ذكره دليل على المعتزلة حيث منعوا تكليف المحال وإلا فمن يجوز ذلك يجوز أن يقول إجمع بين القيام والقعود ولا نسلم أيضا أن ضرورة كل آمر بالشيء أن يكون ناهيا عن ضده بل يجوز أن يكون آمرا بضده فضلا عن أن يكون لا آمرا
____________________

(1/65)


ولا ناهيا وعلى الجملة فالذي صح عندنا بالبحث النظري الكلامي تفريعا على إثبات كلام النفس أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده لا بمعنى أنه عينه ولا بمعنى أنه يتضمنه ولا بمعنى أنه يلازمه بل يتصور أن يأمر بالشيء من هو ذاهل عن أضداده فكيف يقوم بذاته قول متعلق بما هو ذاهل عنه وكذلك ينهى عن الشيء ولا يخطر بباله أضداده حتى يكون آمرا بأحد أضداده ولا بعينه فإن أمر ولم يكن ذاهلا عن أضداد المأمور به فلا يقوم بذاته زجر عن أضداده مقصود إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل المأمور به إلا بترك أضداده فيكون ترك أضداد المأمور ذريعة بحكم ضرورة الوجود لا بحكم ارتباط الطلب به حتى لو تصور على الاستحالة الجمع بين القيام والقعود إذا قيل له قم فجمع كان ممتثلا لأنه لم يؤمر إلا بإيجاد القيام وقد أوجده ومن ذهب إلى هذا المذهب لزمه فضائح الكعبي من المعتزلة حيث أنكر المباح وقال ما من مباح إلا وهو ترك لحرام فهو واجب ويلزمه وصف الصلاة بأنها حرام إذا ترك بها الزكاة الواجبة على الفور وإن فرق مفرق فقال النهي ليس أمرا بالضد والأمر نهي عن الضد لم يجد إليه سبيلا إلا التحكم المحض فإن قيل فقد قلتم إن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ولا يتوصل إلى فعل الشيء إلا بترك ضده فليكن واجبا قلنا ونحن نقول ذلك واجب وإنما الخلاف في إيجابه هل هو عين إيجاب المأمور به أو غيره فإذا قيل إغسل الوجه فليس عين هذا إيجابا بالغسل جزء من الرأس ولا قوله صم النهار إيجابا بعينه لإمساك جزء من الليل ولذلك لا يجب أن ينوي إلا صوم النهار ولكن ذلك يجب بدلالة العقل على وجوبه من حيث هو ذريعة إلى المأمور لا أنه عين ذلك الإيجاب فلا منافاة بين الكلامين
الفن الثالث من القطب الأول في أركان الحكم وهي أربعة الحاكم والمحكوم عليه والمحكوم فيه ونفس الحكم
أما نفس الحكم فقد ذكرناه وأنه يرجع إلى الخطاب وهو الركن الأول
الركن الثاني الحاكم وهو المخاطب فإن الحكم خطاب وكلام فاعله كل متكلم فلا يشترط في وجود صورة الحكم إلا هذا القدر أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ولا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب إذ ليس أحدهما أولى من الآخر فإذا الواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته فإن قيل لا بل من قدر على التوعد بالعقاب وتحقيقه حسا فهو أهل للإيجاب إذ الوجوب إنما يتحقق بالعقاب قلنا قد ذكرنا من مذهب القاضي رحمه الله أن الله تعالى لو أوجب شيئا لوجب وإن لم يتوعد عليه بالعقاب لكن عند البحث عن حقيقة الوجوب لا يتحصل على طائل إذا لم يتعلق به ضرر محذور وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه إلا أن العادة جارية بتخصيص هذا الإسم
____________________

(1/66)


بالضرر الذي يحذر في الآخرة ولا قدرة عليه إلا لله تعالى فإن أطلق على كل ضرر محذور وإن كان في الدنيا فقد يقدر عليه الآدمي فعند ذلك يجوز أن يكون موجبا لا بمعنى أنا نتحقق قدرته عليه فإنه ربما يعجز عنه قبل تحقيق الوعيد لكن نتوقع قدرته ويحصل به نوع خوف
الركن الثالث المحكوم عليه وهو المكلف وشرطه أن يكون عاقلا يفهم الخطاب فلا يصح خطاب الجماد والبهيمة بل خطاب المجنون والصبي الذي لا يميز لأن التكليف مقتضاه الطاعة والامتثال ولا يمكن ذلك إلا بقصد الامتثال وشرط القصد العلم بالمقصود والفهم للتكليف فكل خطاب متضمن للأمر بالفهم فمن لا يفهم كيف يقال له إفهم ومن لا يسمع الصوت كالجماد كيف يكلم وإن سمع الصوت كالبهيمة ولكنه لا يفهم فهو كمن لا يسمع ومن يسمع وقد يفهم فهما ما لكنه لا يعقل ولا يثبت كالمجنون وغير المميز فمخاطبته ممكنة لكن اقتضاء الامتثال منه مع أنه لا يصح منه قصد صحيح غير ممكن فإن قيل فقد وجبت الزكاة والغرامات والنفقات على الصبيان قلنا ليس ذلك من التكليف في شيء إذ يستحيل التكليف بفعل الغير وتجب الدية على العاقلة لا بمعنى أنهم مكلفون بفعل الغير ولكن بمعنى أن فعل الغير سبب لثبوت الغرم في ذمتهم فكذلك الإتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه الحقوق في ذمة الصبيان بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في الحال وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ وذلك غير محال إنما المحال أن يقال لمن لا يفهم إفهم وأن يخاطب من لا يسمع ولا يعقل
وأما أهلية ثبوت الأحكام في الذمة فمستفاد من الإنسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف في ثاني الحال حتى أن البهيمة لما لم تكن لها أهلية فهم الخطاب بالفعل ولا بالقوة لم تتهيأ لإضافة الحكم إلى ذمتها والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكنا أن يحصل على القرب فيقال أنه موجود بالقوة كما أن شرط المالكية الإنسانية وشرط الإنسانية الحياة والنطفة في الرحم قد يثبت لها الملك بالإرث والوصية والحياة غير موجودة بالفعل ولكنها بالقوة إذ مصيرها إلى الحياة فكذلك الصبي مصيره إلى العقل فصلح لإضافة الحكم إلى ذمته ولم يصلح للتكليف في الحال
فإن قيل فالصبي المميز مأمور بالصلاة قلنا مأمور من جهة الولي والولي مأمور من جهة الله تعالى إذ قال عليه السلام مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وذلك لأنه يفهم خطاب الولي ويخاف ضربه فصار أهلا له ولا يفهم خطاب الشارع إذ لا يعرف الشارع ولا يخاف عقابه إذ لا يفهم الآخرة فإن قيل فإذا قارب البلوغ عقل ولم يكلفه الشرع أفيدل ذلك على نقصان عقله قلنا قال القاضي أبو بكر رحمه الله ذلك يدل عليه وليس يتجه ذلك لأن انفصال النطفة منه لا يزيده عقلا لكن حط الخطاب عنه تخفيفا لأن العقل خفي وإنما يظهر فيه على التدريج فلا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي يفهم به خطاب الشرع ويعرف المرسل والرسول والآخرة فنصب الشرع له علامة ظاهرة
مسألة ( هل يكلف الغافل والناس ) تكليف الناسي والغافل عما يكلف محال إذ من لا يفهم كيف يقال له إفهم
____________________

(1/67)


أما ثبوت الأحكام بأفعاله في النوم والغفلة فلا ينكر كلزوم الغرامات وغيرها وكذلك تكليف السكران الذي لا يعقل محال كتكليف الساهي والمجنون والذي يسمع ولا يفهم بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكن تنبيهه ومن المجنون الذي يفهم كثيرا من الكلام وأما نفوذ طلاقه ولزوم الغرم فذلك من قبيل ربط الأحكام بالأسباب وذلك مما لا ينكر فإن قيل فقد قال الله تعالى { في } النساء 43 وهذا خطاب للسكران قلنا إذا ثبت بالبرهان استحالة خطابه وجب تأويل الآية ولها تأويلان أحدهما أنه خطاب مع المنتشي الذي ظهر فيه مبادىء النشاط والطرب ولم يزل عقله فإنه قد يستحسن من اللعب والانبساط ما لا يستحسنه قبل ذلك ولكنه عاقل
وقوله تعالى { حتى تعلموا ما تقولون } النساء 43 معناه حتى تتبينوا ويتكامل فيكم ثباتكم كما يقال للغضبان إصبر حتى تعلم ما تقول أي حتى يسكن غضبك فيكمل علمك وإن كان أصل عقله باقيا وهذا لأنه لا يشتغل بالصلاة مثل هذا السكران وقد يعسر عليه تصحيح مخارج الحروف وتمام الخشوع
الثاني أنه ورد الخطاب به في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر وليس المراد المنع من الصلاة بل المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة كما يقال لا تقرب التهجد وأنت شبعان ومعناه لا تشبع فيثقل عليك التهجد
مسألة ( أمر الله تعالى في الأزل ) فإن قال قائل ليس من شرط الأمر عندكم كون المأمور موجودا إذ قضيتم بأن الله تعالى آمر في الأزل لعباده قبل خلقهم فكيف شرطتم كون المكلف سميعا عاقلا والسكران والناسي والصبي والمجنون أقرب إلى التكليف من المعدوم قلنا ينبغي أن يفهم معنى قولنا إن الله تعالى آمر وإن المعدوم مأمور فإنا نعني به أنه مأمور على تقدير الوجود لا أنه مأمور في حالة العدم إذ ذلك محال لكن أثبت الذاهبون إلى إثبات كلام النفس أنه لا يبعد أن يقوم بذات الأب طلب تعلم العلم من الولد الذي سيوجد وإنه لو قدر بقاء ذلك الطلب حتى وجد الولد صار الولد مطالبا بذلك الطلب ومأمورا به فكذلك المعنى القائم بذات الله تعالى الذي هو اقتضاء الطاعة من العباد قديم تعلق بعباده على تقدير وجودهم فإذا وجدوا صاروا مأمورين بذلك الاقتضاء ومثل هذا جار في حق الصبي والمجنون فإن انتظار العقل لا يزيد على انتظار الوجود ولا يسمى هذا المعنى في الأزل خطابا إنما يصير خطابا إذا وجد المأمور وأسمع وهل يسمى أمرا فيه خلاف والصحيح أنه يسمى به إذ يحسن أن يقال فيمن أوصى أولاده بالتصدق بماله أن يقال فلان أمر أولاده بكذا وإن كان بعض أولاده مجتنا في البطن أو معدوما ولا يحسن أن يقال خاطب أولاده إلا إذا حضروا وسمعوا ثم إذا أوصى فنفذوا وصيته يقال قد أطاعوه وامتثلوا أمره مع أن الآمر الآن معدوم والمأمور كان وقت وجود الآمر معدوما وكذلك نحن الآن بطاعتنا ممتثلون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معدوم عن عالمنا هذا وإن كان حيا عند الله تعالى فإذا لم يكن وجود الآمر شرطا لكون المأمور مطيعا ممتثلا فلم يشترط وجود المأمور لكون الأمر أمرا
فإن قيل أفتقولون إن الله تعالى في الأزل آمر للمعدوم على وجه الإلزام قلنا نعم نحن نقول هو آمر لكن على تقدير الوجود كما يقال الوالد موجب وملزم على أولاده التصدق إذا عقلوا وبلغوا
____________________

(1/68)


فيكون الإلزام والإيجاب حاصلا ولكن بشرط الوجود والقدرة
ولو قال لعبده صم غدا فقد أوجب وألزم في الحال صوم الغد ولا يمكن صوم الغد في الوقت بل في الغد وهو موصوف بأنه ملزم وموجب في الحال
الركن الرابع المحكوم فيه وهو الفعل إذ لا يدخل تحت التكليف إلا الأفعال الاختيارية وللداخل تحت التكليف شروط الأول صحة حدوثه لاستحالة تعلق الأمر بالقديم والباقي وقلب الأجناس والجمع بين الضدين وسائر المحالات التي لا يجوز التكليف بها عند من يحيل تكليف ما لا يطاق فلا أمر إلا بمعدوم يمكن حدوثه وهل يكون الحادث في أول حال حدوثه مأمورا به كما كان قبل الحدوث أو يخرج عن كونه مأمورا كما في الحالة الثانية من الوجود اختلفوا فيه وفيه بحث كلامي لا يليق بمقاصد أصول الفقه ذكره
الثاني جواز كونه مكتسبا للعبد حاصلا باختياره إذ لا يجوز تكليف زيد كتابة عمرو وخياطته وإن كان حدوثه ممكنا فليكن مع كونه ممكنا مقدورا للمخاطب
الثالث كونه معلوما للمأمور معلوم التمييز عن غيره حتى يتصور قصده إليه وأن يكون معلوما كونه مأمورا به من جهة الله تعالى حتى يتصور منه قصد الامتثال وهذا يختص بما يجب فيه قصد الطاعة والتقرب فإن قيل فالكافر مأمور بالإيمان بالرسول عليه السلام وهو لا يعلم أنه مأمور به قلنا الشرط لا بد أن يكون معلوما أو في حكم المعلوم بمعنى أن يكون العلم ممكنا بأن تكون الأدلة منصوبة والعقل والتمكن من النظر حاصلا حتى أن ما لا دليل عليه أومن لا عقل له مثل الصبي والمجنون لا يصح في حقه
الرابع أن يكون بحيث يصح إرادة إيقاعه طاعة وهو أكثر العبادات ويستثنى من هذا شيئان أحدهما الواجب الأول وهو النظر المعرف للوجوب فإنه لا يمكن قصد إيقاعه طاعة وهو لا يعرف وجوبه إلا بعد الإتيان به والثاني أصل إرادة الطاعة والإخلاص فإنه لو افتقرت إلى إرادة لافتقرت الإرادة إلى إرادة ولتسلسل ويتشعب عن شروط الفعل خمس مسائل
مسألة ( هل المكلف به ممكن الحدوث ) ذهب قوم إلى أن كون المكلف به ممكن الحدوث ليس بشرط بل يجوز تكليف ما لا يطاق والأمر بالجمع بين الضدين وقلب الأجناس وإعدام القديم وإيجاد الموجود وهو المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله وهو لازم على مذهبه من وجهين أحدهما أن القاعدة عنده غير قادر على القيام إلى الصلاة لأن الاستطاعة عنده مع الفعل لا قبله وإنما يكون مأمورا قبله
والآخر أن القدرة الحادثة لا تأثير لها في إيجاد المقدور بل أفعالنا حادثة بقدرة الله تعالى واختراعه فكل عبد هو عنده مأمور بفعل الغير
واتدل على هذا بثلاثة أشياء أحدها قوله تعالى { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } البقرة 286 والمحال لا يسأل دفعه فإنه مندفع بذاته وهو ضعيف لأن المراد به ما يشق ويثقل علينا إذ من أتعب بالتكليف بأعمال تكاد تفضي إلى هلاكه لشدتها كقوله اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم فقد يقال حمل ما لا طاقة له به فالظاهر المؤول ضعيف الدلالة في القطعيات
الثاني قولهم أن الله تعالى أخبر أن أبا جهل لا يصدق وقد كلفه الإيمان ومعناه أن يصدق محمدا فيما جاء به ومما جاء به أنه لا يصدقه فكأنه أمره أن يصدقه في أن لا يصدقه وهو
____________________

(1/69)


محال وهذا ضعيف أيضا لأن أبا جهل أمر بالإيمان بالتوحيد والرسالة والأدلة منصوبة والعقل حاضر إذ لم يكن هو مجنونا فكان الإمكان حاصلا لكن الله تعالى علم أنه يترك ما يقدر عليه حسدا وعنادا فالعلم يتبع المعلوم ولا يغيره فإذا علم كون الشيء مقدورا لشخص وممكنا منه ومتروكا من جهته مع القدرة عليه فلو انقلب محالا لانقلب العلم جهلا ويخرج عن كونه ممكنا مقدورا وكذلك نقول القيامة مقدور عليها من جهة الله تعالى في وقتنا هذا وإن أخبر أنه لا يقيمها ويتركها مع القدرة عليها وخلاف خبره محال إذ يصير وعيده كذبا ولكن هذه استحالة لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تؤثر فيه
الثالث قولهم لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته أو لمعناه أو لمفسدة تتعلق به أو لأنه يناقض الحكمة ولا يستحيل لصيغته إذ لا يستحيل أن يقول { كونوا قردة خاسئين } البقرة 65 وأن يقول السيد لعبده الأعمى أبصر وللزمن إمش وأما قيام معناه بنفسه فلا يستحيل أيضا إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه في حالة واحدة في مكانين ليحفظ ماله في بلدين ومحال أن يقال أنه ممتنع للمفسدة أو مناقضة الحكمة فإن بناء الأمور على ذلك في حق الله تعالى محال إذ لا يقبح منه شيء ولا يجب عليه الأصلح ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد والفساد والسفه من المخلوق ممكن فلم يمتنع ذلك مطلقا والمختار استحالة التكليف بالمحال لا لقبحه ولا لمفسدة تنشأ عنه ولا لصيغته إذ يجوز أن ترد صيغته ولكن للتعجيز لا للطلب كقوله تعالى { قل كونوا حجارة أو حديدا } الإسراء 50 وكقوله { كونوا قردة خاسئين } البقرة 65 أو لإظهار القدرة كقوله تعالى { كن فيكون } يس 82 لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه ولكن يمتنع لمعناه إذ معنى التكليف طلب ما فيه كلفة والطلب يستدعي مطلوبا وذلك المطلوب ينبغي أن يكون مفهوما للمكلف بالاتفاق فيجوز أن يقول تحرك إذ التحرك مفهوم فلو قال له تحرك فليس بتكليف إذ معناه ليس بمعقول ولا مفهوم ولا له معنى في نفسه فإنه لفظ مهمل فلو كان له معنى في بعض اللغات يعرفه الآمر دون المأمور فلا يكون ذلك تكليفا أيضا لأن التكليف هو الخطاب بما فيه كلفة وما لا يفهمه المخاطب لا يكون خطابا معه وإنما يشترط كونه مفهوما ليتصور منه الطاعة لأن التكليف اقتضاء طاعة فإذا لم يكن في العقل طاعة لم يكن اقتضاء الطاعة متصورا معقولا إذ يستحيل أن يقوم بذات العاقل طلب الخياطة من الشجر لأن الطلب يستدعي مطلوبا معقولا أولا وهذا غير معقول أي لا وجود له في العقل فإن الشيء قبل أن يوجد في نفسه فله وجود في العقل وإنما يتوجه إليه الطلب بعد حصوله في العقل وإحداث القديم غير داخل في العقل فكيف يقوم بذاته طلب إحداث القديم وكذلك سواد الأبيض لا وجود له في العقل وكذلك قيام القاعدة فكيف يقول له قم وأنت قاعد فهذا الطلب يمتنع قيامه بالقلب لعدم المطلوب فإنه كما يشترط في المطلوب أن يكون معدوما في الأعيان يشترط أن يكون موجودا في الأذهان أي في العقل حتى يكون إيجاده في الأعيان على وفقه في الأذهان فيكون طاعة وامتثالا أي احتذاء لمثال ما في نفس الطالب فما
____________________

(1/70)


لا مثال له في النفس لا مثال له في الوجود فإن قيل فإذا لم يعلم عجز المأمور عن القيام تصور أن يقوم بذاته طلب القيام قلنا ذلك طلب مبني على الجهل وربما يظن الجاهل أن ذلك تكليف فإذا انكشف تبين أنه لم يكن طلبا وهذا لا يتصور من الله تعالى
فإن قيل فإذا لم تؤثر القدرة الحادثة في الإيجاد وكانت مع الفعل كان كل تكليف تكليفا بما لا يطاق قلنا نحن ندرك بالضرورة تفرقه بين أن يقال للقاعد الذي ليس بزمن أدخل البيت وبين أن يقال له إطلع السماء أو يقال له قم مع استدامة القعود أو إقلب السواد حركة والشجرة فرسا إلا أن النظر في أن هذه التفرقة إلى ماذا ترجع ويعلم أنها ترجع إلى تمكن وقدرة بالإضافة إلى أحد هذه الأوامر دون البقية ثم النظر في تفصيل تأثير القدرة وقت حدوث القدرة كيف ما استقر أمره لا يشككنا في هذا ولذلك جاز أن نقول { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } البقرة 286 فإن استوت الأمور كلها فأي معنى لهذا الدعاء وأي معنى لهذه التفرقة الضرورية فغرضنا من هذه المسألة غير موقوف على البحث عن وجه تأثير القدرة ووقتها وعلى الجملة سبب غموض هذا أن التكليف نوع خاص من كلام النفس وفي فهم أصل كلام النفس غموض فالتفريع عليه وتفصيل أقسامه لا محالة يكون أغمض
مسألة ( الجمع بين الأضداد ) كما لا يجوز أن يقال إجمع بين الحركة والسكون لا يجوز أن يقال لا تتحرك ولا تسكن لأن الانتهاء عنهما محال كالجمع بينهما فإن قيل فمن توسط مزرعة مغصوبة فيحرم عليه المكث ويحرم عليه الخروج إذ في كل واحد إفساد زرع الغير فهو عاص بهما قلنا حظ الأصولي من هذا أن يعلم أنه لا يقال له لا تمكث ولا تخرج ولا ينهى عن الضدين فإنه محال كما لا يؤمر بجمعهما فإن قيل فما يقال له قلنا يؤمر بالخروج كما يؤمر المولج في الفرج الحرام بالنزع وإن كان به مماسا للفرج الحرام ولكن يقال له إنزع على قصد التوبة لا على قصد الإلتذاذ فكذلك في الخروج من الغصب تقليل الضرر في المكث تكثيره وأهون الضررين يصير واجبا وطاعة بالإضافة إلى أعظمهما كما يصير شرب الخمر واجبا في حق من غص بلقمة وتناول طعام الغير واجبا على المضطر في المخمصة وإفساد مال الغير ليس حراما لعينه ولذلك لو أكره عليه بالقتل وجب أو جاز فإن قيل فلم يجب الضمان بما يفسده في الخروج قلنا الضمان لا يستدعي العدوان إذ يجب على المضطر في المخمصة مع وجوب الإتلاف ويجب على الصبي وعلى من رمى إلى صف الكفار وهو مطيع به فإن قيل فالمضي في الحج الفاسد إن كان حراما للزوم القضاء فلم يجب وإن كان واجبا وطاعة فلم وجب القضاء ولم عصى به قلنا عصى بالوطء المفسد وهو مطيع بإتمام الفاسد والقضاء يجب بأمر مجدد وقد يجب بما هو طاعة إذا تطرق إليه خلل وقد يسقط القضاء بالصلاة في الدار المغصوبة مع أنه عدوان فالقضاء كالضمان فإن قيل فبم تنكرون على أبي هاشم حيث ذهب إلى أنه لو مكث عصى ولو خرج عصى وأنه ألقى بنفسه في هذه الورطة فحكم العصيان ينسحب على فعله قلنا وليس لأحد أن يلقي بنفسه في حال تكلف ما لا يمكن فمن ألقى نفسه من سطح فانكسرت رجله لا يعصى بالصلاة قاعدا وإنما يعصى بكسر الرجل لا بترك الصلاة قائما وقول القائل ينسحب عليه حكم العدوان إن أراد به أنه إنما نهي عنه مع النهي عن ضده فهو محال والعصيان عبارة عن ارتكاب منهي قد نهي عنه فإن لم يكن نهي لم يكن عصيان فكيف يفرض النهي عن شيء وعن ضده أيضا ومن جوز تكليف ما لا يطاق عقلا فإنه يمنعه شرعا لقوله تعالى { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }
____________________

(1/71)


البقرة 286 إن قيل فإن رجحتم جانب الخروج لتقليل الضرر فما قولكم فيمن سقط على صدر صبي محفوف بصبيان وقد علم أنه لو مكث قتل من تحته أو انتقل قتل من حواليه ولا ترجيح فكيف السبيل قلنا يحتمل أن يقال إمكث فإن الانتقال فعل مستأنف لا يصح إلا من حي قادر وأما ترك الحركة فلا يحتاج إلى استعمال قدرة ويحتمل أن يقال يتخير إذ لا ترجيح ويحتمل أن يقال لا حكم لله تعالى فيه فيفعل ما يشاء لأن الحكم لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص ولا نص في هذه المسألة ولا نظير لها في المنصوصات حتى يقاس عليه فبقي على ما كان قبل ورود الشرع ولا يبعد خلو واقعة عن الحكم فكل هذا محتمل وأما تكليف المحال فمحال
مسألة ( المقتضى بالتكليف ) اختلفوا في المقتضى بالتكليف والذي عليه أكثر المتكلمين أن المقتضى به الإقدام أو الكف وكل واحد كسب العبد فالأمر بالصوم أمر بالكف والكف فعل يثاب عليه والمقتضى بالنهي عن الزنا والشرب التلبس بضد من أضداده وهو الترك فيكون مثابا على الترك الذي هو فعله
وقال بعض المعتزلة قد يقتضي الكف فيكون فعلا وقد يقتضي أن لا يفعل ولا يقصد التلبس بضده فأنكر الأولون هذا وقالوا المنتهي بالنهي مثاب ولا يثاب إلا على شيء وأن لا يفعل عدم وليس بشيء ولا تتعلق به قدرة إذ القدرة تتعلق بشيء فلا يصح الإعدام بالقدرة وإذا لم يصدر منه شيء فكيف يثاب على لا شيء والصحيح أن الأمر فيه منقسم أما الصوم فالكف فيه مقصود ولذلك تشترط فيه النية وأما الزنا والشرب فقد نهي عن فعلهما فيعاقب فاعلهما ومن لم يصدر منه ذلك فلا يعاقب ولا يثاب إلا إذا قصد كف الشهوة عنهما مع التمكن فهو مثاب على فعله وأما من لم يصدر منه المنهي عن فعله فلا يعاقب عليه ولا يثاب لأنه لم يصدر منه شيء ولا يبعد أن يكون مقصود الشرع أن لا تصدر منه الفواحش ولا يقصد منه التلبس بأضدادها
مسألة ( هل المكره مكلف ) فعل المكره يجوز أن يدخل تحت التكليف بخلاف فعل المجنون والبهيمة لأن الخلل تم في المكلف لا في المكلف به فإن شرط تكليف المكلف السماع والفهم وذلك في المجنون والبهيمة معدوم والمكره يفهم وفعله في حيز الإمكان إذ يقدر على تحقيقه وتركه فإن أكره على أن يقتل جاز أن يكلف ترك القتل لأنه قادر عليه وإن كان فيه خوف الهلاك وإن كلف على وفق الإكراه فهو أيضا ممكن بأن يكره بالسيف على قتل حية همت بقتل مسلم إذ يجب قتلها أو أكره الكافر على الإسلام فإذا أسلم نقول قد أدى ما كلف وقالت المعتزلة إن ذلك محال لأنه لا يصح منه إلا فعل ما أكره عليه فلا يبقى له خيرة وهذا محال لأنه قادر على تركه ولذلك يجب عليه ترك ما أكره عليه إذا أكره على قتل مسلم وكذلك لو أكره على قتل حية فيجب قتل الحية وإذا أكره على إراقة الخمر فيجب عليه إراقة الخمر وهذا ظاهر ولكن فيه غور وذلك لأن الامتثال إنما يكون طاعة إذا كان الانبعاث له
____________________

(1/72)


بباعث الأمر والتكليف دون باعث الإكراه فإن أقدم للخلاص من سيف المكره لا يكون مجيبا داعي الشرع وإن انبعث بداعي الشرع بحيث كان يفعله لولا الإكراه بل كان يفعله لو أكره على تركه فلا يمتنع وقوعه طاعة لكن لا يكون مكرها وإن وجد صورة التخويف فليتنبه لهذه الدقيقة
مسألة ( الأمر بالشرط والمشروط ) ليس من شرط الفعل المأمور به أن يكون شرطه حاصلا حالة الأمر بل يتوجه الأمر بالشرط والمشروط ويكون مأمورا بتقديم الشرط فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الإسلام كما يخاطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الوضوء والملحد بتصديق الرسول بشرط تقديم الإيمان بالمرسل وذهب أصحاب الرأي إلى إنكار ذلك والخلاف إما في الجواز وإما في الوقوع
أما الجواز العقلي فواضح
إذ لا يمتنع أن يقول الشارع بني الإسلام على خمس وأنتم مأمورون بجميعها وبتقديم الإسلام من جملتها فيكون الإيمان مأمورا به لنفسه ولكونه شرطا لسائر العبادات كما في المحدث والملحد فإن منع مانع الجميع وقال كيف يؤمر بما لا يمكن امتثاله والمحدث لا يقدر على الصلاة فهو مأمور بالوضوء فإذا توضأ توجه عليه حينئذ الأمر بالصلاة قلنا فينبغي أن يقال لو ترك الوضوء والصلاة جميع عمره لا يعاقب على ترك الصلاة لأنه لم يؤمر قط بالصلاة وهذا خلاف الإجماع وينبغي أن لا يصح أمره بعد الوضوء بالصلاة بل بالتكبير فإنه يشترط تقديمه ولا بالتكبير بل بهمزة التكبير أولا ثم بالكاف ثانيا وعلى هذا الترتيب وكذلك السعي إلى الجمعة ينبغي أن لا يتوجه الأمر به إلا بالخطوة الأولى ثم بالثانية
وأما الوقوع الشرعي فنقول كان يجوز أن يخصص خطاب الفروع بالمؤمنين كما خصص وجوب العبادات بالأحرار والمقيمين والأصحاء والطاهرات دون الحيض ولكن وردت الأدلة بمخاطبتهم وأدلته ثلاثة الأول قوله تعالى { ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين } المدثر 42 43 الآية
فأخبر أنه عذبهم بترك الصلاة وحذر المسلمين به فإن قيل هذه حكاية قول الكفار فلا حجة فيها قلنا ذكره الله تعالى في معرض التصديق لهم بإجماع الأمة وبه يحصل التحذير إذ لو كان كذبا لكان كقولهم عذبنا لأنا مخلوقون وموجودون كيف وقد عطف عليه قوله { وكنا نكذب بيوم الدين } المدثر 46 فكيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه فإن قيل العقاب بالتكذيب لكن غلظ بإضافة ترك الطاعات إليه قلنا لا يجوز أن يغلظ بترك الطاعات كما لا يجوز أن يغلظ بترك المباحات التي لم يخاطبوا بها فإن قيل عوقبوا إلا بترك الصلاة لكن لإخراجهم أنفسهم بترك الإيمان عن العلم بقبح ترك الصلاة قلنا هذا باطل من أوجه أحدها أنه ترك للظاهر من غير ضرورة ولا دليل فإن ترك العلم بقبح ترك الصلاة غير ترك الصلاة وقد قالوا { لم نك من المصلين } المدثر 43
____________________

(1/73)



الثاني أن ذلك يوجب التسوية بين كافر باشر القتل وسائر المحظورات وبين من اقتصر على الكفر لأن كليهما استويا في إخراج النفس بالكفر عن العلم بقبح المحظورات والتسوية بينهما خلاف الإجماع
الثالث أن من ترك النظر والاستدلال ينبغي أن لا يعاقب على ترك الإيمان لأنه أخرج نفسه بترك النظر عن أهلية العلم بوجوب المعرفة والإيمان فإن قيل لم نك من المصلين أي من المؤمنين لكن عرفوا أنفسهم بعلامة المؤمنين كما قال صلى الله عليه وسلم نهيت عن قتل المصلين أي المؤمنين لكن عرفهم بما هو شعارهم قلنا هذا محتمل لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل ولا دليل للخصم
الدليل الثاني قوله تعالى { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله } الفرقان 68 إلى قوله تعالى { يضاعف له العذاب } الفرقان 69 فالآية نص في مضاعفة عذاب من جمع بين الكفر والقتل والزنا لا كمن جمع بين الكفر والأكل والشرب
والدليل الثالث إنعقاد الإجماع على تعذيب الكافر على تكذيب الرسول كما يعذب على الكفر بالله تعالى وهذا يهدم معتمدهم إذ قالوا لا تتصور العبادة مع الكفر فكيف يؤمر بها احتجوا بأنه لا معنى لوجوب الزكاة وقضاء الصلاة عليه مع استحالة فعله في الكفر ومع انتفاء وجوبه لو أسلم فكيف يجب ما لا يمكن امتثاله قلنا وجب حتى لو مات على الكفر لعوقب على تركه لكن إذا أسلم عفى له عما سلف فالإسلام يجب ما قبله ولا يبعد نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال فكيف يبعد سقوط الوجوب بالإسلام فإن قيل إذا لم تجب الزكاة إلا بشرط الإسلام والإسلام الذي هو شرط الوجوب هو بعينه مسقط فالإستدلال بهذا على أنه لم يجب أولى من إيجابه ثم الحكم بسقوطه قلنا لا بعد في قولنا استقر الوجوب بالإسلام وسقط بحكم العفو فليس في ذلك مخالفة نص ونصوص القرآن دلت على عقاب الكافر المتعاطي للفواحش وكذا الإجماع دل على الفرق بين كافر قتل الأنبياء والأولياء وشوش الدين وبين كافر لم يرتكب شيئا من ذلك فما ذكرناه أولى فإن قيل فلم أوجبتم القضاء على المرتد دون الكافر الأصلي قلنا القضاء إنما وجب بأمر مجدد فيتبع فيه موجب الدليل ولا حجة فيه إذ قد يجب القضاء على الحائض ولم تؤمر بالأداء وقد يؤمر بالأداء من لا يؤمر بالقضاء وقد اعتذر الفقهاء بأن المرتد قد التزم بالإسلام القضاء والكافر لم يلتزم وهذا ضعيف فإن ما ألزمه الله تعالى فهو لازم التزمه العبد أو لم يلتزمه فإن كان يسقط بعدم التزامه فالكافر الأصلي لم يلتزم العبادات وترك المحظورات فينبغي أن لا يلزمه ذلك
الفن الرابع من القطب الأول فيما يظهر الحكم به وهو الذي يسمى سببا وكيفية نسبة الحكم إليه وفيه أربعة فصول الفصل الأول في الأسباب إعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الله تعالى في كل حال لا سيما بعد انقطاع الوحي أظهر الله سبحانه خطابه لخلقه بأمور محسوسة نصبها أسبابا لأحكامه وجعلها موجبة ومقتضية للأحكام على مثال اقتضاء العلة الحسية معلولها ونعني بالأسباب ها هنا أنها هي التي أضاف الأحكام إليها كقوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وقوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } البقرة 185 ? < وقوله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وهذا ظاهر فيما يتكرر من العبادات كالصلاة والصوم والزكاة فإن ما يتكرر الوجوب بتكرره فجدير بأن يسمى سببا أما ما لا يتكرر كالإسلام والحج فيمكن أن يقال ذلك معلوم بقوله تعالى > ? ولله على الناس حج البيت آل عمران 97 وكذا وجوب المعرفة على كل مكلف يعلم
____________________

(1/74)


بالعمومات فلا حاجة إلى إضافتها إلى سبب ويمكن أن يقال سبب وجوب الإيمان والمعرفة الأدلة المنصوبة وسبب وجوب الحج البيت دون الاستطاعة ولما كان البيت واحدا لم يجب الحج إلا مرة واحدة والإيمان معرفة فإذا حصلت دامت والأمر فيه قريب
هذا قسم العبادات وأما قسم الغرامات والكفارات والعقوبات فلا تخفى أسبابها وأما قسم المعاملات فلحل الأموال والإبضاع وحرمتها أيضا أسباب ظاهرة من نكاح وبيع وطلاق وغيره وهذا ظاهر وإنما المقصود أن نصب الأسباب أسبابا للأحكام أيضا حكم من الشرع فلله تعالى في الزاني حكمان
أحدهما وجوب الحد عليه
والثاني نصب الزنا سببا للوجوب في حقه لأن الزنا لا يوجب الرجم لذاته وعينه بخلاف العلل العقلية وإنما صار موجبا بجعل الشرع إياه موجبا فهو نوع من الحكم فلذلك أوردناه في هذا القطب ولذلك يجوز تعليله ونقول نصب الزنا علة للرجم
والسرقة علة للقطع لكذا وكذا فاللواط في معناه فينتصب أيضا سببا والنباش في معنى السارق وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب القياس
وأعلم أن اسم السبب مشترك في اصطلاح الفقهاء وأصل اشتقاقه من الطريق ومن الحبل الذي به ينزح الماء من البئر وحده ما يحصل الشيء عنده لا به فإن الوصول بالسير لا بالطريق ولكن لا بد من الطريق ونزح الماء بالاستقاء لا بالحبل ولكن لا بد من الحبل فاستعار الفقهاء لفظ السبب من هذا الموضع وأطلقوه على أربعة أوجه الوجه الأول وهو أقربها إلى المستعار منه ما يطلق في مقابلة المباشرة إذ يقال إن حافر البئر مع المردي فيه صاحب سبب والمردي صاحب علة فإن الهلاك بالتردية لكن عند وجود البئر فما يحصل الهلاك عنده لا به يسمى سببا
الثاني تسميتهم الرمي سببا للقتل من حيث أنه سبب للعلة وهو على التحقيق علة العلة ولكن لما حصل الموت لا بالرمي بل بالواسطة أشبه ما لا يحصل الحكم إلا به
الثالث تسميتهم ذات العلة مع تخلف وصفها سببا كقولهم الكفارة تجب باليمين دون الحنث فاليمين هو السبب وملك النصاب هو سبب الزكاة دون الحول مع أنه لا بد منهما في الوجوب ويريدون بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه ويقابلون هذا بالمحل والشرط فيقولون ملك النصاب سبب والحول شرط
الرابع تسميتهم الموجب سببا فيكون السبب بمعنى العلة وهذا أبعد الوجوه عن وضع اللسان فإن السبب في الوضع عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به ولكن هذا يحسن في العلل الشرعية لأنها لا توجب الحكم لذاتها بل بإيجاب الله تعالى ولنصبه هذه الأسباب علامات لإظهار الحكم فالعلل الشرعية في معنى العلامات المظهرة فشابهت ما يحصل الحكم عنده
الفصل الثاني في وصف السبب بالصحة والبطلان والفساد إعلم أن هذا يطلق في العبادات تارة وفي العقود أخرى وإطلاقه في العبادات مختلف فيه فالصحيح عند المتكلمين عبارة عما وافق الشرع وجب القضاء أو لم يجب وعند الفقهاء عبارة عما أجزأ وأسقط الفضاء حتى أن صلاة من ظن أن متطهر صحيحة في إصطلاح المتكلمين لأنه وافق الأمر المتوجه عليه في الحال وأما القضاء فوجوبه بأمر مجدد فلا يشتق منه إسم الصحة وهذه الصلاة فاسدة عند الفقهاء لأنها غير مجزئة وكذلك من قطع صلاته بإنقاذ
____________________

(1/75)


غريق فصلاته صحيحة عند المتكلم فاسدة عند الفقيه وهذه الإصطلاحات وإن اختلفت فلا مشاحة فيها إذ المعنى متفق عليه وأما إذا أطلق في العقود فكل سبب منصوب لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه يقال أنه صح وإن تخلف عنه مقصوده يقال إنه بطل فالباطل هو الذي لا يثمر لأن السبب مطلوب لثمرته والصحيح هو الذي أثمر والفاسد مرادف للباطل في إصطلاح أصحاب الشافعي رضي الله عنه فالعقد إما صحيح وإما باطل وكل باطل فاسد
وأبو حنيفة أثبت قسما آخر في العقود بين البطلان والصحة وجعل الفاسد عبارة عنه وزعم أن الفاسد معتقد لإفادة الحكم لكن المعني بفساده أنه غير مشروع بوصفه والمعني بانعقاده أنه مشروع بأصله كعقدالربا فإنه مشروع من حيث أنه بيع وممنوع من حيث أنه يشتمل على زيادة في العوض فاقتضى هذا درجة بين الممنوع بأصله ووصفه جميعا وبين المشروع بأصله ووصفه جميعا فلو صح له هذا القسم لم يناقش في التعبير عنه بالفاسد ولكنه ينازع فيه إذ كل ممنوع بوصفه فهو ممنوع بأصله كما سبق ذكره
الفصل الثالث في وصف العبادة بالأداء والقضاء والإعادة أعلم أن الواجب إذا أدي في وقته سمي أداء وإن أدي بعد خروج وقته المضيق أو الموسع المقدر سمي قضاء وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل ثانيا في الوقت سمي إعادة فالإعادة اسم لمثل ما فعل والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود ويتصدى النظر في شيئين أحدهما أنه لو غلب على ظنه في الواجب الموسع أنه يخترم قبل الفعل فلو أخر عصي بالتأخير فلو أخر وعاش قال القاضي رحمه الله ما يفعله هذا قضاء لأنه تقدر وقته بسبب غلبة الظن وهذا غير مرضي عندنا فإنه لما انكشف خلاف ما ظن زال حكمه وصار كما لو علم أنه يعيش فينبغي أن ينوي الأداء أعني المريض إذا أخر الحج إلى السنة الثانية وهو مشرف على الهلاك ثم شفي
الثاني أن الزكاة على الفور عندالشافعي رحمه الله فلو أخر ثم أدى فيلزم على مساق كلام القاضي رحمه الله أن يكون قضاء والصحيح أنه أداء لأنه لم يعين وقته بتقدير وتعيين وأنما أوجبنا البدء بقرينة الحاجة وإلا فالأداء في جميع الأوقات موافق لموجب الأمر وامتثال له وكذلك من لزمه قضاء صلاة على الفور فأخر فلا نقول أنه قضاء القضاء ولذلك نقول يفتقر وجوب القضاء إلى أمر مجدد ومجرد الأمر بالأداء كاف في دوام اللزوم فلا يحتاج إلى دليل آخر وأمر مجدد فإذا الصحيح أن إسم القضاء مخصوص بما عين وقته شرعا ثم فات الوقت قبل الفعل
دقيقة أعلم أن القضاء قد يطلق مجازا وقد يطلق حقيقة فإنه تلو الأداء وللأداء أربعة أحوال الأولى أن يكون واجبا فإذا تركه المكلف عمدا أو سهوا وجب عليه القضاء ولكن حط المأثم عنه عند سهوه على سبيل العفو فالإتيان بمثله بعده يسمى قضاء حقيقة
الثانية أن لا يجب الأداء كالصيام في حق الحائض فإنه حرام فإذا صامت بعد الطهر فتسميته قضاء مجاز محض وحقيقته أنه فرض مبتدأ لكن لما تجدد هذا الفرض بسبب حالة عرضت منعت من إيجاب الأداء حتى فات لفوات إيجابه سمي قضاء وقد أشكل هذا على طائفة فقالوا وجب الصوم على الحائض دون الصلاة بدليل وجوب القضاء وجعل هذا
____________________

(1/76)


الاسم مجازا أولى من مخالفة الإجماع إذ لا خلاف أنه لو ماتت الحائض لم تكن عاصية فكيف تؤمر بما تعصي به لو فعلته وليس الحيض كالحدث فإن إزالته تمكن فإن قيل فلم تنوي قضاء رمضان قلنا إن عينت بذلك أنها تنوي قضاء ما منع الحيض من وجوبه فهو كذلك وإن عنيت أنه قضاء لما وجب عليها في حالة الحيض فهو خطأ ومحال فإن قيل فلينو البالغ القضاء لما فات في حالة الصغر قلنا لو أمر بذلك لنواه ولكن لم يجعل فوات الإيجاب بالصبا سببا لإيجاب فرض مبتدأ بعد البلوغ كيف والمجاز إنما يحسن بالاشتهار وقد اشتهر ذلك في الحيض دون الصبا ولعل سبب اختصاص اشتهاره أن الصبا يمنع أصل التكليف والحائض مكلفة فهي بصدد الإيجاب
الحالة الثالثة حالة المريض والمسافر إذا لم يجب عليهما لكنهما إن صاما وقع عن الفرض فهذا يحتمل أن يقال أنه مجاز أيضا إذ لا وجوب ويحتمل أن يقال إنه حقيقة إذ فعله في الوقت لصح منه فإذا أخل بالفعل مع صحته فعله فهو شبيه بمن وجب عليه وتركه سهوا أو عمدا أو نقول قال الله تعالى { فعدة من أيام أخر } البقرة 184 185 فهو على سبيل التخيير فكان الواجب أحدهما لا بعينه إلا أن هذا البدل لا يمكن إلا بعد فوات الأول والأول سابق بالزمان فسمي قضاء لتعلقه بفواته بخلاف العتق والصيام في الكفارة إذ لا يتعلق أحدهما بفوات الآخر ولكن يلزم على هذا أن تسمى الصلاة في آخر الوقت قضاء لأنه مخير بين التقديم والتأخير كالمسافر والأظهر أن تسمية صوم المسافر قضاء مجاز أو القضاء إسم مشترك بين ما فات أداؤه الواجب وبين ما خرج عن وقته المشهور المعروف به ولرمضان خصوص نسبة إلى الصوم ليس ذلك لسواه بدليل أن الصبي المسافر لو بلغ بعد رمضان لا يلزمه ولو بلغ في آخر وقت الصلاة لزمته فإخراجه عن مظنة أدائه في حق العموم يوهم كونه قضاء والذي يقتضيه التحقيق أنه ليس بقضاء فإن قيل فالنائم والناسي يقضيان ولا خطاب عليهما لأنهما لا يكلفان قلنا هما منسوبان إلى الغفلة والتقصير ولكن الله تعالى عفا عنهما وحط عنهما المأثم بخلاف الحائض والمسافر ولذلك يجب عليهما الإمساك بقية النهار تشبها بالصائمين دون الحائض ثم في المسافر مذهبان ضعيفان أحدهما مذهب أصحاب الظاهر أن المسافر لا يصح صومه في السفر لقوله تعالى { فعدة من أيام أخر } البقرة 184 185 فلم يأمره إلا بأيام أخر وهو فاسد لأن سياق الكلام يفهمنا إضمار الإفطار ومعناه من كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كقوله تعالى { فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه } البقرة 60 يعني فضرب فانفجرت ولأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر كانوا يصومون ويفطرون ولا يعترض بعضهم على بعض
والثاني مذهب الكرخي أن الواجب أيام أخر ولكن لو صام رمضان صح وكان معجلا للواجب كمن قدم الزكاة على الحول وهو فاسد لأن الآية لا تفهم إلا الرخصة في التأخير وتوسيع الوقت عليه والمؤدي في أول الوقت الموسع غير معجل بل هو
____________________

(1/77)


مؤد في وقته كما سبق في الصلاة في أول الوقت
الحالة الرابعة حال المريض فإن كان لا يخشى الموت في الصوم فهو كالمسافر أما الذي يخشى الموت أو الضرر العظيم فيعصي بترك الأكل فيشبه الحائض من هذا الوجه فلو صام يحتمل أن يقال لا ينعقد لأنه عاص به فكيف يتقرب بما يعصي به ويحتمل أن يقال إنما عصي بجنايته على الروح التي هي حق الله تعالى فيكون كالمصلي في الدار المغصوبة يعصي لتناوله حق الغير ويمكن أن يقال قد قيل للمريض كل فكيف يقال له لا تأكل وهو معنى الصوم بخلاف الصلاة والغصب ويمكن أن يجاب بأنه قيل له لا تهلك نفسك وقيل له صم فلم يعص من حيث أنه صائم بل من حيث سعيه في الهلاك ويلزم عليه صوم يوم النحر فإنه نهي عنه لترك إجابة الدعوة إلى أكل القرابين والضحايا وهي ضيافة الله تعالى ويعسر الفرق بينهما جدا فهذه احتمالات يتجاذبها المجتهدون فإن قلنا لا ينعقد صومه فتسمية تداركه قضاء مجاز محض كما في حق الحائض وإلا فهو كالمسافر
الفصل الرابع في العزيمة والرخصة اعلم أن العزم عبارة عن القصد المؤكد قال الله تعالى 02 { فنسي ولم نجد له عزما } طه 115 أي قصدا بليغا وسمي بعض الرسل أولي العزم لتأكيد قصدهم في طلب الحق والعزيمة في لسان حملة الشرع عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى والرخصة في اللسان عبارة عن اليسر والسهولة يقال رخص السعر إذا تراجع وسهل الشراء وفي الشريعة عبارة عما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم فإن لم يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوال وصلاة الضحى لا يسمى رخصة وما أباحه في الأصل من الأكل والشرب لا يسمى رخصة ويسمى تناول الميتة رخصة وسقوط صوم رمضان عن المسافر يسمى رخصة وعلى الجملة فهذا الاسم يطلق حقيقة ومجازا فالحقيقة في الرتبة العليا كإباحة النطق بكلمة الكفر بسبب الإكراه وكذلك إباحة شرب الخمر وإتلاف مال الغير بسب الإكراه والمخمصة والغصص بلقمة لا يسيغها إلا الخمر التي معه وأما المجاز البعيد عن الحقيقة فتسمية ما حط عنا من الأصر والإغلال التي وجبت على من قبلنا في الملل المنسوخة رخصة وما لم يجب علينا ولا على غيرنا لا يسمى رخصة وهذا لما أوجب على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق اسم الرخصة تجوزا فإن الإيجاب على غيرنا ليس تضييقا في حقنا والرخصة فسحة في مقابلة التضييق ويتردد بين هاتين الدرجتين صور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها أقرب إلى المجاز منها القصر والفطر في حق المسافر وهو جدير بأن يسمى رخصة حقيقة لأن السبب هو شهر رمضان وهو قائم وقد دخل المسافر تحت قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } البقرة 185 وأخرج عن العموم بعذر وعسر أما التيمم عند عدم الماء فلا يحسن تسميته رخصة لأنه لا يمكن تكليف استعمال الماء مع عدمه فلا يمكن أن يقال السبب قائم مع استحالة التكليف بخلاف المكره على الكفر والشرب فإنه قادر على الترك نعم تجويز ذلك عند المرض أو الجراحة أو بعد الماء عنه أو بيعه بأكثر من ثمن المثل رخصة بل التيمم عند فقهاء الماء كالإطعام عند فقد الرقبة وذلك ليس برخصة بل أوجبت
____________________

(1/78)


الرقبة في حالة والإطعام في حالة فلا نقول السبب قائم عند فقد الرقبة بل الظهار سبب لوجوب العتق في حالة ولوجوب الإطعام في حالة فإن قيل إن كان سبب وجوب الوضوء مندفعا عند فقد الماء فسبب تحريم الكفر والشرب والميتة مندفع عند خوف الهلاك فكان المحرم محرم بشرط انتفاء الخوف قلنا المحرم في الميتة الخبث وفي الخمر الإسكار وفي الكفر كونه جهلا بالله تعالى أو كذبا عليه وهذه المحرمات قائمة وقد اندفع حكمها بالخوف فكل تحريم اندفع بالعذر والخوف مع إمكان تركه يسمى اندفاعه رخصة ولا يمنع من ذلك تغيير العبارة بأن يجعل انتفاء العذر شرطا مضموما إلى الموجب فإن قيل فالرخص تنقسم إلى ما يعصى بتركه كترك أكل الميتة والإفطار عند خوف الهلاك وإلى ما لا يعصى كالإفطار والقصر وترك كلمة الكفر وترك قتل من أكره على قتل نفسه فكيف يسمى ما يجب الإتيان به رخصة وكيف فرق بين البعض والبعض قلنا أما تسميته رخصة وإن كانت واجبة فمن حيث أن فيه فسحة إذ لم يكلف إهلاك نفسه بالعطش وجوز له تسكينه بالخمر وأسقط عنه العقاب فمن حيث إسقاط العقاب عن فعله هو فسحة ورخصة ومن حيث إيجاب العقاب على تركه هو عزيمة
وأما سبب الفرق فأمور مصلحية رآها المجتهدون وقد اختلفوا فيها فمنهم من لم يجوز الاستسلام للصائل ومنهم من جوز وقال قتل غيره محظور كقتله وإنما جوز له نظرا له وله أن يسقط حق نفسه إذا قابله مثله وليس له أن يهلك نفسه ليمتنع عن ميتة وخمر فإن حفظ المهجة أهم في الشرع من ترك اليمتة والخمر في حالة نادرة ومنها السلم فإنه بيع ما لا يقدر على تسليمه في الحال فقد يقال إنه رخصة لأن عموم نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام عن بيع ما ليس عنده يوجب تحريمه وحاجة المفلس اقتضت الرخصة في السلم ولا شك في أن تزويج الآبقة يصح ولا يسمى ذلك رخصة فإذا قوبل ببيع الآبق فهو فسحة لكن قيل النكاح عقد آخر فارق شرطه البيع فلا مناسبة بينهما ويمكن أن يقال السلم عقد آخر فهو بيع دين وذلك بيع عين فافترقا وافتراقهما في الشرط لا يلحق أحدهما بالرخص فيشبه أن يكون هذا مجازا فقول الراوي نهي عن بيع ما ليس عند الإنسان وأرخص في السلم تجوز في الكلام واعلم أن بعض أصحاب الرأي قالوا حد الرخصة أنه الذي أبيح مع كونه حراما وهذا متناقض فإن الذي أبيح لا يكون حراما وحذق بعضهم وقال ما أرخص فيه مع كونه حراما وهو مثل الأول لأن الترخيص إباحة أيضا وقد بنوا هذا على أصلهم إذ قالوا الكفر قبيح لعينه فهو حرام فبالإكراه رخص له فيما هو قبيح في نفسه وعن هذا لو أصر ولم يتلفظ بالكفر كان مثابا وزعموا أن المكره على الإفطار لو لم يفطر يثاب لأن الإفطار قبيح والصوم قيام بحق الله تعالى والمكره على إتلاف المال أيضا لو استسلم قالوا يثاب والمكره على تناول الميتة وشرب الخمر زعموا أنه يأثم إن لم يتناول وفي هذه التفاصيل نظر فقهي لا يتعلق بمحض الأصول والمقصود أن قولهم أنه رخص في الحرام متناقض لا وجه له والله تعالى أعلم
وقد تم النظر في القطب الأول وهو النظر في حقيقة الحكم وأقسامه فلننظر الآن في مثمر الحكم وهو الدليل

____________________

(1/79)


القطب الثاني في أدلة الأحكام وهي أربعة الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل المقرر على النفي الأصلي فأما قول الصحابي وشريعة من قبلنا فمختلف فيه
الأصل الأول من أصول الأدلة كتاب الله تعالى واعلم أنا إذا حققنا النظر بان أن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى إذ قول مشغول الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحكم ولا ملزم بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم بكذا وكذا فالحكم لله تعالى وحده والإجماع يدل على السنة والسنة على حكم الله تعالى وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه إلا أنا إذا نظرنا إلى ظهور الحكم في حقنا فلا يظهر إلا بقول الرسول عليه السلام لأنا لا نسمع الكلام من الله تعالى ولا من جبريل فالكتاب يظهر لنا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم فإذن إن اعتبرنا المظهر لهذه الأحكام فهو قول الرسول فقط إذ الإجماع يدل على أنهم استندوا إلى قوله وإن اعتبرنا السبب الملزم فهو واحد وهو حكم الله تعالى لكن إذا لم نجرد النظر وجمعنا المدارك صارت الأصول التي يجب النظر فيها أربعة كما سبق فلنبدأ بالكتاب والنظر في حقيقته ثم في حده المميز له عما ليس بكتاب ثم في ألفاظه ثم في أحكامه
النظر الأول في حقيقته ومعناه هو الكلام القائم بذات الله تعالى وهو صفة قديمة من صفاته والكلام اسم مشترك قد يطلق على الألفاظ الدالة على ما في النفس تقول سمعت كلام فلان وفصاحته وقد يطلق على مدلول العبارات وهي المعاني التي في النفس كما قيل إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقال الله تعالى { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } المجادلة 8 وقال تعالى { وأسروا قولكم أو اجهروا به } الملك 13 فلا سبيل إلى إنكار كون هذا الاسم مشتركا وقد قال قوم وضع في الأصل للعبارات وهو مجاز في مدلولها وقيل عكسه ولا يتعلق به غرض بعد ثبوت الاشتراك وكلام النفس ينقسم إلى خبر واستخبار وأمر ونهي وتنبيه وهي معان تخالف بجنسها الإرادات والعلوم وهي متعلقة بمتعلقاتها لذاتها كما تتعلق القدرة والإرادة والعلم وزعم قوم أنه يرجع إلى العلوم والإرادات وليس جنسا برأسه وإثبات ذلك على المتكلم لا على الأصولي
فصل كلام الله تعالى واحد وهو مع وحدته متضمن لجميع معاني الكلام كما أن علمه واحد وهو مع وحدته محيط بما لا يتناهى من المعلومات حتى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وفهم ذلك غامض وتفهيمه على المتكلم لا على
____________________

(1/80)


الأصولي وأما كلام النفس في حقنا فهو يتعدد كما تتعدد العلوم ويفارق كلامه كلامنا من وجه آخر وهو أن أحدا من المخلوقين لا يقدر على أن يعرف غيره كلام نفسه إلا بلفظ أو رمز أو فعل والله تعالى قادر على أن يخلق لمن يشاء من عباده علما ضروريا بكلامه من غير توسط حرف وصوت ودلالة ويخلق لهم السمع أيضا بكلامه من غير توسط صوت وحرف ودلالة ومن سمع ذلك من غير توسط فقد سمع كلام الله تحقيقا وهو خاصية موسى صلوات الله تعالى عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء وأما من سمعه من غيره ملكا كان أو نبيا كان تسميته سامعا كلام الله تعالى كتسميتنا من سمع شعر المتنبي من غيره بأنه سمع شعر المتنبي وذلك أيضا جائز ولأجله قال الله تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } التوبة 6
النظر الثاني في حده وحد الكتاب ما نقل إلينا بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا ونعني بالكتاب القرآن المنزل وقيدناه بالمصحف لأن الصحابة بالغوا في الاحتياط في نقله حتى كرهوا التعاشير والنقط وأمروا بالتجريد كيلا يختلط بالقرآن غيره ونقل إلينا متواترا فعلم أن المكتوب في المصحف المتفق عليه هو القرآن وأن ما هو خارج عنه فليس منه إذ يستحيل في العرف والعادة مع توفر الدواعي على حفظه أن يهمل بعضه فلا ينقل أو يخلط به ما ليس منه فإن قيل هلا حددت موه بالعجز قلنا لا لأن كونه معجزا يدل على صدق الرسول عليه السلام لا على كونه كتاب الله تعالى لا محالة إذ يتصور الإعجاز بما ليس بكتاب الله تعالى ولأن بعض الآية ليس بمعجز وهو من الكتاب فإن قيل فلم شرطتم التواتر قلنا ليحصل العلم به لأن الحكم بما لا يعلم جهل وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي حتى يتعلق بظننا فيقال إذا ظننتم كذا فقد حرمنا عليكم فعلا أو حللناه لكم فيكون التحريم معلوما عند ظننا ويكون ظننا علامة يتعلق التحريم به لأن التحريم بالوضع فيمكن الوضع عند الظن وكون الشيء كلام الله تعالى أمر حقيقي ليس بوضعي فالحكم فيه بالظن جهل ويتشعب عن حد الكلام مسألتان مسألة ( حكم تتابع الصيام في كفارة اليمين ) التتابع في صوم كفارة اليمين ليس بواجب على قول وإن قرأ ابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات لأن هذه الزيادة لم تتواتر فليست من القرآن فتحمل على أنه ذكرها في معرض البيان لما اعتقده مذهبا فلعله اعتقد التتابع حملا لهذا المطلق على المقيد بالتتابع في الظهار وقال أبو حنيفة يجب لأنه وإن لم يثبت كونه قرآنا فلا أقل من كونه خبرا والعمل يجب بخبر الواحد وهذا ضعيف لأن خبر الواحد لا دليل على كذبه وهو أن جعله من القرآن فهو خطأ قطعا لأنه وجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغه طائفة من الأمة تقوم الحجة بقولهم وكان لا يجوز له مناجاة الواحد به وإن لم يجعله من القرآن احتمل أن يكون ذلك مذهبا له لدليل قد دله عليه واحتمل أن يكون خبرا وما تردد بين أن يكون خبرا أو لا يكون فلا يجوز العمل به وإنما يجوز العمل بما يصرح الراوي بسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم

____________________

(1/81)


مسألة ( هل البسملة آية أم لا ) البسملة آية من القرآن لكن هل هي آية من أول كل سورة فيه خلاف وميل الشافعي رحمه الله إلى أنها آية من كل سورة الحمد وسائر السور لكنها في أول كل سورة آية برأسها وهي مع أول آية من سائر السور آية وهذا مما نقل عن الشافعي رحمه الله فيه تردد وهذا أصح من قول من حمل تردد قول الشافعي على أنها هل هي من القرآن في أول كل سورة بل الذي يصح أنها حيث كتبت مع القرآن بخط القرآن فهي من القرآن فإن قيل القرآن لا يثبت إلا بطريق قاطع متواتر فإن كان هذا قاطعا فكيف اختلفوا فيه وإن كان مظنونا فكيف يثبت القرآن بالظن ولو جاز هذا لجاز إيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين بقول ابن مسعود ولجاز للروافض أن يقولوا قد ثبتت إمامة علي رضي الله عنه بنص القرآن ونزلت فيه آيات أخفاها الصحابة بالتعصب وإنما طريقنا في الرد عليهم أنا نقول نزل القرآن معجزة للرسول عليه السلام وأمر الرسول عليه السلام بإظهاره مع قوم تقوم الحجة بقولهم وهم أهل التواتر فلا يظن بهم التطابق على الإخفاء ولا مناجاة الآحاد به حتى لا يتحدث أحد بالإنكار فكانوا يبالغون في حفظ القرآن حتى كانوا يضايقون في الحروف ويمنعون من كتبة أسامي السور مع القرآن ومن التعاشير والنقط كيلا يختلط بالقرآن غيره فالعادة تحيل الإخفاء فيجب أن يكون طريق ثبوت القرآن القطع وعن هذا المعنى قطع القاضي رحمه الله بخطأ من جعل البسملة من القرآن إلا في سورة النمل فقال لو كانت من القرآن لوجب على الرسول عليه السلام أن يبين أنها من القرآن بيانا قاطعا للشك والاحتمال إلا أنه قال أخطىء القائل به ولا أكفره لأن نفيها من القرآن لم يثبت أيضا بنص صريح متواتر فصاحبه مخطىء وليس بكافر واعترف بأن البسملة منزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة وأنها كتبت مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قالابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم لكنه لا يستحيل أن ينزل عليه ما ليس بقرآن وأنكر قول من نسب عثمان رضي الله عنه إلى البدعة في كتبه بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة وقال لو أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين عنه مع تصلبهم في الدين كيف وقد أنكروا على من أثبت أسامي السور والنقط والتعشير فما بالهم لم يجيبوا بأنا أبدعنا ذلك كما أبدع عثمان رضي الله عنه كتبه البسملة لا سيما واسم السور يكتب بخط آخر متميز عن القرآن والبسملة مكتوبة بخط القرآن متصلة به بحيث لا تتميز عنه فتحيل العادة السكوت على من يبدعها لولا أنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والجواب أنا نقول لا وجه لقطع القاضي بتخطئة الشافعي رحمه الله لأن إلحاق ما ليس بقرآن بالقرآن كفر كما أنه من ألحق القنوت أو التشهد أو التعوذ بالقرآن فقد كفر فمن ألحق البسملة لم لا يكفر ولا سبب له إلا أنه يقال لم يثبت انتفاؤه من القرآن بنص متواتر فنقول لو لم يكن من القرآن لوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعة ذلك على وجه يقطع الشك كما في التعوذ والتشهد فإن قيل ما ليس من القرآن لا حصر له حتى ينفي إنما الذي يجب التنصيص عليه ما هو
____________________

(1/82)


من القرآن قلنا هذا صحيح لو لم تكتب البسملة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن بخط القرآن ولو لم يكن منزلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أول كل سورة وذلك يوهم قطعا أنه من القرآن ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يعرف كونه موهما ولا جواز السكوت عن نفيه مع توهم الحاقه فإذا القاضي رحمه الله يقول لو كان من القرآن لقطع الشك بنص متواتر تقوم الحجة به ونحن نقول لو لم يكن من القرآن لوجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم التصريح بأنه ليس من القرآن وإشاعته ولنفاه بنص متواتر بعد أن أمر بكتبه بخط القرآن إذ لا عذر في السكوت عن قطع هذا التوهم فأما عدم التصريح بأنه من القرآن فإنه كان اعتمادا على قرائن الأحوال إذ كان يملي على الكاتب مع القرآن وكان الرسول عليه السلام في أثناء إملائه لا يكرر مع كل كلمة وآية أنها من القرآن بل كان جلوسه له وقرائن أحواله تدل عليه وكان يعرف كل ذلك قطعا ثم لما كانت البسملة أمر بها في أول كل أمر ذي بال ووجد ذلك في أوائل السور ظن قوم أنه كتب على سبيل التبرك وهذا الظن خطأ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما سرق الشيطان من الناس آية من القرآن لما ترك بعضهم قراءة البسملة في أول السورة فقطع بأنها آية ولم ينكر عليه كما ينكر على من ألحق التعوذ والتشهد بالقرآن فدل على أن ذلك كان مقطوعا به وحدث الوهم بعده فإن قيل بعد حدوث الوهم والظن صارت البسملة اجتهادية وخرجت عن مظنة القطع فكيف يثبت القرآن بالاجتهاد قلنا جوز القاضي رحمه الله الخلاف في عدد الآيات ومقاديرها وأقر بأن ذلك منوط باجتهاد القراء وأنه لم يبين بيانا شافيا قاطعا للشك والبسملة من القرآن في سورة النمل هي مقطوع بكونها من القرآن وإنما الخلاف في أنها من القرآن مرة واحدة أو مرات كما كتبت فهذا يجوز أن يقع الشك فيه ويعلم بالاجتهاد لأنه نظر في تعيين موضع الآية بعد كونها مكتوبة بخط القرآن فهذا جائز وقوعه والدليل على إمكان الوقوع وأن الاجتهاد قد تطرق إليه أن النافي لم يكفر الملحق والملحق لم يكفر النافي بخلاف القنوت والتشهد فصارت البسملة نظرية وكتبها بخط القرآن مع القرآن مع صلابة الصحابة وتشددهم في حفظ القرآن عن الزيادة قاطع أو كالقاطع في أنها من القرآن فإن قيل فالمسألة صارت نظرية وخرجت عن أن تكون معلومة بالتواتر علما ضروريا فهي قطعية أو ظنية قلنا الإنصاف أنها ليست قطعية بل هي اجتهادية ودليل جواز الاجتهاد فيها وقوع الخلاف فيها في زمان الصحابة رضي الله عنهم حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما سرق الشيطان من الناس آية ولم يكفر بإلحاقها بالقرآن ولا أنكر عليه ونعلم أنه لو نقل الصديق رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال البسملة من سورة الحمد وأوائل السور المكتوبة معها لقبل ذلك بسبب كونها مكتوبة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو نقل أن القنوت مع القرآن لعلم بطلان ذلك بطريق قاطع لا يشك فيه وعلى الجملة إذا أنصفنا وجدنا أنفسنا شاكين في مسألة البسملة قاطعين في مسألة التعوذ والقنوت وإذا نظرنا في كتبها مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سكوته عن التصريح بنفي كونها من القرآن بعد تحقق سبب الوهم
____________________

(1/83)


كان ذلك دليلا ظاهرا كالقطع في كونها من القرآن فدل أن الاجتهاد لا يتطرق إلى أصل القرآن أما ما هو من القرآن وهو مكتوب بخطه فالاجتهاد فيه يتطرق إلى تعيين موضعه وأنه من القرآن مرة أو مرات وقد أوردنا أدلة ذلك في كتاب حقيقة القرآن وتأويل ما طعن به على الشافعي رحمه الله من ترديده القول في هذه المسألة فإن قيل قد أوجبتم قراءة البسملة في الصلاة وهو مبني على كونها قرآنا وكونها قرآنا لا يثبت بالظن فإن الظن علامة وجوب العمل في المجتهدات وإلا فهو جهل أي ليس بعلم فليكن كالتتابع في قراءة ابن مسعود قلنا وردت أخبار صحيحة صريحة في وجوب قراءة البسملة وكونها قرآنا متواترا معلوم وإنما المشكوك فيه أنها قرآن مرة في سورة النمل أو مرات كثيرة في أول كل سورة فكيف تساوي قراءة ابن مسعود ولا يثبت بها القرآن ولا هي خبر وهاهنا صحت أخبار في وجوب البسملة وصح بالتواتر أنها من القرآن وعلى الجملة فالفرق بين المسألتين ظاهر
النظر الثالث في ألفاظه وفيه ثلاث مسائل مسألة ( الحقيقة والمجاز ) ألفاظ العرب تشتمل على الحقيقة والمجاز كما سيأتي في الفرق بينهما فالقرآن يشتمل على المجاز خلافا لبعضهم فنقول المجاز اسم مشترك قد يطلق على الباطل الذي لا حقيقة له والقرآن منزه عن ذلك ولعله الذي أراده من أنكر اشتمال القرآن على المجاز وقد يطلق على اللفظ الذي تجوز به عن موضوعه وذلك لا ينكر في القرآن مع قوله تعالى { أولئك } يوسف 82 وقوله { جدارا يريد أن ينقض } الكهف 77 وقوله { لهدمت صوامع وبيع وصلوات } الحج 40 فالصلوات كيف تهدم { أو جاء أحد منكم من الغائط } المائدة 6 { من } النور 35 يؤذن الله وهو يريد رسوله
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين } البقرة 194 والقصاص حق فكيف يكون عدوانا { هذا } الشورى 40 { ذلول } البقرة 15 { ويمكرون ويمكر الله } الأنفال 30 { كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } المائدة 64 81 { أحاط بهم سرادقها } الكهف 29 وذلك ما لا يحصى وكل ذلك مجاز كما سيأتي
مسألة ( هل القرآن كله عربي ) قال القاضي رحمه الله القرآن عربي كله لا عجمية فيه وقال قوم فيه لغة غير العرب واحتجوا بأن المشكاة هندية والإستبرق فارسية وقوله { وفاكهة وأبا } عبس 31 قال بعضهم الأب ليس من لغة العرب والعرب قد تستعمل اللفظة العجمية فقد استعمل في بعض القصائد العثجاة يعني صدر المجلس وهو معرب كمشكاة وقد تكلف القاضي إلحاق هذه الكلمات بالعربية وبين أوزانها وقال كل كلمة في القرآن استعملها أهل لغة أخرى فيكون أصلها عربيا وإنما غيرها غيرهم تغييرا ما كما غير العبرانيون فقالوا للإله لاهوت وللناس ناسوت وأنكر أن يكون في القرآن لفظ عجمي مستدلا بقوله تعالى { لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين } النحل 103 وقال أقوى الأدلة قوله تعالى { الآخرة } فصلت 44 ولو
____________________

(1/84)


كان فيه لغة العجم لما كان عربيا محضا بل عربيا وعجميا ولاتخذ العرب ذلك حجة وقالوا نحن لا نعجز عن العربية أما العجمية فنعجز عنها وهذا غير مرضي عندنا إذ اشتمال جميع القرآن على كلمتين أو ثلاث أصلها عجمي وقد استعملتها العرب ووقعت في ألسنتهم لا يخرج القرآن عن كونه عربيا وعن إطلاق هذا الاسم عليه ولا يتمهد للعرب حجة فإن الشعر الفارسي يسمى فارسيا وإن كانت فيه آحاد كلمات عربية إذا كانت تلك الكلمات متداولة في لسان الفرس فلا حاجة إلى هذا التكلف
مسألة ( المحكم والمتشابه في القرآن ) في القرآن محكم ومتشابه كما قال تعالى { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } آل عمران 70 واختلفوا في معناه وإذا لم يرد توقيف في بيانه فينبغي أن يفسر بما يعرفه أهل اللغة ويناسب اللفظ من حيث الوضع ولا يناسبه قولهم المتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور والمحكم ما وراء ذلك ولا قولهم المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم والمتشابه ما ينفرد الله تعالى بعلمه ولا قولهم المحكم الوعد والوعيد والحلال والحرام والمتشابه القصص والأمثال وهذا أبعد بل الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنيين أحدهما المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال والمتشابه ما تعارض فيه الإحتمال
الثاني أن المحكم ما انتظم وترتب ترتيبا مفيدا ما على ما ظاهر أو على تأويل ما لم يكن فيه متناقض ومختلف لكن هذا المحكم يقابله المثبج والفاسد دون المتشابه وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الأسماء المشتركة كالقرء وكقوله تعالى { الذي بيده عقدة النكاح } البقرة 237 فإنه مردد بين الزوج والولي وكاللمس المردد بين المس والوطء وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه ويحتاج إلى تأويله فإن قيل قوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } آل عمران 7 الواو للعطف أم الأولى الوقف على الله قلنا كل واحد محتمل فإن كان المراد به وقت القيامة فالوقف أولى وإلا فالعطف إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لأحد من الخلق فإن قيل فما معنى الحروف في أوائل السور إذ لا يعرف أحد معناها قلنا أكثر الناس فيها وأقربها أقاويل أحدها أنها أسامي السور حتى تعرف بها فيقال سورة يس وطه وقيل ذكرها الله تعالى لجمع دواعي العرب إلى الاستماع لأنها تخالف عادتهم فتوقظهم عن الغفلة حتى تصرف قلوبهم إلى الإصغاء فلم يذكرها لإرادة معنى وقيل إنما ذكرها كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج عنها جميع كلام العرب تنبيها أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم وحروفهم وقد ينبه ببعض الشيء على كله يقال قرأ سورة البقرة وأنشد ألاهبي يعني جميع السورة والقصيدة قال الشاعر يناشدني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم كنى بحاميم عن القرآن فقد ثبت أنه ليس في القرآن ما لا تفهمه العرب فإن قيل العرب إنما تفهم من قوله تعالى { وهو القاهر فوق عباده } الأنعام
____________________

(1/85)


18 ) و { الرحمن على العرش استوى } طه 5 الجهة والاستقرار وقد أريد به غيره فهو متشابه قلنا هيهات فإن هذه كنايات واستعارات يفهمها المؤمنون من العرب المصدقون بأن الله تعالى ليس كمثله شيء وأنها مؤولة تأويلات تناسب تفاهم العرب
النظر الرابع في أحكامه ومن أحكامه تطرق التأويل إلى ظاهر ألفاظه وتطرق التخصيص إلى صيغ عمومه وتطرق النسخ إلى مقتضياته أما التخصيص والتأويل فسيأتي في القطب الثالث إذا فصلنا وجوه الاستثمار والاستدلال من الصيغ والمفهوم وغيرها وأما النسخ فقد جرت العادة بذكره بعد كتاب الأخبار لأن النسخ يتطرق إلى الكتاب والسنة جميعا لكنا ذكرناه في أحكام الكتاب لمعنيين أحدهما إن إشكاله وغموضه من حيث تطرقه إلى كلام الله تعالى مع استحالة البداءة عليه
الثاني إن الكلام على الأخبار قد طال لأجل تعلقه بمعرفة طرقها من التواتر والآحاد فرأينا ذكره على أثر أحكام الكتاب أولى
كتاب النسخ والنظر في حده وحقيقته ثم في إثباته على منكريه ثم في أركانه وشروطه وأحكامه فنرسم فيه أبوابا الباب الأول في حده وحقيقته وإثباته أما حده فاعلم أن النسخ عبارة عن الرفع والإزالة في وضع اللسان يقال نسخت الشمس الظل ونسخت الريح الآثار إذا أزالتها وقد يطلق لإرادة نسخ الكتاب فهو مشترك ومقصودنا النسخ الذي هو بمعنى الرفع والإزالة فنقول حده أنه الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا به مع تراخيه عنه وإنما آثرنا لفظ الخطاب على لفظ النص ليكون شاملا للفظ والفحوى والمفهوم وكل دليل إذ يجوز النسخ بجميع ذلك وإنما قيدنا الحد بالخطاب المتقدم لأن ابتداء إيجاب العبادات في الشرع مزيل حكم العقل من براءة الذمة ولا يسمى نسخا لأنه لم يزل حكم خطاب وإنما قيدنا بارتفاع الحكم ولم نقيد بارتفاع الأمر والنهي ليعم جميع أنواع الحكم من الندب والكراهة والإباحة فجميع ذلك قد ينسخ وإنما قلنا لولاه لكان الحكم ثابتا به لأن حقيقة النسخ الرفع فلو لم يكن هذا ثابتا لم يكن هذا رافعا لأنه إذا ورد أمر بعبادة موقتة وأمر بعبادة أخرى بعد تصرم ذلك الوقت لا يكون الثاني نسخا فإذا قال { ثم أتموا الصيام إلى الليل } البقرة 187 ثم قال في الليل لا تصوموا لا يكون ذلك نسخا بل الرافع ما لا يرتفع الحكم لولاه وإنما قلنا مع تراخيه عنه لأنه لو اتصل به لكان بيانا وإتماما لمعنى الكلام وتقديرا له بمدة أو شرط وإنما يكون رافعا إذا ورد بعد أن ورد الحكم واستقر بحيث يدوم لولا الناسخ
وأما الفقهاء فإنهم لم يعقلوا الرفع لكلام الله تعالى فقالوا في حد النسخ أنه الخطاب الدال الكاشف عن مدة العبادة أو عن زمن انقطاع العبادة وهذا يوجب أن يكون قوله صم بالنهار وكل بالليل نسخا وقوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } البقرة
____________________

(1/86)


187 ) نسخا وليس فيه معنى الرفع ولا يغنيهم أن يزيدوا شرط التراخي فإن قوله الأول إذا لم يتناول إلا النهار فهو متقاعد عن الليل بنفسه فأي معنى لنسخه وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول وأريد باللفظ الدلالة عليه وما ذكروه تخصيص وسنبين وجه مفارقة النسخ للتخصيص بل سنبين أن الفعل الواحد إذا أمر به في وقت واحد يجوز نسخه قبل التمكن من الامتثال وقبل وقته فلا يكون بيانا لانقطاع مدة العبادة
وأما المعتزلة فإنهم حدوه بأنه الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل على وجهه لولاه لكان ثابتا وربما أبدلوا لفظ الزائل بالساقط وربما أبدلوه بالغير الثابت كل ذلك حذرا من الرفع وحقيقة النسخ الرفع فكأنهم أخلوا الحد عن حقيقة المحدود فإن قيل تحقيق معنى الرفع في الحكم يمتنع من خمسة أوجه الأول أن المرفوع إما حكم ثابت أو ما لا ثبات له والثابت لا يمكن رفعه وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه فدل أن النسخ هو رفع مثل الحكم الثابت لا رفع عينه أو هو بيان لمدة العبادة كما قاله الفقهاء
الثاني أن كلام الله تعالى قديم عندكم والقديم لا يتصور رفعه
الثالث أن ما أثبته الله تعالى إنما أثبته لحسنه فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال
الرابع أن ما أمر به أراد وجوده فما كان مرادا كيف ينهى عنه حتى يصير مراد العدم مكروها
الخامس أنه يدل على البداء فإنه نهى عنه بعدما أمر به فكأنه بدا له فيما كان قد حكم به وندم عليه
فالاستحالة الأولى من جهة استحالة نفس الرفع والثانية من جهة قدم الكلام والثالثة من جهة صفة ذات المأمور في كونه حسنا قبيحا والرابعة من جهة الإرادة المقترنة بالأمر والخامسة من جهة العلم المتعلق به وظهور البداء بعده
والجواب عن الأول أن الرفع من المرفوع كالكسر من المكسور وكالفسخ من العقد إذ لو قال قائل ما معنى كسر الآنية وإبطال شكلها من تربيع وتسديس وتدوير فإن الزائل بالكسر تدوير موجود أو معدوم والمعدوم لا حاجة إلى إزالته والموجود لا سبيل إلى إزالته فيقال معناه أن استحكام شكل الآنية يقتضي بقاء صورتها دائما لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية لولا الكسر فكذلك الفسخ يقطع حكم العقد من حيث أن الذي ورد عليه لولاه لدام فإن البيع سبب للملك مطلقا بشرط أن لا يطرأ قاطع وليس طريان القاطع من الفسخ مبينا لنا أن البيع في وقته انعقد مؤقتا ممدودا إلى غاية الفسخ فإنا نعقل أن نقول بعتك هذه الدار سنة ونعقل أن نقول بعتك وملكتك أبدا ثم نفسخ بعد انقضاء السنة وندرك الفرق بين الصورتين وأن الأول وضع لملك قاصر بنفسه والثاني وضع لملك مطلق مؤبد إلى أن يقطع بقاطع فإذا فسخ كان الفسخ قاطعا لحكمه الدائم بحكم العقد لولا القاطع لا بيانا لكونه في نفسه قاصر وبهذا يفارق النسخ التخصيص فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ ما أريد به الدلالة إلا على البعض والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد به الدلالة عليه ولأجل خفاء معنى الرفع أشكل على الفقهاء ووقعوا في إنكار معنى النسخ
وأما الجواب عن الثاني وهو استحالة رفع الكلام القديم فهو فاسد إذ ليس معنى النسخ رفع الكلام بل قطع تعلقه بالمكلف والكلام
____________________

(1/87)


القديم يتعلق بالقادر العاقل فإذا طرأ العجز والجنون زال التعلق فإذا عاد العقل والقدرة عاد التعلق والكلام القديم لا يتغير في نفسه فالعجز والموت سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب عنه والنسخ سبب من جهة المخاطب يقطع تعلق الخطاب كما أن حكم البيع وهو ملك المشتري إياه تارة ينقطع بموت العبد المبيع وتارة بفسخ العاقد ولأجل خفاء هذه المعاني أنكر طائفة قدم الكلام
وأما الجواب عن الثالث وهو انقلاب الحسن قبيحا فقد أبطلنا معنى الحسن والقبح وأنه لا معنى لهما وهذا أولى من الاعتذار بأن الشيء يجوز أن يحسن في وقت ويقبح في وقت لأنه قد قال في رمضان لا تأكل بالنهار وكل بالليل لأن النسخ ليس مقصورا عندنا على مثل ذلك بل يجوز أن يأمر بشيء واحد في وقت وينهى عنه قبل دخول الوقت فيكون قد نهى عما أمر به كما سيأتي
وأما الجواب عن الرابع وهو صيرورة المراد مكروها فهو باطل لأن الأمر عندنا يفارق الإرادة فالمعاصي مرادة عندنا وليست مأمورا بها وسيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر
وأما الجواب عن الخامس وهو لزوم البداء فهو فاسد لأنه إن كان المراد أنه يلزم من النسخ أن يحرم ما أباح وينهى عما أمر فذلك جائز { يمحو الله ما يشاء ويثبت } الرعد 39 ولا تناقض فيه كما أباح الأكل بالليل وحرمه بالنهار وإن كان المراد أنه انكشف له ما لم يكن عالما به فهو محال ولا يلزم ذلك من النسخ بل يعلم الله تعالى أنه يأمرهم بأمر مطلق ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم ثم يقطع التكليف بنسخه عنهم فينسخه في الوقت الذي علم نسخه فيه وليس فيه تبين بعد جهل فإن قيل فهم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ أو أبدا فإن كان إلى وقت النسخ فالنسخ قد بين وقت العبادة كما قاله الفقهاء وإن كانوا مأمورين أبدا فقد تغير علمه ومعلومه قلنا هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع الحكم المطلق عنهم الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله تعالى البيع المطلق مفيدا للملك إلى أن ينقطع بالفسخ ولا يعلم البيع في نفسه قاصرا على مدة بل يعلمه مقتضيا لملك مؤبد بشرط أن لا يطرأ قاطع لكن يعلم أن النسخ سيكون فينقطع الحكم لانقطاع شرطه لا لقصوره في نفسه فليس إذا في النسخ لزوم البداء ولأجل قصور فهم اليهود عن هذا أنكروا النسخ ولأجل قصور فهم الروافض عنه ارتكبوا البداء ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال ما بدا الله في شيء كما بدا له في إسماعيل أي في أمره بذبحه وهذا هو الكفر الصريح ونسبة الإله تعالى إلى الجهل والتغير ويدل على استحالته ما دل على أنه محيط بكل شيء علما وأنه ليس محلا للحوادث والتغيرات وربما احتجوا بقوله تعالى { يمحو الله ما يشاء ويثبت } الرعد 39 وإنما معناه أنه يمحو الحكم المنسوخ ويثبت الناسخ أو يمحو السيئات بالتوبة كما قال تعالى { إن الحسنات يذهبن السيئات } هود 114 ويمحو الحسنات بالكفر والردة أو يمحو ما ترفع إليه الحفظة من المباحات ويثبت الطاعات فإن قيل فما الفرق بين التخصيص والنسخ قلنا هما مشتركان من وجه إذ كل واحد يوجب اختصاص الحكم ببعض ما تناوله اللفظ لكن التخصيص بيان أن ما أخرج عن عموم الصيغة ما أريد باللفظ الدلالة عليه والنسخ
____________________

(1/88)


يخرج عن اللفظ ما قصد به الدلالة عليه فإن قوله إفعل أبدا يجوز أن ينسخ وما أريد باللفظ بعض الأزمنة بل الجميع لكن بقاؤه مشروط بأن لا يرد ناسخ كما إذا قال ملكتك أبدا ثم يقول فسخت فالفسخ هذا إبداء ما ينافي شرط استمرار الحكم بعد ثبوته وقصد الدلالة عليه باللفظ فلذلك يفترقان في خمسة أمور الأول أن الناسخ يشترط تراخيه والتخصيص يجوز اقترانه لأنه بيان بل يجب اقترانه عند من لا يجوز تأخير البيان
الثاني أن التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد والنسخ يدخل عليه
والثالث أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع
الرابع أن التخصيص يبقى دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازا على ما فيه من الاختلاف والنسخ يبطل دلالة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية
الخامس أن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس وخبر الواحد وسائر الأدلة ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع وليس من الفرق الصحيح قول بعضهم أن النسخ لا يتناول إلا الأزمان والتخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال وهذا تجوز واتساع لأن الأعيان والأزمان ليست من أفعال المكلفين والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان والتخصيص أيضا يرد على الفعل في بعض الأحوال فإذا قال اقتلوا المشركين إلا المعاهدين معناه لا تقتلوهم في حالة العهد واقتلوهم في حالة الحرب والمقصود أن ورود كل واحد منهما على الفعل وهذا القدر كاف في الكشف عن حقيقة النسخ
الفصل الثاني من هذا الباب في إثباته على منكريه والمنكر إما جوازه عقلا أو وقوعه سمعا أما جوازه عقلا فيدل عليه أنه لو امتنع لكان إما ممتنعا لذاته وصورته أو لما يتولد عنه من مفسدة أو أداء إلى محال ولا يمتنع لاستحالة ذاته وصورته بدليل ما حققناه من معنى الرفع ودفعناه من الإشكالات عنه ولا يمتنع لادائه إلى مفسدة وقبح فإنا أبطلنا هذه القاعدة وإن سامحنا بها فلا بعد في أن يعلم الله تعالى مصلحة عباده في أن يأمرهم بأمر مطلق حتى يستعدوا له ويمتنعوا بسبب العزم عن معاص وشهوات ثم يخفف عنهم وأما وقوعه سمعا فيدل عليه الإجماع والنص أما الإجماع فاتفاق الأمة قاطبة على أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسخت شرع من قبله إما بالكلية وإما فيما يخالفها فيه وهذا متفق عليه فمنكر هذا خارق للإجماع وقد ذهب شذوذ من المسلمين إلى إنكار النسخ وهم مسبوقون بهذا الإجماع فهذا الإجماع حجة عليهم وإن لم يكن حجة على اليهود
وأما النص فقوله تعالى { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر } النحل 101 الآية والتبديل يشتمل على رفع وإثبات والمرفوع إما تلاوة وإما حكم وكيفما كان فهو رفع ونسخ فإن قيل ليس المعني به رفع المنزل فإن ما أنزل لا يمكن رفعه وتبديله لكن المعني به تبديل مكان الآية بإنزال آية بدل ما لم ينزل فيكون ما لم ينزل كالمبدل بما أنزل قلنا هذا تعسف بارد فإن الذي لم ينزل كيف يكون مبدلا والبدل يستدعي مبدلا وكيف يطلق اسم التبديل على ابتداء الإنزال فهذا هوس وسخف
والدليل الثاني قوله تعالى { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } النساء 160 ولا معنى للنسخ إلا تحريم ما أحل وكذلك قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها }
____________________

(1/89)


البقرة 106 فإن قيل لعله أراد به التخصيص قلنا قد فرقنا بين التخصيص والنسخ فلا سبيل إلى تغيير اللفظ كيف والتخصيص لا يستدعي بدلا مثله أو خيرا منه وإنما هو بيان معنى الكلام
الدليل الثالث ما اشتهر في الشرع من نسخ تربص الوفاة حولا بأربعة أشهر وعشر ونسخ فرض تقديم الصدقة أمام مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى { فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } المجادلة 12 ومنه نسخ تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة بقوله تعالى { فول وجهك شطر المسجد الحرام } البقرة 144 وعلى الجملة اتفقت الأمة على إطلاق لفظ النسخ في الشرع فإن قيل معناه نسخ ما في اللوح المحفوظ إلى صحف الرسل والأنبياء وهو بمعنى نسخ الكتاب ونقله قلنا فإذا شرعنا منسوخ كشرع من قبلنا وهذا اللفظ كفر بالاتفاق كيف وقد نقلنا من قبلة إلى قبلة ومن عدة إلى عدة فهو تغيير وتبديل ورفع قطعا
الفصل الثالث في مسائل تتشعب عن النظر في حقيقة النسخ وهي ست مسائل مسألة ( هل ينسخ الأمر ) يجوز عندنا نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال خلافا للمعتزلة وصورته أن يقول الشارع في رمضان حجوا في هذه السنة ثم يقول قبل يوم عرفة لا تحجوا فقد نسخت عنكم الأمر أو يقول إذبح ولدك فيبادر إلى إحضار أسبابه فيقول قبل ذبحه لا تذبح فقد نسخت عنك الأمر لأن النسخ عندنا رفع للأمر أي لحكم الأمر ومدلوله وليس بيانا لخروج المنسوخ عن لفظ الأمر بخلاف التخصيص فلو قال صلوا أبدا فيجوز أن ينسخ بعد سنة وجوب في المستقبل لا بمعنى أنه لم يقصد باللفظ الأول الدلالة على جميع الأزمان ولكن بمعنى قطع حكم اللفظ بعد دوامه إذ كان دوامه مشروطا بعدم النسخ فكل أمر مضمن بشرط أن لا ينسخ فكأنه يقول صلوا أبدا ما لم أنهكم ولم أنسخ عنكم أمري وإذا كان كذلك عقل نسخ الحج قبل عرفة ونسخ الذبح قبل فعله لأن الأمر قبل التمكن حاصل وإن كان أمرا بشرط التمكن لأن الأمر بالشرط ثابت ولذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الإمتثال ولما لم تفهم المعتزلة هذا أنكروا ثبوت الأمر بالشرط كما سيأتي فساد مذهبهم في كتاب ( الأوامر ) وأقرب دليل على فساده أن المصلي ينوي الفرض وامتثال الأمر في ابتداء الصلاة وربما يموت في أثنائها وقبل تمام التمكن ولو مات قبل لم يتبين أنه لم يكن مأمورا بل نقول كان مأمورا بأمر مقيد بشرط والأمر المقيد بالشرط ثابت في الحال وجد الشرط أو لم يوجد وهم يقولون إذا لم يوجد الشرط علمنا انتفاء الأمر من أصله وإنا كنا نتوهم وجوبه فبان أنه لم يكن فهذه المسألة فرع لتلك المسألة ولذلك أحالت المعتزلة النسخ قبل التمكن وقالوا أيضا إنه يؤدي إلى أن يكون الشيء الواحد في وقت واحد على وجه واحد مأمورا منهيا حسنا قبيحا مكروها مرادا مصلحة مفسدة وجميع ما يتعلق بالحسن والقبح والصلاح والفساد قد أبطلناه ولكن يبقى لهم مسلكان المسلك الأول أن الشيء الواحد في وقت واحد كيف يكون منهيا عنه ومأمورا به على وجه واحد وفي الجواب عنه طريقتان الأولى إنا لا نسلم أنه منهي عنه
____________________

(1/90)


على الوجه الذي هو مأمور به بل على وجهين كما ينهى عن الصلاة مع الحدث ويؤمر بها مع الطهارة وينهى عن السجود للصنم ويؤمر بالسجود لله عز وجل لاختلاف الوجهين ثم اختلفوا في كيفية اختلاف الوجهين فقال قوم هو مأمور بشرط بقاء الأمر منهي عنه عند زوال الأمر فهما حالتان مختلفتان ومنهم من أبدل لفظ بقاء الأمر بانتفاء النهي أو بعدم المنع والألفاظ متقاربه وقال قوم هو مأمور بالفعل في الوقت المعين بشرط أن يختار الفعل والعزم وإنما ينهى عنه إذا علم أنه لا يختاره وجعلوا حصول ذلك في علم الله تعالى بشرط هذا النسخ وقال قوم يأمر بشرط كونه مصلحة وإنما يكون مصلحة مع دوام الأمر أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة وقال قوم إنما يأمر في وقت يكون الأمر مصلحة ثم يتغير الحال فيصير النهي مصلحة وأنما يأمر الله تعالى به مع علمه بأن إيجابه مصلحة مع دوام الأمر أما بعد النهي فيخرج عن كونه مصلحة وقال قوم إنما يأمر الله به مع العلم بأن الحال ستتغير ليعزم المكلف على فعله إن بقيت المصلحة في الفعل وكل هذا متقارب وهو ضعيف لأن الشرط ما يتصور أن يوجد وأن لا يوجد فإما ما لا بد منه فلا معنى لشرطيته والمأمور لا يقع مأمورا إلا عند دوام الأمر وعدم النهي فكيف يقول آمرك بشرط أن لا أنهاك فكأنه يقول آمرك بشرط أن آمرك وبشرط أن يتعلق الأمر بالمأمور وبشرط أن يكون الفعل المأمور به حادثا أو عرضا أو غير ذلك مما لا بد منه فهذا لا يصلح للشرطية وليس هذا كالصلاة مع الحدث والسجود للصنم فإن الانقسام يتطرق إليه ومن رغب في هذه الطريقة فأقرب العبارات أن يقول الأمر بالشيء قبل وقته يجوز أن يبقى حكمه على المأمور إلى وقته ويجوز أن يزال حكمه قبل وقته فيجوز أن يجعل بقاء حكمه شرطا في الأمر فيقال إفعل ما أمرتك به إن لم يزل حكم أمري عنك بالنهي عنه فإذا نهى عنه كان قد زال حكم الأمر فليس منهيا على الوجه الذي أمر به
الطريقة الثانية أنا لا نلتزم إظهار اختلاف الوجه لكن نقول يجوز أن يقول ما أمرناك أن تفعله على وجه فقد نهيناك عن فعله على ذلك الوجه ولا استحالة فيه إذ ليس المأمور حسنا في عينه أو لوصف هو عليه قبل الأمر به حتى يتناقض ذلك ولا المأمور مرادا حتى يتناقض أن يكون مرادا مكروها بل جميع ذلك من أصول المعتزلة وقد أبطلناها فإن قيل فإذا علم الله تعالى أنه سينهى عنه فما معنى أمره بالشيء الذي يعلم انتفاءه قطعا لعلمه بعواقب الأمور قلنا لا يصح ذلك إن كانت عاقبة أمره معلومة للمأمور أما إذا كان مجهولا عند المأمور معلوما عند الآمر أمكن الأمر لامتحانه بالعزم والاشتغال بالاستعداد المانع له من أنواع اللهو والفساد حتى يعرض بالعزم للثواب وبتركه للعقاب وربما يكون فيه لطف واستصلاح كما سيأتي تحقيقه في كتاب الأوامر والعجب من إنكار المعتزلة ثبوت الأمر بالشرط مع أنهم جوزوا الوعد من العالم بعواقب الأمور بالشرط وقالوا وعد الله على الطاعة ثوابا بشرط عدم ما يحبطها من الفسق والردة وعلى المعصية عقابا بشرط خلوها عما يكفرها من التوبة والله تعالى عالم بعاقبة أمر من يموت على الردة والتوبة ثم شرط ذلك في وعده فلم يستحل أن يشرط في أمره ونهيه وتكون شرطيته بالإضافة إلى العبد الجاهل بعاقبة الأمر فيقول أثيبك على
____________________

(1/91)


طاعتك ما لم تحبطها بالردة وهو عالم بأنه يحبط أم لا يحبط وكذلك يقول أمرتك بشرط البقاء والقدرة وبشرط أن لا أنسخ عنك
المسلك الثاني في إحالة النسخ قبل التمكن قولهم الأمر والنهي عندكم كلام الله تعالى القديم وكيف يكون الكلام الواحد أمرا بالشيء الواحد ونهيا عنه في وقت واحد بل كيف يكون الرافع والمرفوع واحدا والناسخ والمنسوخ كلام الله تعالى قلنا هذا إشارة إلى إشكالين أحدهما كيفية اتحاد كلام الله تعالى ولا يختص ذلك بهذه المسألة بل ذلك عندنا كقولهم العالمية حالة واحدة ينطوي فيها العلم بما لا نهاية من التفاصيل وإنما يحل إشكاله في الكلام
أما الثاني فهو أن كلامه واحد وهو أمر بالشيء ونهي عنه ولو علم المكلف ذلك دفعة واحدة لما تصور منه اعتقاد الوجوب والعزم على الأداء ولم يكن ذلك منه بأولى من اعتقاد التحريم والعزم على الترك فنقول كلام الله تعالى في نفسه واحد وهو بالإضافة إلى شيء أمر وبالإضافة إلى شيء خبر ولكنه إنما يتصور الامتحان به إذا سمع المكلف كليهما في وقتين ولذلك شرطنا التراخي في النسخ ولو سمع كليهما في وقت واحد لم يجز وأما جبريل عليه السلام فإنه يجوز أن يسمعه في وقت واحد إذ لم يكن هو مكلفا ثم يبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم في وقتين إن كان ذلك الرسول داخلا تحت التكليف فإن لم يكن فيبلغ في وقت واحد لكن يؤمر بتبيلغ الأمة في وقتين فيأمرهم مطلقا بالمسالمة وترك قتال الكفار ومطلقا باستقبال بيت المقدس في كل صلاة ثم ينهاهم عنها بعد ذلك فيقطع عنهم حكم الأمر المطلق كما يقطع حكم العقد بالفسخ ومن أصحابنا من قال الأمر لا يكون أمرا قبل بلوغ المأمور فلا يكون أمرا ونهيا في حالة واحدة بل في حالتين فهذا أيضا يقطع التناقض ويدفعه ثم الدليل القاطع من جهة السمع على جوازه قصة إبراهيم عليه السلام ونسخ ذبح ولده عنه قبل الفعل وقوله تعالى { وفديناه بذبح عظيم } الصافات 107 فقد أمر بفعل واحد ولم يقصر في البدار والامتثال ثم نسخ عنه وقد اعتاص هذا على القدرية حتى تعسفوا في تأويله وتحزبوا فرقا وطلبوا الخلاص من خمسة أوجه أحدها أن ذلك كان مناما لا أمرا
الثاني أنه كان أمرا لكن قصد به تكليفه العزم على الفعل لامتحان سره في صبره على العزم فالذبح لم يكن مأمورا به
الثالث أنه لم ينسخ الأمر لكن قلب الله تعالى عنقه نحاسا أو حديدا فلم ينقطع فانقطع التكليف لتعذره
الرابع المنازعة في المأمور وأن المأمور به كان هو الإضجاع والتل للجبين وإمرار السكين دون حقيقة الذبح
الخامس جحود النسخ وأنه ذبح امتثالا فالتأم واندمل والذاهبون إلى هذا التأويل اتفقوا على أن إسماعيل ليس بمذبوح واختلفوا في كون إبراهيم عليه السلام ذابحا فقال قوم هو ذابح للقطع والولد غير مذبوح لحصول الالتئام وقال قوم ذابح لا مذبوح له محال وكل ذلك تعسف وتكلف
أما الأول وهو كونه مناما فمنام الأنبياء جزء من النبوة وكانوا يعرفون أمر الله تعالى به فلقد كانت نبوة جماعة من الأنبياء عليهم السلام بمجرد المنام ويدل على فهمه الأمر قول ولده إفعل ما تؤمر ولو لم يؤمر لكان كاذبا وأنه لا يجوز قصد الذبح والتل للجبين بمنام لا أصل له وأنه سماه البلاء المبين
____________________

(1/92)


وأي بلاء في المنام وأي معنى للفداء
وأما الثاني وهو أنه كان مأمورا بالعزم اختبارا فهو محال لأن علام الغيوب لا يحتاج إلى الاختبار ولأن الاختبار إنما يحصل بالإيجاب فإن لم يكن إيجاب لم يحصل اختبار وقولهم العزم هو الواجب محال لأن العزم على ما ليس بواجب لا يجب بل هو تابع للمعزوم ولا يجب العزم ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه ولو لم يكن المعزوم عليه واجبا لكان إبراهيم عليه السلام أحق بمعرفته من القدرية كيف وقد قال { إني أرى في المنام أني أذبحك } الصافات 102 فقال له ولده { افعل ما تؤمر } الصافات 102 يعني الذبح وقوله تعالى { جاءكم } الصافات 103 استسلام لفعل الذبح لا للعزم
وأما الثالث وهو أن الإضجاع بمجرده هو المأمور به فهو محال إذ لا يسمى ذلك ذبحا ولا هو بلاء ولا يحتاج إلى الفداء بعد الامتثال
وأما الرابع وهو إنكار النسخ وأنه امتثل لكن انقلب عنقه حديدا ففات التمكن فانقطع التكليف فهذا لا يصح على أصولهم لأن الأمر بالمشروط لا يثبت عندهم بل إذا علم الله تعالى أنه يقلب عنقه حديدا فلا يكون آمرا بما يعلم امتناعه فلا يحتاج إلى الفداء فلا يكون بلاء في حقه
وأما الخامس وهو أنه فعل والتأم فهو محال لأن الفداء كيف يحتاج إليه بعد الالتئام ولو صح ذلك لاشتهر وكان ذلك من آياته الظاهرة ولم ينقل ذلك قط وإنما هو اختراع من القدرية فإن قيل أليس قد قال { قد صدقت الرؤيا } قلنا معناه أنك عملت في مقدماته عملا مصدقا بالرؤيا والتصديق غير التحقيق والعمل
مسألة ( هل نسخ بعض العبادة نسخ لها ) إذا نسخ بعض العبادة أو شرطها أو سنة من سننها كما لو أسقطت ركعتان من أربع أو أسقط شرط الطهارة فقد قال قائلون هو نسخ لبعض العبادة لا لأصلها قال قائلون هو نسخ لأصل العبادة وقال قائلون نسخ الشرط ليس نسخا للأصل أما نسخ البعض فهو نسخ للأصل ولم يسمحوا بتسمية الشرط بعضا ومنهم من أطلق ذلك وكشف الغطاء عندنا أن نقول إذا أوجب أربع ركعات ثم اقتصر على ركعتين فقد نسخ أصل العبادة لأن حقيقة النسخ الرفع والتبديل ولقد كان حكم الأربع الوجوب فنسخ وجوبها بالكلية والركعتان عبادة أخرى لا أنها بعض من الأربعة إذ لو كانت بعضا لكان من صلى الصبح أربعا فقد أتى بالواجب وزيادة كما لو صلى بتسليمتين وكما لو وجب عليه درهم فتصدق بدرهمين فإن قيل إذا رد الأربع إلى ركعة فقد كانت الركعة حكمها أنها غير مجزية والآن صارت مجزئة فهل هذا نسخ آخر مع نسخ الأربع قلنا كون الركعة غير مجزئة معناه أن وجودها كعدمها وهذا حكم أصلي عقلي ليس من الشرع والنسخ هو رفع ما ثبت بالشرع فإذا لم يرد بلفظ النسخ إلا الرفع كيف كان من غير نظر إلى المرفوع فهذا نسخ لكنا بينا في حد النسخ خلافه وأما إذا أسقطت الطهارة فقد نسخ وجوب الطهارة وبقيت الصلاة واجبة نعم كان حكم الصلاة بغير طهارة أن لا تجزىء والآن صارت مجزئة لكن هذا تغيير لحكم أصلي لا لحكم شرعي فإن الصلاة بغير طهارة لم تكن مجزئة لأنها لم تكن مأمورا بها شرعا فإن قيل كانت صحة الصلاة متعلقة بالطهارة فنسخ تعلق صحتها بها شرعا فهو نسخ متعلق بنفس العبادة فالصلاة مع الطهارة غير الصلاة مع الحدث كما أن الثلاث غير الأربع فليكن هذا نسخا لتلك
____________________

(1/93)


الصلاة أو إيجابا بغيرها قلنا لهذا تخيل قوم أن نسخ شرط العبادة كنسخ البعض ولا شك أنه لو أوجب الصلاة مع الحدث لكان نسخا لإيجابها مع الطهارة وكانت هذه عبادة أخرى أما إذا جوزت الصلاة كيف كانت مع الطهارة وغير الطهارة فقد كانت الصلاة بغير طهارة غير مجزئة لبقائها على الحكم الأصلي إذ لم يؤمر بها فالآن جعلت مجزئة وارتفع الحكم الأصلي أما صحة الصلاة وأنها كانت متعلقة بالطهارة فنسخ هذا التعلق نسخ لأصل العبادة أو نسخ لتعلق الصحة ولمعنى الشرطية هذا فيه نظر والخطب فيه يسير فليس يتعلق به كبر فائدة وأما إذا نسخت سنة من سننها لا يتعلق بها الأجزاء كالوقوف على يمين الإمام أو ستر الرأس فلا شك أن هذا لا يتعرض للعبادة بالنسخ فإذا تبعيض مقدار العبادة نسخ لأصل العبادة وتبعيض السنة لا يتعرض للعبادة وتبعيض الشرط فيه نظر وإذا حقق كان إلحاقه بتبعيض قدر العبادة أولى
مسألة ( هل الزيادة على النص نسخ أم لا ) الزيادة على النص نسخ عند قوم وليست بنسخ عند قوم والمختار عندنا التفصيل فنقول ينظر إلى تعلق الزيادة بالمزيد عليه والمراتب فيه ثلاثة الأولى أن يعلم أنه لا يتعلق به كما إذا أوجب الصلاة والصوم ثم أوجب الزكاة والحج لم يتغير حكم المزيد عليه إذ بقي وجوبه وأجزاؤه والنسخ هو رفع حكم وتبديل ولم يرتفع
الرتبة الثانية وهي في أقصى البعد عن الأولى أن تتصل الزيادة بالمزيد عليه اتصال اتحاد يرفع التعدد والانفصال كما لو زيد في الصبح ركعتان فهذا نسخ إذ كان حكم الركعتين الأجزاء والصحة وقد ارتفع نعم الأربعة استؤنف إيجابها ولم تكن واجبة وهذا ليس بنسخ إذ المرفوع هو الحكم الأصلي دون الشرعي فإن قيل اشتملت الأربعة على الثنتين وزيادة فهما قارتان لم ترفعا وضمت إليهما ركعتان قلنا النسخ رفع الحكم لا رفع المحكوم فيه فقد كان من حكم الركعتين الأجزاء والصحة وقد ارتفع كيف وقد بينا أنه ليست الأربعة ثلاثة وزيادة بل هي نوع آخر إذ لو كان لكانت الخمسة أربعة وزيادة فإذا أتى بالخمسة فينبغي أن تجزىء ولا صائر إليه
الرتبة الثالثة وهي بين المرتبتين زيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة في القذف وليس انفصال هذه الزيادة كانفصال الصوم عن الصلاة ولا اتصالها كاتصال الركعات وقد قال أبو حنيفة رحمه الله هو نسخ وليس بصحيح بل هو بالمنفصل أشبه لأن الثمانين نفي وجوبها وأجزاؤها عن نفسها ووجبت زيادة عليها مع بقائها فالمائة ثمانون وزيادة ولذلك لا ينتفي الأجزاء عن الثمانين بزيادة عليها بخلاف الصلاة وفائدة هذه المسألة جواز إثبات التغريب بخبر الواحد عندنا ومنعه عندهم لأن القرآن لا ينسخ بخبر الواحد فإن قيل قد كانت الثمانون حدا كاملا فنسخ اسم الكمال رفع لحكمه لا محالة قلنا هو رفع ولكن ليس ذلك حكما مقصودا شرعيا بل المقصود وجوده وأجزاؤه وقد بقي كما كان فلو أثبت مثبت كونه حكما مقصودا شرعيا لامتنع نسخه بخبر الواحد بل هو كما لو أوجب الشرع الصلاة فقط فمن أتى بها فقد أدى كلية ما أوجبه الله تعالى عليه بكماله فإذا أوجب الصوم خرجت الصلاة عن كونها كلية الواجب لكن ليس هذا حكما مقصودا فإن قيل هو نسخ لوجوب الاقتصار على الثمانين لأن إيجاب الثمانين مانع من الزيادة قلنا ليس
____________________

(1/94)


منع الزيادة بطريق المنطوق بل بطريق المفهوم ولا يقولون به ولا نقول به هاهنا ثم رفع المفهوم كتخصيص العموم فإنه رفع بعض مقتضى اللفظ فيجوز بخبر الواحد ثم أنما يستقيم هذا لو ثبت أنه ورد حكم المفهوم واستقر ثم ورد التغريب بعده وهذا لا سبيل إلى معرفته بل لعله ورد بيانا لإسقاط المفهوم متصلا به أو قريبا منه فإن قيل التفسيق ورد الشهادة يتعلق بالثمانين فإذا زيد عليها أزال تعلقه بها قلنا يتعلق التفسيق ورد الشهادة بالقذف لا بالحد ولو سلمنا لكان ذلك حكما تابعا للحد لا مقصودا وكان كحل النكاح بعد انقضاء أربعة أشهر وعشر من عدة الوفاة وتصرف الشرع في العدة بردها من حول إلى أربعة أشهر وعشر ليس تصرفا في إباحة النكاح بل في نفس العدة والنكاح تابع فإن قيل فلو أمر بالصلاة مطلقا ثم زيد شرط الطهارة فهل هو نسخ قلنا نعم لأنه كان حكم الأول أجزاء الصلاة بغير طهارة فنسخ أجزاؤها وأمر بصلاة مع طهارة فإن قيل فيلزمكم المصير إلى أجزاء طواف المحدث لأنه تعالى قال { وليطوفوا بالبيت العتيق } الحج 29 ولم يشرط الطهارة والشافعي رحمه الله منع الأجزاء لقوله صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت صلاة وهو خبر الواحد وأبو حنيفة رحمه الله قضى بأن هذا الخبر يؤثر في إيجاب الطهارة أما في إبطال الطواب وأجزائه وهو معلوم بالكتاب فلا قلنا لو استقر قصد العموم في الكتاب واقتضى أجزاء الطواف محدثا ومع الطهارة فاشتراط الطهارة رفع ونسخ ولا يجوز بخبر الواحد ولكن قوله تعالى { وليطوفوا بالبيت العتيق } الحج 29 يجوز أن يكون أمرا بأصل الطواف ويكون بيان شروطه موكولا إلى الرسول عليه السلام فيكون قوله بيانا وتخصيصا للعموم لا نسخا فإنه نقصان من النص لا زيادة على النص لأن عموم النص يقتضي أجزاء الطواف بطهارة وغير طهارة فأخرج خبر الواحد أحد القسمين من لفظ القرآن فهو نقصان من النص لا زيادة عليه ويحتمل أن يكون رفعا إن استقر العموم قطعا وبيانا إن لم يستقر ولا معنى لدعوى استقراره بالتحكم وهذا نظير قوله تعالى { فتحرير رقبة } النساء 92 فإنه يعم المؤمنة وغير المؤمنة فيجوز تخصيص العموم إذ قد يراد بالآية ذكر أصل الكفارة ويكون أمرا بأصل الكفارة دون قيودها وشروطها فلو استقر العموم وحصل القطع بكون العموم مرادا لكان نسخه ورفعه بالقياس وخبر الواحد ممتنعا فإن قيل فما قولكم في تجويز المسح على الخفين هل هو نسخ لغسل الرجلين قلنا ليس نسخا لأجزائه ولا لوجوبه لكنه نسخ لتضييق وجوبه وتعينه وجاعل إياه أحد الواجبين ويجوز أن يثبت بخبر الواحد فإن قيل فالكتاب أوجب غسل الرجلين على التضييق قلنا قد بقي تضييقه في حق من لم يلبس خفا على الطهارة وأخرج من عمومه من لبس الخف على الطهارة وذلك في ثلاثة أيام أو يوم وليلة فإن قيل فقوله تعالى { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } البقرة 282 الآية توجب إيقاف الحكم على شاهدين فإذا حكم بشاهد ويمين بخبر الواحد فقد رفع إيقاف الحكم فهو نسخ قلنا ليس كذلك فإن الآية لا تقتضي إلا كون الشاهدين حجة وجواز الحكم بقولهما أما امتناع الحكم بحجة أخرى فليس من الآية بل هو كالحكم بالإقرار وذكر حجة واحدة لا يمنع وجود أخرى وقولهم ظاهر
____________________

(1/95)


الآية أن لا حجة سواه فليس هذا ظاهر منطوقه ولا حجة عندهم بالمفهوم ولو كان فرفع المفهوم رفع بعض مقتضى اللفظ وكل ذلك لو سلم استقرار المفهوم وثباته وقد ورد خبر الشاهد واليمين بعده وكل ذلك غير مسلم
مسألة ( إثبات بدل غير المنسوخ ) ليس من شرط النسخ إثبات بدل غير المنسوخ وقال قوم يمتنع ذلك فنقول يمتنع ذلك عقلا أو سمعا ولا يمتنع عقلا جوازه إذ لو امتنع لكان الإمتناع لصورته أو لمخالفته المصلحة والحكمة ولا يمتنع لصورته إذ يقول قد أوجبت عليك القتال ونسخته عنك ورددتك إلى ما كان قبل من الحكم الأصلي ولا يمتنع للمصلحة فإن الشرع لا ينبني عليها وإن ابتنى فلا يبعد أن تكون المصلحة في رفعه من غير إثبات بدل وإن منعوا جوازه سمعا فهو تحكم بل نسخ النهي عن إدخار لحوم الأضاحي وتقدمة الصدقة أمام المناجاة ولا بدل لها وإن نسخت القبلة إلى بدل ووصية الأقربين إلى بدل وغير ذلك وحقيقة النسخ هو الرفع فقط أما قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } البقرة 106 أن تمسكوا به فالجواب من أوجه الأول أن هذا لا يمنع الجواز وإن منع الوقوع عند من يقول بصيغة العموم ومن لا يقول بها فلا يلزمه أصلا ومن قال بها فلا يلزمه من هذا أنه لا يجوز في جميع المواضع إلا ببدل بل يتطرق التخصيص إليه بدليل الأضاحي والصدقة أمام المناجاة ثم ظاهره أنه أراد أن نسخ آية بآية أخرى مثلها لا يتضمن الناسخ إلا رفع المنسوخ أو يتضمن مع ذلك غيره فكل ذلك محتمل
مسألة ( الأخف والأثقل في النسخ ) قال قوم يجوز النسخ بالأخف ولا يجوز بالأثقل فنقول امتناع النسخ بالأثقل عرفتموه عقلا أو شرعا ولا يستحيل عقلا لأنه لا يمتنع لذاته ولا للاستصلاح فإنا ننكره وإن قلنا به فلم يستحيل أن تكون المصلحة في التدريج والترقي من الأخف إلى الأثقل كما كانت المصلحة في ابتداء التكليف ورفع الحكم الأصلي فإن قيل إن الله تعالى رؤوف رحيم بعباده ولا يليق به التشديد قلنا فينبغي أن لا يليق به ابتداء التكليف ولا تسليط المرض والفقر وأنواع العذاب على الخلق فإن قالوا إنه يمتنع سمعا لقوله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } البقرة 185 ولقوله تعالى { يريد الله أن يخفف عنكم } النساء 28 قلنا فينبغي أن يتركهم وإباحة الفعل ففيه اليسر ثم ينبغي أن لا ينسخ بالمثل لأنه لا يسر فيه إذ اليسر في رفعه إلى غير بدل أو بالأخف وهذه الآيات وردت في صور خاصة أريد بها التخفيف وليس فيه منع إرادة التثقيل والتشديد فإن قيل فقد قال { ما ننسخ من آية أو ننسها } البقرة 106 الآية وهذا خير عام والخير ما هو خير لنا وإلا فالقرآن خير كله والخير لنا ما هو أخف علينا قلنا لا بل الخير ما هو أجزل ثوابا وأصلح لنا في المآل وإن كان أثقل في الحال فإن قيل لا يمتنع ذلك عقلا بل سمعا لأنه لم يوجد في الشرع نسخ بالأثقل قلنا ليس كذلك إذ أمر الصحابة أولا بترك القتال والأعراض ثم بنصب القتال مع التشديد بثبات الواحد للعشرة وكذلك نسخ التخيير بين الصوم والفدية بالإطعام بتعيين الصيام وهو تضييق وحرم الخمر ونكاح المتعة والحمر الأهلية بعد إطلاقها ونسخ جواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال
____________________

(1/96)


ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر
مسألة ( هل هناك نسخ في حق من لم يبلغه الخبر أم لا ) اختلفوا في النسخ في حق من لم يبلغه الخبر فقال قوم النسخ حصل في حقه وإن كان جاهلا به وقال قوم ما لم يبلغه لا يكون نسخا في حقه والمختار أن للنسخ حقيقة وهو ارتفاع الحكم السابق ونتيجة وهو وجوب القضاء وانتفاء الأجزاء بالعمل السابق أما حقيقته فلا يثبت في حق من لم يبلغه وهو رفع الحكم لأن من أمر باستقبال بيت المقدس فإذا نزل النسخ بمكة لم يسقط الأمر عمن هو باليمن في الحال بل هو مأمور بالتمسك بالأمر السابق ولو ترك لعصى وإن بان أنه كان منسوخا ولا يلزمه استقبال الكعبة بل لو استقبلها لعصى وهذا لا يتجه فيه خلاف وأما لزوم القضاء للصلاة إذا عرف النسخ فيعرف ذلك بدليل نص أو قياس وربما يجب القضاء حيث لا يجب الإداء كما في الحائض لو صامت عصت ويجب عليها القضاء فكذلك يجوز أن يقال هذا لو استقبل الكعبة عصى ويلزمه استقبالها في القضاء وكما نقول في النائم والمغمى عليه إذا تيقظ وأفاق يلزمهما قضاء ما لم يكن واجبا لأن من لا يفهم لا يخاطب فإن قيل إذا علم النسخ ترك تلك القبلة بالنسخ أو بعلمه بالنسخ والعلم لا تأثير له فدل أن الحكم انقطع بنزول الناسخ لكنه جاهل به وهو مخطىء فيه لكنه معذور قلنا الناسخ هو الرافع لكن العلم شرط ويحال عند وجود الشرط على الناسخ ولكن لا نسخ قبل وجود الشرط لأن الناسخ خطاب ولا يصير خطابا في حق من لم يبلغه وقولهم أنه مخطىء محال لأن اسم الخطأ يطلق على من طلب شيئا فلم يصب أو على من وجب عليه الطلب فقصر ولا يتحقق شيء منه في محل النزاع
الباب الثاني في أركان النسخ وشروطه ويشتمل عى تمهيد لمجامع الأركان والشروط وعلى مسائل تتشعب من أحكام الناسخ والمنسوخ
أما التمهيد فاعلم أن أركان النسخ أربعة النسخ والناسخ والمنسوخ والمنسوخ عنه فإذا كان النسخ حقيقته رفع الحكم فالناسخ هو الله تعالى فإنه الرافع للحكم والمنسوخ هو الحكم المرفوع والمنسوخ عنه هو المتعبد المكلف والنسخ قوله الدال على رفع الحكم الثابت وقد يسمى الدليل ناسخا على سبيل المجاز فيقال هذه الآية ناسخة لتلك وقد يسمى الحكم ناسخا مجازا فيقال صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء والحقيقة هو الأول لأن النسخ هو الرفع والله تعالى هو الرافع بنصب الدليل على الارتفاع وبقوله الدال عليه وأما مجامع شروطه فالشروط أربعة الأول أن يكون المنسوخ حكما شرعيا لا عقليا أصليا كالبراءة الأصلية التي ارتفعت بإيجاب العبادات
الثاني أن يكون النسخ بخطاب فارتفاع الحكم بموت المكلف ليس نسخا إذ ليس المزيل خطابا رافعا لحكم خطاب سابق ولكنه قد قيل أولا الحكم عليك ما دمت حيا فوضع الحكم قاصر على الحياة فلا يحتاج إلى الرفع
الثالث أن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت
____________________

(1/97)


يقتضي دخوله زوال الحكم كقوله تعالى { ثم أتموا الصيام إلى الليل } البقرة 187 الرابع أن يكون الخطاب الناسخ متراخيا لا كقوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن } البقرة 222 وقوله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } التوبة 29
وليس يشترط فيه تسعة أمور الأول أن يكون رافعا للمثل بالمثل بل أن يكون رافعا فقط
الثاني أن لا يشترط ورود النسخ بعد دخول وقت المنسوخ بل يجوز قبل دخول وقته
الثالث أن لا يتشرط أن يكون المنسوخ مما يدخله الاستثناء والتخصيص بل يجوز ورود النسخ على الأمر بفعل واحد في وقت واحد
الرابع أن لا يشترط أن يكون نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة فلا تشترط الجنسية بل يكفي أن يكون مما يصح النسخ به
الخامس أن لا يشترط أن يكونا نصين قاطعين إذ يجوز نسخ خبر الواحد بخبر الواحد وبالمتواتر وإن كان لا يجوز نسخ المتواتر بخبر الواحد
السادس لا يشترط أن يكون الناسخ منقولا بمثل لفظ منسوخ بل أن يكون ثابتا بأي طريق كان فإن التوجه إلى بيت المقدس لم ينقل إلينا بلفظ القرآن والسنة وناسخه نص صريح في القرآن وكذلك لا يمتنع نسخ الحكم المنطوق به باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وقياسه وإن لم يكن ثابتا بلفظ ذي صيغة وصورة يجب نقلها
السابع لا يشترط أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ حتى لا ينسخ الأمر إلا بالنهي ولا النهي إلا بالأمر بل يجوز أن ينسخ كلاهما بالإباحة وأن ينسخ الواجب المضيق بالموسع وإنما يشترط أن يكون الناسخ رافعا حكما من المنسوخ كيف كان
الثامن لا يشترط كونهما ثابتين بالنص بل لو كان بلحن القول وفحواه وظاهره وكيف كان بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن آية وصية الأقارب نسخت بقوله إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث مع أن الجمع بين الوصية والميراث ممكن فليسا متنافيين تنافيا قاطعا
التاسع لا يشترط نسخ الحكم ببدل أو بما هو أخف بل يجوز بالمثل والأثقل وبغير بدل كما سبق
ولنذر الآن مسائل تتشعب عن النظر في ركني المنسوخ والناسخ وهي مسألتان في المنسوخ وأربع مسائل في المنسوخ به
مسألة ( هل الحكم الشرعي قابل للنسخ أم لا ) ما من حكم شرعي إلا وهو قابل للنسخ خلافا للمعتزلة فإنهم قالوا من الأفعال مالها صفات نفسية تقتضي حسنها وقبحها فلا يمكن نسخها مثل معرفة الله تعالى والعدل وشكر المنعم فلا يجوز نسخ وجوبه ومثل الكفر والظلم والكذب فلا يجوز نسخ تحريمه وبنوا هذا على تحسين العقل وتقبيحه وعلى وجوب الأصلح على الله تعالى وحجروا بسببه على الله تعالى في الأمر والنهي وربما بنوا هذا على صحة إسلام الصبي وأن وجوبه بالعقل وإن استثناء الصبي عنه غير ممكن وهذه أصول أبطلناها وبينا أنه لا يجب أصل التكليف على الله تعالى كان فيه صلاح العباد أو لم يكن نعم بعد أن كلفهم لا يمكن أن ينسخ جميع التكاليف إذ لا يعرف النسخ من لا يعرف الناسخ وهو الله عز وجل ويجب على المكلف معرفة النسخ والناسخ والدليل المنصوب عليه فيبقى هذا التكليف بالضرورة ونسلم أيضا أنه لا يجوز أن يكلفهم أن لا يعرفوه وأن يحرم عليهم معرفته لأن قوله أكلفك أن لا تعرفني
____________________

(1/98)


يتضمن المعرفة أي إعرفني لأني كلفتك أن لا تعرفني وذلك محال فيمكتنع التكليف فيه عند من يمنع تكليف المحال وكذلك لا يجوز أن يكلفه معرفة شيء من الحوادث على خلاف ما هو به لأنه محال لا يصح فعله ولا تركه
مسألة ( نسخ الحكم أو التلاوة أو نسخهما معا ) الآية إذا تضمنت حكما يجوز نسخ تلاوتها دون حكمها ونسخ حكمها دون تلاوتها ونسخهما جميعا وظن قوم استحالة ذلك فنقول هو جائز عقلا وواقع شرعا أما جوازه عقلا فإن التلاوة وكتبتها في القرآن وانعقاد الصلاة بها كل ذلك حكمها كما أن التحريم والتحليل المفهوم من لفظها حكمها وكل حكم فهو قابل للنسخ وهذا حكم فهو إذن قابل للنسخ وقد قال قوم نسخ التلاوة أصلا ممتنع لأنه لو كان المراد منها الحكم لذكر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزله الله تعالى عليه إلا ليتلى ويثاب عليه فكيف يرفع قلنا وأي استحالة في أن يكون المقصود مجرد الحكم دون التلاوة لكن أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ معين فإن قيل فإن جاز نسخها فلينسخ الحكم معها لأن الحكم تبع للتلاوة فكيف يبقى الفرع مع نسخ الأصل قلنا لا بل التلاوة حكم وانعقاد الصلاة بها حكم آخر فليس بأصل وإنما الأصل دلالتها وليس في نسخ تلاوتها والحكم بأن الصلاة لا تنعقد بها نسخ لدلالتها فكم من دليل لا يتلى ولا تنعقد به صلاة وهذه الآية دليل لنزولها وورودها لا لكونها متلوة في القرآن والنسخ لا يرفع ورودها ونزولها ولا يجعلها كأنها غير واردة بل يلحقها بالوارد الذي لا يتلى كيف ويجوز أن ينعدم الدليل ويبقى المدلول فإن الدليل علامة لا علة فإذا دل فلا ضرر في انعدامه كيف والموجب للحكم كلام الله تعالى القديم ولا ينعدم ولا يتصور رفعه ونسخه فإذا قلنا الآية منسوخة أردنا به انقطاع تعلقها عن العبد وارتفاع مدلولها وحكمها لا ارتفاع ذاتها فإن قيل نسخ الحكم مع بقاء التلاوة متناقض لأنه رفع للمدلول مع بقاء الدليل قلنا إنما يكون دليلا عند انفكاكه عما يرفع حكمه فإذا جاء خطاب ناسخ لحكمه زال شرط دلالته ثم الذي يدل على وقوعه سمعا قوله تعالى { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } البقرة 184 الآية وقد بقيت تلاوتها ونسخ حكمها بتعيين الصوم والوصية للوالدين ووقربين متلوة في القرآن وحكمها منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث ونسخ تقديم الصدقة أمام المناجاة والتلاوة باقية ونسخ التربص حولا عن المتوفى عنها زوجها والحبس والأذى عن اللاتي يأتين الفاحشة بالجلد والرجم مع بقاء التلاوة وأما نسخ التلاوة فقد تظاهرت الأخبار بنسخ تلاوة آية الرجم مع بقاء حكمها وهي قوله تعالى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم واشتهر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أنزلت عشر رضعات من محرمات فنسخن بخمس وليس ذلك في الكتاب
مسألة ( أنواع النسخ ) يجوز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن لأن الكل من عند الله عز وجل فما المانع منه ولم يعتبر التجانس مع أن العقل لا يحيله كيف وقد دل السمع على وقوعه إذ التوجه إلى بيت المقدس ليس في القرآن وهو في السنة وناسخه في القرآن وكذلك قوله تعالى { فالآن باشروهن } البقرة 370 نسخ لتحريم المباشرة وليس التحريم في القرآن ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكان عاشوراء ثابتا بالسنة وصلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت في السنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال حتى قال عليه السلام يوم الخندق وقد أخر الصلاة حشا الله قبورهم نارا لحبسهم له عن الصلاة وكذلك قوله تعالى { فلا ترجعوهن إلى الكفار }
____________________

(1/99)


الممتحنة 10 نسخ لما قرره عليه السلام من العهد والصلح وأما نسخ القرآن بالسنة فنسخ الوصية للوالدين والأقربين بقوله صلى الله عليه وسلم ألا لا وصية لوارث لأن آية الميراث لا تمنع الوصية للوالدين والأقربين إذ الجمع ممكن وكذلك قال صلى الله عليه وسلم قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فهو ناسخ لإمساكهن في البيوت وهذا فيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم بين أن آية الميراث نسخت آية الوصية ولم ينسخها هو بنفسه صلى الله عليه وسلم وبين أن الله تعالى جعل لهن سبيلا وكان قد وعد به فقال { أو يجعل الله لهن سبيلا } النساء 15 فإن قيل قال الشافعي رحمه الله لا يجوز نسخ السنة بالقرآن كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة وهو أجل من أن لا يعرف هذه الوجوه في النسخ فكأنه يقول إنما تلتغي السنة بالسنة إذ يرفع النبي صلى الله عليه وسلم سنته بسنته ويكون هو مبينا لكلام نفسه وللقرآن ولا يكون القرآن مبينا للسنة وحيث لا يصادف ذلك فلأنه لم ينقل وإلا فلم يقع النسخ إلا كذلك قلنا هذا إن كان في جوازه عقل فلا يخفى أنه يفهم من القرآن وجوب التحول إلى الكعبة وإن كان التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالسنة وكذلك عكسه ممكن وإن كان يقول لم يقع هذا فقد نقلنا وقوعه ولا حاجة إلى تقدير سنة خافية مندرسة إذ لا ضرورة في هذا التقدير والحكم بأن ذلك لم يقع أصلا تحكم محض وإن قال الأكثر كان ذلك فربما لا ينازع فيه احتجوا بقوله تعالى { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } يونس 15 فدل أنه لا ينسخ القرآن بالسنة قلنا لا خلاف في أنه لا ينسخ من تلقاء نفسه بل بوحي يوحى إليه لكن لا يكون بنظم القرآن وإن جوزنا النسخ في الاجتهاد فالإذن في الاجتهاد يكون من الله عز وجل والحقيقة أن الناسخ هو الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم والمقصود أنه ليس من شرطه أن ينسخ حكم القرآن بقرآن بل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بوحي ليس بقرآن وكلام الله تعالى واحد هو الناسخ باعتبار والمنسوخ باعتبار وليس له كلامان أحدهما قرآن والآخر ليس بقرآن وإنما الاختلاف في العبارات فربما دل على كلامه بلفظ منظوم يأمرنا بتلاوته فيسمى قرآنا وربما دل بغير لفظ متلوفيسمى سنة والكل مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو الله تعالى في كل حال على أنهم طالبوه بقرآن مثل هذا القرآن فقال لا أقدر عليه من تلقاء نفسي وما طالبوه بحكم غير ذلك فأين هذا من نسخ القرآن بالسنة وامتناعه احتجوا بقوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } يونس 15 وبين أن الآية لا تنسخ إلا بمثلها أو بخير منها فالسنة لا تكون مثلها ثم تمدح وقال { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } البقرة 106 بين أنه لا يقدر عليه غيره قلنا قد حققنا أن الناسخ هو
____________________

(1/100)


الله تعالى وأنه المظهر له على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم المفهم إيانا بواسطته نسخ كتابه ولا يقدر عليه غيره ثم لو نسخ الله تعالى آية على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم أتى بآية أخرى مثلها كان قد حقق وعده فلم يشترط أن تكون الآية الأخرى هي الناسخة للأولى ثم نقول ليس المراد الإتيان بقرآن آخر خير منها لأن القرآن لا يوصف بكون بعضه خيرا من البعض كيفما قدر قديما أو مخلوقا بل معناه أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل لكونه أخف منه أو لكونه أجزل ثوابا
مسألة ( لا ينسخ الإجماع ) الإجماع لا ينسخ به إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي وما نسخ فالإجماع بالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في زمان نزول الوحي من كتاب أو سنة أما السنة فينسخ المتواتر منها بالمتواتر والآحاد بالآحاد أما نسخ المتواتر منها بالآحاد فاختلفوا في وقوعه سمعا وجوازه عقلا فقال قوم وقع ذلك سمعا فإن أهل مسجد القباء تحولوا إلى الكعبة بقول واحد أخبرهم وكان ثابتا بطريق قاطع فقلبوا نسخه عن الواحد والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد به ووقوعه سمعا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قصة قباء وبدليل أنه كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا ولكن ذلك ممتنع بعد وفاته بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف والعمل بخبر الواحد تلقى من الصحابة وذلك فيما لا يرفع قاطعا بل ذهب الخوارج إلى منع نسخ القرآن بالخبر المتواتر حتى أنهم قالوا رجم ماعز وإن كان متواترا لا يصلح لنسخ القرآن وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز نسخ القرآن بالسنة وإن تواترت وليس ذلك بمحال لأنه يصح أن يقال تعبدناكم بالنسخ بخبر الواحد في زمان نزول الوحي وحرمنا ذلك بعده فإن قيل كيف يجوز ذلك عقلا وهو رفع القاطع بالظن وأما حديث قباء فلعله انضم إليه من القرائن ما أورث العلم قلنا تقدير قرائن معرفة توجب إبطال أخبار الآحاد وحمل عمل الصحابة على المعرفة بالقرائن ولا سبيل إلى وضع ما لم ينقل وأما قولهم إنه رفع للقاطع بالظن فباطل إذ لو كان كذلك لقطعنا بكذب الناقل ولسنا نقطع به بل نجوز صدقه وإنما هو مقطوع به بشرط أن لا يرد خبر نسخه كما أن البراءة الأصلية مقطوع بها وترتفع بخبر الواحد لأنها تفيد القطع بشرط عدم خبر الواحد فإن قيل بم تنكرون على من يقطع بكونه كاذبا لأن الرسول عليه السلام أشاع الحكم فلو ثبت نسخه للزمه الإشاعة قلنا ولم يستحيل أن يشيع الحكم ويكل النسخ إلى الآحاد كما يشيع العموم وبكل التخصيص إلى المخصص
مسألة ( لا يصح نسخ المتواتر بالقياس ) لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد على اختلاف مراتبه جليا كان أو خفيا هذا ما قطع به الجمهور إلا شذوذا منهم قالوا ما جاز التخصيص به جاز النسخ به وهو منقوض بدليل العقل وبالإجماع وبخبر الواحد فالتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ ثم كيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ رفع والبيان تقرير والرفع إبطال وقال بعض أصحاب الشافعي يجوز النسخ بالقياس الجلي ونحن نقول لفظ الجلي مبهم فإن أرادوا المقطوع به فهو صحيح وأما المظنون فلا وما
____________________

(1/101)


يتوهم القطع به على ثلاث مراتب الأولى ما يجري مجرى النص وأوضح منه كقوله تعالى { فلا تقل لهما أف } الإسراء 23 فإن تحريم الضرب مدرك منه قطعا فلو كان ورد نص بإباحة الضرب لكان هذا ناسخا لأنه أظهر من المنطوق به وفي درجته قوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الزلزلة 7 الآية في أن ما هو فوق الذرة كذلك وكذلك قوله تعالى { وورثه أبواه فلأمه الثلث } النساء 11 في أن للأب الثلثين
الرتبة الثانية لو ورد نص بأن العتق لا يسري في الأمة ثم ورد قوله صلى الله عليه وسلم من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي لقضينا بسراية عتق الأمة قياسا على العبد لأنه مقطوع به إذ علم قطعا قصد الشارع إلى المملوك لكونه مملوكا
الرتبة الثالثة أن يرد النص مثلا بإباحة النبيذ ثم يقول الشارع حرمت الخمر لشدتها فينسخ إباحة النبيد بقياسه على الخمر إن تعبدنا بالقياس وقال قوم وإن لم نتعبد بالقياس نسخنا أيضا إذ لا فرق بين قوله حرمت كل منتبذ وبين قوله حرمت الخمر لشدتها ولذلك أقر النظام بالعلة المنصوصة وإن كان منكرا لأصل القياس ولنبين أنه إن لم نتعبد بالقياس فقوله حرمت الخمر عليكم لشدتها ليس قاطعا في تحريم النبيذ بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة كما تكون العلة في الرجم زنا المحصن خاصة والمقصود أن القاطع لا يرفع بالظن بل بالقاطع فإن قيل استحالة رفعه بالمظنون عقلي أو سمعي قلنا الصحيح أنه سمعي ولا يستحيل عقلا أن يقال تعبدناكم بنسخ النص بالقياس على نص آخر نعم يستحيل أن نتعبد بنسخ النص بقياس مستنبط من عين ذلك النص لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير هو مناقضا لنفسه فيكون واجب العمل به وساقط العمل به فإن قيل فما الدليل على امتناعه سمعا قلنا يدل عليه الإجماع على بطلان كل قياس مخالف للنص وقول معاذ رضي الله عنه اجتهد رأيي بعد فقد النص وتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم له وإجماع الصحابة على ترك القياس بأخبار الآحاد فكيف بالنص القاطع المتواتر واشتهار قولهم عند سماع خبر الواحد لولا هذا لقضينا برأينا ولأن دلالة النص قاطع في المنصوص ودلالة الأصل على الفرع مظنون فكيف يترك الأقوى بالأضعف وهذا مستند الصحابة في إجماعهم على ترك القياس بالنص فإن قيل إذا تناقض قاطعان وأشكل المتأخر فهل يثبت تأخر أحدهما بقول الواحد حتى يكون هو الناسخ قلنا يحتمل أن يقال ذلك لأنه إذا ثبت الإحصان بقول اثنين مع أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة دل على أنه لا يحتاط للشرط بما يحتاط به للمشروط ويحتمل أن يقال النسخ إذا كان بالتأخير والمنسوخ قاطع فلا يكفي فيه قول الواحد فهذا في محل الاجتهاد والأظهر قبوله لأن أحد النصين منسوخ قطعا وإنما هذا مطلوب قبوله للتعيين
مسألة ( نسخ الحكم بقول الصحابي ) لا ينسخ حكم بقول الصحابي نسخ حكم كذا ما لم يقل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول نسخت حكم كذا فإذا قال ذلك نظر في الحكم إن كان ثابتا بخبر الواحد صار منسوخا بقوله وإن كان قاطعا فلا أما قوله نسخ حكم كذا فلا يقبل قطعا فلعله ظن ما ليس ينسخ نسخا فقد ظن أن الزيادة على النص نسخ وكذلك في
____________________

(1/102)


مسائل وقال قوم إن ذكر لنا ما هو الناسخ عنده لم نقلده لكن نظرنا فيه وإن أطلق فنحمله على أنه لم يطلق إلا عن معرفة قطعية وهذا فاسد بل الصحيح أنه إن ذكر الناسخ تأملنا فيه وقضينا برأنيا وإن لم يذكر لم نقلده وجوزنا أن يقول ذلك عن اجتهاد ينفرد به هذا ما ذكره القاضي رحمه الله والأصح عندنا أن نقبل كقول الصحابي أمر بكذا ونهى عن كذا فإن ذلك يقبل كما سنذكره في كتاب الأخبار ولا فرق بين اللفظين فإن قيل قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أحلت له النساء اللاتي حظرن عليه بقوله تعالى { إنا أحللنا لك أزواجك } الأحزاب 50 فقبل ذلك منها قلنا ليس ذلك مرضيا عندنا ومن قبل فإنما قبل ذلك للدليل الناسخ ورآه صالحا للنسخ ولم يقلد مذهبها
خاتمة الكتاب فيما يعرف به تاريخ الناسخ اعلم أنه إذا تناقض نصان فالناسخ هوالمتأخر ولا يعرف تأخره بدليل العقل ولا بقياس الشرع بل بمجرد النقل وذلك بطرق الأول أن يكون في اللفظ ما يدل عليه كقوله عليه السلام كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فالآن ادخروها وكقوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها
الثاني أن تجمع الأمة في حكم على أنه المنسوخ وأن ناسخه الآخر
الثالث أن يذكر الراوي التاريخ مثل أن يقول سمعت عام الخندق أو عام الفتح وكان المنسوخ معلوما قبله ولا فرق بين أن يروي الناسخ والمنسوخ راو واحد أو راويان ولا يثبت التاريخ بطرق الأول أن يقول الصحابي كان الحكم علينا كذا ثم نسخ لأنه ربما قاله عن اجتهاد
الثاني أن يكون أحدهما مثبتا في المصحف بعد الآخر لأن السور والآيات ليس إثباتها على ترتيب النزول بل ربما قدم المتأخر
الثالث أن يكون راويه من أحداث الصحابة فقد ينقل الصبي عمن تقدمت صحبته وقد ينقل الأكابر عن الأصاغر وبعكسه
الرابع أن يكون الراوي أسلم عام الفتح ولم يقل إني سمعت عام الفتح إذ لعله سمع في حاله كفره ثم روى بعد الإسلام أو سمع ممن سبق بالإسلام
الخامس أن يكون الراوي قد انقطعت صحبته فربما يظن أن حديثه مقدم على حديث من بقيت صحبته وليس من ضرورة من تأخرت صحبته أن يكون حديثه متأخرا عن وقت انقطاع صحبة غيره
السادس أن يكون أحد الخبرين على وفق قضية العقل والبراءة الأصلية فربما يظن تقدمه ولا يلزم ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم لا وضوء مما مسته النار ولا يلزم أن يكون متقدما على إيجاب الوضوء مما مست النار إذ يحتمل أنه أوجب ثم نسخ والله أعلم
وقد فرغنا من الأصل الأول من الأصول الأربعة وهو الكتاب ويتلوه القول في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
الأصل الثاني من أصول الأدلة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة لدلالة المعجزة على صدقه ولأمر الله تعالى إيانا باتباعه ولأنه { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } النجم 3 لكن بعض الوحي يتلى فيسمى كتابا وبعضه لا يتلى وهو السنة
وقول لسول الله صلى الله عليه وسلم حجة على من
____________________

(1/103)


سمعه شفاعا فأما نحن فلا يبلغنا قوله إلا على لسان المخبرين إما على سبيل التواتر وإما بطريق الآحاد فلذلك اشتمل الكلام في هذا الأصل على مقدمة وقسمين قسم في أخبار التواتر وقسم في أخبار الآحاد ويشتمل كل قسم على أبواب أما المقدمة ففي بيان ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوعلى خمس مراتب الأولى وهي أقواها أن يقول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا أو أخبرني أو حدثني أو شافهني فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال وهو الأصل في الرواية والتبليغ قال صلى الله عليه وسلم نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث
الثانية أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أخبر أو أخبر أو حدث فهذا ظاهره النقل إذا صدر من الصحابي وليس نصا صريحا إذ قد يقول الواحد منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه فلا يستحيل أن يقول الصحابي ذلك اعتمادا على ما بلغه تواترا أو بلغه على لسان من يثق به ودليل الاحتمال ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من أصبح جنبا فلا صوم له فلما استكشف قال حدثني به الفضل بن عباس فأرسل الخبر أولا ولم يصرح وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه وسلم إنما الربا في النسيئة فلما روجع فيه أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد إلا أن هذا وإن كان محتملا فهو بعيد بل الظاهر أن الصحابي إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يقوله إلا وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف من لم يعاصر إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قرينة حاله تعرف أنه لم يسمع ولا يوهم إطلاقه السماع بخلاف الصحابي فإنه إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوهم السماع فلا يقدم عليه إلا عن سماع هذا هو الظاهر وجميع الأخبار إنما نقلت إلينا كذلك إذ يقال قال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفهم من ذلك إلا السماع
الثالثة أن يقول الصحابي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى عن كذا فهذا يتطرق إليه احتمالان أحدهما في سماعه كما في قوله قال
والثاني في الأمر إذ ربما يرى ما ليس بأمر أمرا فقد اختلف الناس في أن قوله إفعل هو للأمر فلأجل هذا قال بعض أهل الظاهر لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ والصحيح أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم تحقيقا أنه أمر بذلك وأن يسمعه يقول أمرتكم بكذا أو يقول إفعلوا وينضم إليه من القرائن ما يعرفه كونه أمرا ويدرك ضرورة قصده إلى الأمر أما احتمال بنائه الأمر على الغلط والوهم فلا نطرقه إلى الصحابة بغير ضرورة بل يحمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة ما أمكن ولهذا لو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ولكن شرط شرطا ووقت وقتا فيلزمنا اتباعه ولا يجوز أن نقول لعله غلط في فهم الشرط والتأقيت ورأى ما ليس بشرط شرطا ولهذا يجب أن يقبل قول الصحابي نسخ حكم كذا وإلا فلا فرق بين قوله نسخ وقوله أمر ولذلك قال علي رضي الله عنه وأطلق أمرت أن أقاتل الناكثين والمارقين
____________________

(1/104)


والقاسطين ولا يظن بمثله أن يقول أمرت إلا عن مستند يقتضي الأمر ويتطرق إليه احتمال ثالث في عمومه وخصوصه حتى ظن قوم أن مطلق هذا يقتضي أمر جميع الأمة والصحيح أن من يقول بصيغة العموم أيضا ينبغي أن يتوقف في هذا إذ يحتمل أن يكون ما سمعه أمرا للأمة أو لطائفة أو لشخص بعينه وكل ذلك يتيح له أن يقول أمر فيتوقف فيه على الدليل لكن يدل عليه أن أمره للواحد أمر للجماعة إلا إذا كان لوصف يخصه من سفر أو حضر ولو كان كذلك لصرح به الصحابي كقوله أمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن نعم لو قال أمرنا بكذا وعلم من عادة الصحابي أنه لا يطلقه إلا في أمر الأمة حمل عليه وإلا احتمل أن يكون أمرا للأمة أو له أو لطائفة
الرابعة أن يقول أمرنا بكذا ونهينا عن كذا فيتطرق إليه ما سبق من الاحتمالات الثلاثة واحتمال رابع وهو الآمر فإنه لا يدري أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأئمة والعلماء فقال قوم لا حجة فيه فإنه محتمل وذهب الأكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه يريد به إثبات شرع وإقامة حجة فلا يحمل على قول من لا حجة في قوله وفي معناه قوله من السنة كذا والسنة جارية بكذا فالظاهر أنه لا يريد إلا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يجب اتباعه دون سنة غيره ممن لا تجب طاعته ولا فرق بين أن يقول الصحابي ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته أما التابعي إذا قال أمرنا احتمل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الأمة بأجمعها والحجة حاصلة به ويحتمل أمر الصحابة لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك إلا وهو يريد من تجب طاعته ولكن الاحتمال في قول التابعي أظهر منه في قول الصحابي
الخامسة أن يقول كانوا يفعلون كذا فإن أضاف ذلك إلى زمن الرسول عليه السلام فهو دليل على جواز الفعل لأن ذكره في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت عليه دون ما لم يبلغه وذلك يدل على الجواز وذلك مثل قول ابن عمر رضي الله عنه كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكره وقال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج الحديث وقالأبو سعيد كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من بر في زكاة الفطر وقالت عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون في الشيء التافه وأما قول التابعي كانوا يفعلون لا يدل على فعل جميع الأمة بل على البعض فلا حجة فيه إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع فيكون نقلا للإجماع وفي ثبوته بخبر الواحد كلام سيأتي فقد ظهر من هذه المقدمة ما هو خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ليس خبرا عنه والآن فلا بد من بيان طرق انتهاء الخبر إلينا وذلك إما بنقل التواتر أو الآحاد عمل
القسم الأول من هذا الأصل الكلام في التواتر وفيه أبواب الباب الأول في إثبات أن التواتر يفيد العلم ولنقدم عليها حد الخبر وحده أنه
____________________

(1/105)


القول الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب أو هو القول الذي يدخله الصدق أو الكذب وهو أولى من قولهم يدخله الصدق والكذب إذ الخبر الواحد لا يدخله كلاهما بل كلام الله تعالى لا يدخله الكذب أصلا والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلا والخبر قسم من أقسام الكلام القائم بالنفس وأما العبارة فهي الأصوات المقطعة التي صيغتها مثل قول القائل زيد قائم وضارب وهذا ليس خبرا لذاته بل يصير خبرا بقصد القاصد إلى التعبير به عما في النفس ولهذا إذا صدر من نائم أو مغلوب لم يكن خبرا وأما كلام النفس فهو خبر لذاته وجنسه إذا وجد لا يتغير بقصد القاصد أما إثبات كون التواتر مفيدا للعلم فهو ظاهر خلافا للسمنية حيث حصروا العلوم في الحواس وأنكروا هذا وحصرهم باطل فإنا بالضرورة نعلم كون الألف أكثر من الواحد واستحالة كون الشيء الواحد قديما محدثا وأمورا أخر ذكرناها في مدارك اليقين سوى الحواس بل نقول حصرهم العلوم في الحواس معلوم لهم وليس ذلك مدركا بالحواس الخمس ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد وإن لم يدخلها ولا يشك في وجود الأنبياء بل في وجود الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله بل في الدول والوقائع الكبيرة فإن قيل لو كان هذا معلوما ضرورة لما خالفناكم قلنا من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو عن خبط في عقله أو عن عناد ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل إنكارهم في العادة لما علموه وعنادهم ولو تركنا ما علمناه ضرورة لقولكم للزمكم ترك المحسوسات بسبب خلاف السوفسطائية أما بطلان مذهب الكعبي حيث ذهب إلى أن هذا العلم نظري فإنا نقول النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال فيعلمه بعض الناس دون بعض ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من أهل النظر ولا يعلمه من ترك النظر قصدا وكل علم نظري فالعالم به قد يجد نفسه فيه شاكا ثم طالبا ونحن لا نجد أنفسنا شاكين في وجود مكة ووجود الشافعي رحمه الله طالبين لذلك فإن عنيتم بكونه نظريا شيئا من ذلك فنحن ننكره وإن عنيتم به أن مجرد قول المخبر لا يفيد العلم ما لم ينتظم في النفس مقدمتان إحداهما أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وتباين أغراضهم ومع كثرتهم على حال لا يجمعهم على الكذب جامع ولا يتفقون إلا على الصدق
والثانية أنهم قد اتفقوا على الأخبار عن الواقعة فيبتني العلم بالصدق على مجموع المقدمتين فهذا مسلم ولا بد وأن تشعر النفس بهاتين المقدمتين حتى يحصل له العلم والتصديق وإن لم تتشكل في النفس هذه المقدمات بلفظ منظوم فقد شعرت به حتى حصل التصديق وإن لم يشعر بشعورها وتحقيق القول فيه أن الضروري إن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة كقولنا القديم لا يكون محدثا والموجود لا يكون معدوما فهذا ليس بضروري فإنه حصل بواسطة المقدمتين المذكورتين وإن كان عبارة عما يحصل بدون تشكل الواسطة في الذهن فهذا ضروري ورب واسطة حاضرة في الذهن لا يشعر الإنسان بوجه توسطها وحصول العلم بواسطتها فيسمى أوليا وليس بأولي كقولنا الإثنان نصف الأربعة فإنه لا يعلم ذلك إلا بواسطة وهو أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر والإثنان أحد الجزأين المساوي للثاني من جملة الأربعة فهو إذا نصف
____________________

(1/106)


فقد حصل هذا العلم بواسطة لكنها جلية في الذهن حاضرة ولهذا لو قيل ستة وثلاثون هل هو نصف اثنين وسبعين يفتقر فيه إلى تأمل ونظر حتى يعلم أن هذه الجملة تنقسم بجزأين متساويين أحدهما ستة وثلاثون فإذا العلم بصدق خبر التواتر يحصل بواسطة هذه المقدمات وما هو كذلك فهو ليس بأولي وهل يسمى ضروريا هذا ربما يختلف في الاصطلاح والضروري عند الأكثرين عبارة عن الأولي لا عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فإن العلوم الحسابية كلها ضرورية وهي نظرية ومعنى كونها نظرية أنها ليست بأولية وكذلك العلم بصدق خبر التواتر ويقرب منه العلم المستفاد من التجربة التي يعبر عنها باطراد العادات كقولنا الماء مرو والخمر مسكر كما نبهنا عليه في مقدمة الكتاب فإن قيل لو استدل مستدل على كونه غير ضروري بأنه لو كان ضروريا لعلمنا بالضرورة كونه ضروريا ولما تصور الخلاف فيه فهذا الاستدلال صحيح أم لا قلنا إن كان الضروري عبارة عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فبالضرورة نعلم من أنفسنا أنا مضطرون إليه وإن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة فيجوز أن يحتاج في معرفة ذلك إلى تأمل ويقع الشك فيه كما يتصور أن نعتقد شيئا على القطع ونتردد في أن اعتقادنا علم محقق أم لا
الباب الثاني في شروط التواتر وهي أربعة الأول أن يخبروا عن علم لا عن ظن فإن أهل بغداد لو أخبرونا عن طائر أنهم ظنوه حماما أو عن شخص أنهم ظنوه زيدا لم يحصل لنا العلم بكونه حماما وبكونه زيدا وليس هذا معللا بل حال المخبر لا تزيد على حال المخبر لأنه كان في قدرة الله تعالى أن يخلق لنا العلم بخبرهم وإن كان عن ظن ولكن العادة غير مطردة بذلك
الشرط الثاني أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس إذ لو أخبرنا أهل بغداد عن حدوث العالم وعن صدق بعض الأنبياء لم يحصل لنا العلم وهذا أيضا معلوم بالعادة وإلا فقد كان في قدرة الله تعالى أن يجعل ذلك سببا للعلم في حقنا
الشرط الثالث أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الأعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر لم يحصل العلم بصدقهم لأن خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه فلا بد من شروط ولا جل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى صلوات الله عليه تكذيب كل ناسخ لشريعته ولا بصدق الشيعة والعباسية والبكرية في نقل النص على إمامة علي أو العباس أو أبي بكر رضي الله عنهم وإن كثر عدد الناقلين في هذه الأعصار القريبة لأن بعض هذا وضعه الآحاد أولا ثم أفشوه ثم كثر الناقلون في عصره وبعده والشرط إنما حصل في بعض الأعصار فلم تستو فيه الأعصار ولذلك لم يحصل التصديق بخلاف وجود عيسى عليه السلام وتحديه بالنبوة ووجود أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وانتصابهما للإمامة فإن كل ذلك لما تساوت فيه الأطراف والواسطة حصل لنا علم ضروري لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما السلام وفي نص الإمامة
الشرط الرابع في العدد وتهذب الغرض منه برسم مسائل مسألة ( العدد الذي يحصل به التواتر ) عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم وإلى ما هو كامل وهو
____________________

(1/107)


الذي يفيد العلم وإلى زائد وهو الذي يحصل العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلا عن الكفاية والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوما لنا لكنا بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم فإذا عرفت هذا فالعدد الكامل الذي يحصل التصديق به في واقعة هل يتصور أن لا يفيد العلم في بعض الوقائع قال القاضي رحمه الله ذلك محال بل كل ما يفيد العلم في واقعة يفيد في كل واقعة وإذا حصل العلم لشخص فلا بد وأن يحصل لكل شخص يشاركه في السماع ولا يتصور أن يختلف وهذا صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن فإن العلم لا يستند إلى مجرد العدد ونسبة كثرة العدد إلى سائر الوقائع وسائر الأشخاص واحدة أما إذا اقترنت به قرائن تدل على التصديق فهذا يجوز أن تختلف فيه الوقائع والأشخاص وأنكر القاضي ذلك ولم يلتفت إلى القرائن ولم يجعل لها أثرا وهذا غير مرضي لأن مجرد الأخبار يجوز أن يورث العلم عند كثرة المخبرين وإن لم تكن قرينة ومجرد القرائن أيضا قد يورث العلم وإن لم يكن فيه أخبار فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الأخبار فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة معنى القرائن وكيفية دلالتها فنقول لا شك في أن نعرف أمورا ليست محسوسة إذ نعرف من غيرنا حبه لإنسان وبغضه له وخوفه منه وغضبه وخجله وهذه أحوال في نفس المحب والمبغض لا يتعلق الحس بها قد تدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال ولكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف
ثم الثاتي والثالث يؤكد ذلك ول أفردت آحاذها لتطرق إليها الإحتمال يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر يتطرق إليه الاحتمال لو قدر مفردا ويحصل القطع بسبب الاجتماع ومثاله أنا نعرف عشق العاشق لا بقوله بل بأفعال هي أفعال المحبين من القيام بخدمته وبذل ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس فإن كل واحد يدل دلالة لو انفرد لاحتمل أن يكون ذلك لغرض آخر يضمره لا لحبه إياه لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يحصل لنا علم قطعي بحبه وكذلك ببغضه إذا رؤيت منه أفعال ينتجها البغض وكذلك نعرف غضبه وخجله لا بمجرد حمرة وجهه لكن الحمرة إحدى الدلالات وكذلك نشهد الصبي يرتضع مرة بعد أخرى فيحصل لنا علم قطعي بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن في الضرع لأنه مستور ولا عند خروجه فإنه مستور بالفم ولكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه تدل عليه دلالة ما مع أن ذلك قد يحصل من غير وصول اللبن لكن ينضم إليه أن المرأة الشابة لا يخلو ثديها عن لبن ولا تخلو حلمته عن ثقب ولا يخلو الصبي عن طبع باعث على الامتصاص مستخرج للبن وكل ذلك يحتمل خلافه نادرا وإن لم يكن غالبا لكن إذا انضم إليه سكوت الصبي عن بكائه مع أنه لم يتناول طعاما آخر صار قرينة ويحتمل أن يكون بكاؤه عن وجع وسكوته عن زواله ويحتمل أن يكون تناول شيئا آخر لم نشاهده وإن كنا نلازمه في أكثر الأوقات ومع هذا فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتواترها وكل دلالة شاهدة يتطرق إليها الاحتمال كقول كل مخبر على حياله وينشأ من الاجتماع العلم وكأن هذا مدرك سادس من مدارك العلم سوى ما
____________________

(1/108)


ذكرناه في المقدمة من الأوليات والمحسوسات والمشاهدات الباطنة والتجريبات والمتواترات فيلحق هذا بها وإذا كان هذا غير منكر فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص عن انضمام قرائن إليه لو تجرد عن القرائن لم يفد العلم فإنه إذا أخبر خمسة أو ستة عن موت إنسان لا يحصل العلم بصدقهم لكن إذا انضم إليه خروج والد الميت من الدار حاسر الرأس حافي الرجل ممزق الثياب مضطرب الحال يصفق وجهه ورأسه وهو رجل كبير ذو منصب ومروءة لا يخالف عادته ومروءته إلا عن ضرورة فيجوز أن يكون هذا قرينة تنضم إلى قول أولئك فتقوم في التأثير مقام بقية العدد وهذا مما يقطع بجوازه والتجرية تدل عليه وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة الملك وسياسة إظهاره والمخبرون من رؤساء جنود الملك فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة بالاتفاق على الكذب ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم فهذا يؤثر في النفس تأثيرا لا ينكر ولا أدري لم أنكر القاضي ذلك وما برهانه على استحالته فقد بان بهذا أن العدد يجوز أن يختلف بالوقائع وبالأشخاص فرب شخص انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق ببعض الأشياء فيقوم ذلك مقام القرائن وتقوم تلك القرائن مقام خبر بعض المخبرين فينشأ من ذلك أن لا برهان على استحالته فإن قيل فهل يجوز أن يحصل العلم بقول واحد قلنا حكي عن الكعبي جوازه ولا يظن بمعتوه تجويزه مع انتفاء القرائن أما إذا اجتمعت قرائن فلا يبعد أن تبلغ القرائن مبلغا لا يبقى بينها وبين إثارة العلم إلا قرينة واحدة ويقوم إخبار الواحد مقام تلك القرينة فهذا مما لا يعرف استحالته ولا يقطع بوقوعه فإن وقوعه إنما يعلم بالتجربة ونحن لم نجربه ولكن قد جربنا كثيرا مما اعتقدناه جزما بقول الواحد مع قرائن أحواله ثم انكشف أنه كان تلبيسا وعن هذا أحال القاضي ذلك وهذا كلام في الوقائع مع بقاء العادات على المعهود من استمرارها فأما لو قدرنا خرق هذه العادة فالله تعالى قادر على أن يحصل لنا العلم بقول واحد من غير قرينة فضلا على أن تنضم إليه القرائن
مسألة ( هل شهادة الأربعة فيها غلبة الظن ) قطع القاضي رحمه الله بأن قول الأربعة قاصر عن العدد الكامل لأنها بينة شرعية يجوز بالإجماع للقاضي وقفها على المزكين لتحصل غلبة الظن ولا يطلب الظن فيما علم ضرورة وما ذكره صحيح إذا لم تكن قرينة فإنا لا نصادف أنفسنا مضطرين إلى خبر الأربعة أما إذا فرضت قرائن مع ذلك فلا يستحيل حصول التصديق لكن لا يكون ذلك حاصلا عن مجرد الخبر بل عن القرائن مع الخبر والقاضي رحمه الله يحيل ذلك مع القرائن أيضا
مسألة ( هل شهادة الخمسة تفيد العلم ) قال القاضي علمت بالإجماع أن الأربعة ناقص أما الخمس فأتوقف فيها لأنه لم يقم فيها دليل الإجماع وهذا ضعيف لأنا نعلم بالتجربة ذلك فكم من أخبار نسمعها من خمسة أو ستة ولا يحصل لنا العلم بها فهو أيضا ناقص لا نشك فيه
مسألة ( العدد الذي يفيد التواتر ) إذا قدرنا انتفاء القرائن فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى وليس معلوما لنا ولا سبيل لنا إلى معرفته فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الشافعي ووجود الأنبياء عليهم السلام عند تواتر الخبر إلينا وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين ويعسر علينا تجربة ذلك وإن تكلفناها وسبيل التكلف أن نراقب أنفسنا إذا قتل
____________________

(1/109)


رجل في السوق مثلا وانصرف جماعة عن موضع القتل ودخلوا علينا يخبرونا عن قتله فإن قول الأول يحرك الظن وقول الثاني والثالث يؤكده ولا يزال يتزايد تأكيده إلى أن يصير ضروريا لا يمكننا أن نشكك فيه أنفسنا فلو تصور الوقوف على اللحظة التي يحصل العلم فيها ضرورة وحفظ حساب المخبرين وعددهم لأمكن الوقوف ولكن درك تلك اللحظة عسير فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدا خفي التدريج نحو تزايد عقل الصبي المميز إلى أن يبلغ حد التكليف ونحو تزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال فلذلك بقي هذا في غطاء من الإشكال وتعذر على القوة البشرية إدراكه فأما ما ذهب إليه قوم التخصيص بالأربعين أخذا من الجمعة وقوم إلى التخصيص بالسبعين أخذا من قوله تعالى { واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا } الأعراف 155 وقوم إلى التخصيص بعدد أهل بدر فكل ذلك تحكمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض ولا تدل عليه ويكفي تعارض أقوالهم دليلا على فسادها فإذا لا سبيل لنا إلى حصر عدده لكنا بالعلم الضروي نستدل على أن العدد الذي هو الكامل عند الله تعالى قد توافقوا على الإخبار فإن قيل فكيف علمتم حصول العلم بالتواتر وأنتم لا تعلمون أقل عدده قلنا كما نعلم أن الخبز يشبع والماء يروي والخمر يسكر وإن كنا لا نعلم أقل مقدار منه ونعلم أن القرائن تفيد العلم وإن لم نقدر على حصر أجناسها وضبط أقل درجاتها
مسألة ( هل يكذب العدد الكامل ) العدد الكامل إذا أخبروا ولم يحصل العلم بصدقهم فيجب القطع بكذبهم لأنه لا يشترط في حصول العلم إلا شرطان أحدهما كمال العدد
والثاني أن يخبروا عن يقين ومشاهدة فإذا كان العدد كاملا كان امتناع العلم لفوات الشرط الثاني فنعلم أنهم بجملتهم كذبوا أو كذب بعضهم في قوله إني شاهدت ذلك بل بناه على توهم وظن أو كذب متعمدا لأنهم لو صدقوا وقد كمل عددهم حصل العلم ضرورة وهذا أيضا أحد الأدلة على أن الأربعة ليسوا عدد التواتر إذ القاضي لم يحصل له العلم بصدقهم وجاز له القضاء بغلبة الظن بالإجماع ولو تمر عددهم لكان انتفاء العلم بصدقهم دليلا قاطعا على كذب جميعهم أو كذب واحد منهم ولقطعنا بأن فيهم كاذبا أو متوهما ولا يقبل شهادة أربعة يعلم أن فيهم كاذبا أو متوهما فإن قيل فإن لم يحصل العلم بقولهم وقد كثروا كثرة يستحيل بحكم العادة توافقهم على الكذب عن اتفاق ويستحيل دخولهم تحت ضابط وتساعدهم على الكذب بحيث ينكتم ذلك على جميعهم ولا يتحدث به واحد منهم فعلى ماذا يحمل كذبهم وكيف يتصور ذلك قلنا إنما يمكن ذلك بأن يكونوا منقسمين إلى صادقين وكاذبين أما الصادقون فعددهم ناقص عن المبلغ الذي يستقل بإفادة العلم وأما الكاذبون فيحتمل أن يقع منهم التواطؤ لنقصان عددهم عن مبلغ يستحيل عليهم التواطؤ مع
____________________

(1/110)


الانكتام فإن كانوا مبلغا لا يستحيل التواطؤ عليهم مع الانكتام فلا يستحيل الانكتام في الحال إلى أن يتحدث به في ثاني الحال ونقل الشيعة نص الإمامة مع كثرتها إنما لم يفد العلم لأنهم لم يخبروا عن المشاهدة والسماع بل لو سمعوا عن سلف فهم صادقون لكن السلف الواضعون لهذا الكذب يكون عددهم ناقصا عن مبلغ يستحيل منهم التواطؤ مع الانكتام وربما ظن الخلف أن عددهم كامل لا يستحيل عليهم التواطؤ فيخطئون في الظن فيقطعون بالحكم ويكون هذا منشأ غلطهم
خاتمة لهذا الباب في بيان شروط فاسدة ذهب إليها قوم وهي خمسة الأول شرط قوم في عدد التواتر أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهذا فاسد فإن الحجيج بأجمعهم إذا أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج ومنعتهم من عرفات حصل العلم بقولهم وهم محصورون وأهل الجامع إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت الناس من الصلاة علم صدقهم مع أنهم يحويهم مسجد فضلا عن بلد وكذلك أهل المدينة إذا أخبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حصل العلم وقد حواهم بلد
الثاني شرط قوم أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد وتختلف أوطانهم فلا يكونوا في محلة واحدة وتختلف أديانهم فلا يكونوا أهل مذهب واحد وهذا فاسد لأن كونهم من محلة واحدة ونسب واحد لا يؤثر إلا في إمكان تواطئهم والكثرة إلى كمال العدد تدفع هذا الإمكان وإن لم تكن كثرة أمكن التواطؤ من بني الأعمام كما يمكن من الأخوة ومن أهل بلد كما يمكن من أهل محلة وكيف يعتبر اختلاف الدين ونحن نعلم صدق المسلمين إذا أخبروا عن قتل وقتنة وواقعة بل نعلم صدق أهل قسطنطينية إذا أخبروا عن موت قيصر
فإن قيل فلنعلم صدق النصارى في نقل التثليث عن عيسى عليه السلام وصدقهم في صلبه قلنا لم ينقلوا التثليث توقيفا وسماعا عن عيسى بنص صريح لا يحتمل التأويل لكن توهموا ذلك بألفاظ موهمة لم يقفوا على مغزاها كما فهم المشبهة التشبيه من آيات وأخبار لم يفهموا معناها والتواتر ينبغي أن يصدر عن محسوس فأما قتل عيسى عليه السلام فقد صدقوا في أنهم شاهدوا شخصا يشبه عيسى عليه السلام مقتولا ولكن شبه لهم فإن قيل فهل يتصور التشبيه في المحسوس فإن تصور فليشك كل واحد منا إذا رأى زوجته وولده فلعله شبه له قلنا إن كان الزمان زمان خرق العادة يجوز التشبيه في المحسوس وذلك زمان النبوة لإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لا يوجب الشك في غير ذلك الزمان إذ لا خلاف في قدرة الله تعالى على قلب العصا ثعبانا وخرق العادة به لتصديق النبي عليه السلام ومع ذلك إذا أخذنا العصا في زماننا لم نخف من انقلابها ثعبانا ثقة بالعادات في زماننا
فإن قيل خرق العادة في زماننا هذا جائز كرامة للأولياء فلعل وليا من الأولياء دعا الله تعالى بذلك فأجابه فلنشك لإمكان ذلك قلنا إذا فعل الله تعالى ذلك نزع عن قلوبنا العلم الضروري الحاصل بالعادات فإذا وجدنا من أنفسنا علما ضروريا بأنه لم تنقلب العصا ثعبانا ولا الجبل ذهبا ولا الحصى في الجبال جواهر ويواقيت قطعنا بأن الله تعالى لم يخرق العادة وإن كان قدارا عليها
الثالث شرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين وهو فاسد إذ يحصل العلم بقول الفسقة والمرجئة والقدرية بل بقول الروم إذا أخبروا بموت ملكهم حصل العلم
الرابع شرط قوم أن لا يكونوا محمولين بالسيف على الإخبار وهو فاسد لأنهم إن
____________________

(1/111)


حملوا على الكذب لم يحصل العلم لفقد الشرط وهو الإخبار عن العلم الضروري وإن صدقوا حصل العلم فلو أن أهل بغداد حملهم الخليفة بالسيف على الإخبار عن محسوس شاهدوه أو شهادة كتموها فأخبروا حصل العلم بقولهم
فإن قيل هل يتصور عدد يحصل العلم بقولهم إذا أخبروا عن اختيار ولا يحصل لو أخبروا عن إكراه قلنا أجاب القاضي رحمه الله ذلك من حيث أنه لم يجعل للقرائن مدخلا وذلك غير محال عندنا فإنا بينا أن النفس تشعر بأن هؤلاء على كثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع ثم تصدق فإذا ظهر كون السيف جامعا لم يبعد أن لا يحصل العلم
الخامس شرط الروافض أن يكون الإمام المعصوم في جملة المخبرين وهذا يوجب العلم بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام لأنه معصوم فأي حاجة إلى أخبار غيره ويجب أن لا يحصل العلم بنقلهم على التواتر النص على علي رضي الله عنه إذ ليس فيهم معصوم وأن لا تلزم حجة الإمام إلا على من شاهده من أهل بلده وسمع منه دون سائر البلاد وأن لا تقوم الحجة بقول أمرائه ودعاته ورسله وقضاته إذ ليسوا معصومين وأن لا يعلم موت أمير وقتله ووقوع فتنة وقتال في غير مصر وكل ذلك لازم على هذيانهم
الباب الثالث في تقسيم الخبر إلى ما يجب تصديقه وإلى ما يجب تكذيبه وإلى ما يجب التوقف فيه وهي ثلاثة أقسام القسم الأول ما يجب تصديقه وهي سبعة الأول ما أخبر عنه عدد التواتر فإنه يجب تصديقه ضرورة وإن لم يدل عليه دليل آخر فليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرد الأخبار إلا المتواتر وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر
الثاني ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدق بدليل استحالة الكذب عليه ويدل عليه دليلان أقواهما إخبار الرسول عليه السلام عن امتناع الكذب عليه تعالى والثاني أن كلامه تعالى قائم بنفسه ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم والجهل على الله تعالى محال
الثالث خبر الرسول عليه السلام ودليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة إظهار المعجزة على أيدي الكاذبين لأن ذلك لو كان ممكنا لعجز الباري عن تصديقه رسله والعجز عليه محال
الرابع ما أخبر عنه الأمة إذ ثبت عصمتها بقول الرسول عليه السلام المعصوم عن الكذب وفي معناه كل شخص أخبر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم عنه بأنه صادق لا يكذب
الخامس كل خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو الأمة
____________________

(1/112)


أو من صدقه هؤلاء أو دل العقل عليه والسمع فإنه لو كان كاذبا لكان الموافق له كذبا
السادس كل خبر صح أنه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمسمع منه ولم يكن غافلا عنه فسكت عليه لأنه لو كان كذبا لما سكت عنه ولا عن تكذيبه ونعني به ما يتعلق بالدين
السابع كل خبر ذكر بين يدي جماعة أمسكوا عن تكذيبه والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وامتناع السكوت لو كان كذبا وذلك بأن يكون للخبر وقع في نفوسهم وهم عدد يمتنع في مستقر العادة التواطؤ عليهم بحيث ينكتم التواطؤ ولا يتحدثون به وبمثل هذه الطريقة ثبتت أكثر أعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان ينقل بمشهد جماعات وكانوا يسكتون عن التكذيب مع استحالة السكوت عن التكذيب على مثلهم فمهما كمل الشرط وترك النكير كما سبق نزل منزلة قولهم صدقت فإن قيل لو ادعى واحد أمرا بمشهد جماعة وادعى علمهم به فسكتوا عن تكذيبه فهل يثبت صدقه قلنا إن كان ذلك في محل النظر والاجتهاد فلا يثبت صدقه لاحتمال أنهم اعتقدوا عن النظر ما ادعاه وإن كان يسنده إلى مشاهدة وكانوا عددا يستحيل عليهم الدخول تحت داع واحد فالسكوت عن تكذيبه تصديق من جهتهم فإن قيل وهل يدل على الصدق تواتر الخبر عن جماعة لا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب قصدا ولا التوافق على اتفاق قلنا أحال القاضي رحمه الله ذلك وقال قولهم يورث العلم ضرورة إن بلغوا عدد التواتر في علم الله فإن لم يورث العلم الضروري دل على نقصان العدد ولا يجوز الاستدلال على صدقهم بالنظر في أحوالهم بل نعلم قطعا كذبهم أو اشتمالهم على كاذب أو متوهم وهذا على مذهبه إن لم ينظر إلى القرائن لازم أما من نظر إلى القرائن فلا يبعد أن يعلم صدقهم بنوع من النظر فإن قيل خبر الواحد الذي عمل به الأمة هل يجب تصديقه قلنا إن عملوا على وفقه فلعلهم عملوا عن دليل آخر وإن عملوا به أيضا فقد أمروا بالعمل بخبر الواحد وإن لم يعرفوا صدقه فلا يلزم الحكم بصدقه فإن قيل لو قدر الراوي كاذبا لكان عمل الأمة بالباطل وهو خطأ ولا يجوز ذلك على الأمة قلنا الأمة ما تعبدوا إلا بالعمل بخبر يغلب على الظن صدقهم فيه وقد غلب على ظنهم كالقاضي إذ قضى بشهادة عدلين فلا يكون مخطئا وإن كان الشاهد كاذبا بل يكون محقا لأنه لم يؤمر إلا به
القسم الثاني من الأخبار ما يعلم كذبه وهي أربعة الأول ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة المذكورة كمن أخبر عن الجمع بين الضدين وإحياء الموتى في الحال وأنا على جناح نسر أو في لجة بحر وما يحس خلافه
الثاني ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللأمة
الثالث ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا
____________________

(1/113)


قالوا حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا
الرابع ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلدة قتل في السوق على ملأ من الناس ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله ولا حالت العادة اختصاصه بحكايته وبمثل هذه الطريقة عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن ونص الرسول على نبي آخر بعده وأنه أعقب جماعة من الأولاد الذكور ونصه على إمام بعينه على ملأ من الناس وفرضه صوم شوال وصلاة الضحى وأمثال ذلك مما إذا كان أحالت العادة كتمانه فإن قيل فقد تفرد الآحاد بنقل ما تتوفر الدواعي عليه حتى وقع الخلاف فيه كإفراده صلى الله عليه وسلم الحج أو قرانه وكدخوله الكعبة وصلاته فيها وأنه عليه السلام نكح ميمونة وهو حرام وأنه دخل مكة عنوة وقبوله شهادة الأعرابي وحده على رؤية الهلال وانفراد الأعرابي بالرؤية حتى لم يشاركه أحد فيه وانشقاق القمر ولم ينقله إلا ابن مسعود رضي الله عنه وعدد يسير معه وكان ينبغي أن يراه كل مؤمن وكافر وباد وحاضر ونقل النصارى معجزات عيسى عليه السلام ولم ينقلوا كلامه في المهد وهو من أعظم العلامات ونقلت الأمة القرآن ولم ينقلوا بقية معجزات الرسول عليه السلام كنقل القرآن في الشيوع ونقل الناس أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب عليه السلام ونقلت الأمة سور القرآن ولم تنقل المعوذتين نقل غيرهما حتى خالف ابن مسعود رضي الله عنه في كونهما من القرآن وما تعم به البلوى من اللمس والمس أيضا فكل هذا نقض على هذه القاعدة والجواب أن إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرانه ليس مما يجب أن ينكشف وأن ينادي به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكافة بل لا يطلع عليه إلا من أطلعه عليه أو على نيته بإخباره إياه نعم ظهر على الاستفاضة تعليمه الناس الإفراد والقران جميعا وأما دخوله الكعبة وصلاته فيها فقد يكون ذلك مع نفر يسير ومع واحد واثنين ولا يقع شائعا كيف ولو وقع شائعا لم تتوفر الدواعي على دوام نقله لأنه ليس من أصول الدين ولا من فرائضه ومهماته وأما دخوله مكة عنوة فقد صح على الاستفاضة دخوله متسلحا مع الألوية والأعلام وتمام التمكن والاستيلاء وبذله الأمان لمن دخل دار أبي سفيان ولمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة وكل ذلك غير مختلف فيه ولكن استدل بعض الفقهاء بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ودى قوما قتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه على أنه كان صلحا ووقوع مثل هذه الشبهة للآحاد ممكن إلى أن تزال بالنظر وأن يكون ذلك بنهي خاص عن قوم مخصوصين ولسبب مخصوص وأما انفراد الأعرابي برؤية الهلال فممكن وقد يقع مثل ذلك في زماننا في الليلة الأولى لخفاء الهلال ودقته فينفرد به من يتحد بصره وتصدق في الطلب رغبته ويقع على موضع الهلال بصره عن معرفة أو اتفاق وأما انشقاق القمر فهي آية ليلية وقعت والناس نيام غافلون وإنما كان في لحظة فرآه من ناظره النبي صلى الله عليه وسلم من قريش ونبهه على النظر له وما انشق منه إلا شعبة ثم عاد صحيحا في لحظة فكم من انقضاض كوكب وزلزلة وأمور هائلة من ريح
____________________

(1/114)


وصاعقة بالليل لا يتنبه له إلا الآحاد على أن مثل هذا إنما يعمله من قيل له انظر إليه فانشق عقيب القول والتحدي ومن لم يعلم ذلك ووقع عليه بصره ربما توهم أنه خيال انقشع أو كوكب كان تحت القمر فانجلى القمر عنه أو قطعة سحاب سترت قطعة من القمر فلهذا لم يتواتر نقله وأما نقلهم القرآن دون سائر الأعلام فذلك لأمرين أحدهما أن الدواعي لا تتوفر بعد ثبوت النبوة بالقرآن واستقلالها به على نقل ما يقع بعده بحيث تقع المداومة عليه اكتفاء بثبوتها بالقرآن الذي هو أعظم الآيات ولأن غير القرآن إنما ظهر في عمر كل واحد مرة واحدة وربما ظهر بين يدي نفر يسير والقرآن كان يردده طول عمره مرة بعد أخرى ويلقيه على كافتهم قصدا ويأمرهم بحفظه والتلاوة له والعمل بموجبه وأما المعوذتان فقد ثبت نقلهما شائعا من القرآن كسائر السور وابن مسعود رضي الله عنه لم ينكر كونهما من القرآن لكن أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد أيضا لأنه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإثباته وكتبته ولما لم يجده كتب ذلك ولا سمع أمره به أنكره وهذا تأويل وليس جحدا لكونه قرآنا ولو جحد ذلك لكان فسقا عظيما لا يضاف إلى مثله ولا إلى أحد من الصحابة وأما ترك النصارى نقل كلام عيسى عليه السلام في المهد فلعله لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير ومرة واحدة لتبرئة مريم عليها السلام عما نسبوها إليه فلم ينتشر ذلك ولم يحصل العلم بقول من سمع ذلك منهم فاندرس فيما بينهم وأما شعيب ومن يجري مجراه من الرسل عليهم السلام فلم يكن لهم شريعة ينفردون بها بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم فلم تتوفر الدواعي على نقل معجزاتهم إذ لم يكن لهم معجزات ظاهرة لكن ثبت صدقهم بالنص والتوقيف من نبي ذي معجزة وأما الخبر عن اللمس والمس للذكر وما تعم به البلوى فيجوز أن يخبر به الرسول عليه السلام عددا يسيرا ثم ينقلونه آحادا ولا يستفيض وليس ذلك مما يعظم في الصدور وتتوفر الدواعي على التحدث به دائما
القسم الثالث ما لا يعلم صدقه ولا كذبه فيجب التوقف فيه وهو جملة الأخبار الواردة في أحكام الشرع والعبادات مما عدا القسمين المذكورين وهو كل خبر لم يعرف صدقه ولا كذبه فإن قيل عدم قيام الدليل على صدقه يدل على كذبه إذ لو كان صدقا لما أخلانا الله تعالى عن دليل على صدقه قلنا ولم يستحيل أن يخلينا عن دليل قاطع على صدقه ولو قلب هذا وقيل يعلم صدقه لأنه لو كان كذبا لما أخلانا الله تعالى عن دليل قاطع على كذبه لكان مقاوما لهذا الكلام وكيف يجوز ذلك ويلزم منه أن يقطع بكذب كل شاهد لا يقطع بصدقه وكفر كل قاض ومفت وفجوره إذا لم يعلم إسلامه وورعه بقاطع وكذا كل قياس ودليل في الشرع لا يقطع بصحته فليقطع ببطلانه وهذا بخلاف التحدي بالنبوة إذا لم تظهر معجزة فإنا نقطع بكذبه لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كلفنا تصديقه وتصديقه بغير دليل محال وتكليف المحال محال فبه علمنا أنا لم نكلف تصديقه فلم يكن رسولا إلينا قطعا أما خبر الواحد وشهادة الإثنين فلم نتعبد فيه بالتصديق بل بالعمل عند ظن الصدق والظن حاصل والعمل ممكن ونحن مصيبون وإن كان هو كاذبا ولو عملنا
____________________

(1/115)


بقول شاهد واحد فنحن مخطئون وإن كان هو صادقا فإن قيل إنما وجب إقامة المعجزة لنعرف صدقه فنتبعه فيما يشرعه فليجب عليه إزالة الشك فيما يبلغ من الشرع بالمشافهة والإشاعة إلى حد التواتر ليحصل العلم في حق من لم يشافهه به قلنا لا استحالة في أن يقسم الشارع شرعه إلى ما يتعبد فيه بالعلم والعمل فيجب فيه ما ذكرتموه وإلى ما يتعبد فيه بالعمل دون العلم فيكون فرض من يسمع من الرسول العلم والعمل جميعا وفرض من غاب العمل دون العلم ويكون العمل منوطا بظن الصدق في الخبر وإن كان هو كاذبا عند الله تعالى وكذا الظن الحاصل من قياس وقول شاهد ويمين المدعى عليه أو يمين المدعي مع النكول فلا نحيل شيئا من ذلك
القسم الثاني من هذا الأصل في أخبار الآحاد وفيه أبواب الباب الأول في إثبات التعبد به مع قصوره عن إفادة العلم وفيه أربع مسائل مسألة ( هل خبر الواحد يفيد العلم ) اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد وأما قول الرسول عليه السلام مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد وإذا عرفت هذا فنقول خبر الواحد لا يفيد العلم وهو معلوم بالضرورة إنا لا نصدق بكل ما نسمع ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما ولهذا قال بعضهم يورث العلم الظاهر والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن ولا تمسك لهم في قوله تعالى { فإن علمتموهن مؤمنات } الممتحنة 10 وأنه أراد الظاهر لأن المراد به العلم الحقيقي بكلمة الشهادة التي هي ظاهر الإيمان دون الباطن الذي لم يكلف به والإيمان باللسان يسمى إيمانا مجازا ولا تمسك لهم في قوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } الإسراء 36 وأن الخبر لو لم يفد العلم لما جاز العمل به لأن المراد بالآية منع الشاهد عن جزم الشهادة إلا بما يتحقق وأما العلم بخبر الواحد فمعلوم الوجوب بدليل قاطع أوجب العمل عند ظن الصدق والظن حاصل قطعا ووجوب العمل عنده معلوم قطعا كالحكم بشهادة اثنين أو يمين المدعي مع نكول المدعى عليه
مسألة ( هل يتعبد بخبر الواحد ) أنكر منكرون جواز التعبد بخبر الواحد عقلا فضلا عن وقوعه سمعا فيقال لهم من أين عرفتم استحالته أبالضرورة ونحن نخالفكم فيه ولا نزاع في الضرورة أو بدليل ولا سبيل لهم إلى إثباته لأنه لو كان محالا لكان يستحيل إما لذاته أو لمفسدة تتولد منه ولا يستحيل لذاته ولا التفات إلى المفسدة ولا نسلم أيضا لو التفتنا إليها فلا بد من بيان وجه المفسدة فإن قيل وجه المفسدة أن يروي الواحد خبرا في سفك دم أو في استحلال بضع وربما يكذب فيظن أن سفك الدم هو بأمر الله تعالى ولا يكون بأمره فكيف يجوز الهجوم بالجهل ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه فلا يجوز الهجوم عليه بالشك فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم بل إذا أمر الله
____________________

(1/116)


تعالى بأمر فليعرفنا أمره لنكون على بصيرة إما ممتثلون أو مخالفون والجواب أن هذا السؤال إن صدر ممن ينكر الشرائع فنقول له أي استحالة في أن يقول الله تعالى لعباده إذا طار بكم طائر وظننتموه غرابا فقد أوجبت عليكم كذا وكذا وجعلت ظنكم علامة وجوب العمل كما جعلت زوال الشمس علامة وجوب الصلاة فيكون نفس الظن علامة الوجوب والظن مدرك بالحس وجوده فيكون الوجوب معلوما فمن أتى بالواجب عند الظن فقد امتثل قطعا وأصاب فإذا جاز أن يجعل الزوال أو ظن كونه غرابا علامة فلم لا يجوز أن يجعل ظنه علامة ويقال له إذا ظننت صدق الراوي والشاهد والحالف فاحكم به ولست متعبدا بمعرفة صدقه ولكن بالعمل عند ظن صدقه وأنت مصيب وممتثل صدق أو كذب ولست متعبدا بالعلم بصدقه ولكن بالعمل عند ظنك الذي تحسه من نفسك وهذا ما نعتقده في القياس وخبر الواحد والحكم بالشاهد واليمين وغير ذلك وأما إذا صدر هذا من مقر بالشرع فلا يتمكن منه لأنه تعبد بالعمل بالشهادة والحكم والفتوى ومعاينة الكعبة وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه خمسة ثم الشهادة قد يقطع بها كشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وشهادة خزيمة بن ثابت حين صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادة موسى وهارون والأنبياء صلوات الله عليهم وقد يظن ذلك كشهادة غيرهم ثم ألحق المظنون بالمقطوع به في وجوب العمل وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه مقطوع به وفتوى سائر الأئمة وحكم سائر القضاة مظنون وألحق بالمعلوم والكعبة تعلم قطعا بالعيان وتظن بالاجتهاد وعند الظن يجب العمل كما يجب عند المشاهدة فكذلك خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يجب العمل به عند التواتر فلم يستحيل أن يلحق المظنون بالمعلوم في وجوب العلم خاصة ومن أراد أن يفرق بين هذه الخمسة في مفسدة أو مصلحة لم يتمكن منه أصلا فإن قيل فهل يجوز التعبد بالعمل بخبر الفاسق قلنا قال قوم يجوز بشرط ظن الصدق وهذا الشرط عندنا فاسد بل كما يجوز أن تجعل حركة الفلك علامة التعبد بالصلاة فحركة لسان الفاسق يجوز أن تجعل علامة فتكليف العمل عند وجود الخبر شيء وكون الخبر صدقا أو كذبا شيء آخر
مسألة ( هل يجب العمل بخبر الواحد ) ذهب قوم إلى أن العقل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد دون الأدلة السمعية واستدلوا عليه بدليلين أحدهما أن المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب أو إجماع أو سنة متواترة ووجد خبر الواحد فلو لم يحكم به لتعطلت الأحكام ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مبعوثا إلى أهل العصر يحتاج إلى إنفاذ الرسل إذ لا يقدر على مشافهة الجميع ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر إلى كل أحد إذ لو أنفذ عدد التواتر إلى كل قطر لم يف بذلك أهل مدينته وهذا ضعيف لأن المفتي إذا فقد الأدلة القاطعة يرجع إلى البراءة الأصلة والاستصحاب كما لو فقد خبر الواحد أيضا وأما الرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقتصر على من يقدر على تبليغه فمن الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلا يكلف به فليس تكليف الجميع واجبا نعم لو تعبد نبي بأن يكلف جميع الخلق ولا يخلي واقعة عن حكم الله تعالى ولا شخصا عن التكليف فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد
____________________

(1/117)


ضرورة في حقه
والدليل الثاني إنهم قالوا صدق الراوي ممكن فلو لم نعمل بخبر الواحد لكنا قد تركنا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فالاحتياط والحزم في العمل وهو باطل من ثلاثة أوجه أحدها أن كذبه ممكن فربما يكون عملنا بخلاف الواجب
الثاني أنه كان يجب العمل بخبر الكافر والفاسق لأن صدقه ممكن
الثالث هو أن براءة الذمة معلومة بالعقل والنفي الأصلي فلا ترفع بالوهم وقد استدل به قوم في نفي خبر الواحد وهو وإن كان فاسدا فهو أقوم من قوله إن الصدق إذا كان ممكنا يجب العمل به
مسألة ( هل يتعبد بخبر الواحد ) الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا ولا يجب التعبد به عقلا وأن التعبد به واقع سمعا وقال جماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاساني بتحريم العمل به سمعا ويدل على بطلان مذهبهم مسلكان قاطعان أحدهما إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد
والثاني تواتر الخبر بإنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة والرسل إلى البلاد وتكليفه إياهم تصديقهم فيما نقلوه من الشرع ونحن نقرر هذين المسلكين المسلك الأول ما تواتر واشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر وإن لم تتواتر آحادها فيحصل العلم بمجموعها ونحن نشير إلى بعضها فمنها ما روي عن عمر رضي الله عنه في وقائع كثيرة من ذلك قصة الجنين وقيامه في ذلك يقول أذكر الله امرءا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا في الجنين فقام إليه حمل بن مالك بن النابغة وقال كنت بين جارتين ( يعني ضرتين ) فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو وليدة فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا أي لم نقض بالغرة أصلا وقد انفصل الجنين ميتا للشك في أصل حياته
ومن ذلك أنه كان رضي الله عنه لا يرى توريث المرأة من دية زوجها فلما أخبره الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته رجع إلى ذلك
ومن ذلك ما تظاهرت به الأخبار عنه في قصة المجوس أنه قال ما أدري ما الذي أصنع في أمرهم وقال أنشد الله امرءا سمع فيهم شيئا إلا رفعه إلينا فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأخذ الجزية منهم وأقرهم على دينهم
ومنها ما ظهر منه ومن عثمان رضي الله عنهما وجماهير الصحابة رضي الله عنهم من الرجوع عن سقوط فرض الغسل من التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها وقولها فعلت ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا
ومن ذلك ما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في السكنى بخبر فريعة بنت مالك بعد أن أرسل إليها وسألها
ومنها ما ظهر من علي رضي الله عنه من قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين حتى قال في الخبر المشهور كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره أحلفته فإذا حلف صدقته
____________________

(1/118)


وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من عبد يصيب ذنبا الحديث


فكان يحلف المخبر لا لتهمة بالكذب ولكن للاحتياط في سياق الحديث على وجهه والتحرز والتحرز من تغيير لفظه نقلا بالمعنى ولئلا يقدم على الرواية بالظن بل عند السماع المحقق
ومنها ما روي عنزيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان يرى أن الحائض لا يجوز لها أن تصدر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت وأنكر على ابن عباس خلافه في ذلك فقيل له إن ابن عباس سأل فلانة الأنصارية هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فأخبرته فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول لابن عباس ما أراك إلا قد صدقت ورجع إلى موافقته بخبر الأنصارية
ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ تمر إذا أتانا آت فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت
ومنها ما اشتهر من عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد وأنهم أتاهم آت فأخبرهم بنسخ القبلة فانحرفوا إلى الكعبة بخبره
ومنها ما ظهر من ابن عباس رضي الله عنه وقد قيل أن فلانا رجلا من المسلمين يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى نبي إسرائيل عليه السلام فقال ابن عباس كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل فتجاوز ابن عباس العمل بخبر الواحد وبادر إلى التكذيب بأصله والقطع بذلك لأجل خبر أبي بن كعب
ومنها أيضا ما روي عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من آنية الذهب والورق بأكثر من وزنه فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك فقال له معاوية إني لا أرى بذلك بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا
ومنها ما اشتهر عن جميعهم في أخبار لا تحصى الرجوع إلى عائشة وأم سلمة وميمونة وحفصة رضوان الله عليهن وإلى فاطمة بنت أسد وفلانة وفلانة ممن لا يحصى كثرة وإلى زيد وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم من الرجال والنساء والعبيد والموالي وعلى ذلك جرت سنة التابعين بعدهم حتى قال الشافعي رحمه الله وجدنا علي بن الحسين رضي الله عنه يعول على أخبار الآحاد وكذلك محمد بن علي وجبير بن مطعم ونافع بن جبير وخارجة بن زيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وكذلك كان حال طاوس وعطاء ومجاهد وكان سعيد بن المسيب يقول أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصرف فيثبت حديثه سنة ويقول حدثني أبو هريرة وعروة بن الزبير يقول حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان ويعترض بذلك على قضية عمر بن عبد العزيز فينقض عمر قضاءه لأجل ذلك وكذلك ميسرة باليمن ومكحول بالشام وعلى ذلك كان فقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين وفقهاء الكوفة وتابعوهم كعلقمة والأسود والشعبي ومسروق وعليه جرى من
____________________

(1/119)


بعدهم من الفقهاء ولم ينكر عليهم أحد في عصر ولو كان نكير لنقل ولوجب في مستقر العادة اشتهاره وتوفرت الدواعي على نقله كما توفرت على نقل العمل به فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف وإنما الخلاف حدث بعدهم فإن قيل لعلهم عملوا بها مع قرائن أو بأخبار أخر صاحبتها أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها لا بمجرد هذه الأخبار كما زعمتم كما قلتم عملهم بالعموم وصيغة الأمر والنهي ليس نصا صريحا على أنهم عملوا بمجردها بل بها مع قرائن قارنتها قلنا لأنهم لم ينقل عنهم لفظ إنما عملنا بمجرد الصيغة من أمر ونهي وعموم وقد قالوا هاهنا لولا هذا لقضينا بغير هذا وصرح ابن عمر رضي الله عنهما برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع بن خديج ورجوعهم في التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها كيف وصيغة العموم والأمر والنهي قط لا تنفك عن قرينة من حال المأمور والمأمور به والآمر أما ما يرويه الراوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فماذا يقترن به حتى يكون دليلا بسببه فتقدير ذلك كتقدير قرائن في عملهم بنص الكتاب وبالخبر المتواتر وبالإجماع وذلك يبطل جميع الأدلة وبالجملة فمناشدتهم في طلب الأخبار لا داعي لها إلا بالعمل بها فإن قيل فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة أيضا قلنا ذلك لفقدهم شرط قبولها كما سيأتي وكما تركوا العمل بنص القرآن وبأخبار متواترة لاطلاعهم على نسخها أو فوات الأمر وانقراض من كان الخطاب متعلقا به
الدليل الثاني ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الأطراف وهم آحاد ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع فمن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع وإنفاذه سورة براءة مع علي وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم ومن ذلك توليته عمر رضي الله عنه على الصدقات وتوليته معاذا قبض صدقات اليمن والحكم على أهلها ومن ذلك إنفاذه صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة متحملا ورسولا مؤديا عنه حتى بلغه أن قريشا قتلته فقلق لذلك وبايع لأجله بيعة الرضوان وقال والله لئن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا ومن ذلك توليته صلى الله عليه وسلم على الصدقات والجبايات قيس بن عاصم ومالك بن نويرة والزبرقان بن بدر وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص وعمرو بن حزم وأسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم ممن يطول ذكرهم وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه كان صلى الله عليه وسلم يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه ولو احتاج في كل رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يف بذلك جميع أصحابه وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم وفسد النظام والتدبير وذلك وهم باطل قطعا فإن قيل كان قد أعلمهم صلى الله عليه وسلم تفصيل الصدقات شفاها وبأخبار متواترة وإنما بعثهم لقبضها قلنا ولم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد ثم لم يكن بعثه صلى الله عليه وسلم في الصدقات فقط بل كان في تعليمهم الدين والحكم بين المتخاصمين وتعريف وظائف الشرع فإن قيل فليجب عليهم قبول أصل الصلاة والزكاة بل أصل الدعوة والرسالة
____________________

(1/120)


والمعجزة قلنا أما أصل الزكاة والصلاة فكان يجب قبوله لأنهم كانوا ينفذون لشرح وظائف الشرع بعد انتشار أصل الدعوة وأما أصل والرسالة والإيمان وأعلام النبوة فلا إذ كيف يقول رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوجب عليكم تصديقي وهم لم يعرفوا برسالته أما بعد التصديق به فيمكن الإصغاء إلى رسله بإيجابه الإصغاء إليهم فإن قيل فإنما يجب قبول خبر الواحد إذا دل قاطع على وجوب العمل به كما دل الإجماع والتواتر عندكم فأولئك بماذا صدقوا الولاة في قولهم يجب عليكم العمل بقولنا قلنا قد كان تواتر إليهم من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ينفذ الولاة والرسل آحادا كسائر الأكابر والرؤساء ولولا علمهم بذلك لجاز للمتشكك أن يجادل فيه إذ عرض له شك ولكن قل ما يعرض الشك فيه مع القرائن فإن الذي يدخل بلادنا مع منشور القضاء قد لا يخالجنا ريب في صدقه وإن لم يتواتر إلينا ولكن بقرائن الأحوال والمعرفة لخط الكاتب وببعد جرأته على الكذب مع تعريضه للخطر في أمثال ذلك
الدليل الثالث إن العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه مع أنه ربما يخبر عن ظنه فالذي يخبر بالسماع الذي لا يشك فيه أولى بالتصديق والكذب والغلط جائزان على المفتي كما على الراوي بل الغلط على الراوي أبعد لأن كل مجتهد وإن كان مصيبا فإنما يكون مصيبا إذا لم يقصر في إتمام النظر وربما يظن أنه لم يقصر ويكون قد قصر وهذا على مذهب من يجوز تقليد مقلد الشافعي رحمه الله إذا نقل مذهبه أوقع لأنه يروي مذهب غيره فكيف لا يروي قول غيره فإن قيل هذا قياس لا يفيد إلا الظن ولا يجوز إثبات الأصول بالظن والقياس والعمل بخبر الواحد أصل كيف ولا ينقدح وجه الظن فإن المجتهد مما يضطر إليه ولو كلف آحاد العوام درجة الاجتهاد تعذر ذلك فهو مضطر إلى تقليد المفتي قلنا لا ضرورة في ذلك بل ينبغي أن يرجع إلى البراءة الأصلية إذ لا طريق له إلى المعرفة كما وجب على المفتي بزعمكم إذا بلغه خبر الواحد أن يرد الخبر فيرجع إلى البراءة الأصلية إذا تعذر عليه التواتر ثم نقول ليس هذا قياسا مظنونا بل هو مقطوع به بأنه في معناه لأنه لو صح العمل بخبر الواحد في الأنكحة لقطعنا به في البياعات ولم يختلف الأمر باختلاف المروي وهاهنا لم يختلف إلا المخبر عنه فإن المفتي يخبر عن ظن نفسه والراوي عن قول غيره كما لم يفرق في حق الشاهدين بين أن يخبرا عن أنفسهما أو عن غيرهما إذا شهدا على عدالة غيرهما أو يخبرا عن ظن أنفسهما العدالة في غيرهما
الدليل الرابع قوله تعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم } التوبة 122 فالطائفة نفر يسير كالثلاثة ولا يحصل العلم بقولهم وهذا فيه نظر لأنه إن كان قاطعا فهو في وجوب الإنذار لا في وجوب العمل على المنذر عنه اتحاد المنذر كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة لا ليعمل بها وحدها لكن إذا انضم غيرها إليها وهذا الاعتراض هو الذي يضعف أيضا التمسك بقوله تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } البقرة 159 ? < وبقوله صلى الله عليه وسلم نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث وأمثالهما ثم
____________________

(1/121)


اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان الشبهة الأولى قولهم لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع فكيف يدعي ذلك وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الواحد فمن ذلك توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبول خبر ذي اليدين حيث سلم عن اثنتين حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وشهدا بذلك وصدقاه ثم قبل وسجد للسهو ومن ذلك رد أبي بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة من ميراث الجد حتى أخبره معه محمد بن مسلمة ومن ذلك رد أبي بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم فيما رواه من استئذانه الرسول في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه بذلك ومن ذلك ما اشتهر من رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى شهد له أبو سعد الخدري رضي الله عنه ومن ذلك رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث ومن ذلك رد عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك مما يكثر وأكثر هذه الأخبار تدل على مذهب من يشترط عددا في الراوي لا على مذهب من يشترط التواتر فإنهم لم يجتمعوا فينتظروا التواتر لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه الذي رويناه قاطع في عملهم وما ذكرتموه رد لأسباب عارضة تقتضي الرد ولا تدل على بطلان الأصل كما أن ردهم بعض نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الأخبار والتوقف فيها أما توقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور أحدها أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف
الثاني أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية فحسم سبيل ذلك
الثالث أنه قال قولا لو علم صدقا لظهر أثره في حق الجماعة واشتغلت ذمتهم فألحق بقبيل الشهادة فلم يقبل فيه قول الواحد والأقوى ما ذكرناه من قبل نعم لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة فيلزمه اشتراط ثلاثة ويلزمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون لأنه كذلك كان
أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كان هناك وجه اقتضى التوقف وربما لم يطلع عليه أحد أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده ليكون الحكم أوكدا أو خلافه فيندفع أو توقف في انتظار استظهار بزيادة كما يتسظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الإقدام على الرواية عن تساهل ويجب حمله على شيء من ذلك إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الإنكار على القائلين به
وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلأنه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد أو توقف لأجل قرابة عثمان من الحكم وقد كان
____________________

(1/122)


معروفا بأنه كلف بأقاربه فتوقف تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول متعنت إنما قال ذلك لقرابته حتى ثبت ذلك بقول غيره أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله
وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا كالمترفع عن المثول ببابه فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجوز للإمام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة كيف ومثل هذه الأخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القبول عنهم
وأما رد علي خبر الأشجعي فقد ذكر علته وقال كيف نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الأخبار
الشبهة الثانية تمسكهم بقوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } الإسراء 36 { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } البقرة 169 وقوله تعالى { وما شهدنا إلا بما علمنا } يوسف 81 وقوله تعالى { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة } الحجرات 6 والجهالة في قول العدل حاصلة وهذا باطل من أوجه الأول أن إنكارهم القول بخبر الواحد غير معلوم ببرهان قاطع بل يجوز الخطأ فيه فهو إذا حكم بغير علم
الثاني أن وجوب العمل به معلوم بدليل قاطع من الإجماع فلا جهالة فيه
الثالث إن المراد من الآيات منع الشاهد عن جزم الشهادة بما لم يبصر ولم يمسع والفتوى بما لم يرو ولم ينقله العدول
الرابع إن هذا لو دل على رد خبر الواحد لدل على شهادة الاثنين والأربعة والرجل والمرأتين والحكم باليمين فكما علم بالنص في القرآن وجوب الحكم بهذه الأمور مع تجويز الكذب فكذلك بالإخبار
الخامس أنه يجب تحريم نصب الخلفاء والقضاة لأنا لا نتيقن إيمانهم فضلا عن ورعهم ولا نعلم طهارة إمام الصلاة عن الجنابة والحدث فليمتنع الاقتداء
الباب الثاني في شروط الراوي وصفته وإذا ثبت وجوب العمل بخبر الواحد فاعلم أن كل خبر فليس بمقبول وافهم أولا أنا لسنا نعني بالقبول التصديق ولا بالرد التكذيب بل يجب علينا قبول قول العدل وربما كان كاذبا أو غالطا ولا يجوز قبول قول الفاسق وربما كان صادقا بل نعني بالمقبول ما يجب العمل به وبالمردود ما لا تكليف علينا في العمل به والمقبول رواية كل مكلف عدل مسلم ضابط منفردا كان بروايته أو معه غيره فهذه خمسة أمور لا بد من النظر فيها الأول أن رواية الواحد تقبل وإن لم تقبل شهادته خلافا للجبائي وجماعة حيث شرطوا العدد ولم يقبلوا إلا قول رجلين ثم لا تثبت رواية كل واحد إلا من رجلين آخرين وإلى أن ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا وقال قوم لا بد من أربعة أخذا من شهادة الزنا ودليل بطلان مذهبهم أنا نقول إذا
____________________

(1/123)


ثبت قبول قول الآحاد مع أنه لا يفيد العلم فاشتراط العدد تحكم لا يعرف إلا بنص أو قياس على منصوص ولا سبيل إلى دعوى النص وما نقل الصحابة من طلب استظهار فهو في واقعتين أو ثلاث لأسباب ذكرناها أما ما قضوا فيه بقول عائشة وحدها وقول زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم فهو خارج عن الحصر فقد علمنا قطعا من أحوالهم قبول خبر الواحد كما علمنا قطعا رد شهادة الواحد وإن أخذوا من قياس الشهادة فهو قياس باطل إذ عرف من فعلهم الفرق ولم لا يقاس عليه في شرط الحرية والذكورة واشترط في أخبار الزنا أربعة وفيما يتعلق برؤية الهلال وشهادة القابلة واحد والمصير إلى ذلك خرق للإجماع ولا فرق إن وجب القياس
الشرط الثاني وهو الأول تحقيقا فإن العدد ليس عندنا من الشروط وهو التكليف فلا تقبل رواية الصبي لأنه لا يخاف الله تعالى فلا وازع له من الكذب فلا تحصل الثقة بقوله وقد اتبعوا في قبول الشهادة سكون النفس وحصول الظن والفاسق أوثق من الصبي فإنه يخاف الله تعالى وله وازع من دينه وعقله والصبي لا يخاف الله تعالى أصلا فهو مردود بطريق الأولى والتمسك بهذا أولى من التمسك برد إقراره وإنه إذا لم يقبل قوله فيما يحكيه عن نفسه فبأن لا يقبل فيما يرويه عن غيره أولى فإن هذا يبطل بالعبد فإنه قد لا يقبل إقراره وتقبل روايته فإن كان سببه أنه يتناول ملك السيد وملك السيد معصوم عنه فملك الصبي أيضا محفوظ عنه لمصلحته فما لا يتعلق به قد يؤثر فيه قوله بل حاله حتى يجوز الاقتداء به اعتمادا على قوله أنه ظاهر وعلى أنه لا يصلي إلا طاهر لكنه كما يجوز الاقتداء بالبر والفاجر فكذلك بالصبي والبالغ وشهادة الفاسق لا تقبل والصبي أجرأ على الكذب منه أما إذا كان طفلا مميزا عند التحمل بالغا عند الرواية فإنه يقبل لأنه لا خلل في تحمله ولا في أدائه ويدل على قبول سماعه إجماع الصحابة على قبول خبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة من غير فرق بين ما تحملوه بعد البلوغ أو قبله وعلى ذلك درج السلف والخلف من إحضار الصبيان مجالس الرواية ومن قبول شهادتهم فيما تحملوه في الصغر فإن قيل فقد قال بعض العلماء تقبل شهادة الصبيان في الجنايات التي تجري بينهم قلنا ذلك منه استدلال بالقرائن إذا كثروا وأخبروا قبل التفرق أما إذا تفرقوا فيتطرق إليهم التلقين الباطل ولا وازع لهم فمن قضى به فإنما قضى به لكثرة الجنايات بينهم ولمسيس الحاجة إلى معرفته بقرائن الأحوال فلا يكون ذلك على منهاج الشهادة
الشرط الثالث أن يكون ضابطا فمن كان عند التحمل غير مميز أو كان مغفلا لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه فلا ثقة بقوله وإن لم يكن فاسقا
الشرط الرابع أن يكون مسلما ولا خلاف في أن رواية الكافر لا تقبل لأنه متهم في الدين وإن كان تقبل شهادة بعضهم على بعض عند أبي حنيفة ولا يخالف في رد روايته والاعتماد في ردها على الإجماع المنعقد على سلبه أهلية هذا المنصب في الدين وإن كان عدلا في دين نفسه وهو أولى من قولنا الفاسق مردود الشهادة والكفر أعظم أنواع الفسق وقد قال تعالى { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا } الحجرات 6 لأن الفاسق متهم لجرأته على المعصية والكافر المترهب قد لا
____________________

(1/124)


يتهم لكن التعويل على الإجماع في سلب الكافر هذا المنصب فإن قيل هذا يتجه في اليهود والنصارى ومن لا يؤمن بديننا إذ لا يليق في السياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه فما قولكم في الكافر المتأول وهو الذي قد قال ببدعة يجب التكفير بها فهو معظم للدين وممتنع من المعصية وغير عالم بأنه كافر فلم لا تقبل روايته وقد قبل الشافعي رواية بعض أهل البدع وإن كان فاسقا ببدعته لأنه متأول في فسقه قلنا في رواية المبتدع المتأول كلام سيأتي وأما الكافر وإن كان متأولا فلا تقبل روايته لأن كل كافر متأول فإن اليهودي أيضا لا يعلم كونه كافرا أما الذي ليس بمتأول وهو المعاند بلسانه بعد معرفة الحق بقلبه فذلك مما يندر وتورع المتأول عن الكذب كتورع النصراني فلا ينظر إليه بل هذا المنصب لا يتسفاد إلا بالإسلام وعرف ذلك بالإجماع لا بالقياس
الشرط الخامس العدالة قال الله تعالى { لهم } الحجرات 6 وهذا زجر عن اعتماد قول الفاسق ودليل على شرط العدالة في الرواية والشهادة والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازغا عن الكذب ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصدا وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرىء على الكذب بالأعراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض ويتفرع عن هذا الشرط مسألتان
مسألة ( تعريف العدالة ) قال بعض أهل العراق العدالة عبارة عن إظهار الإسلام فقط مع سلامته عن فسق ظاهر فكل مسلم مجهول عنده عدل وعندنا لا تعرف عدالته إلا بخبرة باطنة والبحث عن سيرته وسريرته ويدل على بطلان ما قالوه أمور الأول أن الفاسق مردود الشهادة والرواية بنص القرآن ولعلمنا بأن دليل قبول خبر الواحد قبول الصحابة إياه وإجماعهم ولم ينقل ذلك عنهم إلا في العدل والفاسق لو قبلت روايته لقبل بدليل الإجماع أو بالقياس على العدل المجمع عليه ولا إجماع في الفاسق ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله فصار الفسق مانعا من الرواية كالصبا والكفر وكالرق في الشهادة ومجهول الحال في هذه الخصال لا يقبل قوله فكذلك مجهول الحال في الفسق لأنه إن كان فاسقا فهو مردود الرواية وإن كان عدلا فغير مقبول أيضا للجهل به كما لو شككنا في صباه ورقه وكفره ولا فرق
الثاني أنه لا تقبل شهادة المجهول وكذلك روايته وإن منعوا شهادة المال فقد سلموا شهادة
____________________

(1/125)


العقوبات ثم المجهول مردود في العقوبات وطريق الثقة في الرواية والشهادة واحد وإن اختلفا في بقية الشروط
الثالث أن المفتي المجهول الذي لا يدري أنه بلغ رتبة الاجتهاد أم لا يجوز للعامي قبول قوله وكذلك إذا لم يدر أنه عالم أم لا بل سلموا أنه لو لم تعرف عدالته وفسقه فلا يقبل وأي فرق بين حكاية المفتي عن نفسه اجتهاده وبين حكايته خبرا عن غيره
الرابع أن شهادة الفرع لا تسمع ما لم يعين الفرع شاهد الأصل وهو مجهول عند القاضي فلم يجب تعيينه وتعريفه إن كان قول المجهول مقبولا وهذا رد على من قبل شهادة المجهول ولا جواب عنه فإن قيل يلزمه ذكر شاهد الأصل فلعل القاضي يعرفه بفسق فيرد شهادته قلنا إذا كان حد العدالة هو الإسلام من غير ظهور فسق فقد تحقق ذلك فلم يجب التتبع حتى يظهر الفسق ثم يبطل ما ذكره بالخبر المرسل فإنهم لم يوجبوا ذكر الشيخ ولعل المروي له يعرف فسقه
الخامس أن مستندنا في خبر الواحد عمل الصحابة وهم قد ردوا خبر المجهول فرد عمر رضي الله عنه فاطمة بنت قيس وقال كيف نقبل قول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت ورد علي خبر الأشجعي في المفوضة وكان يحلف الراوي وإنما يحلف من عرف من ظاهره العدالة دون الفسق ومن رد قول المجهول منهم كان لا ينكر عليه غيره فكانوا بين راد وساكت وبمثله ظهر إجماعهم في قبول العدل إذ كانوا بين قابل وساكت غير منكر ولا معترض
السادس ما ظهر من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه العدالة والعفاف وصدق التقوى ممن كان ينفذه للأعمال وأداء الرسالة وإنما طلب الأشد التقوى لأنه كان قد كلفهم أن لا يقبلوا إلا قول العدل فهذه أدلة قوية في محل الاجتهاد قريبة من القطع والمسألة اجتهادية لا قطعية
شبه الخصوم وهي أربع الأولى أنه صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية الهلال ولم يعرف منه إلا الإسلام قلنا وكونه أعرابيا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بالوحي وإما بالخبرة وإما بتزكية من عرف حاله فمن يسلم لكم أنه كان مجهولا عنده
الثانية أن الصحابة قبلوا قول العبيد والنسوان والأعراب لأنهم لم يعرفوهم بالفسق وعرفوهم بالإسلام قلنا إنما قبلوا قول أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواج أصحابه وكانت عدالتهن وعدالة مواليهم مشهورة عندهم وحيث جهلوا ردوا كرد قول الأشجعي وقول فاطمة بنت قيس
الثالثة قولهم لو أسلم كافر وشهد في الحال أو روى فإن قلتم لا نقبل شهادته فهو بعيد وإن قبلتم فلا مستند للقبول إلا إسلامه وعدم معرفة الفسق منه فإذا انقضت مدة ولم نعرف منه فسقا لطول مدة إسلامه لم نوجب رده قلنا لا نسلم قبول روايته فقد يسلم الكذوب ويبقى على طبعه فما لم نطلع على خوف في قلبه وازع عن الكذب لا نقبل شهادته والتقوى في القلب وأصله الخوف وإنما تدل عليه أفعاله في مصادره وموارده فإن سلمنا قبول روايته فذلك لطرق إسلامه وقرب عهده بالدين وشتان بين من هو في طراوته وبدايته وبين من قسا قلبه بطول الألف فإن قيل إذا رجعت العدالة إلى هيئة باطنة في النفس وأصلها الخوف وذلك لا يشاهد بل يستدل عليه بما ليس بقاطع بل هو مغلب على الظن فأصل ذلك الخوف هو الإيمان فذلك يدل على الخوف دلالة
____________________

(1/126)


ظاهرة فلنكتف به قلنا لا يدل عليه فإن المشاهدة والتجربة دلت على أن عدد فساق المؤمنين أكثر من عدد عدولهم فكيف نشكك نفوسنا فيما عرفناه يقينا ثم هلا أكتفي بذلك في شهادة العقوبات وشهادة الأصل وحال المفتي في العدالة وسائر ما سلموه
الرابعة قولهم يقبل قول المسلم المجهول في كون اللحم لحم ذكي وكون الماء في الحمام طاهرا وكون الجارية المبيعة رقيقة غير مزوجة ولا معتدة حتى يحل الوطء بقوله وقول المجهول في كونه متطهرا للصلاة عن الحدث والجنابة إذا أم الناس وكذلك قول من يخبر عن نجاسة الماء وطهارته بناء على ظاهر الإسلام وكذلك قول من يخبر الأعمى عن القبلة قلنا أما قول العاقد فمقبول لا لكونه مجهولا لكنه مع ظهور الفسق وذلك رخصة لكثرة الفساق ولمسيس حاجتهم إلى المعاملات وكذلك جواز الاقتداء بالبر والفاجر فلا يشترط الستر أما الخبر عن القبلة وعن طهارة الماء فلم يحصل سكون النفس بقول المخبر فلا يجب قبوله والمجهول لا تسكن النفس إليه بل سكون النفس إلى قول فاسق جرب باجتناب الكذب أغلب منه إلى قول المجهول وما يخص العبد بينه وبين الله تعالى فلا يبعد أن يرد إلى سكون نفسه فأما الرواية والشهادة فأمرهما أرفع وخطرهما عام فلا يقاسان على غيرهما وهذه صور ظنية اجتهادية أما رد خبر الفاسق والمجهول فقريب من القطع
مسألة ( هل تقبل شهادة الفاسق المتأول ) الفاسق المتأول وهو الذي لا يعرف فسق نفسه اختلفوا في شهادته وقد قال الشافعي أقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ لأن هذا فسق غير مقطوع به إنما المقطوع به فسق الخوارج الذين استباحوا الديار وقتلوا الذراري وهم لا يدرون أنهم فسقة وقد قال الشافعي تقبل شهادة أهل الأهواء لا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب واختار القاضي أنه لا تقبل رواية المبتدع وشهادته لأنه فاسق بفعله وبجهله بتحريم فعله ففسقه مضاعف وزعم أن جهله بفسق نفسه كجهله بكفر نفسه ورق نفسه ومثار هذا الخلاف أن الفسق يرد الشهادة لأنه نقصان منصب يسلب الأهلية كالكفر والرق أو هو مردود القول للتهمة فإن كان للتهمة فالمبتدع متورع عن الكذب فلا يتهم وكلام الشافعي مشير إلى هذا وهو في محل الاجتهاد فذهب أبي حنيفة أن الكفر والفسق لا يسلبان الأهلية بل يوجبان التهمة ولذلك قبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ومذهب القاضي أن كليهما نقصان منصب يسلب الأهلية ومذهب الشافعي أن الكفر نقصان والفسق موجب للرد للتهمة وهذا هو الأغلب على الظن عندنا
فإن قيل هذا مشكل على الشافعي من وجهين أحدهما أنه قضى بأن النكاح لا ينعقد بشهادة الفاسق وذلك لسلب الأهلية الثاني أنه إن كان للتهمة فإذا غلب على ظن القاضي صدقه فليقبل
قلنا أما الأول فأخذه قوله صلى الله عليه وسلم لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل وللشارع أن يشترط زيادة على أهلية الشهادة كما شرط في الولي وكما شرط في الزنا زيادة عدد
وأما الثاني فسببه أن الظنون تختلف وهو أمر خفي ناطه الشرع بسبب ظاهر وهو عدد مخصوص ووصف مخصوص وهو العدالة فيجب اتباع السبب الظاهر دون المعنى الخفي كما في العقوبات وكما في رد شهادة الوالد لأحد ولديه على الآخر فإنه قد يتهم وترد شهادته
____________________

(1/127)


لأن الأبوة مظنة للتهمة فلا ينظر إلى الحال وإنما مظنة التهمة ارتكاب الفسق مع المعرفة دون من لا يعرف ذلك ويدل أيضا على مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الأخبار والشهادة وكانوا فسقة متأولين وعلى قبول ذلك درج التابعون لأنهم متورعون عن الكذب جاهلون بالفسق فإن قيل فهل يمكن دعوى الإجماع في ذلك قلنا لا فإنا نعلم أن عليا والأئمة قبلوا قول قتلة عثمان والخوارج لكن لا نعلم ذلك من جميع الصحابة فلعل فيهم من أضمر إنكارا لكن لم يرد على الإمام في محل الاجتهاد فكيف ولو قبل جميعهم خبرهم فلا يثبت أن جميعهم اعتقدوا فسقهم وكيف يفرض والخوارج من جملة أهل الإجماع وما اعتقدوا فسق أنفسهم بل فسق خصومهم وفسق عثمان وطلحة ووافقهم عليه عمار بن ياسر وعدي بن حاتم وابن الكواء والأشتر النخعي وجماعة من الأمراء وعلي في تقية من الإنكار عليهم خوف الفتنة فإن قيل لو لم يعتقدوا فسق الخوارج لفسقوا قلنا ليس كذلك فليس الجهل بما يفسق ويكفر فسقا وكفرا وعلى الجملة فقبولهم روايتهم يدل على أنهم اعتقدوا رد خبر الفاسق للتهمة ولم يتهموا المتأول والله أعلم
خاتمة جامعة للرواية والشهادة اعلم أن التكليف والإسلام والعدالة والضبط يشترك فيه الرواية والشهادة فهذه أربعة أما الحرية والذكورة والبصر والقرابة والعدد والعداوة فهذه الستة تؤثر في الشهادة
____________________

(1/128)


دون الرواية لأن الرواية حكمها عام لا يختص بشخص حتى تؤثر فيه الصداقة والقرابة والعداوة فيروي أولاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ويروي كل ولد عن والده والضرير الضابط للصوت تقبل روايته وإن لم تقبل شهادته إذ كانت الصحابة يروون عن عائشة اعتمادا على صوتها وهم كالضرير في حقها ولا يشترط كون الراوي عالما فقيها سواء خالف ما رواه القياس أو وافق إذ رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه فلا يشترط إلا الحفظ ولا يشترط مجالسة العلماء وسماع الأحاديث بل قبل الصحابة قول أعرابي لم يرو إلا حديثا واحدا نعم إذا عارضه حديث العالم الممارس ففي الترجيح نظر سيأتي ولا تقبل رواية من عرف باللعب والهزل في أمر الحديث أو التساهل في أمر الحديث أو بكثرة السهو فيه إذ تبطل الثقة بجميع ذلك أما الهزل والتساهل في حديث نفسه فقد لا يوجب الرد ولا يشترط كون الراوي معروف النسب بل إذا عرف عدالة شخص بالخبرة قبل حديثه وإن لم يكن له نسب فضلا عن أن يكون لا يعرف نسبه ولو روى عن مجهول العين لم نقبله بل من يقبل رواية المجهول صفته لا يقبل رواية المجهول عينه إذ لو عرف عينه ربما عرفه بالفسق بخلاف من عرف عينه ولم يعرفه بالفسق فلو روى عن شخص ذكر اسمه واسمه مردد بين مجرح وعدل فلا يقبل لأجل التردد
الباب الثالث في الجرح والتعديل وفيه أربعة فصول الأول في عدد المزكى وقد اختلفوا فيه فشرط بعض المحدثين العدد في المزكى والجارح كما في مزكى الشاهد وقال القاضي لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا في تزكية الراوي وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكى وقال قوم يشترط في الشهادة دون الرواية وهذه مسألة فقهية والأظهر عندنا أنه يشترط في الشهادة دون الرواية وهذا لأن العدد الذي تثبت به الرواية لا يزيد على نفس الرواية فإن قيل صح من الصحابة قبول رواية الواحد ولم يصح قبول تزكية الواحد فيرجع فيه إلى قياس الشرع قلنا نحن نعلم مما فعلوه كثيرا مما لم يفعلوه إذ نعلم أنهم كما قبلوا حديث الصديق رضي الله عنه كانوا يقبلون تعديله لمن روى الحديث وكيف يزيد شرط الشيء على أصله والإحصان يثبت بقول اثنين وإن لم يثبت الزنا إلا بأربعة ولم يقس عليه وكذلك نقول تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية كما تقبل روايتهما وهذه مسائل فقهية ثبتت بالمقاييس الشبيهة فلا معنى للإطناب فيها في الأصول
الفصل الثاني في ذكر سبب الجرح والتعديل قالالشافعي يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل إذ قد يجرح بما لا يراه جارحا لاختلاف المذاهب فيه وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد وقال قوم مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى البناء على الظاهر فلا بد من ذكر سببه وقال قوم لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين وقال القاضي لا يجب ذكر المسبب فيهما جميعا لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن فلا يصلح للتزكية وإن كان بصيرا فأي معنى للسؤال والصحيح عندنا أن هذا يختلف باختلاف حال المزكي فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه ومن عرفت عدالته في نفسه ولم تعرف بصيرته بشروط العدالة فقد نراجعه إذا فقدنا عالما بصيرا به وعند ذلك نستفصله أما إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح فإن الجارح أطلع على زيادة ما أطلع عليها المعدل ولا نفاها فإن نفاها بطلت عدالة المزكي إذ النفي لا يعلم إلا إذا جرحه بقتل إنسان فقال المعدل رأيته حيا بعده تعارضا وعدد المعدل إذا زاد قيل إنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على مزيد ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد
الفصل الثالث في نفس التزكية وذلك إما بالقول أو بالرواية عنه أو بالعمل بخبره أو بالحكم بشهادته فهذه أربعة أعلاها صريح القول وتمامه أن يقول هو عدل رضا لأني عرفت منه كيت وكيت فإن لم يذكر السبب وكان بصيرا بشروط العدالة كفى
الثانية أن يروي عنه خبرا وقد اختلفوا في كونه تعديلا والصحيح أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا من عدل كانت الرواية تعديلا وإلا فلا إذ من عادة أكثرهم الرواية من كل من سمعوه ولو كلفوا الثناء عليهم سكتوا فليس في روايته ما يصرح بالتعديل فإن قيل لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين قلنا لم نوجب على غيره العمل لكن قال سمعت فلانا قال كذا وصدق فيه ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا العدالة فروى ووكل البحث إلى من أراد القبول
الثالثة العمل بالخبر إن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر فليس بتعديل وإن عرفنا يقينا أنه عمل بالخبر فهو تعديل إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق وبطلت عدالته فإن قيل لعله ظن أن مجرد الإسلام مع عدم الفسق عدالة قلنا هذا يتطرق إلى التعديل بالقول ونحن نقول العمل
____________________

(1/129)


كالقول وهذا الاحتمال ينقطع بذكر سبب العدالة وما ذكرناه تفريع على الاكتفاء بالتعديل المطلق إذ لو شرط ذكر السبب لشرط في شهادة البيع والنكاح عد جميع شرائط الصحة وهو بعيد فإن قيل لعله عرفه عدلا ويعرفه غيره بالفسق قلنا من عرفه لا جرم لا يلزمه العمل به كما لو عدل جريحا
الرابعة أن يحكم بشهادته فذلك أقوى من تزكيته بالقول أما ترك الحكم بشهادته وبخبره فليس جرحا إذ قد يتوقف في شهادة العدل وروايته لأسباب سوى الجرح كيف وترك العمل لا يزيد على الجرح المطلق وهو غير مقبول عند الأكثرين وبالجملة إن لم ينقدح وجه لتزكية العمل من تقديم أو دليل آخر فهو كالجرح المطلق
الفصل الرابع في عدالة الصحابة رضي الله عنهم والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلف أن عدالتهم معلومة بتعديل الله عز وجل إياهم وثنائه عليهم في كتابه فهو معتقدنا فيهم إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل قال الله تعالى { بصير } آل عمران 110 وقال تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } البقرة 143 وهو خطاب مع الموجودين في ذلك العصر وقال تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة } الفتح 18 وقال عز وجل { والسابقون الأولون } التوبة 100 وقد ذكر الله تعالى المهاجرين والأنصار في عدة مواضع وأحسن الثناء عليهم وقال صلى الله عليه وسلم خير الناس قرني ثم الذين يلونهم وقال صلى الله عليه وسلم لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقال صلى الله عليه وسلم إن الله اختار لي أصحابا وأصهارا وأنصارا فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب سبحانه وتعديل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته كفاية في القطع بعدالتهم وقد زعم قوم أن حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث وقال قوم حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ثم تغير الحال وسفكت الدماء فلا بد من البحث وقال جماهير المعتزلة عائشة وطلحة والزبير وجميع أهل العراق والشام فساق بقتال الإمام الحق وقال قوم من سلف القدرية يجب رد شهادة علي وطلحة والزبير مجتمعين ومفترقين لأن فيهم فاسقا لا نعرفه بعينه وقال قوم نقبل شهادة كل واحد إذا انفرد لأنه لم يتعين فسقه أما إذا كان مع مخالفه فشهدا ردا إذ نعلم أن أحدهما فاسق وشك بعضهم في فسق عثمان وقتلته وكل هذا جراءة على السلف على خلاف السنة بل قال قوم ما جرى بينهم ابتنى على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطىء معذور لا ترد شهادته وقال قوم ليس ذلك مجتهدا فيه ولكن قتلة عثمان والخوارج مخطئون قطعا لكنهم جهلوا خطأهم وكانوا متأولين والفاسق المتأول لا ترد روايته وهذا أقرب من المصير إلى سقوط تعديل القرآن مطلقا فإن قيل القرآن أثنى على الصحابة فمن الصحابة من عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من لقيه مرة أو من صحبه ساعة أو من طالت صحبته وما حد
____________________

(1/130)


طولها قلنا الإسم لا يطلق إلا على من صحبه ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته ويعرف ذلك بالتواتر والنقل الصحيح وبقول الصحابي كثرت صحبتي ولا حد لتلك الكثرة بتقدير بل بتقريب الباب الرابع في مستند الراوي وكيفية ضبطه ومستنده إما قراءة الشيخ عليه أو قراءته على الشيخ أو إجازته أو مناولته أو رؤيته بخطه في كتاب فهي خمس مراتب الأولى وهي الأعلى قراءة الشيخ في معرض الأخبار ليروى عنه وذلك يسلط الراوي على أن يقول حدثنا وأخبرنا وقال فلان وسمعته يقول
الثانية أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت فهو كقوله هذا صحيح فتجوز الرواية به خلاف لبعض أهل الظاهر إذ لو لم يكن صحيحا لكان سكوته وتقريره عليه فسقا قادحا في عدالته ولو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكذب إذا نطق بكونه صحيحا نعم لو كان ثم مخيلة قلة اكتراث أو غفلة فلا يكفي السكوت وهذا يسلط الراوي على أن يقول أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه أما قوله حدثنا مطلقا أو سمعت فلانا اختلفوا فيه والصحيح أنه لا يجوز لأنه يشعر بالنطق لأن الخبر والحديث والمسموع كل ذلك نطق وذلك منه كذب إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة حاله أنه يريد به القراءة على الشيخ دون سماع حديثه
الثالثة الإجازة وهو أن يقول أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي وعند ذلك يجب الاحتياط في تعيين المسموع أما إذا اقتصر على قوله هذا مسموعي من فلان فلا تجوز الرواية عنه لأنه لم يأذن في الرواية فلعله لا يجوز الرواية لخلل يعرفه فيه وإن سمعه وكذلك لو قال عندي شهادة لا يشهد ما لم يقل أذنت لك في أن تشهد على شهادتي أو لم تقم تلك الشهادة في مجلس الحكم لأن الرواية شهادة والإنسان قد يتساهل في الكلام لكن عند جزم الشهادة قد يتوقف ثم الإجازة تسلط الراوي على أن يقول حدثنا وأخبرنا إجازة أما قوله حدثنا مطلقا جوزه قوم وهو فاسد لأنه يشعر بسماع كلامه وهو كذب كما ذكرناه في القراءة على الشيخ
الرابعة المناولة وصورته أن يقول خذ هذا الكتاب وحدث به عني فقد سمعته من فلان ومجرد المناولة دون هذا اللفظ لا معنى له وإذا وجد هذا اللفظ فلا معنى للمناولة فهو زيادة تكلف أحدثه بعض المحدثين بلا فائدة كما يجوز رواية الحديث بالإجازة فيجب العمل به خلافا لبعض أهل الظاهر لأن المقصود معرفة صحة الخبر لا عين الطريق المعرف وقوله هذا الكتاب مسموعي فاروه عني في التعريف كقراءته والقراءة عليه وقولهم إنه قادر على أن يحدثه به فهو كذلك لكن أي حاجة إليه ويلزم أن لا تصح القراءة عليه لأنه قادر على القراءة بنفسه ويجب أن لا يروى في حياة الشيخ لأنه قادر على الرجوع إلى الأصل كما في الشهادة فدل أن هذا لا يعتبر في الرواية
الخامسة الاعتماد على الخط بأن يرى مكتوبا بخطه إني سمعت على فلان كذا فلا يجوز أن يروي عنه لأن روايته شهادة عليه بأنه قاله والخط لا يعرفه هذا نعم يجوز أن يقول رأيت مكتوبا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان فإن الخط أيضا قد يشبه الخط أما إذا قال هذا خطي قبل قوله ولكن لا يروي عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله أو أما بقرينة حاله في الجلوس لرواية الحديث أما إذا
____________________

(1/131)


قال عدل هذه نسخة صحيحة من صحيح البخاري مثلا فرأى فيه حديثا فليس له أن يروي عنه لكن هل يلزمه العمل إن كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد وإن كان مجتهدا فقال قوم لا يجوز له العلم به ما لم يسمعه وقال قوم إذا علم صحة النسخة بقول عدل جاز العمل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد وكان الخلق يعتمدون تلك الصحف بشهادة حامل الصحف بصحته دون أن يسمعه كل واحد منه فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن وعلى الجملة فلا ينبغي أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولا وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء بحيث يعلم أن ما أداه هو الذي سمعه ولم يتغير منه حرف فإن شك في شيء منه فليترك الرواية
ويتفرع عن هذا الأصل مسائل مسألة ( الشك في الرواية إذا كان في مسموعاته ) عن الزهري مثلا حديث واحد شك أنه سمعه من الزهري أم لا لم يجز له أن يقول سمعت الزهري ولا أن يقول قال الزهري لأن قوله قال الزهري شهادة على الزهري فلا يجوز إلا عن علم فلعله سمعه من غيره فهو كمن سمع إقرارا ولم يعلم أن المقر زيد و عمرو فلا يجوز أن يشهد على زيد بل نقول لو سمع مائة حديث من شيخ وفيها حديث واحد علم أنه لم يسمعه ولكنه التبس عليه عينه فليس له روايته بل ليس له رواية شيء من الأحاديث عنه إذ ما من حديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي لم يسمعه ولو غلب على ظنه في حديث أنه مسموع من الزهري لم تجز الرواية بغلبة الظن وقال قوم يجوز لأن الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن وهو بعيد لأن الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن ولكن في حق الحاكم فإنه لا يعلم صدق الشاهد أما الشاهد فينبغي أن يتحقق لأن تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم فيما تمكن فيه المشاهدة ممكن وتكليف الحاكم أن لا يحكم إلا بصدق الشاهد محال وكذلك الراوي لا سبيل له إلى معرفة صدق الشيخ ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع فإذا لم يتحقق فينبغي أن لا يروي فإن قيل فالواحد في عصرنا يجوز أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتحقق ذلك قلنا لا طريق له إلى تحقق ذلك ولا يفهم من قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمعه لكن يفهم منه أنه سمع هذا الحديث من غيره أو رواه في كتاب يعتمد عليه وكل من سمع ذلك لا يلزمه العمل به لأنه مرسل لا يدري من أين يقوله وإنما يلزم العمل إذا ذكر مستنده حتى ينظر في حاله وعدالته والله أعلم
مسألة ( تكذيب الشيخ الراوي ) إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع بكذب الراوي ولم يعمل به لم يصر الراوي مجروحا لأن الجرح ربما لا يثبت بقول واحد ولأنه مكذب شيخه كما أن شيخه مكذب له وهما عدلان فهما كبينتين متكاذبتين فلا يوجب الجرح أما إذا أنكر إنكار متوقف وقال لست أذكره فيعمل بالخبر لأن الراوي جازم أنه سمعه منه وهو ليس بقاطع بتكذيبه وهما عدلان فصدقهما إذا ممكن وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث وبنى عليه اطراح خبر الزهري أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها واستدل بأنه الأصل ولأنه ليس للشيخ أن يعمل بالحديث والراوي فرعه فكيف يعمل به قلنا للشيخ أن يعمل به إذا روى العدل له عنه فإن بقي شك له مع رواية العدل فليس له العمل به وعلى
____________________

(1/132)


الراوي العمل إذا قطع بأنه سمع وعلى غيرهما العمل جمعا بين تصديقهما والحاكم يجب عليه العمل بقول الشاهد المزور الظاهر العدالة ويحرم على الشاهد ويجب على العامي العمل بفتوى المجتهد وإن تغير اجتهاده إذا لم يعلم تغير اجتهاده والمجتهد لا يعمل به بعد التغير لأنه علمه فعمل كل واحد على حسب حاله وقد ذهب إلى العمل به مالك والشافعي وجماهير المتكلمين وهذا لأن النسيان غالب على الإنسان وأي محدث يحفظ في حينه جميع ما رواه في عمره فصار كشك الشيخ في زيادة في الحديث أو في إعراب في الحديث فإن ذلك لما لم يبطل الحديث لكثرة وقوع الشك فيه فكذلك أصل الحديث
مسألة ( هل تقبل زيادة الثقة بالحديث ) انفراد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة مقبول عند الجماهير سواء كانت الزيادة من حيث اللفظ أو من حيث المعنى لأنه لو انفرد بنقل حديث عن جميع الحفاظ لقبل فكذلك إذا انفرد بزيادة لأن العدل لا يتهم بما أمكن فإن قيل يبعد انفراده بالحفظ مع إصغاء الجميع قلنا تصديق الجميع أولى إذا كان ممكنا وهو قاطع بالسماع والآخرون ما قطعوا بالنفي فلعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذكره في مجلسين فحيث ذكر الزيادة لم يحضر إلا الواحد أو كرر في مجلس واحد وذكر الزيادة في إحدى الكرتين ولم يحضر إلا الواحد ويحتمل أن يكون راوي النقص دخل في أثناء المجلس فلم يسمع التمام أو اشتركوا في الحضور ونسوا الزيادة إلا واحدا أو طرأ في أثناء الحديث سبب شاغل مدهش فغفل به البعض عن الإصغاء فيختص بحفظ الزيادة المقبل على الإصغاء أو عرض لبعض السامعين خاطر شاغل عن الزيادة أو عرض له مزعج يوجب قيامه قبل التمام فإذا احتمل ذلك فلا يكذب العدل ما أمكن
مسألة ( هل تقبل رواية بعض الخبر ) رواية بعض الخبر ممتنعة عند أكثر من منع نقل الحديث بالمعنى ومن جوز النقل على المعنى جوز ذلك إن كان قد رواه مرة بتمامه ولم يتعلق المذكور بالمتروك تعلقا يغير معناه وأما إذا تعلق كشرط العبادة أو ركنها أو ما به التمام فنقل البعض تحريف وتلبيس أما إذا روى الحديث مرة تاما ومرة ناقصا نقصانا لا يغير فهو جائز ولكن بشرط أن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة فإذا علم أنه يتهم باضطراب النقل وجب عليه الاحتراز عن ذلك
مسألة ( هل يصح رواية الحديث بالمعنى ) نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والأظهر والعام والأعم فقد جوز له الشافعي ومالك وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء أن ينقله على المعنى إذا فهمه وقال فريق لا يجوز له إلا إبدال بما يرادفه ويساويه في المعنى كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة والإبصار بالإحساس بالبصر والحظر بالتحريم وسائر ما لا يشك فيه وعلى الجملة ما لا يتطرق إليه تفاوت بالاستنباط والفهم وإنما ذلك فيما فهمه قطعا لا فيما فهمه بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون ويدل على جواز ذلك للعالم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها فلأن يجوز عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى وكذلك كان سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في
____________________

(1/133)


البلاد يبلغونهم أوامره بلغتهم وكذلك من سمع شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم فله أن يشهد على شهادته بلغة أخرى وهذا لأنا نعلم أنه لا تعبد في اللفظ وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق وليس ذلك كالتشهد والتكبير وما تعبد فيه باللفظ فإن قيل فقد قال صلى الله عليه وسلم نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
قلنا هذا هو الحجة لأنه ذكر العلة وهو اختلاف الناس في الفقه فما لا يختلف الناس فيه من الألفاظ المترادفة فلا يمنع منه وهذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن تكون جميع الألفاظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة لكن الأغلب أنه حديث واحد ونقل بألفاظ مختلفة فإنه روى رحم الله امرءا ونضر الله امرءا وروي ورب حامل فقه لا فقه له وروى حامل فقه غير فقيه وكذلك الخطب المتحدة والوقائع المتحدة رواها الصحابة رضي الله عنهم بألفاظ مختلفة فدل ذلك على الجواز
مسألة ( هل يقبل الحديث المرسل أم لا ) المرسل مقبول عند مالك وأبي حنيفة والجماهير ومردود عند الشافعي والقاضي وهو المختار وصورته أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره أو قال من لم يعاصر أبا هريرة قال أبو هريرة والدليل أنه لو ذكر شيخه ولم يعدله وبقي مجهولا عندنا لم نقبله فإذا لم يسمه فالجهل أتم فمن لا يعرف عينه كيف تعرف عدالته فإن قيل رواية العدل عنه تعديل فالجواب من وجهين الأول أنا لا نسلم فإن العدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه أو جرحه وقد رأيناهم رووا عمن إذا سئلوا عنه عدلوه مرة وجرحوه أخرى أو قالوا لا ندري فالراوي عنه ساكت عن تعديله ولو كان السكوت عن الجرح تعديلا لكان السكوت عن التعديل جرحا ولوجب أن يكون الراوي إذا جرح من روى عنه مكذبا نفسه ولأن شهادة الفرع ليس تعديلا للأصل ما لم يصرح وافتراق الرواية والشهادة في بعض التعبدات لا يوجب فرقا في هذا المعنى كما لم يوجب فرقا في منع قبول رواية المجروح والمجهول وإذا لم يجز أن يقال لا يشهد العدل إلا على شهادة عدل لم يجز ذلك في الرواية ووجب فيها معرفة عين الشيخ والأصل حتى ينظر في حالهما فإن قيل العنعنة كافية في الرواية مع أن قوله روى فلان عن فلان عن فلان يحتمل ما لم يسمعه فلان عن فلان بل بلغه بواسطة ومع الاحتمال يقبل ومثل ذلك في الشهادة لا يقبل قلنا هذا إذا لم يوجب فرقا في رواية المجهول والمرسل مروي عن مجهول فينبغي أن لا يقبل ثم العنعنة جرت العادة بها في الكتبة فإنهم استثقلوا أن يكتبوا عند كل اسم روي عن فلان سماعا منه وشحوا على القرطاس والوقت أن يضيعوه فأوجزوا وإنما يقبل في الرواية ذلك إذا علم بصريح لفظه أو عامته أنه يريد به السماع فإن لم يرد السماع فهو متردد بين المسند والمرسل فلا يقبل
الجواب الثاني أنا إن سلمنا جدلا أن الرواية تعديل فتعديله المطلق لا يقبل ما لم يذكر السبب فلو صرح بأنه سمعه من عدل ثقة لم يلزم قبوله وإن سلم قبول التعديل
____________________

(1/134)


المطلق فذلك في حق شخص نعرف عينه ولا يعرف بفسق أما من لم نعرف عينه فلعله لو ذكره لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل وإنما يكتفي في كل مكلف بتعريف غيره عند العجز عن معرفة نفسه ولا يعلم عجزه ما لم يعرفه بعينه وبمثل هذه العلة لم يقبل تعديل شاهد الفرع مطلقا ما لم يعرف الأصل ولم يعينه فلعل الحاكم يعرفه بفسق وعداوة وغيره احتجوا باتفاق الصحابة والتابعين على قبول مرسل العدل فابن عباس مع كثرة روايته قيل أنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث لصغر سنه وصرح بذلك في حديث الربا في النسيئة وقال حدثني به أسامة بن زيد وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة فلما روجع قال حدثني به أخي الفضل بن عباس وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من صلى على جنازة فله قيراط ثم أسنده إلى أبي هريرة وروى أبو هريرة أن من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له وقال ما أنا قلتها ورب الكعبة ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم قالها فلما روجع قال حدثني به الفضل بن عباس وقال البراء بن عازب ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابه ببعضه أما التابعون فقد قال النخعي إذا قلت حدثني فلان عن عبد الله فهو حدثني وإذا قلت قال عبد الله فقد سمعته من غير واحد وكذلك نقل عن جماعة من التابعين قبول المرسل والجواب من وجهين الأول أن هذا صحيح ويدل على قبول بعضهم المراسيل والمسألة في محل الاجتهاد ولا يثبت فيها إجماع أصلا وفيه ما يدل على أن الجملة لم يقبلوا المراسيل ولذلك باحثوا ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة مع جلالة قدرهم لا لشك في عدالتهم ولكن للكشف عن الراوي فإن قيل قبل بعضهم وسكت الآخرون فكان إجماعا قلنا لا نسلم ثبوت الإجماع بسكوتهم لا سيما في محل الاجتهاد بل لعله سكت مضمرا للإنكار أو مترددا فيه
والجواب الثاني أن من المنكرين للمرسل من قبل مرسل الصحابي لأنهم يحدثون عن الصحابة وكلهم عدول ومنهم من أضاف إليه مراسيل التابعين لأنهم يروون عن الصحابة ومنهم من خصص كبار التابعين بقبول مرسله والمختار على قياس رد المرسل أن التابعي والصحابي إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قبل مرسله وإن لم يعرف ذلك فلا يقبل لأنهم قد يروون عن غير الصحابي من الأعراب الذين لا صحبة لهم وإنما ثبتت لنا عدالة أهل الصحبة قال الزهري بعد الإرسال حدثني به رجل على باب عبد الملك وقال عروة بن الزبير فيما أرسله عن بسرة حدثني به بعض الحرس
مسألة ( هل يقبل خبر الواحد ) خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول خلافا للكرخي وبعض أصحاب الرأي لأن كل ما نقله العدل وصدقه فيه ممكن وجب تصديقه فمس الذكر مثلا نقله العدل وصدقه فيه ممكن فإنا لا نقطع بكذب ناقله بخلاف ما لو انفرد واحد بنقل ما تحيل العادة فيه أن لا يستفيض كقتل أمير في السوق وعزل وزير وهجوم واقعة في الجامع منعت الناس من الجمعة أو كخسف أو زلزلة أو انقضاض كوكب عظيم وغيره من العجائب فإن الدواعي تتوفر على إشاعة جميع ذلك ويستحيل انكتامه وكذلك القرآن لا يقبل فيه خبر الواحد لعلمنا بأنه صلى
____________________

(1/135)


الله عليه وسلم تعبد بإشاعته واعتنى بإلقائه إلى كافة الخلق فإن الدواعي تتوفر على إشاعته ونقله لأنه أصل الدين والمنفرد برواية سورة أو آية كاذب قطعا فأما ما تعم به البلوى فلا نقطع بكذب خبر الواحد فيه فإن قيل بم تنكرون على من يقطع بكذبه لأن خروج الخارج من السبيلين لما كان الإنسان لا ينفك عنه في اليوم والليلة مرارا وكانت الطهارة تنتقض به فلا يحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يشيع حكمه ويناجي به الآحاد إذ يؤدي إلى إخفاء الشرع وإلى أن تبطل صلاة العباد وهم لا يشعرون فتجب الإشاعة في مثله ثم تتوفر الدواعي على نقله وكذلك مس الذكر مما يكثر وقوعه فكيف يخفى حكمه قلنا هذا يبطل أولا بالوتر وحكم الفصد والحجامة والقهقهة ووجوب الغسل من غسل الميت وإفراد الإقامة وتثنيتها وكل ذلك مما تعم به البلوى وقد أثبتوها بخبر الواحد فإن زعموا أن ليس عموم البلوى فيها كعمومها في الأحداث فنقول فليس عموم البلوى في اللمس والمس كعمومها في خروج الأحداث فقد يمضي على الإنسان مدة لا يلمس ولا يمس الذكر إلا في حالة الحدث كما لا يفتصد ولا يحتجم إلا أحيانا فلا فرق
والجواب الثاني وهو التحقيق أن الفصد والحجامة وإن كان لا يتكرر كل يوم ولكنه يكثر فكيف أخفي حكمه حتى يؤدي إلى بطلان صلاة خلق كثير وإن لم يكن هو الأكثر فكيف وكل ذلك إلى الآحاد ولا سبب له إلا أن الله تعالى لم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إشاعة جميع الأحكام بل كلفه إشاعة البعض وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا وكان يسهل عليه أن يقول لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم أو المكيل بالمكيل حتى يستغنى عن الاستنباط من الأشياء الستة فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما تقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد ولا استحالة فيه وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنا فيجب تصديقه وليس علة الإشاعة عموم الحاجة أو ندورها بل علته التعبد والتكليف من الله وإلا فما يحتاج إليه كثير كالفصد والحجامة كما يحتاج إليه الأكثر في كونه شرعا لا ينبغي أن يخفى فإن قيل فما الضابط لما تعبد الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بالإشاعة قلنا إن طلبتم ضابطا لجوازه عقلا فلا ضابط بل لله تعالى أن يفعل في تكليف رسوله من ذلك ما يشاء وإن أردتم وقوعه فإنما يعلم ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا استقرينا السمعيات وجدناها أربعة أقسام الأول القرآن وقد علمنا أنه عني بالمبالغة في إشاعته
الثاني مباني الإسلام الخمس ككلمتي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج وقد أشاعه إشاعة اشترك في معرفته العام الخاص
الثالث أصول المعاملات التي ليست ضرورية مثل أصل البيع والنكاح فإن ذلك أيضا قد تواتر بل كالطلاق والعتاق والاستيلاد والتدبير والكتابة فإن هذا تواتر عند أهل العلم وقامت به الحجة القاطعة إما بالتواتر وإما بنقل الآحاد في مشهد الجماعات مع سكوتهم والحجة تقوم به لكن العوام لم يشاركوا العلماء في العلم بل فرض العوام فيه القبول من العلماء
الرابع تفاصيل هذه الأصول فما يفسد الصلاة والعبادات وينقض الطهارة من اللمس والمس والقيء وتكرار مسح الرأس فهذا الجنس منه ما شاع ومنه ما نقله الآحاد ويجوز أن يكون مما تعم به البلوى
____________________

(1/136)


فما نقله الآحاد فلا استحالة فيه ولا مانع فإن ما أشاعه كان يجوز أن لا يتعبد فيه بالإشاعة وما وكله إلى الآحاد كان يجوز أن يتعبد فيه بالإشاعة لكن وقوع هذه الأمور يدل على أن التعبد وقع كذلك فما كان يخالف أمر الله سبحانه وتعالى في شيء من ذلك هذا تمام الكلام في الأخبار والله أعلم
الأصل الثالث من أصول الأدلة الإجماع وفيه أبواب الباب الأول في إثبات كونه حجة على منكريه ومن حاول إثبات كون الإجماع حجة افتقر إلى تفهيم لفظ الإجماع أولا وبيان تصوره ثانيا وبيان إمكان الاطلاع عليه ثالثا وبيان الدليل على كونه حجة رابعا
أما تفهيم لفظ الإجماع فإنما نعني به اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة على أمر من الأمور الدينية ومعناه في وضع اللغة الاتفاق والإزماع وهو مشترك بينهما فمن أزمع وصمم العزم على إمضاء أمر يقال أجمع والجماعة إذا اتفقوا يقال أجمعوا وهذا يصلح لإجماع اليهود والنصارى وللاتفاق في غير أمر الدين لكن العرف خصص اللفظ بما ذكرناه وذهب النظام إلى أن الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته وإن كان قول واحد وهو على خلاف اللغة والعرف لكنه سواه على مذهبه إذ لم ير الإجماع حجة وتواتر إليه بالتسامع تحريم مخالفة الإجماع فقال هو كل قول قامت حجته
أما الثاني وهو تصوره فدليل تصوره وجوده فقد وجدنا الأمة مجمعة على أن الصلوات خمس وأن صوم رمضان واجب وكيف يمتنع تصوره والأمة كلهم متعبدون باتباع النصوص والأدلة القاطعة ومعرضون للعقاب بمخالفتها فكما لا يمتنع اجتماعهم على الأكل والشرب لتوافق الدواعي فكذلك على اتباع الحق واتقاء النار فإن قيل الأمة مع كثرتها واختلاف دواعيها في الاعتراف بالحق والعناد فيه كيف تتفق آراؤها فذلك محال منها كاتفاقهم على أكل الزبيب مثلا في يوم واحد قلنا لا صارف جميعهم إلى تناول الزبيب خاصة ولجميعهم باعث على الاعتراف بالحق كيف وقد تصور إطباق اليهود مع كثرتهم على الباطل فلم لا يتصور إطباق المسلمين على الحق والكثرة إنما تؤثر عند تعارض الأشباه والدواعي والصوارف ومستند الإجماع في الأكثر نصوص متواترة وأمور معلومة ضرورة بقرائن الأحوال والعقلاء كلهم فيه على منهج واحد نعم هل يتصور الإجماع عن اجتهاد أو قياس ذلك فيه كلام سيأتي إن شاء الله
أما الثالث وهو تصور الاطلاع على الإجماع فقد قال قوم لو تصور إجماعهم فمن الذي يطلع عليهم مع تفرقهم في الأقطار فنقول يتصور معرفة ذلك بمشافهتهم إن كانوا عددا يمكن لقاؤهم وإن لم يمكن عرف مذهب قوم بالمشافهة ومذهب الآخرين بأخبار التواتر عنهم كما عرفنا أن مذهب جميع أصحاب الشافعي منع قتل المسلم بالذمي وبطلان النكاح بلا ولي ومذهب جميع النصارى التثليث ومذهب جميع المجوس التثنية فإن قيل مذهب أصحاب الشافعي وأبي حنيفة مستند إلى قائل واحد وهو الشافعي وأبو حنيفة وقول الواحد يمكن أن يعلم وكذلك مذهب النصارى يستند إلى عيسى عليه السلام أما قول جماعة لا ينحصرون كيف يعلم قلنا وقول أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أمور الدين يستند إلى ما فهموه من محمد صلى الله عليه وسلم
____________________

(1/137)


وسمعوه منه ثم إذا انحصر أهل الحل والعقد فكما يمكن أن يعلم قول واحد أمكن أن يعلم قول الثاني إلى العشرة والعشرين فإن قيل لعل أحدا منهم في أسر الكفار وبلاد الروم قلنا تجب مراجعته ومذهب الأسير ينقل كمذهب غيره وتمكن معرفته فمن شك في موافقته للآخرين لم يكن متحققا للإجماع فإن قيل فلو عرف مذهبه ربما يرجع عنه بعده قلنا لا أثر لرجوعه بعد انعقاد الإجماع فإنه يكون محجوجا به ولا يتصور رجوع جميعهم إذ يصير أحد الإجماعين خطأ وذلك ممتنع بدليل السمع
أما الرابع وهو إقامة الحجة على استحالة الخطأ على الأمة وفيه الشأن كله وكونه حجة إنما يعلم بكتاب أو سنة متواترة أو عقل أما الإجماع فلا يمكن إثبات الإجماع به وقد طمعوا في التلقي من الكتاب والسنة والعقل وأقواها السنة ونحن نذكر المسالك الثلاثة المسلك الأول التمسك بالكتاب وذلك قوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } البقرة 143 وقوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } آل عمران 110 الآية وقوله تعالى { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } الأعراف 181 وقوله تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } آل عمران 103 وقوله تعالى { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } الشورى 110 ومفهومه أن ما اتفقتم فيه فهو حق وقوله عز وجل { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } النساء 59 مفهومه إن اتفقتهم فهو حق فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر وأقواها قوله تعالى { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا } النساء 115 فإن ذلك يوجب اتباع سبيل المؤمنين وهذا ما تمسك به الشافعي وقد أطنبنا في كتاب تهذيب الأصول في توجيه الأسئلة على الآية ودفعها والذي نراه أن الآية ليست نصا في الغرض بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نوله ما تولى فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهي وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل ولو فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية بذلك لقبل ولم يجعل ذلك رفعا للنص كما لو فسر المشاقة بالموافقة واتباع سبيل المؤمنين بالعدول عن سبيلهم
المسلك الثاني وهو الأقوى التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على الخطأ وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود ولكن ليس بالمتواتر كالكتاب والكتاب متواتر لكن ليس بنص فطريق تقرير الدليل أن نقول تظاهرت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الأمة من الخطأ واشتهر على لسان المرموقين والثقات من الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم ممن يطول ذكره من نحو قوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على
____________________

(1/138)


الضلالة ولم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة وسألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيها ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم وإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد وقوله صلى الله عليه وسلم يد الله مع الجماعة ولا يبالي الله بشذوذ من شذ ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم وروي لا يضرهم خلاف من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء ومن خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ومن فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية
وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة في الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الأمة وخلفها بل هي مقبولة من موافقي الأمة ومخالفيها ولم تزل الأمة تحتج بها في أصول الدين وفروعه فإن قيل فما وجه الحجة ودعوى التواتر في آحاد هذه الأخبار غير ممكن ونقل الآحاد لا يفيد العلم قلنا في تقرير وجه الحجة طريقان أحدهما أن ندعي العلم الضروري بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عظم شأن هذه الأمة وأخبر عن عصمتها عن الخطأ بمجموع هذه الأخبار المتفرقة وإن لم تتواتر آحادها وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى العلم بشجاعة علي وسخاوة حاتم وفقه الشافعي وخطابة الحجاج وميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه وتعظيمه صحابته وثنائه عليهم وإن لم تكن آحاد الأخبار فيها متواترة بل يجوز الكذب على كل واحد منها لو جردنا النظر إليه ولا يجوز على المجموع وذلك يشبه ما يعلم من مجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال ولكن ينتفي الاحتمال عن مجموعها حتى يحصل العلم الضروري
الطريق الثاني أن لا ندعي علم الاضطرار بل علم الاستدلال من وجهين الأول أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع ولا يظهر أحد فيها خلافا وإنكارا إلى زمان النظام ويستحيل في مستقر العادة توافق الأمم في أعصار متكررة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته مع اختلاف الطباع وتفاوت الهمم والمذاهب في الرد والقبول ولذلك لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف وإبداء تردد فيه
الوجه الثاني أن المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا بها أصلا مقطوعا به وهو الإجماع الذي يحكم به على كتاب الله تعالى وعلى السنة المتواترة ويستحيل في العادة التسليم لخبر يرفع به الكتاب المقطوع به إلا إذا استند إلى مستند مقطوع به فأما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلوما حتى لا يتعجب متعجب ولا يقول قائل كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستند إلى خبر غير معلوم الصحة وكيف تذهل عنه جميع الأمة إلى زمان النظام فيختص بالتنبه له هذا وجه الاستدلال وللمنكرين في معارضته ثلاثة مقامات الرد والتأويل والمعارضة المقام الأول في الرد
وفيه أربعة أسئلة السؤال الأول قولهم لعل واحدا خالف هذه الأخبار وردها ولم ينقل إلينا قلنا هذا أيضا تحيله العادة إذ الإجماع أعظم أصول الدين فلو خالف فيه مخالف لعظم الأمر فيه واشتهر الخلاف إذ لم يندرس خلاف الصحابة في دية الجنين ومسألة الحرام وحد الشرب فكيف اندرس الخلاف في أصل عظيم يلزم فيه التضليل والتبديع لمن أخطأ في نفيه وإثباته وكيف اشتهر خلاف النظام مع سقوط
____________________

(1/139)


قدره وخسة رتبته وخفي خلاف أكابر الصحابة والتابعين هذا مما لا يتسع له عقل أصلا
السؤال الثاني قالوا قد استدللتم بالخبر على الإجماع ثم استدللتم بالإجماع على صحة الخبر فهب أنهم أجمعوا على الصحة فما الدليل على أن ما أجمعوا على صحته فهو صحيح وهل النزاع إلا فيه قلنا لا بل استدللنا على الإجماع بالخبر وعلى صحة الخبر بخلو الإعصار عن المدافعة والمخالفة له مع أن العادة تقتضي إنكار إثبات أصل قاطع يحكم به على القواطع بخبر غير معلوم الصحة فعلمنا بالعادة كون الخبر مقطوعا به لا بالإجماع والعادة أصل يستفاد منها معارف فإن بها يعلم بطلان دعوى معارضة القرآن واندراسها وبها يعلم بطلان دعوى نص الإمامة وإيجاب صلاة الضحى وصوم شوال وإن ذلك لو كان لاستحال في العادة الكسوت عنه
السؤال الثالث قالوا بم تنكرون على من يقول لعلهم أثبتوا الإجماع لا بهذه الأخبار بل بدليل آخر قلنا قد ظهر منهم الاحتجاج بهذه الأخبار في المنع من مخالفة الجماعة وتهديد من يفارق الجماعة ويخالفها وهذا أولى من أن يقال لو كان لهم فيه مستند لظهر وانتشر فإنه قد نقل تمسكهم أيضا بالآيات
السؤال الرابع قولهم لما علمت الصحابة صحة هذه الأخبار لم لم يذكروا طريق صحتها للتابعين حتى كان ينقطع الارتياب ويشاركونهم في العلم قلنا لأنهم علموا تعريفه عليه السلام عصمة هذه الأمة بمجموع قرائن وأمارات وتكريرات ألفاظ وأسباب دلت ضرورة على قصده إلى بيان نفي الخطأ عن هذه الأمة وتلك القرائن لا تدخل تحت الحكاية ولا تحيط بها العبارات ولو حكوها لتطرق إلى آحادها احتمالات فاكتفوا بعلم التابعين بأن الخبر المشكوك فيه لا يثبت به أصل مقطوع به ويقع التسليم في العادة به فكانت العادة في حق التابعين أقوى من الحكاية
المقام الثاني في التأويل ولهم تأويلات ثلاثة الأول قوله صلى الله عليه وسلم لا تجتمع أمتي على ضلالة ينبىء عن الكفر والبدعة فلعله أراد عصمة جميعهم عن الكفر بالتأويل والشبهة وقوله على الخطأ لم يتواتر وإن صح فالخطأ عام يمكن حمله على الكفر قلنا الضلال في وضع اللسان لا يناسب الكفر قال الله تعالى { ووجدك ضالا فهدى } الضحى 7 وقال تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام { فعلتها إذا وأنا من الضالين } الشعراء 20 وما أراد من الكافرين بل أراد من المخطئين يقال ضل فلان عن الطريق وضل سعي فلان كل ذلك الخطأ كيف وقد فهم ضرورة من هذه الألفاظ تعظيم شأن هذه الأمة وتخصيصها بهذه الفضيلة أما العصمة عن الكفر فقد أنعم بها في حق علي وابن مسعود وأبي وزيد على مذهب النظام لأنهم ماتوا على الحق وكم من آحاد عصموا عن الكفر حتى ماتوا فأي خاصية للأمة فدل أنه أراد ما لم يعصم عنه الآحاد من سهو وخطأ وكذب ويعصم عنه الأمة تنزيلا لجميع الأمة منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في العصمة عن الخطأ في الدين أما في غير الدين من إنشاء حرب وصلح وعمارة بلدة فالعموم يقتضي العصمة للأمة عنه أيضا ولكن ذلك مشكوك فيه وأمر الدين مقطوع بوجوب العصمة فيه كما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أخطأ في أمر تأبير النخل ثم قال أنتم
____________________

(1/140)


أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم
التأويل الثاني قولهم غاية هذا أن يكون عاما يوجب العصمة عن كل خطأ ويحتمل أن يكون المراد به بعض أنواع الخطأ من الشهادة في الآخرة أو ما يوافق النص المتواتر أو يوافق دليل العقل دون ما يكون بالاجتهاد والقياس قلنا لا ذاهب من الأمة إلى هذا التفصيل إذ ما دل من العقل على تجويز الخطأ عليهم في شيء دل على تجويزه في شيء آخر وإذا لم يكن فارق لم يكن تخصيص بالتحكم دون دليل ولم يكن تخصيص أولى من تخصيص وقد ذم من خالف الجماعة وأمر بالموافقة فلو لم يكن ما فيه العصمة معلوما استحال الاتباع إلا أن ثبت العصمة مطلقا وبه ثبتت فضيلة الأمة وشرفها فأما العصمة عن البعض دون البعض فهذا يثبت لكل كافر فضلا عن المسلم إذ ما من شخص يخطىء في كل شيء بل كل إنسان فإنه يعصم عن الخطأ في بعض الأشياء
التأويل الثالث أن أمته صلى الله عليه وسلم كل من آمن به إلى يوم القيامة فجملة هؤلاء من أول الإسلام إلى آخر عمر الدنيا لا يجتمعون على خطأ بل كل حكم انقضى على اتفاق أهل الأعصار كلها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق إذ الأمة عبارة عن الجميع كيف والذين ماتوا في زماننا هم من الأمة وإجماع من بعدهم ليس إجماع جميع الأمة بدليل أنهم لو كانوا قد خالفوا ثم ماتوا لم ينعقد بعدهم إجماع وقبلنا من الأمة من خالف وإن كان قد مات فكذلك إذا لم يوافقوا قلنا كما لا يجوز أن يراد بالأمة المجانين والأطفال والسقط والمجتن وإن كانوا من الأمة فلا يجوز أن يراد به الميت والذي لم يخلق بعد بل الذي يفهم قوم يتصور منهم اختلاف واجتماع ولا يتصور الاجتماع والاختلاف من المعدوم والميت والدليل عليه أنه أمر باتباع الجماعة وذم من شذ عن الموافقة فإن كان المراد به ما ذكروه فإنما يتصور الاتباع والمخالفة في القيامة لا في الدنيا فيعلم قطعا أن المراد به إجماع يمكن خرقه ومخالفته في الدنيا وذلك هم الموجودن في كل عصر أما إذا مات فيبقى أثر خلافه فإن مذهبه لا يموت بموته وسيأتي فيه كلام شاف إن شاء الله تعالى
المقام الثالث المعارضة بالآيات والأخبار أما الآيات فكل ما فيها منع من الكفر والردة والفعل الباطل فهو عام مع الجميع فإن لم يكن ذلك ممكنا فكيف نهوا عنه كقوله تعالى { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } الأعراف 33 { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر } البقرة 217 { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } البقرة 188 وأمثال ذلك قلنا ليس هذا نهيا لهم عن الاجتماع بل نهي للآحاد وإن كان كل واحد على حياله داخلا في النهي وإن سلم فليس من شرط النهي وقوع المنهي عنه ولا جواز وقوعه فإن الله تعالى علم أن جميع المعاصي لا تقع منهم ونهاهم عن الجميع وخلاف المعلوم غير واقع وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم { لئن أشركت ليحبطن عملك } الزمر 65 { وقال } فلا تكونن من الجاهلين { الأنعام } وقد علم أنه قد عصمه منهم وأن ذلك لا يقع وأما الأخبار فقوله عليه السلام بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وقوله عليه السلام خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف وما يستحلف ويشهد وما يستشهد وكقوله صلى الله عليه وسلم لا تقوم
____________________

(1/141)


الساعة إلا على شرار أمتي قلنا هذا وأمثاله يدل على كثرة العصيان والكذب ولا يدل على أنه لا يبقى متمسك بالحق ولا يناقض قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال كيف ولا تجري هذه الأخبار في الصحة والظهور مجرى الأحاديث التي تمسكنا بها
المسلك الثالث التمسك بالطريق المعنوي وبيانه أن الصحابة إذا قضوا بقضية وزعموا أنهم قاطعون بها فلا يقطعون بها إلا عن مستند قاطع وإذا كثروا كثرة تنتهي إلى حد التواتر فالعادة تحيل عليهم قصد الكذب وتحيل عليهم الغلط حتى لا يتنبه واحد منهم للمحق في ذلك وإلى أن القطع بغير دليل قاطع خطأ فقطعهم في غير محل القطع محال في العادة فإن قضوا عن اجتهاد واتفقوا عليه فيعلم أن التابعين كانوا يشددون النكير على مخالفيهم ويقطعون به وقطعهم بذلك قطع في غير محل القطع فلا يكون ذلك أيضا إلا عن قاطع وإلا فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم الحق مع كثرتهم حتى لا يتنبه واحد منهم للحق وكذلك نعلم أن التابعين لو أجمعوا على شيء أنكر تابعوا التابعين على المخالف وقطعوا بالإنكار وهو قطع في غير محل القطع فالعادة تحيل ذلك إلا عن قاطع وعلى مساق هذا قالوا لو رجع أهل الحل والعقد إلى عدد ينقص عن عدد التواتر فلا يستحيل عليهم الخطأ في العادة ولا تعمد الكذب لباعث عليه فلا حجة فيه وهذه الطريقة ضعيفة عندنا لأن منشأ الخطأ إما تعمد الكذب وإما ظنهم ما ليس بقاطع قاطعا والأول غير جائز على عدد التواتر وأما الثاني فجائز فقد قطع اليهود ببطلان نبوة عيسى ومحمد عليهما السلام وهم أكثر من عدد التواتر وهو قطع في غير محل القطع لكن ظنوا ما ليس بقاطع قاطعا والمنكرون لحدوث العالم والنبوات والمرتكبون لسائر أنواع البدع والضلالات عددهم بالغ مبلغ عدد التواتر ويحصل الصدق بإخبارهم ولكن أخطؤوا بالقطع في غير محل القطع وهذا القائل يلزمه أن يجعل إجماع اليهود والنصارى حجة ولا تخصيص لهذه الأمة وقد أجمعوا على بطلان دين الإسلام فإن قيل هذا تمسك بالعادة وأنتم في نصرة المسلك الثاني استروحتم إلى العادة وهذا عين الأول قلنا العادة لا تحيل على عدد التواتر أن يظنوا ما ليس بقاطع قاطعا وعن هذا قلنا شرط خبر التواتر أن يستند إلى محسوس والعادة تحيل الانقياد والسكوت عمن دفع الكتاب والسنة المتواترة بإجماع دليله خبر مظنون غير مقطوع به وكل ما هو ضروري يعلم بالحس أو بقرينة الحال أو بالبديهة فمنهاجه واحد ويتفق الناس على دركه والعادة تحيل الذهول عنه على أهل التواتر وما هو نظري فطرقه مختلفة فلا يستحيل في العادة أن يجتمع أهل التواتر على الغلط فيه فهذا هو الفرق بين المسلكين فإن قيل اعتمادكم في هذا المسلك الثاني أن ما أجمعوا عليه حق وليس بخطأ فما الدليل على وجوب اتباعه وكل مجتهد مصيب للحق ولا يجب على مجتهد آخر اتباعه والشاهد المزور مبطل ويجب على القاضي اتباعه فوجوب الاتباع شيء وكون الشيء حقا غيره قلنا أجمعت الأمة على وجوب اتباع الإجماع وأنه من الحق الذي يجب اتباعه وبحسب كونهم محقين في قولهم يجب اتباع الإجماع ثم نقول كل حق علم كونه حقا فالأصل فيه وجوب
____________________

(1/142)


الاتباع والمجتهد يجب اتباعه إلا على المجتهد الذي هو محق أيضا فقدم حق حصل باجتهاده على ما حصل باجتهاد غيره في حقه والشاهد المزور لو علم كونه مزورا لم يتبع ويدل عليه أيضا ذمة من خالف الجماعة وأنه ذكر هذا في معرض الثناء على الأمة ولا يتحقق ذلك إلا بوجوب الاتباع وإلا فلا يبقى له معنى إلا أنهم محقون إذا أصابوا دليل الحق وذلك جائز في حق كل واحد من أفراد المؤمنين فليس فيه مدح وتخصيص البتة
الباب الثاني في بيان أركان الإجماع وله ركنان المجمعون ونفس الإجماع الركن الأول المجمعون وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وظاهر هذا يتناول كل مسلم لكن لكل ظاهر طرفان واضحان في النفي والإثبات وأوساط متشابهة أما الواضح في الإثبات فهو كل مجتهد مقبول الفتوى فهو أهل الحل والعقد قطعا ولا بد من موافقته في الإجماع وأما الواضح في النفي فالأطفال والمجانين والأجنة فإنهم وإن كانوا من الأمة فنعلم أنه عليه الصلاة والسلام ما أراد بقوله لا تجتمع أمتي على الخطأ إلا من يتصور منه الوفاق والخلاف في المسألة بعد فهمهما فلا يدخل فيه من لا يفهمها وبين الدرجتين العوام المكلفون والفقيه الذي ليس بأصولي والأصولي الذي ليس بفقيه والمجتهد الفاسق والمبتدع والناشىء من التابعين مثلا إذا قارب رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة فنرسم في كل واحد مسألة 61 مسألة ( إجماع أهل الحل والعقد ) يتصور دخول العوام في الإجماع فإن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك في دركه العوام والخواص كالصلوات الخمس ووجوب الصوم والزكاة والحج فهذا مجمع عليه والعوام وافقوا الخواص في الإجماع وإلى ما يختص بدركه الخواص كتفصيل أحكام الصلاة والبيع والتدبير والاستيلاد فما أجمع عليه الخواص فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد لا يضمرون فيه خلافا أصلا فهم موافقون أيضا فيه ويحسن تسمية ذلك إجماع الأمة قاطبة كما أن الجند إذا حكموا جماعة من أهل الرأي والتدبير في مصالحة أهل قلعة فصالحوهم على شيء يقال هذا باتفاق جميع الجند فإذا كل مجمع عليه من المجتهدين فهو مجموع عليه من جهة العوام وبه يتم إجماع الأمة فإن قيل فلو خالف عامي في واقعة أجمع عليها الخواص من أهل العصر فهل ينعقد الإجماع دونه إن كان ينعقد فكيف خرج العامي من الأمة وإن لم ينعقد فكيف يعتد بقول العامي قلنا قد اختلف الناس فيه فقال قوم لا ينعقد لأنه من الأمة فلا بد من تسليمه بالجملة أو بالتفصيل وقال آخرون وهو الأصح إنه ينعقد بدليلين أحدهما أن العامي ليس أهلا لطلب الصواب إذ ليس له آلة هذا الشأن فهو كالصبي والمجنون في نقصان الآلة ولا يفهم من عصمة الأمة من الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الإصابة لأهليته
والثاني وهو الأقوى أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام في هذا الباب أعني خواص الصحابة وعوامهم ولأن العامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل وأنه ليس يدري ما يقول وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه وعن هذا لا يتصور صدور هذا من عامي عاقل لأن العاقل يفوض ما لا يدري إلى من يدري فهذه صورة فرضت ولا وقوع لها أصلا ويدل
____________________

(1/143)


على انعقاد الإجماع أن العامي يعصي بمخالفته العلماء ويحرم ذلك عليه ويدل على عصيانه ما ورد من ذم الرؤساء الجهال إذا ضلوا وأضلوا بغير علم
وقوله تعالى 4 { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } النساء 83 فردهم عن النزاع إلى أهل الاستنباط وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء وتحريم فتوى العامة بالجهل والهوى وهذا لا يدل على انعقاد الإجماع دونهم فإنه يجوز أن يعصي بالمخالفة كما يعصي من يخالف خبر الواحد ولكن يمتنع وجود الإجماع لمخالفته والحجة في الإجماع فإذا امتنع بمعصية أو بما ليس بمعصية فلا حجة وإنما الدليل ما ذكرنا من قبل
مسألة ( يعتد بقول الأصولي والفقيه المبرز ) إذا قلنا لا يعتبر قول العوام لقصور آلتهم فرب متكلم ونحوي ومفسر ومحدث هو ناقض الآلة في درك الأحكام فقال قوم لا يعتد إلا بقول أئمة المذاهب المستقلين بالفتوى كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وأمثالهم من الصحابة والتابعين ومنهم من ضم إلى الأئمة الفقهاء الحافظين لأحكام الفروع الناهضين بها لكن أخرج الأصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع ولا يحفظها والصحيح أن الأصولي العارف بمدارك الأحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنظوم وصيغة الأمر والنهي والعموم وكيفية تفهيم النصوص والتعليل أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع بل ذو الآلة من هو متمكن من درك الأحكام إذا أراد وإن لم يحفظ الفروع والأصولي قادر عليه والفقيه الحافظ للفروع لا يتمكن منه وآية أنه لا يعتبر حفظ الفروع أن العباس والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبا عبيدة بن الجراح وأمثالهم ممن لم ينصب نفسه للفتوى ولم يتظاهر بها تظاهر العبادلة وتظاهر علي وزيد بن ثابت ومعاذ كانوا يعتدون بخلافهم لو خالفوا وكيف لا وكانوا صالحين للإمامة العظمى ولا سيما لكون أكثرهم في الشورى وما كانوا يحفظون الفروع بل لم تكن الفروع موضوعة بعد لكن عرفوا الكتاب والسنة وكانوا أهلا لفهمهما والحافظ لفروع قد لا يحفظ دقائق فروع الحيض والوصايا فأصل هذه الفروع كهذه الدقائق فلا يشترط حفظها فينبغي أن يعتد بخلاف الأصولي وبخلاف الفقيه المبرز لأنهما ذوا آلة على الجملة يقولان ما يقولان عن دليل أما النحوي والمتكلم فلا يعتد بهما لأنهما من العوام في حق هذا العلم إلا أن يقع الكلام في مسألة تنبني على النحو أو على الكلام فإن قيل فهذه المسألة قطعية أم اجتهادية قلنا هي اجتهادية ولكن إذا جوزنا أن يكون قوله معتبرا صار الإجماع مشكوكا فيه عند مخالفته فلا يصير حجة قاطعة إنما يكون حجة قاطعة إذا لم يخالف هؤلاء أما خلاف العوام فلا يقع ولو وقع فهو قول باللسان وهو معترف بكونه جاهلا بما يقول فبطلان قوله مقطوع به كقول الصبي فأما هذا فليس كذلك فإن قيل فإذا قلد الأصولي الفقهاء فيما اتفقوا عليه في الفروع وأقر بأنه حق هل ينعقد الإجماع قلنا نعم لأنه لا مخالفة وقد وافق الأصولي جملة وإن لم يعرف التفصيل كما أن الفقهاء اتفقوا على أن ما أجمع عليه المتكلمون في باب الاستطاعة والعجز والأجسام والأعراض والضد والخلاف فهو صواب فيحصل الإجماع بالموافقة الجملية كما يحصل من العوام لأن كل فريق كالعامي بالإضافة إلى ما لم يحصل علمه وإن حصل علما آخر
مسألة ( عدم انعقاد الإجماع بالمجتهد الفاسق المبتدع )
____________________

(1/144)


إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر بل هو كمجتهد فاسق وخلاف المجتهد الفاسق معتبر فإن قيل لعله يكذب في إظهار الخلاف وهو لا يعتقده
قلنا لعله يصدق ولا بد من موافقته ولو لم نتحقق موافقته كيف وقد نعلم اعتقاد الفاسق بقرائن أحواله في مناظراته واستدلالاته والمبتدع ثقة يقبل قوله فإنه ليس يدري أنه فاسق أما إذا كفر ببدعته فعند ذلك لا يعتبر خلافه وإن كان يصلي إلى القبلة ويعتقد نفسه مسلما لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة بل عن المؤمنين وهو كافر وإن كان لا يدري أنه كافر نعم لو قال بالتشبيه والتجسيم وكفرناه فلا يستدل على بطلان مذهبه بإجماع مخالفيه على بطلان التجسيم مصيرا إلى أنهم كل الأمة دونه لأن كونهم كل الأمة موقوف على إخراج هذا من الأمة والإخراج من الأمة موقوف على دليل التكفير فلا يجوز أن يكون دليل تكفيره ما هو موقوف على تكفيره فيؤدي إلى إثبات الشيء بنفسه نعم بعد أن كفرناه بدليل عقلي لو خالف في مسألة أخرى لم يلتفت إليه فلو تاب وهو مصر على المخالفة في تلك المسألة التي أجمعوا عليها في حال كفره فلا يلتفت إلى خلافه بعد الإسلام لأنه مسبوق بإجماع كل الأمة وكان المجمعون في ذلك الوقت كل الأمة دونه فصار كما لو خالف كافر كافة الأمة ثم أسلم وهو مصر على ذلك الخلاف فإن ذلك لا يلتفت إليه إلا على قول من يشترط انقراض العصر في الإجماع فإن قيل فلو ترك بعض الفقهاء الإجماع بخلاف المبتدع المكفر إذا لم يعلم أن بدعته توجب الكفر وظن أن الإجماع لا ينعقد دونه فهل يعذر من حيث أن الفقهاء لا يطلعون على معرفة ما يكفر به من التأويلات قلنا للمسألة صورتان إحداهما أن يقول الفقهاء نحن لا ندري أن بدعته توجب الكفر أم لا ففي هذه الصورة لا يعذرون فيه إذ يلزمهم مراجعة علماء الأصول ويجب على العلماء تعريفهم فإذا أفتوا بكفره فعليهم التقليد فإن لم يقنعهم التقليد فعليهم السؤال عن الدليل حتى إذا ذكر لهم دليله فهموه لا محالة لأن دليله قاطع فإن لم يدركه فلا يكون معذورا كمن لا يدرك دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا عذر مع نصب الله تعالى الأدلة القاطعة
الصورة الثانية أن لا يكون قد بلغته بدعته وعقيدته فترك الإجماع لمخالفته فهو معذور في خطئه وغير مؤاخذ به وكان الإجماع لم ينتهض حجة في حقه كما إذا لم يبلغه الدليل الناسخ لأنه غير منسوب إلى تقصير بخلاف الصورة الأولى فإنه قادر على المراجعة والبحث فلا عذر له في تركه فهو كمن قبل شهادة الخوارج وحكم بها فهو مخطىء لأن الدليل على تكفير الخوارج على علي عثمان رضي الله عنهما والقائلين بكفرهما المعتقدين استباحة دمهما ومالهما ظاهر يدرك على القرب فلا يعذر من لا يعرفه بخلاف من حكم بشهادة الزور وهو لا يعرف لأنه لا طريق له إلى معرفة صدق الشاهد وله طريق إلى معرفة كفره فإن قيل وما الذي يكفر به قلنا الخطب في ذلك طويل وقد أشرنا إلى شيء منه في كتاب فصل التفرقة بين الإسلام والزندقة والقدر الذي نذكره الآن أنه يرجع إلى ثلاثة أقسام الأول ما يكون نفس اعتقاده كفرا كإنكار الصانع وصفاته وجحد النبوة
الثاني ما يمنعه اعتقاده من الاعتراف بالصانع وصفاته وتصديق رسله ويلزمه إنكار ذلك من
____________________

(1/145)


حيث التناقض
الثالث ما ورد التوقيف بأنه لا يصدر إلا من كافر كعبادة النيران والسجود للصنم وجحد سورة من القرآن وتكذيب بعض الرسل واستحلال الزنا والخمر وترك الصلاة وبالجملة إنكار ما عرف بالتواتر والضرورة من الشريعة
مسألة ( هل ينعقد إجماع غير الصحابة ) قال قوم لا يعتد بإجماع غير الصحابة وسنبطله وقال قوم يعتد بإجماع التابعين بعد الصحابة ولكن لا يعتد بخلاف التابعي في زمان الصحابة ولا يندفع إجماع الصحابة بخلافه وهذا فاسد مهما بلغ التابعي رتبة الاجتهاد قبل تمام الإجماع لأنه من الأمة فإجماع غيره لا يكون إجماع جميع الأمة بل إجماع البعض والحجة في إجماع الكل نعم لو أجمعوا ثم بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم فهو مسبوق بالإجماع فليس له الآن أن يخالف كمن أسلم بعد تمام الإجماع ويدل عليه قوله تعالى { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } الشورى 10 وهذا مختلف فيه ويدل عليه إجماع الصحابة على تسويغ الخلاف للتابعي وعدم إنكارهم عليه فهو إجماع منهم على جواز الخلاف كيف وقد علم أن كثيرا من أصحاب عبد الله كعلقمة والأسود وغيرهما كانوا يفتون في عصر الصحابة وكذا الحسن البصري وسعيد بن المسيب فكيف لا يعتد بخلافهم وعلى الجملة فلا يفضل الصحابي التابعي إلا بفضيلة الصحبة ولو كانت هذه الفضيلة تخصص الإجماع لسقط قول الأنصار بقول المهاجرين وقول المهاجرين بقول العشرة وقول العشرة بقول الخلفاء الأربعة وقولهم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهم فإن قيل روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن مجاراة الصحابة وقالت فروج يصقع مع الديكة قلنا ما ذكرناه مقطوع به ولم يثبت عن عائشة ما ذكرتم إلا بقول الآحاد وإن ثبت فهو مذهبها ولا حجة فيه ثم لعلها أرادت منعه من مخالفتهم فيما سبق إجماعهم عليه أو لعلها أنكرت عليه خلافه في مسألة لا تحتمل الاجتهاد في اعتقادها كما أنكرت على زيد بن أرقم في مسألة العينة وظنت أن وجوب حسم الذريعة قطعي واعلم أن هذه المسألة يتصور الخلاف فيها مع من يوافق على أن إجماع الصحابة يندفع بمخالفة واحد من الصحابة أما من ذهب إلى أنه لا يندفع خلاف الأكثر بالأقل كيفما كان فلا يختص كلامه بالتابعي
مسألة ( هل ينعقد إجماع الأكثر أم لا ) الإجماع من الأكثر ليس بحجة مخالفة الأقل وقال قوم إن بلغ عدد الأقل عدد التواتر اندفع الإجماع وإن نقص فلا يندفع والمعتمد عندنا أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها وليس هذا إجماع الجميع بل هو مختلف فيه وقد قال تعالى { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } الشورى 10 فإن قيل قد تطلق الأمة ويراد بها الأكثر كما يقال بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف ويراد الأكثر قلنا من يقول بصيغة العموم يحمل ذلك على الجميع ولا يجوز التخصيص بالتحكم بل بدليل وضرورة ولا ضرورة ههنا ومن لا يقول به فيجوز أن يريد به الأقل وعند ذلك لا يتميز البعض المراد عما ليس بمراد ولا بد من إجماع الجميع ليعلم أن البعض المراد داخل فيه كيف وقد وردت أخبار تدل على قلة أهل الحق حيث قال صلى الله عليه وسلم وهم يومئذ الأقلون وقال صلى الله عليه وسلم سيعود الدين غريبا كما بدا غريبا وقال تعالى { أكثرهم لا يعقلون } المائدة 103 وقال تعالى
____________________

(1/146)


{ وقليل من عبادي الشكور } سبأ 13 وقال تعالى { كم من فئة قليلة } البقرة 249 الآية وإذا لم يكن ضابط ولا مرد فلا خاص إلا باعتبار قول الجميع
الدليل الثاني إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد فكم من مسألة قد انفرد فيها الآحاد بمذهب كانفراد ابن عباس بالعول فإنه أنكره فإن قيل لا بل أنكروا على ابن عباس القول بتحليل المتعة وأن الربا في النسيئة وأنكرت عائشة على ابن أرقم مسألة العينة وأنكروا على أبي موسى الأشعري قوله النوم لا ينقض الوضوء وعلى أبي طلحة القول بأن أكل البرد لا يفطر وذلك لانفرادهم به قلنا لا بل لمخالفتهم السنة الواردة فيه المشهورة بينهم أو لمخالفتهم أدلة ظاهرة قامت عندهم ثم نقول هب أنهم أنكروا انفراد المنفرد والمنكر منكر عليهم إنكارهم ولا ينعقد الإجماع فلا حجة في إنكارهم مع مخالفة الواحد
ولهم شبهتان الشبهة الأولى قولهم قول الواحد فيما يخبر عن نفسه لا يورث العلم فكيف يندفع به قول عدد حصل العلم بإخبارهم عن أنفسهم لبلوغهم عدد التواتر وعن هذا قال قوم عدد الأقل إلى أن يبلغ مبلغ التواتر يدفع الإجماع وهذا فاسد من ثلاثة أوجه الأول إن صدق الأكثر وإن علم فليس ذلك صدق جميع الأمة واتفاقهم والحجة في اتفاق الجميع فسقطت الحجة لأنهم ليسوا كل الأمة
الثاني إن كذب الواحد ليس بمعلوم فلعله صادق فلا تكون المسألة اتفاقا من جميع الصادقين إن كان صادقا
الثالث إنه لا نظر إلى ما يضمرون بل التعبد متعلق بما يظهرون فهو مذهبهم وسبيلهم لا ما أضمروه فإن قيل فهل يجوز أن تضمر الأمة خلاف ما تظهر قلنا ذلك إن كان إنما يكون عن تقية وإلجاء وذلك يظهر ويشتهر وإن لم يشتهر فهو محال لأنه يؤدي إلى اجتماع الأمة على ضلالة وباطل وهو ممتنع بدليل السمع
الشبهة الثانية إن مخالفة الواحد شذوذ عن الجماعة وهو منهي عنه فقد ورد ذم الشاذ وأنه كالشاذ من الغنم عن القطيع قلنا الشاذ عبارة عن الخارج عن الجماعة بعد الدخول فيها ومن دخل في الإجماع لا يقبل خلافه بعده وهو الشذوذ أما الذي لم يدخل أصلا فلا يسمى شاذا فإن قيل فقد قال عليه السلام عليكم بالسواد الأعظم فإن الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد قلنا أراد به الشاذ الخارج على الإمام بمخالفة الأكثر على وجه يثير الفتنة وقوله وهو عن الاثنين أبعد أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق ولهذا قال عليه السلام والثلاثة ركب وقد قال بعضهم قول الأكثر حجة وليس بإجماع وهو متحكم بقوله أنه حجة إذ لا دليل عليه وقال بعضهم مرادي به أن اتباع الأكثر أولى قلنا هذا يستقيم في الأخبار وفي حق المقلد إذا لم يجد ترجيحا بين المجتهدين سوى الكثرة وأما المجتهد فعليه اتباع الدليل دون الأكثر لأنه إن خالفه واحد لم يلزمه اتباعه وإن انضم إليه مخالف آخر لم يلزمه الاتباع
مسألة ( إجماع أهل المدينة عند مالك ) قالمالك الحجة في إجماع أهل المدينة فقط وقال قوم المعتبر إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة وما أراد المحصلون بهذا إلا أن هذه
____________________

(1/147)


البقاع قد جمعت في زمن الصحابة أهل الحل والعقد فإن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة لهم فمسلم له ذلك لو جمعت وعند ذلك لا يكون للمكان فيه تأثير وليس ذلك بمسلم بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها بل ما زالوا متفرقين في الأسفار والغزوات والأمصار فلا وجه لكلام مالك إلا أن يقول عمل أهل المدينة حجة لأنهم الأكثرون والعبرة بقول الأكثرين وقد أفسدناه أو يقول يدل اتفاقهم في قول أو عمل أنهم استندوا إلى سماع قاطع فإن الوحي الناسخ نزل فيهم فلا تشذ عنهم مدارك الشريعة وهذا تحكم إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر أو في المدينة لكن يخرج منها قبل نقله فالحجة في الإجماع ولا إجماع وقد تكلف لمالك تأويلات ومعاذير استقصيناها في كتاب تهذيب الأصول ولا حاجة إليها هاهنا وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة وعلى أهلها وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكناهم المدينة ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم وقد قال قوم الحجة في اتفاق الخلفاء الأربعة وهو تحكم لا دليل عليه إلا ما تخيله جماعة في أن قول الصحابي حجة وسيأتي في موضعه
مسألة ( هل يشترط التواتر في الإجماع ) اختلفوا في أنه هل يشترط أن يبلغ أهل الإجماع عدد التواتر أما من أخذه من دليل العقل واستحالة الخطأ بحكم العادة فيلزمه الاشتراط والذين أخذوه من السمع اختلفوا فمنهم من شرط ذلك لأنه إذا نقص عددهم فنحن لا نعلم إيمانهم بقولهم فضلا عن غيره وهذا فاسد من وجهين أحدهما أنه يعلم إيمانهم لا بقولهم لكن بقوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال
فإذا لم يكن على وجه الأرض مسلم سواهم فهم على الحق
الثاني أنا لم نتعبد بالباطن وإنما أمة محمد من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ظاهرا إذ لا وقوف على الباطن وإذا ظهر أنا متعبدون باتباعهم فيجوز أن يستدل بهذا على أنهم صادقون لأن الله تعالى لا يتعبدنا باتباع الكاذب وتعظيمه والاقتداء به فإن قيل كيف يتصور رجوع عدد المسلمين إلى ما دون عدد التواتر وذلك يؤدي إلى انقطاع التكليف فإن التكليف يدوم بدوام الحجة والحجة تقوم بخبر التواتر عن أعلام النبوة وعن وجود محمد صلى الله عليه وسلم وتحديه بالنبوة والكفار لا يقومون بنشر أعلام النبوة بل يجتهدون في طمسها والسلف من الأئمة مجمعون على دوام التكليف إلى القيامة وفي ضمنه الإجماع على استحالة اندراس الأعلام وفي نقصان عدد التواتر ما يؤدي إلى الاندراس وإذا لم يتصور وجود هذه الحادثة فكيف نخوض في حكمها قلنا يحتمل أن يقال ذلك ممتنع لهذه الأدلة وإنما معنى تصور هذه المسألة رجوع عدد أهل الحل والعقد إلى ما دون عدد التواتر وإن قطعنا بأن قول العوام لا يعتبر فتدوم أعلام الشرع بتواتر العوام ويحتمل أن يقال يتصور وقوعها والله تعالى يديم الأعلام بالتواتر الحاصل من جهة المسلمين والكفار فيتحدثون بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ووجود معجزته وإن لم يعترفوا بكونها معجزة أو يخرق الله تعالى العادة فيحصل العلم بقول القليل حتى تدوم الحجة بل نقول قول القليل مع القرائن المعلومة
____________________

(1/148)


في مناظرته وتسديده قد يحصل العلم من غير خرق عادة فبجميع هذه الوجوه يبقى الشرع محفوظا فإن قيل فإذا جاز أن يقل عدد أهل الحل والعقد فلو رجع إلى واحد فهل يكون مجرد قوله حجة قاطعة قلنا إن اعتبرنا موافقة العوام فإذا قال قولا وساعده عليه العوام ولم يخالفوه فيه فهو إجماع الأمة فيكون حجة إذ لو لم يكن لكان قد اجتمعت الأمة على الضلالة والخطأ وإن لم نلتفت إلى قول العوام فلم يوجد ما يتحقق به اسم الاجتماع والإجماع إذ يستدعي ذلك عددا بالضرورة حتى يسمى إجماعا ولا أقل من اثنين أو ثلاثة وهذا كله يتصور على مذهب من يعتبر إجماع من بعد الصحابة فأما من لا يقول إلا بإجماع الصحابة فلا يلزمه شيء من ذلك لأن الصحابة قد جاوز عددهم عدد التواتر
مسألة ( مذهب الظاهرية ) ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة وهو فاسد لأن الأدلة الثلاثة على كون الإجماع حجة أعني الكتاب والسنة والعقل لا تفرق بين عصر وعصر فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماع من جميع الأمة ومن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين ويستحيل بحكم العادة أن يشذ الحق عنهم مع كثرتهم عند من يأخذه من العادة ولهم شبهتان أضعفهما قولهم الاعتماد على الخبر والآية وهو قوله تعالى { ويتبع غير سبيل المؤمنين } النساء 115 يتناول الذين نعتوا بالإيمان وهم الموجودون وقت نزول الآية فإن المعدوم لا يوصف بالإيمان ولا يكون له سبيل وقوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الخطأ يتناول أمته الذين آمنوا به وتصور إجماعهم واختلافهم وهم الموجودون وهذا باطل إذ يلزم على مساقه أن لا ينعقد إجماع بعد موت سعد بن معاذ وحمزة ومن استشهد من المهاجرين والأنصار ممن كانوا موجودين عند نزول الآية فإن إجماع من وراءهم ليس إجماع جميع المؤمنين وكل الأمة ويلزم أن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزول الآية وكملت آلته بعد ذلك وقد أجمعنا وإياهم والصحابة على أن موت واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع بل إجماع الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم حجة بالاتفاق وكم من صحابي استشهد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية
الشبهة الثانية أن الواجب اتباع سبيل جميع المؤمنين وإجماع جميع الأمة وليس التابعون جميع الأمة فإن الصحابة وإن ماتوا لم يخرجوا بموتهم عن الأمة ولذلك لو خالف واحد من الصحابة إجماع التابعين لا يكون قول جميع الأمة ولا يحرم الأخذ بقول الصحابي فإذا كان خلاف بعض الصحابة يدفع إجماع التابعين فعدم وفاقهم أيضا يدفع لأنهم بالموت لم يخرجوا عن كونهم من الأمة قالوا وقياس هذا يقتضي أن لا يثبت وصف الكلية أيضا للصحابة بل ينتظر لحوق التابعين وموافقتهم من بعدهم إلى القيامة فإنهم كل الأمة لكن لو اعتبر ذلك لم ينتفع بالإجماع إلا في القيامة فثبت أن وصف الكلية إنما هو لمن دخل في الوجود دون من لم يدخل فلا سبيل إلى إخراج الصحابة من الجملة وعند ذلك لا يثبت وصف كلية الأمة للتابعين والجواب أنه كما بطل على القطع الالتفات إلى اللاحقين بطل الالتفات إلى الماضين ولولا ذلك لما تصور إجماع بعد موت واحد من المسلمين في زمان الصحابة والتابعين ولا بعد أن استشهد حمزة وقد اعترفوا بصحة إجماع
____________________

(1/149)


الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موت من مات بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لأن الماضي لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر وأن وصف كلية الأمة حاصل لكل من الموجودين في كل وقت وأما إجماع التابعين على خلاف قول واحد من الصحابة فقد قال قوم يصير قول الصحابي مهجورا لأنهم كل الأمة وإن سلمنا وهو الصحيح فنقول إن اتفقوا على وفق قوله انعقد الإجماع إذ موافقته إن لم تقو الإجماع فلا تقدح فيه وإن أجمعوا على خلاف قوله فلا يصير ذلك القول عندنا مهجورا حتى يحرم على تابعي التابعين موافقته لأنه بعد أن أفتى في المسألة فليس فتوى التابعين فيها فتوى جميع الأمة بل فتوى البعض فإن قيل إن ثبت نعت الكلية للتابعين فليكن خلاف قولهم بعدهم حراما وإن قال به صحابي قبلهم وإن لم يكونوا كل الأمة فينبغي أن لا تقوم الحجة بإجماعهم ولا يحرم خلافهم إذ خلاف بعض الأمة ليس بحرام أما أن تكون كلية الأمة في شيء دون شيء فهذا متناقض وجمع بين النفي والإثبات قلنا ليس بمتناقض لأن الكلية إنما تثبت بالإضافة إلى المسألة التي خاضوا فيها فإذا نزلت مسألة بعد الصحابة فالتابعون فيها كل الأمة إذا أجمعوا فيها أما ما أفتى فيها الصحابي ففتواه ومذهبه لا ينقطع بموته وهذا كالصحابي إذا مات بعد الفتوى وأجمع الباقون على خلافه لا يكون ذلك إجماعا من الأمة ولو مات ثم نزلت واقعة بعده انعقد الإجماع على كل مذهب وتكون الكلية حاصلة بالإضافة فإن قيل إن كان في الأمة غائب لا ينعقد الإجماع دونه وإن لم يكن لذلك الغائب خبر من الواقعة ولا فتوى فيها لكن نقول لو كان حاضرا لكان له قول فيها فلا بد من موافقته فليكن الميت قبل التابعين كالغائب قلنا يبطل بالميت الأول من الصحابة فإن الإجماع انعقد دونه ولو كان غائبا لم ينعقد لأن الغائب في الحال ذو مذهب ورأي بالقوة فتمكن موافقته ومخالفته فيحتمل أن يوافق أو يخالف إذا عرضت المسألة عليه بخلاف الميت فإنه لا يتصور في حقه خلاف أو وفاق لا بالقوة ولا بالفعل بل المجنون والمريض الزائل العقل والطفل لا ينتظر لأنه بطل منه إمكان الوفاق والخلاف فإن قيل فما أجمع عليه التابعون يندفع بخلاف واحد من الصحابة إذا نقل فإن لم ينقل فلعله خالف ولكن لم ينقل إلينا فلا يستيقن إجماع كل الأمة قلنا يبطل بالميت الأول من الصحابة فإن إمكان خلافه لا يكون كحقيقة خلافه وهذا التحقيق وهو أنه لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج إذ ما من حكم إلا ويتصور تقدير نسخه وانفراد الواحد بنقله وموته قبل أن ينقل إلينا فيبطل إجماع الصحابة لاحتمال أن واحدا منهم أضمر المخالفة وإنما أظهر الموافقة لسبب ويرد خبر الواحد لاحتمال أن يكون كاذبا وإذا عرف الإجماع وانقرض العصر أمكن رجوع واحد منهم قبل الموت وإن لم ينقل إلينا فيبطل الإجماع على مذهب من يشترط انقراض العصر فإن قيل إن الأصل عدم النسخ وعدم الرجوع قلنا والأصل عدم خوضه في الواقعة وعدم الخلاف والوفاق جميعا ومع أن الأصل العدم فالاحتمال لا ينتفي وإذا ثبت الاحتمال حصل الشك فيصير الإجماع غير مستيقن مع الشك ولكن يقال لا يندفع الإجماع بكل شك فإن قيل في مسألة تجويز النسخ وتجويز الرجوع شك بعد استيقان أصل الحجة وإنما
____________________

(1/150)


الشك في دوامها وهاهنا الشك في أصل الإجماع لأن الإجماع موقوف على حصول نعت الكلية لهم ونعت الكلية موقوف على معرفة انتفاء الخلاف فإذا شككنا في انتفاء الخلاف شككنا في الكلية فشككنا في الإجماع قلنا لا بل نعت الكلية حاصل للتابعين وإنما ينتفي بمعرفة الخلاف فإذا لم يعرف بقيت الكلية وما ذكروه يضاهي قول القائل الحجة في نص مات الرسول عليه السلام قبل نسخه فإذا لم يعرف موته قبل نسخه شككنا في الحجة والحجة الإجماع المنقرض عليه العصر فإذا شككنا في الرجوع فقد شككنا في الحجة وكذلك القول في قول الميت الأول من الصحابة فإنا لا نقول صار كلية الباقين مشكوكا فيها هذا تمام الكلام في الركن الأول
الركن الثاني في نفس الإجماع ونعني به اتفاق فتاوى الأمة في المسألة في لحظة واحدة انقرض عليه العصر أو لم ينقرض أفتوا عن اجتهاد أو عن نص مهما كانت الفتوى نطقا صريحا وتمام النظر في هذا الركن ببيان أن السكوت ليس كالنطق وأن انقراض العصر ليس بشرط وأن الإجماع قد ينعقد عن اجتهاد فهذه ثلاث مسائل مسألة ( الإجماع السكوتي ) إذا أفتى بعض الصحابة بفتوى وسكت الآخرون لم ينعقد الإجماع ولا ينسب إلى ساكت قول وقال قوم إذا انتشر وسكتوا فسكوتهم كالنطق حتى يتم به الإجماع وشرط قوم انقراض العصر على السكوت وقال قوم هو حجة وليس بإجماع وقال قوم ليس بحجة ولا إجماع ولكنه دليل تجويزهم الاجتهاد في المسألة والمختار أنه ليس بإجماع ولا حجة ولا هو دليل على تجويز الاجتهاد في المسألة إلا إذا دلت قرائن الأحوال على أنهم سكتوا مضمرين الرضا وجواز الأخذ به عند السكوت والدليل عليه أن فتواه إنما تعلم بقوله الصريح الذي لا يتطرق إليه احتمال وتردد والسكوت متردد فقد يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب الأول أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول ونحن لا نطلع عليه وقد تظهر قرائن السخط عليه مع سكوته
الثاني أن يسكت لأنه يراه قولا سائغا لمن أداه إليه اجتهاده وإن لم يكن هو موافقا عليه بل كان يعتقد خطأه
الثالث أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الإنكار في المجتهدات أصلا ولا يرى الجواب إلا فرض كفاية فإذا كفاه من هو مصيب سكت وإن خالف اجتهاده
الرابع أن يسكت وهو منكر لكن ينتظر فرصة الإنكار ولا يرى البدار مصلحة لعارض من العوارض ينتظر زواله ثم يموت قبل زوال ذلك العارض أو يشتغل عنه
الخامس أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه وناله ذل وهوان كما قال ابن عباس في سكوته عن إنكار العول في حياة عمر كان رجلا مهيبا فهبته
السادس أن يسكت لأنه متوقف في المسألة لأنه بعد في مهلة النظر
السابع أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الإنكار وأغناه عن الإظهار ثم يكون قد غلط فيه فترك الإنكار عن توهم إذا رأى الإنكار فرض كفاية وظن أنه قد كفى وهو مخطىء في وهمه فإن قيل لو كان فيه خلاف لظهر قلنا لو كان فيه وفاق لظهر فإن تصور عارض يمنع من ظهور الوفاق تصور مثله في ظهور الخلاف وبهذا يبطل قول الجبائي حيث شرط انقراض العصر في السكوت إذ من العوارض المذكورة ما يدوم إلى آخر العصر أما من قال هو حجة وإن لم يكن إجماعا فهو
____________________

(1/151)


تحكم لأنه قول بعض الأمة والعصمة إنما تثبت للكل فقط فإن قيل نعلم قطعا أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة فنقل إليهم مذهب بعض الصحابة مع انتشاره وسكوت الباقين كانوا لا يجوزون العدول عنه فهو إجماع منهم على كونه حجة قلنا هذا إجماع غير مسلم بل لم يزل العلماء مختلفين في هذه المسألة ويعلم المحصلون أن السكوت متردد وأن قول بعض الأمة لا حجة فيه
مسألة ( انعقاد الإجماع باتفاق الأمة ) إذا اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة انعقد الإجماع ووجبت عصمتهم عن الخطأ وقال قوم لا بد من انقراض العصر وموت الجميع وهذا فاسد لأن الحجة في اتفاقهم لا في موتهم وقد حصل قبل الموت فلا يزيده الموت تأكيدا وحجة الإجماع الآية والخبر وذلك لا يوجب اعتبار العصر فإن قيل ما داموا في الأحياء فرجوعهم متوقع وفتواهم غير مستقرة قلنا والكلام في رجوعهم فإنا لا نجوز الرجوع من جميعهم إذ يكون أحد الإجماعين خطأ وهو محال أما بعضهم فلا يحل له الرجوع لأنه برجوعه خالف إجماع الأمة التي وجبت عصمتها عن الخطأ نعم يمكن أن يقع الرجوع من بعضهم ويكون به عاصيا فاسقا والمعصية تجوز على بعض الأمة ولا تجوز على الجميع فإن قيل كيف يكون مخالفا للإجماع وبعد ما تم الإجماع وإنما يتم بانقراض العصر قلنا إن عنيتم به أنه لا يسمى إجماعا فهو بهت على اللغة والعرف وإن عنيتم أن حقيقته لم تتحقق فما حده وما الإجماع إلا اتفاق فتاويهم والاتفاق قد حصل وما بعد ذلك استدامة للاتفاق لا إتمام للاتفاق ثم نقول كيف يدعي ذلك ونحن نعلم أن التابعين في زمان بقاء أنس بن مالك وأواخر الصحابة كانوا يحتجون بإجماع الصحابة ولم يكن جواز الاحتجاج بالإجماع مؤقتا بموت آخر الصحابة ولهذا قال بعضهم يكفي موت الأكثر وهو تحكم آخر لا مستند له ثم نقول هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع فإنه إن بقي واحد من الصحابة جاز للتابعي أن يخالف إذ لم يتم الإجماع وما دام واحد من عصر التابعين أيضا لا يستقر الإجماع منهم فيجوز لتابعي التابعين الخلاف وهذا خبط لا أصل له ولهم شبه الشبهة الأولى قولهم إنه ربما قال بعضهم ما قاله عن وهم وغلط فيتنبه له فكيف يحجر عليه في الرجوع عن الغلط وكيف يؤمن ذلك باتفاق يجري في ساعة واحدة قلنا وبأن يموت من أين يحصل أمان من غلطه وهل يؤمن من الغلط إلا دلالة النص على وجوب عصمة الأمة وأما إذا رجع وقال تبينت أني غلطت فنقول إنما يتوهم عليك الغلط إذا انفردت وأما ما قلته في موافقة الأمة فلا يحتمل الخطأ فإن قال تحققت أني قلت ما قلته عن دليل كذا وقد انكشف لي خلافه قطعا فنقول إنما أخطأت في الطريق لا في نفس المسألة بل موافقة الأمة تدل على أن الحكم حق وإن كنت في طريق الاستدلال مخطئا
الشبهة الثانية إنهم ربما قالوا عن اجتهاد وظن ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يرجع وإذا جاز الرجوع دل أن الإجماع لم يتم قلنا لا حجر على المجتهد في الرجوع إذا انفرد باجتهاده أما ما وافق فيه اجتهاده اجتهاد الأمة فلا يجوز الخطأ فيه ويجب كونه حقا والرجوع عن الحق ممنوع

____________________

(1/152)


الشبهة الثالثة أنه لو مات المخالف لم تصر المسألة إجماعا بموته والباقون هم كل الأمة لكنهم في بعض العصر فلذلك لا يصير مذهب المخالف مهجورا فإن كان العصر لا يعتبر فليبطل مذهب المخالف قلنا قال قوم يبطل مذهبه ويصير مهجروا لأن الباقين هم كل الأمة في ذلك الوقت وهو غير صحيح عندنا بل الصحيح أنهم ليسوا كل الأمة بالإضافة إلى تلك المسألة التي أفتى فيها الميت فإن فتواه لا ينقطع حكمها بموته وليس هذا للعصر فإنه جار في الصحابي الواحد إذا قال قولا وأجمع التابعون في جميع عصرهم على خلافه فقد بينا أنه لا يبطل مذهبه لأنهم ليسوا كل الأمة بالإضافة إلى هذه المسألة
الشبهة الرابعة ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال اجتمع رأيي ورأي عمر على منع بيع أمهات الأولاد وأنا الآن أرى بيعهن فقال عبيدة السلماني رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة قلنا لو صح إجماع الصحابة قاطبة لما كان هذا يدل من مذهب علي على اشتراط انقراض العصر ولو ذهب إلى هذا صريحا لم يجب تقليده كيف ولم يجتمع إلا رأيه ورأي عمر كما قال وأما قول عبيدة رأيك في الجماعة ما أراد به موافقة الجماعة إجماعا وإنما أراد به أن رأيك في زمان الألفة والجماعة والاتفاق والطاعة للإمام أحب إلينا من رأيك في الفتنة والفرقة وتفرق الكلمة وتطرق التهمة إلى علي في البراءة من الشيخين رضي الله عنهم فلا حجة فيما ليس صريحا في نفسه
مسألة ( كيفية انعقاد الإجماع ) يجوز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة وقال قوم الخلق الكثير لا يتصور اتفاقهم في مظنة الظن ولو تصور لكان حجة وإليه ذهب ابن جرير الطبري وقال قوم هو متصور وليس بحجة لأن القول بالاجتهاد يفتح باب الاجتهاد ولا يحرمه والمختار أنه متصور وأنه حجة وقولهم أن الخلق الكثير كيف يتفقون على حكم واحد في مظنة الظن قلنا هذا إنما يستنكر فيما يتساوى فيه الاحتمال وأما الظن الأغلب فيميل إليه كل واحد فأي بعد في أن يتفقوا على أن النبيذ في معنى الخمر في الاسكار فهو في معناه في التحريم كيف وأكثر الإجماعات مستندة إلى عمومات وظواهر وأخبار آحاد صحت عند المحدثين والاحتمال يتطرق إليها كيف وقد أجمعوا على التوحيد والنبوة وفيهما من الشبهة ما هو أعظم جذبا لأكثر الطباع من الاحتمال الذي في مقابلة الظن الأظهر وقد أجمعت على إبطال النبوة مذاهب باطلة ليس لها دليل قطعي ولا ظني فكيف لا يجوز الاتفاق على دليل ظاهر وظن غالب ويدل عليه جواز الاتفاق عن اجتهاد لا بطريق القياس كالاتفاق على جزاء الصيد ومقدار أرش الجناية وتقدير النفقة وعدالة الأئمة والقضاة وكل ذلك مظنون وإن لم يكن قياسا
ولهم شبه الأولى قولهم كيف تتفق الأمة على اختلاف طباعها وتفاوت أفهامها في الذكاء والبلادة على مظنون قلنا إنما يمتنع مثل هذا الاتفاق في زمان واحد وساعة معينة لأنهم في مهلة النظر قد يختلفون أما في أزمنة متمادية فلا يبعد أن يسبق الأذكياء إلى الدلالة الظاهرة ويقررون ذلك عند ذوي البلادة فيقبلونه منهم ويساعدون عليه وأهل هذا المذهب قد جوزوا الإجماع على نفي القياس وإبطاله مع ظهور أدلة صحته فكيف يمتنع الإجماع على هذا

____________________

(1/153)


الشبهة الثانية قولهم كيف تجتمع الأمة على قياس وأصل القياس مختلف فيه قلنا إنما يفرض ذلك من الصحابة وهم متفقون عليه والخلاف حدث بعدهم وإن فرض بعد حدوث الخلاف فيستند القائلون بالقياس إلى القياس والمنكرون له إلى اجتهاد ظنوا أنه ليس بقياس وهو على التحقيق قياس إذ قد يتوهم غير العموم عموما وغير الأمر أمرا وغير القياس قياسا وكذا عكسه
الشبهة الثالثة قولهم إن الخطأ في الاجتهاد جائز فكيف تجتمع الأمة على ما يجوز فيه الخطأ وربما قالوا الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد فلو انعقد الإجماع عن قياس لحرمت المخالفة التي هي جائز بالإجماع ولتناقض الإجماعان قلنا إنما يجوز الخطأ في اجتهاد ينفرد به الآحاد أما اجتهاد الأمة المعصومة فلا يحتمل الخطأ كاجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقياسه فإنه لا يجوز خلافه لثبوت عصمته فكذا عصمة الأمة من غير فرق
الباب الثالث في حكم الإجماع وحكمه وجوب الاتباع وتحريم المخالفة والامتناع عن كل ما ينسب الأمة إلى تضييع الحق والنظر فيما هو خرق ومخالفة وما ليس بمخالفة يتهذب برسم مسائل مسألة ( الإجماع على رأيين ) إذا اجتمعت الأمة في المسألة على قولين كحكمهم مثلا في الجارية المشتراة إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيبا فقد ذهب بعضهم إلى أنها ترد مع العقر وذهب بعضهم إلى منع الرد فلو اتفقوا على هذين المذهبين كان المصير إلى الرد مجانا خرقا للإجماع عند الجماهير إلا عند شذوذ من أهل الظاهر والشافعي إنما ذهب إلى الرد مجانا لأن الصحابة بجملتهم لم يخوضوا في المسألة وإنما نقل فيها مذهب بعضهم فلو خاضوا فيها بجملتهم واستقر رأي جميعهم على مذهبين لم يجز إحداث مذهب ثالث ودليله أنه يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق إذ لا بد لمذهب الثالث من دليل ولا بد من نسبة الأمة إلى تضييعه والغفلة عنه وذلك محال ولهم شبه الشبهة الأولى قولهم إنهم خاضوا خوض مجتهدين ولم يصرحوا بتحريم قول ثالث قلنا وإذا اتفقوا على قول واحد عن اجتهاد فهو كذلك ولم يجز خلافهم لأنه يوجب نسبتهم إلى تضييح الحق والغفلة عن دليله فكذلك هاهنا
الشبهة الثانية قولهم إنه لو استدل الصحابة بدليل أو علة لجاز الاستدلال بعلة أخرى لأنهم لم يصرحوا ببطلانها فكذلك القول الثالث لم يصرحوا ببطلانه قلنا فليجز خلافهم إذا اتفقوا عن اجتهاد إذ يجوز التعليل بعلة أخرى فيما اتفقوا عليه لكن الجواب أنه ليس من فرض دينهم الاطلاع على جميع الأدلة بل يكفيهم معرفة الحق بدليل واحد فليس في إحداث علة أخرى واستنباطها نسبة إلى تضييع الحق وفي مخالفتهم في الحكم إذا اتفقوا نسبة إلى التضييع فكذلك إذا اختلفوا على قولين
الشبهة الثالثة إنه لو ذهب بعض الصحابة إلى أن اللمس والمس ينقضان الوضوء وبعضهم إلى أنهما لا ينقضان الوضوء ولم يفرق واحد بينهما فقال تابعي ينقض أحدهما
____________________

(1/154)


دون الآخر كان هذا جائزا وإن كان قولا ثالثا قلنا لأن حكمه في كل مسألة يوافق مذهب طائفة وليس في المسألتين حكم واحد وليست التسوية مقصودة ولو قصدوها وقالوا لا فرق واتفقوا عليه لم يجز الفرق وإذا فرقوا بين المسألتين واتفقوا على الفرق قصدا امتنع الجمع أما إذا لم يجمعوا ولم يفرقوا فلا يلتئم حكم واحد من مسألتين بل نقول صريحا لا يخلو إنسان عن معصية وخطأ في مسألة فالأمة مجتمعة على المعصية والخطأ وكل ذلك ليس بمحال إنما يستحيل الخطأ بحيث يضيع الحق حتى لا يقوم به طائفة مع قوله عليه السلام لا تزال طائفة من أمتي على الحق فلهذا نقول يجوز أن تنقسم الأمة في مسألتين إلى فرقتين وتخطىء فرقة في مسألة والفرقة الأخرى تقوم بالحق فيها والقائمون بالحق يخطئون في المسألة الأخرى ويقوم بالحق فيها المخطئون في المسألة الأولى حتى يقول مثلا أحد شطري الأمة القياس ليس بحجة والخوارج مبطلون ويقول فريق آخر القياس حجة والخوارج محقون فيشملهم الخطأ ولكن في مسألتين فلا يكون الحق في مسألتين مضيعا بين الأمة في كل واحد منهما
الشبهة الرابعة إن مسروقا أحدث في مسألة الحرام قولا ثالثا ولم ينكر عليه منكر قلنا لم يثبت استقرار كافة الصحابة على رأيين في مسألة الحرام بل ربما كان بعضهم فيها في مهلة النظر أو لم يخض فيها أو لعل مسروقا خالف الصحابة في ذلك الوقت ولم ينطق بوفاقهم وكان أهلا للاجتهاد في وقت وقوع هذه المسألة كيف ولم يصح هذا عن مسروق إلا بإخبار الآحاد فلا يدفع بها ما ذكرنا
مسألة ( خلاف القليل للإجماع ) إذا خالف واحد من الأمة أو اثنان لم ينعقد الإجماع دونه فلو مات لم تصر المسألة إجماعا خلافا لبعضهم ودليلنا أن المحرم مخالفة الأمة كافة ومن ذهب إلى مذهب الميت بعد عصره لا يمكن أن يقال مذهبه خلاف كافة الأمة لأن الميت من الأمة لا ينقطع مذهبه بموته ولذلك يقال فلان وافق الشافعي أو خالفه وذلك بعد موت الشافعي فمذهب الميت لا يصير مهجورا بموته ولو صار مهجورا لصار مذهب الجميع كالمنعدم عند موتهم حتى يجوز لمن بعدهم أن يخالفهم فإن قيل فلو مات في مهلة النظر وهو بعد متوقف فماذا تقولون فيه قلنا نقطع في طرفين واضحين إحداهما أن يموت قبل الخوض في المسألة وقبل أن تعرض عليه فالباقون بعده كل الأمة وإن خاض وأفتى فالباقون بعض الأمة وإن مات في مهلة النظر فهذا محتمل فإنه كما لم يخالفهم لم يوافقهم أيضا بل المتوقف مخالف للجازم لكنه بصدد الموافقة فهذه المسألة محتملة عندنا والله أعلم
مسألة ( إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة ) إذا اتفق التابعون على أحد قولي الصحابة لم يصر القول الآخر مهجورا ولم يكن الذاهب إليه خارقا للإجماع خلافا للكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وكثير من القدرية كالجبائي وابنه لأنه ليس مخالفا لجميع الأمة فإن الذين ماتوا على ذلك المذهب هم من الأمة والتابعون في تلك المسألة بعض الأمة وإن كانوا كل الأمة فمذهبهم باختيار أحد القولين لايحرم القول الآخر فإن صرحوا بتحريم القول الآخر فنحن بين أمرين إما أن نقول هذا محال وقوعه لأنه يؤدي إلى تناقض الإجماعين إذ مضت الصحابة
____________________

(1/155)


مصرحة بتجويز الخلاف وهؤلاء اتفقوا على تحريم ما سوغوه وإما أن نقول أن ذلك ممكن ولكنهم بعض الأمة في هذه المسألة والمعصية من بعض الأمة جائزة وإن كانوا كل الأمة في كل مسألة لم يخض الصحابة فيها لكن هذا يخالف قوله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إذ يكون الحق قد ضاع في هذا الزمان فلعل من يميل إلى هذا المذهب يجعل الحديث من أخبار الآحاد فإن قيل بم تنكرون على من يقول هذا إجماع يجب اتباعه وأما الصحابة فقد اتفقوا على قولين بشرط أن لا يعثر من بعدهم على دليل يعين الحق في أحدهما قلنا هذا تحكم واختراع عليهم فإنهم لم يشترطوا هذا الشرط والإجماع حجة قاطعة فلا يمكن الشرط في الحجة القاطعة إذ يتطرق الاحتمال إليه ويخرج عن كونه قاطعا ولو جاز هذا لجاز أن يقال إذا أجمعوا على قول واحد عن اجتهاد فقد اتفقوا بشرط أن لا يعثر من بعدهم على دليل يعين الحق في خلافه وقد مضت الصحابة متفقة على تسويغ كل واحد من القولين فلا يجوز خرق إجماعهم
مسألة ( الرجوع إلى أحد الرأيين ) إذا اختلفت الأمة على قولين ثم رجوا إلى قول واحد صار ما اتفقوا عليه إجماعا قاطعا عند من شرط انقراض العصر ويخلص من الأشكال أما نحن إذا لم نشترط فالإجماع الأول ولو في لحظة قد تم على تسويغ الخلاف فإذا رجعوا إلى أحد القولين فلا يمكننا في هذه الصورة أن نقول هم بعض الأمة في هذه المسألة كما ذكرناه في اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة فيعظم الإشكال وطرق الخلاص عنه خمسة أحدها أن نقول هذا محال وقوعه وهو كفرض إجماعهم على شيء ثم رجوعهم بأجمعهم إلى خلافه أو اتفاق التابعين على خلافه والشارطون لانقراض العصر يتخذون هذه المسألة عمدة لهم ويقولون مثلا إذا اختلفوا في مسألة النكاح بلا ولي فمن ذهب إلى بطلانه جاز له أن يصر عليه فلم لا يجوز للآخرين أن يوافقوه مهما ظهر لهم دليل البطلان وكيف يحجز على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يوافق مخالفه قلنا هذا استبعاد محض ونحن نحيل ذلك لأنه يؤدي إلى تناقض الإجماعين فإن الإجماع الأول قد دل على تسويغ الخلاف وعلى إيجاب التقليد على كل عامي لمن شاء من المجتهدين ولا يكون الاتفاق على تسويغ ذلك إلا عن دليل قاطع أو كالقاطع في تجويزه وكيف يتصور رفعه وإحالة وقوع هذا التناقض في الإجماعين أقرب من التحكم باشتراط العصر ثم يبقى الإشكال في اتفاق التابعين بعد انقراض العصر الأول على اختلاف قولين ثم لا خلاف في أنه يجوز الرجوع إلى أحدهما في القطعيات كما رجعوا إلى قتال المانعين للزكاة بعد الخلاف وإلى أن الأئمة من قريش لأن كل فريق يؤثم مخالفه ولا يجوز مذهبه بخلاف المجتهدات فإن الخلاف فيها مقرون بتجويز الخلاف وتسويغ الأخذ بكل مذهب أدى إليه الاجتهاد من المذهبين
والمخلص الثاني اشتراط انقراض العصر وهو مشكل فإن اشتراطه تحكم
والمخلص الثالث اشتراط كون الإجماع مستندا إلى قاطع لا إلى قياس واجتهاد فإن من شرط هذا يقول لا يحصل من اختلافهم إجماع على جواز كل مذهب بل ذلك أيضا مستند إلى اجتهاد فإذا رجعوا إلى واحد فالنظر إلى ما اتفقوا عليه لتعين الحق بدليل قاطع في أحد المذهبين وهو
____________________

(1/156)


مشكل لأنه لو فتح هذا الباب لم يكن التعلق بالإجماع إذ ما من إجماع إلا ويتصور أن يكون عن اجتهاد فإذا انقسم الإجماع إلى ما هو حجة وإلى ما ليس بحجة ولا فاصل سقط التمسك به وخرج عن كونه حجة فإنه إن ظهر لنا القاطع الذي هو مستندهم فيكون الحكم مستقلا بذلك القاطع ومستندا إليه لا إلى الإجماع ولأن قوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الخطأ لم يفرق بين إجماع وإجماع ولا يتخلص من هذا إلا من أنكر تصور الإجماع عن اجتهاد وعند ذلك يناقض آخر كلامه أوله حيث قال اتفاقهم على تسويغ الخلاف مستنده الاجتهاد
المخلص الرابع أن يقال النظر إلى الاتفاق الأخير فأما في الابتداء فإنما جوز الخلاف بشرط أن لا ينعقد إجماع على تعيين الحق في واحد وهذا مشكل فإنه زيادة شرط في الإجماع والحجج القاطعة لا تقبل الشرط الذي يمكن أن يكون وأن لا يكون ولو جاز هذا لجاز أن يقال الإجماع الثاني ليس بحجة بل إنما يكون حجة بشرط أن لا يكون اتفاقا بعد اختلاف وهذا أولى لأنه يقطع عن الإجماع الشرط المحتمل
المخلص الخامس هذا وهو أن الأخير ليس بحجة ولا يحرم القول المهجور لأن الإجماع إنما يكون حجة بشرط أن لا يتقدم اختلاف فإذا تقدم لم يكن حجة وهذا أيضا مشكل لأن قوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الخطأ يحسم باب الشرط ويوجب كون كل إجماع حجة كيف ما كان فيكون كل واحد من الإجماعين حجة ويتناقض فلعل الأولى الطريق الأول وهو أن هذا لا يتصور لأنه يؤدي إلى التناقض وتصويره كتصوير رجوع أهل الإجماع عما أجمعوا عليه وكتصوير اتفاق التابعين على خلاف إجماع الصحابة وذلك مما يمتنع وقوعه بدليل السمع فكذلك هذا فإن قيل فإذا ذهب جميع الأمة من الصحابة إلى العول إلا ابن عباس وإلى منع بيع أمهات الأولاد إلا عليا فإذا ظهر لهما الدليل على العول وعلى منع البيع فلم يحرم عليهما الرجوع إلى موافقة سائر الأمة وكيف يستحيل أن يظهر لهما ما ظهر للأمة ومذهبكم يؤدي إلى هذه الإحالة عند سلوك الطريق الأول قلنا لا إشكال على الطريق الأول إلا هذا وسبيل قطعه أن يقال لا يحرم عليهما الرجوع لو ظهر لهما وجه ذلك ولكنا نقول يستحيل أن يظهر لهما وجه أو يرجعا لا لامتناعه في ذاته لكن لإفضائه إلى ما هو ممتنع سمعا والشيء تارة يمتنع لذاته وتارة لغيره كاتفاق التابعين على إبطال القياس وخبر الواحد فإنه محال لا لذاته لكن لإفضائه إلى تخطئة الصحابة أو تخطئة التابعين كافة وهو ممتنع سمعا والله أعلم
مسألة ( ظهور حديث يخالف إجماع الصحابة ) فإن قال قائل إذا أجمعت الصحابة على حكم ثم ذكر واحد منهم حديثا على خلافه ورواه فإن رجعوا إليه كان الإجماع الأول باطلا وإن أصروا على خلاف الخبر فهو محال لا سيما في حق من يذكره تحقيقا وإذا رجع هو كان مخالفا للإجماع وإن لم يرجع كان مخالفا للخبر وهذا لا مخلص عنه إلا باعتبار انقراض العصر فليعتبر قلنا عنه مخلصان أحدهما أن هذا فرض محال فإن الله يعصم الأمة عن الإجماع على نقيض الخبر أو يعصم الراوي عن النسيان إلى أن يتم الإجماع
الثاني أنا ننظر إلى أهل الإجماع فإن أصروا تبين أنه حق وأن الخبر إما أن يكون غلط فيه الراوي فسمعه من غير
____________________

(1/157)


رسول الله صلى الله عليه وسلم وظن أنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم أو تطرق إليه نسخ لم يسمعه الراوي وعرفه أهل الإجماع وإن لم ينكشف لنا فإن رجع الراوي كان مخطئا لأنه خالف الإجماع وهو حجة قاطعة وإن رجع أهل الإجماع إلى الخبر قلنا كان ما أجمعوا عليه حقا في ذلك الزمان إذ لم يكلفهم الله ما لم يبلغهم كما يكون الحكم المنسوخ حقا قبل بلوغ النسخ وكما لو تغير الاجتهاد أو يكون كل واحد من الرأيين حقا عند من صوب قول كل مجتهد فإن قيل فإن جاز هذا فلم لا يجوز أن يقال إذا أجمعت الأمة عن اجتهاد جاز لمن بعدهم الخلاف بل جاز لهم الرجوع فإن ما قالوه كان حقا ما دام ذلك الاجتهاد باقيا فإذا تغير تغير الفرض والكل حق لا سيما إذا اختلفوا عن اجتهاد ثم رجعوا إلى قول واحد وهلا قلتم إن ذلك جائز لأنهم كانوا يجوزون للذاهب إلى إنكار العول وبيع أم الولد القول به ما غلب ذلك على ظنه فإذا تغير ظنه تغير فرضه وحرم عليه ما كان سائغا له ولا يكون هذا رفعا للإجماع بل تجويزا للمصير إلى مذهب بشرط غلبة الظن فإذا تغير الظن لم يكن مجوزا ويكون هذا مخلصا سادسا في المسألة التي قبل هذه المسألة قلنا ما أجمعوا عليه عن اجتهاد لا يجوز خلافه بعده لا لأنه حق فقط لكن لأنه حق اجتمعت الأمة عليه وقد أجمعت الأمة على أن كل ما أجمعت الأمة عليه يحرم خلافه لا كالحق الذي يذهب إليه الآحاد وأما إذا اختلفوا عن اجتهاد فقد اتفقوا على جواز القول الثاني فيصير جواز المصير إليه أمرا متفقا عليه ولا يجوز أن يقيد بشرط بقاء الاجتهاد كما لو اتفقوا على قول واحد بالاجتهاد فإنه لا يشترط فيه أن لا يتغير الاجتهاد بل يحرم خلافه مطلقا من غير شرط فكذلك هذا فإن قيل فلو ظهر للتابعين ذلك الخبر على خلاف ما أجمعت الصحابة عليه ونقله إليهم من كان حاضرا عند إجماع أهل الحل والعقد ولم يكن الراوي من أهل الحل والعقد قلنا يحرم على التابعين موافقته ويجب عليه اتباع الإجماع القاطع فإن خبر الواحد يحتمل النسخ والسهو والإجماع لا يحتمل ذلك
مسألة ( هل يثبت الإجماع بخبر الواحد ) الإجماع لا يثبت بخبر الواحد خلافا لبعض الفقهاء والسر فيه أن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة وخبر الواحد لا يقطع به فكيف يثبت به قاطع وليس يستحيل التعبد به عقلا لو ورد كما ذكرناه في نسخ القرآن بخبر الواحد لكن لم يرد فإن قيل فليثبت في حق وجوب العمل به إن لم يكن العمل به مخالفا لكتاب ولا سنة متواترة إذ الإجماع كالنص في وجوب العمل والعمل بما ينقله الراوي من النص واجب وإن لم يحصل القطع به لصحة النص فكذا الإجماع قلنا إنما يثبت العمل بخبر الواحد اقتداء بالصحابة وإجماعهم عليه وذلك فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما ما روي عن الأمة من اتفاق أو إجماع فلم يثبت فيه نقل وإجماع ولو أثبتناه لكان ذلك بالقياس ولم يثبت لنا صحة القياس في إثبات أصول الشريعة هذا هو الأظهر ولسنا نقطع ببطلان مذهب من يتمسك به في حق العمل خاصة والله أعلم
مسألة ( ليست من الإجماع الأخذ بالأقل ) الأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع خلافا لبعض الفقهاء ومثاله إن الناس اختلفوا في دية اليهودي فقيل إنها مثل دية المسلم وقيل إنها مثل نصفها وقيل
____________________

(1/158)


إنها ثلثها فأخذ الشافعي بالثلث الذي هو الأقل وظن ظانون أنه تمسك بالإجماع وهو سوء ظن بالشافعي رحمه الله فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر فلا مخالف فيه وإنما المختلف فيه سقوط الزيادة ولا إجماع فيه بل لو كان الإجماع على الثلث إجماعا على سقوط الزيادة لكان موجب الزيادة خارقا للإجماع ولكان مذهبه باطلا على القطع لكن الشافعي أوجب ما أجمعوا عليه وبحث عن مدارك الأدلة فلم يصح عنده دليل على إيجاب الزيادة فرجع إلى استصحاب الحال في البراءة الأصلية التي يدل عليها العقل فهو تمسك بالاستصحاب ودليل العقل لا بدليل الإجماع كما سيأتي معناه إن شاء الله تعالى وهذا تمام الكلام في الإجماع الذي هو الأصل الثالث
الأصل الرابع دليل العقل والاستصحاب اعلم أن الأحكام السمعية لا تدرك بالعقل لكن دل العقل على براءة الذمة عن الواجبات وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل عليهم السلام وتأييدهم بالمعجزات وانتفاء الأحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع فإذا ورد نبي وأوجب خمس صلوات فتبقى الصلاة السادسة غير واجبة لا بتصريح النبي بنفيها لكن كان وجوبها منتفيا إذ لا مثبت للوجوب فبقي على النفي الأصلي لأن نطقه بالإيجاب قاصر على الخمسة فبقي على النفي في حق السادسة وكأن السمع لم يرد وكذلك إذا أوجب صوم رمضان بقي صوم شوال على النفي الأصلي وإذا أوجب عبادة في وقت بقيت الذمة بعد انقضاء الوقت على البراءة الأصلية وإذا أوجب على القادر بقي العاجز على ما كان عليه فإذا النظر في الأحكام إما أن يكون في إثباتها أو في نفيها أما إثباتها فالعقل قاصر عن الدلالة عليه وأم النفي فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد الدليل السمعي بالمعنى الناقل من النفي الأصلي فانتهض دليلا على أحد الشطرين وهو النفي فإن قيل إذا كان العقل دليلا بشرط أن لا يرد سمع فبعد بعثة الرسل ووضع الشرع لا يعلم نفي السمع فلا يكون انتفاء الحكم معلوما ومنتهاكم عدم العلم بورود السمع وعدم العلم لا يكون حجة قلنا انتفاء الدليل السمعي قد يعلم وقد يظن فإنا نعلم أنه لا دليل على وجوب صوم شوال ولا على وجوب صلاة سادسة إذ نعلم أنه لو كان لنقل وانتشر ولما خفي على جميع الأمة وهذا علم بعدم الدليل وليس هو عدم العلم بالدليل فإن عدم العلم بالدليل ليس بحجة والعلم بعدم الدليل حجة
أما الظن فالمجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة في وجوب الوتر والأضحية وأمثالهما فرآها ضعيفة ولم يظهر له دليل مع شدة بحثه وعنايته بالبحث غلب على ظنه انتفاء الدليل فنزل ذلك منزلة العلم في حق العمل لأنه ظن استند إلى بحث واجتهاد وهو غاية الواجب على المجتهد فإن قيل ولم يستحيل أن يكون واجبا ولا يكون عليه دليل أو يكون عليه دليل لم يبلغنا قلنا أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال لأنه تكليف بما لا يطاق ولذلك نفينا الأحكام قبل ورود السمع وأما إن كان عليه دليل ولم يبلغنا فليس دليلا في حقنا إذ لا تكليف علينا إلا فيما بلغنا فإن قيل فيقدر كل عامي أن ينفي مستندا إلى أنه لم يبلغه الدليل قلنا هذا إنما يجوز للباحث
____________________

(1/159)


المجتهد المطلع على مدارك الأدلة القادر على الاستقصاء كالذي يقدر على التردد في بيته لطلب متاع إذا فتش وبالغ أمكنه أن يقطع بنفي المتاع أو يدعي غلبة الظن أما الأعمى الذي لا يعرف البيت ولا يبصر ما فيه فليس له أن يدعي نفي المتاع من البيت فإن قيل وهل للاستصحاب معنى سوى ما ذكرتموه قلنا يطلق الاستصحاب على أربعة أوجه يصح ثلاثة منها الأول ما ذكرناه
والثاني استصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص واستصحاب النص إلى أن يرد نسخ أما العموم فهو دليل عند القائلين به وأما النص فهو دليل على دوام الحكم بشرط أن لا يرد نسخ كما دل العقل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يرد سمع مغير
الثالث استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند جريان العقد المملك وكشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام فإن هذا وإن لم يكن حكما أصليا فهو حكم شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعا ولولا دلالة الشرع على دوامه إلى حصول براءة الذمة لما جاز استصحابه فالاستصحاب ليس بحجة إلا فيما دل الدليل على ثبوته ودوامه بشرط عدم المغير كما دل على البراءة العقل وعلى الشغل السمعي وعلى الملك الشرعي ومن هذا القبيل الحكم بتكرر اللزوم والوجوب إذا تكررت أسبابها كتكرر شهر رمضان وأوقات الصلوات ونفقات الأقارب عند تكرر الحاجات إذا أفهم انتصاب هذه المعاني أسبابا لهذه الأحكام من أدلة الشرع إما بمجرد العموم عند القائلين به أو بالعموم وجملة من القرائن عند الجميع وتلك القرائن تكريرات وتأكيدات وإمارات عرف حملة الشريعة قصد الشارع إلى نصبها أسبابا إذا لم يمنع مانع فلولا دلالة الدليل على كونها أسبابا لم يجز استصحابها فإذن الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس راجعا إلى عدم العلم بالدليل بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير أو مع ظن انتفاء المغير عند بذل الجهد في البحث والطلب
الرابع استصحاب الإجماع في محل الخلاف وهو غير صحيح ولنرسم فيه وفي افتقار النافي إلى دليل مسألتين مسألة ( استصحاب الإجماع ) لا حجة في استصحاب الإجماع في محل الخلاف خلافا لبعض الفقهاء ومثاله المتيمم إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة لأن الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها فطريان وجود الماء كطريان هبوب الريح وطلوع الفجر وسائر الحوادث فنحن نستصحب دوام الصلاة إلى أن يدل دليل على كون رؤية الماء قاطعا للصلاة وهذا فاسد لأن هذا المستصحب لا يخلو إما أن يقر بأنه لم يقم دليلا في المسألة لكن قال أنا ناف ولا دليل على النافي وأما أن يظن أنه أقام دليلا فإن أقر بأنه لم يدل فسنبين وجوب الدليل على النافي وإن ظن أنه أقام دليلا فقد أخطأ فإنا نقول إنما يستدام الحكم الذي دل الدليل على دوامه فالدليل على دوام الصلاة ههنا لفظ الشارع أو إجماع فإن كان لفظا فلا بد من بيان لذلك اللفظ فلعله يدل على دوامها عند العدم لا عند الوجود فإن دل بعمومه على دوامها عند العدم والوجود جميعا كان ذلك تمسكا بعموم عند القائلين به فيجب إظهار دليل التخصيص وإن كان ذلك بإجماع فالإجماع منعقد على دوام الصلاة عند العدم أما حال الوجود فهو مختلف فيه ولا إجماع مع الخلاف ولو كان الإجماع شاملا
____________________

(1/160)


حال الوجود لكان المخالف خارقا للإجماع كما أن المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الفجر خارق للإجماع لأن الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الماء فإذا وجد فلا إجماع فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه بعلة جامعة فأما أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع فهو محال وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يدل دليل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع وههنا انعقد الإجماع بشرط العدم وانتفى الإجماع عند الوجوب أيضا فهذه الدقيقة وهي أن كل دليل يضاد نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه مع الخلاف والإجماع يضاده نفس الخلاف إذ لا إجماع مع الخلاف بخلاف العموم والنص ودليل العقل فإن الخلاف لا يضاده فإن المخالف مقر بأن العموم مقر بأن العموم تناول بصيغته محل الخلاف إذ قوله صلى الله عليه وسلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه فيقول أسلم شمول الصيغة لكني أخصصه بدليل فعليه الدليل وهاهنا المخالف لا يسلم شمول الإجماع محل الخلاف إذ يستحيل الإجماع مع الخلاف ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل فهذه الدقيقة لا بد من التنبه لها فإن قيل الإجماع يحرم الخلاف فكيف يرتفع بالخلاف قلنا هذا الخلاف غير محرم بالإجماع وإنما لم يكن المخالف خارقا للإجماع لأن الإجماع إنما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل فإن قيل فالدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلى أن يقوم دليل على انقطاعه قلنا فلينظر في ذلك الدليل أهو عموم أو نص يتناول حالة الوجود أم لا فإن كان هو الإجماع مشروط بالعدم فلا يكون دليلا عند الوجود فإن قيل بم تنكرون على من يقول الأصل أن كل ما ثبت دام إلى وجود قاطع فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه بل الثبوت هو الذي يحتاج إلى الدليل كما أنه إذا ثبت موت زيد وثبت بناء دار أو بلد كان دوامه بنفسه لا بسبب قلنا هذا وهم باطل لأن كل ما ثبت جاز أن يدوم فلا بد لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ولولا دليل العادة على أن من مات لا يحيا والدار إذا بنيت لا تنهدم ما لم تهدم أو يطول الزمان لما عرفنا دوامه بمجرد ثبوته كما إذا أخبر عن قعود الأمير وأكله ودخوله الدار ولم تدل العادة على دوام هذه الأحوال فإنا لا نقضي بدوام هذه الأحوال أصلا فكذلك خبر الشرع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع الوجود فيفتقر دوامها إلى دليل آخر
فإن قيل ليس هو مأمورا بالشروع فقط بل بالشروع مع الإتمام قلنا نعم هو مأمور بالشروع مع العدم وبالإتمام مع العدم أما مع وجود فهو محل الخلاف فما الدليل على أنه مأمور في حالة الوجود بالإتمام
فإن قيل لأنه منهي عن إبطال العمل وفي استعمال الماء إبطال العمل قلنا هذا الأمر إنجرار إلى ما جررناكم إليه وانقياد للحاجة إلى الدليل وهذا الدليل وإن كان ضعيفا فبيان ضعفه ليس من حظ الأصولي ثم هو ضعيف لأنه إن أردتم بالبطلان إحباط ثوابه فلا نسلم أنه لا يثاب على فعله وإن أردتم أنه أوجب عليه مثله فليس الصحة عبارة عما لا يجب فعل مثله على ما قررناه من قبل
فإن قيل الأصل أنه لا يجب شيء
____________________

(1/161)


بالشك ووجوب استئناف الصلاة مشكوك فيه فلا يرتفع به اليقين قلنا هذا يعارضه أن وجوب المضي في هذه الصلاة مشكوك فيه وبراءة الذمة بهذه الصلاة مع وجود الماء مشكوك فيه فلا يرتفع به اليقين ثم نقول من يوجب الاستئناف يوجبه بدليل يغلب على الظن كما يرفع البراءة الأصلية بدليل يغلب على الظن كيف واليقين قد يرفع بالشك في بعض المواضع فالمسائل فيه متعارضة وذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة ورضيعة بأجنبية وماء طاهر بماء نجس ومن نسي صلاة من خمس صلوات احتجوا بأن الله تعالى صوب الكفار في مطالبتهم للرسل بالبرهان حين قال تعالى { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين } إبراهيم 10 فقد اشتغل الناس بالبراهين المغيرة للاستصحاب قلنا لأنهم لم يستصحبوا الإجماع بل النفي الأصلي الذي دل العقل عليه إذ الأصل في فطرة الآدمي أن لا يكون نبيا وإنما يعرف ذلك بآيات وعلامات فهم مصيبون في طلب البرهان ومخطئون في المقام على دين آبائهم بمجرد الجهل من غير برهان
مسألة ( النافي هل عليه دليل ) اختلفوا في أن النافي هل عليه دليل فقال قوم لا دليل عليه وقال قوم لا بد من الدليل وفرق فريق ثالث بين العقليات والشرعيات فأوجبوا الدليل في العقليات دون الشرعيات
والمختار أن ما ليس بضروري فلا يعرف إلا بدليل والنفي فيه كالإثبات وتحقيقه أن يقال للنافي ما ادعيت نفيه عرفت انتفاءه أو أنت شاك فيه فإن أقر بالشك فلا يطالب الشاك بالدليل فإنه يعترف بالجهل وعدم المعرفة وإن قال أنا متيقن للنفي قيل يقينك هذا حصل عن ضرورة أو عن دليل ولا تعد معرفة النفي ضرورة فإنا نعلم أنا لسنا في لجة بحر أو على جناح نسر وليس بين أيدينا نيل ولا تعد معرفة النفي ضرورة وإن لم يعرفه ضرورة فإنما عرفه عن تقليد أو عن نظر فالتقليد لا يفيد العلم فإن الخطأ جائز على المقلد والمقلد معترف بعمى نفسه وإنما يدعي البصيرة لغيره وإن كان عن نظر فلا بد من بيانه فهذا أصل الدليل ويتأيد بلزوم إشكالين بشعين على إسقاط الدليل عن النافي وهو أن لا يجب الدليل على نافي حدوث العالم ونافي الصانع ونافي حدوث العالم ونافي الصانع ونافي النبوات ونافي تحريم الزنا والخمر والميتة ونكاح المحارم وهو محال والثاني أن الدليل إذا سقط عن هؤلاء لم يعجز أن يعبر المثبت عن مقصود إثباته بالنفي فيقول بدل قوله محدث إنه ليس بقديم وبدل قوله قادر إنه ليس بعاجز وما يجري مجراه
ولهم في المسألة شبهتان الشبهة الأولى قولهم أنه لا دليل على المدعى عليه بالدين لأنه ناف والجواب من أربعة أوجه ( الأول ) أن ذلك ليس لكونه نافيا ولا لدلالة العقل على سقوط الدليل عن النافي بل ذلك بحكم الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر ولا يجوز أن يقاس عليه غيره لأن الشرع إنما قضى به للضرورة إذ لا سبيل إلى إقامة دليل على النفي فإن ذلك إنما يعرف بأن يلازمه عدد التواتر من أول وجوده إلى وقت الدعوى فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولا وفعلا بمراقبة اللحظات فكيف يكلف إقامة البرهان على ما يستحيل إقامة البرهان عليه بل المدعي أيضا لا دليل عليه لأن قول الشاهدين لا يحصل المعرفة بل الظن بجريان سبب اللزوم من إتلاف أو دين وذلك في الماضي أما في
____________________

(1/162)


الحال فلا يعلم الشاهد شغل الذمة فإنه يجوز براءتها بأداء أو إبراء ولا سبيل للخلق إلى معرفة شغل الذمة وبراءتها إلا بقول الله تعالى وقول الرسول المعصوم ولا ينبغي أن يظن أن على المدعي أيضا دليلا فإن قول الشاهد إنما صار دليلا بحكم الشرع فإن جاز ذلك فيمين المدعى عليه أيضا لازم فليكن ذلك دليلا
( والجواب الثاني ) أن المدعى عليه يدعي علم الضرورة ببراءة ذمة نفسه إذ يتيقن أنه لم يتلف ولم يلتزم ويعجز الخلق كلهم من معرفته فإنه لا يعرفه إلا الله تعالى فالنافي في العقليات إن ادعى معرفة إن ادعى معرفة النفي ضرورة فهو محال وإن أقر بأنه مختص بمعرفته اختصاصا لا يمكن أن يشاركه فيه إلا الله فعند ذلك لا يطالب بالدليل وكذلك أنه إذا أخبر عن نفسه بنفي الجوع ونفي الخوف وما جرى مجراه وعند ذلك يستوي الإثبات والنفي فإنه لو ادعى وجود الجوع والخوف كان ذلك معلوما له ضرورة ويعسر على غيره معرفته والعقليات مشتركة النفي منها والإثبات والمحسوسات أيضا يستوي فيها النفي والإثبات
( الثالث ) أن النافي في مجلس الحكم عليه دليل وهي اليمين كما على المدعي دليل وهو البينة وهذا ضعيف إذ اليمين يجوز أن تكون فاجرة فأي دلالة لها من حيث العقل لولا حكم الشرع نعم هو كالبينة فإن قول الشاهدين أيضا يجوز أن يكون غلطا وزورا فاستعماله من هذا الوجه صحيح كما سبق أو يقال كما وجب على النافي في مجلس القضاء أن يعضد جانبه بزيادة على دعوى النفي فليجب ذلك في الأحكام فهذا أيضا له وجه
( الرابع ) أن يد المدعى عليه دليل على نفي ملك المدعي وهو ضعيف لأن اليد تسقط دعوى المدعي شرعا وإلا فاليد قد تكون عن غصب وعارية فأي دلالة لها
( الشبهة الثانية ) وهي أنه كيف يكلف الدليل على النفي وهو متعذر كإقامة الدليل على براءة الذمة فنقول تعذره غير مسلم فإن النزاع إما في العقليات وإما في الشرعيات أما العقليات فيمكن أن يدل على نفيها بأن إثباتها يفضي إلى المحال وما أفضى إلى المحال فهو محال لقوله تعالى { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } الأنبياء 22 ومعلوم أنهما لم تفسدا فدل ذلك على نفي الثاني ويمكن إثباته بالقياس الشرطي الذي سميناه في المقدمة طريق التلازم فإن كل إثبات له لوازم فانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم وكذلك المتحدي ليس نبيا إذ لو كان نبيا لكان معه معجزة إذ تكليف المحال محال فهذا طريق وهو الصحيح
الطريق الثاني أن يقال للمثبت لو ثبت ما ادعيته لعلم ذلك بضرورة أو دليل ولا ضرورة مع الخلاف ولا دليل فيدل ذلك على الانتفاء وهذا فاسد فإنه ينقلب على النافي فيقال له لو انتفى الحكم لعلم انتفاؤه بضرورة أو بدليل ولا ضرورة ولا دليل ولا يمكنه أن يتمسك بالاستصحاب بأن يقول مثلا الأصل عدم إله ثان فمن ادعاه فعليه الدليل إذ لا يسلم له أن الأصل العدم بخلاف البراءة الأصلية فإن العقل قد دل على نفي الحكم قبل السمع من حيث دل على أن الحكم هو التكليف والخطاب من الله تعالى وتكليف المحال محال ولو كلفناه من غير رسول مصدق بالمعجزة يبلغ إلينا تكليفه كان ذلك تكليف محال فاستندت البراءة الأصلية إلى دليل عقلي بخلاف عدم الإله الثاني وأما قولهم لو ثبت إله ثان لكان لله تعالى عليه دليل فهو تحكم من وجهين ( أحدهما ) أنه يجوز
____________________

(1/163)


أن لا ينصب الله تعالى على بعض الأشياء دليلا ويستأثر بعلمه
( الثاني ) إنه يجوز أن ينصب عليه دليلا ونحن لا نتنبه له ويتنبه له بعض الخواص أو بعض الأنبياء ومن خصص بحاسة سادسة وذوق أخر بل الذي يقطع به أن الأنبياء يدركون أمورا نحن لا ندركها وأن في مقدورات الله أمورا ليس في قوة البشر معرفتها ويجوز أن يكون لله تعالى صفات لا تدرك بهذه الحواس ولا بهذا العقل بل بحاسة سادسة أو سابعة بل لا يستحيل أن تكون اليدوالوجه عبارة عن صفات لا نفهمها ولا دليل عليها ولو لم يرد السمع بها لكان نفيها خطأ فلعل من الصفات من هذا القبيل ما لم يرد السمع بالتعبير عنه ولا فينا قوة إدراكها بل لو لم يخلق لنا السمع لأنكرنا الأصوات ولم نفهمها ولو لم يخلق لنا ذوق الشعر لأنكرنا تفرقة صاحب العروض بين الموزون وغير الموزون فما يدرينا أن في قدرة الله تعالى أنواعا من الحواس لو خلقها لنا لأدركنا بها أمورا أخر نحن ننفيها فكان هذا إنكارا بالجهل ورميا في العماية أما الشرعيات فقد تصادف الدليل عليها من الإجماع كنفي وجوب صوم شوال وصلاة الضحى أو النص كقوله صلى الله عليه وسلم لا زكاة في الحلى ولا زكاة في المعلوفة أو من القياس كقياس الخضراوات على الرمان والبطيخ المنصوص على نفي الزكاة عنه كقول الراوي لا زكاة في الرمان والبطيخ بل هو عفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لا يساعد مثل هذا الدليل فنبحث عن مدارك الإثبات فإذا لم نجد رجعنا إلى الاستصحاب للنفي الأصلي الثابت بدليل العقل وهو دليل عند عدم ورود السمع وحيث أوردنا في تصانيف الخلاف أن النافي لا دليل عليه أردنا به أنه ليس عليه دليل سمعي إذ يكفيه استصحاب البراءة الأصلية التي كنا نحكم بها لولا بعثة الرسول وورود السمع فإن قيل دليل العقل مشروط بانتفاء السمع وانتفاء السمع غير معلوم وعدم العلم به لا يدل على عدمه ولا سبيل إلى دعوى العلم بانتفائه فإن ذلك لا يعلم قلنا قد بينا أن انتفاءه تارة يعلم كما في انتفاء وجوب صوم شوال وصلاة الضحى وتارة يظن بأن يبحث من هو من أهل البحث عن مدارك الشرع والظن فيه كالعلم لأنه صادر عن اجتهاد إذ قد يقول لو كان لوجدته فإذا لم أجده مع شدة بحثي دل على أنه ليس بكائن كطالب المتاع في البيت إذا استقصى فإن قيل أليس للاستقصاء غاية محدودة بل للبحث بداية ووسط ونهاية فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي المغير قلنا مهما رجع رجع إلى نفسه فعلم أنه بذل غاية وسعه في الطلب كطالب المتاع في البيت فإن قيل البيت محصور وطلب اليقين فيه ممكن ومدارك الشرع غير محصورة فإن الكتاب وإن كان محصورا فالأخبار غير محصورة وربما كان راوي الحديث مجهولا قلنا إن كان ذلك في ابتداء الإسلام قبل انتشار الأخبار ففرض كل مجتهد ما هو جهد رأيه إلى أن يبلغه الخبر وإن كان بعد أن رويت الأخبار وصنفت الصحاح فما دخل فيها محصور عند أهلها وقد انتهى إلى المجتهدين وأوردوها في مسائل الخلاف
وعلى الجملة فدلالة العقل على النفي الأصلي مشروطة بنفي المغير كما أن دلالة العموم مشروطة بنفي المخصص وكل واحد من المخصص والمغير تارة يعلم انتفاؤه وتارة يظن وكل واحد دليل في الشرع
هذا تمام الكلام في الأصل الرابع
____________________

(1/164)


وهو منتهى الكلام في القطب الثاني المشتمل على أصول الأدلة المثمرة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل
خاتمة لهذا القطب ببيان أن ثم ما يظن أنه من أصول الأدلة وليس منها وهو أيضا أربعة شرع من قبلنا وقول الصحابي والاستحسان والاستصلاح
فهذه أيضا لا بد من شرحها الأصل الأول من الأصول الموهومة شرع من قبلنا من الأنبياء فيما لم يصرح شرعنا بنسخه ونقدم على هذا الأصل مسألة وهي أنه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء منهم من قال لم يكن متعبدا ومنهم من قال كان متعبدا ثم منهم من نسبه إلى نوح عليه السلام وقوم نسبوه إلى إبراهيم عليه السلام وقوم نسبوه إلى موسى وقوم إلى عيسى عليهما السلام والمختار أن جميع هذه الأقسام جائز عقلا لكن الواقع منه غير معلوم بطريق قاطع ورجم الظن فيما لا يتعلق به الآن تعبد عملي لا معنى له فإن قيل الدليل القاطع على أنه لم يكن على ملة أنه لو كان لافتخر به أولئك القوم ونسبوه إلى أنفسهم ولكان يشتهر تلبسه بشعارهم وتتوفر الدواعي على نقله قلنا هذا يعارضه أنه لو كان منسلخا عن التكليف والتعبد بالشرائع لظهر مخالفته أصناف الخلق وتوفرت الدواعي على نقله ويشبه أن يكون اختفاء حاله قبل البعث معجزة خارقة للعادة وذلك من عجائب أموروه وللمخالف شبهتان الأولي أن موسى وعيسى دعوا إلى دينهما كافة المكلفين من عباد الله تعالى فكان هو داخلا تحت العموم وهذا باطل من وجهين أحدهما أنه لم ينقل إلينا على التواتر عنهما عموم صيغة حتى ننظر في فحواه فلا مستند لهذه الدعوى إلا المقايسة بدين نبينا صلى الله عليه وسلم والمقايسة في مثل هذا باطل وإن كان عموم فلعله استثنى عنه من ينسخ شريعتهما
الثاني أنه ربما كان زمانه زمان فترة الشرائع واندراسها وتعذر القيام بها ولأجله بعث صلى الله عليه وسلم فمن أين يعلم قيام الحجة على تفصيل شريعتهما
الثانية من شبههم أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ويحج ويعتمر ويتصدق ويذبح الحيوان ويجتنب الميتة وذلك لا يرشد إليه العقل قلنا هذا فاسد من وجهين ( أحدهما ) أن شيئا من ذلك لم يتواتر بنقل مقطوع به ولا سبيل إلى إثباته بالظن
( الثاني ) أنه ربما ذبح الحيوان بناء على أنه لا تحريم إلا بالسمع ولا حكم قبل ورود الشرع وترك الميتة عيافة بالطبع كما ترك أكل الضب عيافة والحج والصلاة إن صح فلعله فعله تبركا بما نقل جملته من أنبياء السلف وإن اندرس تفصيله ونرجع الآن إلى الأصل المقصود وهو أنه بعد بعثته هل كان متعبدا بشريعة من قبله والقول في الجواز العقلي والوقوع السمعي
أما الجواز العقلي فهو حاصل إذ لله تعالى أن يتعبد عباده بما شاء من شريعة سابقة أو مستأنفة أو بعضها سابقة وبعضها مستأنفة ولا يستحيل منه شيء لذاته ولا لمفسدة فيه وزعم بعض القدرية أنه لا يجوز بعثة نبي إلا بشرع مستأنف فإنه إن لم يجدد أمرا فلا فائدة في بعثته ولا يرسل الله تعالى رسولا بغير فائدة ويلزمهم على هذا
____________________

(1/165)


تجويز بعثته بمثل تلك الشريعة إذا كانت قد اندرست وإرساله بمثلها إذا كانت قد اشتملت على زوائد وأن يكون الأول مبعوثا إلى قوم والثاني مبعوثا إليهم وإلى غيرهم ولعلهم يخالفون إذا كانت الأولى غضة طرية ولم تشتمل الثانية على مزيد فنقول يدل على جوازه ما يدل على جواز نصب دليلين وبعثة رسولين معا كما قال تعالى { إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث } يس 14 وكما أرسل موسى وهارون وداود وسليمان بل كخلق العينين مع الاكتفاء في الإبصار بإحداهما ثم كلامهم بناء على طلب الفائدة في أفعال الله تعالى وهو تحكم
أما الوقوع السمعي فلا خلاف في أن شرعنا ليس بناسخ جميع الشرائع بالكية إذ لم ينسخ وجوب الإيمان وتحريم الزنا والسرقة والقتل والكفر ولكن حرم عليه صلى الله عليه وسلم هذه المحظورات بخطاب مستأنف أو بالخطاب الذي نزل إلى غيره وتعبد باستدامته ولم ينزل عليه الخطاب إلا بما خالف شرعهم فإذا نزلت واقعة لزمه اتباع دينهم إلا إذا أنزل عليه وحي مخالف لما سبق فإلى هذا يرجع الخلاف والمختار أنه لم يتعبد صلى الله عليه وسلم بشريعة من قبله ويدل عليه أربعة مسالك المسلك الأول أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له بم تحكم قال بالكتاب والسنة والاجتهاد ولم يذكر التوراة والإنجيل وشرع من قبلنا فزكاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصوبه ولو كان ذلك من مدارك الأحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه فإن قيل إنما لم يذكر التوراة والإنجيل لأن في الكتاب آيات تدل على الرجوع إليهما قلنا سنبين سقوط تمسكهم بتلك الآيات بل فيه قوله تعالى { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } المائدة 48 وقال صلى الله عليه وسلم لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ثم نقول في الكتاب ما يدل على اتباع السنة والقياس فكان ينبغي أن يقتصر على ذكر الكتاب فإن شرع في التفصيل كانت الشريعة السابقة أهم مذكور فإن قيل اندرجت التوراة والإنجيل تحت الكتاب فإنه اسم يعم كل كتاب قلنا إذا ذكر الكتاب والسنة لم يسبق إلى فهم المسلمين شيء سوى القرآن وكيف يفهم غيره ولم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والإنجيل والعناية بتمييز المحرف عن غيره كما عهد منه تعلم القرآن ولو وجب ذلك لتعلمه جميع الصحابة لأنه كتاب منزل لم ينسخ إلا بعضه وهو مدرك بعض الأحكام ولم يتعهد حفظ القرآن إلا لهذه العلة وكيف وطالع عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب صلى الله عليه وسلم حتى احمرت عيناه وقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي
المسلك الثاني أنه صلى الله عليه وسلم لو كان متعبدا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها ولكان لا ينتظر الوحي ولا يتوقف في الظهار ورمي المحصنات والمواريث ولكان يرجع أولا إليها لا سيما أحكام هي ضرورة كل أمة فلا تخلو التوراة عنها فإن لم يراجعها لاندراسها وتحريفها فهذا يمنع التعبد وإن كان ممكنا فهذا يوجب البحث والتعلم ولم يراجع قط إلا في رجم اليهود ليعرفهم أن ذلك ليس مخالفا لدينهم

____________________

(1/166)


المسلك الثالث أن ذلك لو كان مدركا لكان تعلمها ونقلها وحفظها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الأحكام كما وجب عليهم المناشدة في نقل الأخبار ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول وميراث الجد والمفوضة وبيع أم الولد وحد الشرب والربا في غير النسيئة ومتعة النساء ودية الجنين وحكم المكاتب إذا كان عليه شيء من النجوم والرد بالعيب بعد الوطء والتقاء الختانين وغير ذلك من أحكام لا تنفك الأديان والكتب عنها ولم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة لا سيما وقد أسلم من أخبارهم من تقوم الحجة بقولهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب وغيرهم ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب فكيف يحصل القياس قبل العلم
المسلك الرابع إطباق الأمة قاطبة على أن هذه الشريعة ناسخة وأنها شريعة رسولنا صلى الله عليه وسلم بجملتها ولو تعبد بشرع غيرها لكان مخبرا لا شارعا ولكان صاحب نقل لا صاحب شرع إلا أن هذا ضعيف لأنه إضافة تحتمل المجاز وأن معلوما بواسطته وإن لم يكن هو شارعا لجميعه
وللمخالف التمسك بخمس آيات وثلاثة أحاديث ( الآية الأولى ) أنه تعالى لما ذكر الأنبياء قال { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } الأنعام 90
قلنا أراد بالهدى التوحيد ودلالة الأدلة العقلية على وجدانيته وصفاته بدليلين أحدهما أنه قال { فبهداهم اقتده } الأنعام 90 ولم يقل بهم وإنما هداهم الأدلة التي ليست منسوبة إليهم أما الشرع فمنسوب إليهم فيكون اتباعهم فيه اقتداء بهم
الثاني أنه كيف أمر بجميع شرائعهم وهي مختلفة وناسخة ومنسوخة ومتى بحث عن جميع ذلك وشرائعهم كثيرة فدل على أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم وهو التوحيد
( الآية الثانية ) قوله تعالى { هذا } النحل 123 وهذا يتمسك به من نسبه إلى إبراهيم عليهالسلام وتعارضه الآية الأولى ثم لا حجة فيها إذ قال { أوحينا إليك } فوجب بما أوحي إليه لا بما أوحي إلى غيره وقوله { إن أتبع } أي افعل مثل فعله وليس معناه كن متبعا له وواحدا من أمته كيف والملة عبارة عن أصل الدين والتوحيد والتقديس الذي تتفق فيه جميع الشرائع ولذلك قال تعالى { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } البقرة 130 ولا يجوز تسفيه الأنبياء المخالفين له ويدل عليه أنه لم يبحث عن ملة إبراهيم وكيف كان يبحث مع اندراس كتابه وأسناد أخباره
( الآية الثالثة ) قوله تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } الشورى 13 وهذا يتمسك به من نسبه إلى نوح عليه السلام وهو فاسد إذا تعارضه الآيتان السابقتان ثم الدين عبارة عن أصل التوحيد وإنما خصص نوحا بالذكر تشريفا له وتخصيصا ومتى راجع رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيل شرع نوح وكيف أمكن ذلك مع أنه أقدم الأنبياء وأشد الشرائع اندراسا كيف وقد قال تعالى { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } فلو قال شرع لنوح ما وصاكم به لكان ربما دل هذا على غرضهم وأما هذا فيصرح بضده
( الآية الرابعة ) قوله تعالى { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون } المائدة 44 الآية وهو أحد الأنبياء
____________________

(1/167)


فليحكم بها واستدل بهذا من نسبه إلى موسى عليه السلام وتعارضه الآيات السابقة ثم المراد بالنور والهدى أصل التوحيد وما يشترك فيه النبيون دون الأحكام المعرضة للنسخ ثم لعله أراد النبيين في زمانه دون من بعدهم ثم هو على صيغة الخبر لا على صيغة الأمر فلا حجة فيه ثم يجوز أن يكون المراد حكم النبيين بها بأمر ابتدأهم به الله تعالى وحيا إليهم لا بوحي موسى عليه السلام
( الآية الخامسة ) قوله تعالى بعد ذكر التوراة وأحكامها { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } المائدة 44 قلنا المراد به ومن لم يحكم بما أنزل الله مكذبا به وجاحدا له لا من حكم بما أنزل الله عليه خاصة أو من لم يحكم به ممن أوجب عليه الحكم به من أمته وأمة كل نبي إذا خالفت ما أنزل على نبيهم أو يكون المراد به يحكم بمثلها النبيون وإن كان بوحي خاص إليهم لا بطريق التبعية
وأما الأحاديث فأولها أنه صلى الله عليه وسلم طلب منه القصاص في سن كسرت فقال كتاب الله يقضي بالقصاص وليس في القرآن قصاص السن إلا ما حكي عن التوراة في قوله تعالى { والسن بالسن } المائدة 45 قلنا بل فيه { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } البقرة 194 ? < فدخل السن تحت عمومه
( الحديث الثاني ) قوله صلى الله عليه وسلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وقرأ قوله تعالى > ? وأقم الصلاة لذكري { طه } وهذا خطاب مع موسى عليه السلام قلنا ما ذكره صلى الله عليه وسلم تعليلا للإيجاب لكن أوجب بما أوحي إليه ونبه على أنهم أمروا كما أمر موسى وقوله { لذكري } أي لذكر إيجابي للصلاة ولولا الخبر لكان السابق إلى الفهم أنه لذكر الله تعالى بالقلب أو لذكر الصلاة بالإيجاب
الحديث الثالث مراجعته صلى الله عليه وسلم التوراة في رجم اليهوديين وكان ذلك تكذيبا لهم في إنكار الرجم إذ كان يجب أن يراجع الإنجيل فإنه آخر ما أنزل الله فلذلك لم يراجع في واقعة سوى هذه والله أعلم
الأصل الثاني من الأصول الموهومة قول الصحابي وقد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقا وقوم إلى أنه حجة إن خالف القياس وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي وقوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا والكل باطل عندنا فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف وكيف يختلف المعصومان كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الإختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة
وللمخالف خمس شبه الشبهة الأولى قولهم وإن لم تثبت عصمتهم فإذا تعبدنا باتباعهم لزم الاتباع كما أن الراوي الواحد لم تثبت عصمتهم لكن لزم اتباعه للتعبد به وقد قال صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم والجواب أن هذا خطاب مع عوام أهل عصره صلى الله عليه وسلم
____________________

(1/168)


بتعريف درجة الفتوى لأصحابه حتى يلزم اتباعهم وهو تخيير لهم في الاقتداء بمن شاؤوا منهم بدليل أن الصحابي غير داخل فيه إذ له أن يخالف صحابيا آخر فكما خرج الصحابة بدليل فكذلك خرج العلماء بدليل وكيف وهذا لا يدل على وجوب الاتباع بل على الاهتداء إذا اتبع فلعله يدل على مذهب من يجوز للعالم تقليد العالم أو من يخير العامي في تقليد الأئمة من غير تعيين الأفضل
الشبهة الثانية أن دعوى وجوب الاتباع إن لم تصح لجميع الصحابة فتصح للخلفاء الأربعة لقوله صلى الله عليه وسلم عليكم سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وظاهر قوله عليكم للإيجاب وهو عام قلنا فيلزمكم على هذا تحريم الاجتهاد على سائر الصحابة رضي الله عنهم إذا اتفق الخلفاء ولم يكن كذلك بل كانوا يخالفون وكانوا يصرحون بجواز الاجتهاد فيما ظهر لهم وظاهر هذا تحريم مخالفة كل واحد من الصحابة وإن انفرد فليس في الحديث شرط الاتفاق وما اجتمعوا في الخلافة حتى يكون اتفاقهم اتفاق الخلفاء وإيجاب اتباع كل واحد منهم محال مع اختلافهم في مسائل لكن المراد بالحديث إما أمر الخلق بالانقياد وبذل الطاعة لهم أي عليكم بقبول إمارتهم وسنتهم أو أمر الأمة بأن ينهجوا منهجهم في العدل والإنصاف والإعراض عن الدنيا وملازمة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفقر والمسكنة والشفقة على الرعية أو أراد منع من بعدهم عن نقض أحكامهم فهذه احتمالات ثلاثة تعضدها الأدلة التي ذكرناها
الشبهة الثالثة قولهم إنه إن لم يجب اتباع الخلفاء فيجب اتباع أبي بكر وعمر بقوله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قلنا تعارضه الأخبار السابقة فيتطرق إليه الاحتمالات الثلاثة ثم نقول بموجبه فيجب الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد ثم ليت شعري لو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيهما يتبع
الشبهة الرابعة أن عبد الرحمن بن عوف ولى عليا الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى وولى عثمان فقبل ولم ينكر عليه قلنا لعله اعتقد بقوله عليه السلام من بعدي جواز تقليد العالم للعالم وعلي رضي الله عنه لم يعتقد أو اعتقد أن قوله صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر إيجاب التقليد ولا حجة في مجرد مذهبه ويعارضه مذهب علي إذ فهم أنه إنما أراد عبد الرحمن اتباعهما في السيرة والعدل وفهم على إيجاب التقليد
الشبهة الخامسة أنه إذا قال الصحابي قولا يخالف القياس فلا محمل له إلا سماع خبر فيه قلنا فهذا إقرار بأن قوله ليس بحجة وإنما الحجة الخبر إلا أنكم أثبتم الخبر بالتوهم المجرد ومستندنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم في قبول خبر الواحد وهم إنما عملوا بالخبر المصرح بروايته دون الموهوم المقدر الذي لا يعرف لفظه ومورده فقوله ليس بنص صريح في سماع خبر بل ربما قاله عن دليل ضعيف ظنه دليلا وأخطأ فيه والخطأ جائز عليه وربما يتمسك الصحابي بدليل ضعيف وظاهر موهوم ولو قاله عن نص قاطع لصرح به نعم لو تعارض قياسان وقول الصحابي مع أحدهما فيجوز للمجتهد إن غلب على ظنه الترجيح بقول الصحابي أن يرجح وكذلك نوع من المعنى يقتضي تغليظ الدية بسبب الجرم وقياس أظهر منه يقتضي نفي التغليظ فربما يغلب على ظن المجتهد أن ذلك المعنى
____________________

(1/169)


الأخفى الذي ذهب إليه الصحابي يترجح به ولكن يختلف ذلك باختلاف المجتهدين أما وجوب اتباعه ولم يصرح بنقل خبر فلا وجه له وكيف وجميع ما ذكروه أخبار آحاد ونحن أثبتنا القياس والإجماع وخبر الواحد بطرق قاطعة لا بخبر الواحد وجعل قول الصحابي حجة كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وخبره إثبات أصل من أصول الأحكام ومداركه فلا يثبت إلا بقاطع كسائر الأصول
مسألة ( هل يجوز تقليد الصحابي ) إن قال قائل إن لم يجب تقليدهم فهل يجوز تقليدهم قلنا أما العامي فيقلدهم وأما العالم فإنه إن جاز له تقليد العالم جاز له تقليدهم وإن حرمنا تقليد العالم للعالم فقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في تقليد الصحابة فقال في القديم يجوز تقليد الصحابي إذا قال قولا وانتشر قوله ولم يخالف وقال في موضع آخر يقلد وإن لم ينتشر ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد عالما آخر ونقل المزني عنه ذلك وأن العمل على الأدلة التي بها يجوز للصحابة الفتوى وهو الصحيح المختار عندنا إذ كل ما دل على تحريم تقليد العالم للعالم كما سيأتي في كتاب ( الاجتهاد ) لا يفرق فيه بين الصحابي وغيره
فإن قيل كيف لا يفرق بينهم مع ثناء الله تعالى وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } النساء 59 وقال تعالى { لقد رضي الله عن المؤمنين } الفتح 18 وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس قرني وقال صلى الله عليه وسلم أصحابي كالنجوم إلى غير ذلك قلنا هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد في علمهم ودينهم ومحلهم عند الله تعالى ولا يوجب تقليدهم لا جوازا ولا وجوبا فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى أيضا على آحاد الصحابة ولا يتميزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه كقوله صلى الله عليه وسلم لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح وقال صلى الله عليه وسلم إن الله قد ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه يقول الحق وإن كان مرا وقال لعمر والله ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك وقال صلى الله عليه وسلم في قصة أسارى بدر حيث نزلت الآية على وفق رأي عمر لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر وقال صلوات الله عليه إن منكم لمحدثين وإن عمر لمنهم وكان علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة يقولون ما كنا نظن إلا أن ملكا بين عينيه يسدده وأن ملكا ينطق على لسانه وقال صلى الله عليه وسلم في حق علي اللهم أدر الحق مع علي حيث دار وقال صلى الله عليه وسلم أقضاكم علي وأفرضكم زيد وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وقال عليه السلام رضيت لأمتي ما رضي ابن أم عبد وقال عليه السلام لأبي بكر وعمر لو اجتمعا على شيء ما خالفتهما وأراد في مصالح الحرب وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء أصلا
فصل في تفريع الشافعي في القديم على تقليد الصحابة ونصوصه
قال في كتاب اختلاف الحديث إنه روي عن علي أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات قال لو ثبت ذلك عن علي لقلت به وهذا لأنه رأى أنه لا يقول ذلك إلا عن
____________________

(1/170)


توقيف إذ لا مجال للقياس فيه وهذا غير مرضي لأنه لم ينقل فيه حديثا حتى يتأمل لفظه ومورده وقرائنه وفحواه وما يدل عليه ولم نتعبد إلا بقبول خبر يرويه صحابي مكشوفا يمكن النظر فيه كما كان الصحابة يكتفون بذكر مذهب مخالف للقياس ويقدرون ذلك حديثا من غير تصريح به وقد نص في موضع أن قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة وهو ضعيف لأن السكوت ليس بقول فأي فرق بين أن ينتشر أو لا ينتشر وقد نص على أنه إذا اختلفت الصحابة فالأئمة أولى فإن اختلف الأئمة فقول أبي بكر وعمر أولى لمزيد فضلهما وقال في موضع آخر يجب الترجيح بقول الأعلم والأكثر قياسا لكثرة القائلين على كثرة الرواة وكثرة الأشباه وإنما يجب ترجيح الأعلم لأن زيادة علمه تقوي اجتهاده وتبعده عن الإهمال والتقصير والخطأ وإن اختلف الحكم والفتوى من الصحابة فقد اختلف قول الشافعي فيه فقال مرة الحكم أولى لأن العناية به أشد والمشورة فيه أبلغ وقال مرة الفتوى أولى لأن سكوتهم على الحكم يحمل على الطاعة للوالي وكل هذا مرجوع عنه فإن قيل فما قولكم في ترجيح أحد القياسين بقول الصحابي قلنا قال القاضي لا ترجيح إلا بقوة الدليل ولا يقوى الدليل بمصير مجتهد إليه والمختار أن هذا في محل الاجتهاد فربما يتعارض ظنان والصحابي في أحد الجانبين فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي ويكون ذلك أغلب على ظنه ويختلف ذلك باختلاف المجتهدين وقال قوم إنما يجوز ترجيح قياس المصير إذا كان أصل القياس في واقعة شاهدها الصحابي وإلا فلا فرق بينه وبين غيره وهذا قريب ولكن مع هذا يحتمل أن يكون مصيره إليه لا لاختصاصه بمشاهدة ما يدل عليه بل بمجرد الظن أما إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد محتمليه فمنهم من رجح ومنهم من قال إذا لم يقل علمت ذلك من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم بقرينة شاهدتها فلا ترجيح به وهذا اختيار القاضي فإن قيل فقد ترك الشافعي في الجديد القياس في تغليظ الدية في الحرم بقول عثمان وكذلك فرق بين الحيوان وغيره في شرط البراءة بقول علي قلنا له في مسألة شرط البراءة أقوال فلعل هذا مرجوع عنه وفي مسألة التغليظ الظن به أنه قوي القياس بموافقة الصحابة فإن لم يكن كذلك فمذهبه في الأصول أن لا يقلد والله أعلم
الأصل الثالث من الأصول الموهومة الاستحسان وقد قال به أبو حنيفة وقال الشافعي من استحسن فقد شرع ورد الشيء قبل فهمه محال فلا بد أولا من فهم الاستحسان وله ثلاثة معان الأول وهو الذي يسبق إلى الفهم ما يستحسنه المجتهد بعقله ولا شك في أنا نجوز ورود التعبد باتباعه عقلا بل لو ورد الشرع بأن ما سبق إلى أوهامكم أو استحسنتموه بعقولكم أو سبق إلى أوهام العوام مثلا فهو حكم الله عليكم لجوزناه ولكن وقوع التعبد لا يعرف من ضرورة العقل ونظره بل من السمع ولم يرد فيه سمع متواتر ولا نقل آحاد ولو ورد لكان لا يثبت بخبر الواحد فإن جعل الاستحسان مدركا من مدارك أحكام الله تعالى ينزل منزلة الكتاب والسنة والإجماع وأصلا من الأصول لا يثبت بخبر الواحد ومهما انتفى الدليل وجب النفي
المسلك الثاني أنا نعلم قطعا إجماع الأمة قبلهم
____________________

(1/171)


على أن العالم ليس له أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في دلالة الأدلة والاستحسان من غير نظر في أدلة الشرع حكم بالهوى المجرد وهو كاستحسان العامي ومن لا يحسن النظر فإنه إنما جوز الاجتهاد للعالم دون العامي لأنه يفارقه في معرفة أدلة الشريعة وتمييز صحيحها من فاسدها وإلا فالعامي أيضا يستحسن ولكن يقال لعل مستند استحسانك وهم وخيال لا أصل له ونحن نعلم أن النفس لا تميل إلى الشيء إلا بسبب مميل إليه لكن السبب ينقسم إلى ما هو وهم وخيال إذا عرض على الأدلة لم يتحصل منه طائل وإلى ما هو مشهور من أدلة الشرع فلم يميز المستحسن ميله عن الأوهام وسوابق الرأي إذا لم ينظر في الأدلة ولم يأخذ منها ولهم شبه ثلاث الشبهة الأولى قوله تعالى { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم } الزمر 55 { وقال } الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الزمر 18 قلنا اتباع أحسن ما أنزل إلينا هو اتباع الأدلة فبينوا أن هذا مما أنزل إلينا فضلا عن أن يكون من أحسنه وهو كقوله تعالى { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } الزمر 55 ثم نقول نحن نستحسن إبطال الاستحسان وأن لا يكون لنا شرع سوى المصدق بالمعجزة فليكن هذا حجة عليهم
الجواب الثاني أن يلزم من ظاهر هذا اتباع استحسان العامي والطفل والمعتوه لعموم اللفظ فإن قلتم المراد بعض الاستحسانات وهو استحسان من هو من أهل النظر فكذلك نقول المراد كل استحسان صدر عن أدلة الشرع وإلا فأي وجه لاعتبار أهلية النظر في الأدلة مع الاستغناء عن النظر
الشبهة الثانية قوله صلى الله عليه وسلم ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ولا حجة من أوجه الأول أنه خبر واحد لا تثبت به الأصول
الثاني أن المراد به ما رآه جميع المسلمين لأنه لا يخلو أن يريد به جميع المسلمين أو آحادهم فإن أراد الجميع فهو صحيح إذ الأمة لا تجتمع على حسن شيء إلا عن دليل والإجماع حجة وهو مراد الخبر وإن أراد الآحاد لزم استحسان العوام فإن فرق بأنهم ليسوا أهلا للنظر قلنا إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي فائدة لأهلية النظر
الثالث أن الصحابة أجمعوا على استحسان منع الحكم بغير دليل ولا حجة لأنهم مع كثرة وقائعهم تمسكوا بالظواهر والأشباه وما قال واحد حكمت بكذا وكذا لأني استحسنته ولو قال ذلك لشددوا الإنكار عليه وقالوا من أنت حتى يكون استحسانك شرعا وتكون شارعا لنا وما قال معاذ حيث بعثه إلى اليمن أني أستحسن بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط
الشبهة الثالثة إن الأمة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة وعوض الماء ولا تقدير مدة السكون واللبث فيه وكذلك شرب الماء من يد السقاء بغير تقدير العوض ولا مبلغ الماء المشروب لأن التقدير في مثل هذا قبيح في العادات فاستحسنوا ترك المضايقة فيه ولا يحتمل ذلك في إجارة ولا بيع والجواب من وجهين الأول أنهم من أين عرفوا أن الأمة فعلت ذلك من غير حجة ولا دليل ولعل الدليل جريان ذلك في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________

(1/172)


مع معرفته به وتقريره عليه لأجل المشقة في تقدير الماء المشروب والمصبوب في الحمام وتقدير مدة المقام والمشقة سبب الرخصة
الثاني أن نقول شرب الماء بتسليم السقاء مباح وإذا أتلف ماءه فعليه ثمن المثل إذ قرينة حاله تدل على طلب العوض فيما بذله في الغالب وما يبذل له في الغالب يكون ثمن المثل فيقبله السقاء فإن منع فعليه مطالبته فليس في هذا إلا الاكتفاء في معرفة الإباحة بالمعاطاة والقرينة وترك المماسكة في العوض وهذا مدلول عليه من الشرع وكذلك داخل الحمام مستبيح بالقرينة ومتلف بشرط العوض بقرينة حال الحمامي ثم ما يبذله إن ارتضى به الحمامي واكتفى به عوضا أخذه وإلا طالبه بالمزيد إن شاء فليس هذا أمرا مبدعا ولكنه منقاس والقياس حجة
التأويل الثاني للاستحسان قولهم المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إبرازه وإظهاره وهذا هوس لأن ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال أو تحقيق ولا بد من ظهوره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه الأدلة أو تزيفه أما الحكم بما لا يدري ما هو فمن أين يعلم جوازه أبضرورة العقل أو نظره أو بسمع متواتر أو آحاد ولا وجه لدعوى شيء من ذلك كيف وقد قال أبو حنيفة إذا شهد أربعة على زنا شخص لكن عين كل واحد منهم زاوية من زوايا البيت وقال زنى فيها فالقياس أن لا حد عليه لكنا نستحسن حده فيقول له لم يستحسن سفك دم مسلم من غير حجة إذ لم تجتمع شهادة الأربعة على زنا واحد وغايته أن يقول تكذيب المسلمين قبيح وتصديقهم وهم عدول حسن فنصدقهم ونقدر دورانه في زنية واحدة على جميع الزوايا بخلاف ما لو شهدوا في أربعة بيوت فإن تقدير التزاحف بعيد وهذا هوس لأنا نصدقهم ولا نرجم المشهود عليه كما لو شهد ثلاثة وكما لو شهدوا في دور وندرأ الرجم من حيث لم نعلم يقينا اجتماع الأربعة على شهادة واحدة فدرء الحد بالشبهة أحسن كيف وإن كان هذا دليلا فلا ننكر الحكم بالدليل ولكن لا ينبغي أن يسمى بعض الأدلة استحسانا
التأويل الثالث للاستحسان ذكره الكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة ممن عجز عن نصرة الاستحسان وقال ليس هو عبارة عن قول بغير دليل بل هو بدليل وهو أجناس منها العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن مثل قوله مالي صدقة أو لله علي أن أتصدق بمالي فالقياس لزوم التصدق بكل ما يسمى مالا لكن استحسن أبو حنيفة التخصيص بمال الزكاة لقوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } التوبة 103 ولم يرد إلا مال الزكاة
ومنها أن يعدل بها عن نظائرها بدليل السنة كالفرق في سبق الحدث والبناء على الصلاة بين السبق والتعمد على خلاف قياس الأحداث وهذا مما لا ينكر وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحسانا من بين سائر الأدلة والله أعلم
الأصل الرابع من الأصول الموهومة الاستصلاح وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها فنقول المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام قسم شهد الشرع لاعتبارها وقسم شهد لبطلانها وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها
أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة
____________________

(1/173)


ويرجع حاصلها إلى القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع فإنه نظر في كيفية استثمار الأحكام من الأصول المثمرة ومثاله حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة
القسم الثاني ما شهد الشرع لبطلانها مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان إن عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي
القسم الثالث ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات وإلى ما هي في رتبة الحاجات وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها ولنفهم أولا معنى المصلحة ثم أمثلة مراتبها أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في المصالح ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته فإن هذا يفوت على الخلق دينهم وقضاؤه بإيجاب القصاص أدبه حفظ النفوس وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسل والأنساب وإيجاب زجر الغصاب والسراق إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرون إليها وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتال والزنا والسرقة وشرب المسكر أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة فكقولنا المماثلة مرعية في استيفاء القصاص لأنه مشروع للزجر والتشفي ولا يحصل ذلك إلا بالمثل وكقولنا القليل من الخمر إنما حرم لأنه يدعو إلى الكثير فيقاس عليه النبيذ فهذا دون الأول ولذلك اختلفت فيه الشرائع أما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة لأن السكر يسد باب التكليف والتعبد

____________________

(1/174)


الرتبة الثانية ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير فذلك لا ضرورة إليه لكنه محتاج إليه في اقتناء المصالح وتقييد الأكفاء خيفة من الفوات واستغناما للصلاح المنتظر في المآل وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه وشراء الملبوس والمطعوم لأجله فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف الشرائع المطلوب بها مصالح الخلق أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر والتظاهر بالإصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا لا تزوج الصغيرة إلا من كفؤ وبمهر مثل فإنه أيضا مناسب ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح ولهذا اختلف العلماء فيه
الرتبة الثالثة ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات مثاله سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته من حيث أن العبد نازل القدر والرتبة ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات لأن ذلك مناسب للمصلحة إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا والعبد مستغرق بالخدمة فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى ولكن قول القائل سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقوله سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا وهذا لا ينفك عن الانتظام لو صرح به الشرع ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه والمناسب قد يكون منقوصا فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تقييد كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان واقعا في الرتبة الثانية ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفؤ فهو في الرتبة الثالثة لأن ألأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال ولا يليق ذلك بالمروءة ففوض الشرع ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالإثبات عند النزاع لكان من قبيل الحاجات ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالأعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة على الجملة فليلحق برتبة التحسينات فإذا عرفت هذه الأقسام فنقول الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد الشرع بالرأي فهو كالاستحسان فإن اعتضد بأصل فذاك قياس وسيأتي أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد وإن لم يشهد له أصل معين ومثاله إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا وهذا لا عهد به في الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع
____________________

(1/175)


المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فينا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها لأنها ليست قطعية بل ظنية وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح فإنه تنقدح الرخصة فيه لأنه إضرار به لمصلحته وقد شهد الشرع للأضرار بشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام فهو كقطع اليد لكن ربما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك فيمنع منه لأنه ليس فيه يقين الخلاص فلا تكون المصحلة قطعية فإن قيل فالضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة فهل تقولون بها قلنا قد قال بها مالك رحمه الله ولا نقول به لا لإبطال النظر إلى جنس المصلحة لكن لأن هذه مصلحة تعارضها أخرى وهي مصلحة المضروب فإنه ربما يكون بريئا من الذنب وترك الضرب في مذنب أهون من ضرب بريء فإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي الضرب فتح باب إلى تعذيب البريء فإن قيل فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فماذا ترون قلنا هذه المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد قتله إذ وجب بالزندقة قتله وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة والزنديق يرى التقية عين الزندقة فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم وذلك لا ينكره أحد فإن قيل رب ساع في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرمهم وسفك دمائهم بإثارة الفتنة والمصلحة قتله لكف شره فماذا ترون فيه قلنا إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا يسفك دمه إذ في تخليد الحبس عليه كفاية شره فلا حاجة إلى القتل فلا تكون هذه المصلحة ضرورية فإن قيل إذا كان الزمان زمان فتنة ولم يقدر على تخليد الحبس فيه مع تبدل الولايات على قرب فليس في إبقائه وحبسه إلا إيغار صدره وتحريك داعيته ليزداد في الفساد والإغراء جدا عند الإفلات قلنا هذا الآن رجم بالظن وحكم بالوهم فربما لا يفلت ولا تتبدل الولاية والقتل بتوهم المصلحة
____________________

(1/176)


لا سبيل إليه فإن قيل فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الإسلام لو لم يقصد الترس بل يدرك ذلك بغلبة الظن قلنا لا جرم ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة وعللوا بأن ذلك مظنون
ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع والظن القريب من القطع إذا صار كليا وعظم الخطر فيه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه فإن قيل إن في توقفنا عن الساعي في الأرض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره قلنا لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك بل هو أولى من الترس فإنه لم يذنب ذنبا وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل وكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبيعته وسجيته فإن قيل كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة وفي مسألة الترس وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان وهذا يخالف قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا } النساء 93 وقوله تعالى { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } الأنعام 151 وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك فإذا غاية الأمر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الإسلام فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى قلنا لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد المنع من ذلك ويتأيد بمثله السفينة وأنه يلزم منه قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد محصور كعشرة مثلا وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد وإنما نشأ هذا من الكثرة ومن كونه كليا لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم وإن كان التحريم عاما لكن تخصصه بغير هذه الصورة فكذلك هاهنا التخصيص ممكن وقول القائل هذا سفك دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من مقصود الشرع والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل فإن قيل فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أم لا قلنا لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود أما إذا خلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامنة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو
____________________

(1/177)


ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة فإن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس لكن هذا تصرف في الأموال والأموال مبتذلة يجوز ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها وإنما لمحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك فإن قيل فبأي طريق بلغ الصحابة حد الشرب إلى ثمانين فإن كان حد الشرب مقدرا فكيف زادوا بالمصلحة وإن لم يكون مقدرا وكان تعزيرا فلم افتقروا إلى الشبه بحد القذف قلنا الصحيح أنه لم يكن مقدرا لكن ضرب الشارب في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعال وأطراف الثياب فقدر ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا والتعزيرات مفوضة إلى رأي الأئمة فكأنه ثبت الإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل لهم اعملوا بما رأيتموه أصوب بعد أن صدرت الجناية الموجبة للعقوبة ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر هذى ومن هذى افترى ورأوا الشرع يقيم مظنة الشيء مقام نفس الشيء كما أقام النوم مقام الحدث وأقام الوطء مقام شغل الرحم والبلوغ مقام نفس العقل لأن هذه الأسباب مظان هذه المعاني فليس ما ذكروه مخالفة للنص بالمصلحة أصلا فإن قيل فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالأشخاص مثل المفقود زوجها إذا اندرس خبر موته وحياته وقد انتظرت سنين وتضررت بالعزوبة أيفسخ نكاحها للمصلحة أم لا وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين أحدهما سابق واستبهم الأمر ووقع اليأس عن البيان بقيت المرأة محبوسة طول العمر عن الأزواج ومحرمة على زوجها المالك لها في علم الله تعالى وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها عشر سنين وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد بالأشهر أو تكتفي بتربص أربع سنين وكل ذلك مصلحة ودفع ضرر ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا قلنا المسألتان الأوليان مختلف فيهما فهما في محل الاجتهاد فقد قال عمر تنكح زوجة المفقود بعد أربع سنين من انقطاع الخبر وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد تصبر إلى قيام البينة على موته أو انقضاء مدة يعلم أنه لا يعيش إليها لأنا إن حكمنا بموته بغير بينة فهو بعيد إذ لا تدارس الأخبار أسباب سوى الموت لا سيما في حق الخامل الذكر النازل القدر وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس على منصوص والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من أعسار وجب وعنة فإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطء وذلك في الحضرة لا يؤثر فكذلك في الغيبة فإن قيل سبب الفسخ دفع الضرر عنها ورعاية جانبها فيعارضه أن رعاية جانبه أيضا مهم ودفع الضرر عنه واجب وفي تسليم زوجته إلى غيره في غيبته ولعله محبوس أو مريض معذور إضرار به فقد تقابل الضرران وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن فليس تصفو هذه المصلحة عن معارض وكذلك
____________________

(1/178)


اختلف قول الشافعي في مسألة الوليين ولو قيل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد فليس ذلك حكما بمجرد مصلحة لا يعتضد بأصل معين بل تشهد له الأصول المعينة أما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي ولم يبلغنا خلاف عن العلماء وقد أوجب الله تعالى التربص بالأقراء إلا على اللائي يئسن من المحيض وليست هذه من الآيسات وما من لحظة إلا ويتوقع فيها هجوم الحيض وهي شابة فمثل هذا القدر النادر لا يسلطنا على تخصيص النص فإنا لم نر الشرع يلتفت إلى النوادر في أكثر الأحوال وكان لا يبعد عندي لو اكتفي بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين لكن لما أوجبت العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب التعبد فإن قيل فقد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الأصول الموهومة فليلحق هذا بالأصول الصحيحة ليصير أصلا خامسا بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل قلنا هذا من الأصول الموهومة إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطرحة ومن صار إليها فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع فليس خارجا من هذه الأصول لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة مرسلة إذ القياس أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الإمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتباعها بل يجب القطع بكونها حجة وحيث ذكرنا خلافا فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحا لكلمة الردة وشرب الخمر وأكل مال الغير وترك الصوم والصلاة لأن الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور ولا يباح به الزنا لأنه مثل محذور الإكراه فإذا منشأ الخلاف في مسألة الترس الترجيح إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة ورجح الكل على الجزء في قطع اليد المتأكلة وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس فيه خلاف ولذلك يمكن إظهار هذه المصالح في صيغة البرهان إذ تقول في مسألة الترس مخالفة مقصود الشرع حرام وفي الكف عن قتال الكفار مخالفة لمقصود الشرع
فإن قيل لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام ولكن لا نسلم أن هذه مخالفة قلنا قهر الكفار واستعلاء الإسلام مقصود وفي هذا استئصال الإسلام واستعلاء الكفر فإن قيل فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود وفي هذا مخالفة المقصود قلنا هذا مقصود وقد اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين ولا بد من الترجيح والجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي وهذا جزئي بالإضافة فلا يعارض بالكلي فإن قيل مسلم أن هذا جزئي ولكن لا يسلم أن الجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فاحتقار الشرع له يعرف بنص أو قياس على منصوص قلنا قد عرفنا ذلك لا بنص واحد معين بل بتفاريق أحكام واقتران
____________________

(1/179)


دلالات لم يبق معها شك في أن حفظ خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار وسيعود الكفار عليه بالقتل فهذا مما لا يشك فيه كما أبحنا أكل مال الغير بالإكراه لعلمنا بأن المال حقير في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدم وعرف ذلك بأدلة كثيرة فإن قيل فهلا فهمتم أن حفظ الكثير أهم من حفظ القليل في مسألة السفينة وفي الإكراه وفي المخمصة قلنا لم نفهم ذلك إذ أجمعت الأمة على أنه لو أكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله وأنه لا يحل لمسلمين أكل مسلم في المخمصة فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة أما ترجيح الكلي فمعلوم إما على القطع وإما بظن قريب من القطع يجب اتباع مثله في الشرع ولم يرد نص على خلافه بخلاف الكثرة إذ الإجماع في الإكراه وفي المخمصة منع منه فبهذه الشروط التي ذكرناها يجوز اتباع المصالح وتبين أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه بل من استصلح فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع وتبين به أن الاستصلاح على ما ذكرنا وهذا تمام الكلام في القطب الثاني من الأصول
القطب الثالث في كيفية استثمار الأحكام من مثمرات الأصول ويشتمل هذا القطب على صدر ومقدمة وثلاثة فنون صدر القطب الثالث اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها واجتنائها من أغصانها إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها والأصول الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه استعمال الفكر في استنباط الأحكام واقتباسها من مداركها والمدارك هي الأدلة السمعية ومرجعها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ منه يسمع الكتاب أيضا وبه يعرف الإجماع والصادر منه من مدارك الأحكام ثلاثة إما لفظ وإما فعل وإما سكوت وتقرير ونرى أن نؤخر الكلام في الفعل والسكوت لأن الكلام فيهما أوجز
واللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه أو بفحواه ومفهومه أو بمعناه ومعقوله وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا فهذه ثلاثة فنون المنظوم والمفهوم والمعقول
الفن الأول في المنظوم وكيفية الاستدلال بالصيغة من حيث اللغة والوضع ويشتمل هذا الفن على مقدمة وأربعة أقسام القسم الأول في المجمل والمبين القسم الثاني في الظاهر والمؤول القسم الثالث في الأمر والنهي القسم الرابع في العام والخاص فهذا صدر هذا القطب
أما المقدمة فتشتمل على سبعة فصول الفصل الأول في مبدأ اللغات أنه اصطلاح أم توقيف
الفصل الثاني في أن اللغة هل تثبت قياسا
الفصل الثالث في الأسماء العرفية
الفصل الرابع في الأسماء الشرعية
الفصل الخامس في اللفظ المفيد وغير المفيد
الفصل السادس في طريق فهم المراد من الخطاب على الجملة
الفصل السابع في المجاز والحقيقة

____________________

(1/180)


الفصل الأول في مبدأ اللغات وقد ذهب قوم إلى أنها اصطلاحية إذ كيف تكون توقيفا ولا يفهم التوقيف إذا لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق وقال قوم إنها توقيفية إذ الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع ولا يكون ذلك إلا بلفظ معروف قبل الاجتماع للاصطلاح وقال قوم القدر الذي يحصل به التنبيه والبعث على الاصطلاح يكون بالتوقيف وما بعده يكون بالاصطلاح والمختار أن النظر في هذا إما أن يقع في الجواز أو في الوقوع
أما الجواز العقلي فشامل للمذاهب الثلاثة والكل في حيز الإمكان
أما التوقيف فبأن يخلق الأصوات والحروف بحيث يسمعها واحد أو جمع ويخلق لهم العلم بأنها قصدت للدلالة على المسميات والقدرة الأزلية لا تقصر عن ذلك
وأما الاصطلاح فبأن يجمع الله دواعي جمع من العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم من تعريف الأمور الغائبة التي لا يمكن الإنسان أن يصل إليها فيبتدىء واحد ويتبعه الآخر حتى يتم الاصطلاح بل العاقل الواحد ربما ينقدح له وجه الحاجة وإمكان التعريف بتأليف الحروف فيتولى الوضع ثم يعرف الآخرين بالإشارة والتكرير معها للفظ مرة بعد أخرى كما يفعل الوالدان بالولد الصغير وكما يعرف الأخرس ما في ضميره بالإشارة وإذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب منهما جميعا أما الواقع من هذه الأقسام فلا مطمع في معرفته يقينا إلا ببرهان عقلي أو بتواتر خبر أو سمع قاطع ولا مجال لبرهان العقل في هذا ولم ينقل تواتر ولا فيه سمع قاطع فلا يبقى إلا رجم الظن في أمر لا يرتبط به تعبد عملي ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة فالخوض فيه إذا فصول لا أصل له فإن قيل قال الله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } البقرة 31 وهذا يدل على أنه كان بوحي وتوقيف فيدل على الوقوع وإن لم يدل على استحالة خلافه قلنا وليس ذلك دليلا قاطعا على الوقوع أيضا إذ يتطرق إليه أربعة احتمالات أحدها أنه ربما ألهمه الله تعالى الحاجة إلى الوضع فوضع بتدبيره وفكره ونسب ذلك إلى تعليم الله تعالى لأنه الهادي والملهم ومحرك الداعية كما تنسب جميع أفعالنا إلى الله تعالى
الثاني أن الأسماء ربما كانت موضوعة باصطلاح من خلق الله تعالى قبل آدم من الجن أو فريق من الملائكة فعلمه الله تعالى ما تواضع عليه غيره
الثالث أن الأسماء صيغة عموم فلعله أراد به أسماء السماء والأرض وما في الجنة والنار دون الأسامي التي حدثت مسمياتها بعد آدم عليه السلام من الحرف والصناعات والآلات وتخصيص قوله تعالى كلها كتخصيص قوله تعالى { وأوتيت من كل شيء } النمل 23 وقوله تعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } الأحقاف 25 إذ يخرج عنه ذاته وصفاته
الرابع أنه ربما علمه ثم نسيه أو لم يعلم غيره ثم اصطلح بعده أولاده على هذه اللغات المعهودة الآن والغالب أن أكثرها حادثة بعده
الفصل الثاني في أن الأسماء اللغوية هل تثبت قاسا وقد اختلفوا فيه فقال بعضهم سموا الخمر من العنب خمرا لأنها تخمر العقل فيسمى النبيذ خمرا لتحقق ذلك المعنى فيه قياسا عليه حتى يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم حرمت الخمر لعينها وسمي الزاني زانيا لأنه مولج فرجه في فرج محرم فيقاس عليه اللائط في إثبات اسم الزاني حتى يدخل في عموم قوله تعالى 42 { الزانية والزاني } النور
____________________

(1/181)


2 ) وسمي السارق سارقا لأنه أخذ مال الغير في خفية وهذه العلة موجودة في النباش فيثبت له اسم السارق قياسا حتى يدخل تحت عموم قوله تعالى 5 { والسارق والسارقة } المائدة 38 وهذا غير مرضي عندنا لأن العرب إن عرفتنا بتوقيفها أنا وضعنا الاسم للمسكر المعتصر من العنب خاصة فوضعه لغيره تقول عليهم واختراع فلا يكون لغتهم بل يكون وضعا من جهتنا وإن عرفتنا أنها وضعته لكل ما يخامر العقل أو يخمره فكيفما كان قاسم الخمر ثابت للنبيذ بتوقيفهم لا بقياسنا كما أنهم عرفونا أن كل مصدر فله فاعل فإذا سمينا فاعل الضرب ضاربا كان ذلك عن توقيف لا عن قياس وإن سكتوا عن الأمرين احتمل أن يكون الخمر اسم ما يعتصر من العنب خاصة واحتمل غيره فلم نتهكم عليهم ونقول لغتهم هذا وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعاني ويخصصونها بالمحل كما يسمون الفرس أدهم لسواده كميتا لحمرته والثوب المتلون بذلك اللون بل الآدمي المتلون بالسواد لا يسمونه بذلك الاسم لأنهم ما وضعوا الأدهم والكميت للأسود والأحمر بل لفرس أسود وأحمر وكما سموا الزجاج الذي تقر فيه المائعات قارورة أخذا من القرار ولا يسمون الكوز والحوض قارورة وإن قر الماء فيه فإذا كل ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم بالتوقيف فلا سبيل إلى إثباته ووضعه بالقياس وقد أطنبنا في شرح هذه المسألة في كتاب أساس القياس فثبت بهذا أن اللغة وضع كلها وتوقيف ليس فيها قياس أصلا
الفصل الثالث في الأسماء العرفية اعلم أن الأسماء اللغوية تنقسم إلى وضعية وعرفية والاسم يسمى عرفيا باعتبارين أحدهما أن يوضع الاسم لمعنى عام ثم يخصص عرف الاستعمال من أهل اللغة ذلك الاسم ببعض مسمياته كاختصاص اسم الدابة بذوات الأربع مع أن الوضع لكل ما يدب واختصاص اسم المتكلم بالعالم بعلم الكلام مع أن كل قائل ومتلفظ متكلم وكاختصاص اسم الفقيه والمتعلم ببعض العلماء وبعض المتعلمين مع أن الوضع عام قال الله تعالى { وعلم آدم الأسماء كلها } البقرة 31 وقال تعالى { خلق الإنسان علمه البيان } الرحمن 3 4 وقال عز وجل { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } النساء 78
الاعتبار الثاني أن يصير الاسم شائعا في غير ما وضع له أولا بل فيما هو مجاز فيه كالغائط المطمئن من الأرض والعذرة البناء الذي يستتر به وتقضى الحاجة من ورائه فصار أصل الوضع منسيا والمجاز معروفا سابقا إلى الفهم بعرف الاستعمال وذلك بالوضع الأول فالأسامي اللغوية إما وضعية وإما عرفية أما ما انفرد المحترفون وأرباب الصناعات بوضعه لأدواتهم فلا يجوز أن يسمى عرفيا لأن مبادىء اللغات والوضع الأصلي كلها كانت كذلك فيلزم أن يكون جميع الأسامي اللغوية عرفية
الفصل الرابع في الأسماء الشرعية قالت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء الأسماء لغوية ودينية وشرعية أما اللغوية فظاهرة وأما الدينية فما نقلته الشريعة إلى أصل الدين كلفظ الإيمان والكفر والفسق وأما الشرعية فكالصلاة والصوم والحج والزكاة واستدل القاضي على إفساد مذهبهم بمسلكين الأول أن هذه الألفاظ يشتمل عليها القرآن والقرآن نزل بلغة العرب قال الله تعالى { إنا أنزلناه قرآنا عربيا }
____________________

(1/182)


( يوسف 2 ) { بلسان عربي مبين } { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } إبراه 4 ولو قال أطعموا العلماء وأراد الفقراء لم يكن هذا بلسانهم وإن كان اللفظ المنقول عربيا فكذلك إذا نقل اللفظ عن موضوعه إلى غير موضوعه أو جعل عبارة عن بعض موضوعه أو متناولا لموضوعه وغير موضوعه فكل ذلك ليس من لسان العرب
الثاني أن الشارع لو فعل ذلك للزمه تعريف الأمة بالتوقيف نقل تلك الأسامي فإنه إذا خاطبهم بلغتهم لم يفهموا إلا موضوعها ولو ورد فيه توقيف لكان متواترا فإن الحجة لا تقوم بالآحاد احتجوا بقوله تعالى صلى الله عليه وسلم { وما كان الله ليضيع إيمانكم } البقرة 143 وأراد به الصلاة نحو بيت المقدس وقال صلى الله عليه وسلم نهيت عن قتل المصلين وأراد به المؤمنين وهو خلاف اللغة قلنا أراد بالإيمان التصديق بالصلاة والقبلة وأراد بالمصلين المصدقين بالصلاة وسمي التصديق بالصلاة صلاة على سبيل التجوز وعادة العرب تسمية الشيء بما يتعلق به نوعا من التعلق والتجوز من نفس اللغة احتجوا بقوله الإيمان بضع وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق وتسمية الإماطة إيمانا خلاف الوضع قلنا هذا من أخبار الآحاد فلا يثبت به مثل هذه القاعدة وإن ثبتت فهي دلالة الإيمان فيتجوز بتسميته أيمانا احتجوا بأن الشرع وضع عبادات لم تكن معهودة فافتقرت إلى أسام وكان استعارتها من اللغة أقرب من نقلها من لغة أخرى أو إبداع أسام لها قلنا لا نسلم أنه حدث في الشريعة عبادة لم يكن لها اسم في اللغة فإن قيل فالصلاة في اللغة ليست عبارة عن الركوع والسجود ولا الحج عبارة عن الطواف والسعي قلنا عنه جوابان الأول أنه ليست الصلاة في الشرع أيضا عبارة عنه بل الصلاة عبارة عن الدعاء كما في اللغة والحج عبارة عن القصد والصوم عبارة عن الإمساك والزكاة عبارة عن النمو لكن الشرع شرط في أجزاء هذه الأمور أمورا أخر تنضم إليها فشرط في الاعتداد بالدعاء الواجب انضمام الركوع والسجود إليه وفي قصد البيت أن ينضم إليه الوقوف والطواف والاسم غير متناول له لكنه شرط الاعتداد بما ينطلق عليه الاسم فالشرع تصرف بوضع الشرط لا بتغيير الوضع
الثاني أنه يمكن أن يقال سميت جميع الأفعال صلاة لكونها متبعا بها فعل الإمام فإن التالي للسابق في الخيل يسمى مصليا لكونه متبعا هذا كلام القاضي رحمه الله والمختار عندنا أنه لا سبيل إلى إنكار تصرف الشرع في هذه الأسامي ولا سبيل إلى دعوى كونها منقولة عن اللغة بالكلية كما ظنه قوم ولكن عرف اللغة تصرف في الأسامي من وجهين أحدهما التخصيص ببعض المسميات كما في الدابة فتصرف الشرع في الحج والصوم والإيمان من هذا الجنس إذ للشرع عرف في الاستعمال كما للعرب
والثاني في إطلاقهم الاسم على ما يتعلق به الشيء ويتصل به كتسميتهم الخمر محرمة والمحرم شربها والأم محرمة والمحرم وطؤها فتصرفه في الصلاة كذلك لأن الركوع والسجود شرطه الشرع في تمام الصلاة فشمله الاسم بعرف استعمال الشرع إذ إنكار كون الركوع والسجود ركن الصلاة ومن نفسها بعيد فتسليم هذا القدر من التصرف بتعارف الاستعمال للشرع أهون من
____________________

(1/183)


إخراج السجود والركوع من نفس الصلاة وهو كالمهم المحتاج إليه إذ ما يصوره الشرع من العبادات ينبغي أن يكون لها أسام معروفة ولا يوجد ذلك في اللغة إلا بنوع تصرف فيه وأما ما استدل به من أن القرآن عربي فهذا لا يخرج هذه الأسامي عن أن تكون عربية ولا يسلب اسم العربي عن القرآن فإنه لو اشتمل على مثل هذه الكلمات بالعجمية لكان لا يخرجه عن كونه عربيا أيضا كما ذكرناه في القطب الأول من الكتاب
وأما قوله إنه كان يجب عليه التوقيف على تصرفه فهذا أيضا إنما يجب إذا لم يفهم مقصوده من هذه الألفاظ بالتكرير والقرائن مرة بعد أخرى فإذا فهم هذا فقد حصل الغرض فهذا أقرب عندنا بما ذكره القاضي رحمه الله
الفصل الخامس في الكلام المفيد اعلم أن الأمور منقسمة إلى ما يدل على غيره وإلى ما لا يدل فأما ما يدل فينقسم إلى ما يدل بذاته وهو الأدلة العقلية وقد ذكرنا مجامع أقسامها في مدارك العقول من مقدمة الكتاب وإلى ما يدل بالوضع وهو ينقسم إلى صوت وغير صوت كالإشارة والرمز والصوت ينقسم في دلالته إلى مفيد وغير مفيد والمفيد كقولك زيد قائم وزيد خرج راكبا وغير المفيد كقولك زيد لا وعمرو في فإن هذا لا يحصل منه معنى وإن كان آحاد كلماته موضوعة للدلالة وقد اختلف في تسمية هذا كلاما فمنهم من قال هو كمقلوب رجل وزيد لجر وديز فإن هذا لا يسمى كلاما ومنهم من سماه كلاما لأن آحاده وضعت للإفادة
واعلم أن المفيد من الكلام ثلاثة أقسام اسم وفعل وحرف كما في علم النحو وهذا لا يكون مفيدا حتى يشتمل على اسمين أسند أحدهما إلى الآخر نحو زيد أخوك والله ربك أو اسم أسند إلى فعل نحو قولك ضرب زيد وقام عمرو وأما الاسم والحرف كقولك زيد من وعمرو في فلا يفيد حتى تقول من مضر وفي الدار وكذلك قولك ضرب قام لا يفيد إذ لم يتخلله اسم وكذلك قولك من في قد على
واعلم أن المركب من الاسم والفعل والحرف تركيبا مفيدا ينقسم إلى مستقل بالإفادة من كل وجه وإلى ما لا يستقل بالإفادة إلا بقرينة وإلى ما يستقل بالإفادة من وجه دون وجه مثال الأول قوله تعالى { ذلك } الإسراء 32 { ولا تقتلوا أنفسكم } النساء 29 وذلك يسمى نصا لظهوره والنص في السير هو الظهور فيه ومنه منصة العروس للكرسي الذي تظهر عليه والنص ضربان ضرب هو نص بلفظه ومنظومه كما ذكرناه وضرب هو نص بفحواه ومفهومه نحو قوله تعالى { فلا تقل لهما أف } الإسراء 23 { ولا تظلمون فتيلا } النساء 77 { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الزلزلة 7 { ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } آل عمران 75
فقد اتفق أهل اللغة على أن فهم ما فوق التأفيف من الضرب والشتم وما وراء الفتيل والذرة من المقدار الكثير أسبق إلى الفهم منه من نفس الذرة والفتيل والتأفيف ومن قال إن هذا معلوم بالقياس فإن أراد به أن المسكوت عنه عرف بالمنطوق فهو حق وإن أراد به أن يحتاج فيه إلى تأمل أو يتطرق إليه احتمال فهو غلط وأما الذي لا يستقل إلا بقرينة فكقوله تعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير } البقرة 237 وقوله { ثلاثة قروء } البقرة 228 وكل لفظ مشترك ومبهم وكقوله رأيت أسدا وحمارا وثورا إذا أراد شجاعا وبليدا فإنه لا يستقل بالدلالة على مقصوده إلا بقرينة وأما الذي يستقل من وجه دون وجه فكقوله تعالى { وآتوا حقه يوم حصاده }
____________________

(1/184)


الأنعام 141 وكقوله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } التوبة 29 { التوبة } فإن الإيتاء ويوم الحصاد معلوم ومقدار ما يؤتى غير معلوم والقتال وأهل الكتاب معلوم وقدر الجزية مجهول فخرج من هذا أن اللفظ المفيد بالإضافة إلى مدلوله إما أن لا يتطرق إليه احتمال فيسمى نصا أو يتعارض فيه الاحتمالات من غير ترجيح فيسمى مجملا ومبهما أو يترجح أحد احتمالاته على الآخر فيسمى بالإضافة إلى الاحتمال الأرجح ظاهرا وبالإضافة إلى الاحتمال البعيد مؤولا فاللفظ المفيد إذا ما نص أو ظاهر أو مجمل
الفصل السادس في طريق فهم المراد من الخطاب اعلم أن الكلام إما أن يسمعه نبي أو ملك من الله تعالى أو يسمعه نبي أو ولي من ملك أو تسمعه الأمة من النبي فإن سمعه ملك أو نبي من الله تعالى فلا يكون حرفا ولا صوتا ولا لغة موضوعة حتى يعرف معناه بسبب تقدم المعرفة بالمواضعة لكن يعرف المراد منه بأن يخلق الله تعالى في السامع علما ضروريا بثلاثة أمور بالمتكلم وبأن ما سمعه من كلامه وبمراده من كلامه فهذه ثلاثة أمور لا بد وأن تكون معلومة والقدرة الأزلية ليست قاصرة عن اضطرار الملك والنبي إلى العلم بذلك ولا متكلم إلا وهو محتاج إلى نصب علامة لتعريف ما في ضميره إلا الله تعالى فإنه قادر على اختراع علم ضروري به من غير نصب علامة وكما أن كلامه ليس من جنس كلام البشر فسمعه الذي يخلقه لعبده ليس من جنس سمع الأصوات ولذلك يعسر علينا تفهم كيفية سماع موسى كلام الله تعالى الذي ليس بحرف ولا صوت كما يعسر على الأكمة تفهم كيفية إدراك البصير للألوان والأشكال أما سماع النبي من الملك فيحتمل أن يكون بحرف وصوت دال على معنى كلام الله فيكون المسموع الأصوات الحادثة التي هي فعل الملك دون نفس الكلام ولا يكون هذا إسماعا لكلام الله بغير واسطة وإن كان يطلق عليه اسم سماع كلام الله تعالى كما يقال فلان سمع شعر المتنبي وكلامه وإن سمعه من غيره وسمع صوت غيره وكما قال تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } التوبة 6 وكذلك سماع الأمة من الرسول صلى الله عليه وسلم كسماع الرسول من الملك ويكون طريق فهم المراد تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة ثم إن كان نصا لا يحتمل كفى معرفة اللغة وإن تطرق إليه الاحتمال فلا يعرف المراد منه حقيقة إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ والقرينة إما لفظ مكشوف كقوله تعالى { وآتوا حقه يوم حصاده } الأنعام 141 والحق هو العشر وإما إحالة على دليل العقل كقوله تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } الزمر 67 وقوله عليه السلام قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن
وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر والتخمين يختص بدركها المشاهد لها فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة أو مع قرائن من ذلك الجنس أو من جنس آخر حتى توجب علما ضروريا بفهم المراد أو توجب ظنا وكل ما ليس عبارة موضوعة في اللغة فتتعين فيه القرائن وعند منكري صيغة العموم والأمر يتعين تعريف الأمر والاستغراق بالقرائن فإن قوله تعالى { فاقتلوا المشركين } التوبة 5 وإن أكده بقوله كلهم وجميعهم
____________________

(1/185)


فيحتمل الخصوص عندهم كقوله تعالى { ولله } الأحقاف 25 72 { وأوتيت من كل شيء } النمل 23 فإنه أريد به البعض وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى
الفصل السابع في الحقيقة والمجاز اعلم أن اسم الحقيقة مشترك إذ قد يراد به ذات الشيء وحده ويراد به حقيقة الكلام ولكن إذا استعمل في الألفاظ أريد به ما استعمل في موضوعه والمجاز ما استعمله العرب في غير موضوعه وهو ثلاثة أنواع الأول ما استعير للشيء بسببه المشابهة في خاصية مشهورة كقولهم للشجاع أسد وللبليد حمار فلو سمي الأبخر أسدا لم يجز لأن البخر ليس مشهورا في حق الأسد
الثاني الزيادة كقوله تعالى { ليس كمثله شيء } الشورى 11 فإن الكاف وضعت للإفادة فإذا استعملت على وجه لا يفيد كان على خلاف الوضع
الثالث النقصان الذي لا يبطل التفهيم كقوله عز وجل { واسأل القرية } يوسف 82 والمعنى واسأل أهل القرية وهذا النقصان اعتادته العرب فهو توسع وتجوز وقد يعرف المجاز بإحدى علامات أربع الأولى أن الحقيقة جارية على العموم في نظائره إذ قولنا عالم لما عني به ذو علم صدق على كل ذي علم وقوله { واسأل القرية } يصح في بعض الجمادات لإرادة صاحب القرية ولا يقال سل البساط والكوز وإن كان قد يقال سل الطلل والربع لقربه من المجاز المستعمل
الثانية أن يعرف بامتناع الاشتقاق عليه إذ الأمر إذا استعمل في حقيقته اشتق منه اسم الآمر وإذا استعمل في الشأن مجازا لم يشتق منه آمر والشأن هو المراد بقوله تعالى { وما أمر فرعون برشيد } هود 97 وبقوله تعالى { إذا جاء أمرنا } هود 40
الثالثة أن تختلف صيغة الجمع على الاسم فيعلم أنه مجاز في أحدهما إذ الأمر الحقيقي يجمع على أوامر وإذا أريد به الشأن يجمع على أمور
الرابعة أن الحقيقي إذا كان له تعلق بالغير فإذا استعمل فيما لا تعلق له به لم يكن له متعلق كالقدرة إذا أريد بها الصفة كان لها مقدور وإن أريد بها المقدور كالنبات الحسن العجيب إذ يقال انظر إلى قدرة الله تعالى أي إلى عجائب مقدوراته لم يكن له متعلق إذ النبات لا مقدور له
واعلم أن كل مجاز فله حقيقة وليس من ضرورة كل حقيقة أن يكون لها مجاز بل ضربان من الأسماء لا يدخلهما المجاز الأول أسماء الأعلام نحو زيد وعمرو لأنها أسام وضعت للفرق بين الذوات لا للفرق في الصفات نعم الموضوع للصفات قد يجعل علما فيكون مجازا كالأسود بن الحرث إذ لا يراد به الدلالة على الصفة مع أنه وضع له فهو مجاز أما إذا قال قرأت المزني وسيبويه وهو يريد كتابيهما فليس ذلك إلا كقوله تعالى { واسأل القرية } يوسف 82 فهو على طريق حذف اسم الكتاب معناه قرأت كتاب المزني فيكون في الكلام مجاز بالمعنى الثالث المذكور للمجاز
الثاني الأسماء التي لا أعم منها ولا أبعد كالمعلوم والمجهول والمدلول والمذكور إذ لا شيء إلا وهو حقيقة فيه فكيف يكون مجازا عن شيء
هذا تمام المقدمة ولنشتغل بالمقاصد وهي كيفية اقتباس الأحكام من الصيغ والألفاظ المنطوق بها وهي أربعة أقسام
____________________

(1/186)


القسم الأول من الفن الأول من مقاصد القطب الثالث في المجمل والمبين اعلم أن اللفظ إما أن يتعين معناه بحيث لا يحتمل غيره فيسمى مبينا ونصا وإما أن يتردد بين معنيين فصاعدا من غير ترجيح فيسمى مجملا وإما أن يظهر في أحدهما ولا يظهر في الثاني فيسمى ظاهرا والمجمل هو اللفظ الصالح لأحد معنيين الذي لا يتعين معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف الاستعمال وينكشف ذلك بمسائل
مسألة ( كيفية معرفة المجمل ) قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } النساء 23 و { حرمت عليكم الميتة } المائدة 3 ليس بمجمل وقال قوم من القدرية هو مجمل لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم وإنما يحرم فعل ما يتعلق بالعين وليس يدري ما ذلك الفعل فيحرم من الميتة مسها أو أكلها أو النظر إليها أو بيعها والانتفاع بها فهو مجمل والأم يحرم منها النظر أو المضاجعة أو الوطء فلا يدري أيه ولا بد من تقدير فعل وتلك الأفعال كثيرة وليس بعضها أولى من بعض وهذا فاسد إذ عرف الاستعمال كالوضع ولذلك قسمنا الأسماء إلى عرفية ووضعية وقدمنا بيانها ومن أنس بتعارف أهل اللغة واطلع على عرفهم علم أنهم لا يستريبون في أن من قال حرمت عليك الطعام والشراب أنه يريد الأكل دون النظر والمس وإذا قال حرمت عليك هذا الثوب أنه يريد اللبس وإذا قال حرمت عليك النساء أنه يريد الوقاع وهذا صريح عندهم مقطوع به فكيف يكون مجملا والصريح تارة يكون بعرف الاستعمال وتارة بالوضع وكل ذلك واحد في نفي الأجمال وقال قوم هو من قبيل المحذوف كقوله تعالى { واسأل القرية } أي أهل القرية ( يوسف 82 ) وكذلك قوله تعالى { أحلت لكم بهيمة الأنعام } أي أكل البهيمة { أحل لكم صيد البحر } المائدة 96 وهذا إن أراد به إلحاقه بالمجمل فهو خطأ وإن أراد به حصول الفهم به مع كونه محذوفا فهو صحيح وإن أراد به إلحاقه بالمجاز فيلزمه تسمية الأسماء العربية مجازا
مسألة ( رفع الخطأ والنسيان ) قوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان يقتضي بالوضع نفي نفس الخطأ والنسيان وليس كذلك وكلامه صلى الله عليه وسلم يجل عن الخلف فالمراد به رفع حكمه لا على الإطلاق بل الحكم الذي عرف بعرف الاستعمال قبل ورود الشرع إرادته بهذا اللفظ فقد كان يفهم قبل الشرع من قول القائل لغيره رفعت عنك الخطأ والنسيان إذ يفهم منه رفع حكمه لا على الإطلاق وهو المؤاخذة بالذم والعقوبة فكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم نص صريح فيه وليس بعام في جميع أحكامه من الضمان ولزوم القضاء وغيره ولا هو مجمل بين المؤاخذة التي ترجع إلى الذم ناجزا أو إلى العقاب آجلا وبين الغرم والقضاء لأنه لا صيغة لعمومه حتى يجعل عاما في كل حكم كما لم يجعل قوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } النساء 23 عاما في كل فعل مع أنه لا بد من إضمار فعل فالحكم هاهنا لا بد من إضماره لإضافة الرفع إليه كالفعل ثم ينزل على ما يقتضيه عرف الاستعمال وهو الذم والعقاب هاهنا والوطء ثم فإن قيل فالضمان أيضا عقاب فليرتفع قلنا الضمان قد يجب امتحانا ليثاب عليه لا للانتقام ولذلك يجب على الصبي والمجنون وعلى العاقلة بسبب الغير ويجب حيث يجب الإتلاف كالمضطر في
____________________

(1/187)


المخمصة وقد يجب عقابا كما يجب على المعتمد لقتل الصيد ليذوق وبال أمره وإن وجب على المخطىء بالقتل امتحانا فغاية ما يلزم أن يقال ينتفي به كل ضمان هو بطريق العقاب لأنه مؤاخذة وانتقام بخلاف ما هو بطريق الجبران والامتحان والمقصود أن من ظن أن هذا اللفظ خاص أو عام لجميع أحكام الخطأ أو مجمل متردد فقد غلط فيه فإن قيل فلو ورد في موضع لا عرف فيه يدرك به خصوص معناه فهل يجعل نفيا لأثره بالكلية حتى يقوم مقام العموم أو يجعل مجملا قلنا هو مجمل يحتمل نفي الأثر مطلقا ونفي آحاد الآثار ويصلح أن يراد به الجميع ولا يترجح أحد الاحتمالات وهذا عند من لا يقول بصيغة العموم ظاهر أما من يقول بها فيتبع فيه الصيغة ولا صيغة للمضمرات وهذا قد أضمر فيه الأثر فعلى ماذا يعول في التعميم فإن قيل هو نفي فيقتضي وضعه نفي الأثر والمؤثر جميعا فإن تعذر نفي المؤثر بقرينة الحس فالتعذر مقصور عليه فيبقى الأثر منفيا قلنا ليس قوله لا صيام ولا عمل ولا خطأ ولا نسيان أو رفع الخطأ والنسيان عاما في نفي المؤثر والأثر حتى إذا تعذر في المؤثر بقي في الأثر بل هو لنفي المؤثر فقط والأثر ينتفي ضرورة بانتفاء المؤثر لا بحكم عموم اللفظ وشموله له فإذا تعذر حمله على المؤثر صار مجازا إما عن جميع الآثار أو عن بعض الآثار ولا تترجح الجملة على البعض ولا أحد الأبعاض على غيره
مسألة ( نفي الكمال أو الصحة في اللفظ الشرعي ) في قوله صلى الله عليه وسلم لا صلاة إلا بطهور ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ولا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ولا نكاح إلا بولي ولا نكاح إلا بشهود ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد فإن هذا نفي لما ليس منفيا بصورته فإن صورة النكاح والصوم والصلاة موجودة كالخطأ والنسيان وقالت المعتزلة هو مجمل لتردده بين نفي الصورة والحكم وهو أيضا فاسد بل فساده في هذه الصورة أظهر فإن الخطأ والنسيان ليس اسما شرعيا والصلاة والصوم والوضوء والنكاح ألفاظ تصرف الشرع فيها فهي شرعية وعرف الشرع في تنزيل الأسامي الشرعية على مقاصده كعرف اللغة على ما قدمنا وجه تصرف الشرع في هذه الألفاظ فلا يشك في أن الشرع ليس يقصد بكلامه نفي الصورة فيكون خلفا بل يريد نفي الوضوء والصوم والنكاح الشرعي فعرف الشرع يزيل هذا الاحتمال فكأنه صرح بنفي نفس الصلاة الشرعية والنكاح الشرعي فإن قيل فيحتمل نفي الصحة ونفي الكمال أي لا صلاة كاملة ولا صوم فاضلا ولا نكاح مؤكدا ثابتا فهل هو محتمل بينهما قلنا ذهب القاضي إلى أنه مردد بين نفي الكمال والصحة إذ لا بد من إضمار الصحة أو الكمال وليس أحدهما بأولى من الآخر والمختار أنه ظاهر في نفي الصحة محتمل لنفي الكمال على سبيل التأويل لأن الوضوء والصوم صارا عبارة عن الشرعي وقوله لا صيام صريح في نفي الصوم ومهما حصل الصوم الشرعي وإن لم يكن فاضلا كاملا كان ذلك على خلاف مقتضى النفي فإن قيل فقوله صلى الله عليه وسلم لا عمل إلا بنية من قبيل قوله لا صلاة أو من قبيل قوله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان قلنا الخطأ والنسيان ليسا من الأسماء الشرعية والصوم والصلاة من الأسماء الشرعية وأما العمل فليس للشرع فيه
____________________

(1/188)


تصرف وكيفما كان فقوله صلى الله عليه وسلم لا عمل إلا بنية وقوله إنما الأعمال بالنيات يقتضي عرف الاستعمال نفي جدواه وفائدته كما يقتضي عرف الشرع نفي الصحة في الصوم والصلاة فليس هذا من المجملات بل من المألوف في عرف الاستعمال قولهم لا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاد ولا حكم إلا لله ولا طاعة إلا له ولا عمل إلا ما نفع وأجدى وكل ذلك نفي لما لا ينتفي وهو صدق لأن المراد منه نفي مقاصده
دقيقة القاضي رحمه الله إنما لزمه جعل اللفظ مجملا بالإضافة إلى الصحة والكمال من حيث أنه نفى الأسماء الشرعية وأنكر أن يكون للشرع فيها عرف يخالف الوضع فلزمه إضمار شيء في قوله عليه السلام لا صيام أي لا صيام مجزئا صحيحا أو لا صيام فاضلا كاملا ولم يكن أحد الإضمارين بأولى من الآخر وأما نحن إذا اعترفنا بعرف الشرع في هذه الألفاظ صار هذا النفي راجعا إلى نفس الصوم كقوله لا رجل في البلد فإنه يرجع إلى نفي الرجل ولا ينصرف إلى الكمال إلا بقرينة الاحتمال
مسألة ( معنى المجمل ) إذا أمكن حمل لفظ الشارع على ما يفيد معنيين وحمله على ما يفيد معنى واحدا وهو مردد بينهما فهو مجمل وقال بعض الأصوليين يترجح حمله على ما يفيد معنيين كما لو دار بين ما يفيد وما لا يفيد يتعين حمله على المفيد لأن المعنى الثاني مما قصر اللفظ عن إفادته إذا حمل على الوجه الآخر فحمله على الوجه المفيد بالإضافة إليه أولى وهذا فاسد لأن حمله على غير المفيد يجعل الكلام عبثا ولغوا يجل عنه منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم أما المفيد لمعنى واحد فليس بلغو وكلماته التي أفادت معنى واحدا لعلها أغلب وأكثر مما يفيد معنيين فلا معنى لهذا الترجيح
مسألة ( الأحكام المتعددة في اللفظ ) ما أمكن حمله على حكم متعدد فليس بأولى مما يحمل اللفظ فيه على التقرير على الحكم الأصلي والحكم العقلي والاسم اللغوي لأن كل واحد محتمل وليس حمل الكلام عليه ردا له إلى العبث وقال قوم حمله على الحكم الشرعي الذي هو فائدة خاصة بالشرع أولى وهو ضعيف إذ لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق بالحكم العقلي ولا بالاسم اللغوي ولا بالحكم الأصلي فهذا ترجيح بالتحكم مثاله قوله صلى الله عليه وسلم الاثنان فما فوقهما جماعة فإنه يحتمل أن يكون المراد به أنه يسمى جماعة ويحتمل أن يكون المراد به انعقاد الجماعة أو حصول فضيلتها ومثاله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم الطواف بالبيت صلاة إذ يحتمل أن يكون المراد به الافتقار إلى الطهارة أي هو كالصلاة حكما ويحتمل أن فيه دعاء كما في الصلاة ويحتمل أنه يسمى صلاة شرعا وإن كان لا يسمى في اللغة صلاة فهو مجمل بين هذه الجهات ولا ترجيح
مسألة ( دوران الاسم بين المعنى اللغوي والشرعي ) إذا دار الاسم بين معناه اللغوي ومعناه الشرعي كالصوم والصلاة قال القاضي هو مجمل لأن الرسول عليه السلام يناطق العرب بلغتهم كما يناطقهم بعرف شرعه ولعل هذا منه تفريع على مذهب من يثبت الأسامي الشرعية وإلا فهو منكر للأسامي الشرعية وهذا فيه نظر لأن غالب عادة الشارع استعمال هذه الأسامي على عرف الشرع
____________________

(1/189)


لبيان الأحكام الشرعية وإن كان أيضا كثيرا ما يطلق على الوضع اللغوي كقوله صلى الله عليه وسلم دعي الصلاة أيام أقرائك ومن باع حرا أو من باع خمرا
فحكمه كذا وإن كانت الصلاة في حالة الحيض وبيع الخمر والحر لا يتصور إلا بموجب الوضع فأما الشرعي فلا ومثال هذه المسألة قوله صلى الله عليه وسلم حيث لم يقدم إليه غداء إني إذا أصوم فإنه إن حمل على الصوم الشرعي دل على جواز النية نهارا وإن حمل على الإمساك لم يدل وقوله صلى الله عليه وسلم لا تصوموا يوم النحر إن حمل على الإمساك الشرعي دل على انعقاده إذ لولا إمكانه لما قيل له لا تفعل إذ لا يقال للأعمى لا تبصر وإن حمل على الصوم الحسي لم ينشأ منه دليل على الانعقاد وقد قال الشافعي لو حلف أن لا يبيع الخمر لا يحنث ببيعه لأن البيع الشرعي لا يتصور فيه وقال المزني يحنث لأن القرينة تدل على أنه أراد البيع اللغوي والمختار عندنا أن ما ورد في الأثبات والأمر فهو للمعنى الشرعي وما ورد في النهي كقوله دعي الصلاة فهو مجمل
مسألة ( تعارض الحقيقة والمجاز أيهما يقدم ) إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فاللفظ للحقيقة إلى أن يدل الدليل أنه أراد المجاز ولا يكون مجملا كقوله رأيت اليوم حمارا واستقبلني في الطريق أسد فلا يحمل على البليد والشجاع إلا بقرينة زائدة فإن لم تظهر فاللفظ للبهيمة والسبع ولو جعلنا كل لفظ أمكن أن يتجوز به مجملا تعذرت الاستفادة من أكثر الألفاظ فإن المجاز إنما يصار إليه لعارض وهذا في مجاز لم يغلب بالعرف بحيث صار الوضع كالمتروك مثل الغائط والعذرة فإنه لو قال رأيت اليوم عذرة أو غائطا لم يفهم منه المطمئن من الأرض وفناء الدار لأنه صار كالمتروك بعرف الاستعمال والمعنى العرفي كالمعنى الوضعي في تردد اللفظ بينهما وليس المجاز كالحقيقي لكن المجاز إذا صار عرفيا كان الحكم للعرف
خاتمة جامعة إعلم أن الإجمال تارة يكون في لفظ مفرد وتارة يكون في لفظ مركب وتارة في نظم الكلام والتصريف وحروف النسق ومواضع الوقف والابتداء
أما اللفظ المفرد فقد يصلح لمعان مختلفة كالعين للشمس والذهب والعضو الباصر والميزان وقد يصلح لمتضادين كالقرء للطهر والحيض والناهل للعطشان والريان وقد يصلح لمتشابهين بوجه ما كالنور للعقل ونور الشمس وقد يصلح لمتماثلين كالجسم للسماء والأرض والرجل لزيد وعمرو وقد يكون موضوعا لهما من غير تقديم وتأخير وقد يكون مستعارا لأحدهما من الآخر كقولك الأرض أم البشر فإن الأم وضع اسما للوالدة أولا وكذلك اسم المنافق والكافر والفاسق والصوم والصلاة فإنه نقل في الشرع إلى معان ولم يترك المعنى الوضعي أيضا
أما الاشتراك مع التركيب فكقوله تعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير } البقرة 237 فإن جميع هذه الألفاظ مرددة بين الزوج والولي وأما الذي بحسب التصريف فكالمختار للفاعل والمفعول وأما الذي بحسب نسق الكلام فكقولك كل ما علمه الحكيم فهو كما علمه فإن قولك فهو كما علمه متردد بين أن يرجع إلى كل ما وبين أن يرجع إلى الحكم حتى يقول والحكيم يعلم الحجر فهو إذا كالحجر وقد يكون بحسب الوقف والابتداء فإن الوقف على السموات في قوله تعالى { ما } الأنعام
____________________

(1/190)


3 ) له معنى يخالف الوقف على الأرض والابتداء بقوله { يعلم سركم وجهركم } وقوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } آل عمران 7 من غير وقف يخالف الوقف على قوله { إلا الله } وذلك لتردد الواو بين العطف والابتداء ولذلك قد يصدق قولك الخمسة زوج وفرد أي هو اثنان وثلاثة ويصدق قولك الإنسان حيوان وجسم لأنه حيوان وجسم أيضا ولا يصدق قولك الإنسان حيوان وجسم ولا قولك الخمسة زوج وفرد لأن الإنسان ليس بحيوان وجسم وليست الخمسة زوجا وفرد أيضا وذلك لأن الواو يحتمل جمع الأجزاء وجمع الصفات وكذلك تقول زيد طبيب بصير يصدق وإن كان جاهلا ضعيف المعرفة بالطب ولكن بصير بالخياطة فيتردد البصير بين أن يراد به البصير في الطب أو يراد وصف زائد في نفسه فهذه أمثلة مواضع الإحمال وقد تم القول في المجمل وفي مقابلته المبين فلنتكلم في البيان وحكمه وحده
القول في البيان والمبين إعلم أنه جرت عادة الأصوليين برسم كتاب في البيان وليس النظر فيه مما يستوجب أن يسمى كتابا فالخطب فيه يسير والأمر فيه قريب ورأيت أولى المواضع به أن يذكر عقيب المجمل فإنه المفتقر إلى البيان والنظر فيه حد البيان وجواز تأخيره والتدريج في إظهاره وفي طريق ثبوته فهذه أربعة أمور نرسم في كل واحد منها مسألة مسألة في حد البيان إعلم أن البيان عبارة عن أمر يتعلق بالتعريف والإعلام وإنما يحصل الإعلام بدليل والدليل محصل للعلم فهاهنا ثلاثة أمور إعلام ودليل به الإعلام وعلم يحصل من الدليل
فمن الناس من جعله عبارة عن التعريف فقال في حده أنه إخراج الشيء من حيز الأشكال إلى حيز التجلي ومنهم من جعله عبارة عما به تحصل المعرفة فيما يحتاج إلى المعرفة أعني الأمور التي ليست ضرورية وهو الدليل فقال في حده أنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بما هو دليل عليه وهو اختيار القاضي ومنهم من جعله عبارة عن نفس العلم وهو تبين الشيء فكأن البيان عنده والتبيين واحد ولا حجر في إطلاق إسم البيان على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة إلا أن الأقرب إلى اللغة وإلى المتداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي إذ يقال لمن دل غيره على الشيء بينه له وهذا بيان منك لكنه لم يتبين وقال تعالى { هذا بيان للناس } آل عمران 138 وأراد به القرآن وعلى هذا فبيان الشيء قد يكون بعبارات وضعت بالاصطلاح فهي بيان في حق من تقدمت معرفته بوجه المواضعة وقد يكون بالفعل والإشارة والرمز إذا لكل دليل ومبين ولكن صار في عرف المتكلمين مخصوصا بالدلالة بالقول فيقال له بيان حسن أي كلام حسن رشيق الدلالة على المقاصد
وإعلم أنه ليس من شرط البيان أن يحصل التبيين به لكل أحد بل أن يكون بحيث إذا سمع وتؤمل وعرفت المواضعة صح أن يعلم به ويجوز أن يختلف الناس في تبين ذلك وتعرفه وليس من شرطه أن يكون بيانا لمشكل لأن النصوص المعربة
____________________

(1/191)


عن الأمور ابتداء بيان وإن لم يتقدم فيها إشكال وبهذا يبطل قول من حده بأنه إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي فذلك ضرب من البيان وهو بيان المجمل فقط
وإعلم أن كل مفيد من كلام الشارع وفعله وسكوته واستبشاره حيث يكون دليلا وتنبيهه بفحوى الكلام على علة الحكم كل ذلك بيان لأن جميع ذلك دليل وإن كان بعضها يفيد غلبة الظن فهو من حيث إنه يفيد العلم بوجوب العمل قطعا دليل وبيان وهو كالنص نعم كل ما لا يفيد علما ولا ظنا ظاهرا فهو مجمل وليس ببيان بل هو محتاج إلى البيان والعموم يفيد ظن الاستغراق عند القائلين به لكنه يحتاج إلى البيان ليصير الظن علما فيتحقق الاستغراق أو يتبين خلافه فيتحقق الخصوص وكذلك الفعل يحتاج إلى بيان تقدمه أنه أريد به بيان الشرع لأن الفعل لا صيغة له
مسألة ( في تأخير البيان ) لا خلاف أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلا على مذهب من يجوز تكليف المحال أما تأخيره إلى وقت الحاجة فجائز عند أهل الحق خلافا للمعتزلة وكثير من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب الظاهر وإليه ذهب أبو إسحق المروزي وأبو بكر الصيرفي وفرق جماعة بين العام والمجمل فقالوا يجوز تأخير بيان المجمل إذ لا يحصل من المجمل جهل وأما العام فإنه يوهم العموم فإذا أريد به الخصوص فلا ينبغي أن يتأخر بيانه مثل قوله { فاقتلوا المشركين } التوبة 5 فإنه إن لم يقترن به البيان له أوهم جواز قتل غير أهل الحرب وأدى ذلك إلى قتل من لا يجوز قتله والمجمل مثل قوله تعالى { وآتوا حقه يوم حصاده } الأنعام 141 يجوز تأخير بيانه لأن الحق مجمل لا يسبق إلى الفهم منه شيء وهو كما لو قال حج في هذه السنة كما سأفصله أو أقتل فلانا غدا بآلة سأعينها من سيف أو سكين وفرق طوائف بين الأمر والنهي وبين الوعد والوعيد فلم يجوزوا تأخير البيان في الوعد والوعيد
ويدل على جواز التأخير مسالك الأول أنه لو كان ممتنعا لكان الاستحالته في ذاته أو لإفضائه إلى مجال وكل ذلك يعرف بضرورة أو نظر وإذا انتفى المسلكان ثبت الجواز وهذا دليل يستعمله القاضي في مسائل كثيرة وفيه نظر لأنه لا يورث العلم ببطلان الإحالة ولا بثبوت الجواز إذ يمكن أن يكون وراء من ذكره وفصله دليل على الإحالة لم يخطر له فلا يمكن أن يكون دليلا لا على الإحالة ولا على الجواز فعدم العلم العلم بدليل الجواز لا يثبت الإحالة وكذلك عدم العلم بدليل الإحالة لا يثبت الجواز بل عدم العلم بدليل الإحالة لا يكون علما لعدم الإحالة فلعل عليه دليلا ولم نعرفه بل لو عرفنا انتفاء دليل الإحالة لم يثبت الجواز بل لعله محال وليس عليه دليل يعرفه آدمي فمن أين يجب أن يكون كل جائز ومحال في مقدور الآدمي معرفته
الثاني أنه إنما يحتاج إلى البيان للامتثال وإمكانه ولأجله يحتاج إلى القدرة والآلة ثم جاز تأخير القدرة وخلق الآلة فكذلك البيان وهذا أيضا ذكره القاضي وفيه نظر لأنه إنما ينفع لو اعترف الخصم بأنه يحيله لتعذر الامتثال ولعله يحيله لما من تجهيل أو لكونه لغوا بلا فائدة أو لسبب آخر وليس في تسليمه تعليل القدرة والآلة بتأتي الامتثال ما يلزمه تعليل غير به
الثالث الاستدلال على جوازه بوقوعه في القرآن والسنة قال الله تعالى { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه } القيامة 18 وثم
____________________

(1/192)


للتأخير وقال تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } وإنما أراد بقرة معينة ولم يفصل إلا بعد السؤال وقال تعالى { نتوفينك } الأنفال 41 الآية وإنما أراد بذي القربى بني هاشم وبنى المطلب دون بني أمية وكل من عدا بني هاشم فلما منع بني أمية وبني نوفل وسئل عن ذلك قال أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام ولم نزل هكذا وشبك بين أصابعه وقال في قصة نوح { إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } هود 46 بين بعد أن توهم أنه من أهله وأما السنن فبيان المراد بقوله وأقيموا الصلاة بصلاة جبريل في يومين بين الوقتين
وقوله عليه السلام ليس في الخضروات صدقة ثم قال بعد ذلك ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وقال في أربعين شاة شاة وخذوا عني مناسككم كله ورد متأخرا عن قوله { وآتوا الزكاة } النساء 77 { ولله على الناس حج البيت من استطاع } آل عمران 97 الآية وقال { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم } التوبة 41 وهو عام ثم ورد بعده { إذا } النور 61 وكذلك جميع الأعذار وكذلك أمر النكاح والبيع والأرث ورد أولا أصلها ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم بالتدريج من يرث ومن لا يرث ومن يحل نكاحه ومن لا يحل وما يصح بيعه وما لا يصح وكذلك كل عام ورد في الشرع فإنما ورد دليل خصوصه بعده وهذا مسلك لا سبيل إلى إنكاره وإن تطرق الاحتمال إلى أحد هذه الاستشهادات بتقدير اقتران البيان فلا يتطرق إلى الجميع
الرابع أنه يجوز تأخير النسخ بالاتفاق بل يجب تأخيره لا سيما عند المعتزلة فإن النسخ عندهم بيان لوقت العبادة ويجوز أن يرد لفظ يدل على تكرر الأفعال على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام لكن بشرط أن لا يرد نسخ وهذا أيضا واقع فهذه الأدلة واقعة دالة على جواز تأخير البيان عن كل ما يحتاج إلى البيان من عام ومجمل ومجاز وفعل متردد وشرط مطلق غير مقيد وهو أيضا دليل على من جوز في الأمر دون الوعيد وعلى من قال بعكس ذلك
وللمخالف أربع شبه الأولى قالوا إن جوزتم خطاب العربي بالعجمية والفارسي بالزنجية فقد ركبتم بعيدا وتعسفتم وإن منعتم فما الفرق بينه وبين مخاطبة العربي بلفظ مجمل لا يفهم معناه ولكن يسمع لفظه ويلزم منه جواز خطابه بلغة هو واضعها وحده إلى أن يبين والجواب من وجهين أحدهما وهو الأولى أنهم لم قالوا قوله { وآتوا حقه يوم حصاده } الأنعام 141 كالكلام بلغة لا تفهم مع أنه يفهم أصل الإيجاب ويعزم على أدائه وينتظر بيانه وقت
____________________

(1/193)


الحصاد فالتسوية بينهما تعسف وظلم
الجواب الثاني أنا نجوز للنبي عليه السلام أن يخاطب جميع أهل الأرض من الزنج والترك بالقرآن ويشعرهم أنه يشتمل على أوامر يعرفهم بها المترجم وكيف يبعد هذا ونحن نجوز كون المعدوم مأمورا على تقدير الوجود فأمر العجم على تقدير البيان أقرب نعم لا يحصل ذلك خطابا بل إنما يسمى خطابا إذا فهمه المخاطب والمخاطب في مسألتنا فهم أصل الأمر بالزكاة وجهل قدر الحق الواجب عند الحصاد وكذلك قوله تعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير } البقرة 237 مفهوم وتردده بين الزوج والولي معلوم والتعيين منتظر فإن قيل فليجز خطاب المجنون والصبي قلنا أما من لا يفهم فلا يسمى مخاطبا ويسمى مأمورا كالمعدوم على تقدير الوجود الصبي مأمور على تقدير البلوغ أعني من علم الله أنه سيبلغ أما الذي يفهم ويعلم الله ببلوغه فلا نحيل أن يقال له إذا بلغت فأنت مأمور بالصلاة والزكاة والصبا لا ينافي مثل هذا الخطاب وإنما ينافي خطابا يعرضه للعقاب في الصبا
الثانية قولهم الخطاب يراد لفائدة وما لا فائدة فيه فيكون وجوده كعدمه ولا يجوز أن يقول أبجد هوز ويريد به وجوب الصلاة والصوم ثم يبينه من بعد لأنه لغو من الكلام وكذلك المجمل الذي لا يفيد قلنا إنما يجوز الخطاب بمجمل يفيد فائدة ما لأن قوله تعالى { وآتوا حقه يوم حصاده } الأنعام 141 يعرف منه وجوب الإيتاء ووقته وأنه حق في المال فيمكن العزم فيه على الامتثال والاستعداد له ولو عزم على تركه عصى وكذلك مطلق الأمر إذا ورد ولم يتبين أنه للإيجاب أو الندب أو أنه على الفور أو التراخي أو أنه للتكرار أو للمرة الواحدة أفاد علم اعتقاد الأصل ومعرفة التردد بين الجهتين وكذلك أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي فلا يخلو عن أصل الفائدة وإنما يخلو عن كمالها وذلك غير مستنكر بل هو واقع في الشريعة والعادة بخلاف قوله أبجد هوز فإن ذلك لا فائدة له أصلا
الثالثة أنه لا خلاف في أنه لو قال في خمس من الإبل شاة وأراد خمسا من الأفراس لا يجوز ذلك وإن كان بشرط البيان بعده لأنه تجهيل في الحال وإيهام لخلاف المراد فكذلك قوله 9 { فاقتلوا المشركين } التوبة 5 يوهم قتل كل مشرك وهو خلاف المراد فهو تجهيل في الحال ولو أراد بالعشرة سبعة كان ذلك تجهيلا وإن كان ذلك جائزا إن اتصل الاستثناء به بأن يقول عشرة إلا ثلاثة وكذلك العموم للاستغراق في الوضع إنما يراد به الخصوص بشرط قرينة متصلة مبينة فأما إرادة الخصوص دون القرينة فهو تغيير للوضع وهذا حجة من فرق بين العام والمجمل والجواب أن العموم لو كان نصا في الاستغراق لكان كما ذكرتموه وليس كذلك بل هو مجمل عند أكثر المتكلمين متردد بين الاستغراق والخصوص وهو ظاهر عند أكثر الفقهاء في الاستغراق وإرادة الخصوص به من كلام العرب فإن الرجل قد يعبر بلفظ العموم عن كل ما تمثل في ذهنه وحضر في فكره فيقول مثلا ليس للقاتل من الميراث شيء فإذا قيل له فالجلاد والقاتل قصاصا لم يرث فيقول ما أردت هذا ولم يخطر لي بالبال ويقول للبنت النصف من الميراث فيقال
____________________

(1/194)


فالبنت الرقيقة والكافرة لا ترث شيئا فيقول ما خطر ببالي هذا وإنما أردت غير الرقيقة والكافرة ويقول الأب إذا انفرد يرث المال أجمع فيقال والأب الكافر أو الرقيق لا يرث فيقول إنما خطر ببالي الأب غير الرقيق والكافر فهذا من كلام العرب وإذا أراد السبعة بالعشرة فليس من كلام العرب فإذا اعتقد العموم قطعا فذلك لجهله بل ينبغي أن يعتقد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص وعليه الحكم بالعموم إن خلي والظاهر وينتظر أن ينبه على الخصوص أيضا
الرابعة أنه إن جاز تأخير البيان إلى مدة مخصوصة طويلة كانت أو قصيرة فهو تحكم وإن جاز إلى غير نهاية فربما يخترم النبي صلى الله عليه وسلم قبل البيان فيبقى العامل بالعموم في ورطة الجهل متمسكا بعموم ما أريد به الخصوص قلنا النبي عليه السلام لا يؤخر البيان إلا إذا جوز له التأخير أو أوجب وعين له وقت البيان وعرف أنه يبقى إلى ذلك الوقت فإن اخترم قبل البيان بسبب من الأسباب فيبقى العبد مكلفا بالعموم عند من يرى العموم ظاهرا ولا يلزمه حكم ما لم يبلغه كما لو اخترم قبل النسخ لما أمر بنسخه فإنه يبقى مكلفا به دائما فإن أحالوا اخترامه قبل تبليغ النسخ فيما أنزل عليه النسخ فيه فيستحيل أيضا اخترامه قبل بيان الخصوص فيما أريد به الخصوص ولا فرق
مسألة ( هل يجوز منع التدرج في البيان ) ذهب بعض المجوزين لتأخير البيان في العموم إلى منع التدريج في البيان فقالوا إذا ذكر إخراج شيء من العموم فينبغي أن يذكر جميع ما يخرج وإلا أوهم ذلك استعمال العموم في الباقي وهذا أيضا غلط بل من توهم ذلك فهو المخطىء فإنه كما كان يجوز الخصوص فإنه ينبغي أن يبقى مجوزا له في الباقي وإن أخرج البعض إذ ليس في إخراج البعض تصريح بحسم سبيل لشيء آخر كيف وقد نزل قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } آل عمران 97 فسئل النبي عليه السلام عن الاستطاعة فقال الزاد والراحلة ولم يتعرض لأمن الطريق والسلامة وطلب الخفارة وذلك يجوز أن يتبين بدليل آخر بعده وقال تعالى { والسارق والسارقة } المائدة 38 ثم ذكر النصاب بعده ثم ذكر الحرز بعد ذلك وكذلك كان يخرج شيئا شيئا من العموم على قدر وقوع الوقائع وكذلك يخرج من قوله { فاقتلوا المشركين } التوبة 5 أهل الذمة مرة والعسيف مرة والمرأة مرة أخرى وكذلك على التدريج ولا إحالة في شيء من ذلك فإن قيل فإذا كان كذلك فمتى يجب على المجتهد الحكم بالعموم ولا يزال منتظرا لدليل بعده قلنا سيأتي ذلك في كتاب العموم والخصوص إن شاء الله
مسألة ( هل يصح تخصيص المتواتر بخبر الآحاد ) لا يشترط أن يكون طريق البيان للمجمل والتخصيص للعموم كطريق المجمل والعموم حتى يجوز بيان مجمل القرآن وعمومه وما ثبت بالتواتر بخبر الواحد خلافا لأهل العراق فإنهم لم يجوزوا التخصيص في عموم القرآن والمتواتر بخبر الواحد وأما المجمل فيما تعم به البلوى كأوقات الصلاة وكيفيتها وعدد ركعاتها ومقدار واجب الزكاة وجنسها فإنهم قالوا لا يجوز أن يبين إلا بطريق قاطع وأما ما لا تعم به البلوى كقطع يد السارق وما يجب على الأئمة من الحد وذكر أحكام المكاتب والمدبر فيجوز أن يبين بخبر الواحد وهذا
____________________

(1/195)


يتعلق طرف منه بطريق التخصيص وسيأتي في القسم الرابع وطرف يتعلق بما تعم به البلوى وقد ذكرناه في كتاب الأخبار
القسم الثاني من الفن الأول في الظاهر والمؤول إعلم أنا بينا أن اللفظ الدال الذي ليس بمجمل إما أن يكون نصا وإما أن يكون ظاهرا والنص هو الذي لا يحتمل التأويل والظاهر هو الذي يحتمله فهذا القدر قد عرفته على الجملة وبقي عليك الآن أن تعرف الاختلاف في إطلاق لفظ النص وأن تعرف حده وحد الظاهر وشرط التأويل المقبول فنقول النص إسم مشترك يطلق في تعارف العلماء على ثلاثة أوجه الأول ما أطلقه الشافعي رحمه الله فإنه سمى الظاهر نصا وهو منطبق على اللغة ولا مانع منه في الشرع والنص في اللغة بمعنى الظهور تقول العرب نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته وسمي الكرسي منصة إذ تظهر عليه العروس وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد فرجة نص فعلى هذا حده حد الظاهر هو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع فهو بالإضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونص
الثاني وهو الأشهر ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا على قرب ولا على بعد كالخمسة مثلا فإنه نص في معناه لا يحتمل الستة ولا الأربعة وسائر الأعداد ولفظ الفرس لا يحتمل الحمار والبعير وغيره فكل ما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالإضافة إلى معناه نصا في طرفي الإثبات والنفي أعني في إثبات المسمى ونفي ما لا ينطلق عليه الاسم فعلى هذا حده اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى فهو بالإضافة إلى معناه المقطوع به نص ويجوز أن يكون اللفظ الواحد نصا ظاهرا مجملا لكن بالإضافة إلى ثلاثة معان لا إلى معنى واحد
الثالث التعبير بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا فكان شرط النص بالوضع الثاني أن لا يتطرق إليه احتمال أصلا وبالوضع الثالث أن لا يتطرق إليه احتمال مخصوص وهو المعتضد بدليل ولا حجر في إطلاق اسم النص على هذه المعاني الثلاثة لكن الإطلاق الثاني أوجه وأشهر وعن الاشتباه بالظاهر أبعد هذا هو القول في النص والظاهر
أما القول في التأويل فيستدعي تمهيد أصل وضرب أمثلة أما التمهيد فهو أن التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز وكذلك تخصيص العموم يرد اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز فإنه إن ثبت أن وضعه وحقيقته للاستغراق فهو مجاز في الاقتصار على البعض فكأنه رد له إلى المجاز إلا أن الاحتمال تارة يقرب وتارة يبعد فإن قرب كفى في إثباته دليل قريب وإن لم يكن بالغا في القوة وإن كان بعيدا افتقر إلى دليل قوي يجبر بعده حتى يكون ركوب ذلك الاحتمال البعيد أغلب على الظن من مخالفة ذلك الدليل وقد يكون ذلك الدليل قرينة وقد يكون قياسا وقد يكون ظاهرا آخر أقوى منه ورب تأويل لا ينقدح إلا بتقدير قرينة وإن لم تنقل القرينة كقوله عليه السلام إنما الربا في النسيئة فإنه يحمل على مختلفي الجنس ولا ينقدح هذا التخصيص إلا بتقدير واقعة وسؤال عن مختلفي الجنس ولكن يجوز تقدير
____________________

(1/196)


مثل هذه القرينة إذا اعتضد بنص وقوله عليه السلام لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء نص في إثبات ربا الفضل وقوله إنما الربا في النسيئة حصر للربا في النسيئة ونفي لربا الفضل فالجمع بالتأويل البعيد الذي ذكرناه أولى من مخالفة النص ولهذا المعنى كان الاحتمال البعيد كالقريب في العقليات فإن دليل العقل لا تمكن مخالفته بوجه ما والاحتمال البعيد يمكن أني يكون مرادا باللفظ بوجه ما فلا يجوز التمسك في العقليات إلا بالنص بالوضع الثاني وهو الذي لا يتطرق إليه احتمال قريب ولا بعيد ومهما كان الاحتمال قريبا وكان الدليل أيضا قريبا وجب على المجتهد الترجيح والمصير إلى ما يغلب على ظنه فليس كل تأويل مقبولا بوسيلة كل دليل بل ذلك يختلف ولا يدخل تحت ضبط إلا أنا نضرب أمثلة فيما يرتضي من التأويل وما لا يرتضي ونرسم في كل مثال مسألة ونذكر لأجل المثال عشر مسائل خمسة في تأويل العموم وخمسة في تخصيص العموم
مسألة ( فساد التأويل بقرائن ) التأويل وإن كان محتملا فقد تجتمع قرائن تدل على فساده وأحاد تلك القرائن لا تدفعه لكن يخرج بمجموعها عن أن يكون منقدحا غالبا مثاله قوله عليه السلام لغيلان حين أسلم على عشر نسوة أمسك أربعا وفارق سائرهن وقوله عليه السلام لفيروز الديلمي حين أسلم على أختين أمسك إحداهما وفارق الأخرى فإن ظاهر هذا يدل على دوام النكاح فقال أبو حنيفة أراد به ابتداء النكاح أي أمسك أربعا فأنكحهن وفارق سائرهن أي انقطع عنهن ولا تنكحهن ولا شك أن ظاهر لفظ الإمساك الاستصحاب والاستدامة وما ذكره أيضا محتمل ويعتضد أحتماله بالقياس إلا أن جملة من القرائن عضدت الظاهر وجعلته أقوى في النفس من التأويل أولها أنا نعلم أن الحاضرين من الصحابة لم يسبق إلى إفهامهم من هذه الكلمة إلا الاستدامة في النكاح وهو السابق إلى أفهامنا فإنا لو سمعناه في زماننا لكان هو السابق إلى أفهامنا
الثاني أنه قابل لفظ الإمساك بلفظ المفارقة وفوضه إلى اختياره فليكن الإمساك والمفارقة إليه وعندهم الفراق واقع والنكاح لا يصح إلا برضا المرأة
الثالث أنه لو أراد ابتداء النكاح لذكر شرائطه فإنه كان لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة وما أحوج جديد العهد بالإسلام إلى أن يعرف شروط النكاح
الرابع أنه لا يتوقع في اطراد العادة انسلاكهن في ربقة الرضا على حسب مراده بل ربما كان يمتنع جميعهن فكيف أطلق الأمر مع هذا الإمكان
الخامس أن قوله أمسك أمر وظاهره الإيجاب فكيف أوجب عليه ما لم يجب ولعله أراد أن لا ينكح أصلا
السادس أنه ربما أراد أن لا ينكحهن بعد أن قضى منهن وطرا فكيف حصره فيهن بل كان ينبغي أن يقول إنكح أربعا ممن شئت من نساء العالم من الأجنبيات فإنهن عندكم كسائر نساء العالم فهذا وأمثاله من القرائن ينبغي أن يلتفت إليها في تقرير التأويل ورده وآحادها لا يبطل الاحتمال لكن المجموع يشكك في صحة القياس المخالف للظاهر ويصير اتباع الظاهر بسببها أقوى في النفس من اتباع القياس والإنصاف أن ذلك يختلف بتنوع أحوال المجتهدين وإلا فلسنا نقطع ببطلان تأويل أبي حنيفة مع هذه القرائن وإنما المقصود تذليل الطريق للمجتهدين
مسألة ( التأويل في حديث غيلان الثقفي )
____________________

(1/197)


من تأويلاتهم في هذه المسألة أن الواقعة ربما وقعت في ابتداء الإسلام قبل الحصر في عدد النساء فكان على وفق الشرع وإنما الباطل من أنكحة الكفار ما يخالف الشرع كما لو جمع في صفقة واحدة بين عشر بعد نزول الحصر فنقول إذا سلم هذا أمكن القياس عليه لأن قياسهم يقتضي اندفاع جميع هذه الأنكحة كما لو نكح أجنبيتين ثم حدث بينهما أخوة برضاع اندفاع النكاح ولم يتخير ومع هذا فنقول هذا بناء تأويل على احتمال من غير نقل ولم يثبت عندنا رفع حجر في ابتداء الإسلام ويشهد له أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة زيادة على أربعة وهم الناكحون ولو كان جائزا لفارقوا عند نزول الحصر ولأوشك أن ينقل ذلك وقوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } النساء 23 أراد به زمان الجاهلية هذا ما ورد في التفسير فإن قيل فلو صح رفع حجر في الابتداء هل كان هذا الاحتمال مقبولا قلنا قال بعض أصحابنا الأصوليين لا يقبل لأن الحديث استقل حجة فلا يدفع بمجرد الاحتمال ما لم ينقل وقوع نكاح غيلان قبل نزول الحجر وهذا ضعيف لأن الحديث لا يستقل حجة ما لم ينقل تأخر نكاحه عن نزول الحصر لأنه إن تقدم فليس بحجة وإن تأخر فهو حجة فليس أحد الاحتمالين أولى من الآخر ولا تقوم الحجة باحتمال يعارضه غيره
مسألة ( هل يرفع التأويل النص ) قال بعض الأصوليين كل تأويل يرفع النص أو شيئا منه فهو باطل ومثاله تأويل أبي حنيفة في مسألة الأبدال حيث قال عليه الصلاة والسلام في أربعين شاة شاة فقال أبو حنيفة الشاة غير واجبة وإنما الواجب مقدار قيمتها من أي مال كان قال فهذا باطل لأن اللفظ نص في وجوب شاة وهذا رفع وجوب الشاة فيكون رفعا للنص فإن قوله { وآتوا الزكاة } النساء 77 للإيجاب وقوله عليه السلام في أربعين شاة شاة بيان للواجب وإسقاط وجوب الشاة رفع للنص وهذا غير مرضي عندنا فإن وجوب الشاة إنما يسقط بتجويز الترك مطلقا فأما إذا لم يجز تركها إلا ببدل يقوم مقامها فلا تخرج الشاة عن كونها واجبة فإن من أدى خصلة من خصال الكفارة المخير فيها فقد أدى واجبها وإن كان الوجوب يتأدى بخصلة أخرى فهذا توسيع للوجوب واللفظ نعى في أصل الوجوب لا في تعيينه وتصنيفه ولعله ظاهر في التعيين محتمل للتوسيع والتخيير وهو كقوله وليستنج بثلاثة أحجار فإن إقامة المدر مقامه لا يبطل وجوب الاستنجاء لكن الحجر يجوز أن يتعين ويجوز أن يتخير بينه وبين ما في معناه نعم إنما ينكر الشافعي هذا التأويل لا من حيث أنه نص لا يحتمل لكن من وجهين أحدهما أن دليل الخصم أن المقصود سد الخلة ومسلم أن سد الخلة مقصود لكن غير مسلم أنه كل المقصود فلعله قصد مع ذلك التعبد بإشراك الفقير في جنس مال الغني فالجمع بين الظاهر وبين التعبد ومقصود سد الخلة أغلب على الظن في العبادات لأن العبادات مبناها على الاحتياط من تجريد النظر إلى مجرد سد الخلة
الثاني أن التعليل بسد الخلة مستنبط من قوله في أربعين شاة شاة وهو استنباط يعود على أصل النص بالإبطال أو على الظاهر بالرفع وظاهره وجوب الشاة على التعيين فإبراز معنى لا يوافق الحكم السابق إلى الفهم من اللفظ لا معنى له لأن العلة ما يوافق الحكم والحكم لا
____________________

(1/198)


معنى له إلا ما يدل عليه ظاهر اللفظ وظاهر اللفظ يدل على تعيين الشاة وهذا التعليل يدفع هذا الظاهر وهذا أيضا عندنا في محل الاجتهاد فإن معنى سد الخلة ما يسبق إلى الفهم من إيجاب الزكاة للفقراء وتعيين الشاة يحتمل أن يكون للتعبد كما ذكر الشافعي رحمه الله ويحتمل أن لا يكون متعينا لكن الباعث على تعيينه شيئان أحدهما أن الأيسر على الملاك والأسهل في العبادات كما عين ذكر الحجر في الاستنجاء لأنه أكثر في تلك البلاد وأسهل وكما يقول المفتي وجبت عليه كفارة اليمين تصدق بعشرة أمداد من البر لأنه يرى ذلك أسهل عليه من العتق ويعلم من عادته أنه لو خير بينهما لاختار الإطعام على الإعتاق ليسره فيكون ذلك باعثا على تخصيصه بالذكر
والثاني أن الشاة معيار لمقدار الواجب فلا بد من ذكرها إذ القيمة تعرف بها وهي تعرف بنفسها فهي أصل على التحقيق ولو فسر النبي عليه الصلاة والسلام كلامه بذلك لم يكن متناقضا ولكان حكما بأن البدل يجري في الزكاة فهذا كله في محل الاجتهاد وإنما تشمئز عنه طباع من لم يأنس بتوسع العرب في الكلام وظن اللفظ نصا في كل ما يسبق إلى الفهم منه فليس يبطل الشافعي رحمه الله هذا الانتفاء الاحتمال لكن لقصور الدليل الذي يعضده ولإمكان كون التعبد مقصودا مع سد الخلة ولأنه ذكر الشاة في خمس من الإبل وليس من جنسه حتى يكون للتسهيل ثم في الجبران ردد بين شاة وعشرة دراهم ولم يردهم إلى قيمة الشاة وفي خمس من الإبل لم يردد فهذه قرائن تدل على التعبد والباب باب التعبد والاحتياط فيه أولى
مسألة ( تأويل آية مصارف الزكاة ) يقرب مما ذكرنا تأويل الآية في مسألة أصناف الزكاة فقال قوم قوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } التوبة 60 الآية نص في التشريك فالصرف إلى واحد إبطال له وليس كذلك عندنا بل هو عطف على قوله تعالى { ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } التوبة 58 إلى قوله { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } التوبة 60 يعني أن طمعهم في الزكاة مع خلوهم عن شرط الاستحقاق باطل ثم عدد شروط الاستحقاق ليبين مصرف الزكاة ومن يجوز صرف الزكاة إليه فهذا محتمل فإن منعه فللقصور في دليل التأويل لا لانتفاء الاحتمال فهذا وأمثاله ينبغي أن يسمى نصا بالوضع الأول أو الثالث أما بالوضع الثاني فلا
مسألة ( هل المعتبر العدد أم الجنس ) قال قوم قوله تعالى { فإطعام ستين مسكينا } المجادلة 4 نص في وجوب رعاية العدد ومنع الصرف إلى مسكين واحد في ستين يوما وقطعوا ببطلان تأويله وهو عندنا من جنس ما تقدم فإنه إن أبطل لقصور الاحتمال وكون الآية نصا بالوضع الثاني فهو غير مرضي فإنه يجوز أن يكون ذكر المساكين لبيان مقدار الواجب ومعناه فإطعام طعام ستين مسكينا وليس هذا ممتنعا في توسع لسان العرب نعم دليله تجريد النظر إلى سد الخلة والشافعي يقول لا يبعد أن يقصد الشرع ذلك لإحياء ستين مهجة تبركا بدعائهم وتحصنا عن حلول العذاب بهم ولا يخلو جمع من المسلمين عن ولي من الأولياء يغتنم دعاؤه ولا دليل على بطلان هذا المقصود فتصير الآية نصا بالوضع الأول والثالث لا بالوضع الثاني
____________________

(1/199)


هذه أمثلة التأويل ولنذكر أمثلة التخصيص فإن العموم إن جعلنا ظاهرا في الاستغراق لم يكن في التخصيص إلا إزالة ظاهر فلأجل ذلك عجلنا ذكر هذا القدر وإلا فبيانه في القسم الرابع المرسوم لبيان العموم أليق
مسألة ( أقسام العموم ) إعلم أن العموم عند من يرى التمسك به ينقسم إلى قوي يبعد عن قبول التخصيص إلا بدليل قاطع أو كالقاطع وهو الذي يحوج إلى تقدير قرينة حتى تنقدح إرادة الخصوص به وإلى ضعيف ربما يشك في ظهوره ويقتنع في تخصيصه بدليل ضعيف وإلى متوسط مثال القوي منه قوله صلى الله عليه وسلم أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل الحديث وقد حمله الخصم على الأمة فنبا عن قبوله قوله فلها المهر بما استحل من فرجها فإن مهر الأمة للسيد فعدلوا إلى الحمل على المكاتبة وهذا تعسف ظاهر لأن العموم قوي والمكاتبة نادرة بالإضافة إلى النساء وليس من كلام العرب إرادة النادر الشاذ باللفظ الذي ظهر منه قصد العموم إلا بقرينة تقترن باللفظ وقياس النكاح على المال وقياس الإناث على الذكور ليس قرينة مقترنة باللفظ حتى يصلح لتنزيله على صورة نادرة ودليل ظهور قصد التعمم بهذا اللفظ أمور الأول أنه صدر الكلام بأي وهي من كلمات الشرط ولم يتوقف في عموم أدوات الشرط جماعة ممن توقف في صيغ العموم
الثاني أنه أكده بما فقال أيما وهي من المؤكدات المستقلة بإفادة العموم أيضا
الثالث أنه قال فنكاحها باطل رتب الحكم على الشرط في معرض الجزاء وذلك أيضا يؤكد قصد العموم ونحن نعلم أن العربي الفصيح لو اقتراح عليه بأن يأتي بصيغة عامة دالة على قصد العموم مع الفصاحة والجزالة لم تسمح قريحته بأبلغ من هذه الصيغة ونحن نعلم قطعا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا من هذه الصيغة المكاتبة وأنا لو سمعنا واحدا منا يقول لغيره أيما امرأة رأيتها اليوم فأعطها درهما لا يفهم منه المكاتبة ولو قال أردت المكاتبة نسب إلى الألغاز والهزء ولو قال أيما أهاب دبغ فقد طهر ثم قال أردت به الكلب أو الثعلب على الخصوص لنسب إلى اللكنة والجهل باللغة ثم لو أخرج الكلب أو الثعلب أو المكاتبة وقال ما خطر ذلك ببالي لم يستنكر فما لا يخطر بالبال أو بالأخطار وجاز أن يشذ عن ذكر اللافظ وذهنه حتى جاز إخراجه عن اللفظ كيف يجوز قصر اللفظ عليه بل نقول من ذهب إلى إنكار صيغ العموم وجعلها مجملة فلا ينكر منع التخصيص إذا دلت القرائن عليه فالمريض إذا قال لغلامه لا تدخل علي الناس فأدخل عليه جماعة من الثقلاء وزعم أني أخرجت هذا من عموم لفظ الناس فإنه ليس نصا في الاستغراق استوجب التعزيز فلنتخذ هذه المسألة مثالا لمنع التخصيص بالنوادر
مسألة ( مثال عن العام القوي ) يقرب من هذا قوله عليه الصلاة والسلام من ملك ذا رحم محرم عتق عليه إذ قبله بعض أصحاب الشافعي وخصصه بالأب وهذا بعيد لأن الأب يختص بخاصية تتقاضى تلك الخاصية التنصيص عليه فيما يوجب الاحترام والعدول عن لفظه الخاص إلى لفظ يعم قريب من الألغاز والألباس ولا يليق بمنصب الشارع عليه السلام إلا إذا اقترن به قرينة معرفة ولا سبيل إلى وضع القرائن من غير ضرورة وليس قياس الشافعي في تخصيص
____________________

(1/200)


النفقة بالبعضية بالغا في القوة مبلغا ينبغي أن يخترع تقدير القرائن بسببه فلو صح هذا اللفظ لعمل الشافعي رحمه الله بموجبه فإن من كان من عادته إكرام أبيه فقال من عادتي إكرام الناس كان ذلك خلفا من الكلام ولكن قال الشافعي الحديث موقوف على الحسن بن عمارة
مسألة ( مثال عن العام الضعيف ) ما ذكرناه مثال العموم القوي أما مثال العموم الضعيف فقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وفيما سقي ينضح أو دالية نصف العشر فقد ذهب بعض القائلين بصيغ العموم إلى أن هذا لا يحتج به في إيجاب العشر ونصف العشر في جميع ما سقته السماء ولا في جميع ما سقي بنضح لأن المقصود منه الفرق بين العشر ونصف العشر لا بيان ما يجب فيه العشر حتى يتعلق بعمومه وهذا فيه نظر عندنا إذ لا يبعد أن يكون كل واحد مقصودا وهو إيجاب العشر في جميع ما سقته السماء وإيجاب نصفه في جميع ما سقي بنضح واللفظ عام في صيغته فلا يزول ظهوره بمجرد الوهم لكن يكفي في التخصيص أدنى دليل لكنه لو لم يرد إلا بهذا اللفظ ولم يرد دليل مخصص لوجب التعميم في الطرفين على مذهب من يرى صيغ العموم حجة
مسألة ( تأويل آية الأنفال ) قال الله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى } الأنفال 41 فقال أبو حنيفة تعتبر الحاجة مع القرابة ثم جوز حرمان ذوي القربى فقال أصحاب الشافعي رحمه الله هذا تخصيص باطل لا يحتمله اللفظ لأنه أضاف المال إليهم بلام التمليك وعرف كل جهة بصفة وعرف هذه الجهة في الاستحقاق بالقرابة وأبو حنيفة ألغى القرابة المذكورة واعتبر الحاجة المتروكة وهو مناقضة للفظ لا تأويل وهذا عندنا في مجال الاجتهاد وليس فيه إلا تخصيص عموم لفظ ذوي القربى بالمحتاجين منهم كما فعله الشافعي على أحد القولين في اعتبار الحاجة مع اليتم في سياق هذه الآية فإن قيل لفظ اليتم ينبىء عن الحاجة قيل فلم لا يحمل عليه قوله لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر فإن قيل قرينة إعطاء المال هي التي تنبه على اعتبار الحاجة مع اليتم فله هو أن يقول واقتران ذوي القربى باليتامى والمساكين قرينة أيضا وإنما دعا إلى ذكر القرابة كونهم محرومين عن الزكاة حتى يعلم أنهم ليسوا محرومين عن هذا المال وهذا تخصيص لو دل عليه دليل فلا بد من قبوله فليس ينبو عنه اللفظ نبوة حديث النكاح بلا ولي عن المكاتبة
مسألة ( تأويل نية الصيام ) قوله عليه السلام لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل حمله أبو حنيفة على القضاء والنذر فقال أصحابنا قوله لا صيام نفي عام لا يسبق منه إلى الفهم إلا الصوم الأصلي الشرعي وهو الفرض والتطوع ثم التطوع غير مراد فلا يبقى إلا الفرض الذي هو ركن الدين وهو صوم رمضان وأما القضاء والنذر فيجب بأسباب عارضة ولا يتذكر بذكر الصوم مطلقا ولا يخطر بالبال بل يجري مجرى النوادر كالمكاتبة في مسألة النكاح وهذا فيه نظر إذ ليس ندور القضاء والنذر كندور المكاتبة وإن كان الفرض أسبق منه إلى الفهم ==

ج 2.

المستصفى في علم الأصول
محمد بن محمد الغزالي أبو حامد
سنة الولادة 450/ سنة الوفاة 505 . 

== فيحتاج مثل هذا التخصيص إلى دليل قوي فليس يظهر بطلانه كظهور بطلان التخصيص بالمكاتبة وعند هذا يعلم أن إخراج النادر قريب والقصر على النادر ممتنع وبينهما درجات متفاوتة في القرب والبعد لا تدخل تحت الحصر ولكل مسألة ذوق ويجب أن تفرد بنص خاص ويليق ذلك بالفروع ولم نذكر هذا القدر إلا لوقوع الأنس بجنس التصرف فيه والله أعلم
هذا تمام النظر في المجمل والمبين والظاهر والمؤول وهو نظر يتعلق بالألفاظ كلها والقسمان الباقيان نظر أخص فإنه نظر في الأمر والنهي خاصة وفي العموم والخصوص خاصة فلذلك قدمنا النظر في الأعم على النظر في الأخص
القسم الثالث في الأمر والنهي فنبدأ بالأمر فنقول أولا في حده وحقيقته وثانيا في صيغته وثالثا في مقتضاه من الفور والتراخي أو الوجوب أو الندب وفي التكرار والاتحاد وإثباته
النظر الأول في حده وحقيقته وهو قسم من أقسام الكلام إذ بينا أن الكلام ينقسم إلى أمر ونهي وخبر واستخبار فالأمر أحد أقسامه وحد الأمر أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به والنهي هو القول المقتضي ترك الفعل وقيل في حد الأمر أنه طلب الفعل واقتضاؤه على غير وجه المسألة وممن هو دون الآمر في الدرجة احترازا عن قوله اللهم اغفر لي وعن سؤال العبد من سيده والولد من والده ولا حاجة إلى هذا الاحتراز بل يتصور من العبد والولد أمر السيد والوالد وإن لم تجب عليهما الطاعة فليس من ضرورة كل أمر أن يكون واجب الطاعة بل الطاعة لا تجب إلا لله تعالى والعرب قد تقول فلان أمر أباه والعبد أمر سيده ومن يعلم أن طلب الطاعة لا يحسن منه فيرون ذلك أمرا وإن لم يستحسنوه وكذلك قوله اغفر لي فلا يستحيل أن يقوم بذاته اقتضاء الطاعة من الله تعالى أو من غيره فيكون آمرا ويكون عاصيا بأمره فإن قيل قولكم الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور أردتم به القول باللسان أو كلام النفس قلنا الناس فيه فريقان الفريق الأول هم المثبتون لكلام النفس وهؤلاء يريدون بالقول ما يقوم بالنفس من اقتضاء الطاعة وهو الذي يكون النطق عبارة عنه ودليلا عليه وهو قائم بالنفس وهو أمر بذاته وجنسه ويتعلق بالمأمور به وهو كالقدرة فإنها قدرة لذاتها وتتعلق بمتعلقها ولا يختلف في الشاهد والغائب في نوعه وحده وينقسم إلى قديم ومحدث كالقدرة ويدل عليه تارة بالإشارة والرمز والفعل وتارة بالألفاظ فإن سميت الإشارة المعرفة أمرا فمجاز لأنه دليل على الأمر لا أنه نفس الأمر وأما الألفاظ فمثل قوله أمرتك فاقتضى طاعته وهو ينقسم إلى إيجاب وندب ويدل على معنى الندب بقوله ندبتك ورغبتك فافعل فإنه خير لك وعلى معنى الوجوب بقوله أوجبت عليك أو فرضت أو حتمت فافعل فإن تركت فأنت معاقب وما يجري مجراه وهذه الألفاظ الدالة على معنى الأمر تسمى أمرا وكأن الاسم مشترك بين المعنى القائم بالنفس وبين اللفظ الدال فيكون حقيقة فيهما أو يكون حقيقة في المعنى القائم بالنفس وقوله إفعل يسمى أمرا مجازا كما تسمى الإشارة المعرفة أمرا مجازا ومثل هذا الخلاف جاز في اسم الكلام أنه مشترك بين ما في النفس وبين اللفظ أو هو مجاز في اللفظ
الفريق الثاني هم المنكرون 

 لكلام النفس وهؤلاء انقسموا إلى ثلاثة أصناف وتحزبوا على ثلاث مراتب الحزب الأول قالوا لا معنى للأمر إلا حرف وصوت وهو مثل قوله إفعل أو ما يفيد معناه وإليه ذهب البلخي من المعتزلة وزعم أن قوله إفعل أمر لذاته وجنسه وأنه لا يتصور أن لا يكون أمرا فقيل له هذه الصيغة قد تصدر للتهديد كقوله اعملوا ما شئتم وقد تصدر للإباحة كقوله { وإذا حللتم فاصطادوا } المائدة 2 فقال ذلك جنس آخر لا من هذا الجنس وهو مناكرة للحس فلما استشعر ضعف هذه المجاحدة اعترف
الحزب الثاني وفيهم جماعة من الفقهاء يقولون إن قوله أفعل ليس أمرا بمجرد صيغته ولذاته بل لصيغته وتجرده عن القرائن الصارفة له عن جهة الأمر إلى التهديد والإباحة وغيره وزعموا أنه لو صدر من النائم والمجنون أيضا لم يكن أمرا للقرينة وهذا بعارضه قوله من قال أنه لغير الأمر إلا إذا صرفته قرينة إلى معنى الأمر لأنه إذا سلم إطلاق العرب هذه الصيغة على أوجه مختلفة فحوالة البعض على الصيغة وحوالة الباقي على القرينة تحكم مجرد لا يعلم بضرورة العقل ولا بنظر ولا بنقل متواتر من أهل اللغة فيجب التوقف فيه فعند ذلك اعترف
الحزب الثالث من محققي المعتزلة أنه ليس أمر الصيغة وذاته ولا لكونه مجردا عن القرائن مع الصيغة بل يصير أمرا بثلاث إرادات إرادة المأمور به وإرادة إحداث الصيغة وإرادة الدلالة بالصيغة على الأمر دون الإباحة والتهديد وقال بعضهم تكفي إرادة واحدة وهي إرادة المأمور وهذا فاسد من أوجه الأول أنه يلزم أن يكون قوله تعالى { ادخلوها بسلام آمنين } الحجر 46 وقوله { كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية } الحاقة 24 أمرا لأهل الجنة ولا يمكن تحقيق الأمر إلا بوعد ووعيد فتكون الدار الآخرة دار تكليف ومحنة وهو خلاف الاجماع
وقد ركب ابن الجبائي هذا وقال إن الله مريد دخولهم الجنة وكاره امتناعهم إذ يتعذر به إيصال الثواب إليهم وهذا ظلم والله سبحانه يكره الظلم فإن قيل قد وجدت إرادة الصيغة وإرادة المأمور به لكن لم توجد إرادة الدلالة به على الأمر قلنا وهل للأمر معنى وراء الصيغة حتى تراه الدلالة عليه أم لا فإن كان له معنى فما هو وهل له حقيقة سوى ما يقول بالنفس من اقتضاء الطاعة وإن لم يكن سوى الصيغة فلا معنى لاعتبار هذه الإرادة الثالثة
الوجه الثاني أنه يلزمهم أن يكون القائل لنفسه إفعل مع إرادة الفعل من نفسه آمرا لنفسه وهو محال بالاتفاق فإن الأمر هو المقتضى وأمره لنفسه لا يكون مقتضيا للفعل بل المقتضي دواعيه وأغراضه ولهذا لو قال لنفسه إفعل وسكت وجد هاهنا إرادة الصيغة وإرادة المأمور به وليس بأمر فدل أن حقيقته اقتضاء الطاعة وهو معنى قائم بالنفس من ضرورته أن يتعلق بغيره وهل يشترط أن لا يكون ذلك الغير فوقه في الرتبة فيه كلام سبق فإن قيل وما الدليل على قيام معنى بالنفس سوى إرادة الفعل المأمور به فإن السيد لا يجد من نفسه عند قوله لعبده إسقني أو أسرج الدابة إلا إرادة السقي
____________________

(1/203)


والإسراج أعني طلبه والميل إليه لارتباط غرضه به فإن ثبت أن الأمر يرجع إلى هذه الإرادة لزم إقتران الأمر والإرادة في حق الله تعالى حتى لا تكون المعاصي الواقعة إلا مأمورا بها مرادة إذ الكائنات كلها مرادة أو ينكر وقوعها بإرادة الله فيقال إنها على خلاف إرادته وهو شنيع إذ يؤدي إلى أن يكون ما يجري في ملكه على خلاف ما أراد أكثر مما يجري على وفق إرادته وهي الطاعات وذلك أيضا منكر فما المخلص من هذه الورطة قلنا هذه الضرورة التي دعت الأصحاب إلى تمييز الأمر عن الإرادة فقالوا قد يأمر السيد عبده بما لا يريده كالمعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده إذا مهد عنده عذره لمخالفة أوامره فقال له بين يدي الملك أسرج الدابة وهو يريد أن لا يسرج إذ في إسراجه خطر وإهلاك للسيد فيعلم أنه لا يريده وهو آمرا إذ لولاه لما كان العبد مخالفا ولما تمهد عذره عند السلطان وكيف لا يكون آمرا وقد منهم العبد والسلطان والحاضرون منه الأمر فدل أنه قد يأمر بما لا يريده هذا منتهى كلامهم وتحته غور لو كشفناه لم تحتمل الأصول التفصي عن عهدة ما يلزم منه ولتزلزلت به قواعد لا يمكن تداركها إلا بتفهيمها على وجه يخالف ما سبق إلى أوهام أكثر المتكلمين والقول فيه يطول ويخرج عن خصوص مقصود الأصول
النظر الثاني في الصيغة وقد حكى بعض الأصوليين خلافا في أن الأمر هل له صيغة وهذه الترجمة خطأ فإن قول الشارع أمرتكم بكذا وأنتم مأمورون بكذا أو قول الصحابي أمرت بكذا كل ذلك صيغ دالة على الأمر وإذا قال أوجبت عليكم أو فرضت عليكم أو أمرتكم بكذا وأنتم معاقبون على تركه فكل ذلك يدل على الوجوب ولو قال أنتم مثابون على فعل كذا ولستم معاقبين على تركه فهو صيغة دالة على الندب فليس في هذا خلاف وإنما الخلاف في أن قوله إفعل هل يدل على الأمر بمجرد صيغته إذا تجرد عن القرائن فإنه قد يطلق على أوجه منها بالوجوب كقوله أقم الصلاة والندب كقوله فكاتبوهم والإرشاد كقوله واستشهدوا والإباحة كقوله فاصطادوا والتأديب كقوله لابن عباس كل مما يليك والامتنان كقوله كلوا مما رزقكم الله وإلا كرام كقوله { ادخلوها بسلام آمنين } الحجر 46 والتهديد كقوله { اعملوا ما شئتم } فصلت 40 والتسخير كقوله { كونوا قردة خاسئين } البقرة 65 والإهانة كقوله { ذق إنك أنت العزيز الكريم } الدخان 49 والتسوية كقوله { فاصبروا أو لا تصبروا } الطور 16 والإنذار كقوله { كلوا وتمتعوا } المرسلات 46
والدعاء كقوله اللهم اغفر لي والتمني كقول الشاعر ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ولكمال القدرة كقوله { كن فيكون } يس 82
وأما صيغة النهي وهو قوله لا تفعل فقد تكون للتحريم وللكراهية والتحقير كقوله { لا تمدن عينيك } الحجر 88 ولبيان العاقبة كقوله { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } إبراهيم 42 وللدعاء كقوله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولليأس كقوله { لا تعتذروا اليوم } التحريم 7 وللإرشاد كقوله { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } المائدة
____________________

(1/204)


101 ) فهذه خمسة عشر وجها في إطلاق صيغة الأمر وسبعة أوجه في إطلاق صيغة النهي فلا بد من البحث عن الوضع الأصلي في جملة ذلك ما هو والمتجوز به ما هو وهذه الأوجه عدها الأصوليون شغفا منهم بالتكثير وبعضها كالمتداخل فإن قوله كل مما يليك جعل للتأديب وهو داخل في الندب والآداب مندوب إليها وقوله { للآخرة } المرسلات 46 للإنذار قريب من قوله { اعملوا ما شئتم } فصلت 40 الذي هو للتهديد ولا نطول بتفصيل ذلك وتحصيله فالوجوب والندب والإرشاد والإباحة أربعة وجوه محصلة ولا فرق بين الإرشاد والندب إلا أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد للتنبيه على المصلحة الدنيوية فلا ينقص ثواب بترك الإشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله
وقال قوم هو مشترك بين هذه الوجوه الخمسة عشر كلفظ العين والقرء وقال قوم يدل على أقل الدرجات وهو الإباحة وقال قوم هو للندب ويحمل على الوجوب بزيادة قرينة وقال قوم هو للوجوب فلا يحمل على ما عداه إلا بقرينة وسبيل كشف الغطاء أن نرتب النظر على مقامين الأول في بيان أن هذه الصيغة هل تدل على اقتضاء وطلب أم لا
والثاني في بيان أنه إن اشتمل في اقتضاء والإقتضاء موجود في الندب والوجوب على اختيارنا في أن الندب داخل تحت الأمر فهل يتعين لأحدهما أو هو مشترك
المقام الأول في دلالته على اقتضاء الطاعة فنقول قد أبعد من قال أن قوله إفعل مشترك بين الإباحة والتهديد الذي هو المنع وبين الاقتضاء فإنا ندرك التفرقة في وضع اللغات كلها بين قولهم إفعل ولا تفعل وإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل حتى إذا قدرنا انتفاء القرائن كلها وقدرنا هذا منقولا على سبيل الحكاية عن ميت أو غائب لا في فعل معين من قيام وقعود وصيام وصلاة بل في الفعل مجملا سبق إلى فهمنا اختلاف معاني هذه الصيغ وعلمنا قطعا أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد كما أنا ندرك التفرقة بين قولهم في الأخبار قام زيد ويقوم زيد وزيد قائم في أن الأول للماضي والثاني للمستقبل الثالث للحال هذا هو الوضع وإن كان قد يعبر بالماضي عن المستقبل والثالث للحال هذا هو الوضع وإن كان قد يعبر بالماضي عن المستقبل وبالمستقبل عن الماضي لقرائن تدل عليه وكما ميزوا الماضي عن المستقبل ميزوا الأمر عن النهي وقالوا في باب الأمر إفعل وفي باب النهي لا تفعل وإنهما لا ينبئان عن معنى قوله إن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل فهذا أمر نعلمه بالضرورة من العربية والتركية والعجمية وسائر اللغات لا يشككنا فيه لطلاق مع قرينة التهديد ومع قرينة الإباحة في نوادر الأحوال فإن قيل بم تنكرون على من يحمله على الإباحة لأنها أقل الدرجات فهو مستيقن قلنا هذا باطل من وجهين أحدهما أنه محتمل للتهديد والمنع فالطريق الذي يعرف أنه لم يوضع للتهديد يعرف أنه لم يوضع للتخيير
الثاني أن هذا من قبيل الاستصحاب لا من قبيل البحث عن الوضع فإنا نقول هل تعلم أن مقتضى قوله إفعل للتخيير بين الفعل والترك فإن قال نعم فقد باهت واخترع وإن قال لا فنقول فأنت شاك في معناه فيلزمك التوقف فيحصل من هذا أن قوله إفعل يدل على ترجيح جانب الفعل على جانب الترك
____________________

(1/205)


بأنه ينبغي أن يوجد وقوله لا تفعل يدل على ترجيح جانب الترك على جانب الفعل وأنه ينبغي أن لا يوجد وقوله أبحت لك فإن شئت فافعل وإن شئت فلا تفعل يرفع الترجيح
المقام الثاني في ترجيح بعض ما ينبغي أن يوجد فإن الواجب والمندوب كل واحد منهما ينبغي أن يوجد ويرجح فعله على تركه وكذا ما أرشد إليه إلا أن الإرشاد يدل على أنه ينبغي أن يوجد ويرجح فعله على تركه لمصلحة العبد في الدنيا والندب لمصلحته في الآخرة والوجوب لنجاته في الآخرة هذا إذا فرض من الشارع وفي حق السيد إذا قال لعبده إفعل أيضا يتصور ذلك مع زيادة أمر وهو أن يكون لغرض السيد فقط كقوله إسقني عند العطش وهو غير متصور في حق الله تعالى فإن الله غني عن العالمين ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه وقد ذهب ذاهبون إلى أن وضعه للوجوب وقال قوم هو للندب وقال قوم يتوقف فيه ثم منهم من قال هو مشترك كلفظ العين ومنهم من قال لا ندري أيضا أنه مشترك أو وضع لأحدهما واستعمل في الثاني مجازا والمختار أنه متوقف فيه والدليل القاطع فيه أن كونه موضوعا لواحد من الأقسام لا يخلو إما أن يعرف عن عقل أو نقل ونظر العقل إما ضروري أو نظري ولا مجال للعقل في اللغات والنقل إما متواتر أو آحاد ولا حجة في الآحاد والتواتر في النقل لا يعدو أربعة أقسام فإنه إما أن ينقل عن أهل اللغة عند وضعهم أنهم صرحوا بأنا وضعناه لكذا أو أقروا به بعد الوضع وإما أن ينقل عن الشارع الأخبار عن أهل اللغة بذلك أو تصديق من ادعى ذلك وإما أن ينقل عن أهل الإجماع وإما أن يذكر بين يدي جماعة يمتنع عليهم السكوت على الباطل فهذه الوجوه الأربعة هي وجوه تصحيح النقل ودعوى شيء من ذلك في قوله إفعل أو في قوله أمرتك بكذا أو قول الصحابي أمرنا بكذا لا يمكن فوجب التوقف فيه وكذلك قصر دلالة الأمر على الفور أو التراخي وعلى التكرار أو الاتحاد يعرف بمثل هذه الطريق وكذلك التوقف في صيغة العموم عمن توقف فيها هذا مستنده وعليه ثلاثة أسئلة بها يتم الدليل ونذكر شبه المخالفين السؤال الأول قولهم إن هذا ينقلب عليكم في إخراج الإباحة والتهديد من مقتضى اللفظ مع أنه لا يدل عليه عقل ولا نقل فإنه لم ينقل عن العرب صريحا بأنا ما وضعنا هذه الصيغة للإباحة والتهديد لكن استعملناها فيهما على سبيل التجوز قلنا ما يعرف باستقراء اللغة وتصفح وجوه الاستعمال أقوى مما يعرف بالنقل الصريح ونحن كما عرفنا أن الأسد وضع لسبع والحمار وضع لبهيمة وإن كان كل واحد منهما يستعمل في الشجاع والبليد فيتميز عندنا بتواتر الاستعمال الحقيقة من المجاز فكذلك يتميز صيغة الأمر والنهي والتخيير تميز صيغة الماضي والمستقبل والحال ولسنا نشك فيه أصلا وليس كذلك تميز الوجوب عن الندب
السؤال الثاني قولهم إن هذا ينقلب عليكم في الوقف فإن الوقف في هذه الصيغة غير منقول عن العرب فلم توقفتم بالتحكم قلنا لسنا نقول التوقف مذهب لكنهم أطلقوا هذه الصيغة للندب مرة وللوجوب أخرى ولم يوقفونا على أنه موضوع لأحدهما دون الثاني
____________________

(1/206)


فسبيلنا أن لا ننسب إليهم ما لم يصرحوا به وأن نتوقف عن التقول والاختراع عليهم وهذا كقولنا بالاتفاق أنا رأيناهم يستعملون لفظ الفرقة والجماعة والنفر تارة في الثلاثة وتارة في الأربعة وتارة في الخمسة فهي لفظة مرددة ولا سبيل إلى تخصيصها بعدد على سبيل الحكم وجعلها مجازا في الباقي
السؤال الثالث قولهم إن هذا ينقلب عليكم في قولكم إن هذه الصيغة مشتركة اشتراك لفظ الجارية بين المرأة والسفينة والقرء بين الطهر والحيض فإنه لم ينقل أنه مشترك قلنا لسنا نقول أنه مشترك لكنا نقول نتوقف في هذه أيضا فلا ندري أنه وضع لأحدهما وتجوز به عن الآخر أو وضع لهما معا ويحتمل أن نقول أنه مشترك بمعنى أنا إذا رأيناهم أطلقوا اللفظ لمعنيين ولم يوقفونا على أنهم وضعوه لأحدهما وتجوزوا به في الآخر فنحمل إطلاقهم فيهما على لفظ الوضع لهما وكيفما قلنا فالأمر فيه قريب
شبه المخالفين الصائرين إلى أنه للندب وقد ذهب إليه كثير من المتكلمين وهم المعتزلة وجماعة من الفقهاء ومنهم من نقله عن الشافعي وقد صرح الشافعي في كتاب أحكام القرآن بتردد الأمر بين الندب والوجوب وقال النهي على التحريم فقال إنما أوجبنا تزويج الأيم لقوله تعالى { فلا تعضلوهن } البقرة 232 وقال لم يتبين لي وجوب إنكاح العبد لأنه لم يرد فيه النهي عن العضل بل لم يرد إلا قوله تعالى { قل } النور 32 الآية فهذا أمر وهو محتمل للوجوب والندب
الشبهة الأولى لمن ذهب إلى أنه للندب أنه لا بد من تنزيل قوله إفعل وقوله أمرتكم على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب وهو طلب الفعل واقتضاؤه وأن فعله خير من تركه وهذا معلوم وأما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم فيتوقف فيه وهذا فاسد من ثلاثة أوجه الأول أن هذا استدلال والاستدلال لا مدخل له في اللغات وليس هذا نقلا عن أهل اللغة قوله إفعل للندب
الثاني أنه لو وجب تنزيل الألفاظ على الأقل المستيقن لوجب تنزيل هذا على الإباحة والإذن إذ قد يقال أذنت لك في كذا فافعله فهو الأقل المشترك أما حصول الثواب بفعله فليس بمعلوم كلزوم العقاب بتركه لا سيما على مذهب المعتزلة فالمباح عندهم حسن ويجوز أن يفعله الفاعل لحسنه ويأمر به وكذلك يلزم تنزيل صيغة الجمع على أقل الجمع ولم يذهبوا إليه
الثالث وهو التحقيق أن ما ذكروه إنما يستقيم أن لو كان الواجب ندبا وزيادة فتسقط الزيادة المشكوك فيها ويبقى الأصل وليس كذلك بل يدخل في حد الندب جواز تركه فهل تعلمون أن المقول فيه إفعل يجوز تركه أم لا فإن لم تعلموه فقد شككتم في كونه ندبا وإن علمتموه فمن أين ذلك واللفظ لا يدل على لزوم المأثم بتركه فلا يدل على سقوط المأثم بتركه أيضا
فإن قيل لا معنى لجواز تركه إلا أنه لا حرج عليه في فعله وذلك كان معلوما قبل ورود السمع فلا يحتاج فيه إلى تعريف السمع بخلاف لزوم المأثم قلنا لا يبقى لحكم العقل بالنفي بعد ورود صيغة الأمر حكم فإنه معين للوجوب عند قوم فلا أقل من احتمال حصل الشك في كونه ندبا فلا
____________________

(1/207)


وجه إلا التوقف نعم يجوز الاستدلال به على بطلان قول من يقول أنه منهي عنه محرم لأنه ضد الوجوب والندب جميعا
الشبهة الثانية التمسك بقوله عليه السلام إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا ففوض الأمر إلى استطاعتنا ومشيئتنا وجزم في النهي طلب الانتهاء قلنا هذا اعتراف بأنه من جهة اللغة والوضع ليس للندب واستدلال بالشرع ولا يثبت مثل ذلك بخبر الواحد لو صحت دلالته كيف ولا دلالة له إذ لم يقل فافعلوا ما شئتم بل قال ما استطعتم كما قال فاتقوا الله ما استطعتم وكل إيجاب مشروط بالاستطاعة وأما قوله فانتهوا كيف دل على وجوب الانتهاء وقوله فانتهوا صيغة أمر وهو محتمل للندب
شبه الصائرين إلى أنه للوجوب وجميع ما ذكرناه في إبطال مذهب الندب جار هاهنا وزيادة وهو أن الندب داخل تحت الأمر حقيقة كما قدمناه ولو حمل على الوجوب لكان مجازا في الندب وكيف يكون مجازا فيه مع وجود حقيقته إذ حقيقة الأمر ما يكون ممتثله مطيعا والممتثل مطيع بفعل الندب ولذلك إذا قيل أمرنا بكذا حسن أن يستفهم فيقال أمر إيجاب أو أمر استحباب وندب ولو قال رأيت أسدا لم يحسن أن يقال أردت سبعا أو شجاعا لأنه موضوع للسبع ويصرف إلى الشجاع بقرينة وشبههم سبع الأولى قولهم إن المأمور في اللغة والشرع جميعا يفهم وجوب المأمور به حتى لا يسبعد الذم والعقاب عند المخالفة ولا الوصف بالعصيان وهم اسم ذم ولذلك فهمت الأمة وجوب الصلاة والعبادات ووجوب السجود لآدم بقوله إسجدوا وبه يفهم العبد والولد وجوب أمر السيد والوالد قلنا هذا كله نفس الدعوى وحكاية المذهب وليس شيء من ذلك مسلما وكل ذلك علم بالقرائن فقد تكون للآمر عادة مع المأمور وعهد وتقترن به أحوال وأسباب بها يفهم الشاهد الوجوب واسم العصيان لا يسلم إطلاقه على وجه الذم إلا بعد قرينة الوجوب لكن قد يطلق لا على وجه الذم كما يقال أشرت عليك فعصيتني وخالفتني
الشبهة الثانية أن الإيجاب من المهمات في المحاورات فإن لم يكن قولهم إفعل عبارة عنه فلا يبقى له اسم ومحال إهمال العرب ذلك قلنا هذا يقابله أن الندب أمر مهم فليكن إفعل عبارة عنه فإن زعموا أن دلالته قولهم ندبت وأرشدت ورغبت فدلالة الوجوب قولهم أوجبت وحتمت وفرضت وألزمت فإن زعموا أنه صيغة إخبار أو صيغة إرشاد فأين صيغة الإنشاء عورضوا بمثله في الندب ثم يبطل عليهم بالبيع والإجارة والنكاح إذ ليس لها إلا صيغة الأخبار كقولهم بعت وزوجت وقد جعله الشرع إنشاء إذ ليس لإنشائه لفظ
الشبهة الثالثة أن قوله إفهل إما أن يفيد المنع أو التخيير أو الدعاء فإذا بطل التخيير والمنع تعين الدعاء والإيجاب قلنا بل يبقى قسم رابع وهو أن لا يفيد واحدا من
____________________

(1/208)


الأقسام إلا بقرينة كالألفاظ المشتركة فإن قيل أليس قوله لا تفعل أفاد التحريم فقوله إفعل ينبغي أن يفيد الإيجاب قلنا هذا قد نقل عن الشافعي والمختار أن قوله لا تفعل متردد بين التنزيه والتحريم كقوله إفعل ولو صح ذلك في النهي لما جاز قياس الأمر عليه فإن اللغة تثبت نقلا لا قياسا فهذه شبههم اللغوية والعقلية
أما الشبهة الشرعية فهي أقرب فإنه لو دل دليل الشرع على أن الأمر للوجوب لحملناه على الوجوب لكن لا دليل عليه وإنما الشبهة الأولى قولهم نسلم أن اللغة والعقل لا يدل على تخصيص الأمر بالوجوب لكن يدل عليه من جهة الكتاب قوله تعال { الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } النساء 59 { ثم قال } فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم { النور } وهذا لا حجة فيه لأن الخلاف في قوله { النساء } قائم أنه للندب أو الوجوب وقوله { عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } النور 54 أي كل واحد عليه ما حمل من التبليغ والقبول وهذا إن كان معناه التهديد والنسبة إلى الأعراض عن الرسول عليه السلام فهو دليل على أنه أراد به الطاعة في أصل الإيمان وهو على الوجوب بالاتفاق وغاية هذا اللفظ عموم فنخصه بالأوامر التي هي على الوجوب وكل ما يتمسك به من الآيات من هذا الجنس فهي صيغ أمر يقع النزاع في أنه للندب أم لا فإن اقترن بذكر وعيد فيكون قرينة دالة على وجوب ذلك الأمر خاصة فإن كان أمرا عاما يحمل على الأمر بأصل الدين وما عرف بالدليل أنه على الوجوب وبه يعرف الجواب عن قوله تعالى { وما آتاكم الرسول فخذوه } الحشر 7 وقوله تعالى { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } المرسلات 48 وقوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } النساء 65 فكل ذلك أمر بتصديقه ونهى عن الشك في قوله وأمر بالانقياد في الإتيان بما أوجبه
الشبهة الثانية تمسكهم بقوله { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } النور 63 قلنا تدعون أنه نص في كل أمر أو عام ولا سبيل إلى دعوى النص وإن ادعيتم العموم فقد لا نقول بالعموم ونتوقف في صيغته كما نتوقف في صيغة الأمر أو نخصصه بالأمر بالدخول في دينه بدليل أن ندبه أيضا أمره ومن خالف عن أمره في قوله تعالى { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } النور 33 وقوله { واستشهدوا شهيدين } البقرة 282 وأمثاله لا يتعرض للعقاب ثم نقول هذا نهي عن المخالفة وأمر بالموافقة أي يؤتى به على وجهه إن كان واجبا فواجبا وإن كان ندبا فندبا والكلام في صيغة الإيجاب لا في الموافقة والمخالفة ثم لا تدل الآية إلا على وجوب أمر الرسول عليه السلام فأين الدليل على وجوب أمر الله تعالى
الشبهة الثالثة تمسكهم من جهة السنة بأخبار آحاد لو كانت صريحة صحيحة لم يثبت بها مثل هذا الأصل وليس شيء منها صريحا فمنها قوله عليه السلام لبريرة وقد عتقت تحت عبد وكرهته لو راجعتيه فقالت بأمرك يا رسول الله فقال لا إنما أنا شافع فقالت لا حاجة لي فيه فقد علمت أنه لو كان أمرا لوجب وكذلك عقلت الأمة قلنا هذا وضع
____________________

(1/209)


على بريرة وتوهم فليس في قولها إلا استفهام أنه أمر شرعي من جهة الله تعالى حتى تطيع طلبا للثواب أو شفاعة لسبب الزوج حتى تؤثر غرض نفسها عليه فإن قيل شفاعة الرسول عليه السلام أيضا مندوب إلى إجابتها وفيها ثواب قلنا وكيف قالت لا حاجة لي فيه والمسلم يحتاج إلى الثواب فلا يقول ذلك لكنها اعتقدت أن الثواب في طاعته في الأمر الصادر عن الله تعالى وفيما هو لله لا فيما يتعلق بالاغراض الدنيوية أو علمت أن ذلك في الدرجة دون ما ندبت إليه فاستفهمت أو أفهمت بالقرينة أنها شكت في الوجوب فعبرت بالأمر عن الوجوب فأفهمت ومنها قوله عليه السلام لولا أني أخاف أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة فدل على أنه للوجوب وإلا فهو مندوب قلنا لما كان حثهم على السواك ندبا قبل ذلك أفهم أنه أراد بالأمر ما هو شاق أو كان قد أوحي إليه أنك لو أمرتهم بقولك استاكوا لأوجبنا ذلك عليهم فعلمنا أن ذلك يجب بإيجاب الله تعالى عند إطلاقه صيغة الأمر ومنها قوله عليه السلام لأبي سعيد الخدري لما دعاه وهو في الصلاة فلم يجبه أما سمعت الله تعالى يقول { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } الأنفال 24 فكان هذا التوبيخ على مخالفة أمره قلنا لم يصدر منه أمر بل مجرد نداء وكان قد عرفهم بالقرائن تفهيما ضروريا وجوب التعظيم له وأن ترك جواب النداء تهاون وتحقير بأمره بدليل أنه كان في الصلاة وإتمام الصلاة واجب ومجرد النداء لا يدل على ترك واجب بل يجب تركه بما هو أوجب منه كما يجب ترك الصلاة لانقاذ الغرقى ومجرد النداء لا يدل عليه ومنها قول الأقرع بن حابس أحجنا هذا لعامنا هذا أم للأبد فقال عليه السلام للأبد ولو قلت نعم لوجب فدل على أن جميع أوامره للإيجاب قلنا قد كان عرف وجوب الحج بقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } آل عمران 97 وبأمور أخر صريحة لكن شك في أن الأمر للتكرار أو للمرة الواحدة فإنه متردد بينهما ولو عين الرسول عليه السلام أحدهما لتعين وصار متعينا في حقنا ببيانه فمعنى قوله لو قلت نعم لوجب أي لو عينت لتعين
الشبهة الرابعة من جهة الاجماع زعموا أن الأمة لم تزل في جميع الأعصار ترجع في إيجاب العبادات وتحريم المحظورات إلى الأوامر والنواهي كقوله { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } البقرة 43 { وقاتلوا المشركين كافة } التوبة 36 وقوله { ذلك } الإسراء 32 { لا تأكلوا الربا } آل عمران 130 { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } النساء 2 { ولا تقتلوا أنفسكم } النساء 29 { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } النساء 22 وأمثاله والجواب أن هذا وضع وتقول على الأمة ونسبه لهم إلى الخطأ ويجب تنزيههم عنه نعم يجوز أن يصدر ذلك من طائفة ظنوا أن ظاهر الأمر للوجوب وإنما فهم المحصلون وهم الأقلون ذلك من القرائن والأدلة بدليل أنهم قطعوا بوجوب الصلاة وتحريم الزنا والأمر محتمل للندب وإن لم يكن موضوعا له والنهي يحتمل التنزيه وكيف قطعوا مع الاحتمال لولا أدلة قاطعة وما قولهم إلا كقول من يقول الأمر للندب بالاجماع لأنهم حكموا بالندب في الكتابة والاستشهاد وأمثاله لصيغة الأمر والأوامر التي حملتها الأمة على الندب أكثر فإن النوافل والسنن والآداب أكثر من الفرائض إذا ما من فريضة إلا ويتعلق بها وبإتمامها وبآدابها سنن كثيرة أو نقول هي للإباحة بدليل حكمهم بالإباحة في قوله { فاصطادوا } المائدة 2 وقوله { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض }
____________________

(1/210)


الجمعة 10 وإن كان ذلك للقرائن فكذلك الوجوب فإن قيل وما تلك القرائن قلنا أما في الصلاة فمثل قوله تعالى { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } النساء 103 وما ورد من التهديدات في ترك الصلاة وما ورد من تكليف الصلاة في حال شدة الخوف والمرض إلى غير ذلك وأما الزكاة فقد اقترن بقوله تعالى { وآتوا الزكاة } البقرة 43 وقوله تعالى { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } التوبة 34 إلى قوله { فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } التوبة 35 وأما الصوم فقوله { كتب عليكم الصيام } البقرة 183 وقوله أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى لذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون البقرة 184 وإيجاب تداركه على الحائض وكذلك الزنا والقتل ورد فيهما تهديدات ودلالات تواردت على طول مدة النبوة لا تحصى فلذلك قطعوا به لا بمجرد الأمر الذي منتهاه أن يكون ظاهرا فيتطرق إليه الاحتمال
مسألة ( هل بعد انتهاء الخطر فيه إباحة ) فإن قال قائل قوله افعل بعد الحظر ما موجبه وهل لتقدم الحظر تأثير قلنا قال قوم لا تأثير لتقدم الحظر أصلا وقال قوم هي قرينة تصرفها إلى الإباحة والمختار أنه ينتظر فإن كان الحظر السابق عارضا لعلة وعلقت صيغة افعل بزواله كقوله تعالى { وإذا حللتم فاصطادوا } المائدة 2 فعرف الاستعمال يدل على أنه لرفع الذم فقط حتى يرجع حكمه إلى ما قبله وإن احتمل أن يكون رفع هذا الحظر بندب وإباحة لكن الأغلب ما ذكرناه كقوله { فانتشروا } الجمعة 10 وكقوله عليه السلام كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فادخروا أما إذا لم يكن الحظر عارضا لعلة ولا صيغة افعل علق بزوالها فيبقى موجب الصيغة على أصل التردد بين الندب والإباحة ونزيح هاهنا احتمال الإباحة ويكون هذا قرينة تزيح هذا الاحتمال وإن لم تعينه إذ لا يمكن دعوى عرف الاستعمال في هذه الصيغة حتى يغلب العرف الوضع أما إذا لم ترد صيغة افعل لكن قال { وإذا حللتم } المائدة 2 فأنتم مأمورون بالاصطياد فهذا يحتمل الوجوب والندب ولا يحتمل الإباحة لأنه عرف في هذه الصورة وقوله أمرتكم بكذا يضاهي قوله افعل في جميع المواضع إلا في هذه الصورة وما يقرب منها
النظر الثالث في موجب الأمر ومقتضاه في موجب الأمر ومقتضاه بالإضافة إلى الفور والتراخي والتكرار وغيره ولا يتعلق هذا النظر بصيغة مخصوصة بل يجري في قوله افعل كان للندب أو للوجوب وفي قوله أمرتكم وأنتم مأمورون وفي كل دليل يدل على الأمر بالشيء إشارة كانت أو لفظا أو قرينة أخرى لكنا نتكلم في مقتضى قوله افعل ليقاس عليه غيره ونرسم فيه مسائل مسألة ( أحكام الأمر ) قوله صم كما أنه في نفسه يتردد بين الوجوب والندب فهو بالإضافة إلى الزمان يتردد بين الفور والتراخي وبالإضافة إلى المقدار يتردد بين المرة الواحدة واستغراق
____________________

(1/211)


العمر وقد قال قوم هو للمرة ويحتمل التكرار وقال قوم هو للتكرار والمختار أن المرة الواحدة معلومة وحصول براءة الذمة بمجردها مختلف فيه واللفظ بوضعه ليس فيه دلالة على نفي الزيادة ولا على إثباتها وقياس مذهب الواقفية التوقف فيه لتردد اللفظ كتردده بين الوجوب والندب لكني أقول ليس هذا ترددا في نفس اللفظ على نحو تردد المشترك بل اللفظ خال عن التعرض لكمية المأمور به لكن يحتمل الإتمام ببيان الكمية كما أنه يحتمل أن نتممه بسبع مرات أو خمس وليس في نفس اللفظ تعرض للعدد ولا هو موضوع لآحاد الأعداد وضع اللفظ المشترك وكما أن قوله أقتل إذا لم يقل أقتل زيدا أو عمرا فهو دون زيادة كلام ناقص فإتمامه بلفظ دال على تلك الزيادة لا بمعنى البيان فإن قيل بين مسألتنا وبين القتل فرق فإن قوله اقتل كلام ناقص لا يمكن امتثاله وقوله صم كلام تام مفهوم يمكن امتثاله قلنا يحتمل أن يقال يصير ممتثلا بقتل أي شخص كان بمجرد قوله أقتل كما يصير ممتثلا بصوم أي يوم كان إذا قال صم يوما بلا فرق ويكون قوله أقتل كقوله أقتل شخصا لأن الشخص القتيل من ضرورة القتل وإن لم يذكر كما أن اليوم من ضرورة الصوم وإن لم يصرح به فيتحصل من هذا أنه تبرأ ذمته بالمرة الواحدة لأن وجوبها معلوم والزيادة لا دليل على وجوبها إذ لم يتعرض اللفظ لها فصار كما قبل قوله صم وكنا لا نشك في نفي الوجوب بل نقطع بانتفائه وقوله صم دال على القطع في يوم واحد فبقي الزائد على ما كان هذا هو الظاهر من مطلق اللفظ المجرد عن الكمية ويعتضد هذا باليمين فإنه لو قال والله لأصومن لبر بيوم واحد ولو قال لله علي صوم لتفصى عن عهدة النذر بيوم واحد لأن الزائد لم يتعرض له فإن قيل فلو فسر التكرار بصوم العمر فقد فسره بمحتمل أو كان ذلك الحاق زيادة كما لو قال أردت بقولي اقتل
أي أقتل زيدا وبقولي صم أي صم يوم السبت خاصة
فإن هذا تفسير بما لا يحتمله اللفظ بل ليس تفسيرا إنما ذكر زيادة لم يذكرها ولم يوضع اللفظ المذكور لها لا بالإشتراك ولا بالتجوز ولا بالتنصيص
قلنا هذا فيه نظر والأظهر عندنا أنه إن فسره بعدد مخصوص كتسعة أو عشرة فهو إتمام بزيادة وليس بتفسير إذ اللفظ لا يصلح للدلالة على تكرر وعدد وإن أراد إستغراق العمر فقد أراد كلية الصوم في حقه وكأن كلية الصوم شيء فرد أذله حد واحد وحقيقة واحدة فهو واحد بالنوع كما أن اليوم الواحد واحد بالعدد واللفظ يحتمله ويكون ذلك بيانا للمراد لا استئناف زيادة ولهذا لو قال أنت طالق ولم يخطر بباله عدد كانت الطلقة الواحدة ضرورة لفظه فيقتصر عليها ولو نوى الثلاثة بعد لأنه كلية الطلاق فهو كالواحد بالجنس أو النوع ولو نوى طلقتين فالأغوص ما قاله أبو حنيفة وهو أنه لا يحتمله ووجه مذهب الشافعي قد تكلفناه في كتاب المبادىء والغايات فإن قيل الزيادة التي هي كالمتممة لا تبعد إرادتها في اللفظ فلو قال طلقت زوجتي وله أربع نسوة وقال أردت زينب بنيتي وقع الطلاق من وقت اللفظ ولولا احتماله لوقع من وقت التعيين قلنا الفرق أغوص لأن قوله زوجتي مشترك بين الأربع يصلح لكل واحدة فهو كإدارة إحدى المسميات بالمشترك أما الطلاق فموضوع لمعنى لا يتعرض للعدد والصوم موضوع لمعنى
____________________

(1/212)


لا يتعرض للسبعة والعشرة وليست الأعداد موجودات فيكون اسم الصوم مشتركا بينهما اشتراك اسم الزوجة بين النسوة الزوجات شبه المخالفين ثلاث الشبهة الأولى قولهم قوله { فاقتلوا المشركين } التوبة 5 يعم قتل كل مشرك فقوله صم وصل ينبغي أن يعم كل زمان لأن إضافته إلى جميع الأزمان واحد كإضافة لفظ المشترك إلى جميع الأشخاص قلنا إن سلمنا صيغة العموم فليس هذا نظيرا له بل نظيره أن يقال صم الأيام وصل في الأوقات أما مجرد قوله صم فلا يتعرض للزمان لا بعموم ولا بخصوص لكن الزمان من ضرورته كالمكان ولا يجب عموم الأماكن بالفعل وإن كان نسبة الفعل إلى كل مكان على وتيرة واحدة وكذلك الزمان
الشبة الثانية قولهم إن قوله صم كقوله لا تصم وموجب النهي ترك الصوم أبدا فليكن موجب الأمر فعل الصوم أبدا وتحقيقه أن الأمر بالشيء نهي عن ضده فقوله قم وقوله لا تقعد واحد وقوله تحرك وقوله لا تسكن واحد ولو قال لا تسكن لزمت الحركة دائما فقوله تحرك تضمن قوله لا تسكن قلنا أما قولكم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده فقد أبطلناه في القطب الأول وإن سلمنا فعموم النهي الذي هو ضمن بحسب الأمر المتضمن لأنه تابع له فلو قال تحرك مرة واحدة كان السكون المنهي عنه مقصورا على المرة وقوله تحرك كقوله تحرك مرة واحدة كما سبق تقريره وأما قياسهم الأمر على النهي فباطل من خمسة أوجه الأول أن القياس باطل في اللغات لأنها تثبت توقيفا
الثاني أنا لا نسلم في النهي لزوم الانتهاء مطلقا بمجرد اللفظ بل لو قيل للصائم لا تصم يجوز أن تقول نهاني عن صوم هذا اليوم أو عن الصوم أبدا فيستفسر بل التصريح أن يقول لا تصم أبدا ولا تصم يوما واحدا فإذا اقتصر على قوله لا تصم فانتهى يوما واحدا جاز أن يقال قضى حق النهي ولا يغنيهم عن هذا الاسترواح إلى المناهي الشرعية والعرفية وحملها على الدوام
فإن هذا القائل يقول عرفت ذلك بأدلة أفادت علما ضروريا بأن الشرع يريد عدم الزنا والسرقة وسائر الفواحش مطلقا وفي كل حال لا بمجرد صيغة النهي وهذا كما أنا نوجب الأيمان دائما لا بمجرد قوله آمنوا لكن الأدلة دلت على أن دوام الأيمان مقصود
الثالث أنا نفرق ولعله الأصح فنقول إن الأمر يدل على أن المأمور ينبغي أن يوجد مطلقا والنهي يدل على أنه ينبغي أن لا يوجد مطلقا والنفي المطلق يعم والوجود المطلق لا يعم فكل ما وجد مرة فقد وجد مطلقا وما انتفى مرة فما انتفى مطلقا ولذلك إذا قال في اليمين لأفعلن بر بمرة ولو قال لا أفعل حنث بمرة ومن قال لأصومن صدق وعده بمرة ومن قال لا أصوم كان كاذبا مهما صام مرة
الرابع أنه لو حمل الأمر على التكرار لتعطلت الأشغال كلها وحمل النهي على
____________________

(1/213)


التكرار لا يفضي إليه إذ يمكن الانتهاء في حال واحدة عن أشياء كثيرة مع الإشتغال بشغل ليس ضد المنهي عنه وهذا فاسد لأنه تفسير للغة بما يرجع إلى المشقة والتعذر ولو قال افعل دائما لم يتغير موجب اللفظ بتعذره وإن كان التعذر هو المانع فليقتصر على ما يطاق ويشق دون ما يتيسر
الخامس أن النهي يقتضي قبح المنهي عنه ويجب الكف عن القبيح كله والأمر يقتضي الحسن ولا يجب الإتيان بالحسن كله وهذا أيضا فاسد
فإن الأمر والنهي لا يدلان على الحسن والقبح فإن الأمر بالقبيح تسميه العرب أمرا فتقول أمر بالقبيح وما كان ينبغي أن يأمر به وأما الأمر الشرعي فقد ثبت أنه لا يدل على الحسن ولا النهي على القبح فإنه لا معنى للحسن والقبح بالإضافة إلى ذوات الأشياء بل الحسن ما أمر به والقبيح ما نهى عنه فيكون الحسن والقبح تابعا للأمر والنهي لا علة ولا متبوعا
الشبهة الثالثة أن أوامر الشرع في الصوم والصلاة والزكاة حملت على التكرار فتدل على أنه موضوع له قلنا وقد حمل في الحج على الاتحاد فليدل على أنه موضوع له فإن كان ذلك بدليل فكذلك هذا بدليل وقرائن
بل بصرائح سوى مجرد الأمر وقد أجاب قوم عن هذا بأن القرينة فيه إضافتها إلى أسباب وشروط وكل ما أضيف إلى شر وتكرر الشرط تكرر الوجوب وسنبين ذلك في المسألة الثانية مسألة ( تكرار الأمر المضاف لشرط ) اختلف الصائرون إلى أن الأمر ليس للتكرار في الأمر المضاف إلى شرط فقال قوم لا أثر للإضافة وقال قوم يتكرر بتكرر الشرط والمختار أنه لا أثر للشرط لأن قوله اضربه أمر ليس يقتضي التكرار فقوله اضربه إن كان قائما أو إذا كان قائما لا يقتضيه أيضا بل لا يريد إلا اختصاص الضرب الذي يقتضيه الإطلاق بحالة للقيام وهو كقوله لوكيله طلق زوجتي إن دخلت الدار لا يقتضي التكرار بتكرر الدخول بل لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق لم يتكرر بتكرر الدخول إلا أن يقول كلما دخلت الدار وكذلك قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } البقرة 185 وإذا زالت الشمس
فصل قوله لزوجاته فمن شهد منكن الشهر فهي طالق ومن زالت عليها الشمس فهي طالق ولهم شبهتان الأولى أن الحكم يتكرر بتكرر العلة والشرط كالعلة فإن علل الشرع علامات قلنا العلة إن كانت عقلية فهي موجبة لذاتها ولا يعقل وجود ذاتها دون المعلول وإن كانت شرعية فلسنا نسلم تكرر الحكم بمجرد إضافة الحكم إلى العلة ما لم تقترن به قرينة أخرى وهو التعبد بالقياس ومعنى التعبد بالقياس الأمر باتباع العلة وكأن الشرع يقول الحكم يثبت بها فاتبعوها
الشبهة الثانية إن أوامر الشرع إنما تتكرر بتكرر الأسباب كقوله تعالى { وإن كنتم جنبا فاطهروا } المائدة 6
و { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } المائدة 6 قلنا ليس ذلك بموجب اللغة ومجرد الإضافة بل بدليل شرعي في كل شرط فقد قال تعالى { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } آل عمران 97 ولا يتكرر الوجوب بتكرر
____________________

(1/214)


الاستطاعة فإن أحالوا ذلك على الدليل أحلنا ما يتكرر أيضا على الدليل كيف ومن قام إلى الصلاة غير محدث فلا يتكرر عليه ومن كان جنبا فليس عليه أن يتطهر إذا لم يرد الصلاة فلم يتكرر مطلقا لكن اتبع فيه موجب الدليل
مسألة ( هل الأمر على الفور أم لا ) مطلق الأمر يقتضي الفور عند قوم ولا يقتضيه عند قوم وتوقف فيه من الواقفية قوم ثم منهم من قال التوقف في المؤخر هل هو ممتثل أم لا أما المبادر فممتثل قطعا ومنهم من غلا وقال يتوقف في المبادر أيضا والمختار أنه لا يقتضي إلا الامتثال ويستوي فيه البدار والتأخير وندل على بطلان الوقف أولا فنقول للمتوقف المبادر ممتثل أم لا فإن توقفت فقد خالفت إجماع الأمة قبلك فإنهم متفقون على أن المسارع إلى الامتثال مبالغ في الطاعة مستوجب جميل الثناء والمأمور إذا قيل له قم فقام يعلم نفسه ممتثلا ولا يعد به مخطئا باتفاق أهل اللغة قبل ورود الشرع وقد أثنى الله تعالى على المسارعين فقال عز من قائل { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } آل عمران 133 { وقال } أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون { المؤمنون } وإذا بطل هذا التوقف فنقول لا معنى للتوقف في المؤخر لأن قوله اغسل هذا الثوب مثلا لا يقتضي إلا طلب الغسل والزمان من ضرورة الغسل كالمكان وكالشخص في القتل والضرب والسوط والسيف في الضرب ثم لا يقتضي الأمر بالضرب مضروبا مخصوصا ولا سوطا ولا مكانا للأمر فكذلك الزمان لأن اللافظ ساكت عن التعرض للزمان والمكان فهما سيان ويعتضد هذا بطريق ضرب المثال لا بطريق القياس بصدق الوعد
إذا قال أغسل وأقتل فإنه صادق بادر أو أخر ولو حلف لأدخلن الدار لم يلزمه البدار وتحقيقه أن مدعي الفور متحكم وهو محتاج إلى أن ينقل عن أهل اللغة أن قولهم افعل للبدار ولا سبيل إلى نقل ذلك لا تواترا ولا آحادا
ولهم شبهتان الأولى أن الأمر للوجوب وفي تجويز التأخير ما ينافي الوجوب إما بالتوسع وإما بالتخيير في فعل لا بعينه من جملة الأفعال الواقعة في الأوقات والتوسع والتخيير كلاهما يناقض الوجوب
قلنا قد بينا في القطب الأول أن الواجب المخير والموسع جائز ويدل عليه أنه لو صرح وقال اغسل الثوب أي وقت شئت فقد أوجبته عليك لم يتناقض ثم لا نسلم أن الأمر للوجوب ولو كان للوجوب أما بنفسه أو بقرينة فالتوسع لا ينافيه كما سبق
الشبهة الثانية أن الأمر يقتضي وجوب الفعل واعتقاد الوجوب والعزم على الامتثال ثم وجوب الاعتقاد والعزم على الفور فليكن كذلك الفعل قلنا القياس باطل في اللغات ثم هو منقوض بقوله افعل أي وقت شئت فإن الاعتقاد والعزم فيه على الفور دون الفعل ثم نقول وجوب الفور في العزم والاعتقاد معلوم بقرينة وأدلة دلت على التصديق للشارع والعزم على الانقياد له ولم يحصل ذلك بمجرد الصيغة
مسألة ( قضاء العبادات ) مذهب بعض الفقهاء أن وجوب القضاء لا يفتقر إلى أمر مجدد ومذهب المحصلين أن الأمر بعبادة في وقت لا يقتضي القضاء لأن تخصيص العبادة بوقت الزوال أو شهر رمضان كتخصيص الحج بعرفات وتخصيص الزكاة بالمساكين وتخصيص الضرب والقتل بشخص وتخصيص الصلاة بالقبلة فلا فرق بين الزمان والمكان والشخص فإن
____________________

(1/215)


جميع ذلك تقييد للمأمور بصفة والعاري عن تلك الصفة لا يتناوله اللفظ بل يبقى على ما كان قبل الأمر فإن قيل الوقت للعبادة كالأجل للدين فكما لا يسقط الدين بانقضاء الأجل لا تسقط الصلاة الواجبة في الذمة بانقضاء المدة قلنا مثال الأجل الحول في الزكاة لا جرم لا تسقط الزكاة بانقضائه لأن الأجل مهلة لتأخير المطالبة حتى ينجز بعد المدة وأما الوقت فقد صار وصفا للواجب كالمكان والشخص ومن أوجب عليه شيء بصفة فإذا أتى به لا على تلك الصفة لم يكن ممتثلا نعم يجب القضاء في الشرع إما بنص كقوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها أو بقياس فإنا نقيس الصوم إذا نسيه على الصلاة إذا نسيها ونراه في معناها ولا نقيس عليه الجمعة ولا الأضحية فإنهما لا يقضيان في غير وقتهما وفي رمي الجمار تردد أنه بأي الأصلين أشبه ولا نقيس صلاة الحائض على صومها في القضاء لفرق النص ولا نقيس صلاة الكافر وزكاته على صلاة المرتد وإن تساويا في أصل الأمر والوجوب عندها
مسألة ( في موضوع القضاء أيضا ) ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر يقتضي وقوع الأجزاء بالمأمور به إذا امتثل وقال بعض المتكلمين لا يدل على الأجزاء لا بمعنى أنه لا يدل على كونه طاعة وقربة وسبب ثواب وامتثالا لكن بمعنى أنه لا يمنع الامتثال من وجوب القضاء ولا يلزم حصول الأجزاء بالأداء بدليل أن من أفسد حجه فهو مأمور بالإتمام ولا يجزئه بل يلزمه القضاء ومن ظن أنه متطهر فهو مأمور بالصلاة وممتثل إذا صلى ومطيع ومتقرب ويلزمه القضاء فلا يمكن إنكار كونه مأمورا ولا إنكار كونه ممتثلا حتى يسقط العقاب ولا إنكار كونه مأمورا بالقضاء فهذه أمور مقطوع بها والصواب عندنا أن نفصل ونقول إذا ثبت أن القضاء يجب بأمر متجدد وأنه مثل الواجب الأول فالأمر بالشىء لا يمنع إيجاب مثله بعد الامتثال وهذا لا شك فيه ولكن ذلك المثل إنما يسمى قضاء
إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها وإن لم يكن فوات وخلل استحال تسميته قضاء فنقول الأمر يدل على أجزاء المأمور
إذا أدى بكمال وصفه وشرطه من غير خلل وإن تطرق إليه خلل كما في الحج الفاسد والصلاة على غير الطهارة فلا يدل الأمر على أجزائه بمعنى منع إيجاب القضاء فإن قيل فالذي ظن أنه متطهر مأمور بالصلاة على تلك الحالة أو مأمور بالطهارة فإن كان مأمور بالطهارة مع تنجز الصلاة فينبغي أن يكون عاصيا وإن كان مأمورا بالصلاة على حالته فقد امتثل من غير خلل فبم عقل إيجاب القضاء وكذلك المأمور بإتمام الحج الفاسد أتم كما أمر قلنا هذا مأمور بالصلاة مع الخلل بضرورة نسيانه فقد أتى بصلاة مختلة فاقدة شرطها لضرورة حاله فعقل الأمر لتدارك الخلل أما إذا لم يكن الخلل لا عن قصد ولا عن نسيان فلا تدارك فيه فلا يعقل إيجاب قضائه وهو المعني بأجزائه وكذلك مفسد الحج مأمور بحج خال عن فساد وقد فوت على نفسه ذلك فيقضيه
مسألة ( دليل الأمر ) الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بالشيء ما لم يدل عليه دليل مثاله قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } التوبة 103 لا يدل على وجوب الأداء بمجرده على الأمة وربما ظن ظان أنه يدل على الوجوب وليس الأمر كذلك
____________________

(1/216)


لكن دل الشرع على أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام واجب الطاعة وأنهم لو كانوا مأذونين في المنع لكان ذلك تحقيرا للنبي عليه السلام وتنفيرا للأمة عنه وذلك يغض من قدره ويشوش مقصود الشرع وإلا فلا يستحيل أن يقال للزوج الشافعي إذا قال لزوجته أنت بائن علي نية الطلاق راجعها وطالبها بالوطء ويقال للحنفية التي ترى أنها بائنة يجب عليك المنع ويقال للولي الذي يرى أن لطفله على طل غيره شيئا أطلبه ويقال للمدعي عليه إذا عرف أنه لا شيء على طفله لا تعطه ومانعه ويقول السيد لأحد العبدين أوجبت عليك أن تأمر العبد الآخر ويقول للآخر أوجبت عليك العصيان له وبهذا تعرف أن قوله عليه السلام مروهم بالصلاة لسبع ليس خطابا من الشرع مع الصبي ولا إيجابا عليه مع أن الأمر واجب على الولي فإن قيل فلو قال للنبي أوجبت عليك أن توجب على الأمة وقال للأمة أوجبت عليكم خلافه قلنا ذلك يدل على أن الواجب على النبي أن يقول أوجبت لا على حقيقة الإيجاب فإن أراد حقيقة الإيجاب فهو متناقض بخلاف قوله 9 { خذ من أموالهم صدقة } التوبة 103 فإن ذلك لا يناقضه أمرهم بالمنع فإن قيل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب والتسلم لا يتم إلا بالتسليم قلنا لا يجب التسلم بل يجب الطلب فقط ثم إن وجب التسلم فذلك يتم بالتسليم المحرم وإنما يناقض التسلم أنتفاء التسليم في نفسه لانتفاء علته وحكمه وبالجملة كما أن من أمر زيدا بضرب عمرو فلا يطلب من عمرو شيئا فكذلك إذا أمره يأمر عمرا فلا يطلب من عمرو شيئا
مسألة ( خطاب الجماعة بالأمر ) ظاهر الخطاب مع جماعة بالأمر يقتضي وجوبه على كل واحد إلا أن يدل دليل على سقوط الفرض عن الجميع بفعل واحد أو يرد الخطاب بلفظ لا يعم الجميع كقوله تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } آل عمران 104 كقوله تعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } التوبة 122 فإن هذا لا يدل على الوجوب في حق كل واحد على التعيين فإن قيل فما حقيقة فرض الكفاية أهو فرض على الجميع ثم يسقط الفرض بفعل البعض أو هو فرض على واحد لا بعينه أي واحد كان كالواجب المخير في خصال الكفارة أو هو واجب على من حضر وتعين أعني حضر الجنازة أو المنكر أما من لم يتعين فهو ندب في حقه قلنا الصحيح من هذه الأقسام الأول وهو عموم الفرضية فإن سقوط الفرض دون الأداء يمكن إما بالنسخ أو بسبب آخر
ويدل عليه أنهم لو فعلوا بأجمعهم نال كل واحد منهم ثواب الفرض وإن امتنعوا عم الحرج الجميع ولو خلا بعضهم عن الوجوب لا نفك عن الإثم
أما الإيجاب على واحد لا بعينه فمحال لأن المكلف ينبغي أن يعلم أنه مكلف وإذا أبهم الوجوب تعذر الامتثال كما حققناه في بيان الواجب المخير
مسألة ( متى يعلم الأمر والامتثال ) ذهبت المعتزلة إلى أن المأمور لا يعلم كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال وذهب القاضي وجماهير أهل الحق إلى أنه يعلم ذلك وفي تفهيم حقيقة المسألة غموض وسبيل كشف الغطاء عنه أن نقول إنما يعلم المأمور كونه مأمورا مهما كان مأمورا لأن العلم يتبع المعلوم
وإنما يكون مأمورا إذا توجه الأمر عليه ولا خلاف أنه يتصور أن يقول السيد
____________________

(1/217)


لعبده صم غدا وأن هذا أمر محقق ناجز في الحال وإن كان مشروطا ببقاء العبد إلى غد ولكن اتفقت المعتزلة على أن الأمر المقيد بالشرط أمر حاصل ناجز في الحال لكن يشترط أن يكون تحقق الشرط مجهولا عند الآمر والمأمور أما إذا كان معلوما فلا فإنه لو قال صم إن صعدت إلى السماء أو إن عشت ألف سنة فليس هذا بأمر أي هذه الصيغة ليست عبارة عن حقيقة المعنى الذي يقوم بالنفس ويسمى أمرا أي هذه الصيغة ليست عبارة عن حقيقة المعنى الذي يقوم بالنفس ويسمى أمرا ولو قال صم إن كان العالم مخلوقا أو كان الله موجودا فهذا أمر ولكن ليس بمقيد بشرط وليس هذا من الشرط في شيء فإن الشرط هو الذي يمكن أن يوجد ولا يوجد فلما كان العلم بوجود الشرط أو عدمه منافيا وجود الأمر المقيد بالشرط زعموا أن الله عالم بعواقب الأمر فالشرط في أمره محال ونحن نسلم أن جهل المأمور شرط أما جهل الآمر فليس بشرط حتى لو علم السيد بقول نبي صادق أن عبده يموت قبل رمضان فيتصور أن يأمره بصوم رمضان مهما جهل العبد ذلك وربما كان له فيه لطف يدعوه إلى الطاعات ويزجره عن المعاصي وربما كان لطفا لغير المأمور بحث أو زجر وربما كان امتحانا له ليشتغل بالاستعداد فيثاب على العزم على الامتثال ويعاقب على العزم على الترك والمعتزلة أحالوا ذلك وقالوا إذا شهد العبد هلال رمضان توجه عليه الأمر بحكم قوله تعالى { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } البقرة 185 لكن ذلك بناء على ظن البقاء ودوام القدرة فإن الحياة والقدرة شرط في التكليف فإذا مات في منتصف الشهر تبينا أنه كان مأمورا بالنصف الأول وأنه لم يكن مأمورا بالنصف الثاني
ويدلك على بطلان مذهبهم مسالك المسلك الأول أن الأمة مجمعة قبل ظهور المعتزلة أن الصبي كما يبلغ يجب عليه أن يعلم ويعتقد كونه مأمورا بشرائع الإسلام منهيا عن الزنا والسرقة والقتل في الحال وإن لم يحضره وقت صلاة ولا زكاة ولا حضر من يمكن قتله والزنا به ولا حضر مال تمكن سرقته ولكن يعلم نفسه مأمورا منهيا بشرط التمكن لأنه جاهل بعواقب أمره وعلمه بأن الله تعالى عالم بها لا يدفع عنه وجوب هذا الاعتقاد
المسلك الثاني أن الأمة مجمعة على أن من عزم على ترك ما ليس منهيا عنه فليس بمتقرب إلى الله تعالى ومن عزم على ترك المنهيات والإتيان بالمأمورات كان متقربا إلى الله تعالى وإن احتمل أن لا يكون مأمورا أو منهيا لعلم الله بأنه لا يساعده التمكن فينبغي أن نشك في كونه متقربا ونتوقف ونقول إن مت بعد هذا العزم وقبل التمكن فلا ثواب لك لأنه لا تقرب منك وإن عشت وتمكنت تبينا عند ذلك كونك متقربا وهذا خلاف الإجماع
المسلك الثالث إجماع الأمة على أن صلاة الفرض لا تصح إلا بنية الفرضية ولا يعقل تثبيت نية الفرضية إلا بعد معرفة الفرضية والعبد ينوي في أول وقت الصلاة فرض الظهر وربما يموت في أثناء وقت الصلاة فيتبين عند المعتزلة أنه لم يكن فرضا فليكن شاكا في الفرضية وعند ذلك تمتنع النية فإن النية قصد لا يتوجه إلا إلى معلوم فإن قيل إن نوى فرضية أربع ركعات فلو مات بعد ركعتين يعلم أنه لم تكن إلا ربع فريضة وهو مجوز للموت فكيف ينوي فرض ما هو شاك فيه قلنا ليس شاكا فيه بل هو قاطع بأن الأربع فرض بشرط البقاء فالأمر بالشرط أمر في الحال وليس بمعلق والفرض بالشرط فرض أي أنه مأمور أمر إيجاب من عزم عليه يثاب
____________________

(1/218)


ثواب من عزم على واجب
وإذا قال السيد لعبده صم غدا فهو أمر في الحال يصوم في الغد لا أنه أمر في الغد
وإذا قال له أوجبت عليك بشرط بقائك وقدرتك فهو موجب في الحال لكن إيجابا بشرط فهكذا ينبغي أن تفهم حقيقة هذه المسألة وكذلك إذا قال لوكيله بع داري غدا فهو موكل وآمر في الحال والوكيل مأمور ووكيل في الحال حتى يعقل أن يعزل قبل مجيء الغد فإذا قال الوكيل وكلني ثم عزلني وأمرني ثم منعني كان صادقا فلو مات قبل مجيء الغد لا يتبين أنه كان كاذبا وقد حققنا هذا في مسألة نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال وفي نسخ الذبح عن إبراهيم عليه السلام ولهذا فرق الفقهاء بين أن يقول إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي وبين أن يقول وكلتك ببيع داري لكن تبيعها عند رأس الشهر فإن الأول تعليق ومن منع تعليق الوكالة ربما جوز تنجيز الوكالة مع تأخير التنفيذ إلى رأس الشهر
المسلك الرابع إجماع الأمة على لزوم الشروع في صوم رمضان أعني أول يوم مثلا ولو كان الموت في أثناء النهار يبين عدم الأمر فالموت مجوز فيصير الأمر مشكوكا فيه ولا يلزمه الشروع بالشك فإن قيل لأنه إن بقي كان واجبا والظاهر بقاؤه والحاصل في الحال يستصحب والاستصحاب أصل تبنى عليه الأمور كما أن من أقبل عليه سبع يهرب وإن كان يحتمل موت السبع قبل الانتهاء إليه لكن الأصل بقاؤه فيستصحبه ولأنه لو فتح هذا الباب لم يتصور امتثال الأوامر المضيقة أوقاتها كالصوم فإنه إنما يعلم تمام التمكن بعد انقضاء اليوم ويكون قد فات قلنا هذا يلزمكم في الصوم ومذهبكم هو الذي يفضي إلى هذا المحال وما يفضي إلى المحال فهو محال وأما الهرب من السبع فحزم وأخذ بأسوأ الأحوال ويكفي فيه الاحتمال البعيد فإن من شك في سبع على الطريق أو سارق فيحسن منه الحزم والاحتراز أما الوجوب فلا يثبت بالشك والاحتمال وينبغي أن يقال من أعرض عن الصوم ومات قبل الغروب لم يكن عاصيا لأنه أخذ بالاحتمال الآخر وهو احتمال الموت فليكن معذورا به
فإن زعموا أن ظن البقاء بالاستصحاب أورث ظن الوجوب وظن الوجوب اقتضى تحقق الوجوب من الشرع جزما قطعا فهذا تعسف وتناقض
المسلك الخامس أن الإجماع منعقد على أن من حبس المصلي في أول الوقت وقيده ومنعه من الصلاة متعد عاص بسبب منعه من الصلاة الواجبة فإن كان التكليف يندفع به فقد أحسن إليه إذ منع التكليف عنه فلم عصي وهذا فيه نظر لأنه عصي لأن التصرف في الغير بضبطه ومنعه حرام وإن منعه غير مباح أيضا ولأن منعه صار سببا لوجوب القضاء في ذمته وهو على خطر من فواته أو يحرم لأنه أخرجه عن أن يكلفه وفي التكليف مصلحة وقد فوتها عليه بدليل أنه لو قيده قبل وقت الصلاة أو قبل وقت الصلاة أو قبل البلوغ إلى أن بلغ ودخل وقت الصلاة عصى ولم يكن على الصبي أمر ناجز لا بشرط ولا بغير شرط
شبه المعتزلة الأولى قولهم إثبات الأمر بشرط يؤدي إلى أن يكون وجود الشيء مشروطا بما يوجد بعده والشرط ينبغي أن يقارن أو يتقدم أما تأخير الشرط عن المشروط فمحال قلنا ليس هذا شرطا لوجود ذات الأمر وقيامه بذات الآمر بل الأمر وقيامه بذات الآمر بل الأمر موجود قائم بذات الآمر وجد الشرط
____________________

(1/219)


أو لم يوجد وإنما هو شرط لكون الأمر لازما واجب التنفيذ وليس ذلك من شرط كونه موجودا بسبيل ولهذا قلنا الأمر أمر للمعدوم بتقدير الوجود وإن لم يبلغه بشرط بلوغه فليس البلوغ شرطا لقيام نفس الأمر بذات الآمر بل للزوم تنفيذه فإن قال قائل اختلاف قول الشافعي في أن من جامع في نهار رمضان ثم مات أو جن قبل الغروب هل يلزمه الكفارة هل يلتفت إلى هذا الأصل قلنا أما من ذهب إلى أنا نتبين عند زوال الحياة انتفاء الأمر من أصله فلا يمكنه إيجاب الكفارة وأما من ذهب إلى أنا لا نتبين عدم الأمر فيحتمل منه التردد إذ يحتمل أن يقول قد أفسد بالجماع الصوم الذي كان واجبا عليه وقطع الصوم الواجب بحكم الوقت وإفساده يوجب الكفارة يحتمل أن يقال وجبت الكفارة بإفساد صوم لا يتعرض للفساد والانقطاع قبل الغروب وهذا متعرض له فيكون هذا مانعا من الإلحاق بالصوم الذي يتعين الجماع لإفساده فإن قال قائل فلو علمت المرأة بالعادة أنها تحيض في أثناء النهار أو بقول نبي صادق حيضا أو جنونا أو موتا فهل يلزمها الصوم حتى تصوم بعض اليوم قلنا على مذهب المعتزلة لا ينبغي أن يلزم لأن بعض اليوم غير مأمور به وهي غير مأمورة بالكل أما عندنا فالأظهر وجوبه لأن المرخص في الإفطار لم يوجد والأمر قائم في الحال والميسور لا يسقط بالمعسور فإن قال قائل لو قال إن صليت أو شرعت في الصلاة أو الصوم فزوجتي طالق ثم شرع ثم أفسد أو مات أو جن قبل الإتمام فقد اختلفوا في وقوع الطلاق فهل يلتفت هذا إلى هذا الأصل قلنا نعم قياس مذهب المعتزلة أن لا يحنث لأن بعض الصوم ليس بصوم والفاسد ليس بصوم وقد تبين ذلك بالآخرة وعلى مذهبنا ينبغي أن يحنث وهذه صلاة في الحال وتمامها مقيد بالشرط حتى لو قال والله لأعتكفن صائما أوان اعتكفت صائما فزوجتي طالق ثلاثا فاعتكف ساعة صائما ثم جن أو مات لم تجب الكفارة في تركته ولم ترثه زوجته
ولا تخلو هذه المسائل عن الالتفات إلى هذا الأصل ولو قال إن أمرت عبدي فزوجتي طالق ثم قال صم غدا طلقت زوجته فإن مات قبل الغد فلا يتبين انتفاء الطلاق ولو قال إن وكلت وكيلا فزوجتي طالق وإن عزلت وكيلا فعبدي حر
ثم وكل من يبيع داره غدا ثم عزل قبل الغد طلقت زوجته وعتق عبده
الشبهة الثانية وهي الأقوى قولهم إن الأمر طلب فلا يقوم بذات من يعلم امتناع وجود المأمور فكيف يقوم بذات السيد طلب الخياطة إن صعد العبد إلى السماء وهو يعلم أنه لا يصعد نعم يمكن أن يقول خط إن صعدت إلى السماء لكنه صيغة أمر ولا يقوم الطلب بذاته كما لو قال له اصعد إلى السماء لم يكن أمرا لعجزه وعلم الآمر بامتناعه إلا على مذهب من يجوز تكليف ما لا يطاق وأنتم قد ملتم إلى منع تكليف المحال وبه يفارق الآمر الجاهل فإن من لا يعرف عجز عبده عن القيام يتصور أن يقول قم ويقوم بذاته الطلب أما إذا علم عجزه فلا يقوم بذاته طلب الممتنع وهذا التحقيق وهو أن الجهل إذا كان شرطا لقيام هذا الأمر بذاته فالمؤثر في صفة ذاته جهله لا جهل المأمور فهما علم الآمر عدم الشرط فكيف يكون طالبا وإذا لم يكن طالبا فكيف يكون آمرا والآمر هو الطلب هذا واقع والجواب أن هذا لا يصح من المعتزلة مع إنكارهم كلام النفس أما
____________________

(1/220)


عندنا فليس المراد بالطلب الذي هو معنى الأمر إرادة وتشوقا لأن المعاصي عندنا مرادة وهي غير مأمور بها والطاعات مأمور بها وقد لا تكون مرادة فإن ما أراد الله واقع والتشوق على الله محال وإنما معناه اقتضاء فعله لمصلحة العبد ولكنه يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال أو الترك لما يخالفه لطفا به في الاستعداد والانحراف عن الفساد وهذا لطف متصور من الله تعالى ويتصور أيضا من السيد أن يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه مع عزمه على نسخ الأمر قبل الامتثال امتحانا للعبد واستصلاحا له وكل أمر مقيد بشرط أن لا ينسخ وكل وكالة مقيدة بشرط أن لا يعزل الوكيل وقوله وكلتك ببيع العبد غدا مع العلم بأنه سيعتق العبد قبل الغد وكالة في الحال يقصد بها استمالة الوكيل مثلا وامتحانه في إظهار الاستبشار بأمره أو الكراهية فكل ذلك معقول لهذه الفائدة وليس تحت الأمر إلا أنه اقتضاء من هذا الجنس والله أعلم
القول في صيغة النهي اعلم أن ما ذكرناه من مسائل الأوامر تتضح به أحكام النواهي إذ لكل مسألة وزان من النهي على العكس فلا حاجة إلى التكرار ولكنا نتعرض لمسائل لا بد من افرادها بالكلام
مسألة ( هل النهي يقتضي الفساد ) اختلفوا في أن النهي عن البيع والنكاح والتصرفات المفيدة للأحكام هل يقتضي فسادها فذهب الجماهير إلى أنه يقتضي فسادها وذهب قوم إلى أنه إن كان نهيا عنه لعينه دل على الفساد وإن كان لغيره فلا والمختار أنه لا يقتضي الفساد وبيانه أنا نعني بالفساد تخلف الأحكام عنها وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للأحكام ولو صرح الشارع وقال حرمت عليك إستيلاد جارية الابن ونهيتك عنه لعينه لكن إن فعلت ملكت الجارية ونهيتك عن الطلاق في الحيض لعينه لكن إن فعلت بانت زوجتك ونهيتك عن إزالة النجاسة عن الثوب بالماء المغصوب لكن إن فعلت طهر الثوب ونهيتك عن ذبح شاة الغير بسكين الغير من غير إذن لكن إن فعلت حلت الذبيحة فشيء من هذا ليس يمتنع ولا يتناقض بخلاف قوله حرمت عليك الطلاق وأمرتك به أو أبحثه لك وحرمت عليك الاستيلاد لجارية الابن وأوجبته عليك فإن ذلك متناقض لا يعقل لأن التحريم يضاد الإيجاب ولا يضاده كون المحرم منصوبا علامة على حصول الملك والحل وسائر الأحكام إذ يتناقض أن يقول حرمت الزنا وأبحته ولا يتناقض أن يقول حرمت الزنا وجعلت الفعل الحرام في عينه سببا لحصول الملك في العوضين فإن شرط التحريم التعرض لعقاب الآخرة فقط دون تخلف الثمرات والأحكام عنه فإذا ثبت هذا فقوله لا تبع ولا تطلق ولا تنكح لو دل على تخلف الأحكام وهو المراد بالفساد فلا يخلو إما أن يدل من حيث اللغة أو من حيث الشرع ومحال أن يدل من حيث اللغة لأن العرب قد تنهى عن الطاعات وعن الأسباب المشروعة وتعتقد ذلك نهيا حقيقيا دالا على أن المنهي ينبغي أن لا يوجد أما الأحكام فإنها شرعية لا يناسبها اللفظ من حيث وضع اللسان إذ يعقل أن يقول العربي هذا العقد الذي يفيد الملك والأحكام إياك أن تفعله وتقدم عليه ولو صرح به الشارع أيضا لكان منتظما مفهوما أما من حيث الشرع فلو قام دليل على أن النهي
____________________

(1/221)


للإفساد ونقل ذلك عن النبي عليه السلام صريحا لكان ذلك من جهة الشرع تصرفا في اللغة بالتغيير أو كان النهي من جهته منصوبا علامة على الفساد ويجب قبول ذلك ولكن الشأن في إثبات هذه الحجة ونقلها وشبههم الشرعية أربع الشبهة الأولى قولهم إن المنهي عنه قبيح ومعصية فكيف يكون مشروعا قلنا إن أردتم بالمشروع كونه مأمورا به أو مباحا أو مندوبا فذلك محال ولسنا نقول به وإن عنيتم به كونه منصوبا علامة للملك أو الحال أو حكم من الأحكام ففيه وقع النزاع فلم ادعيتم استحالته ولم يستحل أن يحرم الاستيلاد وينصب سببا لملك الجارية ويحرم الطلاق وينصب سببا للفراق بل لا يستحيل أن ينهي عن الصلاة في الدار المغصوبة وتنصب سببا لبراءة الذمة وسقوط الفرض
الشبهة الثانية قولهم إن النهي لا يرد من الشارع في البيع والنكاح إلا لبيان خروجه عن كونه مملكا أو مشروعا قلنا في هذا وقع النزاع الدليل عليه وكم من بيع ونكاح ونهي عنه وبقي سببا للإفادة فما هذا التحكم الشبهة الثالثة قوله عليه السلام كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ومن أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد قلنا معنى قوله رد أي غير مقبول طاعة وقربة ولا شك في أن المجرم لا يقع طاعة
أما أن لا يكون سببا للحكم فلا فإن الاستيلاد والطلاق وذبح شاة الغير ليس عليه أمرنا ثم ليس برد بهذا المعنى
الشبهة الرابعة قولهم أجمع سلف الأمة على الاستدلال بالمناهي على الفساد ففهموا فساد الربا من قوله { وذروا ما بقي من الربا } البقرة 221 واحتج ابن عمر رضي الله عنه في فساد نكاح المشركات بقوله { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } البقرة 223 وفي نكاح المحارم بالنهي قلنا هذا يصح من بعض الأمة أما من جميع الأمة فلا يصح ولا حجة في قول البعض نعم يتمسك به في التحريم والمنع أما في الإفساد فلا
مسألة ( الفرق بين الفساد والبطلان ) الذين اتفقوا على أن النهي عن التصرفات لا يدل على فسادها اختلفوا في أنه هل يدل على صحتها فنقل أبو زيد عن محمد بن الحسن وأبي حنيفة أنه يدل على الصحة وأنه يستدل بالنهي عن صوم يوم النحر على انعقاده فإنه لو استحال انقعاد لما نهي عنه فإن المحال لا ينهي عنه كما لا يؤمر فلا يقال للأعمى لا تبصر كما لا يقال له أبصر فزعموا أن النهي عن الزنا يدل على انعقاده وهذا فاسد لأنا بينا أن الأمر بمجرده لا يدل على الأجزاء والصحة فكيف يدل عليه النهي بل الأمر والنهي يدل على اقتضاء الفعل واقتضاء الترك فقط أو على الوجوب والتحريم فقط أما حصول الأجزاء والفائدة أو نفيهما فيحتاج إلى دليل آخر واللفظ من حيث اللغة غير موضوع لهذه القضايا بالشرعية وأما من حيث الشرع فلو قال الشارع إذا نهيتكم عن أمر أردت به صحته لتلقيناه منه ولكنه لم يثبت ذلك صريحا لا بالتواتر ولا بنقل الآحاد وليس من ضرورة المأمور أن يكون صحيحا مجزئا فكيف يكون من ضرورة المنهي ذلك فإذا لم يثبت ذلك شرعا ولغة وضرورة بمقتضى اللفظ فالمصير إليه تحكم بل الاستدلال به على فساده أقرب من الاستدلال به على صحته فإن قيل المحال لا ينهي عنه لأن الأمر كما يقتضي مأمورا يمكن امتثاله فالنهي يقتضي منهيا يمكن ارتكابه فصوم يوم النحر إذا نهى عنه ينبغي أن يصح ارتكابه ويكون صوما فاسم الصوم للصوم الشرعي لا للإمساك
فإنه صوم لغة لا شرعا والأسامي الشرعية تحمل على موضوع الشرع هذا هو الأصل ولا يلزم عليه قوله دعي الصلاة أيام أقرائك وقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } النساء 22 لأنه حمل النكاح
____________________

(1/222)


والصلاة بالمعنى اللغوي على خلاف الوضعي بدليل دل عليه ولا يلزم عليه قوله عليه السلام لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود لأن ذلك نفي وليس نهيا قلنا الأصل أن الاسم لموضوعه اللغوي إلا ما صرفه عنه عرف الاستعمال في الشرع وقد ألفينا عرف الشرع في الأوامر أنه يستعمل الصوم والنكاح والبيع لمعانيها الشرعية أما في المنهيات فلم يثبت هذا العرف المغير للوضع بدليل قوله دعي الصلاة أيام أقرائك { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وأمثال هذه المناهي مما لا ينعقد أصلا ولم يثبت فيه عرف استعمال الشرع فيرجع إلى أصل الوضع ونقول إذا تعارض فيه عرف الشرع والوضع فمن صام يوم النحر فقد ارتكب النهي وإن لم ينعقد صومه ويكون هذا أولى لأن مذهبهم يفضي إلى صرف النهي عن ذلك المنهي عنه إلى غيره
فإنه لو كان منهيا في عينه استحال أن يكون عبادة منعقدة ومطلق النهي عن الشيء يدل على النهي عن عينه إلا أن يدل دليل فلا معنى لترك الظاهر من غير ضرورة فإن قيل فإذا اخترتم أن النهي لا يدل على الصحة ولا على الفساد في أسباب المعاملات فما قولكم في النهي عن العبادات قد بينا أن النهي يضاد كون المنهي عنه قربة وطاعة لأن الطاعة عبارة عما يوافق الأمر والأمر والنهي متضادان فعلى هذا صوم يوم النحر لا يكون منعقدا إن أريد بانعقاده كونه طاعة وقربة وامتثالا لأن النهي يضاده وإذا لم يكن قربة لم يلزم بالنذر إذ لا يلزم بالنذر ما ليس بقربة نعم لو أمكن صرف النهي عن عين الصوم إلى ترك إجابة دعوة الله تعالى فذلك لا يمنع انعقاده ولكن ذلك أيضا فاسد كما سبق في القطب الأول وإن قيل فقد حمل بعض المناهي في الشرع على الفساد دون البعض فما الفصل قلنا النهي لا يدل على الفساد وإنما يعرف فساد العقد والعبادة بفوات شرطه وركنه ويعرف فوات الشرط إما بالإجماع كالطهارة في الصلاة وستر العورة واستقبال القبلة وإما بنص وإما بصيغة النفي كقوله لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود فذلك ظاهر في النفي عند عدم الشرط وأما القياس على منصوص فكل نهي يتضمن ارتكابه الإخلال بالشرط فيدل على الفساد من حيث الإخلال بالشرط لا من حيث النهي وشرط المبيع أن يكون مالا متقوما مقدورا على تسليمه معينا أما كونه مرئيا ففي اشتراطه خلاف وشرط الثمن أن يكون مالا معلوم القدر والجنس وليس من شرط النكاح الصداق فلذلك لم يفسد بكون النكاح على خمر أو خنزير أو مغصوب وإن كان منهيا عنه ولا فرق بين الطلاق السني والبدعي في شرط النفوذ وإن اختلفا في التحريم فإن قيل فلو قال قائل كل نهي رجع إلى عين الشيء فهو دليل الفساد دون ما يرجع إلى غيره فهل يصح قلنا لا لأنه لا فرق بين الطلاق في حال الحيض والصلاة في الدار المغصوبة لأنه إن أمكن أن يقال ليس منهيا عن الطلاق لعينه ولا عن الصلاة لعينها بل
____________________

(1/223)


لوقوعه في حال الحيض ولوقوعها في الدار المغصوبة أمكن تقدير مثله في الصلاة في حال الحيض فلا اعتماد إلا على فوات الشرط ويعرف الشرط بدليل يدل عليه وعلى ارتباط الصحة به ولا يعرف بمجرد النهي فإنه لا يدل عليه وضعا وشرعا كما سبق في المسألة التي قبلها وهذا القدر كاف في صيغة الأمر والنهي فإن ما يتعلق منه بحقيقة الوجوب والتحريم ويضادهما ويوافقهما فقد ميزناه عما يتعلق بمقتضى الصيغة وقررناه في القطب الأول عند البحث عن حقيقة الحكم فإن ذلك نظر عقلي وهذا نظر لغوي من حيث دلالة الألفاظ فلذلك ميزناه على خلاف عادة الأصوليين
القسم الرابع من النظر في الصيغة القول في العام والخاص ويشتمل على مقدمة وخمسة أبواب المقدمة القول في حد العام والخاص ومعناهما أعلم أن العموم والخصوص من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني والأفعال
والعام عبارة عن اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا مثل الرجال والمشركين ومن دخل الدار فأعطه درهما ونظائره كما سيأتي تفصيل صيغ العموم واحترزنا بقولنا من جهة واحدة عن قولهم ضرب زيد عمرا وعن قولهم ضرب زيدا عمرو فإنه يدل على شيئين ولكن بلفظين لا بلفظ واحد ومن جهتين لا من جهة واحدة وأعلم أن اللفظ إما خاص في ذاته مطلقا كقولك زيد وهذا الرجل وإما عام مطلقا كالمذكور والمعلوم إذ لا يخرج منه موجود ولا معدوم وإما عام بالإضافة كلفظ المؤمنين فإنه عام بالإضافة إلى آحاد المؤمنين خاص بالإضافة إلى جملتهم إذ يتناولهم دون المشركين فكأنه يسمى عاما من حيث شموله لما شمله خاصا من حيث اقتصاره على ما شمله وقصوره عما لم يشمله ومن هذا الوجه يمكن أن يقال ليس في الألفاظ عام مطلق لأن لفظ المعلوم لا يتناول المجهول والمذكور لا يتناول المسكوت عنه فإن قيل فلم قلتم إن العموم من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني والأفعال والعطاء فعل وقد يعطي عمرا وزيدا وتقول عممهما بالعطاء والوجود معنى وهو يعم الجواهر والأعراض قلنا عطاء زيد متميز عن عطاء عمرو من حيث أنه فعل فليس في الوجود فعل واحد هو عطاء وتكون نسبته إلى زيد وعمرو واحدة وكذلك وجود السواد يفارق وجود البياض وليس الوجود معنى واحدا حاصلا مشركا بينهما وإن كانت حقيقته واحدة في العقل وعمو الناس وقدرهم وإن كانت مشتركة في كونها علما وقدرة لا يوصف بأنه عموم فقولنا الرجل له وجود في الأعيان وفي الأذهان وفي اللسان أما وجوده في الأعيان فلا عموم فيه إذ ليس في الوجود رجل مطلق بل إما زيد وإما عمرو وليس يشملهما شيء واحد هو الرجولية وأما وجوده في اللسان فلفظ الرجل قد وضع للدلالة ونسبته في الدلالة إلى زيد وعمرو واحدة يسمى عاما باعتبار نسبة الدلالة إلى المدلولات الكثيرة وأما ما في الأذهان من معنى الرجل فيسمى كليا من حيث أن العقل يأخذ من مشاهدة زيد حقيقة الإنسان وحقيقة الرجل فإذا رأى عمرا لم يأخذ منه صورة أخرى وكان ما أخذه من قبل نسبته إلى عمرو والذي حدث الآن كنسبته إلى زيد الذي عهده أولا فهذا معنى كليته فإن سمي
____________________

(1/224)


عاما بهذا فلا بأس فإن قيل فهل يجوز أن يقال هذا عام مخصوص وهذا عام قد خصص قلنا لا لأن المذاهب ثلاثة مذهب أرباب الخصوص ومذهب أرباب العموم ومذهب الواقفية
أما أرباب الخصوص فإنهم يقولون لفظ المشركين مثلا موضوع لأقل الجمع وهو للخصوص فكيف يقولون إنه عموم قد خصص
وأما أرباب العموم فيقولون هو الاستغراق فإن أريد به البعض فقد تجوز به عن حقيقته ووضعه فلم يتصرف في الوضع ولم يغير حتى يقال إنه خصص العام أو هو عام مخصوص
وأما الواقفية فإنهم يقولون إن اللفظ مشترك وإنما ينزل على خصوص أو عموم بقرينة وإرادة معينة كلفظ العين فإن أريد به الخصوص فهو موضوع له لا أنه عام قد خصص وإن أريد به العموم فهو موضوع له لا أنه خاص قد عمم فإذا هذا اللفظ مؤول على كل مذهب فيكون معناه أنه كان يصلح أن يقصد به العموم فقصد به الخصوص وهذا على مذهب الوقف وعلى مذهب الاستغراق أن وضعه للعموم واستعمل في غير وضعه مجازا فهو عام بالوضع خاص بالإرادة والتجوز وإلا فالعام والخاص بالوضع لا ينقلب عن وضعه بإرادة المتكلم فإن قيل فما معنى قولهم خصص فلأن عموم الآية والخبران كان العام لا يقبل التخصيص قلنا تخصيص العام محال كما سبق وتأويل هذا اللفظ أن يعرف أنه أريد باللفظ العام بالوضع أو الصالح لإرادة العموم الخصوص فيقال على سبيل التوسع لمن عرف ذلك أنه خصص العموم أي عرف أنه أريد به الخصوص ثم من لم يعرف ذلك لكن اعتقده أو ظنه أو أخبر عنه بلسانه أو نصب الدليل عليه يسمى مخصصا وإنما هو معرف ومخبر عن إرادة المتكلم ومستدل عليه بالقرائن لا أنه مخصص بنفسه هذه هي المقدمة
أما الأبواب فهي خمسة الباب الأول في أن العموم هل له صيغة أم لا واختلاف المذاهب فيه
الباب الثاني في تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه عما لا يمكن
الباب الثالث في تفصيل الأدلة المخصصة
الباب الرابع في تعارض العمومين
الباب الخامس في الاستثناء والشرط
الباب الأول في أن العموم هل له صيغة في اللغة أم لا ولنشرح أولا صيغ العموم عند القائلين بها ثم اختلاف المذاهب ثم أدلة أرباب الخصوص ثم أدلة أرباب العموم ثم أدلة أرباب الوقف ثم المختار فيه عندنا ثم حكم العام عند القائلين به إذا دخله التخصيص فهذه سبعة فصول في صيغ العموم
وأعلم أنها عند القائلين بها خمسة أنواع الأول ألفاظ الجموع أما المعرفة كالرجال والمشركين وأما المنكرة كقولهم رجال ومشركون كما قال تعالى { ما لنا لا نرى رجالا } ص 62 والمعرفة للعموم إذا لم يقصد بها تعريف المعهود كقولهم أقبل الرجل والرجال أي المعهودون المنتظرون
الثاني من وما إذا ورد للشرط والجزاء كقوله عليه السلام من أحيا أرضا ميتة فهي له
وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه وفي معناه متى وأين للمكان والزمان كقوله متى جئتني أكرمتك وأينما كنت أتيتك
الثالث ألفاظ النفي كقولك ما جاءني أحد وما في الدار ديار
الرابع الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام لا للتعريف كقوله تعالى { إن الإنسان لفي خسر } العصر 2 وقوله { والسارق والسارقة } المائدة 38 أما النكرة
____________________

(1/225)


كقولك مشرك وسارق فلا يتناول إلا واحدا
الخامس الألفاظ المؤكدة كقولهم كل وجميع وأجمعون وأكتعون
تفصيل المذاهب أعلم أن الناس اختلفوا في هذه الأنواع الخمسة على ثلاثة مذاهب فقال قوم يلقبون بأرباب الخصوص إنه موضوع لأقل الجمع وهو إما اثنان وإما ثلاثة على ما سيأتي الخلاف فيه وقال أرباب العموم هو للاستغراق بالوضع إلا أن يتجوز به عن وضعه وقالت الواقفية لم يوضع لا لخصوص ولا لعموم بل أقل الجمع داخل فيه لضرورة صدق اللفظ بحكم الوضع وهو بالإضافة إلى الاستغراق للجميع أو الاقتصار على الأقل أو تناول صنف أو عدد بين الأقل والاستغراق مشترك يصلح لكل واحد من الأقسام كاشتراك لفظ الفرقة والنفر بين الثلاثة والخمسة والستة إذ يصلح لكل واحد منهم فليس مخصوصا في الوضع بعدد وإن كنا نعلم أن أقل الجمع لا بد منه ليجوز إطلاقه ثم أرباب العموم اختلفوا في التفصيل في ثلاث مسائل الأولى الفرق بين المعرف والمنكر فقال الجمهور لا فرق بين قولنا اضربوا الرجال وبين قولنا اضربوا رجالا واقتلوا المشركين وأقتلوا مشركين وإليه ذهب الجبائي وقال قوم يدل المنكر على جمع غير معين ولا مقدر ولا يدل على الاستغراق وهو الأظهر
الثاني اختلفوا في الجمع المعرف بالألف واللام كالسارقين والمشركين والفقراء والمساكين والعاملين فقال قوم هو للاستغراق وقال قوم هو لأقل الجمع ولا يحمل على الاستغراق إلا بدليل والأول أقوى وأليق بمذاهب أرباب العموم
الثالثة الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام كقولهم الدينار خير من الدرهم فمنهم من قال هو لتعريف الواحد فقط وذلك في تعريف المعهود وقال قوم هو للاستغراق وقال قوم يصلح للواحد والجنس ولبعض الجنس فهو مشترك ومذهب الواقفية أن جميع هذه الألفاظ مشتركة ولم يبق منها شيء للاستغراق حتى كل وكلما وأي والذي ومن وما واختلفوا في مسألة واحدة فقال قوم إنما التوقف في العموم الواردة في الأخبار والوعد والوعيد أما الأمر والنهي فلا
فإنا متعبدون بفهمه ولو كان مشتركا لكان مجملا غير مفهوم وهذا فاسد لا يليق بمذهب الواقفية لأن دليلهم لا يفرق بين جنس وجنس إذ العرب تريد بصيغ الجمع البعض في كل جنس كما تريد الكل ويستوي في ذلك قولهم فعلوا وافعلوا وقولهم قتل المشركون واقتلوا المشركين ولأن من الأخبار ما تعبد بفهمه كقوله تعالى { وهو بكل شيء عليم } البقرة 29 { الأنعام } وقوله { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } الأنعام 101
( تنبيه ) لا ينبغي أن يقول الواقفية الوقف في ألفاظ العموم جائز وفيما مخرجه مخرج العموم واجب فقد أطلق ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة لأن المتوقف لا يسلم أنه لفظ العموم كما لا يسلم أنه لفظ الخصوص إلا أن يعني به أنه لفظ العموم عند معتقدي العموم بل ينبغي أن يقول التوقف في صيغ الجموع وأدوات الشرط واجب

____________________

(1/226)


القول في أدلة أرباب العموم ونقضها وهي خمسة الدليل الأول أن أهل اللغة بل أهل جميع اللغات كما عقلوا الأعداد والأنواع والأشخاص والأجناس ووضعوا لكل واحدا اسما لحاجتهم إليه عقلوا أيضا معنى العموم واستغراق الجنس واحتاجوا إليه فكيف لم يضعوا له صيغة ولفظا الاعتراض من أربعة أوجه الأول أن هذا قياس واستدلال في اللغات واللغة تثبت توقيفا ونقلا لا قياسا واستدلالا بل هي كسنن الرسول عليه السلام وليس لقائل أن يقول الشارع كما عرف الأشياء الستة وجريان الربا فيها ومست إليه حاجة الخلق ونص عليها فينبغي أن يكون قد نص على سائر الربويات وهذا فاسد
الثاني أنه وإن سلم أن ذلك واجب في الحكمة فمن يسلم عصمة واضعي اللغة حتى لا يخالفوا الحكمة في وضعها وهم في حكم من يترك ما لا تقتضي الحكمة تركه
الثالث إن هذا منقوض فإن العرب عقلت الماضي والمستقبل والحال ثم لم تضع للحال لفظا مخصوصا حتى لزم استعمال المستقبل أو اسم الفاعل فيها فتقول رأيته يضرب أو ضاربا ثم كما عقلت الألوان عقلت الروائح ثم لم تضع للروائح أسامي حتى لزم تعريفها بالإضافة فيقال ريح المسك وريح العود ولا يقال لون الدم ولون الزعفران بل أصفر أو أحمر
الرابع أنا لا نسلم أنهم لم يضعوا للعموم لفظا كما لا نسلم أنهم لم يضعوا للعين الباصرة لفظا وإن كان العين مشتركا بين أشياء لم يخرج عن كونه موضوعا له وإن لم يكن وقفا عليه بل صالحا له ولغيره وكذلك صيغ الجموع مشتركة بين العموم والخصوص
الدليل الثاني أنه يحسن أن تقول اقتلوا المشركين إلا زيدا ومن دخل الدار فأكرمه إلا الفاسق ومن عصاني عاقبته إلا المعتذر ومعنى الاستثناء إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ إذ لا يجوز أن تقول اكرم الناس إلا الثور الاعتراض أن للاستثناء فائدتين إحداهما ما ذكرتموه وهو إخراج ما يجب دخوله تحت اللفظ كقوله علي عشرة إلا ثلاثة والثاني ما يصلح أن يدخل تحته ويتوهم أن يكون مرادا به وهذا صالح لأن يدخل تحت اللفظ والاستثناء لقطع صلاحيته لا لقطع وجوبه بخلاف الثور إن لفظ الناس لا يصلح لإرادته
الدليل الثالث أن تأكيد الشيء ينبغي أن يكون موافقا لمعناه ومطابقا له وتأكيدا لخصوص غير تأكيد العموم إذ يقال اضرب زيدا نفسه واضرب الرجال أجمعين أكتعين ولا يقال اضرب زيدا كلهم
الاعتراض أن الخصم يسلم أن لفظ الجمع يتناول قوما وهو أقل الجمع فما زاد ويجوز أن يقال اضرب القوم كلهم لأن للقوم كلية وجزئية أما زيد والواحد المعين ليس له بعض فليس فيه كل وكما أن الفظ العموم لا يتعين مبلغ المراد منه بعد مجاوزة أقل الجمع فكذلك لفظ المشركين والمؤمنين والكلام في أنه لاستغراق الجنس أو لأقل الجمع أو لعدد بين الدرجتين وكيفما كان فلفظ الكلية لائق به فإن قيل فإذا قال أكرم الناس أكتعين أجمعين كلهم وكافتهم ينبغي أن يدل هذا على الاستغراق ثم يكون
____________________

(1/227)


الدال هو المؤكد دون التأكيد فإن التأكيد تابع وإنما يؤكد بالاستغراق ما يدل على استغراق الجماعة الذين أرادهم بلفظ الناس قلنا لا يشعر بالاستغراق كما لو قال أكرم الفرقة والطائفة كلهم وكافتهم وجملتهم لم يتغير به مفهوم لفظ الفرقة ولم يتعين للأكثر بل نقول لو كان لفظ الناس يدل على الاستغراق لم يحسن أن يقول كافتهم وجملتهم فإنما تذكر هذه الزيادة لمزيد فائدة فهو مشعر بنقيض غرضهم
الدليل الرابع أن صيغ العموم باطل أن تكون لأقل الجمع خاصة كما سيأتي وباطل أن تكون مشتركا إذ يبقى مجهولا ولا يفهم إلا بقرينة وتلك القرينة لفظ أو معنى فإن كان لفظا فالنزاع في ذلك اللفظ قائم فإن الخلاف في أنه هل وضع العرب صيغة تدل على الاستغراق أم لا وإن كان معنى فالمعنى تابع للفظ فكيف تزيد دلالته على اللفظ الاعتراض إن قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلم وتغيرات في وجهه وأمور معلومة من عادته ومقاصده وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ولا ضبطها بوصف بل هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل ووجل الوجل وجبن الجبان وكما يعلم قصد المتكلم إذا قال السلام عليكم أنه يريد التحية أو الاستهزاء واللهو ومن جملة القرائن فعل المتكلم فإنه إذا قال على المائدة هات الماء فهم أنه يريد الماء العذب البارد دون الحار الملح وقد تكون دليل العقل كعموم قوله تعالى { وهو بكل شيء عليم } البقرة 29 { الأنعام } { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } وخصوص قوله تعالى { الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل } الزمر 26 إذ لا يدخل فيه ذاته وصفاته ومن جملته تكرير الألفاظ المؤكدة كقوله اضرب الجناة وأكرم المؤمنين كافتهم صغيرهم وكبيرهم شيخهم وشابهم ذكرهم وأنثاهم كيف كانوا وعلى أي وجه وصورة كانوا ولا تغادر منهم أحدا بسبب من الأسباب ووجه من الوجوه ولا يزال يؤكد حتى يحصل علم ضروري بمراده أما قولهم ما ليس بلفظ فهو تابع للفظ فهو فاسد فمن سلم أن حركة المتكلم وأخلاقه وعادته وأفعاله وتغير لونه وتقطيب وجهه وجبينه وحركة رأسه وتقليب عينيه تابع للفظه بل هذه أدلة مستقلة يفيد اقتران جملة علوما ضرورية فإن قيل فبم عرفت الأمة عموم ألفاظ الكتاب والسنة إن لم يفهموه من اللفظ وبم عرف الرسول من جبريل وجبريل من الله تعالى حتى عمموا الأحكام قلنا أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد عرفوه بقرائن أحوال النبي عليه السلام وتكريراته وعادته المتكررة وعلم التابعون بقرائن أحوال الصحابة وإشاراتهم ورموزهم وتكريراتهم المختلفة وأما جبريل عليه السلام فإن سمع من الله بغير واسطة فالله تعالى يخلق له العلم الضروري بما يريده بالخطاب بكلامه المخالف لأجناس كلام الخلق وإن رآه جبريل في اللوح المحفوظ فبأن يراه مكتوبا بلغة ملكية ودلالة قطعية لا احتمال فيها
الدليل الخامس وهو عمدتهم إجماع الصحابة فإنهم وأهل اللغة بأجمعهم أجروا ألفاظ الكتاب والسنة على العموم إلا ما دل الدليل على تخصيصه وإنهم كانوا يطلبون دليل الخصوص لا دليل العموم فعملوا بقول الله تعالى { يوصيكم الله في أولادكم } النساء 11 واستدلوا به على إرث فاطمة رضي الله عنها حتى نقل أبو بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث وقوله { الزانية والزاني } النور 2 { والسارق والسارقة }
____________________

(1/228)


( المائدة 38 ) { ومن قتل مظلوما } الإسراء 33 { وذروا ما بقي من الربا } البقرة 278 { ولا تقتلوا أنفسكم } النساء 29 { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } المائدة 95 ? < ولا وصية لوارثولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها ومن ألقى سلاحه فهو آمن ولا يرث القاتل ولا يقتل والد بولده إلى غير ذلك مما لا يحصى ويدل عليه أنه لما نزل قوله تعالى > ? لا يستوي القاعدون من المؤمنين { النساء } الآية قال ابن أم مكتوم ما قال وكان ضريرا فنزل قوله تعالى { والأرض } النساء 95 فشمل الضرير وغيره عموم لفظ المؤمنين ولما نزل قوله تعالى { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } الأنبياء 98 قال بعض اليهود أنا أخصم لكم محمدا فجاءه وقال قد عبدت الملائكة وعبد المسيح فيجب أن يكونوا من حطب جهنم فأنزل الله عز وجل { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } الأنبياء 101 تنبيها على التخصيص ولم ينكر النبي عليه السلام والصحابة رضي الله عنهم تعلقه بالعموم وما قالوا له لم استدللت بلفظ مشترك مجمل ولما نزل قوله تعالى { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } الأنعام 82 قالت الصحابة فأينا لم يظلم فبين أنه إنما أراد ظلم النفاق والكفر واحتج عمر رضي الله عنه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوله عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فدفعه أبو بكر بقوله إلا بحقها ولم ينكر عليه التعلق بالعموم وهذا وأمثاله لا تنحصر حكايته الاعتراض من وجهين أحدهما أن هذا إن صح من بعض الأمة فلا يصح من جميعهم فلا يبعد من بعض الأمة اعتقاد العموم فإنه الأسبق إلى أكثر الأفهام ولا يسلم صحة ذلك على كافة الصحابة
الثاني إنه لو نقل ما ذكروه عن جملة الصحابة فلم ينقل عنهم قولهم على التواتر إنا حكمنا في هذه المسائل بمجرد العموم لأجل اللفظ من غير التفات إلى قرينة فلعل بعضهم قضى باللفظ مع القرينة المسوية بين المراد باللفظ وبين بقية المسميات لعلمه بأنه لا مدخل في التأثير للفارق بين محل القطع ومحل الشك والخلاف راجع إلى أن العموم متمسك به بشرط انتفاء قرينة مخصصة أو بشرط اقتران قرينة مسوية بين المسميات ولم يصرح الصحابة بحقيقة هذه المسألة ومجرى الخلاف فيها وأنه متمسك به بشرط انتفاء المخصص لا بشرط وجود القرينة المسوية
شبه أرباب الخصوص ذهب قوم إلى أن لفظ الفقراء والمساكين والمشركين ينزل على أقل الجمع واستدلوا بأنه القدر المستيقن دخوله تحت اللفظ
والباقي مشكوك فيه ولا سبيل إلى إثبات حكم بالشك وهذا استدلال فاسد لأن كون هذا القدر مستيقنا لا يدل على كونه مجازا في الزيادة والخلاف في أنه لو أريد به الزيادة لكان حقيقة أو مجازا فإن الثلاثة مستيقنة من لفظ العشرة ولا يوجب كونه مجازا في الباقي وكون ارتفاع الحرج معلوما من صيغة الأمر لا يوجب كونه مجازا في الوجوب والندب وكون الواحد مستيقنا من لفظ الناس
____________________

(1/229)


لا يوجب كونه مجازا في الباقي وكون الندب مستقينا من الأمر لا يوجب كونه مجازا في الوجوب وكون الفعلة الواحدة مستيقنة في الأمر لا يوجب كونه مجازا في التكرار وكون البدار معلوما في الأمر لا يوجب كونه مجازا في التراخي ثم نقول هذا متناقض لأن قولهم إن الثلاثة هو المفهوم فقط يناقض قولهم الباقي مشكوك لأنه إن كان هو المفهوم فقط فالباقي غير داخل قطعا
وإن كانوا شاكين في الباقي فقد شكوا في نفس المسألة فإن الخلاف في الباقي وأخطأوا في قولهم إن الثلاثة مفهومه فقط
شبه أرباب الوقف قد ذهب القاضي والأشعري وجماعة من المتكلمين إلى الوقف ولهم شبه ثلاث الأولى أن كون هذه الصيغ موضوعة للعموم لا يخلو إما أن تعرف بعقل أو نقل والنقل إما نقل عن أهل اللغة أو نقل عن الشارع وكل واحد إما آحاد وإما تواتر والآحاد لا حجة فيها والتواتر لا يمكن دعواه فإنه لو كان لأفاد علما ضروريا والعقل لا مدخل له في اللغات وهلم جرا إلى تمام الدليل الذي سقناه في بيان أن صيغة الأمر مترددة بين الإيجاب والندب الاعتراض أن هذا مطالبة بالدليل وليس بدليل ومسلم أنه إن لم يدل دليل فلا سبيل إلى القول به وسنذكر وجه الدليل عليه إن شاء الله
الثانية إنا لما رأينا العرب تستعمل لفظ العين في مسمياته ولفظ اللون في السواد والبياض والحمرة استعمالا واحدا متشابها قضينا بأنه مشترك فمن ادعى أنه حقيقة في واحد ومجاز في الآخر فهو متحكم وكذلك رأيناهم يستعملون هذه الصيغ للعموم والخصوص جميعا بل استعمالهم لها في الخصوص أكثر فقلما وجد في الكتاب والسنة والكلمات المطلقة في المحاورات ما لا يتطرق إليه التخصيص فمن زعم أنه مجاز في الخصوص حقيقة في العموم كان كمن قال هو حقيقة في الخصوص مجاز في العموم والقولان متقابلان فيجب تدافعهما والاعتراف بالاشتراك
الاعتراض إن هذا أيضا يرجع إلى المطالبة بالدليل وليس بدليل لأن العرب تستعمل المجاز والحقيقة كما تستعمل اللفظ المشترك ولم تقيموا دليلا على أن هذا ليس من قبيل المجاز والحقيقة بل طالبتم بالدليل على أن هذا ليس من المشترك
الشبهة الثالثة قولهم إنه كم يحسن الاستفهام في قوله افعل إنه للوجوب أو الندب فيحسن الاستفهام في صيغ الجمع أنه أريد به البعض أو الكل فإنه إذا قال السيد لعبده من أخذ مالي فأقتله يحسن أن يقول وإن كان إباك أو ولدك فيقول لا أو نعم ويقول من أطاعني فأكرمه فيقول وإن كان كافرا أو فاسقا فيقول لا أو نعم فكل ذلك مما يحسن فلو قال اقتل كل مشرك فيقول والمؤمن أيضا اقتله أم لا فلا يحسن هذا الاستفهام لظهور التجوز به عن الخصوص قلنا المجاز إذا كثر استعماله كان للمستفهم الاحتياط في طلبه أو يحسن إذا عرف من عادة المتكلم أنه يهين الفاسق والكافر وإن أطاعه ويسامح الأب
____________________

(1/230)


في بذل المال والقرينة تشهد للخصوص واللفظ يشهد للعموم ويتعارض ما يورث الشك فيحسن الاستفهام
بيان الطريق المختار عندنا في إثبات العموم أعلم أن هذا النظر لا يختص بلغة العرب بل هو جار في جميع اللغات لأن صيغ العموم محتاج إليها في جميع اللغات فيبعد أن يغفل عنها جميع أصناف الخلق فلا يضعونها مع الحاجة إليها ويدل على وضعها توجه الاعتراض على من عصى الأمر العام وسقوط الاعتراض عمن أطاع ولزوم النقض والخلف عن الخبر العام وجواز بناء الاستحلال على المحللات العامة فهذه أمور أربعة تدل على الغرض وبيانها أن السيد إذا قال لعبده من دخل اليوم داري فأعطه درهما أو رغيفا فأعطى كل داخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه فإن عاتبه في إعطائه واحدا من الداخلين مثلا وقال لم أعطيت هذا من جملتهم وهو قصير وإنما أردت الطوال أو هو أسود وإنما أردت البيض فللعبد أن يقول ما أمرتني بإعطاء الطوال ولا البيض بل بإعطاء من دخل وهذا داخل فالعقلاء إذا سمعوا هذا الكلام في اللغات كلها أو إعتراض السيد ساقطا وعذر العبد متوجها وقالوا للسيد أنت أمرته بإعطاء من دخل وهذا قد دخل ولو أنه أعطى الجميع إلا واحدا فعاتبه السيد وقال لم لم تعطه فقال العبد لأن هذا طويل أو أبيض وكان لفظك عاما فقلت لعلك أردت القصار أو السود استوجب التأديب بهذا الكلام وقيل له مالك وللنظر إلى الطول واللون وقد أمرت بإعطاء الداخل فهذا معنى سقوط الاعتراض عن المطيع وتوجهه على العاصي وأما النقض على الخبر فإذا قال ما رأيت اليوم أحدا وكان قد رأى جماعة كان كلامه خلفا منقوضا وكذبا فإن أردت أحدا غير تلك الجماعة كان مستنكرا وهذه كصيغ الجميع فإن النكرة في النفي تعم عند القائلين بالعموم ولذلك قال الله تعالى { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } الأنعام 91 وإنما أورد هذا نقضا على كلامهم فإن لم يكن عاما فلم ورد النقض عليهم فإن هم أرادوا غير موسى فلم لزم دخول موسى تحت اسم البشر وأما الاستحلال بالعموم فإذا قال الرجل أعتقت عبيدي وإمائي ومات عقيبه جاز لمن سمعه أن يزوج من أي عبيده شاء ويتزوج من أي جواريه شاء بغير رضا الورثة وإذا قال العبيد الذين هم في يدي ملك فلان كان ذلك إقرارا محكوما به في الجميع وبناء الأحكام على أمثال هذه العمومات في سائر اللغات لا ينحصر ولا خلاف في أنه لو قال أنفق على عبدي غانم أو على زوجتي زينب أو قال غانم حر وزينب طالق وله عبدان اسمهما غانم وزوجتان اسمهما زينب فتجب المراجعة والاستفهام لأنه أتى باسم مشترك غير مفهوم فإن كان لفظ العموم فيما وراء أقل الجمع مشتركا فينبغي أن يجب التوقف على العبد إذا أعطى ثلاثة ممن دخل الدار وينبغي أن يراجع في الباقي وليس كذلك عند العقلاء كلهم في اللغات كلها فإن قيل إن سلم لكم ما ذكرتموه فإنما يسلم بسبب القرائن لا بمجرد اللفظ فإن عرى عن القرائن فلا يسلم قلنا كل قرينة قدرتموها فعلينا أن نقدر نفيها أو يبقى حكم الاعتراض والنقض كما سبق فإن غايتهم أن يقولوا إذا قال أنفق على عبيدي وجواري في غيبتي كان
____________________

(1/231)


مطيعا بالانفاق على الجميع لأجل قرينة لحاجة إلى النفقة أو أعط من دخل داري فهو بقرينة إكرام الزائر فهذا وما يجري مجراه إذا قدروه فسبيلنا أن نقدر أضدادها فإنه لو قال لا تنفق على عبيدي وزوجاتي كان عاصيا بالانفاق مطيعا بالتضييع ولو قال اضربهم لم يكن عليه أن يقتصر على ثلاثة بل إذا ضرب جميعهم عد مطيعا ولو قال من دخل داري فخذ منه شيئا بقي العموم بل نقدر ما لا غرض في نفيه وإثباته فلو قال من قال من عبيدي جيم فقل له صاد ومن قال من جواري ألف فأعتقها فامتثل أو عصى كان ما ذكرناه من سقوط الاعتراض وتوجهه جاريا بل نعلم قطعا أنه لو ورد من صادق عرف صدقه بالمعجزة ولم يعش إلا ساعة من نهار وقال في تلك الساعة من سرق فأقطعوه ومن زنى فاضربوه والصلاة واجبة على كل عاقل بالغ وكذلك الزكاة ومن قتل مسلما فعلية القصاص ومن كان له ولد فعليه النفقة ومات عقيب هذا الكلام ولم نعرف له عادة ولا أدركنا من أحواله قرينة ولا صدر منه سوى هذه الألفاظ إشارة ورمزا ولا ظهر في وجهه حالة لكنا نحكم بهذه الألفاظ ونتبعها ولا يقال جاء بألفاظ مشتركة مجملة ومات قبل أن يبينها فلا يمكن العمل بها ولو قدروا قرينة في نطقه وصورة حركته عند كلامه فليقدر أنه كتب في كتاب وسلمه إلينا وقال اعملوا بما فيه ومات وإن قدروا قرينة مناسبة بين هذه الجنايات والعقوبات فنقدر أمورا لا مناسبة فيها كحروف المعجم فإذا قال من قال لكم ألف فقولوا جيم وأمثاله فيكون جميع ذلك مفهوما معمولا به وكل قرينة قدروها فنقدر نفيها ويبقى ما ذكرنا بمجرد اللفظ وبهذا تبين أن الصحابة إنما تمسكوا بالعمومات بمجرد اللفظ وانتفاء القرائن المخصصة لا أنهم طلبوا قرينة معممة وتسوية بين أقل الجمع والزيادة فإن قيل إذا قال من دخل داري فأعطه فيحسن أن يقال ولو كان كافرا فاسقا فربما يقول نعم وربما يقول لا فلو عم اللفظ فلم حسن الاستفهام قلنا لا يحسن أن يقال وإن كان طويلا أو أبيض أو محترفا وما جرى مجراه وإنما حسن السؤال عن الفاسق لأنه يفهم من الإعطاء الإكرام ويعلم من عادته أنه لا يكرم الفاسق أو علم من عادة الناس ذلك فتوهم أنه يقتدي بالناس فيه فلتوهم هذه القرينة المخصصة حسن منه السؤال ولذلك لم يحسن في سائر الصفات ولذلك لو لم يراجع وأعطى الفاسق وعاتبه السيد فله أن يقول أمرتني بإعطاء كل داخل وهذا قد دخل فيقول السيد كان ينبغي أن تعرف بعقلك أن هذا إكرام والفاسق لا يكرم فيتمسك بقرينة مخصصة فربما يكون مقبولا فلو لم يقل هذا ولكن قال كان لفظي مشتركا غير مفهوم فلم أقدمت قبل السؤال لم يكن هذا العتاب متوجها قطعا فإن قيل فقد فرضتم الكلام في أداة الشرط وقد قال بعمومه من أنكر سائر العمومات فما الدليل في سائر الصور قلنا هذا يجري في ( من ) و ( ما ) و ( متى ) و ( حيث ) وأي وقت وأي شخص ونظائره ويجري أيضا في النكرة في النفي كقوله ما رأيت أحدا مثل قوله تعالى { ما أنزل الله على بشر من شيء } الأنعام 91 وكذلك في قولهم ( كل ) و ( جميع ) و ( أجمعون ) بل هو أظهر وهو النوع الثالث وكذلك في النوع الرابع وهي صيغ الجموع كالفقراء والمساكين وهذا أيضا جار فيه فإنه إذا قال لعبده أعط الفقراء واقتل المشركين واقتصر على هذا وانتفت القرائن
____________________

(1/232)


جري حكم الطاعة والعصيان وتوجه الاعتراض وسقوطه كما سبق وهو جار في كل جمع إلا في بعض الجموع المبنية للتقليل كما ورد على وزن الأفعال كالأثواب والأفعلة كالأرغفة والأفعل كالأكلب والفعلة كالصبية وقد قال سيبويه جميع هذا للتقليل وما عداه للتكثير وقيل أيضا جمع السلامة للتقليل وهذا بعيد لا سيما فيما ليس فيه جمع مبني للتكثير وجمع القلة أيضا لا يتقدر المراد منه بل يختلف ذلك بالقرائن والأحوال إلا أنه ليس موضوعا للاستغراق
وأما النوع الخامس وهو الاسم المفرد إذا دخل عليه الألف واللام فهذا فيه نظر وقد اختلفوا فيه والصحيح التفصيل وهو أنه ينقسم إلى ما يتميز فيه لفظ الواحد عن الجنس بالهاء كالتمرة والتمر والبرة والبر فإن عري عن الهاء فهو للاستغراق فقوله لا تبيعوا البر بالبر ولا التمر بالتمر يعم كل بر وتمر وما لا يتميز بالهاء ينقسم إلى ما يتشخص ويتعدد كالدينار والرجل حتى يقال دينار واحد ورجل واحد وإلى ما لا يتشخص واحد منه كالذهب إذ لا يقال ذهب واحد فهذا لاستغراق الجنس أما الدينار والرجل فيشبه أن يكون للواحد والألف واللام فيه للتعريف فقط وقولهم الدينار أفضل من الدرهم يعرف بقرينة التسعير ويحتمل أن يقال هو دليل على الاستغراق فإنه لو قال لا يقتل المسلم بالكافر ولا يقتل الرجل بالمرأة فهم ذلك في الجميع فإنه لو قد حيث لا مناسبة فلا يخلو عن الدلالة على الجنس
القول في العموم إذا خص هل يصير مجازا في الباقي وهل يبقى حجة وهما نظران أما صيرورته مجازا فقد اختلفوا فيه على أربعة مذاهب
فقال قوم يبقى حقيقة لأنه كان متناولا لما بقي حقيقة فخروج غيره عنه لا يؤثر وقال قوم يصير مجازا لأنه وضع للعموم فإذا أريد به غير ما وضع له بالقرينة كان مجازا وإن لم يكن هذا مجازا فلا يبقى للمجاز معنى ولا يكفي تناوله مع غيره لأنه لا خلاف أنه لورد إلى ما دون أقل الجمع صار مجازا فإذا قال لا تكلم الناس ثم قال أردت زيدا خاصة كان مجازا وإن كان هو داخلا فيه
وقال قوم هو حقيقة في تناوله مجاز في الإقتصار عليه وهذا ضعيف فإنه لورد إلى الواحد كان مجازا مطلقا لأنه تغير عن وضعه في الدلالة فالسارق مهما صار عبارة عن سارق النصاب خاصة فقد تغير الوضع واستعمل لا على الوجه الذي وضعته العرب وقد اختار القاضي في التفريع على مذهب أرباب العموم أنه صار مجازا لكن قال إنما يصير مجازا إذا أخرج منه البعض بدليل منفصل من عقل أو نقل أما ما خرج بلفظ متصل كالاستثناء فلا يجعله مجازا بل يصير الكلام بسبب الزيادة المتصلة به كلاما آخر موضوعا لشيء آخر فإنا نريد الواو والنون في قولنا مسلم فنقول مسلمون فيدل على أمر زائد ولا نجعله مجازا ونزيد الألف واللام على قولنا رجل فنقول الرجل فيزيد فائدة أخرى وهي التعريف لأن هذه صارت صيغة أخرى بهذه الزيادة فجاز أن يدل على معنى آخر ولا فرق بين أن نزيد حرفا أو كلمة فإذا قال يقطع السارق إلا من سرق دون النصاب كان مجموع هذا الكلام موضوعا للدلالة على ما دل عليه فقوله تعالى { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } العنكبوت 14 دل على تسعمائة وخمسين لا على سبيل المجاز بل
____________________

(1/233)


الوضع كذلك وضع وكأن العرب وضعت عن تسعمائة وخمسين عبارتين إحداهما ألف سنة إلا خمسين والأخرى تسعمائة وخمسون ويمكن أن يقال ما صار عبارة بالوضع عن هذا القدر بل بقي الألف للألف والخمسون للخمسين وإلا للرفع بعد الإثبات ونحن بعلم الحساب عرفنا أن هذا تسعمائة وخمسون فإنا إذا وضعنا ألفا ورفعنا خمسين علمنا مقدار الباقي بعلم الحساب فلا نقول المجموع صار عبارة موضوعة عن هذا العدد وهذا أدق وأحق لا كزيادة الألف واللام والياء والنون على المسلم فإن تلك الزيادة لا معنى لها بغير اللفظ الأول
فإن قيل لو قال الله تعالى { براءة من الله ورسوله } فقال الرسول متصلا به إلا زيدا فهل يكون هذا كالمتصل الذي لا يجعل لفظ المشركين مجازا في الباقي قلنا اختلفوا فيه والظاهر أن هذا من غير المتكلم يجري مجرى الدليل المنفصل من قياس العقل والنقل ولهذا لو قال زيد وقال غيره قام لا يصير خبرا حتى يصدر من الأول قوله قام لأن نظم الكلام إنما يكون من متكلم واحد وذلك يجعله خبرا فإن قيل فلو أخرج بالاستثناء عن لفظ المشركين الجميع إلا زيدا فهل يصير لفظ المشركين مجازا قلنا نعم لأنه للجمع بالاتفاق والخلاف في أنه مستغرق أو غير مستغرق فهو عند أرباب العموم عند الاستثناء لجمع غير مستغرق دون الاستثناء لجمع مستغرق
وأما النظر الثاني في كونه حجة في الباقي فقد قال قوم من القائلين بالعموم إنه لا يبقى حجة بل صار مجملا وإليه ذهبت القدرية لأنه إذا لم يترك على الوضع فلا يبقى للفهم معتمد سوى القرينة وتلك القرينة غير معينة فلا يهتدي إليها ومن هؤلاء من قال أقل الجمع يبقى لأنه مستيقن واحتج القائلون بكونه مجملا بأن السارق إذا خرج منه سارق ما دون النصاب والسارق من غير الحرز ومن يستحق النفقة وغير ذلك فبم يفهم المراد منه على سبيل الحصر وقد خرج الوضع من أيدينا ولا قرينة تفصل وتحصر فيبقى مجملا والصحيح أنه يبقى حجه إلا إذا استثنى منه مجهولا كما لو قال اقتلوا المشركين إلا رجلا أما إذا استخرج منه معلوم فإنه يبقى دليلا في الباقي ولأجله تمسك الصحابة بالعمومات وما من عموم إلا وقد تطرق إليه التخصيص وهذا لأن لفظ السارق يتناول كل سارق بالوضع لولا دليل مخصوص والدليل المخصوص صرف دلالته عن البعض ولا مسقط لدلالته في الباقي نعم لا يدل اللفظ على إخراج ما خرج فافتقر إلى دليل مخرج وقصوره عنه لا يدل على قصوره عن تناول الباقي فمن قال أعتق رقبة ثم قال لا تعتق معيبة ولا كافرة لم يخرج به كلامه الأول عن كونه مفهوما والرجوع في هذا إلى عادة اللسان وأهل اللغة وعادات الصحابة إذ لم يطرحوا جميع عمومات الكتاب والسنة لتطرق التخصيص إليها وعلى الجملة كلام الواقفية في العموم المخصص أظهر لا محالة فإن قيل قد سلمتم أنه صار مجازا فيفتقر العمل به إلى دليل إذا المجاز لا يعمل به إلا بدليل قلنا هو حقيقة في وضعه والدليل المخصص هو الذي جعله مجازا أما سقوط دلالة المجاز فلا وجه له لا سيما المجاز المعروف فإنا نتمسك به بغير دليل زائد كقوله تعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط } المائدة 6 { النساء } فإنه وإن كان مجازا فهو معروف وكذلك التفهيم بالعمومات المخصصة معروف في اللسان ولا يمكن اطراحه

____________________

(1/234)


الباب الثاني في تمييز ما يمكن دعوى العموم فيه عما لا يمكن وفيه مسائل مسألة ( بيان العموم ) إنما يمكن دعوى العموم فيما ذكره الشارع على سبيل الابتداء أما ما ذكره في جواب السائل فإنه ينظر فإن أتى بلفظ مستقل لو ابتدأ به كان عاما كما سئل عن بئر بضاعة فقال خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه وكما سئل عن ماء البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته وأما إذا لم يكن مستقلا نظر فإن لم يكن لفظ السائل عاما فلا يثبت العموم للجواب كما لو قال السائل توضأت بماء البحر فقال يجزيك أو قال وطئت في نهار رمضان فقال أعتق رقبة فهذا لا عموم له لأنه خطاب مع شخص واحد وإنما يثبت الحكم في حق غيره بدليل مستأنف من قياس إذا ورد التعبد بالقياس أو تعلق بقوله عليه السلام حكمي على الواحد حكمي على الجماعة وذلك بشرط أن يكون حال غيره مثل حاله في كل وصف مؤثر في الحكم حتى لا يفترقا إلا في الشخص والأحوال التي لا مدخل لها في التفرقة من الطول واللون وأمثاله والذكورة والأنوثة كالطول واللون في بعض الأحكام كالعتق ولذلك قلنا حكمه في العبد بالسراية حكم في الأمة وفي باب ولاية النكاح ليس كذلك إذ عرف من الشرع ترك الالتفات إلى الذكورة والأنوثة في العتق والرق ولم يعرف ذلك في النكاح ولذلك نقول روي في الصحيح أن أبا بكر رضي الله عنه أم بالناس في مرض النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عليه السلام وهو في أثناء الصلاة فهم بأن يتخلف فأشار عليه بالمنع ووقف بجانبه واقتدى أبو بكر بالنبي عليه السلام واستمر الناس على الاقتداء بأبي بكر رضي الله عنه وصلى الناس بصلاة أبي بكر وصلى أبو بكر بصلاة النبي عليه السلام وفيه اقتداء الإمام بغيره واقتداء الناس بالمقتدى بغيره وليس يظهر لنا أن غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى النبي عليه السلام فإن التقدم عليه مع حضوره مستبعد فيما يرجع إلى الإمام وللنبوة فيها تأثير وهذا فعل خاص لا عموم له ودعوى الإلحاق تحكم مع ظهور الفرق ولا عموم يتعلق به بل قوله لعبد الرحمن بن عوف البس الحرير ولأبي بردة بن نيار في الأضحية بجذعة من الضان تجزيكوإذنه للعرنيين بشرب أبوال الإبل وقوله لعمر مره فليراجعها إلا عموم لشيء منه فيفتقر تعميمه إلى دليل متسأنف من قياس أو غيره أما ما نقل من اقتداء الناس بأبي بكر مع اقتدائه بالنبي عليه السلام فيحتمل أن مقتدي الكل كان بالنبي عليه السلام وكان أبو بكر سفيرا برفع الصوت بالتكبيرات
أما إذا كان لفظ السائل عاما نزل منزلة عموم لفظ الشارع كما لو سأله سائل عمن أفطر في نهار رمضان فقال أعتق رقبة كان كما لو قال من أفطر في نهار رمضان أعتق رقبة لأنه يجيب عن السؤال فلا يكون الجواب إلا مطابقا للسؤال أو أعم منه فأما أخص منه فلا أما لو قال السائل أفطر زيد في نهار رمضان فقال عليه عتق رقبة أو قال طلق ابن عمر زوجته فقال مره فليراجعها فهذا لا عموم له فلعله عرف من حاله ما يوجب العتق والمراجعة عليه خاصة ولا نعرف ما تلك الحال ومن الذي يساويه فيها ولا يدري أنه أفطر عمدا أو سهوا أو بأكل أو جماع فإن قيل ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على عموم الحكم وهذا من كلام الشافعي قلنا من أين تحقق
____________________

(1/235)


ذلك ولعله عليه السلام عرف خصوص الحال فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل فهذا تقرير عموم بالوهم المجرد
مسألة ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص ) سبب ورود العام على سبب خاص لا يسقط دعوى العموم كقوله صلى الله عليه وسلم حيث مر بشاة ميمونة أيما إهاب دبغ فقد طهر وقال قوم يسقط عمومه وهو خطأ نعم يصير احتمال التخصيص أقرب ويقنع فيه بدليل أخف وأضعف وقد يعرف بقرينة اختصاصه بالواقعة كما إذا قيل كلم فلانا في واقعة فقال والله لا أكلمه أبدا فإنه يفهم بالقرينة أنه يريد ترك الكلام في تلك الواقعة لا على الإطلاق والدليل على بقاء العموم أن الحجة في لفظ الشارع لا في السؤال والسبب ولذلك يجوز أن يكون الجواب معد ولا عن سنن السؤال حتى لو قال السائل أيحل شرب الماء وأكل الطعام والاصطياد فيقول الأكل واجب والشرب مندوب والصيد حرام فيجب اتباع هذه الأحكام وإن كان فيه خطر ووجوب والسؤال وقع عن الإباحة فقط وكيف ينكر هذا وأكثر أصول الشرع خرجت على أسباب كقوله تعالى { لبئس } المائدة 38 نزل في سرقة المجن أو رداء صفوان ونزلت آية الظهار في سلمة بن صخر وآية اللعان في هلال بن أمية وكل ذلك على العموم
وشبه المخالفين ثلاث الأولى أنه لو لم يكن للسبب تأثير والنظر إلى اللفظ خاصة فينبغي أن يجوز إخراج السبب بحكم التخصيص عن عموم المسميات كما لو لم يرد على سبب قلنا لا خلاف في أن كلامه بيان للواقعة لكن الكلام في أنه بيان له خاصة أوله ولغيره واللفظ يعمه ويعم غيره وتناوله له مقطوع به وتناوله لغيره ظاهر فلا يجوز أن يسأل عن شيء فيجيب عن غيره نعم يجوز أن يجيب عنه وعن غيره ويجوز أيضا أن يجيب عن غيره بما ينبه على محل السؤال كما قال لعمر أرأيت لو تمضمضت وقد سأله عن القبلة وقال للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته
الشبهة الثانية إنه لو لم يكن للسبب مدخل لما نقله الراوي إذ لا فائدة فيه قلنا فائدته معرفة أسباب التنزيل والسير والقصص واتساع علم الشريعة وأيضا امتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد ولذلك غلط أبو حنيفة رحمه الله في إخراج الأمة المستفرشة من قوله الولد للفراش والخبر إنما ورد في وليدة زمعة إذ قال عبد بن زمعة هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه فقال عليه السلام الولد للفراش وللعاهر الحجر فأثبت للأمة فراشا وأبو حنيفة لم يبلغه السبب فأخرج الأمة من العموم
الشبهة الثالثة إنه لولا أن المراد بيان السبب لما أخر البيان إلى وقوع الواقعة فإن الغرض إذا كان تمهيد قاعدة عامة فلم أخرها إلى وقوع واقعة قلنا ولم قلتم لا فائدة في تأخيره والله تعالى أعلم بفائدته ولم طلبتم لأفعال الله فائدة بل لله تعالى أن ينشىء التكليف في أي وقت شاء ولا يسأل عما يفعل ثم نقول لعله علم أن تأخيره إلى الواقعة لطف ومصلحة للعباد داعية إلى الانقياد ولا يحصل ذلك بالتقديم والتأخير ثم نقول يلزم لهذه العلة اختصاص الرجم بما عز والظهار واللعان وقطع السرقة بالأشخاص الذين ورد فيهم لأن الله تعالى آخر البيان إلى وقوع وقائعهم وذلك خلاف الإجماع
مسألة ( العموم للالفاظ دون المعاني )
____________________

(1/236)


المقتضى لا عموم له وإنما العموم للألفاظ لا للمعاني فتضمنها من ضرورة الألفاظ بيانه أن قوله لا صيام لمن لم يبيت الصيام ظاهره ينفي صورة الصوم حسا لكن وجب رده إلى الحكم وهو نفي الأجزاء أو الكمال وقد قيل إنه متردد بينهما فهو مجمل وقيل إنه عام لنفي الأجزاء والكمال وهو غلط نعم لو قال لا حكم لصوم بغير تبييت لكن الحكم لفظا عاما في الأجزاء والكمال أما إذا قال لا صيام فالحكم غير منطوق به وإنما أثبت ذلك من طريق الضرورة وكذلك قوله عليه السلام رفع عن أمتي الخطأ والنسيان معناه حكم الخطأ والنسيان ولا عموم له ولو قال لا حكم للخطأ لأمكن حمله على نفي الإثم والغرم وغير ذلك لا على العموم في الإجزاء والكمال لأن الأجزاء الصحة إذا انتفيا كان انتفاء الكمال ضرورة وإنما العموم ما يشتمل على معنيين يمكن انتفاء كل واحد منهما دون الآخر
مسألة ( العام في الفعل المتعدي ) الفعل المتعدي إلى مفعول اختلفوا في أنه بالإضافة إلى مفعولاته هل يجري مجرى العموم فقال أصحاب أبي حنيفة لا عموم له حتى لو قال والله لا آكل ونوى طعاما بعينه أو قال إن أكلت فأنت طالق ونوى طعاما بعينه لم يقبل وكذلك إذا نوى بالضرب آلة بعينها واستدل أصحاب أبي حنيفة بأن هذا من قبيل المقتضى فلا عموم له لأن الأكل يستدعي مأكولا بالضرورة لا أن اللفظ تعرض له فما ليس منطوقا لا عموم له فالمكان للخروج والطعام للأكل والآلة للضرب كالوقت للفعل والحال للفاعل ولو قال أنت طالق ثم قال أردت به إن دخلت الدار أو أردت به يوم الجمعة لم يقبل وكذلك قالوا لو نوى بقوله أنت طالق عددا لم يجزه وجوز أصحاب الشافعي ذلك والانصاف أن هذا ليس من قبيل المقتضى ولا هو من قبيل الوقت والحال فإن اللفظ المعتدي إلى المفعول يدل على المفعول بصيغته ووضعه فأما الحال والوقت فمن ضرورة وجود الأشياء لكن لا تعلق بها بالألفاظ والمقتضى هو ضرورة صدق الكلام كقوله لا صيام أو ضرورة وجود المذكور كقوله أعتق عني فإنه يدل على حصول الملك قبله لا من حيث اللفظ لكن من حيث كون الملك شرطا لتصور العتق شرعا أما الأكل فيدل على المأكول والضرب على الآلة والخروج على المكان وتتشابه نسبته إلى الجميع فهو بالعموم أشبه فإن قيل لا خلاف في أنه لو أمر بالأكل والضرب والخروج كان ممتثلا بكل طعام وبكل آلة وكل مكان ولو علق العتق حصل بالجميع فهذا يدل على العموم قلنا ليس ذلك لأجل العموم ولكن لأجل أن ما علق عليه وجد والآلة والمكان والمأكول غير متعرض له أصلا حتى لو تصور هذه الأفعال دون الطعام والآلة والمكان والمأكول يحصل الامتثال وهو كالوقت والحال فإنه إن أكل وهو داخل في الدار أو خارج وراكب أو راجل حنث وكان ممتثلا لا لعموم اللفظ لكن لحصول الملفوظ في الأحوال كلها وإنما تظهر فائدة العموم في إرادة بعض هذه الأمور وإلأظهر عندنا جواز نية البعض وأنه جار مجرى العموم ومفارق للمقتضى كما ذكرنا
مسألة ( العموم في الأفعال ) لا يمكن دعوى العموم في الفعل لأن الفعل لا يقع إلا على وجه معين فلا يجوز أن يحمل على كل وجه يمكن أن يقع عليه لأن سائر الوجوه متساوية بالنسبة إلى
____________________

(1/237)


محتملاته والعموم ما يتساوى بالنسبة إلى دلالة اللفظ عليه بل الفعل كاللفظ المجمل المتردد بين معان متساوية في صلاح اللفظ ومثاله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بعد غيبوبة الشفق فقال قائل الشفق شفقان الحمرة والبياض وأنا أحمله على وقوع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدهما جميعا وكذلك صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة فليس لقائل أن يستدل به على جواز الفرض في البيت مصيرا إلى أن الصلاة تعم النفل والفرض لأنه إنما يعم لفظ الصلاة لا فعل الصلاة أما الفعل فإما أن يكون فرضا فلا يكون نفلا أو يكون نفلا فلا يكون فرضا
مسألة ( هل الفعل النبي صلى الله عليه وسلم عموم ) فعل النبي عليه السلام كما لا عموم له بالإضافة إلى أحوال الفعل فلا عموم له بالإضافة إلى غيره بل يكون خاصا في حقه إلا أن يقول أريد بالفعل بيان حكم الشرع في حقكم كما قال صلوا كما رأيتموني أصلي بل نزيد ونقول قوله تعالى { يا أيها النبي اتق الله } الأحزاب 1 وقوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } الزمر 65 مختص به بحكم اللفظ وإنما يشاركه غيره بدليل لا بموجب هذا اللفظ كقوله { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } المائدة 67 وقوله تعالى { فاصدع بما تؤمر } الحجر 94
وقال قوم ما ثبت في حقه فهو ثابت في حق غيره إلا ما دل الدليل على أنه خاص به وهذا فاسد لأن الأحكام إذ قسمت إلى خاص وعام فالأصل اتباع موجب الخطاب فما ثبت بمثل قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } و { يا أيها الناس } و { يا عبادي } و { أيها المؤمنون } فيتناول النبي إلا ما استثنى بدليل وما ثبت للنبي كقوله { يا أيها النبي } فيختص به إلا ما دل الدليل على الالحاق وقوله تعالى { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } الطلاق 1 عام لأن ذكر النبي جرى في صدر الكلام تشريفا وإلا فقوله طلقتم عام في صيغته وكذلك قوله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة افعل ولابن عمر راجعها خاص إنما يشمل الحكم غيره بدليل آخر مثل قوله حكمي على الواحد حكمي على الجماعة أو ما جرى مجراه
مسألة ( هل النهي يقتضي العموم ) قول الصحابي نهى النبي عليه السلام عن كذا كبيع الغرر ونكاح الشغار وغيره لا عموم له لأن الحجة في المحكي لا في قول الحاكي ولفظه وما رواه الصحابي من حكى النهي يحتمل أن يكون فعلا لا عموم له نهى عنه النبي عليه السلام ويحتمل أن يكون لفظا خاصا ويحتمل أن يكون لفظا عاما فإذا تعارض الاحتمالات لم يكن إثبات العموم بالتوهم فإذا قال الصحابي نهى عن بيع الرطب بالتمر فيحتمل أن يكون قد رأى شخصا باع رطبا بتمر فنهاه فقال الراوي ما قال ويحتمل أن يكون قد سمع الرسول عليه السلام ينهي عنه ويقول أنهاكم عن بيع الرطب بالتمر ويحتمل أن يكون قد سئل عن واقعة معينة فنهى عنها فالتمسك بعموم هذا تمسك بتوهم العموم لا بلفظ عرف عمومه بالقطع وهذا على مذهب من يرى هذا حجة في أصل النهي وقد قال قوم لا بد أن يحكي الصحابي قول الرسول ولفظه وإلا فربما سمع ما يعتقده نهيا باجتهاده ولا يكون نهيا فإن قوله لا تفعل فيه خلاف أنه للنهي أم لا وكذلك في ألفاظ أخر وكذلك إذا قال نسخ
____________________

(1/238)


فلا يحتج به ما لم يقل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول نسخت آية كذا لأنه ربما يرى ما ليس بنسخ نسخا وهذا قد ذكرناه في باب الأخبار وهو أصل السنة في القطب الثاني
مسألة ( هل قول الصحابي يقتضي العموم ) قول الصحابي قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار وبالشاهد واليمين كقوله نهى في أنه لا عموم له لأن حكاية والحجة في المحكي ولعله حكم في عين أو بخطاب خاص مع شخص فكيف يتمسك بعمومه فيقال مثلا يقضي بالشاهد واليمين في البضع أو في الدم لأن الراوي أطلق مع أن للراوي أن يطلق هذا إذا رآه قد قضى في مال أو في بضع بل لو قال الصحابي سمعته يقول قضيت بالشفعة للجار فهذا يحتمل الحكاية عن قضاء الجار معروف ويكون الألف واللام للتعريف وقوله قضيت حكاية فعل ماض فأما لو قال قضيت بأن الشفعة للجار فهذا أظهر في الدلالة على التعريف للحكم دون الحكاية ولو قال الراوي قضى النبي عليه السلام بأن الشفعة للجار اختلفوا فيه فمنهم من جعله عاما ومنهم من قال يجوز أن يكون قد قضى في واقعة بأن الشفعة للجار فدعوى العموم فيه حكم بالتوهم
مسألة ( لا عموم لواقعة الحال ) لا يمكن دعوى العموم في واقعة لشخص معين قضى فيها النبي عليه السلام بحكم وذكر علة حكمه أيضا إذا أمكن اختصاص العلة بصاحب الواقعة مثاله حكمه في أعرابي محرم وقصت به ناقته لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا فإنه يحتمل أن يقال إما لأنه وقصت به ناقته محرما لا بمجرد إحرامه أو لأنه علم من نيته أنه كان مخلصا في عبادته وأنه مات مسلما وغيره لا يعلم موته على الإسلام فضلا عن الإخلاص وكذلك قال عليه السلام في قتلي أحد زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما يجوز أن يكون لقتلى أحد خاصة لعلو درجتهم أو لعلمه أنهم أخلصوا الله فهم شهداء حقا ولو صرح بأن ذلك خاصيتهم قبل ذلك فاللفظ خاص والتعميم وهم والشافعي رحمه الله تعالى عمم هذا الحكم نظرا إلى العلة وأن ذلك كان بسبب الجهاد والإحرام وأن العلة حشرهم على هذه الصفات وعلة حشرهم الجهاد أو الإحرام وقد وقعت الشركة في العلة وهذا أسبق إلى الفهم لكن خلافه وهو الذي اختاره القاضي ممكن والاحتمال متعارض والحكم بأحد الاحتمالين لأنه أسبق إلى الفهم فيه نظر فإن الحكم بالعموم إنما أخذ من العادة ومن وضع اللسان ولم يثبت ههنا في مثل هذه الصورة لا وضع ولا عادة فلا يكون في معنى العموم
مسألة ( هل للمفهوم عموم )
____________________

(1/239)


من يقول بالمفهوم قد يظن للمفهوم عموما ويتمسك به وفيه نظر لأن العموم لفظ تتشابه دلالالته بالإضافة إلى المسميات والمتمسك بالمفهوم والفحوى ليس متمسكا بلفظ بل بسكوت فإذا قال عليه السلام في سائمة الغنم زكاة فنفي الزكاة في المعلوفة ليس بلفظ حتى يعم اللفظ أو يخص وقوله تعالى { فلا تقل لهما أف } الإسراء 23 دل على تحريم الضرب لا بلفظه المنطوق به حتى يتمسك بعمومه وقد ذكرنا أن العموم للألفاظ لا للمعاني ولا للأفعال
مسألة ( لا يقتضي العطف العموم ) ظن قوم أن من مقتضيات العموم الاقتران بالعام والعطف عليه وهو غلط إذ المختلفات قد تجمع العرب بينهما فيجوز أن يعطف الواجب على الندب والعام على الخاص فقوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن } البقرة 228 عام وقوله بعد { وبعولتهن أحق بردهن } البقرة 228 في ذلك خاص وقوله تعالى { كلوا من ثمره } الأنعام 141 إباحة وقوله بعده { وآتوا حقه يوم حصاده } الأنعام 141 إيجاب وقوله تعالى { فكاتبوهم } النور 33 استحباب وقوله 42 { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } النور 33 إيجاب
مسألة ( هل في المشترك عموم ) الاسم المشترك بين مسميين لا يمكن دعوى العموم فيه عندنا خلافا للقاضي والشافعي لأن المشترك لم يوضع للجمع مثاله القرء للطهر والحيض والجارية للسفينة والأمة والمشتري للكوكب السعد وقابل البيع والعرب ما وضعت هذه الألفاظ وضعا يستعمل في مسمياتها إلا على سبيل البدل أما على سبيل الجمع فلا نعم نسبة المشترك إلى مسمياته متشابهة ونسبة العموم إلى آحاد المسميات متشابهة لكن تشابه نسبة كل واحد من آحاد العموم على الجمع ونسبة كل واحد من آحاد المشترك على البدل وتشاب نسبة المفهوم في السكوت عن الجمع لا في الدلالة وتشابه نسبة الفعل في إمكان وقوعه على كل وجه إذ الصلاة المعينة إذا تلقيت من فعل النبي عليه السلام أمكن أن تكون فرضا ونفلا وأداء وقضاء وظهرا وعصرا والإمكان شامل بالإضافة إلى علمنا أما الواقع في نفسه وفي علم الله تعالى واحد متعين لا يحتمل غيره فهذه أنواع التشابه والوهم سابق إلى التسوية بين المتشابهات وأنواع هذا التشابه متشابهة من وجه فربما يسبق إلى بعض الأوهام أن العموم كان دليلا لتشابه نسبة اللفظ إلى المسميات والتشابه ههنا موجود فيثبت حكم العموم وهو غفلة عن تفصيل هذا التشابه وإن تشابه نسبة العموم إلى مسمياته في دلالته على الجمع بخلاف هذه الأنواع احتج القاضي بأنه لو ذكر اللفظ مرتين وأراد في كل مرة معنى آخر جاز فأي بعد في أن يقتصر على مرة واحدة ويريد به كلا المعنيين مع صلاح اللفظ للكل بخلاف ما إذا قصد بلفظ المؤمنين الدلالة على المؤمنين والمشركين جميعا فإن لفظ المؤمنين لا يصلح للمشركين بخلاف اللفظ المشترك فنقول إن قصد باللفظ الدلالة على المعنيين جميعا بالمرة الواحدة فهذا ممكن لكن يكون قد خالف الوضع كما في لفظ المؤمنين فإن العرب وضعت اسم العين للذهب والعضو الباصر على سبيل البدل لا على سبيل الجمع فإن قيل اللفظ الذي هو حقيقة في شيء مجاز في غيره هل يطلق لإرادة معنييه جميعا مثل النكاح للوطء والعقد واللمس للجس وللوطء حتى يحمل قوله { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } النساء 22 على وطء الأب وعقده جميعا وقوله تعالى { أو لامستم النساء } النساء 43 على الوطء والمس جميعا قلنا هذا عندنا كاللفظ المشترك وإن كان التعميم فيه أقرب قليلا وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال أحمل آية اللمس على المس والوطء جميعا وإنما قلنا إن هذا أقرب لأن المس مقدمة الوطء والنكاح أيضا يراد للوطء فهو مقدمته ولأجله استعير للعقد اسم النكاح الذي وضعه للوطء واستعير للوطء اسم اللمس فلتعلق أحدهما بالآخر ربما لا يبعد أن يقصدا جميعا باللفظ المذكور مرة واحدة لكن الأظهر عندنا أن ذلك أيضا على خلاف عادة العرب فإن قيل فقد قال الله تعالى { إن الله وملائكته يصلون على النبي }
____________________

(1/240)


الأحزاب 56 والصلاة من الله مغفرة ومن الملائكة استغفار وهما معنيان مختلفان والاسم مشترك وقد ذكر مرة واحدة وأريد به المعنيان جميعا وكذلك قوله تعالى { بآيات } الحج 18 وسجود الناس غير سجود الشجر والدواب بل هو في الشجر مجاز قلنا هذا يعضد ما ذكره الشافعي رحمه الله ويفتح هذا الباب في معنيين يتعلق أحدهما بالآخرة فإن طلب المغفرة يتعلق بالمغفرة لكن الأظهر عندنا أن هذا إنما أطلق على المعنيين بإزاء معنى واحد مشترك بين المعنيين وهو العناية بأمر الشيء لشرفه وحرمته والعناية من الله مغفرة ومن الملائكة إستغفار ودعاء ومن الأمة دعاء وصلوات وكذلك العذر عن السجود
مسألة ( هل العبد مخاطب بالتكاليف الشرعية ) ما ورد من الخطاب مضافا إلى الناس والمؤمنين يدخل تحته العبد كقوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } آل عمران 97 وأمثاله وقال قوم لا يدخل تحته لأنه مملوك للآدمي بتمليك الله تعالى فلا يتناوله إلا خطاب خاص به وهذا هوس لأنه لم يخرج عن معظم التكاليف وخروجه عن بعضها كخروج المريض والحائض والمسافر وذلك لا يوجب رفع العموم فلا يجوز إخراجه إلا بدليل خاص
مسألة ( هل الخطاب الشرعي يعم الكافر ) يدخل الكافر تحت خطاب الناس وكل لفظ عام لأنا بينا أن خطابه بفروع العبادات ممكن وإنما خرج عن بعضها بدليل خاص ومن الناس من أنكر ذلك وهو باطل لما قررناه في أحكام التكاليف
مسألة ( هل تدخل النساء في عموم الخطاب ) يدخل النساء تحت الحكم المضاف إلى الناس فأما المؤمنون والمسلمون وصيغ جمع الذكر اختلفوا فيه فقال قوم تدخل النساء تحته لأن الذكور والإناث إذا اجتمعوا غلبت العرب التذكير واختار القاضي أنها لا تدخل وهو الأظهر لأن الله تعالى ذكر المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات فجمع الذكور متميز نعم إذا اجتمعوا في الحكم وأراد الأخبار تجوز العرب الاقتصار على لفظ التذكير أما ما ينشأ على سبيل الابتداء ويخصه بلفظ المؤمنين فإلحاق المؤمنات إنما يكون بدليل آخر من قياس أو كونه في معنى المنصوص أو ما جرى مجراه
مسألة ( هل تدخل الأمة عند خطاب الله للنبي صلى الله عليه وسلم ) كما لا تدخل الأمة تحت خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { يا أيها النبي } لا يدخل النبي تحت الخطاب الخاص بالأمة أما الخطاب بقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } و { يا أيها الناس } فيدخل النبي تحته لعموم هذه الألفاظ وقال قوم لا يدخل لأنه قد خص بالخطاب في أحكام فلا يلزمه إلا الخطاب الذي يخصه وهو فاسد
____________________

(1/241)


لأنه قد خص المسافر والعبد والحائض والمريض بأحكام ولا يمنع ذلك دخولهم تحت العموم حيث يعم الخطاب كذلك ههنا
مسألة ( هل للمشافهة عموم ) المخاطبة شفاها لا يمكن دعوى العموم فيها بالإضافة إلى جميع الحاضرين فإذا قال لجميع نسائه الحاضرات طلقتكن ولجميع عبيده أعتقتكم فإنما يكون مخاطبا من جملتهم من أقبل عليه بوجهه وقصد خطابه وذلك يعرف بصورته وشمائله والتفاته ونظره فقد يحضره جماعة من الغلمان من البالغين والصبيان فيقول اركبوا معي ويريد به أهل الركوب منهم دون من ليس أهلا له فلا يتناول خطابه إلا من قصده ولا يعرف قصده إلا بلفظه أو شمائله الظاهرة فلا يمكن دعوى العموم فيها فنقول على هذا كل حكم يدل بصيغة المخابة كقوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا } و { أيها المؤمنون } و { يا أيها الناس } فهو خطاب مع الموجودين في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإثباته في حق من يحدث بعده بدليل زائد دال على أن كل حكم ثبت في زمانه فهو دائم إلى يوم القيامة على كل مكلف ولولاه لم يقتض مجرد اللفظ ذلك ولما ثبت ذلك أفاد مثل هذه الألفاظ فائدة العموم لاقتران الدليل الآخر بها لا بمجرد الخطاب فإن قيل فإذا كان الخطاب خاصا مع شخص مشافهة أو مع جمع فهل يدل على العموم مثل قوله تعالى { وما أرسلناك إلا كافة للناس } سبأ 28 وقوله عليه السلام بعثت إلى الناس كافة وبعثت إلى الأحمر والأسود وقوله حكمي على لواحد حكمي على الجماعة وقوله تعالى { واتقون يا أولي الألباب } البقرة 197 و { يا أولي الأبصار } و { يا أيها الناس } وأمثاله قلنا لا بل عرف الصحابة عموم الحكم الثابت في عصره للأعصار كلها بقرائن كثيرة وعرفنا ذلك من الصحابة ضرورة ومجرد هذه الألفاظ ليست قاطعة فإنه وإن كان مبعوثا إلى الكافة فلا يلزم تساويهم في الأحكام فهو مبعوث إلى الحر والعبد والحائض والطاهر والمريض والصحيح ليعرفهم أحكامهم المختلفة وكذلك قوله تعالى { لأنذركم به ومن بلغ } الأنعام 19 أي ينذر كل قوم بل كل شخص بحكمه فيكون شرعه عاما وقوله حكمي على الواحد حكمي على الجماعة لا يتناول إلا عصره فإن الجماعة عبارة عن الموجودين فلا يتناول من بعده فإن قيل فهل يدل على عموم الحكم أنه كان إذا أراد التخصيص خصص وقال تجزىء عنك ولا تجزىء عن أحد بعدك وحلل الحرير لعبد الرحمن بن عوف خاصة قلنا لا لأنه ذكره حيث قدم عموما أو حيث توهم أنهم يلحقون غيره به للتعبد بالقياس وكذلك قوله تعالى { خالصة لك من دون المؤمنين } الأحزاب 50 لا يدل على أن الخطاب معه خطاب مع الأمة لمثل ما ذكرناه
مسألة ( التفريق بين العام والمجمل ) من الصيغ ما يظن عموما وهي إلى الإجمال أقرب مثل من يتمسك في إيجاب الوتر بقوله { وافعلوا الخير } الحج 77 مصيرا إلى أن ظاهر الأمر الوجوب والخير اسم عام وإخراج ما قام الدليل على نفي وجوبه لا يمنع التمسك به وكمن يستدل على منع قتل المسلم بالذمي بقوله تعالى { الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } النساء 141 وأن ذلك يفيد منع السلطنة إلا ما دل عليه الدليل من الدية والضمان والشركة وطلب الثمن وغيره أو يستدل بقوله { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة }
____________________

(1/242)


( الحشر 20 ) وأن إيجاب القصاص تسوية وهذا كله مجمل ولفظ الخير ولفظ السبيل ولفظ الاستواء إلى الإجمال أقرب وينضم إليه أن المستثنى من هذه العمومات ليس داخلا تحت الحصر وليس مضبوطا بضابط واحد ولا بضوابط محصورة وإن لم ينحصر المستثنى كان المستثني مجهولا وليس من هذا القبيل قوله فيما سقت السماء العشر وقد قال قوم لا يتمسك بعمومه لأن المقصود ذكر الفصل بين العشر ونصف العشر وهذا فاسد لأن صيغة ما صيغة شرط وضع للعموم بخلاف لفظ السبيل والخير والاستواء نعم تردد الشافعي في قوله تعالى { وأحل الله البيع } البقرة 275 في أنه عام أو مجمل من حيث أن الألف واللام احتمل أن يكون فيه للتعريف ومعناه وأحل الله البيع الذي عرف الشرع بشرطه
مسألة ( هل المخاطب يندرج تحت العموم ) المخاطب يندرج تحت الخطاب العام وقال قوم لا يندرج تحت خطابه بدليل قوله تعالى { وهو بكل شيء عليم } البقرة 29 ولا يدخل هو تحته وبدليل قول القائل لغلامه من دخل الدار فأعطه درهما فإنه لا يحسن أن يعطي السيد وهذا فاسد لأن الخطاب عام والقرينة هي التي أخرجت المخاطب مما ذكروه ويعارضه قوله { وهو بكل شيء عليم } البقرة 29 وهو عالم بذاته ويتناوله اللفظ ومجرد كونه مخاطبا ليس قرينة قاضية بالخروج عن العموم في كل خطاب بل القرائن فيه تتعارض والأصل اتباع العموم في اللفظ
مسألة ( فائدة العموم للاسم المفرد ) اسم الفرد وإن لم يكن على صيغة الجمع يفيد فائدة العموم في ثلاثة مواضع أحدها أن يدخل عليه الألف واللام كقوله لا تبيعوا البر بالبر
والثاني النفي في النكرة لأن النكرة في النفي تعم كقولك ما رأيت رجلا لأن النفي لا خصوص له بل هو مطلق
فإذا أضيف إلى منكر لم يتخصص بخلاف قوله رأيت رجلا فإنه إثبات والإثبات يتخصص في الوجود فإذا أخبر عنه لم يتصور عمومه وإذا أضيف إلى مفرد اختص به
الثالث أن يضاف إليه أمر أو مصدر والفعل بعد غير واقع بل منتظر كقوله أعتق رقبة وقوله تعالى { فتحرير رقبة } المجادلة 3 فإنه ما من رقبة إلا وهو ممتثل باعتاقها والاسم متناول للكل فنزل منزلة العموم بخلاف قوله أعتقت رقبة فإنه إخبار عن ماض قد تم وجوده ولا يدخل في الوجود إلا فعل خاص
مسألة ( أقل عدد الجمع ) صرف العموم إلى غير الاستغراق جائز وهو معتاد أما رده إلى ما دون أقل الجمع فغير جائز ولا بد من بيان أقل الجمع وقد اختلفوا فيه فقال عمر وزيد بن ثابت إنه اثنان وبه قالمالك وجماعة وقال ابن عباس والشافعي وأبو حنيفة ثلاثة حتى قال ابن عباس لعثمان حين رد الأم من الثلث إلى السدس بأخوين ليس الأخوان أخوة في لغة قومك فقال حجبها قومك يا غلام وقال ابن مسعود إذا اقتدى بالإمام ثلاثة اصطفوا خلفه وإذا اقتدى اثنان وقف كل واحد عن جانب وهذا يشعر من مذهبه بأنه يرى أقل الجمع ثلاثة وليس من حقيقة هذا الخلاف منع جمع الاثنين بلفظ يعمهما فإن ذلك جائز ومعتاد لكن الخلاف في أن لفظ الناس والرجال والفقراء وأمثاله يطلق على ثلاثة فما زاد حقيقة وهل يطلق على الاثنين حقيقة أم لا واختار القاضي أن أقل الجمع اثنان واستدل بإجماع أهل اللغة على جواز إطلاق اسم الجمع على اثنين في قولهم فعلتم وفعلنا وتفعلون وقد ورد به القرآن قال الله تعالى في قصة موسى وهارون { إنا معكم مستمعون } الشعراء 15 { وقال } فررتم
____________________

(1/243)


( يوسف 83 ) وهما يوسف وأخوه وقال { فقد صغت قلوبكما } التحريم 4 ولهما قلبان وقال { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } الأنبياء 78 إلى قوله { وكنا لحكمهم شاهدين } الأنبياء 78 وهما اثنان وقال { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } الحجرات 9 وهما طائفتان وقال { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } ص 21 وهما ملكان فإن قيل عن كل واحد من هذا جواب فقوله { إنا معكم مستمعون } الشعراء 15 يعني هارون وموسى وفرعون وقومه وهم جماعة وقوله { قلوبكما } التحريم 4 لضرورة استثقال الجمع بين اثنتين مع أن القلوب على وزن الواحد في بعض الألفاظ وقوله { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } يوسف 83 أراد به يوسف وأخاه والأخ الأكبر الذي تخلف عن الأخوة وقوله تعالى { وكنا لحكمهم شاهدين } الأنبياء 78 أي حكمهما مع الجمع المحكوم عليهم وقوله { وإن طائفتان } الحجرات 9 كل طائفة جمع قلنا هذه تعسفات وتكلفات إنما يحوج إليها ضرورة نقل من أهل اللغة في استحالة إطلاق اسم الجمع على الإثنين وإذا لم يكن نقل صريح فيحمل خلافهم على الحقيقة كما ورد فإن قيل ههنا أدلة أربعة الأول أن الإثنين لو كانا جمعا لكان قولنا فعلا اسم جمع فليجز إطلاقه على الثلاثة فصاعدا كقوله فعلوا فإنه لما كان اسم جمع جاز على الثلاثة فما فوقها قلنا فعلوا اسم جمع مشترك بين سائر أعداد الجمع وفعلا اسم جمع خاص لأن الجمع لا يستدعي إلا الانضمام وذلك يحصل في الاثنين وهو كالعشرة فإنه اسم جمع لكن جمع خاص فلا يصلح لغيره وكيف ينكر كون الاثنين جمعا
ويقول الرجلان نحن فعلنا فإن قيل قد يقول الواحد ذلك كقوله { إنا أنزلناه في ليلة القدر } القدر 1 قلنا ذلك مجاز بالاتفاق وهذا ليس بمجاز
الثاني قولهم أجمع أهل اللغة على أن الأسماء ثلاثة أضرب توحيد وتثنية وجمع وهو رجل ورجلان ورجال فلتكن هذه الثلاثة متباينة قلنا ما قالوا الرجلان ليس اسم جمع لكن وضعوا البعض أعداد الجمع اسما خاصا كالعشرة وجعلوا اسم الرجال مشتركا
الثالث قولهم فرق في اللسان بين الرجال والرجلين وما ذكرتموه رفع للفرق قلنا الفرق أن الرجلين اسم جمع خاص وهو للإثنين والرجال اسم جمع مشترك لكل جمع من الإثنين والثلاثة فما زاد
الرابع قولهم لو صح هذا لجاز أن يقال رأيت اثنين رجال كما يقال رأيت ثلاثة رجال قلنا هذا ممتنع لأن العرب لم تستعمله على هذا الوجه ولا يمكن تعدي عرفهم وعلى الجملة فمن يرد لفظ الجمع إلى الاثنين ربما يفتقر إلى دليل أظهر ممن يرده إلى الثلاثة وإذا رده إلى الواحد فقد غير اللفظ النص بقرينة فإن قيل فقد يقول لامرأته أتخرجين وتكلمين الرجال وربما يريد رجلا واحدا قلنا ذلك استعمال لفظ الجمع بدلا عن لفظ الواحد لتعلق غرض الزوج لجنس الرجال لا أنه عنى بلفظ الرجال رجلا واحدا أما إذا أراد رجلين أو ثلاثة فقد ترك اللفظ على حقيقته
الباب الثالث في الأدلة التي يخص بها العموم لا نعرف خلافا بين القائلين بالعموم في جواز تخصيصه بالدليل إما بدليل العقل أو السمع أو غيرهما وكيف ينكر ذلك مع الاتفاق على تخصيص قوله تعالى { خالق كل شيء }
____________________

(1/244)


الأنعام 102 { فلله } القصص 57 و { تدمر كل شيء } الأحقاف 25 و { وأوتيت من كل شيء } النمل 23 وقوله { فاقتلوا المشركين } التوبة 5 { والسارق والسارقة } المائدة 38 { الزانية والزاني } النور 2 { وورثه أبواه } النساء 11 و { يشرك } النساء 11 وفيما سقت السماء العشر فإن جميع عمومات الشرع مخصصة بشروط في الأصل والمحل والسبب وقلما يوجد عام لا يخصص مثل قوله تعالى { وهو بكل شيء عليم } البقرة 29 فإنه باق على العموم
والأدلة التي يخص بها العموم أنواع عشرة الأول دليل الحس وبه خصص قوله تعالى { وأوتيت من كل شيء } النمل 23 فإن ما كان في يد سليمان لم يكن في يدها وهو شيء وقوله تعالى { تدمر كل شيء بأمر ربها } الأحقاف 25 خرج منه السماء والأرض وأمور كثيرة بالحس
الثاني دليل العقل وبه خصص قوله تعالى { خالق كل شيء } الأنعام 102 إذ خرج عنه ذاته وصفاته إذ القديم يستحيل تعلق القدرة به وكذلك قوله تعالى { ولله على الناس حج البيت } آل عمران 97 خرج منه الصبي والمجنون لأن العقل قد دل على استحالة تكليف من لا يفهم فإن قيل كيف يكون العقل مخصصا وهو سابق على أدلة السمع والمخصص ينبغي أن يكون متأخرا ولأن التخصيص إخراج ما يمكن دخوله تحت اللفظ وخلاف المعقول لا يمكن أن يتناوله اللفظ قلنا قال قائلون لا يسمى دليل العقل مخصصا لهذا الحال وهو نزاع في عبارة فإن تسمية الأدلة مخصصة تجوز فقد بينا أن تخصيص العام محال لكن الدليل يعرف إرادة المتكلم وأنه أراد باللفظ الموضوع للعموم معنى خاصا ودليل العقل يجوز أن يبين لنا أن الله تعالى ما أراد بقوله { خالق كل شيء } الأنعام 102 نفسه وذاته فإنه وإن تقدم دليل العقل فهو موجود أيضا عند نزول اللفظ وإنما يسمى مخصصا بعد نزول الآية لا قبله وأما قولهم لا يجوز دخوله تحت اللفظ فليس كذلك بل يدخل تحت اللفظ من حيث اللسان ولكن يكون قائله كاذبا ولما وجب الصدق في كلام الله تعالى تبين أنه يمتنع دخوله تحت الإرادة مع شمول اللفظ له من حيث الوضع
الثالث دليل الإجماع ويخصص به العام لأن الإجماع قاطع لا يمكن الخطأ فيه والعام يتطرق إليه الاحتمال ولا تقضي الأمة في بعض مسميات العموم بخلاف موجب
____________________

(1/245)


العموم إلا عن قاطع بلغهم في نسخ اللفظ الذي كان قد أريد به العموم أو في عدم دخوله تحت الإرادة عند ذكر العموم والإجماع أقوى من النص الخاص لأن النص الخاص محتمل نسخه والإجماع لا ينسخ فإنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي
الرابع النص الخاص يخصص اللفظ العام فقوله فيما سقت السماء العشر يعم ما دون النصاب وقد خصصه قوله عليه السلام لا زكاة فيما دون خمسة أوسق وقوله تعالى { والسارق والسارقة } المائدة 38 يعم كل مال وخرج ما دون النصاب بقوله لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وقوله { فتحرير رقبة } المجادلة 3 يعم الكافرة فلو ورد مرة أخرى
{ فتحرير رقبة مؤمنة } النساء 92 في الظهار بعينة لتبين لنا أن المراد بالرقبة المطلبة العامة هي المؤمنة على الخصوص وقد ذهب قوم إلى أن الخاص والعام يتعارضان ويتدافعان فيجوز أن يكون الخاص سابقا وقد ورد العام بعده لأرادة العموم فنسخ الخاص ويجوز أن يكون العام سابقا وقد أريد به العموم ثم نسخ باللفظ الخاص بعده فعموم الرقبة مثلا يقتضي أجزاء الكافرة مهما أريد به العموم والتقييد بالمؤمنة يقتضي منع أجزاء الكافرة فهما متعارضان وإذا أمكن النسخ والبيان جميعا فلم يتحكم بحمله على البيان دون النسخ ولم يقطع بالحكم على العام بالخاص ولعل العام هو المتأخر الذي أريد به العموم وينسخ به الخاص وهذا هو الذي اختاره القاضي والأصح عندنا تقديم الخاص وإن كان ما ذكره القاضي ممكنا ولكن تقدير النسخ محتاج إلى الحكم بدخول الكافرة
تحت اللفظ ثم خروجه عنه فهو إثبات وضع ورفع بالتوهم وإرادة الخاص باللفظ العام غالب معتاد بل هو الأكثر والنسخ كالنادر فلا سبيل إلى تقديره بالتوهم ويكاد يشهد لما ذكرناه من سير الصحابة والتابعين كثير فإنهم كانوا يسارعون إلى الحكم بالخاص على العام وما اشتغلوا بطلب التاريخ والتقدم والتأخر
الخامس المفهوم بالفحوى كتحريم ضرب الأب حيث فهم من النهي عن التأفيف فهو قاطع كالنص وإن لم يكن مستندا إلى لفظ ولسنا نريد اللفظ بعينه بل لدلالته فكل دليل سمعي قاطع فهو كالنص والمفهوم عند القائلين به أيضا كالمنطوق حتى إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم ثم قال الشارع في سائمة الغنم زكاة أخرجت المعلوفة من مفهوم هذا اللفظ عن عموم اسم الغنم والنعم
السادس فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل على ما سيأتي بشرطه عند ذكر دلالة الأفعال وإنما يكون دليلا إذا عرف من قوله أنه قصد به بيان الأحكام كقوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم فإن لم يتبين أنه أراد به البيان فإذا ناقض فعله لحكمه الذي حكم به فلا يرفع أصل الحكم بفعله المخالف لكن قد يدل على التخصيص ونذكر له ثلاثة أمثلة المثال الأول إنه نهى عن الوصال ثم واصل فقيل له نهيت عن الوصال ونراك تواصل فقال إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني فبين أنه ليس يريد بفعله بيان الحكم ثم تحريم الوصال إن كان بقوله لا تواصلوا أو نهيتكم عن الوصال فلا يدخل فيه الرسول عليه السلام لأنه مخاطب غيره
____________________

(1/246)


والمخاطب إنما يدخل تحت خطاب نفسه إذا أثبت الحكم بلفظ عام كقوله حرم الوصال على كل عبد أو على كل مكلف أو على كل إنسان أو كل مؤمن أو ما يجري مجراه وإن كان بلفظ عام فيكون فعله تخصيصا
المثال الثاني أنه نهى عن استقبال القبلة في قضاء الحاجة ثم رآه ابن عمر مستقبلا بيت المقدس على سطح فيحتمل أنه تخصيص لأنه كان وراء سترة والنهي كان مطلقا وأريد به ما إذا لم يكن ساتر ويحتمل أنه كان مستثنى ومخصوصا فهو دليل على خروجه عن العموم إن كان اللفظ المحرم عاما له ولا يصلح هذا لأن ينسخ به تحريم الاستقبال لأنه فعل يكون في خلوة وخفية فلا يصلح لأن يراد به البيان فإن ما أريد به البيان يلزمه إظهاره عند أهل التواتر أن تعبد فيه الخلق بالعلم وإن لم يتعبدوا إلا بالظن والعمل فلا بد من إظهاره لعدل أو لعدلين
المثال الثالث أنه نهى عن كشف العورة ثم كشف فخذه بحضرة أبي بكر وعمر ثم دخل عثمان رضي الله عنهم فستره فعجبوا منه فقال ألا أستحي ممن تستحي منه ملائكة السماء فهذا لا يرفع النهي لاحتمال أنه لم يكن داخلا فيه أو لعله كشفه لعارض وعذر فإنه حكاية حال أو أريد بالفخذ ما يقرب منه وليس داخلا في حده أو إباحته خاصة له أو نسخ تحريم كشف العورة وإذا تعارضت الاحتمالات فلا يرتفع التحريم في حق غيره بالوهم
السابع تقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا من أمته على خلاف موجب العموم وسكوته عليه السلام عليه يحتمل نسخ أصل الحكم أو تخصيص ذلك الشخص بالنسخ في حقه خاصة له أو تخصيص وصف وحال ووقت ذلك الشخص ملابس له فيشاركه في الخصوص من شاركه في ذلك المعنى فإن كان قد ثبت ذلك الحكم في كل وقت وفي كل حال تعين تقرير لكونه نسخا إما على الجملة وإما في حقه خاصة والمستيقن حقه خاصة لكن لو كان من خاصيته لوجب على النبي عليه السلام أن يبين اختصاصه بعد أن عرف أمته أن حكمه في الواحد كحكمه في الجماعة فيدل من هذا الوجه على النسخ المطلق ولما أقر عليه السلام أصحابه على ترك زكاة الخيل مع كثرتها في أيديهم دل على سقوط زكاة الخيل إذ ترك الفرض منكر يجب إنكاره فإن قيل فلعلهم أخرجوا ولم ينقل إلينا أو لعله لم يكن في خيلهم سائمة قلنا العادة تحيل اندراس إخراجهم الزكاة طول أعمارهم والسوم قريب من الأمكان ويجب شرح ما يقرب وقوعه فلو وجب لذكره فهذه سبع مخصصات ووراءها ثلاثة تظن مخصصات وليست منها فننظمها في سلك المخصصات
الثامن عادة المخاطبين فإذا قال لجماعة من أمته حرمت عليكم الطعام والشراب مثلا وكانت عادتهم تناولهم جنسا من الطعام فلا يقتصر بالنهي على معتادهم بل يدخل فيه لحم السمك والطير وما لا يعتاد في أرضهم لأن الحجة في لفظه وهو عام وألفاظه غير مبنية على عادة الناس في معاملاتهم حتى يدخل فيه شرب البول وأكل التراب وابتلاع الحصاة والنواة وهذا بخلاف لفظ الدابة فإنها تحمل على ذوات الأربع خاصة لعرف أهل اللسان في تخصيص اللفظ وأكل النواة والحصاة يسمى أكلا في العادة وإن كان لا يعتاد فعله ففرق
____________________

(1/247)


بين أن لا يعتاد الفعل وبين أن يعتاد إطلاق الاسم على الشيء وعلى الجملة فعادة الناس تؤثر في تعريف مرادهم من ألفاظهم حتى أن الجالس على المائدة يطلب الماء يفهم منه العذب البارد لكن لا تؤثر في تغيير خطاب الشارع إياهم
التاسع مذهب الصحابي إذا كان بخلاف العموم فيجعل مخصصا عند من يرى قول الصحابي حجة يجب تقليده وقد أفسدناه وكذلك تخصيص الراوي يرفع العموم عند من يرى أن مذهب الراوي إذا خالف روايته يقدم مذهبه على روايته وهذا أيضا مما أفسدناه بل الحجة في الحديث ومخالفته وتأويله وتخصيصه يجوز أن تكون عن اجتهاد ونظر لا نرتضيه فلا نترك الحجة بما ليس بحجة بل لو كان اللفظ محتملا وأخذ الراوي بأحد محتملاته واحتمل أن يكون ذلك عن توقيف فلا تجب متابعته ما لم يقل إني عرفته من التوقيف بدليل أنه لو رواه روايان وأخذ كل واحد باحتمال آخر فلا يمكننا أن نتبعهما أصلا
العاشر خروج العام على سبب خاص جعل دليلا على تخصصه عند قوم وهو غير مرضي عندنا كما سبق تقريره واختتام هذا الكتاب بذكر مسألتين في تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وبالقياس
مسألة ( تخصيص العموم بخبر الواحد ) خبر الواحد إذا ورد مخصصا لعموم القرآن اتفقوا على جواز التعبد به لتقديم أحدهما على الآخر لكن اختلفوا في وقوعه على أربعة مذاهب فقال بتقديم العموم قوم وبتقديم الخبر قوم وبتقابلهما والتوقف إلى ظهور دليل آخر قوم وقال قوم إن كان العموم مما دخله التخصيص بدليل قاطع فقد ضعف وصار مجازا فالخبر أولى منه وإلا فالعموم أولى وإليه ذهب عيسى بن أبان
احتج القائلون بترجيح العموم بمسلكين الأول أن عموم الكتاب مقطوع به وخبر الواحد مظنون فكيف يقدم عليه الاعتراض من أوجه الأول أن دخول أصل محل الخصوص في العموم وكونه مراد به مظنون ظنا ضعيفا يستند إلى صيغة العموم وقد أنكره الواقفية وزعموا أنه مجمل فكيف ينفع كون أصل الكتاب مقطوعاته فيما لا يقطع بكونه مرادا بلفظه
الثاني أنه لو كان مقطوعا به للزم تكذيب الراوي قطعا ولا شك في إمكان صدقه فإن قيل فلو نقل النسخ فصدقه أيضا ممكن ولا يقبل قلنا لا جرم لا يعلل رده بكون الآية مقطوعا بها لأن دوام حكمها إنما يقطع به بشرط أن الإيراد ناسخ فلا يبقى القطع مع وروده لكن الإجماع منع من نسخ القرآن بخبر الواحد ولا مانع من التخصيص
الثالث أن براءة الذمة قبل ورود السمع مقطوع بها ثم ترفع بخبر الواحد لأنه مقطوع بها بشرط أن لا يرد سمع وماء البحر مقطوع بطهارته إذا جعل في كوز لكن بشرط أن لا يرد سمع بأن يخبر عدل بوقوع النجاسة فيه وكذلك العموم ظاهر في الاستغراق بشرط أن لا يرد خاص
الرابع أن وجوب العمل بخبر الواحد مقطوع به بالإجماع وإنما الاحتمال في صدق الراوي ولا تكليف علينا في اعتقاد صدقه فإن سفك الدم وتحليل البضع واجب بقول عدلين قطعا مع أنا لا نقطع بصدقهما فوجوب العمل بالخبر مقطوع به وكون العموم مستغرقا غير مقطوع به فإن قيل إنما يجب العمل بخبر لا يقابل عموم القرآن قلنا يقابله أنه إنما يجب العمل بعموم لا يخصصه حديث نص ينقله عدل ولا فصل بين الكلامين

____________________

(1/248)


المسلك الثاني قولهم إن الحديث إما أن يكون نسخا أو بيانا والنسخ لا يثبت بخبر الواحد إتفاقا وإن كان بيانا فعال إذا البيان ما يقترن بالمبين وما يعرفه الشارع أهل التواتر حتى تقوم الحجة به قلنا هو بيان ولا يجب اقتران البيان بل يجوز تأخيره عندنا وما يدريهم أنه وقع متراخيا فلعله كان مقترنا والراوي لم يرو اقترانه كيف ويجوز أن يقول بعد ورود آية السرقة لا قطع إلا في ربع دينار من الحرز وأما قولهم ينبغي أن يلقيه إلى عدد التواتر فتحكم بل إذا لم يكلفهم العلم بل العمل جاز تكليفهم بقول عدل واحد ثم ما يدر بهم فلعله ألقاه إلى عدد التواتر فماتوا قبل النقل أو نسوا أو هم في الأحياء لكنا ما لقينا منهم إلا واحدا حجة القائلين بتقديم الخبر أن الصحابة ذهبت إليه إذ روى أبو هريرة أن المرأة لا تنكح على عمتها وخالتها فخصصوا به قوله تعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم } النساء 24 وخصصوا عموم آية المواريث برواية أبي هريرة أنه لا يرث القاتل والعبد ولا أهل ملتين ورفعوا عموم آية الوصية بقوله لا وصية لوارث ورفعوا عموم قوله تعالى { حتى تنكح زوجا غيره } البقرة 23 برواية من روى حتى تذوق عسيلتها إلى نظائر لذلك كثيرة لا تحصى
الاعتراض إن هذا ليس قاطعا بأنهم رفعوا العموم بمجرد قول الراوي بل ربما قامت الحجة عندهم على صحة قوله بأمور وقرائن وأدلة سوى مجرد قوله كما نقل أن أهل قباء تحولوا عن القبلة بخبر واحد وهو نسخ لكنهم لعلهم عرفوا صدقه برفع صوته في جوار النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه وأن ذلك لا يمكن الكذب فيه
حجة القائلين بالتوقف وهو اختيار القاضي أن العموم وحده دليل مقطوع الأصل مظنون الشمول والخبر وحده مظنون الأصل مقطوع به في اللفظ والمعنى وهما متقابلان ولا دليل على الترجيح فيتعارضان والرجوع إلى دليل آخر والمختار أن خبر العدل أولى لأن سكون النفس إلى عدل واحد في الرواية لما هو نص كسكونها إلى عدلين في الشهادة أما اقتضاء آية المواريث الحكم في حق القاتل والكافر ضعيف وكلام من يدعي إجمال العموم قوي واقع وكلام من ينكر خبر الواحد ولا يجعله حجة في غاية الضعف ولذلك ترك توريث فاطمة رضي الله عنها بقول أبي بكر نحن معاشر الأنبياء لا نورث الحديث فنحن نعلم أن تقدير كذب أبي بكر وكذب كل عدل أبعد في النفس من تقدير كون آية المواريث مسوقة لتقدير المواريث لا للقصد إلى بيان حكم النبي عليه الصلاة والسلام والقاتل والعبد والكافر وهذه النوادر
مسألة ( تعارض القياس مع العموم ) قياس نص خاص إذا قابل عموم نص آخر فالذاهبون إلى أن العموم حجة لو انفرد والقياس حجة لو انفرد اختلفوا فيه على خمسة مذاهب فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأبو الحسن الأشعري إلى تقديم القياس على العموم ذهب الجبائي وابنه وطائفة من المتكلمين والفقهاء إلى تقديم العموم وذهب القاضي وجماعة إلى التوقف لحصول التعارض وقال قوم يقدم على العموم جلى القياس دون خفيه وقال عيسى بن أبان يقدم القياس على عموم دخله التخصيص دون ما لم يدخله
حجاج من قدم العموم ثلاث الأولى أن القياس فرع والعموم أصل فكيف يقدم فرع على أصل الاعتراض من وجوه الأول أن القياس فرع نص آخر لا فرع النص المخصوص به والنص تارة يخصص بنص آخر وتارة بمعقول نص آخر ولا معنى للقياس إلا معقول النص وهو الذي يفهم المراد من النص والله هو الواضع لإضافة الحكم إلى معنى النص إلا أنه مظنون نص كما أن العموم وتناوله للمسمى الخاص مظنون نص آخر فهما ظنان في نصين مختلفين وإذا خصصنا بقياس الأرز على البر عموم قوله { وأحل الله البيع وحرم الربا } البقرة
____________________

(1/249)


275 ) لم نخصص الأصل بفرعه فإن الأرز فرع حديث البر لا فرع آية إحلال البيع
الثاني أنه يلزم أن لا يخصص القرآن بخبر الواحد لأنه فرع فإنه يثبت بأصل من كتاب وسنة فيكون فرعا له فقد سلم التخصيص بخبر الواحد من لا يسلم التخصيص بالقياس فهذا لازم لهم فإن قيل خبر الواحد ثبت بالإجماع لا بالظاهر والنص قلنا وكون القياس حجة ثبت أيضا بالإجماع ثم لا مستند للإجماع سوى النص فهو فرع الإجماع والإجماع فرع النص
الحجة الثانية أنه إنما يطلب القياس حكم ما ليس منطوقا به فما هو منطوق به كيف يثبت بالقياس
الاعتراض أنه ليس منطوقا به كالنطق بالعين الواحدة لأن زيدا في قوله { فاقتلوا المشركين } التوبة 5 ليس كقوله اقتلوا زيدا والأرز في قوله { وأحل الله البيع وحرم الربا } البقرة 275 ليس كقوله يحل بيع الأرز بالأرز متفاضلا ومتماثلا فإذا كان كونه مرادا بآية إحلال البيع مشكوكا فيه كان كونه منطوقا به مشكوكا فيه لأن العام إذا أريد به الخاص كان ذلك نطقا بذلك القدر ولم يكن نطقا بما ليس بمراد والدليل عليه جواز تخصيصه بدليل العقل القاطع ودليل العقل لا يجوز أن يقابل النطق الصريح من الشارع لأن الأدلة لا تتعارض فإن قيل ما أخرجه العقل عرف أنه لم يدخل تحت العموم قلنا تحت لفظه أو تحت الارادة فإن قلتم تحت اللفظ فإن الله تعالى شيء وهو داخل تحت اللفظ من قوله تعالى { خالق كل شيء } الأنعام 102 وإن قلتم لا يدخل تحت الإرادة فكذلك دليل القياس يعرفنا ذلك ولا فرق
الحجة الثالثة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ بم تحكم فقال بكتاب الله قال فإن لم تجد قال بسنة رسول الله قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي فجعل الاجتهاد مؤخرا فكيف يقدم على الكتاب قلنا كونه مذكورا في الكتاب مبني على كونه مرادا بالعموم وهو مشكوك فيه فكونه في الكتاب مشكوك فيه ولذلك جاز لمعاذ ترك العموم بالخبر المتواتر وخبر الواحد ونص الكتاب لا يترك بالسنة إلا أن تكون السنة بيانا لمعنى الكتاب والكتاب يبين الكتاب والسنة تبين السنة تارة بلفظ وتارة بمعقول لفظ ثم نقول حكم العقل الأصلي في براءة الذمة يترك بخبر الواحد وبقياس خبر الواحد لأنه ليس يحكم به العقل مع ورود الخبر فيصير مشكوكا فيه معه فكذلك العموم
حجاج القائلين بتقديم القياس اثنتان الأولى أن العموم يحتمل المجاز والخصوص والاستعمال في غير ما وضع له والقياس لا يحتمل شيئا من ذلك ولأنه يخصص العموم بالنص الخاص مع إمكان كونه مجازا ومؤولا فالقياس أولى
الاعتراض أن احتمال الغلط في القياس ليس بأقل من احتمال ما ذكر في العموم من احتمال الخصوص والمجاز بل ذلك
____________________

(1/250)


موجود في أصل القياس وزيادة ضعف ما يختص به من احتمال الخصوص والمجاز إذ القياس ربما يكون منتزعا من خبر واحد فيتطرق الاحتمال إلى أصله وربما استنبطه من ليس أهلا للاجتهاد فظن أنه من أهله ولا حكم لاجتهاد غير الأهل والعموم لا يستند إلى اجتهاد وربما يستدل على إثبات العلة بما يظنه دليلا وليس بدليل وربما لا يستوفي جميع أوصاف الأصل فيشذ عنه وصف داخل في الاعتبار وربما يغلط في إلحاق الفرع به لفرق دقيق بينهما لم يتنبه له فمظنة الاحتمال والغلط في القياس أكثر
الحجة الثانية قولهم تخصيص العموم بالقياس جمع بين القياس وبين الكتاب فهو أولى من تعطيل أحدهما أو تعطيلهما وهذا فاسد لأن القدر الذي وقع فيه التقابل ليس فيه جمع بل هو رفع للعموم وتجريد للعمل بالقياس
حجة الواقفية قالوا إذا بطل كلام المرجحين كما سبق وكل واحد من القياس والعموم دليل لو انفرد وقد تقابلا ولا ترجيح فهل يبقى إلا التوقف لأن الترجيح إما أن يدرك بعقل أو نقل والعقل إما نظري أو ضروري والنقل إما تواتر أو آحاد ولم يتحقق شيء من ذلك فيجب طلب دليل آخر فإن قيل هذا يخالف الإجماع لأن الأمة مجمعة على تقديم أحدهما وإن اختلفوا في التعيين ولم يذهب أحد قبل القاضي إلى التوقف أجاب القاضي بأنهم لم يصرحوا ببطلان التوقف قطعا ولم يجمعوا عليه لكن كل واحد رأى ترجيحا والإجماع لا يثبت بمثل ذلك كيف ومن لا يقطع ببطلان مذهب مخالفه في ترجيح القياس كيف يقطع بخطئه إن توقف
حجة من فرق بين جلى القياس وخفيه وهي أن جلي القياس قوي وهو أقوى من العموم والخفي ضعيف ثم حكي عنهم أنهم فسروا الجلي بقياس العلة والخفي بقياس الشبه وعن بعضهم أن الجلي مثل قوله عليه السلام لا يقض القاضي وهو غضبان وتعليل ذلك بما يدهش العقل عن تمام الفكر حتى يجري في الجائع والحاقن خفي والمختار أن ما ذكروه غير بعيد فإن العموم يفيد ظنا والقياس يفيد ظنا وقد يكون أحدهما أقوى في نفس المجتهد فيلزمه اتباع الأقوى والعموم تارة يضعف بأن لا يظهر منه قصد التعميم ويظهر ذلك بأن يكثر المخرج منه ويتطرق إليه تخصيصات كثيرة كقوله تعالى { وأحل الله البيع } البقرة 275 فإن دلالة قوله عليه السلام لا تبيعوا البر بالبر على تحريم الأرز والتمر أظهر من دلالة هذا العموم على تحليله وقد دل الكتاب على تحريم الخمر وخصص به قوله تعالى { مبعوثون } الأنعام 145 وإذا ظهر منه التعليل بالإسكار فلو لو يرد خبر في تحريم كل مسكر لكان إلحاق النبيذ بالخمر بقياس الإسكار أغلب على الظن من بقائه تحت عموم قوله { يقصون } الأنعام 145 وهذا ظاهر في هذه الآية وآية احلال البيع لكثرة ما أخرج منهما ولضعف قصد العموم فيهما ولذلك جوزه عيسى بن أبان في أمثاله دون ما بقي على العموم ولكن لا يبعد ذلك عندنا أيضا فيما بقي عاما لأنا لا نشك في أن العمومات بالإضافة إلى بعض المسميات تختلف في القوة لاختلافها في ظهور إرادة قصد ذلك
____________________

(1/251)


المسمى بها فإن تقابلا وجب تقديم أقوى العمومين وكذلك أقوى القياسين إذا تقابلا قدمنا أجلاهما وأقواهما فكذلك العموم والقياس إذا تقابلا فلا يبعد أن يكون قياس قوي أغلب على الظن من عموم ضعيف أو عموم قوي أغلب على الظن من قياس ضعيف فنقدم الأقوى وإن تعادلا فيجب التوقف كما قاله القاضي إذ ليس كون هذا عموما أو كون ذلك قياسا مما يوجب ترجيحا لعينهما بل لقوة دلالتهما فمذهب القاضي صحيح بهذا الشرط فإن قيل فهذا الخلاف الذي في تخصيص بقياس مستنبط من الكتاب إذا خصص به عموم الكتاب فهل يجري في قياس مستنبط من الأخبار قلنا نسبة قياس الكتاب إلى عموم الكتاب كنسبة قياس الخبر المتواتر إلى عموم الخبر المتواتر وكنسبة قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد والخلاف جار في الكل وكذا قياس الخبر المتواتر بالنسبة إلى عموم الكتاب وقياس نص الكتاب بالإضافة إلى عموم الخبر المتواتر أما قياس خبر الواحد إذا عارض عموم القرآن فلا يخفي ترجيح الكتاب عند من لا يقدم خبر الواحد على عموم القرآن أما من يقدم الخبر فيجوز أن يتوقف في قياس الخبر فإنه ازداد ضعفا وبعدا وما في معنى الأصل والمعلوم بالنظر الجلي قريب من الأصل فلا يبعد أن يكون أقوى في النفس في بعض الأحوال من ظن العموم فالنظر فيه إلى المجتهد فإن قيل الخلاف في هذه المسألة من جنس الخلاف في القطعيات أو في المجتهدات قلنا يدل سياق كلام القاضي على أن القول في تقديم خبر الواحد على عموم الكتاب وفي تقديم القياس على العموم مما يجب القطع بخطأ المخالف فيه لأنه من مسائل الأصول وعندي أن إلحاق هذا بالمجتهدات أولى فإن الأدلة من سائر الجوانب فيه متقاربة غير بالغة مبلغ القطع
الباب الرابع في تعارض العمومين ووقت جواز الحكم بالعموم وفيه فصول الفصل الأول في التعارض اعلم أن المهم الأول معرفة محل التعارض فنقول كل ما دل العقل فيه على أحد الجانبين فليس للتعارض فيه مجال إذ الأدلة العقلية يستحيل نسخها وتكاذبها فإن ورد دليل سمي على خلاف العقل فأما لا يكون متواترا فيعلم أنه غير صحيح وإما أن يكون متواترا فيكون مؤولا ولا يكون متعارضا وأما نص متواتر لا يحتمل الخطأ والتأويل وهو على خلاف دليل العقل فذلك محال لأن دليل العقل لا يقبل النسخ والبصلان مثال ذلك المؤول في العقليات قوله تعالى { خالق كل شيء } الأنعام 102 إذ خرج بدليل العقل ذات القديم وصفاته وقوله { وهو بكل شيء عليم } البقرة 29 دل العقل على عمومه ولا يعارضه قوله تعالى { قل أتنبئون الله بما لا يعلم } يونس 18 إذ معناه ما لا يعلم له أصلا أي يعلم أنه لا أصل له ولا يعارضه قوله تعالى { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم } محمد 31 إذا معناه أنه يعلم المجاهدة كائنة وحاصلة وفي الأزل لا يوصف علمه بتعلقه بحصول المجاهدة قبل حصولها وكذلك قوله تعالى { وتخلقون إفكا } العنكبوت 17 لا يعارض قوله { خالق كل شيء } لأن المعنى به الكذب دون الايجاد وكذلك قوله تعالى { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } المائدة 110 لأن معناه تقدر والخلق هو التقدير وكذلك قوله { أحسن الخالقين } المؤمنون 14 { أي }
____________________

(1/252)


المقدرين وهكذا أبدا تأويل ما خالف دليل العقل أو خالف دليلا شرعا دل العقل على عمومه
أما الشرعيات فإذا تعارض فيها دليلان فأما أن يستحيل الجمع أو يمكن فإن امتنع الجمع لكونهما متناقضين كقوله مثلا من بدل دينه فاقتلوه من بدل دينه فلا تقتلوه لا يصح نكاح بغير ولي يصح نكاح بغير ولي فمثل هذا لا بد أن يكون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا فإن أشكل التاريخ فيطلب الحكم من دليل آخر ويقدر تدافع النصين فإن عجزنا عن دليل آخر فنتخير العمل بأيهما شئنا لأن الممكنات أربعة العمل بهما وهو متناقض أو اطراحهما وهو إخلاء الواقعة عن الحكم وهو متناقض أو استعمال واحد بغير مرجح وهو تحكم فلا يبقى إلا التخير الذي يجوز ورود التعبدية ابتداء فإن الله تعالى لو كلفنا واحدا بعينه لنصب عليه دليلا ولجعل لنا إليه سبيلا إذ لا يجوز تكليف بالمحال وفي التخيير بين الدليلين المتعارضين مزيد غور سنذكره في كتاب الاجتهاد عند تخير المجتهد وتحيره أما إذا أمكن الجمع بوجه ما فهو على مراتب المرتبة الأولى عام وخاص كقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر مع قوله لا صدقة فيما دون خمسة أوسق فقد ذكرنا من مذهب القاضي أن التعارض واقع لإمكان كون أحدهما نسخا بتقدير إرادة العموم بالعام والمختار أن يجعل بيانا ولا يقدر النسخ إلا لضرورة فإن فيه تقدير دخول ما دون النصاب تحت وجوب العشر ثم خروجه منه وذلك لا سبيل إلى إثباته بالتوهم من غير ضرورة
المرتبة الثانية وهي قريبة من الأولى أن يكون اللفظ المؤول قويا في الظهور بعيدا عن التأويل لا ينقدح تأويله إلا بقرينة فكلام القاضي فيه أوجه ومثاله قوله عليه السلام إنما الربا في النسيئة كما رواه ابن عباس فإنه كالصريح في نفي ربا الفضل ورواية عبادة بن الصامت في قوله الحنطة بالحنطة مثلا بمثل صريح في إثبات ربا الفضل فيمكن أن يكون أحدهما ناسخا للآخر ويمكن أن يكون قوله إنما الربا في النسيئة أي في مختلفي الجنس ويكون قد خرج على سؤال خاص عن المختلفين أو حاجة خاصة حتى ينقدح الاحتمال والجمع بهذا التقدير ممكن والمختار أنه وإن بعد أولى من تقدير النسخ وللقاضي أن يقول قطعكم بأنه أراد به الجنسين تحكم لا يدل عليه قاطع ويخالف ظاهر اللفظ المفيد للظن والتحكم بتقدير ليس يعضده دليل قطعي ولا ظني لا وجه له قلنا يحملنا عليه ضرورة الاحتراز عن النسخ فيقول فما المانع من تقدير النسخ وليس في إثباته اتركاب محال ولا مخالفة دليل قطعي ولا ظني وفيما ذكرتم مخالفة صيغة العموم ودلالة اللفظ وهو دليل ظني فما هو الخوف والحذر من النسخ وإمكانه كإمكان البيان فليس أحدهما بأولى من الآخر فإن قلنا البيان أغلب على عادة الرسول عليه السلام من النسخ وهو أكثر وقوعا فله أن يقول وما الدليل على جواز الأخذ بالاحتمال الأكثر وإذا اشتبهت رضيعة بعشر نسوة فالأكثر حلال وإذا اشتبه إناء نجس بعشر أوان طاهرة فلا ترجيح للأكثر بل لا بد من الاجتهاد والدليل ولا يجوز أن يأخذوا واحدا ويقدر حله أو طهارته لأن جنسه أكثر لكنا نقول الظن
____________________

(1/253)


عبارة عن أغلب الاحتمالين ولكن لا يجوز إتباعه إلا بدليل فخبر الواحد لا يورث إلا غلبة الظن من حيث إن صدق العدل أكثر وأغلب من كذبه وصيغة العموم تتبع لأن إرادة ما يدل عليه الظاهر أغلب وأكثر من وقوع غيره والفرق بين الفرع والأصل ممكن غير مقطوع ببطلائه في الأقيسة الظنية لكن الجمع أغلب على الظن واتباع الظن في هذه الأصول لا لكونه ظنا لكن لعمل الصحابة به واتفاقاتهم عليه فكذا نعلم من سيرة الصحابة إنهم ما اعتقدوا كون غير القرآن منسوخا من أوله إلى آخره ولم يبق فيه عام لم يخصص إلا قوله تعالى { وهو بكل شيء عليم } البقرة 29 وألفاظ نادرة بل قدروا جملة ذلك بيانا وورد العام والخاص في الأخبار ولا يتطرق النسخ إلى الخبر كقوله تعالى { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } القلم 30 وتخصيصا لقوله تعالى { هذا يوم لا ينطقون } المرسلات 35 وتخصيص قوله تعالى { وأوتيت من كل شيء } النمل 23 و { تدمر كل شيء بأمر ربها } الأحقاف 25 و { فلله } القصص 57 وكانوا لا ينسخون إلا بنص وضرورة أما بالتوهم فلا ولعل السبب أن في جعلهما متضادين إسقاطهما ذا لم يظهر التاريخ وفي جعله بيانا استعمالها وإذا تخيرنا بين الاستعمال والإسقاط فالاستعمال هو الأصل ولا يجوز الإسقاط إلا لضرورة
تنبيه أعلم أن القاضي أيضا إنما يقدر النسخ بشرط أن لا يظهر دلالة على إرادة البيان مثاله قوله لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب عام يعارضه خصوص قوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر لكن القاضي يقدره نسخا بشرطين أحدهما أن لا ينبت في اللسان اختصاص اسم الإهاب بغير المدبوغ فقد قيل ما لم يدبغ الجلد يسمى إهابا فإذا دبغ فأديم وصرم وغيره فإن صح هذا فلا تعارض بين اللفظين
الثاني أنه روي عن ابن عباس أنه عليه السلام مر بشاة لميمونة ميتة فقال ألا أخذوا إهابها فدبغوه وانتفعوا به وكانوا قد تركوها لكونها ميتة ثم كتب لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فساق الحديث سياقا يشعر بأنه جرى متصلا فيكون بيانا ناسخا لأن شرط النسخ التراخي
المرتبة الثالثة من التعارض أن يتعارض عمومان فيزيد أحدهما على الآخر من وجه وينقص عنه من وجه مثاله قوله عليه السلام من بدل دينه فاقتلوه فإنه يعم النساء مع قوله نهيت عن قتل النساء فإنه يعم المرتدات وكذلك قوله نهيت عن الصلاة بعد العصر فإنه يعم الفائتة أيضا مع قوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإنه يعم المستيقظ بعد العصر وكذلك قوله { تعلمون } النساء 23 فإنه يشمل جمع الأختين في ملك اليمين أيضا مع قوله { أو ما ملكت أيمانكم } النساء 3 فإنه
____________________

(1/254)


يحل الجمع بين الأختين بعمومه فيمكن أن يخصص قوله { وأن تجمعوا بين الأختين } النساء 23 بجمع الأختين في النكاح دون ملك اليمين لعموم قوله { أو ما ملكت أيمانكم } فهو على مذهب القاضي تعارض وتدافع بتقدير النسخ ويشهد له قول علي وعثمان رضي الله عنهما لما سئلا عن هذه المسألة أعني جمع أختين في ملك اليمين فقالا حرمتهما آية وحللتهما آية أما على مذهبنا في حمله على البيان ما أمكن ليس أيضا أحدهما بأولى من الآخر ما لم يظهر ترجيح وقد ظهر فنقول حفظ عموم قوله { وأن تجمعوا بين الأختين } أولى لمعنيين أحدهما إنه عموم لم يتطرق إليه تخصيص متفق عليه فهو أقوى من عموم تطرق إليه التخصيص بالإتفاق إذ قد استثنى عن تحليل ملك اليمن المشتركة والمستبرأة والمجوسية والأخت من الرضاع والنسب وسائر المحرمات أما الجمع بين الأختين فحرام على العموم
الثاني أن قوله { وأن تجمعوا بين الأختين } النساء 23 سيق بعد ذكر المحرمات وعدها على الاستقصاء إلحاق لمحرمات تعم الحرائر والإماء وقوله { أو ما ملكت أيمانكم } النساء 3 ما سيق لبيان المحللات قصدا بل في معرض الثناء على أهل التقوى الحافظين فروجهم عن غير الزوجات والسراري فلا يظهر منه قصد البيان
فإن قيل هل يجوز أن يتعارض عمومان ويخلوا عن دليل الترجيح قلنا قال قوم لا يجوز ذلك لأنه يؤدي إلى التهمة ووقوع الشبهة لتناقض الكلامين وهو منفر عن الطاعة والإتباع والتصديق وهذا فاسد بل ذلك جائز ويكون ذلك مبينا لأهل العصر الأول وإنما خفي علينا لطول المدة واندراس القرائن والأدلة ويكون ذلك محنة وتكليفا علينا لنطلب الدليل من وجه آخر من ترجيح أو نتخير ولا تكليف في حقنا إلا بما بلغنا فليس فيه محال وأما ما ذكروه من التنفير والتهمة فباطل فإن ذلك قد نفر طائفة من الكفار في ورود النسخ حتى قال تعالى { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر } النحل 101 الآية ثم ذلك لم يدل على استحالة النسخ
الفصل الثاني في جواز إسماع العموم من لم يسمع الخصوص وقد اختلفوا في جوازه فقيل لا يجوز ذلك لأن فيه الباسا وتجهيلا ونحن نقول يجب على الشارع أن يذكر دليل الخصوص إما مقترنا وإما متراخيا على ما ذكرناه من تأخير البيان وليس من ضرورة كل مجتهد بلغه العموم أن يبلغه دليل الخصوص بل يجوز أن يغفل عنه ويكون حكم الله عليه والعمل بالعموم وهذا القدر الذي بلغه لا يكلف ما لم يبلغه ودليل جوازه وقوعه بالإجماع فإن من الأدلة المخصصة ما هي عقلية غامضة عجز عنها الأكثرون إلا الراسخون في العلم وغلطوا فيها فالألفاظ المتشابهة في القرآن الموهمة للتشبيه بلغت الجميع والأدلة العقلية الغامضة لم ينتبه لها الجميع ولم يرد الشرع صريحا بنفي التشبيه وقطع الوهم وذلك سبب للجهل والدليل عليه وقوع الجهل للمشبهة فإن قيل العقل الذي يدل على التخصيص عتيد لكل عاقل فالحوالة عليه ليس بتجهيل قلنا وأي شيء ينفع كونه عتيدا ولم يزل به جهل الأكثرين وكان يزول بالتصريح والنص الذي لا يوهم التشبيه أصلا احتجوا بشبهتين الأولى إنه لو جاز ذلك لجاز أن يسمعهم المنسوخ دون الناسخ والمستثنى دون الاستثناء قلنا ذلك جائز في النسخ وعليه العمل بالمنسوخ إلى أن يبلغه الناسخ وليس عليه إلا تجويز النسخ والتصفح عن دليله فإذا لم يبلغه فلا تكليف عليه بما لم يبلغه كما إذا عجز من معرفة التخصيص بعد البحث عمل بالعموم وأما الاستثناء فيشترط إتصاله فكيف لا يبلغه نعم يجوز أن يسمعه الأول فينزعج عن المكان لعارض قبل سماع الاستثناء فلا يسمعه فلا يكون
____________________

(1/255)


مكلفا بما لم يبلغه
الشبهة الثانية قولهم تبليغ العام دون دليل الخصوص تجهيل فإنه يعتقد العموم وهو جهل قلنا جهل من جهته إن اعتقد جزما عمومه بل ينبغي أن يعتقد أن ظاهره العموم وهو محتمل للخصوص ومكلف بطلب دليل الخصوص إلى أن يبلغه أو يظهر له انتفاؤه لأنه إن اعتقد أنه عام قطعا أو خاص قطعا أو لا عام ولا خاص أو هو عام وخاص معا فكل ذلك جهل فإذا بطل الكل لم يبق إلا اعتقاد أنه ظاهر في العموم محتمل للخصوص وبهذا يتبين بطلان مذهب أبي حنيفة حيث قال قوله { فتحرير رقبة } المجادلة 3 يجب أن يعتقد عمومه قطعا حتى يكون إخراج الكافرة نسخا وقوله { وليطوفوا بالبيت العتيق } الحج 29 يجب اعتقاد إجزائه قطعا حتى يكون اشتراط الطهارة بدليل آخر نسخا وهو خطأ بل يعتقده ظاهرا محتملا أو يتوقف عن القطع والجزم نفيا وإثباتا فإنه ليس بقاطع
الفصل الثالث في الوقت الذي يجوز للمجتهد الحكم بالعموم فيه فإن قال قائل إذا لم يجز الحكم بالعموم ما لم يتبين انتفاء دليل الخصوص فمتى يتبين له ذلك وهل يشترط أن يعلم انتفاء المخصص قطعا أو يظنه ظنا قلنا لا خلاف في أنه لا يجوز المبادرة إلى الحكم بالعموم قبل البحث عن الأدلة العشرة التي أوردناها في المخصصات لأن العموم دليل بشرط انتفاء المخصص والشرط بعد لم يظهر وكذلك كل دليل يمكن أن يعارضه دليل فهو دليل بشرط السلامة عن المعارضة فلا بد من معرفة الشرط وكذلك الجمع بعلة مخيلة بين الفرع والأصل دليل بشرط أن لا ينقدح فرق فعليه أن يبحث عن الفوارق جهده أو ينفيها ثم يحكم بالقياس وهذا الشرط لا يحصل إلا بالبحث ولكن المشكل أنه إلى متى يجب البحث فإن المجتهد وإن استقصى أمكن أن يشذ عنه دليل لم يعثر عليه فكيف يحكم مع إمكانه أو كيف ينحسم سبيل إمكانه وقد انقسم الناس في هذا على ثلاثة مذاهب فقال قوم يكفيه أن يحصل غلبة الظن بالإنتفاء عند الاستقصاء في البحث كالذي يبحث عن متاع في بيت فيه أمتعة كثيرة فلا يجده فيغلب على ظنه عدمه وقائل يقول لا بد من اعتقاد جازم وسكون نفس بأنه لا دليل أما إذا كان يشعر بجواز دليل يشذ عنه ويحيك في صدره إمكانه فكيف يحكم بدليل يجوز أن يكون الحكم به حراما نعم إذا اعتقد جزما وسكنت نفسه إلى الدليل جاز له الحكم كان مخطئا عند الله أو مصيبا كما لو سكنت نفسه إلى القبلة فصلى إليها وقال قوم لا بد أن يقطع بانتفاء الأدلة وإليه ذهب القاضي لأن الاعتقاد الجزم من غير دليل قاطع سلامة قلب وجهل بل العالم الكامل يشعر نفسه بالاحتمال حيث لا قاطع ولا تسكن نفسه والمشكل على هذا طريق تحصيل القطع بالنفي وقد ذكر فيه القاضي مسلكين أحدهما إنه إذا بحث في مسألة قتل المسلم بالذمي عن مخصصات قوله لا يقتل مؤمن بكافر مثلا فقال هذه مسألة طال فيها خوض العلماء وكثر بحثهم فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم مدركها وهذه المدارك المنقولة عنهم علمت بطلانها فأقطع بأن لا مخصص لها وهذا فاسد من وجهين أحدهما إنه حجر على الصحابة أن يتمسكوا بالعموم في كل واقعة لم يكثر الخوض فيها ولم يطل البحث عنها ولا
____________________

(1/256)


شك في عملهم مع جواز التخصيص بل مع جواز نسخ لم يبلغهم كما حكموا بصحة المخابرة بدليل عموم إحلال البيع حتى روى رافع بن خديج النهي عنها
الثاني أنه بعد طول الخوض لا يحصل اليقين بل إن سلم إنه لا يشذ المخصص عن جميع العلماء فمن أين لقي جميع العلماء ومن أين عرف أنه بلغه كلام جميعهم فلعل منهم من تنبه لدليله وما كتبه في تصنيفه ولا نقل عنه وإن أورده في تصنيفه فلعله لم يبلغه وعلى الجملة لا يظن بالصحابة فعل المخابرة مع اليقين بانتفاء النهي وكان النهي حاصلا ولم يبلغهم بل كان الحاصل إما ظنا وإما سكون نفس
المسلك الثاني قال القاضي لا يبعد أن يدعي المجتهد اليقين وإن لم يدع الإحاطة بجميع المدارك إذ يقول لو كان الحكم خاصا لنصب الله تعالى عليه دليلا للمكلفين ولبلغهم ذلك وما خفي عليهم وهذا أيضا من الطراز الأول فإنه لو اجتمعت الأمة على شيء أمكن القطع بأن لا دليل يخالفه إذ يستحيل إجماعهم على الخطأ أما في مسألة الخلاف كيف يتصور ذلك والمختار عندنا أن تيقن الإنتفاء إلى هذا الحد لا يشترط وأن المبادرة قبل البحث لا تجوز بل عليه تحصيل علم وظن باستقصاء البحث أما الظن فبانتفاء الدليل في نفسه وأما القطع فبانتفائه في حقه بتحقق عجز نفسه عن الوصول إليه بعد بذل غاية وسعه فيأتي بالبحث الممكن إلى حد يعلم أن بحثه بعد ذلك سعي ضائع ويحس من نفسه بالعجز يقينا فيكون العجز عن العثور على الدليل في حقه يقينا وانتفاء الدليل في نفسه مظنون وهو الظن بالصحابة في المخابرة ونظائرها وكذلك الواجب في القياس والاستصحاب وكل ما هو مشروط بنفي دليل آخر
الباب الخامس في الاستثناء والشرط والتقييد بعد الإطلاق الكلام في الاستثناء والنظر في حقيقته وحده ثم في شرطه ثم في تعقب الجمل المترادفة فهذه ثلاثة فصول الفصل الأول في حقيقة الاستثناء وصيغه معرفة وهي إلا وعدا وحاشا وسوى وما جرى مجراها وأم الباب لا وحده أنه قول ذو صيغ مخصوصة محصورة دال على أن المذكور فيه لم يرد بالقول الأول ففيه احتراز عن أدلة التخصيص لأنها قد لا تكون قولا وتكون فعلا وقرينة ودليل عقل فإن كان قولا فلا تنحصر صيغه واحترزنا بقولنا ذو صيغ محصورة عن قوله رأيت المؤمنين ولم أر زيدا فإن العرب لا تسميه استثناء وإن أفاد ما يفيده قوله إلا زيدا ويفارق الاستثناء التخصيص في أنه يشترط اتصاله وأنه يتطرق إلى الظاهر والنص جميعا إذ يجوز أن يقول عشرة إلا ثلاثة كما يقول اقتلوا المشركين إلا زيدا والتخصيص لا يتطرق إلى النص أصلا وفيه احتراز عن النسخ إذ هو رفع وقطع وفرق بين النسخ والاستثناء والتخصيص أن النسخ رفع لما دخل تحت اللفظ والاستثناء يدخل على الكلام فيمنع أن يدخل تحت اللفظ ما كان يدخل لولاه والتخصيص يبين كون اللفظ قاصرا عن البعض فالنسخ قطع ورفع والاستثناء رفع والتخصيص بيان وسيأتي لهذا مزيد تحقيق في فصل الشرط إن شاء الله

____________________

(1/257)


الفصل الثاني في الشروط وهي ثلاثة الأول الاتصال فمن قال اضرب المشركين ثم قال بعد ساعة إلا زيدا لم يعد هذا كلاما بخلاف ما لو قال أردت بالمشركين قوما ما دون قوم ونقل عن ابن عباس أنه جوز تأخير الاستثناء ولعله لا يصح عنه النقل إذ لا يليق ذلك بمنصبه وأن صح فلعله أراد به إذا نوى الاستثناء أولا ثم أظهر نيته بعده فيدين بينه وبين الله فيما نواه ومذهبه أن ما يدين فيه العبد فيقبل ظاهرا أيضا فهذا له وجه أما تجويز التأخير لو أجيز عليه دون هذا التأويل فيرد عليه اتفاق أهل اللغة على خلافه لأنه جزء من الكلام يحصل به الاتمام فإذا انفصل لم يكن إتماما كالشرط وخبر المبتدأ فإنه لو قال اضرب زيدا إذا قام فهذا شرط فلو أخر ثم قال بعد شهر إذا قام لم يفهم هذا الكلام فضلا عن أن يصير شرطا وكذلك قوله إلا زيدا بعد شهر لا يفهم وكذلك لو قال زيد ثم قال بعد شهر قام لم يعد هذا خبرا أصلا ومن ههنا قال قوم يجوز التأخير لكن بشرط أن يذكر عند قوله إلا زيدا أني أريد الاستثناء حتى يفهم وهذا أيضا لا يغني فإن هذا لا يسمى استثناء
احتجوا بجواز تأخير النسخ وأدلة التخصيص وتأخير البيان فنقول إن جاز القياس في اللغة فينبغي أن يقاس عليه الشرط والخبر ولا ذاهب إليه لأنه لا قياس في اللغات وكيف يشبه بأدلة التخصيص وقوله إلا زيدا يخرج عن كونه مفهوما فضلا عن أن يكون إتماما للكلام الأول
والشرط الثاني أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه كقوله رأيت الناس إلا زيدا ولا تقول رأيت الناس إلا حمارا أو تستثنى جزءا مما دخل تحت اللفظ كقوله رأيت الدار إلا بابها ورأيت زيدا إلا وجهه وهذا استثناء من غير الجنس لأن اسم الدار لا ينطلق على الباب ولا اسم زيد على وجهه بخلاف قوله مائة ثوب إلا ثوبا وعن هذا قال قوم ليس من شرط الاستثناء أن يكون من الجنس قال الشافعي لو قال علي مائة درهم إلا ثوبا صح ويكون معناه إلا قيمة ثوب ولكن إذا رد إلى القيمة فكأنه تكلف رده إلى الجنس وقد ورد الاستثناء من غير الجنس كقوله تعالى { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } كيف الحجر 30 31 ولم يكن من الملائكة فإنه قال { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } الكهف 50 وقال تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } النساء 92 استثنى الخطأ من العمد وقال تعالى { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } الشعراء 77 { وقال } لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة { النساء } وقال تعالى { وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } الليل 19 20 وهذا الاستثناء ليس فيه معنى التخصيص والإخراج إذ المستثنى ما كان ليدخل تحت اللفظ أصلا ومن معتاد كلام العرب ما في الدار رجل إلا امرأة وما له ابن إلا ابنة وما رأيت أحدا إلا ثورا وقال شاعرهم وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس وقال آخر ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
____________________

(1/258)


وقد تكلف قوم عن هذا كله جوابا فقالوا ليس هذا استثناء حقيقة بل هو مجاز وهذا خلاف اللغة فإن إلا في اللغة للاستثناء والعرب تسمى هذا استثناء ولكن تقول هو استثناء من غير الجنس وأبو جنيفة رحمه الله جوز استثناء المكيل من الموزون وعكسه ولم يجوز استثناء غير المكيل والموزون منهما في الأقارير وجوزه الشافعي رحمه الله والأولى التجويز في الأقارير لأنه إذا صار معتادا في كلام العرب وجب قبوله لانتظامه نعم اسم الاستثناء عليه مجاز أو حقيقة وهذا فيه نظر واختار القاضي رحمه الله أنه حقيقة والأظهر عندي أنه مجاز لأن الاستثناء من الثني تقول ثنيت زيدا عن رأيه وثنيت العنان فيشعر الاستثناء بصرف الكلام عن صوبه الذي كان يقتضيه سياقه فإذا ذكر ما لا دخول له في الكلام الأول لولا الاستثناء أيضا فما صرف الكلام ولا ثناه عن وجه استرساله فتسميته استثناء تجوز باللفظ عن موضعه فتكون إلا في هذا الموضع بمعنى لكن
الشرط الثالث أن لا يكون مستغرقا فلو قال لفلان علي عشرة إلا عشرة لزمته العشرة لأنه رفع الإقرار والإقرار لا يجوز رفعه وكذلك كل منطوق به لا يرفع ولكن يتمم بما يجري مجرى الجزء من الكلام وكما أن الشرط جزء من الكلام فالاستثناء جزء وإنما لا يكون رفعا بشرط أن يبقى للكلام معنى أما استثناء الأكثر فقد اختلفوا فيه والأكثرون على جوازه
قال القاضي رحمه الله وقد نظرنا في مواضع جوازه والأشبه أن لا يجوز لأن العرب تستقبح استثناء الأكثر وتستمحق قول القائل رأيت ألفا إلا تسعمائة وتسعة وتسعين بل قال كثير من أهل اللغة لا يستحسن استثناء عقد صحيح بأن يقول عندي مائة إلا عشرة أو عشرة إلا درهم بل مائة إلا خمسة وعشرة إلا دانقا كما قال تعالى { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } العنكبوت 14 فلو بلغ المائة لقال فلبث فيهم تسعمائة ولكن لما كان كسرا استثناه قال ولا وجه لقول من قال لا ندري استقباحهم أطراح لهذا الكلام عن لغتهم أو هو كراهة واستثقال لأنه إذا ثبت كراهتهم وإنكارهم ثبت أنه ليس من لغتهم ولو جاز في هذا لجاز في كل ما أنكروه وقبحوه من كلامهم احتجوا بأنه لما جاز استثناء الأقل جاز استثناء الأكثر وهذا قياس فاسد كقول القائل إذا جاز استثناء البعض جاز استثناء الكل ولا قياس في اللغة ثم كيف يقاس ما كرهوه وأنكروه على استحسنوه واحتجوا بقوله تعالى { قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا } فلملقيات { المزمل } ولا فرق بين استثناء النصف والأكثر فإنه ليس بأقل وقال الشاعر أدوا التي نقصت تسعين من مائة ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا والجواب أن قوله تعالى { قم الليل إلا قليلا نصفه } أي قم نصفه وليس باستثناء وقول الشاعر ليس باستثناء إذ يجوز أن تقول أسقطت تسعين من جملة المائة هذا ما ذكره القاضي والأولى عندنا أن هذا استثناء صحيح وإن كان مستكرها فإذا قال علي عشرة إلا تسعة فلا يلزمه باتفاق الفقهاء إلا درهم ولا سبب له إلا أنه استثناء صحيح وإن كان قبيحا كقوله علي عشرة إلا تسع سدس ربع درهم فإن هذا قبيح لكن يصح وإنما المستحسن استثناء الكسر وأما قوله عشرة إلا أربعة فليس بمستحسن بل
____________________

(1/259)


ربما يستنكر أيضا لكن الاستنكار على الأكثر أشد وكلما ازداد قلة ازداد حسنا
الفصل الثالث في تعقب الجمل بالاستثناء فإذا قال القائل من قذف زيدا فأضر به وأرد شهادته واحكم بفسقه إلا أن يتوب أو إلا الذين تابوا ومن دخل الدار وأفحش الكلام وأكل الطعام عاقبه إلا من تاب فقال قوم يرجع إلى الجميع وقال قوم يقصر على الأخير وقال قوم يحتمل كليهما فيجب التوقف إلى قيام دليل
وحجج القائلين بالشمول ثلاث الأولى أنه لا فرق بين أن يقول اضرب الجماعة التي منها قتلة وسراق وزناة إلا من تاب وبين قوله عاقب من قتل وزنى وسرق إلا من تاب في رجوع الاستثناء إلى الجميع
الاعتراض أن هذا قياس ولا مجال للقياس في اللغة فلم قلتم أن اللفظ المتفاضل المتعدد كاللفظ المتحد
الثانية قولهم أهل اللغة مطبقون على أن تكرار الاستثناء عقيب كل جملة نوع من العي واللكنة كقوله إن دخل الدار فأضربه إلا أن يتوب وإن أكل فاضربه إلا أن يتوب وإن تكلم فاضربه إلا أن يتوب وهذا ما لا يستنكر الخصم استقباحه بل يقول
ذلك واجب لتعرف شمول الاستثناء
الثالثة أنه لو قال والله لا أكلت الطعام ولا دخلت الدار ولا كلمت زيدا إن شاء الله تعالى يرجع الاستثناء إلى الجميع وكذلك الشرط عقيب الجمل يرجع إليها كقوله أعط العلوية والعلماء إن كانوا فقراء وهذا مما لا تسلمه الواقفية بل يقولون هو متردد بين الشمول والاقتصار والشك كاف في استصحاب الأصل من براءة الذمة في اليمن ومنع الاعطاء إلا عند الأذن المستيقن ومن سلم من المخصصة ذلك فهو مشكل عليه إلا أن يجيب بإظهار دليل فقهي يقضي في الشرط خاصة دون الاستثناء وحجة المخصصة اثنتان الأولى قولهم أن المعممين عمموا لأن كل جملة غير مستقلة فصارت جملة واحدة بالواو والعاطفة ونحن إذا خصصنا بالأخير جعلناها مستقلة وهذا تقرير علة للخصم واعتراض عليهم ولعلهم لا يعللون بذلك ثم علة عدم الاستقلال أنه لو اقتصر عليه لم يغد وهذا لا يندفع بتخصيص الاستثناء به
الثانية قولهم إطلاق الكلام الأول معلوم ودخوله تحت الاستثناء مشكوك فيه فلا ينبغي أن يخرج منه ما دخل فيه إلا بيقين وهذا فاسد من أوجه الأول أنا لا نسلم إطلاق الأول قبل تمام الكلام وما تم الكلام حتى أردف باستثناء يرجع إليه عند المعمم ويحتمل الرجوع إليه عند المتوقف
الثاني أنه لا يتعين رجوعه إلى الأخير بل يجوز رجوعه إلى الأول فقط فكيف نسلم اليقين
الثالث أنه لا يسلم ما ذكروه في الشرط والصفة ويسلم أكثرهم عموم ذلك ويلزمهم قصر لفظ الجمع على الاثنين أو الثلاثة لأنه المستيقن
حجة الواقفية أنه إذا بطل التعميم والتخصيص لأن كل واحد تحكم ورأينا العرب تستعمل كل واحد منهما لا يمكن الحكم بأن أحدهما حقيقة والآخر مجاز فيجب التوقف لا محالة إلا أن يثبت نقل متواتر من أهل اللغة أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخرة وهذا هو الأحق وإن لم يكن بد من رفع التوقف فمذهب المعممين أولى لأن الواو ظاهرة في العطف
____________________

(1/260)


وذلك يوجب نوعا من الاتحاديين بين المعطوف والمعطوف عليه لكن الواو محتمل أيضا للابتداء كقوله تعالى { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } الحج 5 وقوله عز وجل { فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل } الشورى 24 والذي يدل على أن التوقف أولى أنه ورد في القرآن الأقسام كلها من الشمول والاقتصار على الأخير والرجوع إلى بعض الجمل السابقة كقوله تعالى { في } النور 4 فقوله تعالى { إلا الذين تابوا } النور 5 لا يرجع إلى الجلد ويرجع إلى الفسق وهل يرجع إلى الشهادة فيه خلاف وقوله تعالى { فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } النساء 92 يرجع إلى الأخير وهو الدية لأن التصدق لا يؤثر في الإعتاق وقوله تعالى { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } المائدة 89 فقوله { فمن لم يجد } يرجع إلى الخصال الثلاثة وقوله تعالى { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه } إلى قوله { إلا قليلا } النساء 83 فهذا يبعد حمله على الذي يليه لأنه يؤذي إلى أن لا يتبع الشيطان بعض من لم يشمله فضل الله ورحمته فقيل أنه محمول على قوله لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا منهم لتقصير وإهمال وغلط وقيل إنه يرجع إلى قوله { أذاعوا به } ولا يبعد أن يرجع إلى الأخير ومعناه ولولا فصل الله عليكم ورحمته ببعثة محمد عليه السلام لأتبعتم الشيطان إلا قليلا قد كان تفضل عليهم بالعصمة من الكفر قبل البعثة كأويس القرني وزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وغيرهم ممن تفضل الله عليهم بتوحيده واتباع رسوله قبله
القول في دخول الشرط على الكلام اعلم أن الشرط عبارة عما لا يوجد المشروط مع عدمه لكن لا يلزم أن يوجد عند وجوده وبه يفارق العلة إذ العلة يلزم وجودها وجود المعلول والشرط يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجوده والشرط عقلي وشرعي ولغوي والعقلي كالحياة للعلم والعلم للإرادة والمحل للحياة إذ الحياة تنتفي بانتفاء المحل فإنه لا بد لها من محل ولا يلزم وجودها بوجود المحل
والشرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم
واللغوي كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق وإن جئتني أكرمتك فإن مقتضاه في اللسان باتفاق أهل اللغة اختصاص الإكرام بالمجيء فإنه إن كان يكرمه دون المجيء لم يكن كلامه اشتراطا فنزل الشرط منزلة تخصيص العموم ومنزلة الاستثناء إذ لا فرق بين قوله { فاقتلوا المشركين } التوبة 5 إلا أن يكونوا أهل عهد وبين أن يقول اقتلوا المشركين إن كانوا حربيين وكل واحد من الشرط والاستثناء يدخل على الكلام فيغيره عما كان يقتضيه لولا الشرط والاستثناء حتى يجعله متكلما بالباقي لا إنه مخرج من كلامه ما دخل فيه فإنه لو دخل فيه لما خرج نعم كان يقبل القطع في الدوام بطريق النسخ فأما رفع ما سبق دخوله في الكلام فمحال فإذا قال أنت طالق إن دخلت الدار فمعناه أنك عند الدخول طالق فكأنه لم يتكلم بالطلاق إلا بالإضافة إلى حال الدخول أما أن نقول تكلم بالطلاق عاما مطلقا دخل أو لم يدخل ثم أخرج ما قبل الدخول فليس هذا بصحيح
فإن قيل قوله { فاقتلوا المشركين } إلا أهل الذمة أو إن لم يكونوا
____________________

(1/261)


ذميين فلفظ المشركين متناول للجميع ولأهل الذمة لكن خرج أهل الذمة بإخراجه بالشرط والاستثناء قلنا هو كذلك لو اقتصر عليه ولذلك يمتنع الإخراج بالشرط والاستثناء منفصلا ولو قدر على الإخراج لم يفرق بين المنفصل والمتصل ولكن إذا لم يقتصر وألحق به ما هو جزء منه وإتمام له غير موضوع الكلام فجعله كالناطق بالباقي ودفع دخول البعض ومعنى الدفع أنه كان يدخل لولا الشرط والاستثناء فإذا لحقا قبل الوقوف دفعا فقوله تعالى { فويل للمصلين } الماعون 4 لا حكم له قبل إتمام الكلام فإذا تم الكلام كان الويل مقصورا على من وجد فيه شرط السهو والرياء لا أنه دخل فيه كل مصل ثم خرج البعض فهكذا ينبغي أن يفهم حقيقة الاستثناء والشرط فاعلموه ترشدوا
القول في المطلق والمقيد اعلم أن التقييد اشتراط والمطلق محمول على المقيد إن اتحد الموجب والموجب كما لو قال لا نكاح إلا بولي وشهود وقال لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فيحمل المطلق على المقيد فلو قال في كفارة القتل { فتحرير رقبة } ثم قال فيها مرة أخرى { فتحرير رقبة } النساء 92 فيكون هذا اشتراطا ينزل عليه الاطلاق وهذا صحيح ولكن على مذهب من لا يرى بين الخاص والعام تقابل الناسخ والمنسوخ كما نقلناه عن القاضي والقاضي مع مصيره إلى التعارض نقل الإتفاق عن العلماء على تنزيل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم أما إذا اختلف الحكم كالظهار والقتل فقال قوم يحمل المطلق على المقيد من غير حاجة إلى دليل كما لو اتحدت الواقعة وهذا تحكم محض يخالف وضع اللغة إذ لا يتعرض القتل للظهار فكيف يرفع الإطلاق الذي فيه والأسباب المختلفة تختلف في الأكثر شروط واجباتها كيف ويلزم من هذا تناقض فإن الصوم مقيد بالتتابع في الظهار والتفريق في الحج حيث قال تعالى { ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } البقرة 196 ومطلق في اليمين فليت شعري على أي المقيدين يحمل فقال قوم لا يحمل على المقيد أصلا وإن قام دليل القياس لأنه نسخ ولا سبيل إلى نسخ الكتاب بالقياس وإلى هذا ذهب أبو حنيفة إذا جعل الزيادة على النص نسخا وقد بينا فساد هذا في كتاب النسخ وأن قوله تعالى { فتحرير رقبة } المجادلة 3 ليس هو نصا في أجزاء الكافرة بل هو عام يعتقد ظهوره مع تجويز قيام الدليل على خصوصه أما أن يعتقد عمومه قطعا فهذا خطأ في اللغة
وقال الشافعي رحمه الله إن قام دليل حمل عليه ولم يكن فيه إلا تخصيص العموم وهذا هو الطريق الصحيح فإن قيل إنما يطلب بالقياس حكم مما ليس منطوقا به في كفارة الظهار ومقتضاها أجزاء الكافرة قلنا بينا أن كون الكافرة منطوقا بها مشكوك فيه إذ ليس تناول عموم الرقبة له كالتنصيص على الكافرة وقد كشفنا الغطاء في مسألة تخصيص عموم القرآن بالقياس
هذا تمام القول في العموم والخصوص ولواحقه من الاستثناء والشرط والتقييد وبه تم الكلام في الفن الأول وهو دلالة اللفظ على معناه من حيث الصيغة والوضع

____________________

(1/262)


الفن الثاني فيما يقتبس من الألفاظ لا من حيث صيغتها بل من حيث فحواها وإشارتها وهي خمسة أضرب الضرب الأول ما يسمى اقتضاء وهو الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا به ولكن يكون من ضرورة اللفظ إما من حيث لا يمكن كون المتكلم صادقا إلا به أو من حيث يمتنع وجود الملفوظ شرعا إلا به أو من حيث يمتنع نبوته عقلا إلا به
أما المقتضى الذي هو ضرورة صدق المتكلم فكقوله عليه السلام لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فإنه نفى الصوم والصوم لا ينتفي بصورته فمعناه لا صيام صحيح أو كامل فيكون حكم الصوم هو المنفي لا نفسه والحكم غير منطوق به لكن لا بد منه لتحقيق صدق الكلام فعن هذا قلنا لا عموم له لأنه ثبت اقتضاء لا لفظا وهذا يصح على مذهب من ينكر الأسماء الشرعية ويقول لفظ الصوم باق على مقتضى اللغة فيفتقر فيه إلى إضمار الحكم أما من جعله عبارة عن الصوم الشرعي فيكون انتفاؤه بطريق النطق لا بطريق الاقتضاء بل مثاله لا عمل إلا بنية ورفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما سبقت أمثلته في باب المجمل
وأما مثال ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به شرعا فقول القائل أعتق عبدك عني فإنه يتضمن الملك ويقتضيه ولم ينطق به لكن العتق المنطوق به شرط نفوذه شرعا تقدم الملك فكان ذلك مقتضى اللفظ وكذلك لو أشار إلى عبد الغير وقال والله لأعتقن هذا العبد يلزمه تحصيل الملك فيه إن أراد البرد وإن لم يتعرض له لضرورة الملتزم وأما مثال ما ثبت اقتضاء لتصور المنطوق به عقلا فقوله تعالى { حرمت عليكم أمهاتكم } النساء 23 فإنه يقتضي إضمار الوطء أي حرم عليكم وطء أمهاتكم لأن الأمهات عبارة عن الأعيان والأحكام لا تتعلق بالأعيان بل لا يعقل تعلقها إلا بأفعال المكلفين فاقتضى اللفظ فعلا وصار ذلك هو الوطء من بين سائر الأفعال بعرف الاستعمال وكذلك قوله { حرمت عليكم الميتة والدم } المائدة 3 { أحلت لكم بهيمة الأنعام } المائدة 1 أي الأكل ويقرب منه { واسأل القرية } يوسف 82 أي أهل القرية لأنه لا بد من الأهل حتى يعقل السؤال فلا بد من إضماره ويجوز أن يلقب هذا بالإضمار دون الاقتضاء
والقول في هذا قريب
الضرب الثاني ما يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ ونعني به ما يتسع اللفظ من غير تجريد قصد إليه فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس اللفظ فيسمى إشارة فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به ويبني عليه ومثال ذلك تمسك العلماء في تقدير أقل الطهر وأكثر الحيض بخمسة عشر يوما بقوله عليه السلام إنهن ناقصات عقل ودين فقيل ما نقصان دينهن فقال تقعد إحداهن في قعر بيتها شطر دهرها لا تصلي ولا تصوم فهذا إنما سيق لبيان نقصان الدين وما وقع المنطق قصدا إلا به لكن حصل به إشارة إلى أكثر الحيض وأقل الطهر وأنه لا يكون فوق شطر الدهر وهو خمسة عشر يوما من الشهر إذ لو تصور الزيادة لتعرض لها عند قصد المبالغة في نقصان دينها
ومثاله استدلال الشافعي رحمه الله في تنجس الماء القليل بنجاسة لا تغيره بقوله عليه السلام إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في لإناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده إذ قال لولا أن يقين النجاسة ينجس لكان توهمها لا يوجب الاستحباب
ومثاله تقدير أقل مدة الحمل بستة أشهر أخذا من قوله { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا }
____________________

(1/263)


الأحقاف 15 وقد قال في موضع آخر { وفصاله في عامين } لقمان 14 ومثاله المصير إلى من وطىء بالليل في رمضان فأصبح جنبا لم يفسد صومه لأنه قال { وكلوا واشربوا حتى يتبين } البقرة 187 { وقال } فالآن باشروهن البقرة 187 ثم مد الرخصة إلى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر فتشعر الآية بجواز الأكل والشرب والجماع في جميع الليل ومن فعل ذلك في آخر الليل استأخر غسله إلى النهار وإلا وجب إن يحرم الوطء في آخر جزء من الليل بمقدار ما يتسع للغسل فهذا وأمثاله مما يكثر ويسمى إشارة اللفظ
الضرب الثالث فهم التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب كقوله تعالى { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } المائدة 38 و { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما } النور 2 فإنه كما فهم وجوب القطع والجلد على السارق والزاني وهو المنطوق به فهم كون السرقة والزنا علة للحكم وكونه علة غير منطوق به لكن يسبق إلى الفهم من فحوى الكلام وقوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } الانفطار 13 14 أي لبرهم وفجورهم وكذلك كل ما خرج مخرج الذم والمدح والترغيب والترهيب وكذلك إذا قال ذم الفاجر وامدح المطيع وعظم العالم فجميع ذلك يفهم منه التعليل من غير نطق به وهذا قد يسمى إيماء وإشارة كما يسمى فحوى الكلام ولحنه وإليك الخيرة في تسميته بعد الوقوف على جنسه وحقيقته
الضرب الرابع فهم غير المنطوق به من المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصوده كفهم تحريم الشتم والقتل والضرب من قوله تعالى { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } الإسراء 23 وفهم تحريم مال اليتيم وإحراقه وإهلاكه من قوله تعالى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } النساء 10 وفهم ما وراء الذرة والدينار من قوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الزلزلة 7 وقوله { ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك } آل عمران 75 وكذلك قول القائل ما أكلت له برة ولا شربت له شربة ولا أخذت من ماله حبة فإنه يدل على ما وراءه فإن قيل هذا من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى قلنا لا حجر في هذه التسمية لكن يشترط أن يفهم أن مجرد ذكر الأدنى لا يحصل هذا التنبيه ما لم يفهم الكلام وما سيق له فلولا معرفتنا بأن الآية سيقت لتعظيم الوالدين واحترامهما لما فهمنا منع الضرب والقتل من منع التأفيف إذ قد يقول السلطان إذا أمر بقتل ملك لا تقل له أف لكن اقتله وقد يقول والله ما أكلت مال فلان ويكون قد أحرق ماله فلا يحنث فإن قيل الضرب حرام قياسا على التأفيف لأن التأفيف إنما حرم للإيذاء وهذا الإيذاء فوقه قلنا إن أردت بكونه قياسا أنه محتاج إلى تأمل واستنباط علة فهو خطأ وإن أردت أنه مسكوت فهم من منطوق فهو صحيح بشرط أن يفهم أنه أسبق إلى الفهم من المنطوق أو هو معه وليس
____________________

(1/264)


متأخرا عنه وهذا قد يسمى مفهوم الموافقة وقد يسمى فحوى اللفظ ولكل فريق اصطلاح آخر فلا تلتفت إلى الألفاظ واجتهد في إدراك حقيقة هذا الجنس
الضرب الخامس هو المفهوم ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه ويسمى مفهوما لأنه مفهوم مجرد لا يستند إلى منطوق وإلا فما دل عليه المنطوق أيضا مفهوم وربما سمي هذا دليل الخطاب ولا التفات إلى الأسامي وحقيقته أن تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء هل يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة كقوله تعالى { ومن قتله منكم متعمدا } المائدة 95 وكقوله عليه السلام في سائمة الغنم الزكاة والثيب أحق بنفسها من وليها ومن باع نخلة مؤبرة فثمرتها للبائع فتخصيص العمد والسوم والثيوبة والتأبير بهذه الأحكام هل يدل على نفي الحكم عما عداها فقال الشافعي وما لك والأكثرون من أصحابهما أنه يدل وإليه ذهب الأشعري إذا احتج في إثبات خبر الواحد بقوله تعالى { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } الحجرات 6 قال هذا يدل على أن العدل بخلافه واحتج في مسألة الرؤية بقوله تعالى { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } المطففين 15 قال وهذا يدل على أن المؤمنين بخلافهم وقال جماعة من المتكلمين ومنهم القاضي وجماعة من حذاق الفقهاء ومنهم ابن شريح إن ذلك لا دلالة له وهو الأوجه عندنا
ويدل عليه مسالك الأول أن إثبات زكاة السائمة مفهوم أما نفيها عن المعلوفة اقتباسا من مجرد الإثبات لا يعلم إلا بنقل من أهل اللغة متواترا وجار مجرى المتواتر والجاري مجرى المتواتر كعلمنا بأن قولهم ضروب وقتول وأمثاله للتكثير وأن قولهم عليم وأعلم وقدير وأقدر للمبالغة أعني الأفعل أما نقل الآحاد فلا يكفي إذ الحكم على لغة ينزل عليها كلام الله تعالى بقول الآحاد مع جواز الغلط لا سبيل إليه فإن قيل فمن نفي المفهوم افتقر إلى نقل متواترا أيضا قلنا لا حاجة إلى حجة فيما لم يضعوه فإن ذلك لا يناهي إنما الحجة على من يدعي الوضع
الثاني حسن الاستفهام
فإن من قال إن ضربك زيد عامدا فاضربه حسن أن يقول فإن ضربني خاطئا أفأضربه وإذا قال أخرج الزكاة من ما شيتك السائمة حسن أن يقول هل أخرجها من المعلوفة وحسن الاستفهام يدل على أن ذلك غير مفهوم فإنه لا يحسن في المنطوق وحسن في المسكوت عنه فإن قيل حسن لأنه قد لا يراد به النفي مجازا قلنا الأصل أنه إذا احتمل ذلك كان حقيقة وإنما يرد إلى المجاز بضرورة دليل ولا دليل
المسلك الثالث أنا نجدهم يعلقون الحكم على الصفة تارة مع مساواة المسكوت عنه للمنطوق وتارة مع المخالفة فالثبوت للموصوف معلوم منطوق والنفي عن المسكوت محتمل فليكن على الوقف إلى البيان بقرينة زائدة ودليل آخر أما دعوى كونه مجازا عند الموافقة حقيقة عند المخالفة فتحكم بغير دليل يعارضه عكسه من غير ترجيح
المسلك الرابع أن الخبر عن ذي الصفة لا ينفي غير الموصوف فإذا قال قام
____________________

(1/265)


الأسود أو خرج أو قعد لم يدل على نفيه عن الأبيض بل هو سكوت عن الأبيض وإن منع ذلك مانع وقد قيل به لزمه تخصيص اللقب والاسم العلم حتى يكون قولك رأيت زيدا نفيا للرؤية عن غيره وإذا قال ركب زيد دل على نفي الركوب عن غيره وقد تبع هذا بعضهم وهو بهت واختراع على اللغات كلها فإن قولنا رأيت زيدا لا يوجب نفي رؤيته عن ثوب زيد ودابته وخادمه ولا عن غيره إذ يلزم أن يكون قوله زيد عالم كفرا لأنه نفي للعلم عن الله وملائكته ورسله وقوله عيسى نبي الله كفرا لأنه نفي النبوة عن محمد عليه السلام وعن غيره من الأنبياء
فإن قيل هذا قياس الوصف على اللقب ولا قياس في اللغة قلنا ما قصدنا به إلا ضرب مثال ليتنببه به حتى يعلم أن الصفة لتعريف الموصوف فقط كما أن أسماء الأعلام لتعريف الأشخاص ولا فرق بين قوله في الغنم زكاة في نفي الزكاة عن البقر والإبل وبين قوله في سائمة الغنم زكاة في نفي الزكاة عن المعلوفة
المسلك الخامس أنا كما أنا لا نشك في أن للعرب طريقا إلى الخبر عن مخبر واحد واثنين وثلاثة اقتصارا عليه مع السكوت عن الباقي فلها طريق أيضا في الخبر عن الموصوف بصفة فتقول رأيت الظريف وقام الطويل ونكحت الثيب واشتريت السائمة وبعت النخلة المؤبرة فلو قال بعد ذلك نكحت البكر أيضا واشتريت المعلوفة أيضا لم يكن هذا مناقضا للأول ورفعا له وتكذيبا لنفسه كما لو قال ما نكحت الثيب وما اشتريت السائمة ولو فهم النفي كما فهم الإثبات لكان الإثبات بعده تكذيبا ومضادا لما سبق
وقد احتج القائلون بالمفهوم بمسالك الأول أن الشافعي رحمه الله من جملة العرب ومن علماء اللغة وقد قال بدليل الخطاب وكذلك أبو عبيدة من أئمة اللغة وقد قال في قوله عليه السلام لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته فقال دليله أن من ليس بواجد لا يحل ذلك منه وفي قوله لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا حتى يريه خيرمن أن يمتلىء شعرا فقيل أنه أراد الهجاء والسب أو هجو الرسول عليه السلام فقال ذلك حرام قليله وكثيره امتلأ به الجوف أو قصر فتخصيصه بالامتلاء يدل على أن ما دونه بخلافه وأن من لم يتجرد للشعر ليس مرادا بهذا الوعيد والجواب أنهما ما إن قالاه عن اجتهاد فلا يجب تقليدهما وقد صرحا بالاجتهاد إذ قالا لو لم يدل على النفي لما كان للتخصيص بالذكر فائدة وهذا الاستدلال معرض للاعتراض كما سيأتي فليس على المجتهد قبول قول من لم يثبت عصمته عن الخطأ فيما يظنه بأهل اللغة أو بالرسول وإن كان ما قالاه عن نقل فلا يثبت هذا بقول الآحاد ويعارضه أقوال جماعة أنكروه وقد قال قوم لا تثبت اللغة بنقل أرباب المذاهب والآراء فإنهم يميلون إلى نصرة مذاهبهم فلا تحصل الثقة بقولهم
المسلك الثاني أن الله تعالى قال { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } التوبة 80 فقال عليه السلام لأزيدن على السبعين فهذا يدل على أن حكم ما عدا
____________________

(1/266)


السبعين بخلافه والجواب من أوجه الأول أن هذا خبر واحد لا تقوم به الحجة في إثبات اللغة والأظهر أنه غير صحيح لأنه عليه السلام أعرف الخلق بمعاني الكلام وذكر السبعين جرى مبالغة في اليأس وقطع الطمع عن الغفران كقول القائل أشفع أو لا تشفع وإن شفعت لهم سبعين مرة لم أقبل منك شفاعتك
الثاني أنه قال لأزيدن على السبعين ولم يقل ليغفر لهم فما كان ذلك لانتظار الغفران بل لعله كان لاستمالة قلوب الأحياء منهم لما رأى من المصلحة فيهم ولترغيبهم في الدين لا لانتظار غفران الله تعالى للموتى مع المبالغة في اليأس وقطع الطمع
الجواب الثالث أن تخصيص نفي المغفرة بالسبعين أدل على جواز المغفرة بعد السبعين أو على وقوعه فإن قلتم على وقوعه فهو خلاف الإجماع وإن قلتم على جوازه فقد كان الجواز ثابتا بالعقل قبل الآية فانتفى الجواز المقدر بالسبعين والزيادة ثبت جوازها بدليل العقل لا بالمفهوم
المسلك الثالث أن الصحابة قالوا الماء من الماء منسوخ بقول عائشة رضي الله عنهاإذا التقى الختانان فقد وجب الغسل فلو لم يتضمن نفي الماء عن غير الماء لما كان وجوبه بسبب آخر نسخا له فإنه لم ينسخ وجوبه بالماء بل انحصاره عليه واختصاصه به والجواب من أوجه الأول أن هذا نقل آحاد ولا تثبت به اللغة
الثاني أنه إنما يصح عن قوم مخصوصين لا عن كافة الصحابة فيكون ذلك مذهبا لهم بطريق الاجتهاد ولا يجب تقليدهم
الثالث أنه يحتمل أنهم فهموا منه أن كل الماء من الماء ففهموا من لفظ الماء المذكور أولا العموم والاستغراق لجنس استعمال الماء وفهموا أخيرا كون خبر التقاء الختانين نسخا لعموم الأول لا لمفهومه ودليل خطابه وكل عام أريد به الاستغراق فالخاص بعده يكون نسخا لبعضه ويتقابلان إن اتحدث الواقعة
الرابع أنه نقل عنه عليه السلام أنه قال لا ماء إلا من الماء وهذا تصريح بطرفي النفي والإثبات كقوله عليه السلام لا نكاح إلا بولي ولا صلاة إلا بطهور وروي أنه أتى باب رجل من الأنصار فصاح به فلم يخرج ساعة ثم خرج ورأسه يقطر ماء فقال عليه السلام عجلت عجلت ولم تنزل فلا تغتسل فالماء من الماء وهذا تصريح بالنفي فرأوا خبر التقاء الختانين ناسخا لما فهم من هذه الأدلة
الخامس أنه قال في رواية إنما الماء من الماء وقد قال بعض منكري المفوم أن هذا للحصر والنفي والإثبات ولا مفهوم للقب والماء اسم لقب فدل أنه مأخوذ من الحصر الذي دل عليه الألف واللام وقوله إنما ولم يقل أحد من الصحابة أن المنسوخ مفهوم هذا اللفظ فلعل المنسوخ عمومه أو حصره المعلوم لا بمجرد التخصيص والكلام في مجرد التخصيص
المسلك الرابع قولهم أن يعلى بن أمية قال لعمر رضي الله عنه ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال تعجبت مما تعجبت منه فسألت النبي عليه الصلاة والسلام فقال هي صدقة تصدق الله بها عليكم أو على عباده فاقبلوا صدقته وتعجبهما من بطلان مفهوم تخصيص قوله تعالى { إن خفتم } النساء 101 قلنا لأن الأصل الإتمام واستثنى حالة الخوف فكان الإتمام واجبا عند عدم الخوف بحكم الأصل لا بالتخصيص
المسلك الخامس أن ابن عباس رضي الله عنهما فهم من قوله إنما الربا في النسيئة نفي ربا الفضل وكذلك عقل من قوله تعالى { فإن كان له إخوة فلأمه السدس }
____________________

(1/267)


النساء 11 إنه إن كان له إخوان فلأمه الثلث وكذلك قال الأخوات لا يرثن مع الأولاد لقوله تعالى { وعيسى } النساء 176 فإنه لما جعل لها النصف بشرط عدم الولد دل على انتفائه عند وجود الولد والجواب عن هذا من أوجه الأول أن هذا غايته أن يكون مذهب ابن عباس ولا حجة فيه
الثاني أن جميع الصحابة خالفوه في ذلك فإن دل مذهبه عليه دل مذهبهم على نقيضه
الثالث أنه لم يثبت أنه دفع ربا الفضل بمجرد هذا اللفظ بل ربما دفعه بدليل آخر وقرينة أخرى
الرابع أنه لعله اعتقد أن البيع أصله على الإباحة بدليل العقل أو عموم قوله تعالى 2 { وأحل الله البيع وحرم الربا } البقرة 275 فإذا كان النهي قاصرا على النسيئة كان الباقي حلالا بالعموم ودليل العقل لا بالمفهوم
الخامس أنه روي أنه قال لا ربا إلا في النسيئة وهذا نص في النفي والإثبات وقوله إنما الربا في النسيئة أيضا قد أقربه بعض منكري المفهوم لما فيه من الحصر
المسلك السادس أنه إذا قال اشتر لي عبدا أسود يفهم نفي الأبيض وإذا قال أضربه إذا قام يفهم المنع إذا لم يقم قلنا هذا باطل بل الأصل منع الشراء والشرب إلا فيما أذن والأذن قاصر فبقي الباقي على النفي وتولد منه درك الفرق بين الأبيض والأسود وعماد الفرق إثبات ونفي ومستندا لنفي الأصل ومستند الإثبات الأذن القاصر والذهن إنما ينتبه للفرق عند الإذن القاصر على الأسود فإنه يذكر الأبيض فيسبق إلى الأوهام العامية أن إدراك الذهن هذا الاختصاص والفرق من الذكر القاصر لا بل هو عند الذكر القاصر لكن أحد طرفي الفرق حصل من الذكر والآخر كان حاصلا في الأصل فيذكره عند التخصيص فكان حصول الفرق عنده لا به فهذا مزلة القدم وهو دقيق ولأجله غلط الأكثرون ويدل عليه أيضا أنه لو عرض على البيع شاة وبقرة وغانما وسالما وقال اشتر غانما والشاة لسبق إلى الفهم الفرق بين غانم وسالم وبين البقرة والشاة واللقب لا مفهوم له بالإتفاق عند كل محصل إذ قوله لا تبيعوا البر بالبر لم يدل على نفي الربا من غير الأشياء الستة بالإتفاق ولو دل لا نحسم باب القياس وإن القياس فائدته إبطال التخصيص وتعدية الحكم من المنصوص إلى غيره لكن مزلة القدم ما ذكرناه وهو جار في كل ما يتضمن الاقتطاع من أصل ثابت كقوله أنت طالق إن دخلت الدار فإن لم تدخل لم تطلق لأن الأصل عدم الطلاق لا لتخصيص الدخول بدليل أنه لو قال إن دخلت فلست بطالق فلا يقع إذا لم تدخل لأنه ليس الأصل وقوع الطلاق حتى يكون تخصيص النفي بالدخول موجبا للرجوع إلى الأصل عند عدم الدخول وهذا واضح
المسلك الرابع وعليه تعويل الأكثرين وهو السبب الأعظم في وقوع هذا الوهم أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد أن تكون له فائدة فإن استوت السائمة والمعلوفة والثيب والبكر والعمد والخطأ فلم خصص البعض بالذكر والحكم شامل والحاجة إلى البيان تعم
____________________

(1/268)


القسمين فلا داعي له إلى اختصاص الحكم وإلا صار الكلام لغوا والجواب من أربعة أوجه الأول أن هذا عكس الواجب فإنكم جعلتم طلب الفائدة طريقا إلى معرفة وضع اللفظ وينبغي أن يفهم أولا الوضع ثم ترتب الفائدة عليه والعلم بالفائدة ثمرة معرفة الوضع أما أن يكون الوضع تبع معرفة الفائدة فلا
الثاني وأن عماد هذا الكلام أصلان أحدهما أنه لا بد من فائدة التخصيص
والثاني أنه لا فائدة إلا اختصاص الحكم والنتيجة أنه الفائدة إذا ومسلم أنه لا بد من فائدة لكن الأصل الثاني وهو أنه لا فائدة إلا هذا فغير مسلم فلعل فيه فائدة فليست الفائدة محصورة في هذا بل البواعث على التخصيص كثرة واختصاص الحكم أحد البواعث فإن قيل فلو كان له فائدة أو عليه باعث سوى اختصاص الحكم لعرفناه قلنا ولم قلتم أن كل فائدة ينبغي أن تكون معلومة لكم فلعلها حاضرة ولم تعثروا عليها فكأنكم جعلتم عدم علم الفائدة علما بعدم الفائدة وهذا خطأ فعماد هذا الدليل هو الجهل بفائدة أخرى
الثالث وهو قاصمة الظهر على هذا المسلك أن تخصيص اللقب لا يقول به محصل فلم لم تطلبوا الفائدة فيه فإذا خصص الأشياء الستة في الربا وعمم الحكم في المكيلات والمطعومات كلها وخصص الغنم بالزكاة مع وجوبها في الإبل والبقر فما سببه مع استواء الحكم فيقال لعل إليه داعيا من سؤال أو حاجة أو سبب لا نعرفه فليكن كذلك في تخصيص الوصف
الرابع أن في تخصيص الحكم بالصفة الخاصة فوائد الأولى أنه لو استوعب جميع محل الحكم لم يبق للاجتهاد مجال فأراد بتخصيص بعض الألقاب والأوصاف بالذكر أن يعرض المجتهدين لثواب جزيل في الاجتهاد إذ بذلك تتوفر دواعيهم على العلم ويدوم العلم محفوظا بإقبالهم ونشاطهم في الفكر والاستنباط ولولا هذا لذكر لكل حكم رابطة عامة جامعة لجميع مجاري الحكم حتى لا يبقى للقياس مجال
الثانية أنه لو قال في الغنم زكاة ولم يخصص السائمة لجاز للمجتهد إخراج السائمة عن العموم بالاجتهاد الذي ينقدح له فخص السائمة بالذكر لتقاس المعلوفة عليها إن رأى أنها في معناها أو لا تلحق بها فتبقى السائمة بمعزل عن محل الاجتهاد وكذلك لو قال لا تبيعوا الطعام بالطعام ربما أدى اجتهاد مجتهد إلى إخراج البر والتمر فنص على ما لا وجه لإخراجه وترك ما هو موكول إلى الاجتهاد لا سيما ولو ذكر الطعام أو الغنم وهو لفظ عام لصار عند الواقفية محتملا للعموم وللبر خاصة أو التمر خاصة وللمعلوفة خاصة وللسائمة خاصة فأخرج المخصوص عن محل الوقف والشك ورد الباقي إلى الاجتهاد لما رأى فيه من اللطف والصلاح
الثالثة أن يكون الباعث على التخصيص للأشياء الستة عموم وقوع أو خصوص سؤال أو وقوع واقعة أو اتفاق معاملة فيها خاصة أو غير ذلك من أسباب لا نطلع عليها فعدم علمنا بذلك لا ينزل بمنزلة علمنا بعدم ذلك بل نقول لعل إليه داعيا لم نعرفه فكذلك في الأوصاف
المسلك الثامن قولهم إن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة وذلك يوجب الثبوت بثبوت العلة والانتفاء بانتفائها والجواب أن الخلاف في العلة والصفة واحد فتعليق الحكم بالعلة يوجب ثبوته بثبوتها أما انتفاؤه بانتفائها فلا بل يبقى بعد انتفاء العلة على ما
____________________

(1/269)


يقتضيه الأصل وكيف ونحن نجوز تعليل الحكم بعلتين فلو كان إيجاب القتل بالردة نافيا للقتل عند انتفائها لكان إيجاب القصاص نسخا لذلك النفي بل فائدة ذكر العلة معرفة الرابطة فقط وليس من فائدته أيضا تعدية العلة من محلها إلى غير محلها فإن ذلك عرف بورود التعبد بالقياس ولولاه لكان قوله حرمت عليكم الخمر لشدتها لا يوجب تحريم النبيذ المشتد بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة إلى أن يرد دليل وتعبد باتباع العلة وترك الالتفات إلى المحل
المسلك التاسع استدلالهم بتخصيصات في الكتاب والسنة خالف الموصوف فيها غير الموصوف بتلك الصفات وسبيل الجواب عن جميعها إما لبقائها على الأصل أو معرفتها بدليل آخر أو بقرينة ولو دل ما ذكروه لدلت تخصيصات في الكتاب والسنة لا أثر لها على نقيضه كقوله تعالى { ومن قتله منكم متعمدا } المائدة 95 في جزاء الصيد إذ يجب على الخاطىء وقوله تعالى 4 { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } النساء 92 إذ تجب على العامد عند الشافعي رحمه الله وقوله { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } النساء 101 الآية وقوله في الخلع { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } النساء 35 وقوله عليه السلام أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها إلى أمثال له لا تحصى
القول في درجات دليل الخطاب اعلم أن توهم النفي من الإثبات على مراتب ودرجات وهي ثمانية الأولى وهي أبعدها وقد أقر ببطلانها كل محصل من القائلين بالمفهوم وهو مفهوم اللقب كتخصيص الأشياء الستة في الربا
الثانية الاسم المشتق الدال على جنس كقوله لا تبيعوا الطعام بالطعام وهذا أيضا يظهر إلحاقه باللقب لأن الطعام لقب لجنسه وإن كان مشتقا مما يطعم إذ لا تدرك تفرقة بين قوله في الغنم زكاة وفي الماشية زكاة وإن كانت الماشية مشتقة مثلا
الثالث تخصيص الأوصاف التي تطرأ وتزول كقوله الثيب أحق بنفسها والسائمة تجب فيها الزكاة فلأجل أن السوم يطرأ ويزول ربما يتقاضى الذهن طلب سبب التخصيص وإذا لم يجد حمله على انتفاء الحكم وهو أيضا ضعيف ومنشؤه الجهل بمعرفة الباعث على التخصيص
الرابعة أن يذكر الاسم العام ثم تذكر الصفة الخاصة في معرض الاستدراك والبيان كما لو قال في الغنم السائمة زكاة وكقوله من باع نخلة مؤبرة فثمرها للبائع واقتلوا المشركين الحربيين فإنه ذكر الغنم والنخلة والمشركين وهي عامة فلو كان الحكم يعمها لما أنشأ بعده استدراكا لكن الصحيح أن مجرد هذا التخصيص من غير قرينة لا مفهوم له فيرجع حاصل الكلام إلى طلب سبب الاستدراك ويجوز أن يكون له سبب سوى اختصاص الحكم لم نعرفه ووجه التفاوت بين هذه الصور أن تخصيص اللقب يمكن حمله على أنه لم يحضره ذكر المسكوت عنه ولذلك ذكر الأشياء الستة فهذا احتمال وهو الغفلة عن غير
____________________

(1/270)


المنطوق به والغفلة عن البكر عند التعرض للثيب أبعد لأن ذكر الصفة بذكر ضدها يضعف هذا الاحتمال فصار احتمال المفهوم أظهر وعند الاستدراك بعد التعميم انقطع هذا الاحتمال بالكلية فظهر احتمال المفهوم لانحسام أحد الاحتمالات الباعثة على التخصيص لكن وراء هذه احتمالات داعية إلى التخصيص وإن لم نعرفها فلا يحتج بما لا يعلم فينظر إلى لفظه ومن تعرض للغنم السائمة والنخلة المؤبرة فهو ساكت عن المعلوفة وغير المؤبرة كما لو قال في السائمة وفي المؤبرة وكما قال في سائمة الغنم زكاة
الخامسة الشرط وذلك أن يقول إن كان كذا فافعل كذا وإن جاءكم كريم قوم فأكرموه وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن وقد ذهب ابن شريح وجماعة من المنكرين للمفهوم إلى أن هذا يدل على النفي والذي ذهب إليه القاضي إنكاره وهو الصحيح عندنا على قياس ما سبق لأن الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط فقط فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط فقط فيقصر عن الدلالة على الحكم عند عدم الشرط أما أن يدل على عدمه عند العدم فلا وفرق بين أن لا يدل على الوجود فيبقى على ما كان قبل الذكر وبين أن يدل على النفي فيتغير عما كان والدليل عليه أنه يجوز تعليق الحكم بشرطين كما يجوز بعلتين فإذا قال احكم بالمال للمدعي إن كانت له بينة واحكم له بالمال إن شهد له شاهدان لا يدل على نفي الحكم بالإقرار واليمين والشاهد ولا يكون الأمر بالحكم بالإقرار والشاهد واليمين نسخا له ورفعا للنص أصلا ولهذا المعنى جوزناه بخبر الواحد وقوله تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } الطلاق 6 أنكر أبو حنيفة مفهومه لما ذكرناه ويجوز أن نوافق الشافعي في هذه المسألة وإن خالفناه في المفهوم من حيث أن انقطاع ملك النكاح يوجب سقوط النفقة إلا ما استثنى والحامل هي المستثنى فيبقى الحائل على أصل النفي وانتفت نفقتها إلا بالشرط لكن بانتفاء النكاح الذي كان علة النفقة
السادسة قوله عليه السلام إنما الماء من الماء وإنما الشفعة فيما لم يقسم وإنما الولاء لمن أعتق وإنما الربا بالنسيئة إنما الأعمال بالنيات وهذا قد أصر أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم على إنكاره وقالوا إنه إثبات فقط ولا يدل على الحصر وأقر القاضي بأنه ظاهر في الحصر محتمل للتأكيد إذ قوله تعالى { إنما الله إله واحد } النساء 171 و { إنما يخشى الله من عباده العلماء } فاطر 28 يشعر بالحصر ولكن قد يقول إنما النبي محمد وإنما العالم في البلد زيد يريد به الكمال والتأكيد وهذا هو المختار عندنا أيضا ولكن خصص القاضي هذا بقوله إنما ولم يطرده في قوله الأعمال بالنيات والشفعة فيما لم يقسم وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم والعالم في البلد زيد وعندنا أن هذا يلحق بقوله إنما وإن كان دونه في القوة لكنه ظاهر في الحصر أيضا فإنا ندرك التفرقة بين قول القائل زيد صديقي وبين قوله صديقي زيد وبين قوله زيد عالم وبين قوله العالم زيد وهذا التحقيق وهو أن الخبر لا يجوز أن يكون أخص من المبتدأ بل ينبغي أن يكون أعم منه أو مساويا له فلا يجوز أن تقول الحيوان إنسان ويجوز أن تقول الإنسان حيوان فإذا جعل زيدا مبتدأ وقال زيد صديقي جاز أن تكون الصداقة
____________________

(1/271)


أعم من زيد وزيد أخص من الصديق لأن المبتدأ يجوز أن يكون أخص من الخبر أما إذا جعل الصديق مبتدأ فقال صديقي زيد فلو كان له صديق آخر كان المبتدأ أعم من الخبر والخبر أخص وكان كقوله اللون سواد والحيوان إنسان وذلك ممتنع وإن كان عكسه جائزا فإن قيل يجوز أن يقول صديقي زيد وعمرو أيضا والولاء لمن أعتق ولمن كاتب ولمن باع بشرط العتق ولو كان للحصر لكان هذا نقضا له قلنا هو للحصر بشرط أن لا يقترن به قبل الفراغ من الكلام ما يغيره كما أن العشرة لمعناها بشرط أن لا يتصل بها الاستثناء وقوله { فاقتلوا المشركين } التوبة 5 ظاهر في الجميع بشرط أن لا يقول إلا زيدا
السابعة مد الحكم إلى غاية بصيغة إلى وحتى كقوله تعالى 2 { ولا تقربوهن حتى يطهرن } البقرة 222 { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } البقرة 230 وقوله تعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد } التوبة 9 وقد أصر على إنكار هذا أصحاب أبي حنيفة وبعض المنكرين للمفهوم وقالوا هذا نطق بما قبل الغاية وسكوت عما بعد الغاية فيبقى على ما كان قبل النطق وأقر القاضي بهذا لأن قوله تعالى { حتى تنكح زوجا غيره } و { حتى يطهرن } ليس كلاما مستقلا فإن لم يتعلق بقوله { ولا تقربوهن } وقوله { فلا تحل له } فيكون لغوا من الكلام وإنما صح لما فيه من إضمار وهو قوله حتى يطهرن فأقربوهن وحتى تنكح فتحل ولهذا يقبح الاستفهام إذا قال لا تعط زيدا حتى يقوم ولو قال أعطه إذا قام فلا يحسن إذ معناه أعطه إذا قام ولأن الغاية نهاية ونهاية الشيء مقطعة فإن لم يكن مقطع فلا يكون نهاية فإنه إذا قال اضربه حتى يتوب فلا يحسن معه أن يقول وهل أضربه وإن تاب وهذا وإن كان له ظهور ما ولكن لا ينفك عن نظر إذ يحتمل أن يقال كل ماله ابتداء فغايته مقطع لبدايته فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية فيكون الإثبات مقصورا أو ممدودا إلى الغاية المذكورة ويكون ما بعد الغاية كما قبل البداية فإذا هذه الرتبة أضعف في الدلالة على النفي مما قبلها
الرتبة الثامنة لا عالم في البلد إلا زيد وهذا قد أنكره غلاة منكري المفهوم وقالوا هذا نطق بالمستثنى عنه وسكوت عن المستثنى فما خرج بقوله إلا فمعناه أنه لم يدخل في الكلام فصار الكلام مقصورا على الباقي وهذا ظاهر البطلان لأن هذا صريح في النفي والإثبات فمن قال لا إله إلا الله لم يقتصر على النفي بل أثبت لله تعالى الألوهية ونفاها عن غيره ومن قال لا عالم إلا زيد ولا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار فقد نفى وأثبت قطعا وليس كذلك قوله لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي ولا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء هذا صيغة الشرط ومقتضاها نفي المنفى عند انتفاء الشرط فليس منطوقا به بل تفسد الصلاة مع الطهارة لسبب آخر وكذلك النكاح مع الولي والبيع مع المساواة وهذا على وفق قاعدة المفهوم فإن إثبات الحكم عند ثبوت وصف لا يدل على إبطاله عند انتفائه بل يبقى على ما كان قبل النطق وكذلك نفيه عند انتفاء شيء لا يدل على
____________________

(1/272)


إثباته عند ثبوت ذلك الشيء بل يبقى على ما كان قبل النطق ويكون المنطوق به النفي عند الانتفاء فقط بخلاف قوله لا إله إلا الله ولا عالم إلا زيد لأنه إثبات ورد على النفي والاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي وقوله لا صلاة ليس فيه تعرض للطهارة بل للصلاة فقط وقوله إلا بطهور ليس إثباتا للصلاة بل للطهور الذي لم يتعرض له في الكلام فلا يفهم منه إلا الشرط
مسألة ( مفهوم اللقب ) القائلون بالمفهوم أقروا بأنه لا مفهوم لقوله { وإن خفتم شقاق بينهما } النساء 35 ولا لقوله إيما امرأة نكحت بغير إذن وليها لأن الباعث على التخصيص العادة لأن الخلع لا يجري إلا عند الشقاق والمرأة لا تنكح نفسها إلا إذا أبى الولي
وكذلك القائلون بمفهوم اللقب قالوا لا مفهوم لقوله صبوا عليه ذنوبا من ماء وليستنج بثلاثة أحجار لأنه ذكرهما لكونهما غالبين وإذا كان يسقط المفهوم بمثل هذا الباعث فحيث لم يظهر لنا الباعث احتمل أن يكون ثم باعث لم يظهر لنا فكيف يبني الحكم على عدم ظهور الباعث لنا فإن قيل فلو انتفى الباعث المخصص في علم اللهتعالى واستوت الحاجة في المذكور والمسكوت واستويا في الذكر ولم يكن أحدهما منسيا فهل يجوز للنبي عليه السلام أن يخص أحدهما بالذكر فإن جوزتم فهو نسبة له إلى اللغو والعبث وكان كقوله يجب الصوم على الطويل والأبيض فقلنا وهل يجب على القصير والأسود فقال نعم قلنا فلم خصصت هذا بالذكر فقال بالتشهي والتحكم فلا شك أنه ينسب إلى خلاف الجد ويصلح ذلك لأن يلقب به ليضحك منه كما يقول القائل اليهودي إذا مات لا يبصر فيكون ذلك هزؤا فثبت بهذا أن هذا دليل إن لم يكن باعث فإذا لم يظهر فالأصل عدمه أما إسقاط دلالته لتوهم باعث على التخصيص سوى اختصاص الحكم به فهو رفع للدلالة بالتوهم قلنا ما ذكرتموه مسلم وهو أيضا جار في تخصيص اللقب واليهودي اسم لقب ويستقبح تخصيصه
ولا مفهوم للقب لأن ذلك يحسم سبيل القياس وإنما أسقط مفهوم اللقب لأنه ليس فيه دلالة من حيث اللفظ بل هو نطق بشيء وسكوت عن شيء فينبغي أن يقال فلم سكت عن البعض ونطق بالبعض فنقول لا ندري فإن ذلك يحتمل أن يكون بسبب اختصاص الحكم ويحتمل أن يكون بسبب آخر فلا يثبت الاختصاص بمجرد احتمال ووهم وكذلك تخصيص الوصف ولا فرق فإذا لسنا ندرأ الدليل بالوهم بل الخصم يبني الدليل على الوهم فإنه ما لم ينتف سائر البواعث لا يتعين باعث اختصاص الحكم وتقدير انتفاء البواعث وهم مجرد وأما قول القائل اليهودي إذا مات لا يبصر فليس استقباحه للتخصيص بل لأنه ذكر ما هو جلي فإنه لو قال الإنسان إذا مات لم يبصر أو الحيوان إذا مات لا يبصر استقبح ذلك لأنه تعرض لما هو واضح في نفسه فإن تعرض لمشكل فلا يستقبح التخصيص في كل مقام كقوله العبد إذا وقع في الحج لزمته الكفارة فهذا لا يستقبح وإن شاركه الحر وكقوله الإنسان لا يتحرك إلا بالإرادة ولا يريد إلا بعد الإدراك فلا يستقبح وإن كان سائر الحيوان شاركه فيهما
هذا تمام التحقيق في المفهوم وبه تمام النظر في الفن الثاني وهو اقتباس الحكم من
____________________

(1/273)


اللفظ لا من حيث صيغته ووضعه بل من حيث فحواه وإشارته ولم يبق إلا الفن الثالث وهو اقتباس الحكم من حيث معناه ومعقوله وهو القياس والقول فيه طويل
ونرى أن نلحق بآخر الفن الثاني القول في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكوته ووجه دلالته على الأحكام فإنه قد يظن أنه نازل منزلة القول في الدلالة ثم بعد الفراغ منه نخوض في الفن الثالث وهو شرح القياس
القول في دلالة أفعال النبي عليه السلام وسكوته واستبشاره وفيه فصول الفصل الأول في دلالة الفعل ونقدم عليه مقدمة في عصمة الأنبياء فنقول لما ثبت ببرهان العقل صدق الأنبياء وتصديق الله تعالى إياهم بالمعجزات فكل ما يناقض مدلول المعجزة فهو محال عليهم بدليل العقل ويناقض مدلول المعجزة جواز الكفر والجهل بالله تعالى وكتمان رسالة الله والكذب والخطأ والغلط فيما يبلغ والتقصير في التبليغ والجهل بتفاصيل الشرع الذي أمر بالدعوة إليه أما ما يرجع إلى مقارفة الذنب فيما يخصه ولا يتعلق بالرسالة فلا يدل على عصمتهم عنه عندنا دليل العقل بل دليل التوقيف والإجماع قد دل على عصمتهم عن الكبائر وعصمتهم أيضا عما يصغر أقدارهم من القاذورات كالزنا والسرقة واللواط أما الصغائر فقد أنكرها جماعة وقالوا الذنوب كلها كبائر فأوجبوا عصمتهم عنها والصحيح أن من الذنوب صغائر وهي التي تكفرها الصلوات الخمس واجتناب الكبائر كما ورد في الخبر وكما قررنا حقيقته في كتاب التوبة من كتاب إحياء علوم الدين فإن قيل لم لم تثبت عصمتهم بدليل العقل لأنهم لو لم يعصموا لنفرت قلوب الخلق عنهم قلنا لا يجب عندنا عصمتهم من جميع ما ينفر فقد كانت الحرب سجالا بينه وبين الكفار وكان ذلك ينفر قلوب قوم عن الإيمان ولم يعصم عنه وإن ارتاب المبطلون مع أنه حفظ عن الخط والكتابة كي لا يرتاب المبطلون وقد ارتاب جماعة بسبب النسخ كما قال تعالى 61 { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر } النحل 102 وجماعة بسبب المتشابهات فقالوا كان يقدر على كشف الغطاء لو كان نبيا لخلص الخلق من كلمات الجهل والخلاف كما قال تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب } آل عمران 7 وهذا لأن نفي المنفرات ليس بشرط دلالة المعجزة هذا حكم الذنوب أما النسيان والسهو فلا خلاف في جوازه عليهم فيما يخصهم من العبادات ولا خلاف في عصمتهم بما يتعلق بتبليغ الشرع والرسالة فإنهم كلفوا تصديقه جزما ولا يمكن التصديق مع تجويز الغلط وقد قال قوم يجوز عليه الغلط فيما شرعه بالاجتهاد لكن لا يقر عليه وهذا على مذهب من يقول المصيب واحد من المجتهدين أما من قال كل مجتهد مصيب فلا يتصور الخطأ عنده في اجتهاد غيره فكيف في اجتهاده
رجعنا إلى المقصود وهو أفعاله عليه السلام فما عرف بقوله أنه تعاطاه بيانا للواجب كقوله عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم أو علم بقرينة الحال أنه إمضاء لحكم نازل كقطع يد السارق من الكوع فهذا دليل وبيان وما عرف أنه
____________________

(1/274)


خاصيته فلا يكون دليلا في حق غيره وأما ما لم يقترن به بيان في نفي ولا إثبات فالصحيح عندنا أنه لا دلالة له بل هو متردد بين الإباحة والندب والوجوب وبين أن يكون مخصوصا به وبين أن يشاركه غيره فيه ولا يتعين واحد من هذه الأقسام إلا بدليل زائد بل يحتمل الحظر أيضا عند من يجوز عليهم الصغائر وقال قوم أنه على الحظر وقال قوم على الإباحة وقال قوم على الندب وقال قوم على الوجوب إن كان في العبادات وإن كان في العادات فعلى الندب ويستحب التأسي به وهذه تحكمات لأن الفعل لا صيغة له وهذه الاحتمالات متعارضة ونحن نفرد كل واحد بالإبطال
أما إبطال الحمل على الحظر فهو أن هذا خيال من رأى الأفعال قبل ورود الشرع على الحظر قال وهذا الفعل لم يرد فيه شرع ولا يتعين بنفسه لإباحة ولا لوجوب فيبقى على ما كان فلقد صدق في إبقاء الحكم على ما كان وأخطأ في قوله بأن الأحكام قبل الشرع على الحظر وقد أبطلنا ذلك ويعارضه قول من قال إنها على الإباحة وهو أقرب من الحظر ثم يلزم منه تناقض وهو أن يأتي بفعلين متضادين في وقتين فيؤدي إلى أن يحرم الشيء وضده وهو تكليف المحال
أما إبطال الإباحة فهو أنه إن أراد به أنه أطلق لنا مثل ذلك فهو تحكم لا يدل عليه عقل ولا سمع وإن أراد به أن الأصل في الأفعال نفي الحرج فيبقى على ما كان قبل الشرع فهو حق وقد كان كذلك قبل فعله فلا دلالة إذا لفعله
أما إبطال الحمل على الندب فإنه تحكم إذا لم يحمل على الوجوب لاحتمال كونه ندبا فلا يحمل على الندب لاحتمال كونه واجبا بل لاحتمال كونه مباحا
وقد تمسكوا بشبهتين الأولى أن فعله يحتمل الوجوب والندب والندب أقل درجاته فيحمل عليه قلنا إنما يصح ما ذكروه لو كان الندب داخلا في الوجوب ويكون الوجوب ندبا وزيادة وليس كذلك إذ يدخل جواز الترك في حد الندب دون حد الوجوب وأقرب ما قيل فيه الحمل على الندب لا سيما في العبادات أما في العادات فلا أقل من حمله على الإباحة لا بمجرد الفعل ولكن نعلم أن الصحابة كانوا يعتقدون في كل فعل له أنه جائز ويستدلون به على الجواز ويدل هذا على نفي الصغائر عنه وكانوا يتبركون بالاقتداء به في العادات لكن هذا أيضا ليس بقاطع إذ يحتمل أن يكون استدلالهم بذلك مع قرائن حسمت بقية الاحتمالات وكلامنا في مجرد الأفعال دون قرينة ولا شك في أن ابن عمر لما رآه مستقبل بيت المقدس في قضاء حاجته استدل به على كونه مباحا إذا كان في بناء لأنه كان في البناء ولم يعتقد أنه ينبغي أن يقتدي به فيه لأنه خلا بنفسه فلم يكن يقصد إظهاره ليعلم بالقرينة قصده الدعاء إلى الاقتداء فتبين من هذا أنهم اعتقدوا وأن ما فعله مباح وهذا يدل على أنهم لم يجوزوا عليه الصغائر وأنهم لم يعتقدوا الاقتداء في كل فعل بل ما يقترن به قرينة تدل على إرادته البيان بالفعل
الثانية التمسك بقوله { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } الأحزاب 21 فأخبر أن لنا التأسي ولم يقل عليكم التأسي فيحمل على الندب لا على الوجوب قلنا الآية حجة عليكم لأن التأسي به في إيقاع الفعل الذي أوقعه على ما أوقعه فما أوقعه واجبا أو مباحا إذا أوقعناه على وجه الندب لم نكن مقتدين به كما أنه إذا قصد الندب فأوقعناه واجبا خالفنا التأسي فلا سبيل إلى التأسي به قبل معرفة قصده
____________________

(1/275)


ولا يعرف قصده إلا بقوله أو بقرينة ثم نقول إذا انقسمت أفعاله إلى الواجب والندب لم يكن من يحمل الكل على الوجوب متأسيا ومن يجعل الكل أيضا ندبا متأسيا بل كان النبي عليه السلام يفعل ما لا يدري فمن فعل ما لا يدري على أي وجه فعله لم يكن متأسيا
أما أبطال الحمل على الوجوب فإن ذلك لا يعرف بضرورة عقل ولا نظر ولا بدليل قاطع فهو تحكم لأن فعله متردد بين الوجوب والندب وعند من لم يوجب عصمته من الصغائر يحتمل الحظر أيضا فلم يتحكم بالحمل على الوجوب ولهم شبه الأولى قولهم لا بد من وصف فعله بأنه حق وصواب ومصلحة ولولاه لما أقدم عليه ولا تعيد به قلنا جملة ذلك مسلم في حقه خاصة ليخرج به عن كونه محظورا وإنما الكلام في حقنا وليس يلزم الحكم بأن ما كان في حقه حقا وصوابا ومصلحة كان في حقنا كذلك بل لعله مصلحة بالإضافة إلى صفة النبوة أو صفة هو يختص بها ولذلك خالفنا في جملة من الجائزات والواجبات والمحظورات بل اختلف المقيم والمسافر والحائض والطاهر في الصلوات فلم يمتنع اختلاف النبي والأمة
الثانية أنه نبي وتعظيم النبي واجب والتأسي به تعظيم قلنا تعظيم الملك في الانقياد له فيما يأمر وينهي لا في التربع إذا تربع ولا في الجلوس على السرير إذا جلس عليه فلو نذر الرسول أشياء لم يكن تعظيمه في أن ننذرها مثل ما نذرها ولو طلق أو باع أو اشترى لم يكن تعظيمه في التشبه به
الثالث أنه لو لم يتابع في أفعاله لجاز أن لا يتابع في أقواله وذلك تصغير لقدره وتنفير للقلوب عنه قلنا هذا هذيان فإن المخالفة في القول عصيان له وهو مبعوث للتبليغ حتى يطاع في أقاويله لأن قوله متعد إلى غيره وفعله قاصر عليه وأما التنفير فقد بينا أنه لا التفات إليه ولو كان ترك التشبه به تصغيرا له لكنا تركنا للوصال وتركنا نكاح تسع بل تركنا دعوى النبوة تصغيرا فاستبان أن هذه خيالات وأن التحقيق أن الفعل متردد كما أن اللفظ المشترك كالقرء متردد فلا يجوز حمله على أحد الوجوه إلا بدليل زائد
الرابعة تمسكهم بآي من الكتاب كقوله تعالى { ونصروا } الأنعام 153 وأنه يعم الأقوال والأفعال وكقوله تعالى { فليحذر الذين يخالفون عن أمره } النور 63 وقوله { وما آتاكم الرسول فخذوه } الحشر 7 وأمثاله وجمع ذلك يرجع إلى قبول أقواله وغايته أن يعم الأقوال والأفعال وتخصيص العموم ممكن ولذلك لم يجب على الحائض والمريض موافقته مع أنهم مأمورون بالإتباع والطاعة
الخامسة وهي أظهرها تمسكهم بفعل الصحابة وهو أنهم واصلوا الصيام لما واصل وخلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع وأمرهم عام الحديبية بالتحلل بالحلق فتوقفوا فشكا إلى أم سلمة فقالت أخرج إليهم واذبح واحلق ففعل فذبحوا وحلقوا مسارعين وإنه خلع خاتمه فخلعوا وبأن عمر كان يقبل الحجر ويقول إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت النبي عليه السلام يقبلك ما قبلتك وبأنه قال في جواب من سأل أم سلمة عن قلبة الصائم فقال ألا أخبرته أني أقبل وأنا صائم وكذلك الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين فقالت عائشة رضي الله عنها فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا فرجعوا إلى ذلك الجواب من وجوه
____________________

(1/276)


الأول أن هذه أخبار آحاد وكما لا يثبت القياس وخبر الواحد إلا بدليل قاطع فكذلك هذا لأنه أصل من الأصول
الثاني أنهم لم يتبعوه في جميع أفعاله وعباداته فكيف صار اتباعهم للبعض دليلا ولم تصر مخالفتهم في البعض دليل جواز المخالفة
الثالث وهو التحقيق أن أكثر هذه الأخبار تتعلق بالصلاة والحج والصوم والوضوء وقد كان بين لهم أن شرعه وشرعهم فيه سواء فقال صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم وعلمهم الوضوء وقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي وأما الوصال فإنهم ظنوا لما أمرهم بالصوم واشتغل معهم به أنه قصد بفعله امتثال الواجب وبيانه فرد عليهم ظنهم وأنكر عليهم الموافقة وكذلك في قبلة الصائم ربما كان قد بين لهم مساواة الحكم في المفطرات وأن شرعه شرعهم وكذلك في الأحداث قد عرفهم مساواة الحكم فيها ففهموا لا بمجرد حكاية الفعل كيف وقد نقل أنه عليه السلام قال إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وأما خلع الخاتم فهو مباح فلما خلع أحبوا موافقته لا لاعتقادهم وجوب ذلك عليهم أو توهموا أنه لما ساواهم في سنة التختم فيساويهم في سنة الخلع فإن قيل الأصل أن ما ثبت في حقه عام إلا ما استثنى قلنا لا بل الأصل أن ما ثبت في حقه فهو خاص إلا ما عممه فإن قيل التعميم أكثر فلينزل عليه قلنا ولم يجب التنزيل على الأكثر وإذا اشتبهت أخت بعشر أجنبيات فالأكثر حلال ولا يجوز الأخذ به كيف والمباحات أكثر من المندوبات فلتلحق بها والمندوبات أكثر من الواجبات فلتلحق بها بل ربما قال القائل المحظورات أكثر من الواجبات فلتنزل عليها
الفصل الثاني في شبهات متفرقة في أحكام الأفعال الأولى قال قائل إذا نقل إلينا فعله عليه السلام فما الذي يجب على المجتهد أن يبحث عنه وما الذي يستحب قلنا لا يجب إلا أمر واحد وهو البحث عنه هل ورد بيانا لخطاب عام أو تنفيذا لحكم لازم عام فيجب علينا اتباعه أو ليس كذلك فيكون قاصرا عليه فإن لم يقم دليل على كونه بيانا لحكم عام فالبحث عن كونه ندبا في حقه أو واجبا أو مباحا أو محظورا أو قضاء أو أداء موسعا أو مضيقا لا يجب بل هو زيادة درجة وفضل في العلم يستحب للعالم أن يعرفه فإن قيل كم أصناف ما يحتاج إلى البيان سوى الفعل قلنا ما يتطرق إليه احتمال كالمجمل والمجاز والمنقول عن وضعه والمنقول بتصرف الشرع والعام المحتمل للخصوص والظاهر المحتمل للتأويل ونسخ الحكم بعد استقراره ومعنى قول افعل أنه للندب أو للوجوب أو أنه على الفور أو التراخي أو أنه للتكرار أو المرة الواحد والجمل المعطوفة إذا أعقبت باستثناء وما يجري مجراه مما يتعارض فيه الاحتمال والفعل من جملة ذلك فإن قيل فإن بين لنا بفعله ندبا فهل يكون فعله واجبا قلنا نعم هو من حيث أنه بيان واجب لأنه تبليغ للشرعه ومن حيث أنه فعل ندب وذهب بعض القدرية إلى أن بيان الواجب واجب وبيان الندب ندب وبيان المباح مباح ويلزم على ذلك أن يكون بيان المحظور محظورا فإذا كان بيان المحظور واجبا فلم لا يكون بيان الندب واجبا وكذلك بيان المباح وهي أحكام الله تعالى على عباده والرسول مأمور بالتبليغ
____________________

(1/277)


وبيانه بالقول أو الفعل وهو مخير بينهما فإذا أتى بالفعل فقد أتى بإحدى خصلتي الواجب فيكون فعله واقعا عن الواجب فإن قيل وبم يعرف كون فعله بيانا قلنا إما بصريح قوله وهو ظاهر أو بقرائن وهي كثيرة
إحداها أن يرد خطاب مجمل ولم يبينه بقوله إلى وقت الحاجة ثم فعل عند الحاجة والتنفيذ للحكم فعلا صالحا للبيان فيعلم أنه بيان إذا لم يكن لكان مؤخرا للبيان عن وقت الحاجة وذلك محال عقلا عند قوم وسمعا عند آخرين وكونه غير واقع متفق عليه لكن كون الفعل متعينا للبيان يظهر للصحابة إذ قد علموا عدم البيان بالقول أما نحن فيجوز أن يكون قد بين بالقول ولم يبلغنا فيكون الظاهر عندنا أن الفعل بيان فقطع يد السارق من الكوع وتيممه إلى المرفقين بيان لقوله عز وجل { فاقطعوا أيديهما } المائدة 38 ولقوله تعالى { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } النساء 43
الثانية أن ينقل فعل غير مفصل كمسحه رأسه وأذنيه من غير تعرض لكونهما مسحا بماء واحد أو بماء جديد ثم ينقل أنه أخذ لأذنيه ماء جديدا فهذا في الظاهر يزيل الاحتمال عن الأول ولكن يحتمل أن الواجب ماء واحد وأن المستحب ماء جديدا فيكون أحد الفعلين على الأقل والثاني على الأكمل
الثالثة أن يترك ما لزمه فيكون بيانا لكونه منسوخا في حقه أما في حق غيره فلا يثبت النسخ إلا ببيان الاشتراك في الحكم نعم لو ترك غيره بين يديه فلم ينكر مع معرفته به فيدل على النسخ في حق الغير
الرابعة أنه إذا أتى بسارق ثمر أو ما دون النصاب فلم يقطع فيدل على تخصيص الآية لكن هذا بشرط أن يعلم انتفاء شبهة أخرى تدرأ القطع لأنه لو أتى بسارق سيف فلم يقطعه فلا يتبين لنا سقوط القطع في السيف ولا في الحديد لكن يبحث عن سببه فكذلك الثمر وما دون النصاب وكذلك تركه القنوت والتسمية والتشهد الأول مرة واحدة لا يدل على النسخ إذ يحمل على نسيان أو على بيان جواز ترك السنة وإن ترك مرات دل على عدم الوجوب وكذلك لو ترك الفخذ مكشوفا دل على أنه ليس من العورة
الخامسة إذا فعل في الصلاة ما لو لم يكن واجبا لأفسد الصلاة دل على الوجوب كزيادة ركوع في الخسوف وكحمل أمامة في الصلاة يدل على أن الفعل القليل لا يبطل وأنه فعل قليل هذا مع قوله صلوا كما رأيتموني أصلي يكون بيانا في حقنا
السادسة إذا أمر الله تعالى بالصلاة وأخذ الجزية والزكاة مجملا ثم أنشأ الصلاة وابتدأ بأخذ الجزية فيظهر كونه بيانا وتنفيذا لكن إن لم تكن الحاجة متنجزة بحيث يجوز تأخير البيان فلا يتعين لكونه بيانا بل يحتمل أن يكون فعلا أمر به خاصة في ذلك الوقت فإذا لا يصير بيانا للحكم العام إلا بقرينة أخرى
السابعة أخذه مالا ممن فعل فعلا أو إيقاعه به ضربا أو نوع عقوبة فإنه له خاصة ما لم ينبه على أن من فعل ذلك الفعل فعليه مثل ذلك المال فإنه لا يمتنع لأنه وإن تقدم ذلك
____________________

(1/278)


الفعل فلا يتعين لكونه موجب أخذ المال وأنه لا يمتنع وجود سبب آخر هو المقتضى للمال وللعقوبة أما قضاؤه على من فعل فعلا بعقوبة أو مال كقضائه على الأعرابي بإعتاق رقبة فإنه يدل على أنه موجب ذلك الفعل لأن الراوي لا يقول قضى على فلان بكذا لما فعل كذا إلا بعد معرفته بالقرينة فإن قيل فإذا فعل فعلا وكان بيانا ووقع في زمان ومكان وعلى هيئة فهل يتبع الزمان والمكان والهيئة فيقال أما الهيئة والكيفية فنعم وأما الزمان والمكان فهو كتغيم السماء وصحوها ولا مدخل له في الأحكام إلا أن يكون الزمان والمكان لائقا به بدليل دل عليه كاختصاص الحج بعرفات والبيت واختصاص الصلوات بأوقات لأنه لو اتبع المكان للزم مراعاة تلك الرواية بعينها ووجب مراعاة ذلك الوقت وقد انقضى ولا يمكن إعادته وما بعده من الأوقات ليس مثلا فيجب إعادة الفعل في الزمان الماضي وهو محال وقد قال قوم إن تكرر فعله في مكان واحد وزمان واحد دل على الاختصاص وإلا فلا وهو فاسد لما سبق ذكره فإن قيل إن كان فعله بيانا فتقريره على الفعل وسكوته عليه وتركه الإنكار واستبشاره بالفعل أو مدحه له هل يدل على الجواز وهل يكون بيانا قلنا نعم سكوته مع المعرفة وتركه الإنكار دليل على الجواز إذ لا يجوز له ترك الإنكار لو كان حراما ولا يجوز له الاستبشار بالباطل فيكون دليلا على الجواز كما نقل في قاعدة القيافة وإنما تسقط دلالته عند من يحمل ذلك على المعصية ويجوز عليه الصغيرة ونحن نعلم إتفاق الصحابة على إنكار ذلك وإحالته فإن قيل لعله منع من الإنكار مانع كعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلذلك فعله أو بلغه الإنكار مرة فلم ينجح فيه فلم يعاوده
قلنا ليس هذا مانعا لأن من لم يبلغه التحريم فيلزمه تبليغه ونهيه حتى لا يعود ومن بلغه ولم ينجح فيه فيلزمه إعادته وتكراره كيلا يتوهم نسخ التحريم فإن قيل فلم لم يجب عليه أن يطوف صبيحة كل سبت وأحد على اليهود والنصارى إذا اجتمعوا في كنائسهم وبيعهم قلنا لأنه علم أنهم مصرون مع تبليغه وعلم الخلق أنه مصر على تكفيرهم دائما فلم يكن ذلك مما يوهم النسخ بخلاف فعل يجري بين يديه مرة واحدة أو مرات فإن السكوت عنه يوهم النسخ
ق ( الفصل الثالث في تعارض الفعلين فنقول معنى التعارض التناقض فإن وقع في الخبر أوجب كون واحد منهما كذبا ولذلك لا يجوز التعارض في الأخبار من الله تعالى ورسوله وإن وقع في الأمر والنهي والأحكام فيتناقض فيرفع الأخير الأول ويكون نسخا وهذا متصور وإذا عرفت أن التعارض هو التناقض فلا يتصور التعارض في الفعل لأنه لا بد من فرض الفعلين في زمانين أو في شخصين فيمكن الجمع بين وجوب أحدهما وتحريم الآخر فلا تعارض فإن قيل فالقول أيضا لا يتناقض إذ يوجد القولان في حالتين وإنما يتناقض حكمهما فكذلك يتناقض حكم الفعلين قلنا إنما يتناقض حكم القولين لأن القول الأول اقتضى حكما دائما فيقطع القول الثاني دوامه والفعل لا يدل أصلا على حكم ولا على دوام حكم نعم لو أشعرنا الشارع بأنه يريد بمباشرة فعل بيان دوام وجوبه ثم ترك ذلك الفعل بعده كان ذلك نسخا وقطعا لدوام حكم ظهر بالفعل مع تقدم الأشعار فهذا القدر ممكن وأما التعارض بين القول والفعل
____________________

(1/279)


فممكن بأن يقول قولا يوجب على أمته فعلا دائما وأشعرهم بأن حكمه فيه حكمهم ابتداء ونسخا ثم فعل خلافه أو سكت على خلافه كان الأخير نسخا وإن أشكل التاريخ وجب طلبه وإلا فهو متعارض كما روي أنه قال في السارق وإن سرق خامسة فاقتلوه ثم أتى بمن سرق خامسة فلم يقتله فهذا إن تأخر فهو نسخ القول والفعل وإن تأخر القول فهو نسخ ما دل عليه الفعل وقد قال قوم إذا تعارضا وأشكل التاريخ يقدم القول لأن القول بيان بنفسه بخلاف الفعل فإن الفعل يتصور أن يخصه والقول يتعدى إلى غيره ولأن القول يتأكد بالتكرار بخلاف الفعل فنقول أما قولكم أن الفعل ليس بيانا بنفسه فمسلم ولكن كلامنا في فعل صار بيانا لغيره فلا يتأخر عما كان بيانا بنفسه وأما خصوص الفعل فمسلم أيضا ولكن كلامنا في فعل لا يمكن حمله على خاصيته وأما تأكيد القول بالتكرار إن عني به أنه إذا تواتر أفاد العلم فهذا مسلم إذا توتر من أشخاص فليس ذلك تكرارا وتكراره من شخص واحد لا أثر له كتكرار الفعل هذا تمام الكلام في الأفعال الملحقة بالأقوال وبيان ما فيها من البيان والإجمال ولنشتغل بعدها بالفن الثالث من القطب وهو المرسوم لبيان كيفية دلالة الألفاظ على المدلولات بمعقولها ومعناها وهو الذي يسمى قياسا فلنخض في شرح كتاب القياس مستعينين بالله عز وجل
الفن الثالث في كيفية استثمار الأحكام من الألفاظ والاقتباس من معقول الألفاظ بطريق القياس ويشتمل على مقدمتين وأربعة أبواب الأول في إثبات أصل القياس على منكريه
الثاني في طريق إثبات العلة
الثالث في قياس الشبه
الرابع في أركان القياس وهي أربعة الأصل والفرع والعلة والحكم وبيان شروط كل ركن من هذه الأركان
مقدمة في حد القياس وحده أنه جمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من إثبات حكم أو صفة أو نفيهما عنهما ثم إن كان الجامع موجبا للاجتماع على الحكم كان قياسا صحيحا وإلا كان فاسدا واسم القياس يشتمل على الصحيح والفاسد في اللغة ولا بد في كل قياس من فرع وأصل وعلة وحكم وليس من شرط الفرع والأصل كونهما موجودين بل ربما يستدل بالنفي على النفي فلذلك لم نقل حمل شيء لأن المعدوم ليس بشيء عندنا وأبدلنا لفظ الشيء بالمعلوم ولم نقل حمل فرع على أصل لأنه ربما ينبو هذا اللفظ عن المعدوم وإن كان لا يبعد إطلاق هذا الاسم عليه بتأويل ما والحكم يجوز أن يكون نفيا ويجوز أن يكون إثباتا والنفي كانتفاء الضمان والتكليف والانتفاء أيضا يجوز أن يكون علة فلذلك أدرجنا الجميع في الحد ودليل صحة هذا الحد إطراده وانعكاسه أما قول من قال في حد القياس أنه الدليل الموصل إلى الحق أو العلم الواقع بالمعلوم عن نظر أو رد غائب إلى شاهد فبعض هذا أعم من القياس وبعضه أخص ولا حاجة إلى الأطناب في إبطاله وأبعد منه إطلاق الفلاسفة
____________________

(1/280)


اسمه على تركيب مقدمتين يحصل منهما نتيجة كقول القائل كل مسكر حرام وكل نبيذ مسكر فيلزم منه أن كل نبيذ حرام فإن لزوم هذه النتيجة من المقدمتين لا ننكره لكن القياس يستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بنوع من المساواة إذ تقول العرب لا يقاس فلان إلى فلان في عقله ونسبه وفلان يقاس إلى فلان فهو عبارة عن معنى إضافي بين شيئين وقال بعض الفقهاء القياس هو الاجتهاد وهو خطأ لأن الاجتهاد أعم من القياس لأنه قد يكون بالنظر في العمومات ودقائق الألفاظ وسائر طرق الأدلة سوى القياس ثم أنه لا ينبىء في عرف العلماء إلا عن بذل المجتهد وسعه في طلب الحكم ولا يطلق إلا على من يجهد نفسه ويستفرغ الوسع فمن حمل خردلة لا يقال اجتهد ولا ينبىء هذا عن خصوص معنى القياس بل عن الجهد الذي هو حال القياس فقط
مقدمة أخرى في حصر مجاري الإجتهاد في العلل اعلم أنا نعني بالعلة في الشرعيات مناط الحكم أي ما أضاف الشرع الحكم إليه وناطه به ونصبه علامة عليه والاجتهاد في العلة إما أن يكون في تحقيق مناط الحكم أو في تنقيح مناط الحكم أو في تخريج مناط الحكم واستنباطه
أما الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم فلا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه مثاله الاجتهاد في تعيين الإمام بالاجتهاد مع قدرة الشارع في الإمام الأول على النص وكذا تعيين الولاة والقضاة وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات وإيجاب المثل في قيم المتلفات وأروش الجنايات وطلب المثل في جزاء الصيد فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية وذلك معلوم النص أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين وينتظم هذا الاجتهاد بأصلين أحدهما أنه لا بد من الكفاية
والثاني أن الرطل قدر الكفاية فيلزم منه أنه الواجب على القريب أما الأصل الأول فمعلوم بالنص والإجماع وأما الثاني فمعلوم بالظن وكذلك نقول يجب في حمار الوحش بقرة لقوله تعالى { فجزاء مثل ما قتل من النعم } المائدة 95 فنقول المثل واجب والبقرة مثل فإذا هي الواجب والأول معلوم بالنص وهي المثلية التي هي مناط الحكم أما تحقق المثلية في البقرة فمعلوم بنوع من المقايسة والاجتهاد وكذلك من أتلف فرسا فعليه ضمانه والضمان هو المثل في القيمة أما كونه مائة درهم مثلا في القيمة فإنما يعرف بالاجتهاد ومن هذا القبيل الاجتهاد في القبلة وليس ذلك من القياس في شيء بل الواجب استقبال جهة القبلة وهو معلوم بالنص أما أن هذه جهة القبلة فإنه يعلم بالاجتهاد والأمارات الموجبة للظن عند تعذر اليقين وكذلك حكم القاضي بقول الشهود ظني لكن الحكم بالصدق واجب وهو معلوم بالنص وقول العدل صدق معلوم بالظن وأمارات العدالة والعدالة لا تعلم إلا بالظن فلنعبر عن هذا الجنس بتحقيق مناط الحكم لأن المناط معلوم بنص أو إجماع لا حاجة إلى استنباطه لكن تعذرت معرفته باليقين فاستدل عليه بإمارات ظنية وهذا لا خلاف فيه بين الأمة وهو نوع اجتهاد والقياس مختلف فيه فكيف يكون هذا قياسا وكيف يكون مختلفا فيه وهو ضرورة كل شريعة لأن التنصيص على عدالة الأشخاص وقدر كفاية كل شخص محال فمن ينكر القياس ينكره حيث يمكن التعريف
____________________

(1/281)


للحكم بالنص المحيط بمجاري الحكم
الاجتهاد الثاني في تنقيح مناط الحكم وهذا أيضا يقربه أكثر منكري القياس مثاله أن يضيف الشارع الحكم إلى سبب وينوطه به وتقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة فيجب حذفها عن درجة الاعتبار حتى يتسع الحكم مثاله إيجاب العتق على الأعرابي حيث أفطر في رمضان بالوقاع مع أهله فإنا نلحق به أعرابيا آخر بقوله عليه السلام حكمي على الواحد حكمي على الجماعة أو بالإجماع على أن التكليف يعم الأشخاص ولكنا نلحق التركي والعجمي به لأنا نعلم أن مناط الحكم وقاع مكلف لا وقاع أعرابي ونلحق به من أفطر في رمضان آخر لأنا نعلم أن المناط هتك حرمة رمضان لا حرمة ذلك الرمضان بل نلحق به يوما آخر من ذلك الرمضان ولو وطىء أمته أوجبنا عليه الكفارة لأنا نعلم أن كون الموطوءة منكوحة لا مدخل له في هذا الحكم بل يلحق به الزنا لأنه أشد في هتك الحرمة إلا أن هذه إلحاقات معلومة تنبىء على تنقيح مناط الحكم بحذف ما علم بعادة الشرع في موارده ومصادره في أحكامه أنه لا مدخل له في التأثير وقد يكون حذف بعض الأوصاف مظنونا فينقدح الخلاف فيه كإيجاب الكفارة بالأكل والشرب إذ يمكن أن يقال مناط الكفارة كونه مفسدا للصوم المحترم والجماع آلة الإفساد كما أن مناط القصاص في القتل بالسيف كونه مزهقا روحا محترمة والسيف آلة فيلحق به السكين والرمح والمثقل فكذلك الطعام والشراب آلة ويمكن أن يقال الجماع مما لا تنزجر النفس عنه عند هيجان شهوته لمجرد وازع الدين فيحتاج فيه إلى كفارة وازعة بخلاف الأكل وهذا محتمل والمقصود أن هذا تنقيح المناط بعد أن عرف المناط بالنص لا بالاستنباط ولذلك أقر به أكثر منكري القياس بل قال أبو حنيفة رحمه الله لا قياس في الكفارات وأثبت هذا النمط من التصرف وسماه استدلالا فمن جحد هذا الجنس من منكري القياس وأصحاب الظاهر لم يخف فساد كلامه
الإجتهاد الثالث في تخريج مناط الحكم واستنباطه مثاله أن يحكم بتحريم في محل ولا يذكر إلا الحكم والمحل ولا يتعرض لمناط الحكم وعلته كتحريم شرب الخمر والربا في البر فنحن نستنبط المناط بالرأي والنظر فنقول حرمه لكونه مسكرا وهو العلة ونقيس عليه النبيذ وحرم الربا في البر لكونه مطعوما ونقيس عليه الأرز والزبيب ويوجب العشر في البر فنقول أوجبه لكونه قوتا
فنلحق به الأقوات أو لكونه نبات الأرض وفائدتها فنلحق به الخضراوات وأنواع النبات فهذا هو الاجتهاد القياسي الذي عظم الخلاف فيه وأنكره أهل الظاهر وطائفة من معتزلة بغداد وجميع الشيعة والعلة المستنبطة أيضا عندنا لا يجوز التحكم بها بل قد تعلم بالإيماء وإشارة النص فتلحق بالمنصوص وقد تعلم بالسير حيث يقوم دليل على وجوب التعليل وتنحصر الأقسام في ثلاثة مثلا ويبطل قسمان فيتعين الثالث فتكون العلة ثابتة بنوع من الاستدلال فلا تفارق تحقيق المناط وتنقيح المناط وقد يقوم الدليل على كون الوصف المستنبط مؤثرا بالإجماع فيلحق به ما لا يفارقه إلا فيما لا مدخل له في التأثير كقولنا الصغير يولي عليه في ماله لصغره فيلحق بالمال البضع إذ ثبت بالإجماع تأثير الصغر في جلب الحكم ولا يفارق البضع المال في معنى مؤثر في الحكم فكل ذلك استدلال قريب من القسمين الأولين
____________________

(1/282)


والقسم الأول متفق عليه والثاني مسلم من الأكثرين
هذا شرح المقدمتين ولنشرع الآن في الأبواب
الباب الأول في إثبات القياس على منكريه وقد قالت الشيعة وبعض المعتزلة يستحيل التعبد بالقياس عقلا وقال قوم في مقابلتهم يجب التعبد به عقلا وقال قوم لا حكم للعقل فيه بإحالة ولا إيجاب ولكنه في مظنة الجواز ثم اختلفوا في وقوعه فأنكر أهل الظاهر وقوعه بل ادعوا حظر الشرع له والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم وجماهير الفقهاء والمتكلمين بعدهم رحمهم الله وقوع التعبد به شرعا ففرق المبطلة له ثلاث المحيل له عقلا والموجب له عقلا والحاظر له شرعا فنفرض على كل فريق مسألة ونبطل عليهم خيالهم ونقول للمحيل للتعبد به عقلا بم عرفت إحالته بضرورة أو نظر ولا سبيل إلى دعوى شيء من ذلك ولهم مسالك
الأول قولهم كلما نصب الله تعالى دليلا قاطعا على معرفته فلا نحيل التعبد به إنما نحيل التعبد بما لا سبيل إلى معرفته لأن رحم الظن جهل ولا صلاح للخلق في إقحامهم ورطة الجهل حتى يتخبطوا فيه ويحكموا بما لا يتحققون أنه حكم الله بل يجوز أنه نقيض حكم الله تعالى
فهذا أصلان أحدهما أن الصلاح واجب على الله تعالى
والثاني أنه لا صلاح في التعبد بالقياس ففي أيهما النزاع
والجواب إننا ننازعكم في الأصلين جميعا أما إيجاب صلاح العباد على الله تعالى فقد أبطلناه فلا نسلم وإن سلمنا فقد جوز التعبد بالقياس بعض من أوجب الصلاح وقال لعل الله تعالى علم لطفا بعباده في الرد إلى القياس لتحمل كلفة الاجتهاد وكد القلب والعقل في الاستنباط لنيل الخيرات الجزيلة { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } المجادلة 11 وتجشم القلب بالفكر لا يتقاعد عن تجشم البدن بالعبادات فإن قيل كان الشارع قادرا على أن يكفيهم بالتنصيص كلمات الظن وذلك أصلح قلنا من أوجب الصلاح لا يوجب الأصلح ثم لعل الله تعالى علم من عباده أنه لو نص على جميع التكاليف لبقوا وعصوا وإذا فرض إلى رأيهم انبعث حرصهم لاتباع اجتهادهم وظنونهم ثم نقول أليس قد أقحمهم ورطة الجهل في الحكم بقول الشاهدين والاستدلال على القبلة وتقدير المثل والكفايات في النفاقات والجنايات وكل ذلك ظن وتخمين فإن قيل ما تعبد القاضي بصدق الشاهدين فإن ذلك لا يقدر عليه بل أوجب الحكم عليه عند ظن الصدق وأوجب استقبال جهة يظن أن القبلة فيها لا استقبال القبلة قلنا وكذلك تعبد المجتهد بأن يحكم بشهادة الأصل للفرع إذا غلب على ظنه دلالته عليه وشهادته له ولا تكليف عليه في تحقيق تلك الشهادة بل هو مكلف بظنه وإن فسدت الشهادة كما كلف الحاكم الحكم بظنه وإن كان كذب الشهود ممكنا ولا فرق ولذلك نقول كل مجتهد مصيب والخطأ محال إذ يستحيل أن يكلف إصابة ما لم ينصب عليه دليل قاطع وما ذكروه إنما يشكل على من يقول المصيب واحد وتحقيقه أنه
____________________

(1/283)


لو قال الشارع حرمت كل مسكر أو حرمت الخمر لكونه مسكرا لم يكن التعبد به ممتنعا فلو قال متى حرمت الربا في البر فأسيروا حاله وقسموا صفاته فإن غلب على ظنكم بإمارة أني حرمته لكونه قوتا وحرمت الخمر لكونه مسكرا فقد حرمت عليكم كل قوت وكل مسكر ومن غلب على ظنه أني حرمته لكونه مكيلا فقد حرمت عليه كل مكيل لم يكن بين هذا وبين قوله إذا اشتبهت عليكم القبلة فكل جهة غلب على ظنكم أن القبلة فيها فاستقبلوها فرق حتى لو غلب جهتان على ظن رجلين فيكون كل واحد مصيبا وكما لم يمتنع أن يلحق ظن القبلة بمشاهدتها وظن صدق العدل بتحقيق صدق الرسول المؤيد بالمعجزة وصدق الراوي الواحد بتحقيق صدق التواتر فكذلك لا يمتنع أن يلحق ظن ارتباط الحكم بمناط بتحقيق ارتباطه به بالنص الصريح فإن قيل فأي مصلحة في تحريم الربا في البر لكونه مكيلا أو قوتا أو مطعوما قلنا ومن أوجب الأصلح لم يشترط كون المصلحة مكشوفة للعباد وأي مصلحة في تقدير المغرب ثلاث ركعات والصبح بركعتين وفي تقدير الحدود والكفارات ونصب الزكوات بمقادير مختلفة لكن علم الله تعالى في التعبد لطفا استأثر بعلمه يقرب العباد بسببه من الطاعة ويبعدون به عن المعصية وأسباب الشقاوة حتى لو أضاف الحكم إلى اسم مجرد ثبت واعتقدنا فيه لطفا ندركه فكيف لا يتصور ذلك في الأوصاف الشبهة الثانية قولهم لا يستقيم قياس إلا بعلة والعلة ما توجب الحكم لذاتها وعلل الشرع ليست كذلك فكيف يستقيم التعليل مع أن ما نصب علة للتحريم يجوز أن يكون علة للتحليل قلنا لا معنى لعلة الحكم إلا علامة منصوبة على الحكم ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر ويقول اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا ويجوز أن يقول من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر حتى يختلف المجتهدون في هذه الظنون وكلهم مصيبون
الشبهة الثالثة قولهم حكم الله تعالى خبره ويعرف ذلك بتوقيف فإذا لم يخبر الله عن حكم الزبيب فكيف يقال حكم الله في الزبيب التحريم والنص لم ينطق إلا بالأشياء الستة قلنا إذا قال الله تعالى قد تعبدتكم بالقياس فإذا ظننتم أني حرمت الربا في البر لكونه مطعوما فقيسوا عليه كل مطعوم فيكون هذا خبرا عن حكم الزبيب وما لم يقم دليل على التعبد بالقياس لا يجوز القياس عندنا فالقياس عندنا حكم بالتوقيف المحض كما قررناه في كتاب أساس القياس لكن هذا النص بعينه وإن لم يرد فقد دل إجماع الصحابة على القياس على أنهم ما فعلوا ذلك إلا وقد فهموا من الشارع هذا المعنى بألفاظ وقرائن وإن لم ينقلوها إلينا
الشبهة الرابعة قولهم إذا اشتبهت رضيعة بعشر أجنبيات أو ميتة بعشر مذكيات لم يجز مد اليد إلى واحدة وإن وجدت علامات لأمكان الخطأ والخطأ ممكن في كل اجتهاد وقياس فكيف يجوز الهجوم مع إمكان الخطأ ولا يلزم هذا على الاجتهاد في القبلة وعدالة الشاهد والقاضي والإمام ومتولي الأوقاف لمعنيين أحدهما أن ذلك حكم في الأشخاص والأعيان ولا نهاية لها ولا يمكن تعريفها بالنص
والثاني أن الخطأ فيه غير ممكن لأنهم متعبدون بظنونهم لا بصدق الشهود قلنا وكذلك
____________________

(1/284)


نحن نعترف بأنه لا خلاص عن هذا الإشكال إلا بتصويب كل مجتهد وأن المجتهد وإن خالف النص فهو مصيب إذ لم يكلف إلا بما بلغه فالخطأ غير ممكن في حقه أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فيلزمه هذا الإشكال وأما اختلاط الرضيعة بأجنبيات فلسنا نسلم أن المانع مجرد إمكان الخطأ فإنه لو شك في رضاع امرأة حل له نكاحها والخطأ ممكن لكن الشرع إنما أباح نكاح امرأة يعلم أنها أجنبية بيقين وحكم أن اليقين لا يندفع بالشك الطارىء أما إذا تعارض يقينان وهو يقين التحريم والتحليل فليس ذلك في معنى اليقين الصافي عن المعارضة ولا في معنى اليقين الذي لم يعارضه إلا الشك المجرد فلم يلحق به اتباعا لموجب الدليل ولو ورد الشرع بالرخصة فيه لم يكن ذلك ممتنعا
مسألة ( القائلين بوجوب القياس عقلا ) الذين ذهبوا إلى أن التعبد بالقياس واجب عقلا متحكمون فمطالبون بالدليل ولهم شبهتان الأولى أن الأنبياء مأمورون بتعميم الحكم في كل صورة والصور لا نهاية لها فكيف تحيط النصوص بها فيجب ردهم إلى الاجتهاد ضرورة فنقول هذا فاسد لأن الحكم في الأشخاص التي ليست متناهية إنما يتم بمقدمتين كلية كقولنا كل مطعوم ربوي وجزئية كقولنا هذا النبات مطعوم أو الزعفران مطعوم وكقولنا كل مسكر حرام وهذا الشراب بعينه مسكر وكل عدل مصدق وزيد عدل وكل زان مرجوم وماعز قد زنى فهو إذا مرجوم والمقدمة الجزئية هي التي لا تتناهى مجاريها فيضطر فيها إلى الاجتهاد لا محالة وهو اجتهاد في تحقيق مناط الحكم وليس ذلك بقياس أما المقدمة الكلية فتشتمل على مناط الحكم وروابطه وذلك يمكن التنصيص عليه بالروابط الكلية كقوله كل مطعوم ربوي بدلا عن قوله لا تبيعوا البر بالبر وكقوله كل مسكر حرام بدلا عن قوله حرمت الخمر وإذا أتى بهذه الألفاظ العامة وقع الاستغناء عن استنباط مناط الحكم واستغنى عن القياس هذا مع أنه يمكن منازعة هذا القائل بأنه لم يجب استيعاب جميع الصور بالحكم ولم يستحيل خلو بعضها عن الحكم فإنه في المقدمة الجزئية أيضا يمكن أن يراد فيه إلى اليقين فيقال من تيقنتم صدقة وما تيقنتم كونه مطعوما أو مسكرا فاحكموا به وما لم تتيقنوا به فاتركوه على حكم الأصل إلا أن هذا لا يجري في جميع الجزئيات لأنه لا سبيل إلى تيقين صدق الشهود وعدالة القضاة والولاة ولا سبيل إلى تعطيل الأحكام وكذلك لا سبيل إلى تقدير متيقن في كفاية الأقارب وأروش المتلفات فإن التكثير فيه إلى حصول اليقين ربما يضر بجانب الموجب عليه كما يضر التقليل بجانب الموجب له فالاجتهاد في تحقيق مناط الحكم ضرورة أما في تخريج المناط وتنقيح المناط فلا
الثانية قولهم إن العقل كما دل على العلل العقلية دل على العلل الشرعية فإنها تدرك بالعقل ومناسبة الحكم مناسبة عقلية مصلحة يتقاضى العقل ورود الشرع بها وهذا فاسد لأن القياس إنما يتصور لخصوص النص ببعض مجاري الحكم وكل حكم قدر خصوصه فتعميمه ممكن فلو عم لم يبق للقياس مجال وما ذكروه من قياس العلة الشرعية بالعلة العقلية خطأ لأن من العلل ما لا يناسب وما تناسب لا توجب الحكم لذاتها بل يجوز أ يتخلف الحكم عنها فيجوز أن لا يحرم المسكر وأن لا يوجب الحد بالزنا والسرقة وكذا سائر العلل والأسباب

____________________

(1/285)


مسألة ( الرد على منكري الاجتهاد ) في الرد على من حسم سبيل الاجتهاد بالظن ولم يجوز الحكم في الشرع إلا بدليل قاطع كالنص وما يجري مجراه فأما الحكم بالرأي والاجتهاد فمنعوه وزعموا أنه لا دليل عليه وإنما الرد عليهم بإظهار الدليل وما عندي أن أحدا ينازع في الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم فلا تصرف الزكاة إلا إلى فقير ويعلم فقره بأمارة ظنية ولا يحكم إلا بقول عدل وتعرف عدالته بالظن وكذلك الاجتهاد في الوقت والقبلة وأروش الجنايات وكفاية القريب وإن اعتذروا عن جميع ذلك بأن كل عبد مأمور باتباع ظنه في ذلك موجود قطعا والحكم عند الظن واجب قطعا فنحن كذلك نقول في سائر الاجتهادات وإن اعتذروا عن ذلك بأن ذلك ضرورة فإنما نزاعنا في معرفة مناط الأحكام بالرأي والاجتهاد فيستدل على ذلك بإجماع الصحابة على الحكم بالرأي والاجتهاد في كل واقعة وقعت لهم ولم يجدوا فيها نصا وهذا مما تواتر إلينا عنهم تواترا لا شك فيه فننقل من ذلك بعضه وإن لم يمكن نقل الجميع فمن ذلك حكم الصحابة بإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالاجتهاد مع انتفاء النص ونعلم قطعا بطلان دعوى النص عليه وعلى علي وعلى العباس إذ لو كان لنقل ولتمسك به المنصوص عليه ولم يبق للمشورة مجال حتى ألقى عمر رضي الله عنه الشورى بين ستة وفيهم علي رضي الله عنه فلو كان منصوصا عليه وقد استصلحه له فلم تردد بينه وبين غيره ومن ذلك قياسهم العهد على العقد إذ ورد في الأخبار عقد الإمامة بالبيعة ولم ينص على واحد وأبو بكر عهد إلى عمر خاصة ولم يرد فيه نص ولكن قاسوا تعيين الإمام على تعيين الأمة لعقد البيعة فكتب أبو بكر هذا ما عهد أبو بكر ولم يعترض عليه أحد ومن ذلك رجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر ورأيه في قتال ما نعى الزكاة حتى قال عمر فكيف تقاتلهم وقد قال عليه السلام أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فقالأبو بكر ألم يقل إلا بحقها فمن حقها إيتاء الزكاة كما أن من حقها إقام الصلاة فلا أفرق بين ما جمع الله والله لو منعوني عقالا مما أعطوا النبي عليه السلام لقاتلتهم عليه وبنو حنيفة الممتنعون من الزكاة جاؤوا إلى أبي بكر رضي الله عنه متمسكين بدليل أصحاب الظاهر في اتباع النص وقالوا إنما أمر النبي عليه السلام بأخذ الصدقات لأن صلاته كانت سكنا لنا وصلاتك ليست بسكن لنا إذ قال الله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } التوبة 103 فأوجبوا تخصيص الحكم بمحل النص وقاس أبو بكر والصحابة خليفة الرسول على الرسول إذ الرسول إنما كان يأخذ للفقراء لا لحق نفسه والخليفة نائب في استيفاء الحقوق ومن ذلك ما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد بعد طول التوقف فيه ككتب المصحف وجمع القرآن بين الدفتين فاقترح عمر ذلك أولا على أبي بكر فقال كيف أفعل ما لم يفعله النبي عليه السلام حتى شرح الله له صدر أبي بكر وكذلك جمعه عثمان على ترتيب واحد بعد أن كثرت المصاحف مختلفة الترتيب ومن ذلك إجماعهم على الاجتهاد في مسألة الجد والأخوة على وجوه مختلفة مع قطعهم بأنه لا نص في المسألة التي قد أجمعوا على الاجتهاد فيها
____________________

(1/286)


وننقل الآن من أخبارهم ما يدل على قولهم بالرأي فمن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان الكلالة ما عدا الوالد والولد ومن ذلك أنه ورث أم الأم دون أم الأب فقال له بعض الأنصار لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت فرجع إلى الاشتراك بينهما في السدس
ومن ذلك حكمه بالرأي في التسوية في العطاء فقال عمر لا نجعل من ترك دياره وأمواله مهاجرا إلى النبي عليه السلام كمن دخل في الإسلام كرها فقال أبو بكر إنما أسلموا الله وأجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ
ولما انتهت الخلافة إلى عمر فرق بينهم ووزع على تفاوت درجاتهم واجتهاد أبي بكر أن العطاء إذا لم يكن جزاء على طاعتهم لم يختلف باختلافها واجتهاد عمر أنه لولا الإسلام لما استحقوها فيجوز أن يختلفوا وأن يجعل معيشة العالم أوسع من معيشة الجاهل ومن ذلك قول عمر رضي الله عنه أقضي في الجد برأيي وأقول فيه برأيي وقضى بآراء مختلفة وقوله من أحب أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض في الجد برأيه أي الرأي العاري عن الحجة وقال لما سمع الحديث في الجنين لولا هذا لقضينا فيه برأينا ولما قيل في مسألة المشتركة هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة أشرك بينهم بهذا الرأي
ومن ذلك أنه قيل لعمر إن سمرة أخذ من تجار اليهود الخمر في العشور وخللها وباعها فقال قاتل الله سمرة أما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها فقاس عمر الخمر على الشحم وأن تحريمها تحريم لثمنها
وكذلك جلد أبا بكرة لما لم يكمل نصاب الشهادة مع أنه جاء شاهدا في مجلس الحكم لا قاذفا لكنه قاسه على القاذف وقال علي رضي الله عنه اجتماع رأيي ورأي عمر في أم الولد أن لا تباع ورأيت الآن بيعهن فهو تصريح بالقول بالرأي
وكذلك عهد عمر إلى أبي موسى الأشعري أعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك ومن ذلك قول عثمان لعمر رضي الله عنهما في بعض الأحكام إن اتبعت رأيك فرأيك أسد وإن تتبع رأي من قبلك فنعم الرأي كان فلو كان في المسألة دليل قاطع لما صوبهما جمعا
وقال عثمان وعلي رضي الله عنهما في الجمع بين الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية وقضى عثمان بتوريث المبتوتة بالرأي
ومن ذلك قول علي رضي الله عنه في حد الشرب من شرب هذي ومن هذي افترى فأرى عليه حد المفتري وهو قياس للشرب على القذف لأنه مظنة القذف التفاتا إلى أن الشرع قد ينزل مظنة الشيء منزلته كما أنزل النوم منزلة الحدث والوطء في إيجاب العدة منزلة حقيقة شغل الرحم ونظائره ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا
وكان ابن مسعود يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول الأمر في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين فإن لم يكن شيء من ذلك فاجتهد رأيك
ومن ذلك قول معاذ بن جبل للنبي صلى الله عليه وسلم أجتهد رأيي عند فقد الكتاب والسنة فزكاة النبي صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك قول ابن عباس لمن قضى بتفاوت الدية في الأسنان لاختلاف منافعها كيف لم يعتبروا بالأصابع
____________________

(1/287)


وقال في العول من شاء باهلته الحديث ولما سمع نهيه عن بيع الطعام قبل أن يقبض قال لا أحسب كل شيء إلا مثله وقال في المتطوع إذا بدا له الإفطار أنه كالمتبرع أراد التصدق بمال فتصدق ببعضه ثم بدا له
ومن ذلك قول زيد في الفرائض والحجب وميراث الجد ولما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين قال ابن عباس أين وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي فقال زيد أقول برأيي وتقول برأيك فهذا وأمثاله مما لا يدخل تحت الحصر مشهور وما من مفت إلا وقد قال بالرأي ومن لم يقل فلانه أغناه غيره عن الاجتهاد ولم يعترض عليهم في الرأي فانقعد اجماع قاطع على جواز القول بالرأي
وجه الاستدلال أنه في هذه المسائل التي اختلفوا واجتهدوا فيها فلا يخلوا إما أن يكون فيها دليل قاطع لله على حكم معين أو لم يكن فإن لم يكن وقد حكموا بما ليس بقاطع فقد ثبت الاجتهاد وإن كان فمحال إذ كان يجب على من عرف الدليل القاطع أن لا يكتمه ولو أظهره وكان قاطعا لما خالفه أحد ولو خالفه لوجب تفسيقه وتأثيمه ونسبته إلى البدعة والضلال ولوجب منعه من الفتوى ومنع العامة من تقليده هذا أقل ما يجب فيه إن لم يجب قتله وقد قال به قوم وإن كنا لا نراه وعلى الجملة فلو كان فيها دليل قاطع لكان المخالف فاسقا وكان المحق بالسكوت عن المخالف وترك دعوته إلى الحق فاسقا فيعم الفسق جميع الصحابة بل يعم العباد جميعهم وليس هذا كالعقليات فإن أدلتها غامضة قد لا يدركها بعض الخلق فلا يكون معاندا أما القاطع الشرعي فهو نص ظاهر وقد قال أهل الظاهر إنما يحكم بنص منطوق به أو بدليل ظاهر فيما ليس منطوقا به لا يحتمل التأويل كقوله تعالى { وورثه أبواه فلأمه الثلث } النساء 11 فمعقول هذا أن لأبيه الثلثين وقوله تعالى { فاسعوا إلى ذكر الله } الجمعة 9 فمعقوله تحريم التجارة والجلوس في البيت وقوله { ولا تظلمون فتيلا } النساء 77 و { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الزلزلة 7 و { فلا تقل لهما أف } الإسراء 23 فلم يرخص في الحكم في المسكوت عنه إلا في هذا الجنس ولا يخفى هذا على عامي فكيف خفي على الصحابة رضي الله عنهم مع جلالة قدرهم حتى نشأ الخلاف بينهم في المسائل هذا تمهيد الدليل وتمامه بدفع الاعتراضات وقد يعترض الخصم عليه تارة بإنكار كون الإجماع حجة وهو قول النظام وقد فرغنا من إثباته وتارة بإنكار تمام الإجماع في القياس من حيث أن ما ذكرناه منقول عن بعضهم وليس للباقين إلا السكوت وقد نقلوا عن بعضهم إنكار الرأي وتارة يسلمون السكوت لكن حملوه على المجاملة في ترك الاعتراض لا على الموافقة في الرأي وتارة يقرون بالإجماع ولا يكترثون بتفسيق الصحابة وتارة يردون رأيهم إلى العمومات ومقتضى الألفاظ وتحقيق مناط الحكم دون القياس فهذه مدارك اعتراضتهم وهي خمسة الاعتراض الأول قال الجاحظ حكاية عن النظام إن الصحابة لو لزموا العمل بما أمروا به ولم يتكلفوا ما كفوا القول فيه من أعمال الرأي والقياس لم يقع بينهم التهارج والخلاف ولم يسفكوا الدماء لكن لما عدلوا عما كلفوا وتخيروا وتآمروا وتكلفوا القول بالرأي جعلوا الخلاف طريقا وتورطوا فيما كان بينهم من القتل والقتال وكذلك الرافضة
____________________

(1/288)


بأسرهم زعموا أن السلف بأسرهم تآمروا وغصبوا الحق أهله وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم المحيط بجميع النصوص المحيطة بالأحكام إلى القيامة فتورطوا فيما شجر بينهم من الخلاف وهذا اعتراض من عجز عن إنكار اتفاقهم على الرأي ففسق وضل ونسبهم إلى الصلال ويدل على فساد قوله ما دل على أن الأمة لا تجتمع على الخطأ وما دل على منصب الصحابة رضوان الله عليهم من ثناء القرآن والأخبار عليهم كما تتركز في كتاب الإمامة وكيف يعتقد العاقل القدح فمن أثنى الله ورسوله عليهم بقول مبتدع مثل النظام
الاعتراض الثاني قولهم لا يصح الرأي والقياس إلا من بعضهم وكذلك السكوت لا يصح إلا من بعضهم فإن فيهم من لم يخض في القياس وفيهم من لم يسكت عن الاعتراض قال النظام فيما حكاه الجاحظ عنه إنه لم يخض في القياس إلا نفر يسير من قدمائهم كأبي بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل ونفر يسير من أحداثهم كابن مسعود وابن عباس وابن الزبير ثم شرع في ثلب العبادلة وقال كأنهم كانوا أعرف بأحوال النبي عليه السلام من آبائهم وأثنى على العباس والزبير إذ تركا القول بالرأي ولم يشرعا وقال الداودية لا نسلم سكوت جميعهم عن إنكار الرأي والتخطئة فيه إذ قال أبو بكر أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي وقال أقول في الكلالة برأيي فإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان وقالعلي لعمر رضي الله عنهما في قصة الجنين إن اجتهدوا فقد أخطأوا وإن لم يجتهدوا فقد غشوا وقالت عائشة رضي الله عنها أخبروا زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب لفتواه بالرأي في مسألة العينة
وقال ابن عباس من شاء باهلته إن الله لم يجعل في المال النصف والثلثين وقال ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا وقال ابن مسعود في مسألة المفوضة إن يك خطأ فمني ومن الشيطان وقال عمر إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا
وقال علي وعثمان رضي الله عنهما لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره وقال عمر رضي الله عنه اتهموا الرأي على الدين فإن الرأي منا تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا وقال أيضا إن قوما يفتون بآرائهم ولو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون وقال ابن مسعود قراؤكم وصلحاؤكم يذهبون ويتخذ الناس رؤساء جهالا يقيسون ما لم يكن بما كان وقال أيضا إن حكمتم في دينكم بالرأي أحللتم كثيرا مما حرمه الله وحرمتم كثيرا مما أحله الله وقال ابن عباس إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه وقال الله تعالى لنبيه عليه السلام { لتحكم بين الناس بما أراك الله } النساء 105 ولم يقل بما رأيت وقال إياكم والمقاييس فما عبدت الشمس إلا بالمقاييس
وقال ابن عمر ذروني من أرأيت وأرأيت وكذلك أنكر التابعون القياس
قال الشعبي ما أخبروك عن أصحاب أحمد فأقبله وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الجش أن السنة لم توضع بالمقاييس وقال مسروق بن الأجدع لا أقيس شيئا بشيء أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها والجواب من أوجه الأول أنا بينا بالقواطع من جميع الصحابة الاجتهاد
____________________

(1/289)


والقول بالرأي والسكوت عن القائلين به وثبت ذلك بالتواتر في وقائع مشهورة كميراث الجد والأخوة وتعيين الإمام بالبيعة وجمع المصحف والعهد إلى عمر الخلافة وما لم يتواتر كذلك فقد صح من آحاد الوقائع بروايات صحيحة لا ينكرها أحد من الأمة ما أورث علما ضروريا بقولهم بالرأي وعرف ذلك ضرورة كما عرف سخاء حاتم وشجاعة علي فجاوز الأمر حدا يمكن التشكك في حكمهم بالاجتهاد وما نقلوه بخلافه فأكثرها مقاطيع ومروية عن غير ثبت وهي بعينها معارضة برواية صحيحة عن صاحبها بنقيضه فكيف يترك المعلوم ضرورة بما ليس مثله ولو تساوت في الصحة لوجب إطراح جميعها والرجوع إلى ما تواتر مشاورة الصحابة واجتهادهم
الثاني أنه لو صحت هذه الروايات وتواترت أيضا لوجب الجمع بينها وبين المشهور من اجتهاداتهم فيحمل ما أنكروه على الرأي المخالف للنص أو الرأي الصادر عن الجهل الذي يصدر ممن ليس أهلا للاجتهاد أو وضع الرأي في غير محله والرأي الفاسد الذي لا يشهد له أصل ويرجع إلى محض الاستحسان ووضع الشرع ابتداء من غير نسخ على منوال سابق وفي ألفاظ روايتهم ما يدل عليه إذ قال اتخذ الناس رؤساء جهالا وقال لو قالوا بالرأي لحرموا الحلال وأحلوا الحرام فإذا القائلون بالقياس مقرون بإبطال أنواع من الرأي والقياس والمنكرون للقياس لا يقرون بصحة شيء منه أصلا ونحن نقر بفساد أنواع من الرأي والقياس كقياس أصحاب الظاهر إذا قالوا الأصول لا تثبت قياسا فلتكن الفروع كذلك ولا تثبت الأصول بالظن فكذلك الفروع وقالوا لو كان في الشريعة علة لكانت كالعلة العقلية فقاسوا الشيء بما لا يشبهه فإذا إن بطل كل قياس فليبطل قياسهم ورأيهم في إبطال القياس أيضا وذلك يؤدي إلى إبطال المذهبين
الاعتراض الثالث أن دليل الإجماع إنما تم بسكوت الباقين وإن ذلك لو كان باطلا لأنكروه فنقول لعلهم سكتوا على سبيل المجاملة والمصالحة خيفة من ثوران فتنة النزاع أو سكتوا عن إظهار الدليل لخفائه والدليل عليه أن مسائل الأصول فيها قواطع وقد اختلف الأصوليون في صيغة الأمر وصيغة العموم والمفهوم واستصحاب الحال وأفعال النبي عليه السلام بل في أصل خبر الواحد وأصل القياس وأصل الأجماع وفي هذه المسائل أدلة قاطعة عندكم في النفي والإثبات ولم ينقل عن الصحابة والتابعين التأثيم والتفسيق فيها والجواب أن حمل سكوتهم على المجاملة والمصالحة واتقاء الفتنة محال لأنهم اختلفوا في المسائل وتناظروا وتحاجوا ولم يتجاملوا ثم افترقت بهم المجالس عن اجتهادات مختلفة ولم ينكر بعضهم على بعض ولو كان ذلك بالغا مبلغا قطعيا لبادروا إلى التأثيم والتفسيق كما فعلوا بالخوارج والروافض والقدرية وكل من عرف بقاطع فساد مذهبهم وأما سكوتهم لخفاء الدليل فمحال فإن قول القائل لغيرة لست شارعا ولا مؤذونا من جهة الشارع فلم تضع أحكام الله برأيك ليس كلاما خفيا عجز عن دركه الإفهام وكل من قاس بغير إذن فقد شرع فلولا علمهم حقيقة بالأذن لكانوا ينكرون على من يسامي رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضع الشرع واختراع الأحكام وأما ما ذكروه من مسائل الأصول فليس بين الصحابة خلاف في صحة القياس ولا في خبر الواحد ولا في الإجماع بل أجمعوا عليه
____________________

(1/290)


وبإجماعهم تمسكنا في هذه القواعد وأما العموم والمفهوم وصيغة الأمر فقلما خاضوا في هذه المسائل بتجريد النظر فيما خوض الأصوليين ولكن كانوا يتمسكون في مناراتهم بالعموم والصيغة ولم يذكروا أنا نتمسك بمجرد الصيغة من غير قرينة بل كانت القرائن المعرفة للأحكام المتقرنة بالصيغ في زمانهم غضة طرية متوافرة متظاهرة فما جردوا النظر في هذه المسائل كيف وقد قال بعض الفقهاء ليس في هذه المسائل سوى خبر الواحد وأصل القياس والإجماع أدلة قاطعة بل هي في محل الاجتهاد فمن سلك هذا الطريق اندفع عنه الإشكال وإن لم يكن هذا مرضيا عند المحققين من الأصوليين فإن هذه أصول الأحكام فلا ينبغي أن تثبت إلا بقاطع لكن الصحابة لم يجردوا النظر فيها وبالجملة من اعتقد في مسألة دليلا قاطعا فلا يسكت عن تعصية مخالفة وتأثيمه كما سبق في حق الخوارج والروافض والقدرية
الاعتراض الرابع قولهم إن ما ذكرتموه نقل للحكم بالظن والاجتهاد فلعلهم عولوا فيه على صيغة عموم وصيغة أمر واستصحاب حال ومفهوم لفظ واستنباط معنى صيغة من حيث الوضع واللغة في جمع بين آيتين وخبرين وصحة رد مقيد إلى مطلق وبناء عام على خاص وترجيح خبر على خبر وتقرير على حكم العقل الأصلي وما جاوز هذا كان اجتهادهم في تحقيق مناط الحكم لا في تنقيحه واستنباطه والحكم إذا صار معلوما بضابط فتحقيق الضابط في كل محل يحتاج إلى اجتهاد لا ننكره فقد علموا قطعا أنه لا بد من إمام وعلموا أن الأصلح ينبغي أن يقدم وعرفوا بالاجتهاد الأصلح إذ لا بد منه ولا سبيل إلى معرفته إلا بالاجتهاد وعرفوا أن حفظ القرآن عن الاختلاط والنسيان واجب قطعا وعلموا أنه لا طريق إلى حفظه إلا الكتبة في المصحف فهذه أمور علقت على المصلحة نصا وإجماعا ولا يمكن تعيين المصلحة في الأشخاص والأحوال إلا بالاجتهاد فهو من قبيل تحقيق المناط للحكم وما جاوز هذا من تشبيه مسألة بمسألة واعتبارها بها كان ذلك في معرض النقض بخيال فاسد لا في معرض اقتباس الحكم كقول ابن عباس في دية الأسنان كيف لم يعتبروا بالأصابع إذ عللوا اختلاف دية الأسنان باختلاف منافعها وذلك منقوض بالأصابع ونحن لا ننكر أن النقض من طرق إفساد القياس وإن كان القياس فاسدا بنفسه أيضا وكذلك قول علي أيضا أرأيت لو اشتركوا في السرقة حيث توقف عمر عن قتل سبعة بواحد فإنه لما تخيل كون الشركة مانعا بنوع من القياس نقضه علي بالسرقة فإذا ليس في شيء مما ذكرتموه ما يصحح القياس أصلا
والجواب أن هذا اعتراف بأنه لا حاجة في الحكم إلى دليل قاطع وأن الحكم بالظن جائز والإنصاف الاعتراف بأنه لو لم يثبت إلا هذا النوع من الظن لكنا لا نقيس ظن القياس على ظن الاجتهاد في مفهوم الألفاظ وتحقيق مناط الأحكام إذ يجوز أن يتعبد بنوع من الظن دون نوع ولكن بان لنا على القطع أن اجتهاد الصحابة لم يكن مقصورا على ما ذكروه بل جاوزوا ذلك إلى القياس والتشبيه وحكموا بأحكام لا يمكن تصحيح ذلك إلا بالقياس تعليل النص وتنقيح مناط الحكم وذلك كعهد أبي بكر إلى عمر رضي الله عنهما فإنه قاس العهد
____________________

(1/291)


على العقد بالبيعة وقياس أبي بكر الزكاة على الصلاة في قتال من منع الزكاة ورجوع أبي بكر إلى توريث أم الأب قياسا على أم الأم وقياس عمر الخمر على الشحم في تحريم ثمنه وقياسه الشاهد على القاذف في حد أبي بكرة وتصريح علي بالقياس على الإفتراء في حد الشرب ولسنا نعني بالقياس إلا هذا الجنس وهو معلوم منهم ضرورة في وقائع لا تحصى ولا تنحصر ولنعين مسألتين مشهورتين نقلنا على التواتر وهي مسألة الجد والأخوة ومسألة الحرام أما في قوله أنت علي حرام ألحقه بعضهم بالظهار وبعضهم بالطلاق وبعضهم باليمين وكل ذلك قياس وتشبيه في مسألة لا نص فيها إذ النص ورد في المملوكة في قوله تعالى { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } التحريم 1 والنزاع وقع في المنكوحة فكان من حقهم أن يقولوا هذه لفظة لا نص في النكاح فلا حكم لها ويبقى الحل والملك مستمرا كما كان لأن قطع الحل والملك أو إيجاب الكفارة يعرف بنص أو ياس على منصوص ولا نص والقياس باطل فلا حكم فلم قاسوا المنكوحة على الأمة ولم قاسوا هذا اللفظ على لقظ الطلاق وعلى لفظ الظهار وعلى لفظ اليمين ولم يقل أحد من الصحابة قد أغناكم الله عن إثبات حكم في مسألة لا نص فيها وكذلك الجد وحده عصبة بالنص والأخ وحده عصبة ولا نص عند الاجتماع فقضوا حيث لا نص بقضايا مختلفة وصرحوا بالتشبيه بالحوضين والخليجين وصرح من قدم الجد وقال ابن الابن ابن فليكن أبو الأب أبا وصرح من سوى بينهما بأن الأخ يدلي بالأب والجد أيضا يدلي به والمدلي به واحد والإدلاء مختلف فقاسوا الإدلاء بجهة الأبوة على الإدلاء بجهة البنوة مع أن البنوة قد تفارق الأبوة في أحكام وكذلك قال زيد في مسألة زوج وأبوين للأم ثلث ما بقي فقال ابن عباس أين رأيت في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي فقال أقول برأيي وتقول برأيك فزيد قاس حال وجود الزوج على ما إذا لم يكن زوج
إذ يكون للأب ضعف ما للأم فقال نقدر كأن الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال ونقدر كأن الزوج لم يكن وكذلك من فتش عن اختلافاتهم في مسائل الفرائض وغيرها علم ضرورة سلوكم طرق المقايسة والتشبيه وأنهم إذا رأوا فارقا بين محل النص وغيره ورأوا جامعا وكان الجامع في اقتضاء الاجتماع أقوى في القلب من الفارق في اقتضاء الافتراق مالوا إلى الأقوى الأغلب فإنا نعلم أنهم ما طلبوا المشابهة من كل وجه إذ لو تشابها من كل وجه لأتحدت المسألة ولم تتعدد فيبطل التشبيه والمقايسة وكانوا لا يكتفون بالإشتراك في أي وصف كان بل في وصف هو مناط الحكم وكون ذلك الوصف مناطا لو عرفوه بالنص لما بقي للاجتهاد والخلاف مجال فكانوا يدركون ذلك بظنون وأمارات ونحن أيضا نشترط ذلك في كل قياس كما سيأتي في باب إثبات علة الأصل
الاعتراض الخامس أن الصحابة إن قالوا بالقياس اختراعا من تلقاء أنفسهم فهو محال وإن قالوا به عن سماع من النبي عليه السلام فيجب إظهار مستندهم والتمسك به فإنكم تسلمون أنه لا حجة فيما أبدعوه ووضعوه ونحن نسلم وجوب الإتباع فيما سمعوه فإنه إذا قال عليه السلام إذا غلب على ظنكم أن مناط الحكم بعض الأوصاف فاتبعوه فإن الأمر كما ظننتموه أو حكم الظان على ما ظنه فهي علامة في حقه وغير علامة في حق من ظنه
____________________

(1/292)


بخلافه فلا ينكر وجوب قبول هذا لو صرح به فإنه إذا قال إذا ظننتم أن زيدا في الدار فاعلموا أن عمرا في الدار واعلموا أني حرمت الربا في البر لكنا نقطع بتحريم البر وكون عمرو في الدار مهما ظننا أن زيدا في الدار فإن هذا يرجع إلى القول بالقياس ولكن من أين فهم الصحابة هذا وليس في الكتاب والسنة ما يدل عليه
والجواب من وجهين أحدهما أن هذه مؤونة كفيناها فإنهم مهما أجمعوا على القياس فقد ثبت بالقواطع أن الأمة لا تجتمع على الخطأ بل لو وضعوا القياس واخترعوا استصوابا برأيهم ومن عند أنفسهم لكان ذلك حقا واجب الإتباع فلا يجمع الله أمة محمد عليه السلام على الخطأ فلا حاجة بنا إلى البحث عن مستندهم
الثاني هو أنا نعلم أنهم قالوا ذلك عن مستندات كثيرة خارجة عن الحصر وعن دلالات وقرائن أحوال وتكريرات وتنبيهات تفيد علما ضروريا بالتعبد وبالقياس وربط الحكم بما غلب على الظن كونه مناطا للحكم لكن انقسمت تلك المستندات إلى ما اندرس فلم ينقل اكتفاء بما علمته الأمة ضرورة وإلى ما نقل ولكن لم يبق في هذه الأعصار إلا نقل الآحاد لم يبق على حد التواتر ولا يورث العلم وإلى ما تواتر ولكن آحاد لفظها يتطرق الاحتمال والتأويل إليه فلا يحصل العلم بآحادها وإلى ما هي قرائن أحوال يعسر وصفها ونقلها فلم ينقل إلينا فكفينا مؤونة البحث عن المستند لما علمناه عل التواتر من إجماعهم ونحن مع هذا نشبع القول في شرح مستندات الصحابة والألفاظ التي هي مدارك تنبيهاتهم للتعبد بالقياس وذلك من القرآن وقوله تعالى { فاعتبروا يا أولي الأبصار } الحشر 2 إذ معنى الاعتبار العبور من الشيء إلى نظيره إذا شاركه في المعنى كما قال ابن عباس هلا اعتبروا بالأصابع وقوله تعالى { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } النساء 83 وقوله { ما فرطنا في الكتاب من شيء } الأنعام 38 وليس في الكتاب مسألة الجد والأخوة ومسألة الحرام إذا لم يكن الاقتباس من المعاني التي في الكتاب وقد تمسك القائلون بالقياس بهذه الآيات وليست مرضية لأنها ليست بمجردها نصوصا صريحة إن لم تنضم إليها قرائن ومن ذلك قوله عليه السلام لمعاذ بم تحكم قال بكتاب الله وسنة نبيه قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي فقال الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه رسول الله وهذا حديث تلقته الأمة بالقبول ولم يظهر أحد فيه طعنا وإنكارا وما كان كذلك فلا يقدح فيه كونه مرسلا بل لا يجب البحث عن إسناده وهذا كقوله لا وصية لوارث ولا تنكح المرأة على عمتها ولا يتوارث أهل ملتين وغير ذلك مما علمت به الأمة كافة إلا أنه نص في أصل الاجتهاد ولعله في تحقيق المناط وتعيين المصلحة فيما علق أصله بالمصلحة فلا يتناول القياس إلا بعمومه ومن ذلك قوله لعمر حين تردد في قبلة الصائم أرأيت لو تمضمضت أكان عليك من جناح فقال لا فقال فلم إذا فشبه مقدمة الوقاع بمقدمة الشرب لكنه ليس بصريح إلا بقرينه إذ يمكن أن يكون ذلك نقضا لقياسه حيث ألحق مقدمة الشيء بالشيء فقال إن كنت تقيس غير المنصوص على المنصوص لأنه مقدمته فألحق المضمضة بالشرب ومن ذلك قوله عليه السلام للخثعمية أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء فهو تنبيه على قياس دين الله تعالى على دين الخلق ولا بد من قرينة تعرف القصد أيضا إذ لو كان لتعلم القياس لقيس عليه السلام الصوم والصلاة ومن ذلك قوله عليه السلام كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي لأجل الدافة أي القافلة فادخروا فبين أنه وان سكت عن العلة فقد كان النهي لعلة وقد زالت العلة فزال الحكم ومن ذلك قوله عليه السلام أينقض الرطب إذا يبس فقيل نعم قال فلا إذا وقوله تعالى { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم }
____________________

(1/293)


الحشر 7 وقال لأم سلمة وقد سئلت عن قبلة الصائم ألا أخبرتيه أني أقبل وأنا صائم تنبيها على قياس غيره عليه وروت أم سلمة رضي الله عنها أنه قال أني أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي ودل عليه قوله تعالى { لتحكم بين الناس بما أراك الله } النساء 105 وليس الرأي إلا تشبيها وتمثيلا بحكم ما هو أقرب إلى الشيء وأشبه به وإذا ثبت أنه كان مجتهدا بالأمر وثبت اجتهاد الصحابة فيعلم أنهم اجتهدوا بالأمر وقال عمر يا أيها الناس إن الرأي كان من النبي عليه السلام مصيبا فإن الله تعالى كان يسدده وإنما هو منا الظن والتكلف فلم يفرق إلا في العصمة ومن ذلك أمره سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه فأمرهم بالنزول على حكمه فأمر بقتلهم وسبي نسائهم فقال عليه السلام لقد وافق حكمه حكم الله ومن ذلك قوله إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران ومن ذلك أنه عليه السلام شاور الصحابة في عقوبة الزنا والسرقة قبل نزول الحد ومن ذلك قوله عليه السلام لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها علل تحريم ثمنها بتحريم أكلها واستدل عمر بهذا في الرد على سمرة حيث أخذ الخمر في عشور الكفار وباعها ومن تعليلاته بعض الأحكام كقوله لا تخمروا رأسه فإنه يحشر ملبيا وقوله في الشهداء مثل لك وقوله أنها من الطوافين عليكم والطوافات وقوله في الذي ابتاع غلاما واستغفله ثم رده الخراج بالضمان فهذه أجناس لا تدخل تحت الحصر وآحادها لا تدل دلالة قاطعة ولكن لا يبعد تأثير اقترانها مع نظائرها في أشعار الصحابة بكونهم متعبدين بالقياس والله أعلم
القول في شبه المنكرين للقياس والصائرين إلى حظره من جهة الكتاب والسنة وهي سبع الأولى تمسكهم بقوله تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } الأنعام 38 وقوله { تبيانا لكل شيء } النحل 89 قالوا معناه بيانا لكل شيء مما شرع لكم فإنه ليس فيه بيان الأشياء كلها فليكن كل مشروع في الكتاب وما ليس مشروعا فيبقى على النفي الأصلي والجواب من أوجه الأول أنه أين في كتاب الله تعالى مسألة الجد والأخوة والعول والمبتوتة والمفوضة وأنت علي حرام وفيها حكم لله تعالى شرعي اتفق الصحابة على طلبه والكتاب بيان له إما بتمهيد طريق الاعتبار أو بالدلالة على الإجماع والسنة وقد ثبت القياس بالإجماع والسنة فيكون الكتاب قد بينه
الثاني أنكم حرمتم القياس وليس في كتاب الله تعالى بيان تحريمه فيلزمكم تخصيص قوله تعالى لكل شيء كما خصص قوله { خالق كل شيء } الأنعام 102 { وأوتيت من كل شيء } النمل 23 { تدمر كل شيء } الأحقاف 25
____________________

(1/294)



الثانية قوله تعالى { كفارة } المائدة 49 وهذا حكم بغير المنزل قلنا القياس ثابت بالسنة والإجماع وقد دل عليه الكتاب المنزل كيف ومن حكم بمعنى استنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل ثم هذا خطاب مع الرسول عليه السلام وقد قاسوا عليه غيره فأقروا بالقياس في معرض إبطال القياس مع انقداح الفرق إذ قال قوم لم يجز الاجتهاد للرسول عليه السلام كي لا يتهم ولأنه كان يقدر على التبليغ بالوحي بخلاف الأمة وهذا الجواب أيضا عن قوله { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } الأعراف 3 { ومن لم يحكم بما أنزل الله } المائدة 44
الثالثة قوله تعالى { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } البقرة 169 { ولا تقف ما ليس لك به علم } الإسراء 36 { وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } النجم 28 و { إن بعض الظن إثم } الحجرات 12 قلنا إذا علمنا أنا إذا ظننا كون زيد في الدار حرم علينا الربا في البر ثم ظننا كان الحكم مقطوعا به لا مظنونا كما إذا ظن القاضي صدق الشهود وكما في القبلة وجزاء الصيد وأبواب تحقيق مناط الحكم ثم نقول هذا عام أراد به ظنون الكفار المخالفة للأدلة القاطعة ثم نقول ألستم قاطعين بإبطال القياس مع أنا نقطع بخطئكم فلا تحكموا بالظن وليس من الجواب المرضي قول القائل الظن علم في الظاهر فإن العلم ليس له ظاهر وباطن
الرابعة قوله تعالى { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم } الأنعام 121 قالوا وأنتم تجادلون في القياس قلنا وأنتم تجادلون في نفيه وإبطاله فإن قلتم أراد به الجدال الباطل فهو عذرنا فإنه رد عليهم في جدالهم بخلاف النص حيث قالوا نأكل مما قتلناه ولا نأكل مما قتله الله وكما قاسوا الربا على البيع فرد الله تعالى عليهم في قولهم { إنما البيع مثل الربا } البقرة 275
الخامسة قوله { تعلمها } النساء 59 قالوا وأنتم تردون إلى الرأي قلنا لا بل نرده إلى العلل المستنبطة من نصوص النبي عليه السلام والقياس عبارة عن تفهم معاني النصوص بتجريد مناط الحكم وحذف الحشو الذي لا أثر له في الحكم وأنتم فقد رددتم القياس من غير رد إلى نص النبي عليه السلام ولا إلى معنى مستنبط من النص
السادسة قوله عليه السلام تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا قلنا أراد به الرأي المخالف للنص بدليل قوله ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال وما نقلوا من آثار الصحابة في ذم الرأي والقياس قد تكلمنا عليه
السابعة قول الشيعة وأهل التعليم إنكم اعترفتم ببطلان القياس بخلاف النص والنصوص محيطة بجميع المسائل وإنما يعلمها الإمام المعصوم وهو نائب الرسول فيجب
____________________

(1/295)


مراجعته قالوا ولا يمنع من هذا كون الوقائع غير متناهية وكون النصوص متناهية لأن التي لا تتناهى أحكام الأشخاص كحكم زيد وعمرو في أنه عدل تقبل شهادته أم لا وفقير تصرف إليه الزكاة أم لا ومسلم أن هذا يعرف بالاجتهاد لأنه يرجع إلى تحقيق مناط الحكم أما الروابط الكلية للأحكام فيمكن ضبطها بالنص بأن نقول مثلا من سرق نصابا كاملا من حرز مثله لا شبهة له فيه فيلزمه القطع ومن أفطر في نهار رمضان بجماع تام أثم به لأجل الصوم لزمته الكفارة فما تناولته الرابطة الجامعة يجري فيه الحكم وما خرج عنه مما لا يتناهى يبقى على الحكم الأصلي فتكون محيطة بهذه الطرق
والجواب أنا لا نسلم بطلان القياس مع النص ونسلم إمكان الربط بالضوابط والروابط الكلية لكنكم اخترعتم هذه الدعوى فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسألة الجد والحرام والمفوضة ومسائل كثيرة وكانوا يطلبون من سمع فيها حديثا من النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم المعصوم بزعمكم وكانوا يشاورونه ويراجعونه فتارة وافقوه وتارة خالفوه ولم ينقل قط حديث ولا نص إلا ساعدوه بل قبلوا النقل من كل عدل فضلا عن الخلفاء الراشدين فلم كتم النص عنهم في بعض المسائل وتركهم مختلفين إن كانت النصوص محيطة فبالضرورة يعلم من اجتهادهم واختلافهم أن النصوص لم تكن محيطة فدل هذا أنهم كانوا متعبدين بالاجتهاد
القول في شبههم المعنوية وهي ست الأولى قول الشيعة والتعليمية إن الاختلاف ليس من دين الله ودين الله واحد ليس بمختلف وفي رد الخلق إلى الظنون ما يوجب الاختلاف ضرورة الرأي منبع الخلاف فإن كان كل مجتهد مصيبا فكيف يكون الشيء ونقيضه دينا وإن كان المصيب واحدا فهو محال إذ ظن هذا كظن ذاك والطنيات لا دليل فيها بل ترجع إلى ميل النفوس ورب كلام تميل إليه نفس زيد وهو بعينه ينفر عنه قلب عمرو والدليل على ذم الاختلاف قوله تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } النساء 82 { وقال } أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه الشورى 13 { وقال } ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم الأنفام 46 وقال تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } الأنعام 159 وقال تعالى { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } آل عمران 105 وكذلك ذم الصحابة رضي الله عنهم الاختلاف فقال عمر رضي الله عنه لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان من بعدكم أشد اختلافا وسمع ابن مسعود وأبي بن كعب يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد والثوبين فصعد عمر إلى المنبر وقال اختلف رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعن أي فتياكم يصدر المسلمون لا أسمع اثنين يختلفان بعد مقامي هذا إلا فعلت وصنعت
وقال جرير بن كليب رأيت عمر ينهى عن المتعة وعلي يأمر بها فقلت إن بينكما لشرا فقال علي ما بيننا إلا خير ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين وكتب علي رضي الله عنه إلى قضاته أيام الخلافة أن اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف وأرجو أن أموت كما مات أصحابي
والجواب أن الذي نراه تصويب المجتهدين وقولهم أن الشيء ونقيضه كيف يكون دينا قلنا يجوز ذلك في حق شخصين كالصلاة وتركها في حق الحائض والطاهر والقبلة في حق من يظنها إذا اختلف الاجتهاد في القبلة وكجواز ركوب البحر وتحريمه في حق رجلين يغلب على ظن أحدهما السلامة وعلى ظن الآخر الهلاك وكتصديق الراوي والشاهد وتكذيبهما في حق قاضيين ومفتيين يظن أحدهما الصدق والآخر الكذب وأما قولهم كيف يكون الاختلاف مأمورا به قلنا بل يؤمر المجتهد بظنه وإن خالفه غيره فليس رفعه داخلا تحت اختياره فالاختلاف واقع ضرورة لا أنه أمر به وقوله تعالى { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }
____________________

(1/296)


النساء 82 معناه التناقض والكذب الذي يدعيه الملحدة أو الاختلاف في البلاغة واضطراب اللفظ الذي يتطرق إلى كلام البشر بسبب اختلاف أحواله في نظمه ونثره وليس المراد به نفي الاختلاف في الأحكام لأن جميع الشرائع والملل من عند الله وهي مختلفة والقرآن فيه أمر ونهي وإباحة ووعد ووعيد وأمثال ومواعظ وهذه اختلافات أما قوله { ولا تتفرقوا } الشورى 13 { ولا تنازعوا } فكل ذلك نهي عن الاختلاف في التوحيد والإيمان بالنبي عليه السلام والقيام بنصرته وكذلك أصول جميع الديانات التي الحق فيها واحد ولذلك قال تعالى { من بعد ما جاءهم البينات } آل عمران 105 وقوله تعالى { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } الأنفال 46 أراد به التخاذل عن نصرة الدين وأما ما رووه عن الصحابة رضي الله عنهم في ذم الاختلاف فكيف يصح وهم أول المختلفين والمجتهدين واختلافهم واجتهادهم معلوم تواترا كيف تدفعها روايات يتطرق إلى سندها ضعف وإلى متنها تأويل من النهي عن الاختلاف في أصل الدين أو نصرة الدين أو في أمر الخلافة والإمامة والخلاف بعد الإجماع أو الاختلاف على الأئمة والولاة والقضاة أو نهي العوام عن الاختلاف بالرأي وليسوا أهل الاجتهاد وأما إنكار عمر اختلاف ابن مسعود وأبي بن كعب فلعله قد كان سبق إجماع على ثوب واحد ومن خالف ظن أن انقضاء العصر شرط في الإجماع ولذلك قال عمر عن أي فتياكم يصدر المسلمون وأنتم جميعا تروون عن النبي عليه السلام أو لعل كل واحد أثم صاحبه وبالغ فيه فنهى عن وجه الاختلاف لا عن أصله أو لعلهما اختلفا على مستفت واحد فتحير السائل فقال عن أي فتياكم يصدر الناس أي العامة بل إذا ذكر المفتي في محل الاجتهاد شيئا للعامي فلا ينبغي للمفتي الآخر أن يخالفه بين يديه فيتحير السائل وأما اختلاف عمر وعلي رضي الله عنهما في تحريم المتعة فلا يصح بل صح عن علي نقله تحريم متعة النساء ولحوم الحمر الأهلية يوم خيبر كيف وقد علم قطعا أنهم جوزوا الاجتهاد أما كتاب علي إلى قضاته وكراهية الاختلاف فيحتمل وجوها أحدها أنهم ربما كتبوا إليه يطلبون رأيه في بعض الوقائع فقال اقضوا كما كنتم تقضون إذ لو خالفتموهم الآن لا نفتق به فتق آخر وحمل ذلك على تعصب مني ومخالفة ويحتمل أنهم استأذنوه في مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ظن أن العصر لم ينقرض بعد فيجوز الخلاف فكره لهم مخالفة السابقين واستأذنوه في القضاء بشهادة أهل البصرة من الخوارج وغيرهم أو ردها فأمرهم بقبولها كما كان قبل الحرب لأنهم حاربوا على تأويل وفي رد شهادتهم تعصب وتجديد خلاف

____________________

(1/297)


الثانية قولهم النفي الأصلي معلوم والاستثناء عنه بالنص معلوم فيبقى المسكوت عنه على النفي الأصلي المعلوم فكيف يندفع المعلوم على القطع بالقياس المظنون قلنا العموم والظواهر وخبر الواحد وقول المقوم في أروش الجنايات والنفقات وجزاء الصيد وصدق الشهود وصدق المخالف في مجلس الحكم كل ذلك مظنون ويرفع به النفي الأصلي ثم نقول نحن لا نرفع ذلك إلا بقاطع فإنا إذا تعبدنا بإتباع العلة المظنونة وظننا فنقطع بوجود الظن ونقطع بوجود الحكم عند الظن فلا يرفع ذلك إلا بقاطع
الثالثة قولهم كيف يتصرف بالقياس في شرع مبناه على التحكم والتعبد والفرق بين المتماثلات والجمع بين المتفرقات إذ قال يغسل الثوب من بول الصبية ويرش من بول الصبي ويجب الغسل من المني والحيض ولا يجب من البول والمذي وفرق في حق الحائض بين قضاء الصلاة والصوم وأباح النظر إلى الرقيقة دون الحرة وجمع بين المختلفات فأوجب جزاء الصيد على من قتله عمدا أو خطأ وفرق في حلق الشعر والتطيب بين العمد والخطأ وأوجب الكفارة بالظهار والقتل واليمين والأفطار وأوجب القتل على الزاني والكافر والقاتل وتارك الصلاة وقال لأبي بردة تجزىء عنك ولا تجزىء عن أحد بعدك في الأضحية
وقيل للنبي عليه السلام { خالصة لك من دون المؤمنين } الأحزاب 50 وكيف يتحاسر في شرع هذا منهاجه على إلحاق المسكوت بالمنطوق وما من نص على محل إلا ويمكن أن يكون ذلك تحكما وتعبدا قلنا لا ننكر إشتمال الشرع على تحكمات وتعبدات فلا جرم نقول الأحكام ثلاثة أقسام قسم لا يعلل أصلا وقسم يعلم كونه معللا كالحجر على الصبي فإنه لضعف عقله وقسم يتردد فيه ونحن لا نقيس ما لم يقم لنا دليل على كون الحكم معللا ودليل على عين العلة المستنبطة ودليل على وجود العلة في الفرع وعند ذلك يندفع الأشكال المذكور ولما كثرت التعبدات في العبادات لم يرتضى قياس غير التكبير والتسليم والفاتحة عليها ولا قياس غير المنصوص في الزكاة على المنصوص وإنما نقيس في المعاملات وغرامات الجنايات وما علم بقرائن كثيرة بناؤها على معان معقولة ومصالح دنيوية
الرابعة قولهم إن النبي عليه السلام قد أوتي جوامع الكلم فكيف يليق به أن يترك الوجيز المفهم ويعدل إلى الطويل الموهم فيعدل عن قوله حرمت الربا في كل مطعوم أو كل مكيل إلى عد الأشياء الستة ليرتبك الخلق في ظلمات الجهل قلنا ولو ذكر الأشياء الستة وذكر معها أن ما عداها لا ربا فيه وأن القياس حرام فيه لكان ذلك أصرح وللجهل والاختلاف أدفع فلم لم يصرح وقد كان قادرا ببلاغته على قطع الاحتمال للألفاظ العامة والظواهر وعلى أن يبين الجميع في القرآن المتواتر ليحسم الاحتمال عن المتن والسند جميعا وكان قادرا على رفع احتمال التشبيه في صفات الله تعالى بالتصريح بالحق في جميع ما وقع الخلاف فيه في العقليات وإذا لم يفعل فلا سبيل إلى التحكم على الله ورسوله فيما صرح ونبه وطول وأوجز والله أعلم بأسرار ذلك كله ثم نقول إن علم الله تعالى لطفا وسرا في تعبد العلماء بالاجتهاد وأمرهم بالتشمير عن ساق الجد في استنباط أسرار الشرع فيتعين عليه أن يذكر البعض ويسكت عن البعض وينبه عليها تنبيها يحرك الدواعي للاجتهاد { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات }
____________________

(1/298)


( المجادلة 11 ) هذا على مذهب من يوجب الصلاح وعندنا فلله تعالى أن يفعل بعباده ما يشاء
الخامسة قولهم أن الحكم يثبت في الأصل بالنص لا بالعلة فكيف يثبت في الفرع بالعلة وهو تابع للأصل فكيف يكون ثبوت الحكم فيه بطرق سوى طريق الأمل وأن ثبت في الأصل بالعلة فهو محال لأن النص قاطع والعلة مظنونة والحكم مقطوع به فكيف يحال المقطوع به على العلة المظنونة قلنا الحكم في الأصل يثبت بالنص وفائدة استنباط العلة المظنونة إما تعدية العلة وأما الوقوف على مناط الحكم المظنون للمصلحة وأما زوال الحكم عند زوال المناط كما سيأتي في العلة القاصرة وأما الحكم في الفرع وإن كان تابعا للأصل في الحكم فلا يلزم أن يتبعه في الطريق فإن الضروريات والمحسوسات أصل للنظريات ولا يلزم مساواة الفرع لها في الطريق وإن لزمت المساواة في الحكم
السادسة وهي عمدتهم الكبرى أن الحكم لا يثبت إلا بتوقيف والعلة غايتها أن تكون منصوصا عليها فلو قال الشارع اتقوا الربا في كل مطعوم فهو توقيف عام ولو قال اتقوا الربا في البر لأنه مطعوم فهذا لا يساويه ولا يقتضي الربا في غير البر كما لو قال المالك أعتق من عبيدي كل أسود عتق كل أسود فلو قال أعتق غانما لسواده أو لأنه أسود لم يعتق جميع عبيده السود وكذلك لو علل بمخيل وقال أعتقوا غانما لأنه سيء الخلق حتى أتخلص منه لم يلزم عتق سالم وإن كان أسوأ خلقا منه فإذا كانت العلة المنصوصة لا يمكن تعديتها لقصور لفظها فالمستنبطة كيف تعدى أو كيف يفرق بين كلام الشارع وبين كلام غيره في الفهم وإنما منهاج الفهم وضع اللسان وذلك لا يختلف
والجواب أن نفاة القياس ثلاث فرق وهذا لا يستقيم من فريقين وإنما يستقيم من الفريق الثالث
إذ منهم من قال التنصيص على العلة كذكر اللفظ العام فإنه لا فرق بين قوله حرمت الخمر لشدتها وبين قوله حرمت كل مشتد في أن كل واحد يوجب تحريم النبيذ لكن بطريق اللفظ لا بطريق القياس بل فائدة قوله لشدتها إقامة الشدة مقام الإسم العام فقد أقر هذا القائل بالإلحاق وإنما أنكر تسميته قياسا
الفريق الثاني من القاشانية والنهروانية فإنهم أجازوا القياس بالعلة المنصوصة دون المستنبطة فقالوا إذا كشف النص أو دليل آخر عن الأصل كانت العلة جامعة للحكم في جميع مجاريها وما فارقهم الفريق الأول إلا في التسمية حيث لم يسموا هذا الفن قياسا والفريقان مقران بأن هذا في العتق والوكالة لا يجري فلا يصح منهما الاستشهاد مع الإقرار بالفرق
أما الفريق الثالث وهو من أنكر الإلحاق مع التنصيص على العلة فتستقيم لهم هذه الحجة
وجوابهم من ثلاثة أوجه الأول أن الصيرفي من أصحابنا يتشوف إلى التسوية فقال لو قال أعتقت هذا العبد لسواده فاعتبروا وقيسوا عليه كل أسود لعتق كل عبد أسود وهو وزان مسألتنا إذا أمر بالقياس والاعتبار ولو لم يثبت التعبد به لكان مجرد التنصيص على العلة لا يرخص في الإلحاق إذ يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة ومنهم من قال إن علم قطعا قصده إلى عتقه لسواده عتق كل عبد أسود بقوله أعتقت غانما لسواده ومنهم من قال لا يكفي أن يعلم قصده عتقه بمجرد السواد ما لم ينو بهذا اللفظ عتق جميع السودان فإن نوى كفاه هذا اللفظ لإعتاق جميع السودان مع النية ولم يكن فيه إلا إرادته معنى عاما بلفظ خاص وذلك غير منكر كما لو قال والله لا أكلت لفلان خبزا ولا شربت من مائة جرعة ونوى به دفع المنة حنث بأخذ الدراهم والثياب والأمتعة وصلح اللفظ الخاص مع هذه النية للمعنى العام كما صلح قوله تعالى { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما }
____________________

(1/299)


النساء 10 للنهي عن الإتلاف العام وقوله { فلا تقل لهما أف } الإسراء 23 للنهي عن الإيذاء العام فإذا استتب لهؤلاء الفرق التسوية بين الخطابين فإنهم إنما يعممون الحكم إذا دل الدليل على إرادة الشرع تعليق الحكم المجردة ولكنه غير مرضي عندنا بل الصحيح أنه لا يعتق إلا غانم بقوله أعتقت غانما لسواده وإن نوى عتق السودان لأنه يبقى في حق غير غانم مجرد النية والإرادة فلا تؤثر
الوجه الثاني من الجواب أن الأمة مجمعة على الفرق إذ تجب التسوية في الحكم مهما قال حرمت الخمر لشدتها فقيسوا عليها كل مشتد ولو قال أعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه كل أسود اقتصر العتق على غانم عند الأكثرين فكيف يقاس أحدهما على الآخر مع الاعتراف بالفرق وإنما اعترفوا بالفرق لأن الحكم لله في أملاك العباد وفي أحكام الشرع وقد علق أحكام الأملاك حصولا وزوالا بالألفاظ دون الإرادات المجردة وأما أحكام الشرع فتتبت بكل ما دل على رضا الشرع وإرادته من قرينة ودلالة وإن لم يكن لفظا بدليل أنه لو بيع مال لتاجر بمشهد منه بأضعاف ثمنه فاستبشر وظهر أثر الفرح عليه لم ينفذ البيع إلا بتلفظه بإذن سابق أو إجازة لاحقة عند أبي حنيفة ولو جرى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل فسكت عليه دل سكوته على رضاه وثبت الحكم به فكيف يتساويان بل ضيق الشرع تصرفات العباد حتى لم تحصل أحكامها بكل لفظ بل ببعض الألفاظ فإنه لو قال الزوج فسخت النكاح وقطعت الزوجية ورفعت علاقة الحل بيني وبين زوجتي لم يقع الطلاق ما لم ينو الطلاق فإذا تلفظ بالطلاق وقع وإن نوى غير الطلاق فإذا لم تحصل الأحكام بجميع الألفاظ بل ببعضها فكيف تحصل بما دون اللفظ مما يدل على الرضا
الوجه الثالث أن قول القائل لا تأكل هذه الحشيشة لأنها سم ولا تأكل الهليلج فإنه مسهل ولا تأكل العسل فإنه حار ولا تأكل أيها المفلوج القثاء فإنه بارد ولا تشرب الخمر فإنه يزيل العقل ولا تجالس فلانا فإنه أسود فأهل اللغة متفقون على أن معقول هذا التعليل تعدى النهي إلى كل ما فيه العله هذا مقتضى اللغة وهذا أيضا مقتضاه في العتق لكن التعبد منع من الحكم بالعتق بالتعليل بل لا بد فيه من اللفظ الصريح المطابق للمحل ولا مانع منه في الشرع إذ كل ما عرف بإشارة وأمارة وقرينة فهو كما عرف باللفظ فكيف يستويان مع الإجماع على الفرق لأن المفرق بين المتماثلات كالجامع بين المختلفات فمن أثبت الحكم للخلافين يتعجب منه ويطلب منه الجامع ومن فرق بين المثلين يتعجب منه لماذا فرق بينهما فإن قيل إن قال من تجب طاعته بع هذه الدابة لجماحها وبع هذا العبد لسوء خلقه فهل يجوز للمأمور بيع ما شاركه في العلة فإن قلتم
____________________

(1/300)


يجوز فقد خالفتم الفقهاء وإن منعتم فما الفرق بين كلامه وبين كلام الشارع مع الاتفاق في الموضعين وإن ثبت تعبد في لفظ العتق والطلاق بخصوص الجهة فلم يثبت في لفظ الوكالة
قلنا أن كان قد قال له إن ما ظهر لك إرادتي إياه أو رضاي به بطرق الاستدلال دون صريح اللفظ فافعله فله أن يفعل ذلك وهو وزان حكم الشرع لكن يشترط أمر آخر وهو أن يقطع بأنه أمر ببيعه لمجرد سوء الخلق لا لسوء الخلق مع القبح أو مع الخرق في الخدمة فإنه قد يذكر بعض أوصاف العلة فإن لم يعلم قطعا ولكن ظنه ظنا فينبغي أن يكون قد قال له ظنك نازل منزلة العلم في تسليطك على التصرف فإن اجتمع هذه الشروط جاز التصرف وهو وزان مسألتنا فإن قيل وإن كان الشارع قد قال ما عرفتموه بالقرائن والدلائل من رضاي وإرادتي فهو كما عرفتموه بالصريح فلم يقل إني إذا ذكرت علة شيء ذكرت تمام أوصافه فلعله علل تحريم الخمر بشدة الخمر وتحريم الربا بطعم البر خاصة لا للشدة المجردة ولله أسرار في الأعيان فقد حرم الخنزير والميتة والدم والموقوذة والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير لخواص لا يطلع عليها فلم يبعد أن يكون لشدة الخمر من الخاصية ما ليس لشدة النبيذ فبماذا يقع الأمر عن هذا وهذا أوقع كلام في مدافعة القياس والجواب أن خاصة المحل قد يعلم ضرورة سقوط اعتبارها كقوله أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أولى بمتاعه إذ يعلم أن المرأة في معناه وقوله من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي فالأمة في معناه لأنا عرفنا بتصفح أحكام العتق والبيع وبمجموع إمارات وتكريرات وقرائن أنه لا مدخل للأنوثة في البيع والعتق وقد يعلم ذلك ظنا بسكون النفس إليه وقد عرفنا أن الصحابة رضي الله عنهم عولوا على الظن فعلمنا أنهم فهموا من النبي عليه السلام قطعا إلحاق الظن بالقطع ولولا سيرة الصحابة لما تجاسرنا عليه وقد اختلفوا في مسائل ولو كانت قطيعة لما اختلفوا فيها فعلمنا أن الظن كالعلم أما حيث انتفى الظن والعلم وحصل الشك فلا يقدم على القياس أصلا
مسألة ( العلة المنصوصة ) قال النظام العلة المنصوصة توجب الإلحاق لكن لا بطريق القياس بل بطريق اللفظ والعموم إذ لا فرق في اللغة بين قوله حرمت كل مشتد وبين قوله حرمت الخمر لشدتها وهذا فاسد لأن قوله حرمت الخمر لشدتها لا يقتضي من حيث اللفظ والوضع إلا تحريم الخمر خاصة ولا يجوز إلحاق النبيذ ما لم يرد التعبد بالقياس وإن لم يرد فهو كقوله أعتقت غانما لسواده فإنه لا يقتضي إعتاق جميع السودان فكيف يصح هذا ولله أن ينصب شدة الخمر خاصة علة ويكون فائدة ذكر العلة زوال التحريم عند زوال الشدة ويجوز أن يعلم الله خاصية في شدة الخمر تدعو إلى ركوب القبائح ويعلم في شدة النبيذ لطفا داعيا إلى العبادات فإذا قد ظن النظام أنه منكر للقياس وقد زاد علينا إذ قاس حيث لا نقيس لكنه أنكر اسم القياس فإن قيل قول السيد والوالد لعبده ولده لا تأكل هذا لأنه سم وكل هذا فإنه غذاء يفهم منه المنع عن أكل سم آخر والأمر يتناول ما هو مثله في الإغتذاء قلنا لأن ذلك معلوم بقرينة إطراد العادات ومعرفة أخلاق الآباء والسادات في مقاصدهم من العبيد والأبناء وأنهم لا يفرقون بين سم وسم وإنما يتقون الهلاك وأما الله تعالى إذا حرم شيئا بمجرد
____________________

(1/301)


إرادته فيجوز أن يبيح مثله وأن يحرم لأن فيه رفقا ومصلحة فيجوز أن يكون قد سبق في علمه أن مثله مفسدة لأن تضمنه الصلاح والفساد ليس لطبعه ولذاته ولوصف هو عليه في نفسه بل يجوز أن يكون في فعل شيء وقت الزوال مصلحة وفيه وقت العصر مفسدة وكذلك يجوز أن يختلف بيوم السبت والجمعة والمكان والحال فكذلك يجوز أن يفارق شدة الخمر شدة النبيذ فإن قيل فإن لم يفهم النبيذ من الخمر فينبغي أن لا يفهم تحريم الضرب والأذى من التأفيف قلنا الحق عندنا أن ذلك غير مفهوم من مجرد اللفظ العاري عن القرينة لكن إذا دلت قرينة الحال على قصد الإكرام فعند ذلك يدل لفظ التأفيف على تحريم الضرب بل يكون ذلك أسبق إلى الفهم من التأفيف المذكور إذا التأفيف لا يكون مقصودا في نفسه بل يقصد به التنبيه على منع الإيذاء بذكر أقل درجاته
وكذلك النقير والقطمير والذرة والدينار لا يدل بمجرد اللفظ على ما فوقه في قوله تعالى { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره } الزلزلة 7 وفي قوله تعالى ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك آل عمران 75 وفي قوله والله ما شربت لفلان جرعة ولا أخذت من ماله حبة بل بقرينة دفع المنة وإظهار جزاء العمل وليس إلحاق الضرب بالتأفيف أيضا بطريق القياس لأن الفرع المسكوت عنه الملحق بطريق القياس هو الذي يتصور أن يغفل عنه المتكلم ولا يقصده بكلامه وهاهنا المسكوت عنه هو الأصل في القصد الباعث على النطق بالتأفيف وهو الأسبق إلى فهم السامع فهذا مفهوم من لحن القول وفحواه وعند ظهور القرينة المذكورة ربما تظهر قرينة أخرى تمنع هذا الفهم إذا الملك قد يقتل أخاه المنازع له فيقول للجلاد اقتله ولا تهنه ولا تقل له أف أما تحريم النبيذ بتحريم الخمر فليس من هذا بالقبيل بل لا وجه له إلا القياس فإذا لم يرد التعبد بالقياس فقوله حرمت الخمر لشدتها لا يفهم تحريم النبيذ بخلاف قوله حرمت كل مشتد
مسألة ( تخصيص القياس ) ذهب القاشاني والنهرواني إلى الإقرار بالقياس لأجل إجماع الصحابة لكن خصصوا ذلك بموضعين أحدهما أن تكون العلة منصوصة كقوله حرمت الخمر لشدتها وفإنها من الطوافين عليكم والطوافات
الثاني الأحكام المعلقة بالأسباب كرجم ماعز لزناه وقطع سارق رداء صفوان وكأنهم يعنون بهذا الجنس تنقيح مناط الحكم ويعترفون به
قلنا هذا المذهب يمكن تنزيله على ثلاثة أوجه أحدها أن يشترطوا مع هذا أن يقول وحرمت كل مشارك للخمر في الشدة ويقول في رجم ماعز وحكمي على الواحد حكمي على الجماعة فهذا ليس قولا بالقياس بل بالعموم فلا يحصل التقصي به عن عهدة الإجماع المنعقد من الصحابة على القياس
الثاني أن لا يشترط هذا ولا يشترط أيضا ورود التعبد بالقياس فهذه زيادة علينا وقول بالقياس حيث لا نقول به كما رددناه على النظام
الثالث أن يقول مهما ورد التعبد بالقياس جاز الإلحاق بالعلة المنصوصة فهذا قول حق في الأصل خطأ في الحصر فإنه قصر طريق إثبات علة الأصل على النص وليس مقصورا عليه بل ربما دل عليه السبر والتقسيم أو دليل آخر وما لم يدل عليه دليل فنحن لا نجوز الجمع بين الفرع والأصل ولا فرق بين دليل ودليل
فإن قيل إذا كانت العلة منصوصة كان
____________________

(1/302)


الحكم في الفرع معلوما ولم يكن مظنونا وحصل الأمن من الخطأ وإن كانت مستنبطة لم يؤمن الخطأ قلنا أخطأتم في طرفي الكلام حيث ظننتم حصول الأمن بالنص وإمكان الخطأ عند عدم النص فإن وإن نص على شدة الخمر فلا نعلم قطعا أن شدة النبيذ في معناها بل يجوز أن يكون معللا بشدة الخمر خاصة إلا أن يصرح ويقول يتبع الحكم مجرد الشدة في كل محل فيكون ذلك لفظا عاما ولا يكون حكما بالقياس فلا يحصل التقصي عن عهدة الإجماع وإذا لم يصرح فنحن نظن أن النبيذ في معناه ولا نقطع فللظن مثاران في العلة المستنبطة أحدهما أصل العلة والآخر إلحاق الفرع بالأصل فإنه مشروط بانتفاء الفوارق وفي العلة المنصوصة مثار الظن واحد وهو إلحاق الفرع لأنه مبني على الوقوف على جميع أوصاف علة الأصل وأنه الشدة بمجردها دون شدة الخمر وذلك لا يعلم إلا بنص يوجب عموم الحكم ويدفع الحاجة إلى القياس
أما قوله في العلة المستنبطة أنه لا يؤمن فيها الخطأ فهذا لا يستقيم على مذهب من يصوب كل مجتهد إذ شهادة الأصل للفرع عنده كشهادة العدل عند القاضي والقاضي في أمن من الخطأ وإن كان الشاهد مزورا لأنه لم يتعبد باتباع الصدق بل باتباع ظن الصدق وكذلك هاهنا لم يتعبد باتباع العلة بل باتباع ظن العلة وقد تحقق الظن
نعم هذا الإشكال متوجه من يقول المصيب واحد لأنه لا يأمن الخطأ ولا دليل يميز الصواب عن الخطأ إذ لو كان عليه دليل لكان آثما إذا أخطأ كما في العقليات ثم نقول إنما حملهم على الإقرار بهذا القياس إجماع الصحابة ولم يقتصر قياسهم على العلة المنصوصة إذ قاسوا في قوله أنت علي حرام وفي مسألة الجد والإخوة وفي تشبيه حد الشرب بحد القذف لما فيه من خوف الافتراء والقذف أوجب ثمانين جلدة لأنه نفس الإفتراء لا الخوف من الافتراء ولكنهم رأوا الشارع في بعض المواضع أقام مظنة الشيء مقام نفسه فشبهوا هذا به بنوع من الظن هو في غاية الضعف فدل أنهم لم يطلبوا النص ولا القطع بل اكتفوا بالظن ثم نقول إذا جاز القياس بالعلة المعلومة فلنلحق بها المظنونة في حق العمل كما لتحق رواية العدل بالتواتر وشهادة العدل بشهادة النبي عليه السلام المعصوم والقبلة المظنونة بالقبلة المعاينة وهذا فيه نظر لأنا وإن أثبتنا خبر الواحد وقبول الشهادة بأدلة قاطعة فقبول الشرع الظن في موضع لا يرخص لنا في قياس ظن آخر عليه بل لا بد من دليل على القياس المظنون كما في خبر الواحد وغيره
مسألة ( التفريق بين الفعل والترك ) فرق بعض القدرية الفعل والترك فقال إذا علل الشارع وجوب فعل بعلة فلا يقاس عليه غيره إلا بتعبد بالقياس ولو علل تحريم الخمر بعلة وجب قياس النبيذ عليه دون التعبد بالقياس لأن من ترك العسل لحلاوته لزمه أن يترك كل حلو ومن ترك الخمر لإسكاره لزمه أن يترك كل مسكر
أما من شرب العسل لحلاوته فلا يلزمه أن يشرب كل حلو ومن صلى لأنها عبادة لا يلزمه أن يأتي بكل عبادة وبنوا على هذا أن التوبة لا تصح من بعض الذنوب بل من ترك ذنبا لكونه معصية لزمه ترك كل ذنب أما من أتى بعبادة لكونها طاعة فلا يلزمه أن يأتي بكل طاعة وهذا محال في الطرفين لأنه لا يبعد في جانب التحريم
____________________

(1/303)


أن يحرم الخمر لشدة الخمر خاصة ويفرق بين شدة الخمر وشدة النبيذ
وأما في جانب الفعل فمن تناول العسل لحلاوته ولفراغ معدته وصدق شهوته لا يفرق بين عسل وعسل نعم لا يلزمه أن يأكل مرة بعد أخرى لزوال الشهوة وامتلاء المعدة واختلاف الحال فما ثبت للشيء ثبت لمثله كان ذلك في ترك أو فعل لكن المثل المطلق لا يتصور إذا الأثنينية شرط المثلية ومن شرط الأثنينية مغايرة ومخالفة وإذا جاءت المخالفة بطلت المماثلة وهذا له غور وليس هذا موضع بيانه
هذا تمام النظر في إثبات أصل القياس على منكريه
الباب الثاني في طريق إثبات علة الأصل وكيفية إقامة الدلالة على صحة آحاد الأقيسة وننبه في صدر الكتاب على مثارات الاحتمال في كل قياس إذ لا حاجة إلى الدليل إلا في محل الاحتمال ثم على انحصار الدليل في الأدلة السمعية ثم على انقسام الأدلة السمعية إلى ظنية وقطعية فهذه ثلاث مقدمات المقدمة الأولى في مواضع الاحتمال من كل قياس وهي ستة الأول يجوز أن لا يكون الأصل معلولا عند الله تعالى فيكون القائس قد علل ما ليس بمعلل
الثاني أنه إن كان معللا فلعله لم يصب ما هو العلة عند الله تعالى بل علله بعلة أخرى
الثالث أنه إن أصاب في أصل التعليل وفي عين العلة فلعله قصر على وصفين أو ثلاثة وهو معلل به مع قرينة أخرى زائدة على ما قصر اعتباره عليه
الرابع أن يكون قد جمع إلى العلة وصفا ليس مناطا للحكم فزاد على الواحد
الخامس أن يصيب في أصل العلة وتعيينها وضبطها لكن يخطىء في وجودها في الفرع فيظنها موجودة بجميع قيودها وقرائنها ولا تكون كذلك
السادس أن يكون قد استدل على تصحيح العلة بما ليس بدليل وعند ذلك لا يحل له القياس وإن أصاب العلة كما لو أصاب بمجرد الوهم والحدس من غير دليل وكما لو ظن القبلة في جهة من غير اجتهاد فصلى فإنه لا تصح الصلاة وزاد آخرون احتمالا سابعا وهو الخطأ في أصل القياس إذا يحتمل أن يكون أصل القياس في الشرع باطلا وهذا خطأ لأن صحة القياس ليس مظنونا بل هو مقطوع به ولو تطرق إليه احتمال التطرق إلى جميع القطعيات من التوحيد والنبوة وغيرهما والمثارات الستة لاحتمال الخطأ إنما تستقيم على مذهب من يقول المصيب واحد وفي موضع يقدر نصب الله تعالى أدلة قاطعة يتصور أن يحيط بها الناظر
أما من قال كل مجتهد مصيب فليس في الأصل وصف معين هو العلة عند الله تعالى حتى يخطىء أصلها أو وصفها بل العلة عند الله تعالى في حق كل مجتهد ما ظنه علة فلا يتصور الخطأ ولكنه على الجملة يحتاج إلى إقامة الدليل في هذه وإن كانت أدلة ظنية
المقدمة الثانية إن هذه الأدلة لا تكون إلا سمعية بل لا مجال للنظر العقلي في هذه المثارات إلا في تحقيق وجود علة الأصل في الفرع فإن العلة إذا كانت محسوسة كالسكر والطعم والطوف في السؤر فوجود ذلك في النبيذ والأرز والفأرة قد يعلم بالحس وبالأدلة
____________________

(1/304)


العقلية أما أصل تعليل الحكم وإثبات عين العلة ووصفها فلا يمكن إلا بالأدلة السمعية لأن العلة الشرعية علامة وأمارة لا توجب الحكم بذاتها إنما معنى كونها علة نصب الشرع إياها علامة وذلك وضع من الشارع ولا فرق بين وضع الحكم وبين وضع العلامة ونصبها أمارة على الحكم فالشدة التي جعلت أمارة التحريم يجوز أن يجعلها الشرع أمارة الحل فليس إيجابها لذاتها ولا فرق بين قوله الشارع راجموا ماعزا وبين قوله جعلت الزنا علامة إيجاب الرجم فإن قيل فالحكم لا يثبت إلا توقيفا ونصا فلتكن العلة كذلك قلنا لا يثبت الحكم إلا توقيفا لكن ليس طريق معرفة التوقيف في الأحكام مجرد النص بل النص والعموم والفحوى ومفهوم القول وقرائن الأحوال وشواهد الأصول وأنواع الأدلة فكذلك إثبات العلة تتسع طرقه ولا يقتصر فيه على النص
المقدمة الثالثة إن الحاق المسكوت بالمنطوق ينقسم إلى مقطوع ومظنون والمقطوع به على مرتبتين إحداهما أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به كقوله { رسولا } الإسراء 23 فإنه أفهم تحريم الضرب والشتم وكقوله عليه السلام أدوا الخيط والمخيط فإنه أفهم تحريم الغلول في الغنيمة بكل قليل وكثير وكنهيه عن الضحية بالعوراء والعرجاء فإنه أفهم المنع من العمياء ومقطوعة الرجلين وكقوله العينان وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء فإن الجنون والإغماء والسكر وكل ما أزال العقل أولى به من النوم وقد اختلفوا في تسمية هذا قياسا وتبعد تسميته قياسا لأنه لا يحتاج فيه إلى فكر واستنباط علة ولأن المسكوت عنه هاهنا كأنه أولى بالحكم من المنطوق به ومن سماه قياسا اعترف بأنه مقطوع به ولا مشاحة في الأسامي فمن كان القياس عنده عبارة عن نوع من الإلحاق يشمل هذه الصورة فإنما مخالفته في عبارة وهذا الجنس قد يلتحق بأذياله ما يشبهه من وجه ولكنه يفيد الظن دون العلم كقولهم إذا وجبت الكفارة في قتل الخطأ فبأن تجب في العمد أولى لأن فيه ما فيه الخطأ وزيادة عدوان وإذا ردت شهادة الفاسق فالكافر أولى لأن الكفر فسق وزيادة وإذا أخذت الجزية من الكتابي فمن الوثني أولى لأنه كافر مع زيادة جهل وهذا يفيد الظن في حق بعض المجتهدين وليس من جنس الأول بل جنس الأول أن يقول إذا قبلت شهادة اثنين فشهادة الثلاثة أولى
وهو مقطوع به لأنه وجد فيه الأول وزيادة
والعمياء عوراء مرتين ومقطوع الرجلين أعرج مرتين فأما العمد فيخالف الخطأ فيجوز أن لا تقوى الكفارة على محوه بخلاف الخطأ بل جنس الأول قولنا من واقع أهله في نهار رمضان فعليه الكفارة
فالزاني به أولى إذ وجد في الزنا إفساد الصوم بالوطء وزيادة ولم يوجد في العمد الخطأ وزيادة وكذلك الفاسق متهم في دينه فيكذب والكافر يحترز من الكذب لدينه وقبول الجزية نوع احترام وتخفيف ربما لا يستوجبه الوثني بدليل أنه لو وقع التصريح بالفرق بين هذه المسائل لم تنفر النفس عن قبوله ولو قيل تجزىء العمياء دون العوراء أو تقبل شهادة اثنين ولا تقبل شهادة ثلاثة
كان ذلك مما تنفر النفس عن قبوله وإنما نفرت النفس عن قبوله لما علم قطعا من أن منع العوراء لأجل نقصانها وقبول شهادة اثنين لظهور صدق الدعوى وتحريم التأفيف لإكرام الآباء فمع فهم هذه المعاني يتناقض الفرق ولم يفهم مثل ذلك
____________________

(1/305)


من قتل الخطأ وشهادة الكافر وجزية الوثني
المرتبة الثانية ما يكون المسكوت عنه مثل المنطوق به ولا يكون أولى منه ولا هو دونه فيقال إنه في معنى الأصل وربما اختلفوا في تسميته قياسا ومثاله قوله من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي فإن الأمة في معناه
وقوله أيما رجل أفلس أو مات فصاحب المتاع أحق بمتاعه فالمرأة في معناه وقوله تعالى { وبكم } النساء 25 فالعبد في معناها وقوله عليه السلام من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع فإن الجارية في معناه وقوله في موت الحيوان في السمن أنه يراق المائع ويقور ما حوالي الجامد أن العسل لو كان جامدا في معناه وهذا جنس يرجع حاصله إلى العلم بأن الفارق بين المسكوت عنه والمنطوق به لا مدخل له في التأثير في جنس ذلك الحكم وإنما يعرف أنه لا مدخل له في التأثير باستقراء أحكام الشرع وموارده ومصادره في ذلك الجنس حتى يعلم أن حكم الرق والحرية ليس يختلف بذكورة وأنوثة كما لا يختلف بالبياض والسواد والطول والقصر والحسن والقبح فلا يجري هذا في جنس من الحكم تؤثر الذكورة فيه والأنوثة كولاية النكاح والقضاء والشهادة وأمثالها وضابط هذا الجنس أن لا يحتاج إلى التعرض للعلة الجامعة بل يتعرض للفارق ويعلم أنه لا فارق إلا كذا ولا مدخل له في التأثير قطعا فإن تطرق الاحتمال إلى قولنا لا فارق إلا كذا بأن احتمل أن يكون ثم فارق آخر وتطرق الاحتمال إلى قولنا لا مدخل له في التأثير بأن احتمل أن يكون له مدخل لم يكن هذا الالحاق مقطوعا به بل ربما كان مظنونا
ويتعلق بأذيال هذا الجنس ما هو مظنون كقولنا إنه لو أضاف العتق إلى عضو معين سرى فإنه إذا أضاف إلى النصف سرى لأنه بعض واليد بعض وهذا يغلب على ظن بعض المجتهدين ومساواة البعض المعين للبعض الشائع في هذا الحكم غير مقطوع به لأن هذا النوع من المفارقة لا يبعد أن يكون له مدخل في التأثير
ومن هذا الجنس ما يتعلق بتنقيح مناط الحكم كقوله للأعرابي الذي جامع امرأته في رمضان أعتق رقبة فإنا نعلم أن التركي والهندي في معنى العربي إذ علمنا أن ذلك لا مدخل له في الحكم ويعلم أن العبد في معنى الحر فيلزمه الصوم لأنه شاركه في وجوب الصوم ولا نرى الصبي فيمعناه لأنه لا يشاركه في اللزوم وللزوم مدخل في التأثير وإن نظرنا إلى المحل فقد واقع أهله فيعلم أنه لو واقع مملوكته فهو في معناه بل لو زنى بامرأة فهو بالكفارة أولى أما اللواط وإتيان البهيمة والمرأة الميتة هل هو في معناه ربما يتردد فيه والأظهر أن اللواط في معناه وإن نظرنا إلى الصوم المجني عليه فقد جرى وقاع الأعرابي في يوم معين وشهر معين فيعلم أن سائر الأيام في ذلك الشهر وسائر شهور رمضان في معناه والقضاء والنذر ليس في معناه لأن حرمة رمضان أعظم فهتكها أفحش وللحرمة مدخل في جنس هذا الحكم وإن نظرنا إلى نفس هذا الفعل فهل يلتحق به الأكل والشرب وسائر المفطرات هذا في محل النظر إذ يحتمل أن يقال إنما وجبت الكفارة لتفويت الصوم والوطء آلته كما يجب القصاص لتفويت الدم ثم السيف والسكين وسائر الآلات على وتيرة واحدة
ويحتمل أن يقال الكفارة زجر ودواعي الوقاع
____________________

(1/306)


لا تنخنس بمجرد وازع الدين فافتقر إلى كفارة زاجرة بخلاف داعية الأكل وهذه ظنون تختلف بالإضافة إلى المجتهدين وهل يسمى إلحاق الأكل ههنا بالجماع قياسا اختلفوا فيه فقال أصحاب أبي حنيفة لا قياس في الكفارات وهذا استدلال وليس بقياس بل هو استدلال على تجريد مناط الحكم وحذف الحشو منه ولفظة القياس اصطلاح للفقهاء فيختلف إطلاقها بحسب اختلافهم في الاصطلاح فلست أرى الأطناب في تصحيح ذلك أو إفساده لأن أكثر تدوار النظرلا فيه على اللفظ وعلى الجملة فلا يظه بالظاهر في المنكر للقياس إنكار المعلوم والمقطوع به من هذه الإلحاقات لكن لعله ينكر المظنون منه ويقول ما علم قطعا أنه لا مدخل له في التأثير فه كاختلاف الزمان والمكان والسواد والبياض والطوال والقصر فيجب حذفه عن درجة الاعتبار
أما ما يحتمل فلا يجوز حذفه بالظن وإذا بان لنا إجماع الصحابة أنهم عملوا بالظن كان ذلك دليلا على نزول الظن منزلة العلم في وجوب العمل لأن المسائل التي اختلفوا فيها واجتهدوا كمسألة الحرام ومسألة الجد وحد الخمر والمفوضة وغيرها من المسائل ظنية وليست قطعية وعلى الجملة فلإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق طريقان متباينان أحدهما أن لا يتعرض إلا للفارق وسقوط أثره فيقول لا فارق إلا كذا وهذه مقدمة ثم يقول ولا مدخل لهذا الفارق في التأثير وهذه مقدمة أخرى فيلزم منه نتيجة وهو أنه لا فرق في الحكم وهذا إنما يحسن إذا ظهر التقارب بين الفرع والأصل كقرب الأمة من العبد لأنه لا يحتاج إلى التعرض للجامع لكثرة ما فيه من الاجتماع
الطريق الثاني أن يتعرض للجامع ويقصد نحوه ولا يلتفت إلى الفوارق وإن كثرت ويظهر تأثير الجامع في الحكم فيقول العلة في الأصل كذا وهي موجودة في الفرع فيجب الاجتماع في الحكم وهذا هو الذي يسمى قياسا بالاتفاق
أما الأول ففي تسميته قياسا خلاف لأن القياس ما قصد به الجمع بين شيئين وذلك قصد فيه نفي الفرق فحصل الاجتماع بالقصد الثاني لا بالقصد الأول فلم يكن على صورة المقايسة بالإضافة إلى القصد الأول والطريق الأول الذي هو التعرض للفارق ونفيه ينتظم حيث لم تعرف علة الحكم بل ينتظم في حكم لا يعلل وينتظم حيث عرف أنه معلل لكن لم تتعين العلة فإنا نقول الزبيب في معنى التمر في الربا قبل أن يتعين عندنا علة الربا أنه الطعم أو الكيل أو القوت وينتظم حيث ظهر أصل العلة وتعين أيضا ولكن لم تتلخص بعد أوصافه ولم تتحرر بعد قيوده وحدوده
أما الطريق الثاني وهو الجمع فلا يمكن إلا بعد تعين العلة وتلخيصها بحدها وقيودها وبيان تحقيق وجودها بكمالها في الفرع وكل واحد من الطريقين ينقسم إلى مقطوع به وإلى مظنون فإذا تمهدت هذه المقدمات فيرجع إلى المقصود وهو بيان إثبات العلة في الطريق الثاني الذي هو القياس بالاتفاق وهو رد فرع إلى أصل بعلة جامعة بينهما وهذا القياس يحتاج إلى إثبات مقدمتين إحداهما مثلا أن علة تحريم الخمر الإسكار
والثانية أن الإسكار موجود في النبيذ أما الثانية فيجوز أن تثبت بالحس ودليل العقل والعرب وبدليل الشرع وسائر أنواع الأدلة أما الأولى فلا تثبت إلا بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع أو نوع استدلال مستنبط فإن كون الشدة علامة التحريم وضع شرعي كما أن نفس التحريم كذلك وطريقه
____________________

(1/307)


طريقه وجملة الأدلة الشرعية ترجع إلى ألفاظ الكتاب والسنة والإجماع والاستنباط فنحصره في ثلاث أقسام القسم الأول إثبات العلة بأدلة نقلية وذلك إنما يستفاد من صريح النطق أو من الإيماء أو من التنبيه على الأسباب وهي ثلاثة أضرب الضرب الأول الصريح وذلك أن يرد فيه لفظ التعليل كقوله لكذا أو لعلة كذا أو لأجل كذا أو لكيلا يكون كذا وما يجري مجراه من صيغ التعليل مثل قوله تعالى { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } الحشر 7 { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } المائدة 32 و { ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله } الأنفال 13 وقوله عليه السلام إنما جعل الاستئذان لأجل البصر وإنما نهيتكم لأجل الدافة فهذه صيغ التعليل إلا إذا دل دليل على أنه ما قصد التعليل فيكون مجازا كما يقال لم فعلت فيقول لأني أردت أن أفعل فهذا لا يصح أن يكون علة فهو استعمال اللفظ في غير محله
قال القاضي قوله تعالى { أقم الصلاة لدلوك الشمس } الإسراء 78 من هذا الجنس لأن هذا لام التعليل والدلوك لا يصلح أن يكون علة فمعناه صل عنده فهو للتوقيت وهذا فيه نظر إذ الزوال والغروب لا يبعد أن ينصبه الشرع علامة للوجوب ولا معنى لعلة الشرع إلا العلامة المنصوبة وقد قال الفقهاء الأوقات أسباب ولذلك يتكرر الوجوب بتكررها ولا يبعد تسمية السبب علة
الضرب الثاني التنبيه والإيماء على العلة كقوله عليه السلام لما سئل عن الهرة إنها من الطوافين عليكم أو الطوافات فإنه وإن لم يقل لأنها أو لأجل أنها من الطوافين لكن أومأ إلى التعليل لأنه لو لم يكن علة لم يكن ذكر وصف الطواف مفيدا فإنه لو قال إنها سوداء أو بيضاء لم يكن منظوما إذ لم يرد التعليل وكذلك قوله فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا وإنهم يحشرون وأوداجهم تشخب دما وقوله جل جلاله { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء } المائدة 91 فإنه بيان لتعليل تحريم الخمر حتى يطرد في كل مسكر وكذلك ذكر الصفة قبل الحكم كقوله { قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض } البقرة 222 فهو تعليل حتى يفهم منه تحريم الإتيان في غير المأتي لأن الأذى فيه دائم ولا يجري في المستحاضة لأن ذلك عارض وليس بطبيعي وكذلك قوله تمرة طيبة وماء طهور فإن ذلك لو لم يكن تعليلا لاستعماله لما كان الكلام واقعا في محله وهو الذي يدل على أنه كان ماء نبذ فيه تميرات فيقاس عليه الزبيب وغيره ولا يقاس عليه المرقة والعصيدة وما انقلب شيئا آخر بالطبخ وكذلك قوله عليه السلام أينقص الرطب إذا يبس فقيل نعم فقال فلا إذا ففيه تنبيه على العلة من ثلاثة أوجه
أحدها أنه لا وجه لذكر هذا الوصف لولا التعليل به
الثاني قوله إذا فإنه للتعليل
الثالث الفاء في قوله فلا إذافإنه للتعقيب والتسبيب ومن ذلك أن يجيب عن المسألة بذكر نظيرها كقوله أرأيت لو تمضمضت أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه فإنه لو لم يكن للتعليل لما كان التعرض لغير محل السؤال منتظما ومن ذلك أن يفصل الشارع بين قسمين بوصف ويخصه بالحكم كقول القائل القاتل لا يرث فإنه يدل في الظاهر
____________________

(1/308)


على أنه لا يرث لكونه قاتلا وليس هذا للمناسبة بل لو قال الطويل لا يرث أو الأسود لا يرث لكنا نفهم منه جعله الطول والسواد علامة على انفصاله عن الورثة فهذا وأمثاله مما يكثر ولا يدخل تحت الحصر فوجوه التنبيه لا تنضبط وقد أطنبنا في تفصيلها في كتاب شفاء الغليل
وهذا القدر كاف ههنا
الضرب الثالث التنبيه على الأسباب بترتيب الأحكام عليها بصيغة الجزاء والشرط وبالفاء التي هي للتعقيب والتسبيب كقوله عليه السلام من أحيا أرضا ميتة فهي له ومن بدل دينه فاقتلوه وقوله تعالى { كانوا } المائدة 38 و { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما } النور 2 وقوله تعالى { فلم تجدوا ماء فتيمموا } المائدة 6 ويلتحق بهذا القسم ما يرتبه الراوي بفاء الترتيب كقوله زنى ماعز فرجم وسها النبي فسجد ورضخ يهودي رأس جارية فرضخ النبي رأسه فكل هذا يدل على التسبيب وليس للمناسبة فإن قوله من مس ذكره فليتوضأ يفهم منه السبب وإن لم يناسب بل يلتحق بهذا الجنس كل حكم حدث عقيب وصف حادث سواء كان من الأقوال كحدوث الملك والحل عند البيع والنكاح والتصرفات أو من الأفعال كاشتغال الذمة عند القتل والاتلاف أو من الصفات كتحريم الشرب عند طريان الشدة على العصير وتحريم الوطء عند طريان الحيض فإنه ينقدح أن يقال لا يتجدد إلا بتجدد سبب ولم يتجدد إلا هذا فإذا هو السبب وإن لم يناسب
فإن قيل فهذه الوجوه المذكورة تدل على السبب والعلة دلالة قاطعة أو دلالة ظنية قلنا أما ما رتب على غيره بفاء الترتيب وصيغة الجزاء والشرط فيدل على أن المرتب عليه معتبر في الحكم لا محالة فهو صريح في أصل الاعتبار
أما اعتباره بطريق كونه علة أو سببا متضمنا للعلة بطريق الملازمة والمجاورة أو شرطا يظهر الحكم عنده بسبب آخر أو يفيد الحكم على تجرده حتى يعم الحكم المحال أو يضم إليه وصف آخر حتى يختص ببعض المحال فمطلق الإضافة من الألفاظ المذكورة ليس صريحا فيها ولكن قد يكون ظاهرا من وجه ويحتمل غيره وقد يكون مترددا بين وجهين فيتبع فيه موجب الأدلة وإنما الثابت بالإيماء والتنبيه كون الوصف المذكور معتبرا بحيث لا يجوز إلغاؤه مثال هذا قوله عليه السلام لا يقض القاضي وهو غضبان وهو تنبيه على أن الغضب علة في منع القضاء لكن قد يتبين بالنظر أنه ليس علة لذاته بل لما يتضمنه من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر حتى يلحق به الجائع والحاقن والمتألم فيكون الغضب مناطا لا لعينه بل لمعنى يتضمنه
وكذلك قوله سها فسجد يحتمل أن يكون السبب هو السهو لعينه ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من ترك أبعاض الصلاة حتى لو تركه عمدا ربما قيل يسجد أيضا وكذلك قوله زنى ما عز فرجم احتمل أن يكون لأنه زنى واحتمل أن يكون لما يتضمنه الزنا من إيلاج فرج في فرج محرم قطعا مشتهى طبعا حتى يتعدى إلى اللواط
وكذلك قوله من جامع في نهار رمضان فعليه ما على المظاهر يحتمل أن يكون لنفس الجماع ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من هتك حرمة الشهر ويحتمل أن يكون لما يتضمنه من إفساد الصوم حتى يتعدى إلى الأكل والظاهر الإضافة إلى الأصل ومن صرفه عن الأصل
____________________

(1/309)


إلى ما يتضمنه من إفساد الصوم حتى يتعدى إلى الأكل افتقر إلى دليل
وهذا النوع من التصرف غير منقطع عن هذه الإضافات
فهذا ظاهر في الإضافات اللفظية إيماء كان أو صريحا
أما ما يحدث بحدوث وصف كحدوث الشدة ففي إضافة الحكم إليه نظر سيأتي في الطرد والعكس
القسم الثاني في إثبات العلة بالإجماع على كونها مؤثرة في الحكم مثاله قولهم إذا قدم الأخ من الأب والأم على الأخ للأب في الميراث فينبغي أن يقدم في ولاية النكاح فإن العلة في الميراث التقديم بسبب امتزاج الأخوة وهو المؤثر بالاتفاق وكذلك قول بعضهم الجهل بالمهر يفسد النكاح لأنه جهل بعوض في معاوضة فصار كالبيع إذ الجهل مؤثر في الإفساد في البيع بالاتفاق وكذلك نقول يجب الضمان على السارق وإن قطع لأنه مال تلف تحت اليد العارية فيضمن كما في الغصب وهذا الوصف هو المؤثر في الغصب اتفاقا وكذلك يقول الحنفي صغيرة فيولي عليها قياسا لثيب الصغيرة على البكر الصغيرة فالمطالبة منقطعة عن إثبات علة الأصل لأنها بالاتفاق مؤثرة
ويبقى سؤال وهو أن يقال لم قلتم إذا أثر امتزاج الأخوة في التقديم في الإرث فينبغي أن يؤثر في النكاح وإذا أثر الصغر في البكر فهو يؤثر في الثيب وهذا السؤال إما أن يوجهه المجتهد على نفسه أو يوجهه المناظر في المناظرة أما المجتهد فيدفعه بوجهين أحدهما أن يعرف مناسبة المؤثر كالصغر فإنه يسلط الولي على التزويج للعجز فنقول الثيب كالبكر في هذه المناسبة
الثاني أن يتبين أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا كذا وكذا ولا مدخل له في التأثر كما ذكرناه في إلحاق الأمة بالعبد في سراية العتق ونظائره فيكون هذا القياس تمامه بالتعرض للجامع ونفي الفارق جميعا وإن ظهرت المناسبة استغنى عن التعرض للفارق وإن كان السؤال من مناظر فيكفي أن يقال القياس لتعدية حكم العلة من موضع إلى موضع وما من تعدية إلا ويتوجه عليها هذا السؤال فلا ينبغي أن يفتح هذ الالباب بل يكلف المعترض الفرق أو التنبيه على مثار خيال الفرق بأن يقول مثلا إخوة الأم أثرت في الميراث في الترجيح لأن مجردها يؤثر في التوريث فلم قلت إذا استعمل في الترجيح ما يستقل بالتأثير فيستعمل حيث لا يستقل فتقبل المطالبة على هذه الصيغة وهي أولى من إبدائه في معرض الفرق ابتداء أما إذا لم ينبه على مثار خيال الفرق وأصر على صرف المطالبة فلا ينبغي أن يصطلح المناظرون على قبوله لأنه يفتح بابا من اللجاج لا ينسد ولا يجوز إرهافه إلى طلب المناسبة فإن ما ظهر تأثيره بإضافة الحكم إليه فهو علة ناسب أو لم يناسب فقد قال عليه السلام من مس ذكره فليتوضأ فنحن نقيس عليه ذكر غيره ولا مناسبة ولكن نقول ظهر تأثير المس ولا مدخل للفارق في التأثير فإنه وإن ظهر مناسبته أيضا فيجوز أن يختص اعتبار المناسب ببعض المواضع إذ السرقة تناسب القطع ثم تختص بالنصاب والزنا يناسب الرجم ثم يختص بالمحصن فيتوجه على المناسب أيضا أن يقول لم قلت إذا أثر هذا المناسب وهو الصغر في ولاية المال فينبغي أن يؤثر في ولاية البضع وإذا أثر في البكر يؤثر في الثيب وإذا أثر في التزويج من الابن يؤثر في التزويج من البنت ومن المناسبات ما يختص
____________________

(1/310)


ببعض المواضع وهذا السؤال يستمد من خيال منكري القياس فلا ينبغي أن يقبل
القسم الثالث في إثبات العلة بالاستنباط وطرق الاستدلال وهي أنواع النوع الأول السبر والتقسيم وهو دليل صحيح وذلك بأن يقول هذا الحكم معلل ولا علة له إلا كذا أو كذا وقد بطل أحدهما فتعين الآخر وإذا استقام السبر كذلك فلا يحتاج إلى مناسبة بل له أن يقول حرم الربا في البر ولا بد من علامة تضبط مجرى الحكم عن موقعه ولا علامة إلا الطعم أو القوت أو الكيل وقد بطل القوت والكيل بدليل كذا وكذا فثبت الطعم لكن يحتج ههنا إلى إقامة الدليل على ثلاثة أمور
أحدها أنه لا بد من علامة إذ قد يقال هو معلوم باسم البر فلا يحتاج إلى علامة وعلة فنقول ليس كذلك لأن إذا صار دقيقا وخبزا وسويقا نفى حكم الربا وزال اسم البر فدل أن مناط الربا أمر أعم من اسم البر
الثاني أن يكون سبره حاصرا فيحصر جميع ما يمكن أن يكون علة أما بأن يوافقه الخصم على أن الممكنات ما ذكره وذلك ظاهر أو لا يسلم فإن كان يسلم فإن كان مجتهدا فعليه سبر بقدر إمكانه حتى يعجز عن إيراد غيره وإن كان مناظرا فيكفيه أن يقول هذا منتهى قدرتي في السبر فإن شاركتني في الجهل بغيره لزمك مالزمني وإن أطلعت على علة أخرى فيلزمك التنبيه عليها حتى أنظر في صحتها أو فسادها
فإن قال لا يلزمني ولا أظهر العلة وإن كنت أعرفها فهذا عناد محرم وصاحبه إما كاذب وإما فاسق بكتمان حكم مست الحاجة إلى إظهار ومثل هذا الجدل حرام وليس من الدين ثم إفساد سائر العلل تارة يكون ببيان سقوط أثرها في الحكم بأن يظهر بقاء الحكم مع انتفائها أو بانتقاضها بأن يظهر انتفاء الحكم مع وجودها
النوع الثاني من الاستنباط إثبات العلة بإبداء مناسبتها للحكم والاكتفاء بمجرد المناسبة في إثبات الحكم مختلف فيه وينشأ منه أن المراد بالمناسب ما هو على منهاج المصالح بحيث إذا أضيف الحكم إليه انتظم مثاله قولنا حرمت الخمر لأنها تزيل العقل الذي هو مناط التكليف وهو مناسب لا كقولنا حرمت لأنها تقذف بالزبد أو لأنها تحفظ في الدن فإن ذلك لا يناسب وقد ذكرنا حقيقة المناسب وأقسامه ومراتبه في آخر القطب الثاني من باب الاستحسان والاستصلاح فلا نعيده لكنا نقول المناسب ينقسم إلى مؤثر وملائم وغريب
ومثال المؤثر التعليل للولاية بالصغر ومعنى كونه مؤثرا أنه ظهر تأثيره في الحكم بالإجماع أو النص وإذا ظهر تأثيره فلا يحتاج إلى المناسبة بل قوله من مس ذكره فليتوضأ لما دل على تأثير المس قسنا عليه مس ذكر غيره
أما الملائم فعبارة عما لم يظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم كما في الصغر لكن ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم
مثاله قوله لا يجب على الحائض قضاء الصلاة دون الصوم لما في قضاء الصلاة من الحرج بسبب كثرة الصلاة وهذا قد ظهر تأثير جنسه لأن لجنس المشقة تأثيرا في التخفيف أما هذه المشقة نفسها وهي مشقة التكرر فلم يظهر تأثيرها في موضع آخر نعم لو كان قد ورد النص بسقوط قضاء الصلاة عن الحرائر الحيض وقسنا عليهن الإماء لكان ذلك تعليلا بما ظهر تأثير عينه في عين الحكم لكن في محل مخصوص فعديناه إلى محل آخر ومثاله أيضا
____________________

(1/311)


قولنا إن قليل النبيذ وإن لم يسكر حرام قياسا على قليل الخمر وتعليلنا قليل الخمر بأن ذلك منه يدعو إلى كثيره فهذا مناسب لم يظهر تأثير عينه لكن ظهر تأثير جنسه إذا الخلوة لما كانت داعية إلى الزنا حرمها الشرع كتحريم الزنا فكان هذا ملائما للجنس بصرف الشرع وأن لم يظهر تأثير عينه في الحكم
وأما الغريب الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع فمثاله قولنا إن الخمر إنماح رمت لكونها مسكرة ففي معناها كل مسكر ولم يظهر أثر السكر في موضع آخر لكنه مناسب
وهذا مثال الغريب لو لم يقدبر التنبيه بقوله { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر } المائدة 91 ومثاله أيضا قولنا المطلقة ثلاثا في مرض الموت ترث لأن الزوج قصد الفرار من ميراثها فيعارض بنقيض قصده قياسا على القاتل فإنه لا يرث لأنه يستعجل الميراث فعورض بنقيض قصده فإن التعليل حرمان القاتل بهذا تعليل بمناسب لا يلائم جنس تصرفات الشرع لأنا لا نرى الشرع في موضع آخر قد التفت إلى جنسه فتبقى مناسبة مجردة غريبة ولو علل الحرمان بكونه متعديا بالقتل وجعل هذا جزاء على العدوان كان تعليلا بمناسبة ملائم ليس بمؤثر لأن الجناية بعينها وإن ظهر تأثيرها في العقوبات فلم يظهر تأثيرها في الحرمان عن الميراث فلم يؤثر في عين الحكم وإنما أثر في جنس آخر من الأحكام فهو من جنس الملائم لا من جنس المؤثر ولا من جنس الغريب فإذا عرفت مثال هذه الأقسام الثلاثة فأعلم أن المؤثر مقبول باتفاق القائلين بالقياس وقصر أبو زيد الدبوسي القياس عليه وقال لا يقبل إلا مؤثر ولكن أورد للمؤثر أمثله عرف بها أنه قبل الملائم لكنه سماه أيضا مؤثرا وذكرنا تفصيل أمثلته والاعتراض عليها في كتاب شفاء الغليل ولا سبيل إلى الاقتصار على المؤثر لأن المطلبو غلبة الظن ومن استقرأ أقيسة الصحابة رضي الله عنهم واجتهاداتهم علم أنهم لم يشترطوا في كل قياس كون العلة معلومة بالنص والإجماع وأما المناسب الغريب فهذا في محل الاجتهاد
ولا يبعد عندي أن يغلب ذلك على ظن بعض المجتهدين ولا يدل دليل قاطع على بطلان اجتهاده فإن قيل يدل على بطلانه أنه متحكم بالتعليل من غير دليل يشهد لإضافة الحكم إلى علته قلنا إثبات الحكم على وفقه يشهد لملاحظة الشرع له ويغلب ذلك على الظن فإن قيل قولكم إثبات الحكم على وفقه تلبيس إذ معناه أنه تقاضى الحكم بمناسبة وبعث الشارع على الحكم فأجاب باعثه وانبعث على وفق بعثه وهذا تحكم لأنه يحتمل أن يكون حكم الشرع بتحريم الخمر تعبدا أو تحكما كتحريم الخنزير والميتة والدم والحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير مع تحليل الضبع والثعلب على بعض المذاهب وهي تحكمات لكن اتفق معنى الإسكار في الخمر فظن أنه لأجل الإسكار ولم يتفق مثله في الميتة والخنزير فقيل أنه تحكم وهذا على تقدير عدم التنبيه في القرآن بذكر العداوة والبغضاء ويحتمل أن يكون بمعنى آخر مناسب لم يظهر لنا ويحتمل أن يكون للإسكار فهذه ثلاثة احتمالات فالحكم بواحد من هذه الثلاثة تحكم بغير دليل وإلا فبم يترجح هذا الإحتمال وهذا لا ينقلب في المؤثر فإنه عرف كونه علة بإضافة الحكم إليه نصا أو إجماعا كالصغر وتقديم الأخ
____________________

(1/312)


للأب والأم
والجواب أنا نرجح هذا الاحتمال على احتمال التحكم بما رددنا به مذهب منكري القياس كما في المؤثر فإن العلة إذا أضيف الحكم إليها في محل احتمل أن يكون مختصا بذلك المحل كما اختص تأثير الزنا بالمحصن وتأثير السرقة بالنصاب فلا يبعد أن يؤثر الصغر في ولاية المال دون ولاية البضع وامتزاج الأخوة في التقديم في الميراث دون الولاية وبه اعتصم نفاة القياس لكن قيل لهم علم من الصحابة رضي الله عنهم اتباع العلل وإطراح تنزيل الشرع على التحكم ما أمكن فكذلك ههنا ولا فرق وأما قولهم لعل فيه معنى آخر مناسبا هو الباعث للشارع ولم يظهر لنا وإنما مالت أنفسنا إلى المعنى الذي ظهر لعدم ظهور الآخر لا لدليل دل عليه فهو وهم محض
فنقول غلبة الظن في كل موضع تستند إلى مثل هذا الوهم وتعتمد انتفاء الظهور في معنى آخر لو ظهر لبطلت غلبة الظن ولو فتح هذا الباب لم يستقم قياس فإن العلة الجامعة بين الفرع والأصل وإن كانت مؤثرة فإنما يغلب على الظن الاجتماع لعدم ظهور الفرق ولعل فيه معنى لو ظهر لزالت عنه غلبة الظن ولعدم علة معارضة لتلك العلة فلو ظهر أصل آخر يشهد للفرع بعلة أخرى تناقض العلة الأولى لا تدفع غلبة الظن بل يحصل الظن من صيغ العموم والظواهر بشرط انتفاء قرينة مخصصة لو ظهرت لزال الظن لكن إذا لم تظهر جاز التعويل عليه وذلك لأنه لم يظهر لنا من إجماع الصحابة رضي الله عنهم على الاجتهاد إلا اتباع الرأي الأغلب وإلا فلم يضبطوا أجناس غلبة الظن ولم يميزوا جنسا عن جنس فإن سلمتم حصول الظن بمجرد المناسبة وجب إتباعه فإن قيل لا نسلم أن هذا ظن بل هو وهم مجرد فإن التحكم محتمل ومناسب آخر لم يظهر لنا محتمل وهذا الذي ظهر محتمل ووهم الإنسان مائل إلى طلب علة وسبب لكل حكم ثم أنه سباق إلى ما ظهر له وقاض بأنه ليس في الوجود إلا ما ظهر له فتقضي نفسه بأنه لا بد من سبب ولا سبب إلا هذا فإذا هو السبب فقوله لا بد من سبب إن سلمناه ولم ينزل على التحكم ونقول بلا علة ولا سبب فقوله لا سبب إلا هذا تحكم مستنده أنه لم يعلم إلا هذا فجعل عدم علمه بسبب آخر علما بعدم سبب آخر وهو غلط وبمثل هذا الطريق أبطلتم القول بالمفهوم إذ مستند القائل به أنه لا بد من باعث على التخصيص ولم يظهر لنا باعث سوى اختصاص الحكم فإذا هو الباعث إذ قلتم بما عرفتم أنه لا باعث سواه فلعله بعثه على التخصيص باعث لم يظهر لكم وهذا كلام واقع في إمكان التعليل بمناسب لا يؤثر ولا يلائم
والجواب أن هذا استمداد من مأخذ نفاة القياس وهو منقلب في المؤثر والملائم فإن الظن الحاصل به أيضا يقابله احتمال التحكم واحتمال فرق ينقدح واحتمال علة تعارض هذه العلة في الفرع ولا فرق بين هذه الاحتمالات ولولاها لم يكن الإلحاق مظنونا بل مقطوعا كإلحاق الأمة بالعبد وفهم الضرب من التأفيف وقول القائل أن هذا وهم وليس بظن ليس كذلك فإن الوهم عبارة عن ميل النفس من غير سبب مرجح والظن عبارة عن الميل بسبب ومن بنى أمره في المعاملات الدنيوية على الوهم سفه في عقله ومن بناه على الظن كان معذورا حتى لو تصرف في مال الطفل بالوهم ضمن ولو تصرف بالظن لم يضمن فمن رأى مركب الرئيس على باب دار
____________________

(1/313)


السلطان فاعتقد أن الرئيس ليس في داره بل في دار السلطان وبنى عليه مصلحته لم يعد متوهما وإن أمكن أن يكون الرئيس قد أعار مركبه أو باعه أو ركبه الركابي في شغل ومن رأى الرئيس أمر غلامه بضرب رجل وكان قد عرف أنه يشتم الرئيس فحمل ضربه على أنه شتمه كان معذورا ومن رأى ماعزا أقر بالزنا ثم رأى النبي عليه السلام قد أمر برجمه فاعتقد أنه أمر برجمه لزناه وروى ذلك كان معذورا ظانا ولم يكن متوهما ومن عرف شخصا بأنه جاسوس ثم رأى السلطان قد أمر بقتله فحمله عليه لم يكن متوهما فإن قيل لا بل يكون متوهما فإنه لو عرف من عادة الرئيس أنه يقابل الإساءة بالإحسان ولا يضرب من يشتمه وعرف من عادة الأمير الإغضاء عن الجاسوس إما استهانة بالخصم أو استمالة ثم رآه قتل جاسوسا فحكم بأنه قتله لتجسسه فهو متوهم متحكم أما إذا عرف من عادته ذلك فتكون عادته المطردة علامة شاهدة لحكم ظنه ووزانه من مسألتنا الملائم الذي التفت الشرع إلى مثله وعرف من عادته ملاحظة عينه أو ملاحظة جنسه وكلامنا في الغريب الذي ليس بملائم ولا مؤثر
والجواب أن ههنا ثلاث مراتب إحداها أن يعرف أن من عادة الرئيس الإحسان إلى المسيء ومن عادة الأمير الإغضاء عن الجاسوس فهذا يمنع تعليل الضرب والقتل بالشتم والتجسس ووزانه أن يعلل الحكم بمناسب أعرض الشرع عنه وحكم بنقيض موجبه فهذا لا يعول عليه لأن الشرع كما التفت إلى مصالح فقد أعرض عن مصالح فما أعرض عنه لا يعلل به
والثانية أن يعرف من عادة الرئيس والأمير ضرب الشاتم وقتل الجاسوس فوزانه الملائم وهذا مقبول وفاقا من القائسين
وإنما النظر في رتبة ثالثة وهو من لم تعرف له عادة أصلا في الشاتم والجاسوس فنحن نعلم أنه لو ضرب وقتل غلب على ظنون العقلاء الحوالة عليه وأنه سلك مسلك المكافأة لأن الجريمة تناسب العقوبة فإن قيل لأن أغلب عادة الملوك ذلك والأغلب أن طبائعهم تتقارب قلنا فليس في هذا إلا الأخذ بالأغلب وكذلك أغلب عادات الشرع في غير العبادات اتباع المناسبات والمصالح دون التحكمات الجامدة فتنزيل حكمه عليه أغلب على الظن ويبقى أن يقال لعله حكم بمناسب آخر لم يظهر لنا فنقول ما بحثنا عنه بحسب جهدنا فلم نعثر عليه فهو معدوم في حقنا ولم يكلف المجتهد غيره وعليه دلت أقيسة الصحابة والتمسك بالمؤثر والملائم لقول النبي عليه السلام لعمر أرأيت لو تمضمضت معناه لم لم تفهم أن القبلة مقدمة الوقاع والمضمضة مقدمة الشرب فلو قال عمر لعلك عفوت عن المضمضة لخاصية في المضمضة أو لمعنى مناسب لم يظهر لي ولا يتحقق ذلك في القبلة لم يقبل منه ذلك وعدم ذلك مجادلة وكذلك قوله أرأيت لو كان على أبيك دين فتقضينه وكذلك كل قياس نقل عن الصحابة وبالجملة إذا فتح باب القياس فالضبط بعده غير ممكن لكن يتبع الظن والظن على مراتب وأقواه المؤثر فإنه لا يعارضه إلا احتمال التعليل بتخصيص المحل ودونه الملائم ودونه المناسب الذي لا يلائم وهو أيضا درجات وإن كان على ضعف ولكن يختلف باختلاف قوة المناسبة وربما يورث الظن لبعض المجتهدين في بعض المواضع فلا يقطع ببطلانه ولا يمكن ضبط درجات المناسبة أصلا بل لكل مسألة ذوق آخر ينبغي أن ينظر فيه المجتهد
وأما المفهوم فلا يبعد أيضا أن يغلب في بعض المواضع على ظن بعض
____________________

(1/314)


المتجهدين وعند ذلك يعسر الوقوف على أن ذلك الظن حصل بمجرد التخصيص وحده أو به مع قرينة فلا يبعد أن يقال هو مجتهد فيه وليس مقطوعا فإنه ظهر لنا أن صيغة العموم بمجردها إذا تجردت عن القرائن أفادت العموم وليس يفهم ذلك من مجرد لفظ التخصيص وإن كان يمكن انقداحه في النفس في بعض المواضع فليكن ذلك أيضا في محل الاجتهاد وقد خرج على هذا أن المعنى باعتبار الملاءمة وشهادة الأصل المعين أربعة أقسام ملائم يشهد له أصل معين يقبل قطعا عند القائسين ومناسب لا يلائم ولا يشهد له أصل معين فلا يقبل قطعا عند القائسين فإنه استحسان ووضع للشرع بالرأي ومثاله حرمان القاتل لو لم يرد فيه نص لمعارضته بنقيض قصده فهذا وضع للشرع بالرأي ومناسب يشهد له أصل معين لكن لا يلائم فهو في محل الاجتهاد وملائم لا يشهد له أصل معين وهو الاستدلال المرسل وهو أيضا في محل الاجتهاد وقد ذكرناه في باب الاستصلاح في آخر القطب الثاني وبينا مراتبه
القول في المسالك الفاسدة في إثبات علة الأصل وهي ثلاثة الأول أن نقول الدليل على صحة علة الأصل سلامتها عن علة تعارضها تقتضي نقيض حكمها وسلامتها عن المعارضة دليل صحتها وهذا فاسد لأنه إن سلم عنه فإنما سلم عن مفسد واحد فربما لا يسلم عن مفسد آخر وإن سلم عن كل مفسد أيضا لم يدل على صحته كما لو سلم شهادة المجهول عن علة قادحة لا يدل على كونه حجة ما لم تقم بينة معدلة مزيكة فكذلك لا يكفي للصحة انتفاء المفسد بل لا بد من قيام الدليل على الصحة
فإن قيل دليل صحتها انتفاء المفسد قلنا لا بل دليل فساده انتفاء المصحح فهذا منقلب ولا فرق بين الكلامين
المسلك الثاني الاستدلال على صحتها بأطرادها وجريانها في حكمها وهذا لا معنى له إلا سلامتها عن مفسد واحد وهو النقض فهو كقول القائل زيد عالم لأنه لا دليل يفسد دعوى العلم ويعارضه أنه جاهل لأنه لا دليل يفسد دعوى الجهل والحق أنه لا يعلم كونه عالما بانتفاء دليل الجهل ولا كونه جاهلا بانتفاء دليل العلم بل يتوقف فيه إلى ظهور الدليل فكذلك الصحة والفساد فإن قيل ثبوت حكمها معها واقترانه بها دليل على كونها علة قلنا غلطتم في قولكم ثبوت حكمها لأن هذه إضافة للحكم لا تثبت إلا بعد قيام الدليل على كونها علة فإذا لم يثبت لم يكن حكمها بل بحال غلبة الظن عليه كان حكم علته واقترن بها والاقتران لا يدل على الإضافة فقد يلزم الخمر لون وطعم يقترن به التحريم ويطرد وينعكس والعلة الشدة واقترانه بما ليس بعلة كاقتران الأحكام بطلوع كوكب وهبوب ريح وبالجملة فنصب العلة مذهب يفتقر إلى دليل كوضع الحكم ولا يكفي في إثبات الحكم أنه لا نقض عليه ولا مفسد له بل لا بد من دليل فكذلك العلة
المسلك الثالث الطرد والعكس وقد قال قوم الوصف إذا ثبت الحكم معه وزال مع زواله يدل على أنه علة وهو فاسد لأن الرائحة المخصوصة مقرونة بالشدة في الخمر ويزول التحريم عند زوالها ويتجدد عند تجددها وليس بعلة بل هو مقترن بالعلة وهذا لأن
____________________

(1/315)


الوجود عند الوجود طرد محض فزيادة العكس لا تؤثر لأن العكس ليس بشرط في العلل الشرعية فلا أثر لوجوده وعدمه ولأن زواله عند زواله يحتمل أن يكون لملازمته للعلة كالرائحة أو لكونه جزءا من أجزاء العلة أو شرطا من شروطها والحكم ينتفي بانتفاء بعض شروط العلة وبعض أجزائها فإذا تعارضت الاحتمالات فلا معنى للتحكم وعلى الجملة فنسلم أن ما ثبت الحكم بثبوته فهو علة فكيف إذا انضم إليه أنه زال بزواله أما ما ثبت مع ثبوته وزال مع زواله فلا يلزم كونه علة كالرائحة المخصوصة مع الشدة أما إذا انضم إليه سبر وتقسيم كان ذلك حجة كما لو قال هذا الحكم لا بد له من علة لأنه حدث بحدوث حادث ولا حادث يمكن أن يعلل به إلا كذا وكذا وقد بطل الكل إلا هذا فهو العلة ومثل هذا السبر حجة في الطرد المحض وإن لم ينضم إليها العكس ولا يرد على هذا إلا أنه ربما شذ عنه وصف آخر هو العلة ولا يجب على المجتهد إلا سبر بحسب وسعه ولا يجب على الناظر غير ذلك وعلى من يدعي وصفا رخر إبرازه حتى ينظر فيه فإن قيل فما معنى إبطالكم التمسك بالطرد والعكس وقد رأيتم تصويب المجتهدين وقد غلب هذا على ظن قوم فإن قلتم لا يجوز لهم الحكم به فمحال إذ ليس على المجتهد إلا الحكم بالظن وإن قلتم لم يغلب على ظنهم فمحال لأن هذا قد غلب على ظن قوم ولولاه لما حكموا به
قلنا أجاب القاضي رحمه الله عن هذا بأن قال نعني بإبطاله أنه باطل في حقنا لأنه لم يصح عندنا ولم يغلب على ظننا إما من غلب على ظنه فهو صحيح في حقه
وهذا فيه نظر عندي لأن المجتهد مصيب إذا استوفى النظر وأتمه وأما إذا قضى بسابق الرأي وبادىء الوهم فهو مخطىء فإن سبر وقسم فقد أتم النظر وأصاب أما حكمه قبل السبر والتقسيم بأن ما اقترن بشيء ينبغي أن يكون علة فيه تحكم ووهم إذ تمام دليله أن ما اقترن بشيء فهو علته وهذا قد اقترن به فهو إذا علته والمقدمة الأولى منقوضة بالطم والرم فإذا كأنه لم ينظر ولم يتمم النظر ولم يعثر على مناسبة العلة ولم يتوصل إليه بالسير والتقسيم ومن كشف له هذا لم يبق له غلبة ظن بالطرد المجرد إلا أن يكون جاهلا ناقص الرتبة عن درجة المجتهدين ومن اجتهد وليس أهلا له فهو مخطىء وليس كذلك عندي المناسب الغريب والاستدلال المرسل فإن ذلك مما يوجب الظن لبعض المجتهدين وليس يقوم فيه دليل قاطع من عرفه محق ظنه بخلاف الطرد المجرد الذي ليس معه سبر وتقسيم وهذا تمام القول في قياس العلة ولنشرع في قياس الشبه
الباب الثالث في قياس الشبه ويتعلق النظر في هذا الباب بثلاثة أطراف الطرف الأول في حقيقة الشبه وأمثلته وتفصيل المذاهب فيه وإقامة الدليل على صحته
أما حقيقته فاعلم أن اسم الشبه يطلق على كل قياس فإن الفرع يلحق بالأصل بجامع يشبهه فيه فهو إذا يشبهه وكذلك اسم الطرد لأن الإطراد شرط كل علة جمع فيها بين الفرع والأصل ومعنى الطرد السلامة عن النقض لكن العلة الجامعة إن كانت مؤثرة أو مناسبة عرفت بأشرف صفاتها وأقواها وهو التأثير والمناسبة دون الأخس الأعم الذي هو الاطراد والمشابهة فإن لم يكن للعلة خاصية إلا الاطراد الذي هو أعم أوصاف العلل وأضعفها في الدلالة على الصحة خص باسم الطرد لا لاختصاص الاطراد بها لكن لأنه لا
____________________

(1/316)


خاصية لها سواه فإن انضاف إلى الاطراد زيادة ولم ينته إلى درجة المناسب والمؤثر سمي شبها وتلك الزيادة هي مناسبة الوصف الجامع لعلة الحكم وإن لم يناسب نفس الحكم بيانه أنا نقدر أن لله تعالى في كل حكم سرا وهو مصلحة مناسبة للحكم وربما لا يطلع على عين تلك المصلحة لكن يطلع على وصف يوهم الاشتمال على تلك المصلحة ويظن أنه مظنتها وقالبها الذي يتضمنها وإن كنا لا نطلع على عين ذلك السر فالاجتماع في ذلك الوصف الذي يوهم الاجتماع في المصلحة الموجبة للحكم يوجب الاجتماع في الحكم ويتميز عن المناسب بأن المناسب هو الذي يناسب الحكم ويتقاضاه بنفسه كمناسبة الشدة للتحريم ويتميز عن الطرد بأن الطرد لا يناسب الحكم ولا المصلحة المتوهمة للحكم بل نعلم إن ذلك الجنس لا يكون مظنة المصالح وقالبها كقول القائل الخل مائع لا تبنى القنطرة على جنسه فلا يزيل النجاسة كالدهن وكأنه علل إزالة النجاسة بالماء بأنه تبنى القنطرة على جنسه واحترز من الماء القليل
فإنه وإن كان لا تبنى القنطرة عليه فإنه تبنى على جنسه فهذه علة مطردة لا نقض عليها ليس فيها خصلة سوى الإطراد ونعلم أنه لا يناسب الحكم ولا يناسب العلة التي تقتضي الحكم بالتضمن لها والاشتمال عليها فإنا نعلم أن الماء جعل مزيلا للنجاسة لخاصية وعلة وسبب يعلمه الله تعالى وإن لم نعلمها ونعلم أن بناء القنطرة مما لا يوهم الاشتمال عليها ولا يناسبها فإذا معنى التشبيه الجمع بين الفرع والأصل بوصف مع الأعتراف بأن ذلك الوصف ليس علة للحكم بخلاف قياس العلة فإنه جمع بما هو علة الحكم فإن لم يرد الأصوليون بقياس الشبه هذا الجنس فلست أدري ما الذي أرادوا وبم فصلوه عن الطرد المحض وعن المناسب وعلى الجملة فنحن نريد هذا بالشبه فعلينا الآن تفهيمه بالأمثلة وإقامة الدليل على صحته أما أمثلة قياس الشبه فهي كثيرة ولعل جل أقيسة الفقهاء ترجع إليها إذ يعسر إظهار تأثير العلل بالنص والإجماع والمناسبة المصلحية المثال الأول قول أبي حنيفة مسح الرأس لا يتكرر تشبيها له بمسح الخف والتيمم والجامع أنه مسح فلا يستحب فيه التكرار قياسا على التيمم ومسح الخف ولا مطمع فيما ذكره أبو زيد من تأثير المسح فإنه أورد هذا مثالا للقياس المؤثر وقال ظهر تأثير المسح في التخفيف في الخف والتيمم فهو تعليل بمؤثر وقد غلط فيه إذ ليس يسلم الشافعي أن الحكم في الأصل معلل بكونه مسحا بل لعله تعبد ولا علة له أو معلل بمعنى آخر مناسب لم يظهر لنا والنزاع واقع في علة الأصل وهو أن مسح الخف لم لا يستحب تكراره أيقال أنه تعبد لا يعلل أو لأن تكراره يؤدي إلى تمزيق الخف أو لأنه وظيفة تعبدية تمرينية لا تفيد فائدة الأصل إذ لا نظافة فيه لكن وضع لكيلا تركن النفس إلى الكسل أو لأنه وظيفة على بدل محل الوضوء لا على الأصل فمن سلم أن العلة المؤثرة في الأصل هي المسح يلزمه فالشافعي يقول أصل يؤدي بالماء فيتكرر كالأعضاء الثلاثة فكأنه يقول هي إحدى الوظائف الأربع في الوضوء فالأشبه التسوية بين الأركان الأربعة ولا يمكن ادعاء التأثير والمناسبة في التعلتين على المذهبين ولا ينكر تأثير كل واحد من الشبهين في تحريك الظن إلى أن يترجح
المثال الثاني قال الشافعي رحمه الله في مسألة النية طهارتان فكيف يفترقان وقد يقال طهارة موجبها في غير محل موجبها
____________________

(1/317)


فتفتقر إلى النية كالتيمم وهذا يوهم الاجتماع في مناسب هو مأخذ النية وإن لم يطلع على ذلك المناسب
المثال الثالث تشبيه الأرز والزبيب بالتمر والبر لكونهما مطعومين أو قوتين فإن ذلك إذا قوبل بالتشبيه بكونهما مقدرين أو مكيلين ظهر الفرق إذ يعلم أن الربا ثبت لسر ومصلحة والطعم والقوت وصف ينبىء عن معنى به قوام النفس والأغلب على الظن أن تلك المصلحة في ضمنهما لا في ضمن الكيل الذي هو عبارة عن تقدير الأجسام
المثال الرابع تعليلنا وجوب الضمان في يد السوم بأنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق ونعديه إلى يد العارية وتعليل أبي حنيفة بأنه أخذ على جهة الشراء والمأخوذ على جهة الشراء كالمأخوذ على حقيقته ويعديه إلى الرهن فكل واحدة من العلتين ليست مناسبة ولا مؤثرة إذ لم يظهر بالنص أو الإجماع إضافة الحكم إلى هذين الوصفين في غير يد السوم وهو في يد السوم متنازع فيه
المثال الخامس قولنا إن قليل أرش الجناية يضرب على العاقلة لأنه بدل الجناية على الآدمي كالكثير فإنا نقول ثبت ضرب الدية وضرب أرش اليد والأطراف ونحن لا نعرف معنى مناسبا يوجب الضرب على العاقلة فإنه على خلاف المناسب لكن يظن أن ضابط الحكم الذي تميز به عن الأموال هو أنه بدل الجناية على الآدمي فهو مظنة المصلحة التي غابت عنا
المثال السادس قولنا في مسألة التبييت أنه صوم مفروض فافتقر إلى التبييت كالقضاء وهم يقولون صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع وكأن الشرع رخص في التطوع ومنع من القضاء فظهر لنا أن فاصل الحكم هو الفرضية فهذا وأمثاله مما يكثر شبهه ربما ينقدح لبعض المنكرين للشبه في بعض هذه الأمثلة إثبات العلة بتأثير أو مناسبة أو بالتعرض للفارق وإسقاط أثره فيقول هي مأخذ هذه العلة لا ما ذكرته من الإيهام فنقول لا يطرد ذلك في جميع الأمثلة وحيث يطرد فليقدر انتفاء ذلك المأخذ الذي ظهر لهذا الناظر وعند انتفائه يبقى ما ذكرناه من الإيهام وهو كتقديرنا في تمثيل المناسب بإسكار الخمر عدم ورود الإيماء في قوله تعالى { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء } المائدة 91 والمقصود أن المثال ليس مقصودا في نفسه فإن انقدح في بعض الصور معنى زائد على الإيهام المذكور فليقدر انتفاؤه هذا حقيقة الشبه وأمثلته
وأما إقامة الدليل على صحته فهو أن الدليل إما أن يطلب من المناظر أو يطلبه المجتهد من نفسه والأصل هو المجتهد وهذا الجنس مما يغلب على ظن بعض المجتهدين وما من مجتهد يمارس النظر في مأخذ الأحكام إلا ويجد ذلك من نفسه فمن أثر ذلك في نفسه حتى غلب ذلك على ظنه فهو كالمناسب ولم يكلف إلا غلبة الظن فهو صحيح في حقه ومن لم يغلب ذلك على ظنه فليس له الحكم به وليس معنا دليل قاطع يبطل الاعتماد على هذا الظن بعد حصوله بخلاف الطرد على ما ذكرناه أما المناظر فلا يمكنه إقامة الدليل على على الخصم المنكر فإنه إن خرج إلى طريق السبر والتقسيم كان ذلك طريقا مستقلا لو ساعد مثله في الطرد لكان دليلا وإذا لم يسبر فطريقه أن يقول هذا يوهم الاجتماع في مأخذ الحكم ويغلب على الظن والخصم يجاحد إما معاندا جاحدا وإما صادقا من حيث أنه لا يوهم عنده ولا يغلب على ظنه وإن غلب على ظن خصمه والمجتهدون الذين أفضى بهم النظر إلى أن هذا الجنس مما يغلب على الظن لا ينبغي أن يصطلحوا في المناظرة على فتح باب المطالبة
____________________

(1/318)


أصلا كما فعله القدماء من الأصحاب فإنهم لم يفتحوا هذا الباب واكتفوا من العلل بالجمع بين الفرع والأصل بوصف جامع كيف كان وأخرجوا المعترض إلى إفساده بالنقض أو الفرق أو المعارضة لأن إضافة وصف آخر من الأصل إلى ما جعله علة الأصل وإبداء ذلك في معرض قطع الجمع أهون من تكليف إقامة الدليل على كونه مغلبا على الظن فإن ذلك يفتح طريق النظر في أوصاف الأصل والمطالبة تحسم سبيل النظر وترهق إلى ما لا سبيل فيه إلى إرهاق الخصم وإفحامه والجدل شريعة وضعها الجدليون فليضعوها على وجه هو أقرب إلى الاتنفاع فإن قيل وضعها كذلك يفتح باب الطرديات المستقبحة وذلك أيضا شنيع قلنا الطرد الشنيع يمكن إفساده على الفور بطريق أقرب من المطالبة فإنه إذا علل الأصل بوصف مطرد يشمل الفرع فيعارض بوصف مطرد يخص الأصل ولا يشمل الفرع فيكون ذلك معارضة الفاسد بالفاسد وهو مسكت معلوم على الفور والاصطلاح عليه كما فعله قدماء الأصحاب أولى بل لا سبيل إلى الاصطلاح على غيره لمن يقول بالشبه فإن لم يستحسن هذا الاصطلاح فليقع الاصطلاح على أن يسير المعلل أوصاف الأصل ويقول لا بد للحكم من مناط وعلامة ضابطة ولا علة ولا مناط إلا كذا وكذا وما ذكرته أولى من غيره أو ما عدا ما ذكرته فهو منقوض وباطل فلا يبقى عليه سؤال إلا أن يقول مناط الحكم في محل النص الاسم أو المعنى الذي يخص المحل كقوله الحكم في البر معلوم باسم البر فلا حاجة إلى علامة أخرى وفي الدراهم والدنانير معلوم بالنقدية التي تخصها أو يقول مناط الحكم وصف آخر لا أذكره ولا يلزمني أن أذكره وعليك تصحيح علة نفسك وهذا الثاني مجادلة محرمة محظورة إذ يقال له إن لم يظهر لك إلا ما ظهر لي لزمك ما لزمني بحكم استفراغ الوسع في السبر وإن ظهر لك شيء آخر يلزمك التنبيه عليه بذكره حتى أنظر فيه فأفسده أو أرجح علتي على علتك فإن قال هو اسم البر أو النقدية فذلك صحيح مقبول وعلى المعلل أن يفسد ما ذكره بأن يقول ليس المناط اسم البر بدليل أنه إذا صار دقيقا أو عجينا أو خبزا دام حكم الربا وزال اسم البر فدل أن علامة الحكم أمر يشترط فيه هذه الأحوال من طعم أو قوت أو كيل
والقوت لا يشهد له الملح فالطعم الذي يشهد له الملح أولى والكيل ينبىء عن معنى يشعر بتضمن المصالح بخلاف الطعم
فهكذا نأخذ من الترجيح ونتجاذب أطراف الكلام فإذا الطريق إما اصطلاح القدماء وإما الاكتفاء بالسبر وإما إبطال القول بالشبه رأسا والاكتفاء بالمؤثر الذي دل النص أو الاجماع أو السبر القاطع على كونه مناطا للحكم ويلزم منه أيضا ترك المناسب وإن كان ملائما فكيف إذا كان غريبا فإن للخصم أن يقول إنما غلب على ظنك مناسبته من حيث لم تطلع على مناسبة أظهر وأشد إخالة مما اطلعت عليه وما أنت إلا كمن رأى إنسانا أعطى فقيرا شيئا فظن أنه أعطاه لفقره لأنه لم يطلع على أنه ابنه ولو اطلع لم يظن ما ظنه وكمن رأى ملكا قتل جاسوسا فظن أنه قتله لذلك ولم يعلم أنه دخل على حريمه وفجر بأهله ولو علم لما ظن ذلك الظن فإن قبل من المتمسك بالمناسب أن يقول هذا ظني بحسب سبري وجهدي واستفراغ وسعي فليقبل ذلك من المشبه بل من الطارد ويلزم إبداء ما هو أظهر منه حتى يمحق ظنه
وهذا تحقيق قياس الشبه وتمثيله ودليله

____________________

(1/319)


أما تفصيل المذاهب فيه ونقل الأقاويل المختلفة في تفهيمه فقد آثرت الأعراض عنه لقلة فائدته فمن عرف ما ذكرناه لم يخف عليه غور ما سواه ومن طلب الحق من أقاويل الناس دار رأسه وحار عقله وقد استقصيت ذلك في تهذيب الأصول
الطرف الثاني في بيان التدريج في منازل هذه الأقيسة من أعلاها إلى أدناها وأدناها الطرد الذي ينبغي أن ينكره كل قائل بالقياس وأعلاها ما في معنى الأصل الذي ينبغي أن يقربه كل منكر للقياس وبيانه أن القياس أربعة أنواع المؤثر ثم المناسب ثم الشبه ثم الطرد والمؤثر يعرف كونه مؤثرا بنص أو إجماع أو سبر حاصر وأعلاها المؤثر وهو ما ظهر تأثيره في الحكم أي الذي عرف إضافة الحكم إليه وجعله مناطا وهو باعتبار النظر إلى عين العلة وجنسها وعين الحكم وجنسه أربعة لأنه إما أن يظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم أو تأثير عينه في جنس ذلك الحكم أو تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم أو تأثير جنسه في عين ذلك الحكم فإن ظهر تأثير عينه في عين ذلك الحكم فهو الدي يقال له أنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يعترف به منكرو القياس إذ لا يبقى بين الفرع والأصل مباينة إلا تعدد المحل فإنه إذا ظهر أن عين السكر أثر في تحريم عين الشرب في الخمر والنبيذ ملحق به قطعا وإذا ظهر أن علة الربا في التمر الطعم فالزبيب ملحق به قطعا إذ لا يقى إلا اختلاف عدد الأشخاص التي هي مجازي المعنى ويكون ذلك كظهور أثر الوقاع في إيجاب الكفارة على الأعرابي إذ يكون الهندي والتركي في معناه
الثاني في المرتبة أن يظهر تأثير عينه في جنس ذلك الحكم لا في عينه كتأثير أخوة الأب والأم في التقديم في الميراث فيقاس عليه ولاية النكاح فإن الولاية ليس هي عين الميراث لكن بينهما مجانسة في الحقيقة فإن هذا حق وذلك حق فهذا دون الأول لأن المفارقة بين جنس وجنس غير بعيد بخلاف المفارقة بين محل ومحل لا يفترقان أصلا فيما يتوهم أن له مدخلا في التأثير
الثالث في المرتبة أن يؤثر جنسه في عين ذلك الحكم كإسقاط قضاء الصلاة عن الحائض تعليلا بالجرح والمشقة فإنه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصلاة كتأثير مشقة السفر في إسقاط قضاء الركعتين الساقطتين بالقصر وهذا هو الذي خصصناه باسم الملائم وخصصنا اسم المؤثر بما ظهر تأثير عينه
الرابع في المرتبة ما ظهر تأثير جنسه في جنس ذلك الحكم وهو الذي سميناه المناسب الغريب لأن الجنس الأعم للمعاني كونها مصلحة والمناسب مصلحة وقد ظهر أثر المصالح في الأحكام إذ عهد من الشرع الالتفات إلى المصالح فلأجل هذا الاستمداد العام من ملاحظة الشرع جنس المصالح اقتضى ظهور المناسبة تحريك الظن
ولأجل شمة من الالتفات إلى عادة الشرع أيضا أفاد الشبه الظن لأنه عبارة عن أنواع من الصفات عهد من الشرع ضبط الأحكام بجنسها ككون الصيام فرضا في مسألة التبييت وككون الطهارة تعبدا موجبها في غير محل موجبها وكون الواجب بدل الجناية على الآدمي في مسألة ضرب القليل على العاقلة بخلاف بناء القنطرة على الماء وأمثاله من الصفات فإن الشرع لم يلتفت إلى جنسه والمألوف من عادة الشرع هو الذي يعرف مقاصد الشرع والعادة تارة تثبت في جنس وتارة تثبت في عين ثم للجنسية أيضا مراتب بعضها
____________________

(1/320)


أعم من بعض وبعضها أخص وإلى العين أقرب فإن أعم أوصاف الأحكام كونه حكما ثم تنقسم إلى تحريم وإيجاب وندب وكراهة والواجب مثلا ينقسم إلى عبادة وغير عبادة والعبادة تنقسم إلى صلاة وغير صلاة والصلاة تنقسم إلى فرض ونفل وما ظهر تأثيره في الفرض أخص مما ظهر تأثيره في الصلاة وما ظهر تأثيره في الصلاة أخص مما ظهر تأثيره في العبادة وما ظهر تأثيره في العبادة أخص مما ظهر في جنس الواجبات وما ظهر في جنس الواجبات أخص مما ظهر في جنس الأحكام
وكذلك في جانب المعنى أعم أوصافه أن يكون وصفا تناط الأحكام بجنسه حتى يدخل فيه الأشباه وأخص منه كونه مصلحة حتى يدخل فيه المناسب دون الشبه وأخص منه أن يكون مصلحة خاصة كالردع والزجر أو معنى سد الحاجات أو معنى حفظ العقل بالإحتراز عن المسكوات فليس كل جنس على مرتبة واحدة فالأشباه أضعفها لأنها لا تعتضد بالعادة المألوفة إلا من حيث أنه من جنس الأوصاف التي قد يضبط الشرع الأحكام بها وأقواها المؤثر الذي ظهر أثر عينه في عين الحكم فإن قياس الثيب الصغيرة على البكر الصغيرة في ولاية التزويج ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال فإن الصغر إن أثر في ولاية المال فولاية البضع جنس آخر فإذا ظهر أثره في حق الابن الصغير في نفس ولاية النكاح ربما كان أقرب من بعض الوجوه من قياسه على ولاية المال فقد عرفت بهذا أن الظن ليس بتحريك والنفس ليست تميل
إلا بالالتفات إلى عادة الشرع في التفات الشرع إلى عين ذلك المعنى أو جنسه في عين ذلك الحكم أو جنسه وأن للجنسية درجات متفاوتة في القرب والبعد لا تنحصر فلأجل ذلك تتفاوت درجات الظن والأعلى مقدم على الأسفل والأقرب مقدم على الأبعد في الجنسية ولكل مسألة ذوق مفرد ينظر فيه المجتهد
ومن حاول حصر هذه الأجناس في عدد وضبط فقد كلف نفسه شططا لا تتسع له قوة البشر وما ذكرناه هو النهاية في الإشارة إلى الأجناس ومراتبها وفي مقنع وكفاية
تنبيه آخر على خواص الأقيسة إعلم أن المؤثر من خاصيته أن يستغنى عن السبر والحصر فلا يحتاج إلى نفي ما عداه لأنه لو ظهر في الأصل مؤثر آخر لم يطرح بل يجب التعليل بهما فإن الحيض والردة والعدة قد تجتمع على امرأة ويعلل تحريم الوطء بالجميع لأنه قد ظهر تأثير كل واحد على الانفراد بإضافة الشرع التحريم إليه أما المناسب فلم يثبت إلا بشهادة المناسبة وإثبات الحكم على وفقه فإذا ظهرت مناسبة أخرى انمحقت الشهادة الأولى كما في إعطاء الفقير القريب فإنا لا ندري أنه أعطى للفقر أو للقرابة أو لمجموع الأمرين فلا يتم نظر المجتهد في التعليل بالمناسب ما لم يعتقد نفي مناسب آخر أقوى منه ولم يتوصل بالسبر إليه
أما المناظر فينبغي أن يكتفي منه بإظهار المناسبة ولا يطالب بالسبر لأن المناسبة تحرك الظن إلا في حق من اطلع على مناسب آخر فيلزم المعترض إظهاره إن اطلع عليه وإلا فليعترض بطريق آخر فهذا فرق ما بين المناسب والمؤثر وأما الشبه فمن خاصيته أنه يحتاج إلى نوع ضرورة في استنباط مناط الحكم فإن لم تكن ضرورة فقد ذهب ذاهبوان إلى أنه لا يجوز اعتباره وليس هذا بعيدا عندي في أكثر المواضع فإنه إذا أمكن قصر
____________________

(1/321)


الحكم على المحل وكان المحل المنصوص عليه معرفا بوصف مضبوط فأي حاجة إلى طلب ضابط آخر ليس بمناسب فكان تمام النظر في الشبه بأن يقال لا بد من علامة ولا علامة أولى من هذا فإذا هو العلامة كما تقول الربا جار في الدقيق والعجين فلم ينضبط باسم البر فلا بد من ضابط ولا ضابط أولى من الطعم
والضرب على العاقلة ورد في النفس والطرف وفارق المال فلا بد من ضابط ولا ضابط إلا أنه بدل الجناية على الآدمي وهذا يجري في القليل والتطوع يستغني عن التبييت والقضاء لا يستغنى والأداء دائر بينهما ولا بد من فاصل للقسمين والفرضية أولى الفواصل وهذا بخلاف المناسب فإنه يجذب الظن ويحركه وإن لم يكن إلى طلب العلة ضرورة فإن قيل فإذا تحققت الضرورة حتى جاز أن يقال لا بد من علامة وتم السبر حتى لم تظهر علامة إلا الطرد المحض الذي لا يوهم جاز القياس به أيضا فإنه خاصية تنفي الشبه وإيهام الإشتمال على مخيل قلنا لهذا السؤال قال قائلون لا تشترط هذه الضرورة في الشبه كما في المناسب فإن شرطناه فيكاد لا يبقى بين الشبه والطرد من حيث الذات فرق لكن من حيث الإضافة إلى القرب والبعد فإن جعلنا الطرد عبارة عما بعد عن ذات الشيء كبناء القنطرة فيقضي بادىء الرأي ببطلانه لأنه يظهر سواه على البديهة صفات هي أحرى بتضمن حكم المصلحة فيه فيكون فساده لظهور ما هو أقرب منه لا لذاته وعلى الجملة فمهما ظهر الأقرب والأخص أمحق الظن الحاصل بالأبعد وقد يكون ظهور الأقرب بديهيا لا يحتاج إلى تأمل فيصير بطلان الأبعد بديهيا فيظن أنه لذاته وإنما هو لانمحاق الظن به من حيث وجد ما هو أقرب وقد بينا أن ضبط هذا الجنس بالضوابط الكلية عسير بل للمجتهد في كل مسألة ذوق يختص بها فلنفوض ذلك إلى رأي المجتهد وإنما القدر الذي قطعنا به في إبطال الطرد أن مجرد كون الحكم مع الوصف لا يحرك الظن للتعليل به ما لم يستمد من شمة إخالة أو مناسبة أو إيهام مناسبة أو سبر وحصر مع ضرورة طلب مناط وقد ينطوي الذهن على معنى تلك الضرورة والسبر وإن لم يشعر صاحبه بشعور نفسه به فإن الشعور بالشيء غير الشعور بالشعور فلو قدر تجرده عن هذا الشعور لم يحرك ظن عاقل أصلا
الطرف الثالث في بيان ما يظن أنه من الشبه المختلف فيه وليس منه وهي ثلاثة أقسام الأول ما عرف منه مناط الحكم قطعا وافتقر إلى تحقيق المناط مثاله طلب الشبه في جزاء الصيد وبه فسر بعض الأصوليين الشبه وهذا خطأ لأن صحة ذلك مقطوع به لأنه قال { فجزاء مثل ما قتل من النعم } المائدة 95 فعلم أن المطلوب هو المثل وليس في النعم ما يماثل الصيد من كل وجه فعلم أن المراد به الأشبه الأمثل فوجب طلبه كما أوجب الشرع مهر المثل وقيمة المثل وكفاية المثل في الأقارب ولا سبيل إلا المقايسة بينها وبين نساء العشيرة وبين شخص القريب المكفى في السن والحال والشخص وبين سائر الأشخاص لتعرف الكفاية فذلك مقطوع به فكيف يمثل به الشبه المختلف فيه الذي يصعب الدليل على إثباته

____________________

(1/322)


القسم الثاني ما عرف منه مناط الحكم ثم اجتمع مناطان متعارضان في موضع واحد فيجب ترجيح أحد المناطين ضرورة فلا يكون ذلك من الشبه مثاله أن بدل المال غير مقدر وبدل النفس مقدر والعبد نفس كالحر ومال كالفرس فأما أن يقدر بدله أو لا يقدر فتارة يشبه بالفرس وتارة بالحر وذلك يظهر في ترجيح أحد المعنيين على الآخر وقد ظهر كون المعنيين من مناط الحكم وإنما المشكل من الشبه جعل الوصف الذي لا يناسب مناطا مع أن الحكم لم يضف إليه وههنا بالاتفاق الحكم ينضاف إلى هذين المناطين
القسم الثالث ما لم يوجد فيه كل مناط على الكمال لكن تركبت الواقعة من مناطين وليس يتمحض أحدهما فيحكم فيه بالأغلب مثاله أن اللعان مركب من الشهادة واليمين وليس بيمين محض لأن يمين المدعي لا تقبل والملاعن مدع وليس بشهادة لأن الشاهد يشهد لغيره وهو إنما يشهد لنفسه وفي اللعان لفظ اليمين والشهادة فإذا كان العبد من أهل اليمين لا من أهل الشهادة وتردد في أنه هل هو من أهل اللعان وبان لنا غلبة إحدى الشائبتين فلا ينبغي أن يختلف في أن الحكم به واجب وليس من الشبه المختلف فيه وكذلك الظهار لفظ محرم وهو كلمة زور فيدور بين القذف والطلاق وزكاة الفطر تتردد بين المؤنة والقربة والكفارة تتردد بين العبادة والعقوبة وفي مشابههما فإذا تناقض حكم الشائبتين ولا يمكن إخلاء الواقعة عن أحد الحكمين وظهر دليل على غلبة إحدى الشائبتين ولم يظهر معنى مناسب في الطرفين فينبغي أن يحكم بالأغلب الأشبه وهذا أشبه هذه الأقسام الثلاثة بمأخذ الشبه فإنا نظن أن العبد ممنوع من الشهادة لسر فيه مصلحة وممكن من اليمين لمصلحة وأشكل الأمر في اللعان وبان أن إحدى الشائبتين أغلب فيكون الأغلب على ظننا بقاء تلك المصلحة المودعة تحت المعنى الأغلب
فإن قيل وبم يعلم المعنى الأغلب المعين قلنا تارة بالبحث عن حقيقة الذات وتارة بالأحكام وكثرتها وتارة بقوة بعض الأحكام وخاصيته في الدلالة وهو مجال نظر المجتهدين وإنما يتولى بيانه الفقيه دون الأصولي والغرض أنه إذا سلم أن أحد المناطين أغلب وجب الاعتراق بالحكم بموجبه لأنه إما أن يخلى عن أحد الحكمين المتناقضين وهو محال أو يحكم بالمغلوب أو بالغالب فيتيعين الحكم بالغالب فيكيف يلحق هذا بالشبه المشكل المختلف فيه نعم
لو دار الفرع بين أصلين وأشبه أحدهما في وصف ليس مناطا وأشبه الآخر في وصفين ليسا مناطين فهذا من قبيل الحكم بالشبه والإلحاق بالأشبه والأمر فيه إلى المجتهد فإن غلب على ظنه أن المشاركة في الوصفين توهم المشاركة في المصلحة المجهولة عنده التي هي مناط الحكم عند الله تعالى وكان ذلك أغلب في نفسه من مشاركة الأصل الآخر الذي لم يشبهه إلا في صفة واحدة فحكم هنا بظنه فهذا من قبيل الحكم بالشبه أما كل وصف ظهر كونه مناطا للحكم فاتباعه من قبيل قياس العلة لا من قبيل قياس الشبه
هذا ما أردنا ذكره في قياس الشبه وكان القول فيه من تتمة الباب الثاني لأنه نظر في طريق إثبات علة الأصل لكنا أفردناه بباب لكيلا يطول الكلام في الباب الأول وإذا فرغنا من طريق إثبات العلل فلا بد من بيان أركان القياس وشروطه بعد ذلك

____________________

(1/323)


الباب الرابع في أركان القياس وشروط كل ركن وأركانه أربعة الأصل والفرع والعلة والحكم فلنميز القول في شرط كل ركن ليكون أقرب إلى الضبط
الركن الأول وهو الأصل وله شروط ثمانية الشرط الأول أن يكون حكم الأصل ثابتا فإنه إن أمكن توجيه المنع عليه لم ينتفع به الناظر ولا المناظر قبل إقامة الدليل على ثبوته
الثاني أن يكون الحكم ثابتا بطريق سمعي شرعي إذ ما ثبت بطريق عقلي أو لغوي لم يكن حكما شرعيا والحكم اللغوي والعقلي لا يثبت قياسا عندنا كما ذكرناه في كتاب أساس القياس
الثالث أن يكون الطريق الذي به عرف كون المستنبط من الأصل علة سمعا لأن كون الوصف علة حكم شرعي ووضع شرعي
الرابع أن لا يكون الأصل فرعا لأصل آخر بل يكون ثبوت الحكم فيه بنص أو إجماع فلا معنى لقياس الذرة على الأزر ثم قياس الأرز على البر لأن الوصف الجامع إن كان موجودا في الأصل الأول كالطعم مثلا فتطويل الطريق عبث
إذ ليست الذرة بأن تجعل فرعا للأرز أولى من عكسه وإن لم يكن موجودا في الأصل فبم يعرف كون الجامع علة وإنما يعرف كون الشبه والمناسب علة بشهادة الحكم وإثباته على وفق المعنى فإذا لم يكن الحكم منصوصا عليه أو مجمعا عليه لم يصح لأن يستدل به على ملاحظة المعنى المقرون به لأن ذلك يؤدي في قياس الشبه إلى أن يشبه بالفرع الثالث رابع وبالرابع خامس فينتهي الأخير إلى حد لا يشبه الأول كما لو التقط حصاة وطلب ما يشبهها ثم طلب ما يشبه الثانية ثم طلب ما يشبه الثالثة ثم ينتهي بالآخرة إلى أن لا يشبه العاشر الأول لأن الفروق الدقيقة تجتمع فتظهر المفارقة فإن قيل فأي فائدة لفرض المناظر الكلام في بعض الصور قلنا للفرض محلان
أحدهما أن يعم السائل بسؤاله جملة من الصور فيخصص المناظر بعض الصور إذ يساعده فيه خبر أو دليل خاص أو يندفع فيه بعض شبه الخصم
الثاني أن تبني فرعا على فرع آخر وهو ممتنع على الناظر المجتهد لما ذكرناه أما قبوله من المناظر فإنه ينبني على اصطلاح الجدليين فالجدل شريعة وضعها المتناظرون ونظرنا في المجتهد وهو لا ينتفع بذلك وموافقة الخصم على الفرع لا تنفع ولا تجعله أصلا إذ الخطأ ممكن على الخصمين إلا أن يكون ذلك إجماعا مطلقا فيصير أصلا مستقلا
الخامس أن يكون دليل إثبات العلة في الأصل مخصوصا بالأصل لا يعم الفرع مثاله أنه لو قال السفرجل مطعوم فيجري فيه الربا قياسا على البر ثم استدل على إثبات كون الطعم علة بقوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام أو قال فضل القاتل القتيل بفضيلة الإسلام فلا يقتل به كما لو قتل المسلم المعاهد ثم استند في إثبات علته إلى قوله
____________________

(1/324)


لا يقتل مؤمن بكافر فهذا قياس منصوص على منصوص وهو كقياس البر على الشعير والدراهم على الدنانير
السادس قال قوم شرط الأصل أن يقوم دليل بجواز القياس عليه وقال قوم بل أن يقوم دليل على وجوب تعليه وهذا كلام مختل لا أصل له فإن الصحابة حيث قاسوا لفظ الحرام على الظهار أو الطلاق أو اليمين لم يقم دليل عندهم على وجوب تعليل أو جوازه لكن الحق أنه إن القدح فيه معنى مخيل غلب على الظن اتباعه وترك الالتفات إلى المحل الخاص وإن كان الوصف من قبيل الشبه كالطعم الذي يناسب فيحتمل أن يقال لولا ضرورة جريان الربا في الدقيق والعجين وامتناع ضبط الحكم باسم البر لما وجب استنباط الطعم فهذا له وجه وقد ذكرناه وإن لم يرد به هذا فلا وجه له
السابع أن لا يتغير حكم الأصل بالتعليل ومعناه ما ذكرناه من أن العلة إذا عكرت على الأصل بالتخصيص فلا تقبل كما ذكرناه في كتاب التأويل في مسألة الأبدال وقد بينا أن المعنى إن كان سابقا إلى الفهم جاز أن يكون قرينة مخصصة للعموم أما المستنبط بالتأمل ففيه نظر
الثامن أن لا يكون الأصل معدولا به عن سنن القياس فإن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره وهذا مما أطلق ويحتاج إلى تفصيل فنقول قد اشتهر في ألسنة الفقهاء أن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره ويطلق اسم الخارج عن القياس على أربعة أقسام مختلفة فإن ذلك يطلق على ما استثنى من قاعدة عامة وتارة على ما استفتح ابتداء من قاعدة مقررة بنفسها لم تقطع من أصل سابق وكل واحد من المستثنى والمستفتح ينقسم إلى ما يعقل معناه وإلى ما لا يعقل معناه فهي أربعة أقسام الأول ما استثنى عن قاعدة عامة وخصص بالحكم ولا يعقل معنى التخصيص فلا يقاس عليه غيره لأنه فهم ثبوت الحكم في محله على الخصوص وفي القياس إبطال الخصوص المعلوم بالنص ولا سبيل إلى إبطال النص بالقياس بيانه ما فهم من تخصيص النبي عليه السلام واستثناؤه في تسع نسوة وفي نكاح امرأة على سبيل الهبة من غير مهر
وفي تخصيصه بصفي المغنم وما ثبت من تخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده وتخصيصه أبا بردة في العناق أنها تجزىء عنه في الضحية فهذا لا يقاس عليه لأنه لم يرد ورود النسخ للقاعدة السابقة بل ورود الاستثناء مع إبقاء القاعدة فكيف يقاس عليه وكونه خاصية لمن ورد في حقه تارة يعلم وتارة يظن فالمظنون كاختصاص قوله لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا وقوله في شهداء أحد زملوهم بكلومهم ودمائهم فقال أبو حنيفة لا ترفع به قاعدة الغسل في حق المحرمين والشهداء لأن اللفظ خاص ويحتمل أن يكو الحكم خاصا لاطلاعه عليه السلام على إخلاصهم في العبادة ونحن لا نطلع على موت غيرهم على الإسلام فضلا عن موتهم على الإحرام والشهادة ولما قال للأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان تصدق به على أهل بيتك ولم يقر الكفارة في ذمته عند عجزه وجعل
____________________

(1/325)


الشبق عجزا عن الصوم قال أكثر العلماء هو خاصية وقال صاحب التقريب يلتحق به من يساويه في الشبق والعجز ومن جعله خاصية استند فيه إلى أنه لو فتح هذا الباب فيلزم مثله في كفارة المظاهر وسائر الكفارات ونص القرآن دليل على أنهم لا ينفكون عن واجب وإن اختلفت أحوالهم في العجز فحمله على الخاصية أهون من هدم القواعد المعلومة
القسم الثاني ما استثنى عن قاعدة سابقة ويتطرق إلى استثنائه معنى فهذا يقاس عليه كل مسألة دارت بين المستثنى والمستبقى وشارك المستثنى في علة الاستثناء مثاله استثناء العرايا فإنه لم يرد ناسخا لقاعدة الربا ولا هادما لها لكن استثني للحاجة فنقيس العنب على الرطب لأنا نراه في معناه وكذلك إيجاب صاع من تمر في لبن المصراة لم يردها دما لضمان المثليات بالمثل لكن لما اختلط اللبن الحادث بالكائن في الضرع عند البيع ولا سبيل إلى التمييز ولا إلى معرفة القدر
وكان متعلقا بمطعوم يقرب الأمر فيه خلص الشارع المتبايعين من ورطة الجهل بالتقدير بصاع من تمر فلا جرم نقول لورد المصراة بعيب آخر لا بعيب التصرية فيضمن اللبن أيضا بصاع وهو نوع الحاق وإن كان في معنى الأصل ولولا أنا نشم منه رائحة المعنى لم نتجاسر على الإلحاق فإنه لما فرق في بول الصبيان بين الذكور والإناث وقال يغسل من بول الصبية ويرش على بول الغلام ولم ينقدح فيه معنى لم يقس عليه الفرق في حق البهائم بين ذكورها وإناثها وكذلك حكم الشرع ببقاء صوم الناسي على خلاف قياس المأمورات قالأبو حنيفة لا نقيس عليه كلام الناسي في الصلاة ولا أكل المكره والمخطىء في المضمضة ولكن قال جماع الناسي في معناه لأن الإفطار باب واحد والشافعي قال الصوم من جملة المأمورات بمعناه إذا افتقر إلى النية والتحق بأركان العبادات وهو من جملة المنهيات في نفسه وحقيقته إذ ليس فيه إلا ترك يتصور من النائم جميع النهار فإسقاط الشرع عهدة الناسي ترجيح لنزوعه إلى المنهيات فنقيس عليه كلام الناسي ونقيس عليه المكره والمخطىء على قول
القسم الثالث القاعدة المستقلة المستفتحة التي لا يعقل معناها فلا يقاس عليها غيرها لعدم العلة فيسمى خارجا عن القياس تجوزا إذ معناه أنه ليس منقاسا لأنه لم يسبق عموم قياس ولا استثناء حتى يسمى المستثنى خارجا عن القياس بعد دخوله فيه ومثاله المقدرات في أعداد الركعات ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات وجميع التحكمات المبتدأة التي لا ينقدح فيها معنى فلا يقاس عليها غيرها لأنها لا تعقل علتها
القسم الرابع في القواعد المبتدأة العديمة النظير لا يقاس عليها مع أنه يعقل معناها لأنه لا يوجد لها نظير خارج مما تناوله النص والإجماع
والمانع من القياس فقد العلة في غير المنصوص
فكأنه معلل بعلة قاصرة ومثاله رخص السفر في القصر والمسح على الخفين ورخصة المضطر في أكل الميتة وضرب الدية على العاقلة وتعلق الأرش برقبة العبد وإيجاب غرة الجنين والشفعة في العقار وخاصية الإجارة والنكاح وحكم اللعان والقسامة وغير ذلك من نظائرها فإن هذه القواعد متباينة المأخذ فلا يجوز أن يقال بعضها خارج عن قياس البعض بل لكل واحد من هذه القواعد معنى منفرد به لايوجد له نظير فيه فليس البعض بأن يوضع أصلا ويجعل الآخر
____________________

(1/326)


خارجا عن قياسه بأولى من عكسه ولا ينظر فيه إلى كثرة العدد وقلته وتحقيقه أنا نعلم أنه إنما جوز المسح على الخف لعسر النزع ومسيس الحاجة إلى استصحابه فلا نقيس عليه العمامة والقفازين وما لا يستر جميع القدم لا لأنه خارج عن القياس لكن لأنه لا يوجد ما يساويه في الحاجة وعسر النزع وعموم الوقوع وكذلك رخصة السفر لا شك في ثبوتها بالمشقة ولا يقاس عليها مشقة أخرى لأنها لا يشاركها غيرها في جملة معانيها ومصالحها لأن المرض يحوج إلى الجمع لا إلى القصر وقد يقضي في حقه بالرد من القيام إلى القعود ولما ساواه في حاجة الفطر سوى الشرع بينهما وكذلك قولهم تناول الميتة رخصة خارجة عن القياس غلط لأنه إن أريد به أنه لا يقاس عليه غير المضطر فلأنه ليس في معناه وإلا فلنقس الخمر على الميتة والمكره على المضطر فهو منقاس وكذلك بداءة الشرع بإيمان المدعي في القسامة لشرف أمر الدم ولخاصية لا يوجد مثلها في غيره ولأنه عديم النظير فلا يقاس عليه وأقرب شيء إليه البضع وقد ورد تصديق المدعي باللعان على ما يليق به وكذلك ضرب الدية على العاقلة فإن ذلك حكم الجاهلية قرره الشرع لكثرة وقوع الخطأ وشدة الحاجة إلى ممارسة السلاح ولا نظير له في غير الدية وهذا مما يكثر فبهذا يعرف أن قول الفقهاء تأقت الإجارة خارج عن قياس البيع والنكاح خطأ كقولهم تأبد البيع والنكاح خارج عن قياس الإجارة وتأقت المساقاة خارج عن تأبد القراض بل تأبد القراض خارج عن قياس تأقت المسافاة فإذا هذه الأقسام الأربعة لا بد من فهمها وبفهم بيانها يحصل الوقوف على سر هذا الأصل
الركن الثاني للقياس وله خمسة شروط الشرط الأول أن تكون علة الأصل موجودة في الفرع فإن تعدي الحكم فرع تعدي العلة فإن كان وجودها في الفرع غير مقطوع به لكنه مظنون صح الحكم وقال قوم لا يجوز ذلك لأن مشاركته للأصل في العلة لم تعلم وإنما المعلوم بالقياس أن الحكم يتبع العلة ولا يقتصر على المحل أما إذا وقع الشك في العلة فلا يلحق وهذا ضعيف لأنه إذا ثبت أن النجاسة هي علة بطلان البيع في جلد الميتة قسنا عليه الكلب إذا ثبت عندنا نجاسة الكلب بدليل مظنون وكذلك قد يكون علة الكفارة العصيان ويدرك تحقيقه في بعض الصور بدليل ظني فإذا ثبت التحق بالأصل وكذلك الماء الكثير إذا تغير بالنجاسة فطرح فيه التراب فإن كان التراب ساترا كالزعفران لم تزل النجاسة وإن كان مبطلا كهبوب الريح وطول المدة زالت النجاسة وربما يعرف ذلك بدليل ظني فالظن كالعلم في هذه الأبواب
الثاني أن لا يتقدم الفرع في الثبوت على الأصل ومثاله قياس الوضوء على التيمم في النية والتيمم متأخر وهذا فيه نظر لأنه إذا كان بطريق الدلالة فالدليل يجوز أن يتأخر عن المدلول فإن حدوث العالم دل على الصانع القديم وإن كان بطريق التعليل فلا يستقيم لأن الحكم يحدث بحدوث العلة فكيف يتأخر عن المعلول لكن يمكن العدول إلى طريق الاستدلال فإن إثبات الشرع الحكم في التيمم على وفق العلة يشهد لكونه ملحوظا بعين
____________________

(1/327)


الاعتبار وإن كان للعلة دليل آخر سوى التيمم فلا يكون التيمم وحده دليلا لعلة الوضوء السابق
الثالث أن لا يفارق حكم الفرع حكم الأصل في جنسية ولا في زيادة ولا نقصان فإن القياس عبارة عن تعدية حكم من محل إلى محل فكيف يختلف بالتعدية وليس من شكل القياس قول القائل بلغ رأس المال أقصى مراتب الأعيان فليبلغ المسلم فيه أقصى مراتب الديون قياسا لأحد العوضين على الآخر لأن هذا إلحاق فرع بأصل في إثبات خلاف حكمه
الرابع أن يكون الحكم في الفرع مما ثبتت حملته بالنص وإن لم يثبت تفصيله وهذا ذكره أبو هاشم وقال لولا أن الشرع ورد بميراث الجد جملة لما نظرت الصحابة في توريث الجد مع الأخوة وهذا فاسد لأنهم قاسوا قوله أنت علي حرام على الظهار والطلاق واليمين ولم يكن قد ورد فيه حكم لا على العموم ولا على الخصوص بل الكم إذا ثبت في الأصل بعلة تعدي بتعدي العلة كيفما كان
الخامس أن لا يكون الفرع منصوصا عليه فإنه إنما يطلب الحكم بقياس أصل آخر فيما لا نص فيه فإن قيل فلم قستم كفارة الظهار على كفارة القتل في الرقبة المؤمنة والظهار أيضا منصوص عليه واسم الرقبة يشمل الكافرة قلنا اسم الرقبة ليس نصا في إجزاء الكافرة لكنه ظاهر فيه كما في المعيبة وعلة اشتراط الأيمان في كفارة القتل عرفنا تخصيص عموم آية الظهار فخرج عن أن يكون أجزاء الكافرة منصوصا عليه فطلبنا حكمه بالقياس لذلك
الركن الثالث الحكم وشرطه أن يكون حكما شرعيا لم يتعبد فيه بالعلم وبيانه بمسائل مسألة ( لا قياس في اللغويات والعقليات ) الحكم العقلي والاسم اللغوي لا يثبت بالقياس فلا يجوز إثبات اسم الخمر للنبيذ الزنا للواط والسرقة للنبش والخليط للجار بالقياس لأن العرب تسمي الخمر إذا حمضت خلا لحموضته ولا تجريه في كل حامض وتسمي الفرس أدهم لسواده ولا تجريه في كل أسود وتسمي القطع في الآنف جدعا ولا تطرده في غيره وهذه المسألة قد قدمناها فلا نعيدها وكذلك لا يعرف كون المكره قاتلا والشاهد قاتلا والشريك قاتلا بالقياس بل يتعرف حد القتل بالبحث العقلي وكذلك غاصب الماشية هل هو غاصب للنتاج والمستولي على العقار هل هو غاصب للغلة فهذه مباحث عقلية تعرف بصناعة الجدل نعم يجوز أن يقال ألحق الشرع الشريك بالمنفرد بالقتل حكما فنقيس عليه الشريك في القطع والحق المكره بالقاتل فنقيس عليه الشاهد إذا رجع وذلك إلحاق من ليس قائلا بالقاتل في الحكم
مسألة ( لا قياس في الأمور التعبدية ) ما تعبد فيه بالعلم لا يجوز إثباته بالقياس كمن يريد إثبات خبر الواحد
____________________

(1/328)


بالقياس على قبول الشهادة ولذلك أورد في مثال هذا الباب إثبات صلاة سادسة أو صوم شوال أنه لا يثبت بالقياس لأن مثل هذه الأصول ينبغي أن تكون معلومة وهذا فيه نظر إذ يمكن أن يقال إن الوتر صلاة سادسة وقد وقع الخلاف في وجوبها فلم يشترط أن تكون السادسة معلومة الوجوب على القطع بل سبب بطلان هذا القياس علمنا ببطلانه لأنه لو وجب صوم شوال وصلاة سادسة لكانت العادة تحيل أن لا يتواتر أو لأنا لا نجد أصلا نقيسه عليه فإنه لا يمكن قياس شوال على رمضان إذ لم يثبت لنا أن وجوب صوم رمضان لأنه شهر من الشهور أو وقت من الأوقات أو لو صف يشاركه فيه شوال حتى يقاس عليه
مسألة ( قياس الدلالة وقياس العلة ) اختلفوا في أن النفي الأصلي هل يعرف بالقياس وأعني بالنفي الأصلي البقاء على ما كان قبل ورود الشرع والمختار أنه يجري فيه قياس الدلالة لا قياس العلة وقياس الدلالة أن يستبدل بانتفاء الحكم عن الشيء على انتفائه عن مثله ويكون ذلك ضم دليل إلى دليل وإلا فهو باستصحاب موجب العقل النافي للأحكام قبل ورود الشرع مستغن عن الاستدلال بالنظر أما قياس العلة فلا يجري لأن الصلاة السادسة وصوم شوال انتفى وجوبهما لأنه لا موجب لهما كما كان قبل ورود الشرع وليس ذلك حكما حادثا سمعيا حتى تطلب له علة شرعية بل ليس ذلك من أحكام الشرع بل هو نفي لحكم الشرع ولا علة له إنما العلة لما يتجدد فحدوث العالم له سبب وهو إرادة الصانع أما عدمه في الأزل فلم تكن له علة إذ لو أحيل على إرادة الله تعالى لوجب أن ينقلب موجودا لو قدرنا عدم المريد والإرادة كما أن الإرادة لو قدر انتفاؤها لانتفى وجود العالم في وقت حدوثه فإذا لم يكن الانتفاء الأصلي حكما شرعيا على لتحقيق لم يثبت بعلة سمعية أما النفي الطارىء كبراءة الذمة عن الدين فهو حكم شرعي يفتقر إلى علة فيجري فيه قياس العلة
مسألة ( قياس الحكم المعلل ) كل حكم شرعي أمكن تعليله فالقياس جار فيه وحكم الشرع نوعان أحدهما نفس الحكم
والثاني نصب أسباب الحكم فلله تعالى في إيجاب الرجم والقطع على الزاني والسارق حكمان
أحدهما إيجاب الرجم
والآخر نصب الزنا سببا لوجوب الرجم فيقال وجب الرجم في الزنا لعلة كذا وتلك العلة موجودة في اللواط فنجعله سببا وإن كان لا يسمى زنا
وأنكر أبو زيد الدبوسي هذا النوع من التعليل وقال الحكم يتبع السبب دون حكمة السبب وإنما الحكمة ثمرة وليست بعلة فلا يجوز أن يقال جعل القتل سببا للقصاص للزجر والردع
فينبغي أن يجب القصاص على شهود القصاص لمسيس الحاجة إلى الزجر وإن لم يتحقق القتل وهذا فاسد
والبرهان القاطع على أن هذا الحكم شرعي أعني نصب الأسباب لإيجاب الأحكام فيمكن أن تعقل علته ويمكن أن يتعدى إلى سبب آخر فإن اعترفوا بإمكان معرفة العلة وإمكان تعديته ثم توقفوا عن التعدية كانوا متحكمين بالفرق بين حكم وحكم كمن يقول يجري القياس في حكم الضمان لا في القصاص وفي البيع لا في النكاح وإن ادعوا الإحالة فمن أين عرفوا استحالته أبضرورة أو نظر ولا بد من بيانه كيف ونحن نبين إمكانه بالأمثلة فإن قيل الإمكان مسلم في العقل لكنه غير واقع لأنه لا يلفي للأسباب علة مستقيمة تتعدى فنقول الآن قد ارتفع النزاع
____________________

(1/329)


الأصولي إذ لا ذاهب إلى تجويز القياس حيث لا تعقل العلة أو لا تتعدى وهم قد ساعدوا على جواز القياس حيث أمكن معرفة العلة وتعديتها فارتفع الخلاف
الجواب الثاني هو أنا نذكر إمكان القياس في الأسباب على منهجين المنهج الأول ما لقبناه بتنقيح مناط الحكم فنقول قياسنا اللائط والنباش على الزاني والسارق مع الاعتراق بخروج النباش واللائط عن اسم الزاني والسارق كقياسكم الأكل على الجماع في كفارة الفطر مع أن الأكل لا يسمى وقاعا وقد قال الأعرابي واقعت في نهار رمضان فإن قيل ليس هذا قياسا فإنا نعرف بالبحث أن الكفارة ليست كفارة الجماع بل كفارة الإفطار قلنا وكذلك نقول ليس الحد حد الزنا بل حد إيلاج الفرج في الفرج المحرم قطعا المشتهى طبعا والقطع قطع أخذ مال محرز لا شبهة للأخذ فيه فإن قيل إنما القياس أن يقال علق الحكم بالزنا لعلة كذا وهي موجودة في غير الزنا وعلقت الكفارة بالوقاع لعلة كذا
وهي موجودة في الأكل كما يقال أثبت التحريم في الخمر لعلة الشدة وهي موجودة في النبيذ ونحن في الكفارة نبين أنه لم يثبت الحكم للجماع ولم يتعلق به فنتعرف محل الحكم الوارد شرعا أنه أين ورد وكيف ورد وليس هذا قياسا فإن استمر لكم مثل هذا في اللائط والنباش فنحن لا ننازع فيه قلنا فهذا الطريق جار لنا في اللائط والنباش بلا فرق وهو نوع إلحاق لغير المنصوص بالمنصوص بفهم العلة التي هي مناط الحكم فيرجع النزاع إلى الاسم
المنهج الثاني هو أنا نقول إذا انفتح باب المنهج الأول تعدينا إلى إيقاع الحكم والتعليل بها فإنا لسنا نعني بالحكمة إلا المصلحة المخيلة المناسبة كقولنا في قوله عليه السلام لا يقض القاضي وهو غضبان إنه إنما جعل الغضب سبب المنع لأنه يدهش العقل ويمنع من استيفاء الفكر وذلك موجود في الجوع المفرط والعطش المفرط والألم المبرح فنقيسه عليه وكقولنا أن الصبي يولي عليه لحكمة وهي عجزه عن النظر لنفسه فليس الصبا سبب الولاية لذاته بل لهذه الحكمة فننصب الجنون سببا قياسا على الصغر والدليل على جواز مثل ذلك اتفاق عمر وعلي رضي الله عنهما على جواز قتل الجماعة بالواحد والشرع إنما أوجب القتل على القاتل والشريك ليس بقاتل على الكمال لكنهم قالوا إنما اقتص من القاتل لأجل الزجر وعصمة الدماء وهذا المعنى يقتضي إلحاق المشارك بالمنفرد ونزيد على هذا القياس ونقول هذه الحكمة جريانها في الأطراف كجريانها في النفوس فيصان الطرف في القصاص عن المشارك كما يصان عن المنفرد وكذلك نقول يجب القصاص بالجارح لحكمة الزجر وعصمة الدماء فالمثقل في معنى الجارح بالإضافة إلى هذه العلة فهذه تعليلات معقولة في هذه الأسباب لا فرق بينها وبين تعليل تحريم الخمر بالشدة وتعليل ولاية الصغر بالعجز ومنع الحكم بالغضب فإن قيل المانع منه أن الزجر حكمة وهي ثمرة وإنما تحصل بعد القصاص وتتأخر عنه فكيف تكون علة وجوب القصاص بل علة وجوب القصاص القتل
قلنا مسلم أن علة وجوب القصاص القتل لكن علة كون القتل علة للقصاص الحاجة إلى الزجر والحاجة إلى الزجر هي العلة دون نفس الزجر والحاجة سابقة وحصول الزجر هو المتأخر إذ يقال خرج الأمير عن البلد للقاء زيد ولقاء زيد يقع بعد خروجه ولكن تكون
____________________

(1/330)


الحاجة إلى اللقاء علة باعثة على الخروج سابقة عليه وإنما المتأخر نفس اللقاء فكذلك الحاجة إلى عصمة الدماء هي الباعثة للشرع على جعل القتل سببا للقصاص والشريك في هذا المعنى يساوي المنفرد والمثقل يساوي الجارح فألحق به قياسا
مسألة ( قياس الحدود والكفارات ) نقل عن قوم أن القياس لا يجري في الكفارات والحدود وما قدمناه يبين فساد هذا الكلام فإن إلحاق الأكل بالجماع قياس وإلحاق النباش بالسارق قياس فإن زعموا أن ذلك تنقيح لمناط الحكم لا استنباط للمناط فما ذكروه حق والانصاف يقتضي مساعدتهم إذ فسروا كلامهم بهذا فيجب الاعتراف بأن الجاري في الكفارات والحدود بل وفي سائر أسباب الأحكام المنهج الأول في الإلحاق دون المنهج الثاني وأن المنهج الثاني يرجع إلى تنقيح مناط الحكم وهو المنهج الأول فإنا إذا ألحقنا المجنون بالصبي بان لنا أن الصبا لم يكن مناط الولاية بل أمر أعم منه وهو فقد عقل التدبير وإذا ألحقنا الجوع بالغضب بان لنا أن الغضب لم يكن مناطا بل أمر أعم منه وهو ما يدهش العقل عن النظر وعند هذا يظهر الفرق للمنصف بين تعليل الحكم وتعليل السبب
فإن تعليل الحكم تعدية الحكم عن محله وتقريره في محله فإنا نقول حرم الشرع شرب الخمر والخمر محل الحكم ونحن نطلب مناط الحكم وعلته فإذا تبينت لنا الشدة عديناها إلى النبيذ فضممنا النبيذ إلى الخمر في التحريم ولم نغير من أمر الخمر شيئا أما ههنا إذا قلنا علق الشرع الرجم بالزنا لعلة كذا فيلحق به غير الزنا يناقض آخر الكلام أوله لأن الزنا إن كان مناطا من حيث أنه زنا فإذا ألحقنا به ما ليس بزنا فقد أخرجنا الزنا عن كونه مناطا فكيف يعلل كونه مناطا بما يخرجه عن كونه مناطا والتعليل تقرير لا تغيير ومن ضرورة تعليل الأسباب تغييرها فإنك إذا اعترفت بكونه سببا ثم أثبت ذلك الحكم بعينه عند فقد ذلك السبب فقد نقضت قولك الأول أنه سبب فإنا إذا ألحقنا الأكل بالجماع بان لنا بالآخرة أن الجماع لم يكن هو السبب بل معنى أعم منه وهو الإفطار وإنما كان يكون هذا تعليلا لو بقي الجماع مناطا وانضم إليه مناط آخر يشاركه في العلة كما بقي الخمر محلا للتحريم وانضم إليه محل آخر وهو النبيذ فلم يخرج المحل الذي طلبنا علة حكمه عن كونه محلا لكن انضم إليه محل آخر وهو الأكل وذلك محال بل الحاق الأكل يخرج وصف الجماع عن كونه مناطا ويوجب حذفه عن درجة الاعتبار ويوجب إضافة الحكم إلى معنى آخر حتى يصير وصف الجماع حشوا زائدا وكذلك يصير وصف الزنا حشوا زائدا ويعود الأمر إلى أن مناط الرجم وصف زائد لأن مناط الرجم أمر أعم من الزنا وهو إيلاج فرج في فرج حرام فإذا مهما فسر مذهبهم على هذا الوجه اقتضى الانصاف المساعدة والله أعلم
الركن الرابع العلة ويجوز أن تكون العلة حكما كقولنا بطل بيع الخمر لأن حرم الانتفاع به ولأنه نجس وغلط من قال أن الحكم أيضا يحتاج إلى علة فلا يعلل به ويجوز أن يكون وصفا محسوسا عارضا كالشدة أو لازما كالطعم والنقدية والصغر أو من أفعال المكلفين كالقتل
____________________

(1/331)


والسرقة أو وصفا مجردا أو مركبا من أوصاف ولا فرق بين أن يكون نفيا أو إثباتا ويجوز أن يكون مناسبا وغير مناسب أو متضمنا لمصلحة مناسبة ويجوز أن لا تكون العلة موجودة في محل الحكم كتحريم نكاح الأمة بعلة رق الولد وتفارق العلة الشرعية في بعض هذه المعاني العلة العقلية على ما بينا في كتاب التهذيب ولم نر فيه فائدة لأن العلة العقلية مما لا نراها أصلا فلا معنى لقولهم العلم علة كون العالم عالما لا كون الذات عالمة ولا أن العالمية حال وراء قيام العلم بالذات فلا وجه لهذا عندنا في المعقولات بل لا معنى لكونه عالما إلا قيام العلم بذاته
وأما الفقهيات فمعنى العلة فيها العلامة وسائر الأقسام التي ذكرناها يجوز أن ينصبها الشارع علامة
فالذي يتعرض له في هذا الركن كيفية إضافة الحكم إلى العلة ويتهذب ذلك بالنظر في أربع مسائل إحداها تخلف الحكم عن العلة مع وجودها وهو الملقب بالنقض والتخصيص
والثانية وجود الحكم دون العلة وهو الملقب بالعكس وتعليل الحكم بعلتين والثالثة أن الحكم في محل النص يضاف إلى النص أو إلى العلة وعنه تتشعب الرابعة وهي العلة القاصرة
مسألة ( تخصيص العلة ) الله تبارك وتعالى رضي الله عنهن الرب عز وجل اختلفوا في تخصيص العلة ومعناه أن فقد الحكم مع وجود العلة يبين فساد العلة وانتفاضها أو يبقيها علة ولكن يخصصها بما وراء موقعها فقال قوم إنه ينقض العلة ويفسدها
ويبين أنها لم تكن علة إذ لو كانت لاطردت ووجد الحكم حيث وجدت وقال قوم تبقى علة فيما وراء النقض وتخلف الحكم عنها يخصصها كتخلف حكم العموم فإنه يخصص العموم بما وراءه وقال قوم إن كانت العلة مستنبطة مظنونة انتقضت وفسدت وإن كانت منصوصا عليها تخصصت ولم تنتقض وسبيل كشف الغطاء عن الحق أن نقول تخلف الحكم عن العلة يعرض على ثلاثة أوجه الأول أن يعرض في صوب جريان العلة ما يمنع اطرادها وهو الذي يسمى نقضا وهو ينقسم إلى ما يعلم أنه ورد مستثنى عن القياس وإلى ما لا يظهر ذلك منه فما ظهر أنه ورد مستثنى عن القياس مع استبقاء القياس فلا يرد نقضا على القياس ولا يفسد العلة بل يخصصها بما وراء المستثنى فتكون علة في غير محل الاستثناء ولا فرق بين أن يرد ذلك على علة مقطوعة أو مظنونة مثال الوارد على العلة المقطوعة إيجاب صاع من التمر في لبن المصراة فإن علة إيجاب المثل في المثليات المتلفة تماثل الأجزاء والشرع لم ينقض هذه العلة إذ عليها تعويلنا في الضمانات لكن استثنى هذه الصورة فهذا الاستثناء لا يبين للمجتهد فساد هذه العلة ولا ينبغي أن يكلف المناظر الاحتراز عنه حتى يقول في علته تماثل أجزاء في غير المصراة فيقتضي إيجاب المثل لأن هذا تكليف قبيح وكذلك صدور الجناية من الشخص علة وجوب الغرامة عليه فورود الضرب على العاقلة لم ينقض هذه العلة ولم يفسد هذا القياس لكن استثنى هذه الصورة فتخصصت العلة بما وراءها ومثال ما يرد على العلة المظنونة مسألة العرايا فإنها لا تنقض التعليل بالطعم إذ فهم أن ذلك استثناء لرخصة الحاجة ولم يرد ورود النسخ للربا ودليل كونه مستثنى أنه يرد على علة الكيل وعلى كل علة وكذلك إذا قلنا عبادة مفروضة فتفتقر إلى تعيين النية لم تنتقض بالحج فإنه ورد على
____________________

(1/332)


خلاف قياس العبادات لأنه لو أهل بإهلال زيد صح ولا يعهد مثله في العبادات أما إذا لم يرد مورد الاستثناء فلا يخلو إما أن يرد على العلة المنصوصة أو على المظنونة فإن ورد على المنصوصة فلا يتصور هذا إلا بأن ينعطف منه قيد على العلة ويتبين أن ما ذكرناه لم يكن تمام العلة مثاله قولنا خارح فينقض الطهارة أخذا من قوله الوضوء مما خرج ثم بأن أنه لم يتوضأ من الحجامة فعلمنا أن العلة بتمامها لم يذكرها وأن العلة خارج من المخرج المعتاد فكان ما ذكرناه بعض العلة فالعلة إن كانت منصوصة ولم يرد النقض مورد الاستثناء لم يتصور إلا كذلك فإن لم تكن كذلك فيجب تأويل التعليل إذ قد يرد بصيغة التعليل ما لا يراد به التعليل لذلك الحكم فقوله تعالى { يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين } الحشر 2 { ثم قال } ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله { الحشر } وليس كل من يشاقق الله يخرب بيته فتكون العلة منقوضة ولا يمكن أن يقال إنه علة في حقهم خاصة لأن هذا يعد تهافتا في الكلام بل نقول تبين بآخر الكلام أن الحكم المعلل ليس هو نفس الخراب بل استحقاق الخراب خرب أو لم يخرب
أو نقول ليس الخراب معلولا بهذه العلة لكونه خرابا بل لكونه عذابا وكل من شاق الله وسوله فهو معذب إما بخراب البيت أو غيره فإن لم يتكلف مثل هذا كان الكلام منتقضا أما إذا ورد على العلة المظنونة لا في معرض الاستثناء وانقدح جواب عن محل النقض من طريق الإخالة أن كانت العلة مخيلة أو من طريق الشبه إن كانت شبها فهذا بين أن ما ذكرناه أولا لم يكن تمام العلة وانعطف قيد على العلة من مسألة النقض به يندفع النقص
أما إذا كانت العلة مخيلة ولم ينقدح جواب مناسب وأمكن أن يكون النقض دليلا على فساد العلة وأمكن أن يكون معرفا اختصاص العلة بمجراها بوصف من قبيل الأوصاف الشبيهة يفصلها عن غير مجراها فهذا الاحتراز عنه مهم في الجدل للمتناظرين لكن المجتهد الناظر ماذا عليه أن يعتقد في هذه العلة الانتقاض والفساد أو التخصيص هذا عندي في محل الاجتهاد ويتبع كل مجتهد ما غلب على ظنه ومثاله قولنا صوم رمضان يفتقر إلى النية لأن النية لا تنعطف على ما مضى وصوم جميع النهار واجب وأنه لا يتجزأ فينتقض هذا بالتطوع فإنه لا يصح إلا بنية ولا يتجزأ على المذهب الصحيح ولا مبالاة بمذهب من يقول إنه صائم بعض النهار فيحتمل أن ينقدح عند المجتهد فساد هذه العلة بسبب التطوع ويحتمل أن ينقدح له أن التطوع ورد مستثنى رخصة لتكثير النوافل فإن الشرع قد سامح في النفل بما لم يسامح به في الفرض فالمخيل الذي ذكرناه يستعمل في الفرض ويكون وصف الفرضية فاصلا بين مجرى العلة وموقعها ويكون ذلك وصفا شبيها اعتبر في استعمال المخيل وتميز مجراه عن موقعه ومن أنكر قياس الشبه جوز الاحتراز عن النقض بمثل هذا الوصف الشبهي فأكثر العلل المخيلة خصص الشرع اعتبارها بمواضع لا ينقدح في تعيين المحل معنى مناسب على مذاق أصل العلة وهذا التردد إنما ينقدح في معنى مؤثرة بالاتفاق من قولنا إن كل اليوم واجب وإن النية عزم لا ينعطف على الماضي وأن الصوم لا يصح إلا بنية فإن كانت العلة مناسبة بحيث تفتقر إلى أصل يستشهد به فإنما يشهد
____________________

(1/333)


لصحته ثبوت الحكم في موضع آخر على وفقه فتنتقض هذه الشهادة بتخلف الحكم عنه في موضع آخر فإن إثبات الحكم على وفق المعنى إن دل على التفات الشرع فقطع الحكم أيضا يدل على إعراض الشرع وقول القائل أنا أتبعه إلا في محل إعراض الشرع بالنص ليس هو أولى ممن قال أعرض عنه إلا في محل اعتبار الشرع إياه بالتنصيص على الحكم وعلى الجملة يجوز أن يصرح الشرع بتخصيص العلة واستثناء صورة حكم عنها ولكن إذا لم يصرح واحتمل نفي الحكم مع وجود العلة احتمل أن يكون لفساد العلة واحتمل أن يكون لتخصيص العلة فإن كانت العلة قطعية كان تنزيلها على التخصيص أولى من التنزيل على نسخ العلة وإن كانت العلة مظنونة ولا مستند للظن إلا إثبات الحجم في موضع على وفقها فينقطع هذا الظن بإعراض الشرع عن اتباعها في موضع آخر وإن كانت مستقلة مؤثرة كما ذكرناه في مسألة تبييت النية كان ذلك في محل الاجتهاد
الوجه الثاني لانتفاء حكم العلة أن ينتفي لا لخلل في نفس العلة لكن يندفع الحكم عنه بمعارضة علة أخرى دافعة مثاله قولنا إن علة رق الولد ملك الأم ثم المغرور بحرية جارية ينعقد ولده حرا
وقد وجد رق الأم وانتفى الولد لكن هذا انعدام بطريق الاندفاع لعلة دافعة مع كمال العلة المرقة بدليل أن الغرم يجب على المغرور ولولا أن الرق في حكم الحاصل المندفع لما وجبت قيمة الولد فهذا النمط لا يرد نقضا على المناظر ولا يبين لنظر المجتهد فسادا في العلة لأن الحكم ههنا كأنه حاصل تقديرا
الوجه الثالث أن يكون النقض مائلا عن صوب جريان العلة ويكون تخلف الحكم لا لخلل في ركن العلة لكن لعدم مصادفتها محلها أو شرطها أو أهلها كقولنا السرقة علة القطع وقد وجدت في النباش فليجب القطع فقيل يبطل بسرقة ما دون النصاب وسرقة الصبي والسرقة من غير الحرز ونقول البيع علة الملك وقد جرى فليثبت الملك في زمان الخيار فقيل هذا باطل ببيع المستولدة والموقوف والمرهون وأمثال ذلك فهذا جنس لا يلتفت إليه المجتهد لأن نظره في تحقيق العلة دون شرطها ومحلها فهو مائل عن صوب نظره
أما المناظر فهل يلزمه الاحتراز عنه أو يقبل منه العذر بأن هذا منحرف عن مقصد النظر وليس عليه البحث عن المحل والشرط هذا مما اختلف الجدليون فيه والخطب فيه يسير فالجدل شريعة وضعها الجدليون وإليهم وضعها كيف شاؤوا وتكلف الاحتراز أجمع لنشر الكلام وذلك بأن يقول بيع صدر من أهله وصادف محله وجمع شرطه فيفيد الملك ويقول سرق نصابا كاملا من حرز لا شبهة له فيه فيفيد القطع فإن قيل فقد ذكرتم أن النقض إذا ورد على صوب جريان العلة وكان مستثنى عن القياس لم يقبل فبم يعرف الاستثناء وما من معلل يرد عليه نقض إلا وهو يدعي ذلك قلنا أما المجتهد فلا يعاند نفسه فيتبع فيه موجب ظنه وأما المناظر فلا يقبل ذلك منه إلا أن يبين اضطرار الخصم إلى الاعتراف بأنه على خلاف قياسه أيضا فإن قياس أبي حنيفة في الحاجة إلى تعيين النية يوجب افتقار الحج إلى التعيين فهو خارج عن قياسه أيضا فإن أمكنه إبراز قياس سوى مسألة النقض على قياس نفسه كانت علته المطردة أولى من علته المنقوضة ولم تقبل دعوى المعلل
____________________

(1/334)


أنه خارج عن القياس فإن قيل فحيث أوردتم مسألة المصراة مثالا فهل تقولون إن العلة موجودة في مسألة المصراة وهي تماثل الأجزاء لكن اندفع الحكم بمانع النص كما تقولون في مسألة المغرور بحرية الولد قلنا لا لأن التماثل ليس علة لذاته بل يجعل الشرع إياه علامة على الحكم فحيث لم يثبت الحكم لم يجعله علامة فلم يكن علة كما أنا لا نقول الشدة الموجودة قبل تحريم الخمر كانت علة لكن لم يرتب الشرع عليها الحكم بل ما صارت علة إلا حيث جعلها الشرع علة وما جعلها علة إلا بعد نسخ إباحة الشرب فكذلك التماثل ليس علة في مسألة المصراة بخلاف مسألة المغرور فإن الحكم فيه ثابت تقديرا وكأنه ثبت ثم اندفع فهو في حكم المنقطع لا في حكم الممتنع ولو نصب شبكة ثم مات فتعقل بها صيد لقضى منه ديونه ويستحقه ورثته لأن نصب الشبكة سبب ملك الناصب للصيد
ولكن الموت حالة تعقل الصيد دفع الملك فتلقاه الوارث وهو في حكم الثابت للميت المنتقل إلى الوارث فليفهم دقيقة الفرق بينهما
فإن قيل إذا لم يكن التماثل علة في المصراة فقد انعطف به قيد على التماثل أفتقولون العلة في غير المصراة التماثل المطلق أو تماثل مضاف إلى غير المصراة فإن قلتم هو مطلق التماثل ومجرده فهو محال لأنه موجود في المصراة ولا حكم
وإن قلتم هو تماثل مضاف فليجب على المعلل الاحتراز فإنه إذا ذكر التماثل المطلق فقد ذكر بعض العلة إذ ليست العلة مجرد التماثل بل التماثل مع قيد الإضافة إلى غير المصراة وعند هذا يكون انتفاء الحكم في مسألة المصراة لعدم العلة فلا يكون نقضا للعلة ولا تخصيصا فإذا قال القائل اقتلوا زيدا لسواده اقتضى ظاهره قتل كل أسود فلو ظهر بنص قاطع أنه ليس يقتل إلا زيد فقد بان أن العلة لم تكن السواد المطلق بل سواد زيد وسواد زيد لا يوجد إلا في زيد فإن لم يقتل غيره فلعدم العلة لا لخصوص العلة ولا لانتقاضها ولا لاستثنائها عن العلة
والجواب أن هذا منشأ تخبط الناس في هذه المسألة وسبب غموضها أنهم تكلموا في تسمية مطلق التماثل علة قبل معرفة حد العلة وأن العلة الشرعية تسمى علة أي اعتبار وقد أطلق الناس اسم العلة باعتبارات مختلفة ولم يشعروا بها ثم تنازعوا في تسمية مثل هذا علة وفي تسمية مجرد السبب علة دون المحل والشرط فنقول اسم العلة مستعار في العلامات الشرعية وقد استعاروها من ثلاثة مواضع على أوجه مختلفة الأول الاستعارة من العلة العقلية وهو عبارة عما يوجب الحكم لذاته فعلى هذا لا يسمى التماثل علة لأنه بمجرده لا يوجب الحكم ولا يسمى السواد علة بل سواد زيد ولا تسمى الشدة المجردة علة لأنه بمجرده لا يوجب الحكم بل شدة في زمان
الثاني الاستعارة من البواعث فإن الباعث على الفعل يسمى علة الفعل فمن أعطى فقيرا فيقال أعطاه لفقره فلو علل به ثم منع فقيرا آخر فقيل له لم لم تعطه وهو فقير فيقول لأنه عدوي ومنع فقيرا ثالثا وقال لأنه معتزلي فلذلك لم أعطه فمن تغلب على طبعه عجرفة الكلام وجدله فقد يقول أخطأ في تعليلك الأول فكان من حقك أن تقول أعطيته لأنه فقير وليس عدوا ولا هو معتزلي ومن بقي على الاستقامة التي يقتضيها أصل الفطرة وطبع المحاورة لم يستبعد ذلك ولم يعده متناقضا وجوز أن يقول أعطيته لأنه فقير لأن باعثه هو الفقر وقد لا يحضره عند الإعطاء العداوة والاعتزال ولا انتفاؤهما ولو كانا جزأين
____________________

(1/335)


من الباعث لم ينبعث إلا عند حضورهما في ذهنه وقد انبعث ولم يخطر بباله إلا مجرد الفقر فمن جوز تسمية الباعث علة فيجوز أن يسمى مجرد التماثل علة لأنه الذي يبعثنا على إيجاب المثل في ضمانه وإن لم يخطر ببالنا إضافنه إلى غير المصراة فإنه قد لا تحضرنا مسألة المصراة أصلا في تلك الحالة
المأخذ الثالث لاسم العلة علة المريض وما يظهر المرض عنده كالبرودة فإنها علة المرض مثلا والمرض يظهر عقيب غلبة البرودة وإن كان لا يحصل بمجرد البرودة بل ربما ينضاف إليها من المزاج الأصلي أمور مثلا كالبياض لكن انضاف المرض إلى البرودة الحادثة وكما ينضاف الهلاك إلى اللطم الذي تحصل التردية به في البئر وإن كان مجرد اللطم لا يهلك دون البئر لكن يحال بالحكم على اللطم لا على التردية التي ظهر بها الهلاك دون ما تقدم وبهذا الاعتبار سمى الفقهاء الأسباب عللا فقالوا علة القصاص القتل وعلة القطع السرقة ولم يلتفوا إلى المحل والشرط فعلى هذا المأخذ أيضا يجوز أن يسمى التماثل المطلق علة وإذا عرف هذا المأخذ فمن قال مجرد التماثل هل هو علة فيقال له ما الذي تفهم من العلة وما الدي تعني بها فإن عنيت بها الموجب للحكم فهذا بمجرده لا يوجب فلا يكون علة وهذا هو اللائق بمن غلب طبع الكلام ولهذا أنكر الأستاذ أبو إسحق تخصيص العلة وإن كانت منصوصة وقال يصير التخصيص قيدا مضموما إلى العلة ويكون المجموع هو العلة وانتفاء الحكم عند انتفاء المجموع وفاء بالعلة وليس بنقص لها وإن عنيت به الباعث أو ما يظهر الحكم به عند الناظر وإن غفل عن غيره فيجوز تسميته علة هذا حكم النظر في التسمية في حق المجتهد أما الاحتراز في الجدل فهو تابع للاصطلاح ويقبح أن يكلف الاحتراز فيه فيقول تماثل في غير المصراة وشدة في غير ابتداء الإسلام وما يجري مجراه
وأعلم أن العلة إن أخذت من العلة العقلية لم يكن للفرق بين المحل والعلة والشرط معنى بل العلة المجموع والمحل والأهل وصف من أوصاف العلة ولا فرق بين الجميع لأن العلة هي العلامة وإنما العلامة جملة الأوصاف والإضافات نعم لا ينكر ترجيح البعض على البعض في أحكام الضمان وغيرها إذ يحال الضمان على المردي دون الحافر وإن كان الهلاك لا يتم إلا بهما لنوع من الترجيح
وكذلك لا ينكرون أن تعجيل الزكاة قبل الحول لا يدل على تعجيل الزكاة قبل تمام النصاب وإن كان كل واحد لا بد منه لكن ربما لا ينقدح للمجتهد التسوية بين جميع أجزاء العلة ويراها متفاوتة في مناسبة الحكم ولا يمتنع أيضا الاصطلاح على التعبير عن البعض بالمحل وعن البعض بركن العلة وهذا فيه كلام طويل ذكرناه في كتاب شفاء الغليل ولم نورده ههنا لأنها مباحث فقهية قد استوفيناها في الفقه فلا نطول الأصول بها
مسألة ( تعليل الحكم بعلتين ) اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين
والصحيح عندنا جوازه لأن العلة الشرعية علامة ولا يمتنع نصب علامتين على شيء واحد وإنما يمتنع هذا في العلل العقلية ودليل جوازه وقوعه فإن من لمس ومس وبال في وقت واحد ينتقض وضوؤه ولا يحال على واحد من هذه الأسباب ومن أرضعته زوجة أخيك وأختك أيضا أو جمع لبنهما وانتهى إلى حلق المرضع في لحظة واحدة حرمت عليك لأنك خالها وعمها والنكاح فعل واحد وتحريمه حكم
____________________

(1/336)


واحد ولا يمكن أن يحال على الخؤولة دون العمومة أو بعكسه ولا يمكن أن يقال هما تحريمان وحكمان بل التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة ويستحيل اجتماع مثلين نعم لو فرض رضاع ونسب فيجوز أن يرجح النسب لقوته أو اجتمع ردة وعدة وحيض فيحرم الوطء فيجوز أن يتوهم تعديد التحريمات ولو قتل وارتد فيجوز أن يقال المستحق قتلان ولو قتل شخصين فكذلك ولو باع حرا بشرط خيار مجهول ربما قيل علة البطلان الحرية دون الخيار فهذه أوهام ربما تنقدح في بعض المواضع وإنما فرضناه في اللمس والمس والخؤولة والعمومة لدفع هذه الخيالات فدل هذا على إمكان نصب علامتين على حكم واحد وعلى وقوعه أيضا فإن قيل فإذا قاس المعلل على أصل بعلة فذكر المعترض علة أخرى في الأصل بطل قياس المعلل وإن أمكن الجمع بين علتين فلم يقبل هذا الاعتراض فنقول إنما يبطل به استشهاده بالأصل إن كانت علته ثابتة بطريق المناسبة المجردة دون التأثير أو بطريق العلامة الشبيهة أما إن كان بطريق التأثير أعني ما دل النص أو الإجماع على كونه علة فاقتران علة أخرى بها لا يفسدها كالبول والمس والخؤولة والعمومة في الرضاع إذ دل الشرع على أن كل واحد من المعنيين علة على حيالها أما إذا كان إثباته بشهادة الحكم والمناسبة انقطع الظن بظهور علة أخرى
مثاله إن من أعطى إنسانا فوجدناه فقيرا ظننا أنه أعطاه لفقره وعللناه به وإن وجدناه قريبا عللنا بالقرابة فإن ظهر لنا الفقر بعد القرابة أمكن أن يكون الإعطاء للفقر لا للقرابة أو يكون لاجتماع الأمرين فيزول ذلك الظن لأن تمام ذلك الظن بالسبر وهو أنه لا بد من باعث على العطاء ولا باعث إلا الفقر فإذا هو الباعث أو لا باعث إلا القرابة فإذا هو الباعث فإذا ظهرت علة أخرى بطلت إحدى مقدمتي السبر وهو أنه لا باعث إلا كذا وكذلك عتقت بريرة تحت عبد فخيرها النبي عليه السلام فيقول أبو حنيفة خيرها لملكها نفسها ولزوال قهر الرق عنها فإنها كانت مقهورة في النكاح وهذا مناسب فيبني عليه تخييرها وإن عتقت تحت حر فقلنا العلة خيرها لتضررها بالمقام تحت عبد ولا يجري ذلك في الحر فكيف يلحق به وإمكان هذا يقدح في الظن الأول فإنه لا دليل له عليه إلا المناسبة ودفع الضرر أيضا مناسب وليست الحوالة على ذلك أولى من هذا إلا أن يظهر ترجيح لأحد المعنيين وأما مثال العلامة الشبهية فعلة الربا فإنه لم يذهب أحد إلى الجمع بين القوت والطعم والكيل على أن كل واحد علة لأنه لم يقم دليل من جهة النص والاجماع بل طريقة إظهار الضرورة في طلب علامة ضابطة مميزة مجرى الحكم عن موقعه إذ جرى الربا في الخبز والعجين مع زوال اسم البر فلا يتم النظر إلا بقولنا ولا بد من علامة ولا علامة أولى من الطعم فإذا هو العلامة فإذا ظهرت علامة أخرى مساوية بطلت المقدمة الثانية من النظر فانقطع الظن والحاصل أن كل تعليل يفتقر إلى السبر فمن ضرورته اتحاد العلة وإلا انقطع شهادة الحكم للعلة وما لا يفتقر إلى السبر كالمؤثر فوجود علة أخرى لا يضر وقد ذكرنا هذا في خواص هذه الأقيسة
مسألة ( اشتراط العكس في العلة ) اختلفوا في اشتراط العكس في العلل الشرعية وهذا الخلاف لا معنى له بل لا بد من تفصيل وقبل التفصيل فاعلم أن العلامات الشرعية دلالات فإذا جاز اجتماع
____________________

(1/337)


دلالات لم يكن من ضرورة انتفاء بعضها انتفاء الحكم لكنا نقول إن لم يكن للحكم إلا علة واحدة فالعكس لازم لا لأن انتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم بل لأن الحكم لا بد له من علة فإذا اتحدت العلة وانتفت فلو بقي الحكم لكان ثابتا بغير سبب أما حيث تعددت العلة فلا يلزم انتفاء الحكم عند انتفاء بعض العلل بل عند انتفاء جميعها
والذي يدل على لزوم العكس عند اتحاد العلة أنا إذا قلنا لا تثبت الشفعة للجار لأن ثبوتها للشريك معلل بعلة الضرر اللاحق من التزاحم على المرافق المتخذة من المطبخ والخلاء والمطرح للتراب ومصعد السطح وغيره فلأبي حنيفة أن يقول هذا لا مدخل له في التأثير فإن الشفعة ثابتة في العرصة البيضاء وما لا مرافق له فهذا الآن عكس وهو لازم لأنه يقول لو كان هذا مناطا للحكم لانتفى الحكم عند انتفائه فنقول السبب فيه ضرر مزاحمة الشركة فنقول لو كان كذلك لثبت في شركة العبيد والحيوانات والمنقولات فإن قلنا ضرر الشركة فيما يبقى ويتأبد فيقول فلتجز في الحمام الصغير وما لا ينقسم فلا يزال يؤاخذنا بالطرد والعكس وهي مؤاخذة صحيحة إلى أن نعلل بضرر مؤونة القسمة ونأتي بتمام قيود العلة بحيث يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها وهذا المكان أنا أثبتنا هذه العلة بالمناسبة وشهادة الحكم لها لوروده على وفقها وشرط مثل هذه العلة الاتحاد وشرط الاتحاد العكس فإن قيل ولفظ العكس هل يراد به معنى سوى انتفاء الحكم عند انتفاء العلة قلنا هذا هو المعنى الأشهر وربما أطلق على غيره بطريق التوهم كما يقول الحنفي لما لم يجب القتل بصغير المثقل لم يجب بكبيره بدليل عكسه وهو أنه لما وجب بكبير الجارح وجب بصغيره وقالوا لما سقط بزوال العقل جميع العبادات ينبغي أن يجب برجوع العقل جميع العبادات وهذا فاسد لأنه لا مانع من أن يرد الشرع بوجوب القصاص بكل جارح وإن صغر ثم يخصص في المثقل بالكبير ولا بعد في أن يكون العقل شرطا في العبادات ثم لا يكفي مجرده للوجوب بل يستدعي شرطا آخر
مسألة ( هل تصح العلة القاصرة أم لا ) العلة القاصرة صحيحة وذهب أبو حنيفة إلى إبطالها ونحن نقول أولا ينظر الناظر في استنباط العلة وإقامة الدليل على صحتها بالإيماء أو بالمناسبة أو تضمن المصلحة المبهمة ثم بعد ذلك ينظر فإن كان أعم من النص عدي حكمها وإلا اقتصر فالتعدية فرع الصحة فكيف يكون ما يتبع الشيء مصححا له فإن قيل كما أن البيع يراد للملك والنكاح للحل فإذا تخلفت فائدتهما قيل أنهما باطلان فكذلك العلة تراد لإثبات الحكم بها في غير محل النص فإذا لم يثبت بها حكم كانت باطلة لخلوها عن الفائدة وللجواب منهاجان أحدهما أن نسلم عدم الفائدة ونقول إن عنيتم بالبطلان أنه لا يثبت بها حكم في غير محل النص فهو مسلم ونحن لا نعني بالصحة إلا أن الناظر ينظر ويطلب العلة
ولا ندري أن ما سيفضي إليه نظره قاصر أو متعد ويصحح العلة بما يغلب على ظنه من مناسبة أو مصلحة أو تضمن مصلحة ثم يعرف بعد ذلك تعديه أو قصوره فما ظهر من قصوره لا ينعطف فسادا على مأخذ ظنه ونظره ولا ينزع من قلبه ما قر في نفسه من التعليل فإذا فسرنا الصحة بهذا القدر لم يمكن جحده وإذا فسروا البطلان بما ذكروه لم نجحده وارتفع
____________________

(1/338)


الخلاف
الثاني أنا لا نسلم عدم الفائدة بل له فائدتان الأولى معرفة باعث الشرع ومصلحة الحكم استمالة للقلوب إلى الطمأنينة والقبول بالطبع والمسارعة إلى التصديق فإن النفوس إلى قبول الأحكام المعقولة الجارية على ذوق المصالح أميل منها إلى قهر التحكم ومرارة التعبد ولمثله هذا الغرض استحب الوعظ وذكر محاسن الشريعة ولطائف معانيها وكون المصلحة مطابقة للنص وعلى قدر حذقه يزيدها حسنا وتأكيدا فإن قيل هذا إنما يجري في المناسب دون الأوصاف الشبيهة مثل النقدية في الدراهم والدنانير وقد جوزتم التعليل بمثل هذه العلة القاصرة قلنا تعريف الأحكام بمعان توهم الاشتمال على مصلحة ومناسبة أقرب إلى العقول من تعريفها بمجرد الإضافة إلى الأسامي فلا تخلو من فائدة ثم إن لم تجر هذه الفائدة في العلة الشبهية فالفائدة الثانية جارية
الفائدة الثانية المنع من تعدية الحكم عند ظهور علة أخرى متعدية إلا بشرط الترجيح فإن قيل تمتنع تعدية الحكم لا بظهور علة قاصرة بل بأن لا تظهر علة متعدية فأي حاجة إلى العلة القاصرة وإن ظهرت علة متعدية فلا يمتنع التعليل بالعلة القاصرة بل يعلل الحكم في الأصل بعلتين وفي الفرع بعلة واحدة قلنا ليس كذلك فإن كل علة مخيلة أو شبهية فإنما تثبت بشهادة الحكم وتتم بالسبر وشرطه الاتحاد كما سبق فإذا ظهرت علة أخرى انقطع الظن فإذا ظهرت علة متعدية يجب تعدية الحكم فإن أمكن التعليل بعلة قاصرة عارضت المتعدية ودفعتها إلا إذا اختصت المتعدية بنوع ترجيح فإذا أفادت القاصرة دفع المتعدية التي تساويها والمتعدية دفع القاصرة وتقاوما بقي الحكم مقصورا على النص ولولا القاصرة لتعدي الحكم فإن قيل إنما تصح العلة بفائدتها الخاصة بها وفائدة العلة الحكم بالفرع دون حكم الأصل فإن حكم الأصل ثابت بالنص لا بالعلة إنما الذي يثبت بالعلة حكم الفرع إذ فائدتها تعدية الحكم فإذا لم تكن تعدية فلا حكم للعلة قلنا قولكم فائدة العلة حكم الفرع محال لأن علة تحريم الربا في البر طعم البر ولا تحرم الذرة بطعم البر بل بطعم الذرة فحكم الفرع فائدة علة في الفرع لا فائدة علة في الأصل وقولكم حكمها التعدية محال فإن لفظ التعية تجوز واستعارة وإلا فالحكم لا يتعدى من الأصل إلى الفرع بل يثبت في الفرع مثل حكم الأصل عند وجود مثل تلك العلة فلا حقيقة للتعدي ويتولد من هذا النظر مسألة وهي أن العلة إذا كانت متعدية فالحكم في محل النص يضاف إلى العلة أو إلى النص فقال أصحاب الرأي يضاف إلى النص لأن الحكم مقطوع به في المنصوص والعلة مظنونة فكيف يضاف مقطوع إلى مظنون وقال أصحابنا يضاف إلى العلة وهو نزاع لا تحقيق تحته فإنا لا نعني بالعلة إلا باعث الشرع على الحكم فإنه لو ذكر جميع المسكرات بأسمائها فقال لا تشربوا الخمر والنبيذ وكذا وكذا ونص على جميع مجاري الحكم لكان استيعابه مجاري الحكم لا يمنعنا من أن نظن أن الباعث له على التحريم الإسكار فنقول الحكم مضاف إلى الخمر والنبيذ بالنص ولكن الإضافة إليه معلل بالشدة بمعنى أن باعث الشرع على التحريم هو الشدة وقولهم إنه مظنون فنقول ونحن لا نزيد على أن نقول نظن أن باعث الشرع الشدة فلا يسقط هذا الظن باستيعاب مجاري الحكم ولا حجر علينا في أن نصدق فنقول إنما نظن
____________________

(1/339)


كذا مهما ظننا ذلك
فإن قيل الظن جهل إنما يجوز لضرورة العمل والعلة القاصرة لا يتعلق بها عمل فلا يجوز الهجرة عليها برجم الظنون وعند هذا كاع بعض الأصحاب وقال إن كانت منصوصة جاز إضافة الحكم إليها في محل النص كالسرقة مثلا وإلا فلا ونحن نقول لا مانع من هذا الظن للفائدتين المذكورتين إحداهما استمالة القلوب إلى حسن التصديق والانقياد وأكثر المواعظ على هذه الصفة ظنية وخلقت طباع الآدميين مطيعة للظنون بل للأوهام وأكثر بواعث الناس على أعمالهم وعقائدهم في مصادرهم ومواردهم ظنون
الفائدة الثانية مدافعة العلة المعارضة له كما سبق
خاتما لهذا الباب فيما يفسد العلة قطعا وما يفسدها ظنا واجتهادا ومثارات فساد العلل القطعية أربعة الأول الأصل وشروطه أربعة الأول أن يكون حكما شرعيا فإن كان عقليا فلا يمكن أن يعلل بعلة تثبت حكما سمعيا
الثاني أن يكون حكم الأصل معلوما بنص أو إجماع فإن كان مقيسا على أصل فهو فرع فالقياس عليه باطل قطعا إن لم يكن الجامع هو علة الأصل الأول وإن كان هو تلك العلة فتعيين الفرع مع إمكان القياس على الأصل عبث بلا فائدة
والثالث أن يكون الأصل قابلا للتعليل لا كوجوب شهر رمضان وتقدير صلاة المغرب بثلاث ركعات وأمثاله وكان هذا فاسدا من جهة عدم الدليل على صحة العلة
الرابع أن يكون الأصل المستنبط منه غير منسوخ فإن المنسوخ كان أصلا وليس هو الآن أصلا وليس من هذا القبيل قياس رمضان على صوم عاشوراء في التبييت فإن من سلم وجوبه في ابتداء الإسلام وسلم افتقاره إلى التبييت لم يبعد أن يستشهد به على رمضان الذي أبدل وجوب عاشوراء به فإن المنسوخ نفس الوجوب وليس نقيس في الوجوب لكن في مأخذ دلالة الوجوب على الحاجة إلى التبييت وهذا أيضا وإن كان قريبا فلا يخلو عن نظر
المثار الثاني أن يكون من جهة الفرع وله وجوه ثلاثة الأول أن يثبت في الفرع خلاف حكم الأصل مثاله قوله بلغ برأس المال في السلم أقصى مراتب الأعيان فليبلغ بعوضه أقصى مراتب الديون قياسا لأحد العوضين على الآخر فهذا باطل قطعا لأنه خلاف صورة القياس إذ القياس لتعدية الحكم وليس هذا تعدية
الثاني أن تثبت العلة في الأصل حكما مطلقا ولا يمكن أن تثبت في الفرع إلا بزيادة أو نقصان فهو باطل قطعا لأنه ليس على صورة تعدية الحكم فلا يكون قياسا مثاله قولهم شرع في صلاة الكسوف ركوع زائد لأنها صلاة تشرع فيها الجماعة فتختص بزيادة كصلاة الجمعة فإنها تختص بالخطبة وصلاة العيد فإنها تختص بالتكبيرات وهذا فاسد فإنه ليس يتمكن من تعدية الحكم على وجه وتفصيله
الثالث أن لا يكون الحكم اسما لغويا فقد بينا أن اللغة لا تثبت قياسا وتلك المسألة قطعية وربما جعلها قوم مسألة اجتهادية وإثبات اسم الزنا والسرقة والخمر للائط والنباش والنبيذ من هذا القبيل فكان هذا بالمثار الأول أليق

____________________

(1/340)


المثار الثالث أن يرجع الفساد إلى طريق العلة وهو على أوجه الأول انتفاء دليل على صحة العلة فإنه دليل قاطع على فاسدها فمن استدل على صحة علته بأنه لا دليل على فسادها فقياسه باطل قطعا وكذلك إن استدل بمجرد الاطراد على صحة العلة فإنه دليل قاطع على فاسدها فمن استدل على صحة علته بأنه لا دليل على فسادها فقياسه باطل قطعا وكذلك إن استدل بمجرد الاطراد إن لم ينضم إليه سبر وربما رأي بعضهم إبطال الطرد في محل الاجتهاد
الثاني أن يستدل على صحة العلة بدليل عقلي فهو باطل قطعا فإن كون الشيء علة للحكم أمر شرعي
الثالث أن تكون العلة دافعة للنص ومناقضة لحكم منصوص فالقياس على خلاف النص باطل قطعا
وكذا على خلاف الإجماع
وكذلك ما يخالف العلة المنصوصة كتعليل تحريم الخمر بغير الإسكار المثير للعداوة والبغضاء وليس التعليل بالكيل من هذا الجنس وإن دفع قوله لا تبيعوا الطعام بالطعام لأنه إيماء إلى التعليل بالطعم وليس بصريح لا يقبل التأويل وليس من هذا القبيل التعليل بعلة غير علة صاحب الشرع مع تقرير العلة المنصوصة فإن النص على علة واحدة لا يمنع وجود علة أخرى ولذلك يجوز تعليل الحكم بغير ما علل به الصحابة إذا لم تدفع علتهم إذ لم يكن فرض الصحابة استنباط جميع العلل
المثار الرابع وضع القياس في غير موضعه كمن أراد أن يثبت أصل القياس أو أصل خبر الواحد بالقياس فقاس الرواية على الشهادة وكذلك المسائل الأصولية العقلية لا سبيل إلى إثباتها بالأقيسة الظنية فاستعمال القياس فيها وضع له في غير موضعه هذه المفسدات القطعية
القسم الثاني في المفسدات الظنية الاجتهادية التي نعني بفسادها أنها فاسدة عندنا وفي حقنا إذ لم تغلب على ظننا وهي صحيحة في حق من غلبت على ظنه ومن قال المصيب واحد فيقول هي فاسدة في نفسها لا بالإضافة إلى أني أجوز أن أكون أنا المخطىء وعلى الجملة لا تأثيم في محل الاجتهاد ومن خالف الدليل القطعي فهو آثم وهذه المفسدات تسع الأول العلة المخصوصة باطلة عند من لا يرى تخصيص العلة صحيحة عند من يبقى ظنه مع التخصيص
الثاني علة مخصصة لعموم القرآن هي صحيحة عندنا فاسدة عند من رأى تقديم العموم على القياس
الثالث علة عارضتها علة تقتضي نقيض حكمها فاسدة عند من يقول المصيب واحد صحيحة عند من صوب كل مجتهد وهما علامتان لحكمين في حق المجتهدين وفي حق مجتهد واحد في حالتين فإن اجتمعا في حالة واحدة
فقد نقول إنه يوجب التخيير كما سيأتي
الرابع أن لا يدل على صحتها إلا الطرد والعكس وقد يقال ما يدل عليه مجرد الاطراد فهو أيضا في محل الاجتهاد
الخامس أن يتضمن زيادة على النص كما في مسألة الرقبة الكافرة
السادس القياس في الكفارات والحدود وقد ذكرنا في هذا ما يظن أنه يرفع الخلاف
السابع ذهب قوم إلى أنه لا يجوز انتزاع العلة من خبر الواحد بل ينبغي أن تؤخذ من أصل مقطوع به وهذا فاسد ولا يبعد من أن يكون فساده مقطوعا به
الثامن علة تخالف مذهب الصحابة وهي فاسدة عند من يوجب اتباع الصحابة وإن كان المنع من تقليد الصحابي مسألة اجتهادية فهذا مجتهد فيه ولا يبعد أن يقول بطلان ذلك المذهب مقطوع به
التاسع أن يكون وجود العلة في الفرع مظنونا لا
____________________

(1/341)


مقطوعا به وقد ذكرنا فيه خلافا والله أعلم
هذه هي المفسدات
ووراء هذا اعتراضات مثل المنع وفساد الوضع وعدم التأثير والكسر والفرق والقول بالموجب والتعدية والتركيب وما يتعلق فيه تصويب نظر المجتهدين قد انطوى تحت ما ذكرناه وما لم يندرج تحت ما ذكرناه فهو نظر جدلي يتبع شريعة الجدل التي وضعها الجدليون باصطلاحهم فإن لم يتعلق بها فائدة دينية فينبغي أن تشح على الأوقات أن تضيعها بها وتفصيلها وإن تعلق بها فائدة من ضم نشر الكلام ورد كلام المناظرين إلى مجرى الخصام كيلا يذهب كل واحد عرضا وطولا في كلامه منحرفا عن مقصد نظره فهي ليست فائدة من جنس أصول الفقه بل هي من علم الجدل فينبغي أن تفرد بالنظر ولا تمزح بالأصول التي يقصد بها تذليل طرق الاجتهاد للمجتهدين
وهذا آخر القطب الثالث المشتمل على طرق استثمار الأحكام إما من صيغة اللفظ وموضوعه أو إشارته ومقتضاه ومعقوله ومعناه فقد استوفيناه والله أعلم
القطب الرابع في حكم المستثمر وهو المجتهد ويشتمل هذا القطب على ثلاثة فنون فن في الاجتهاد وفين في التقليد وفن في ترجيح المجتهد دليلا على دليل عند التعارض
الفن الأول في الاجتهاد والنظر في أركانه وأحكامه أما أركانه فثلاثة المجتهد والمجتهد فيه نفس الاجتهاد الركن الأول في نفس الاجتهاد وهو عبارة عن بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال ولا يستعمل إلا فيما فيه كلفة وجهد فيقال اجتهد في حمل حجر الرحا ولا يقال اجتهد في حمل خردلة لكن صار اللفظ في عرف العلماء مخصوصا ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة والاجتهاد التام أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب
الركن الثاني المجتهد وله شرطان أحدهما أن يكون محيطا بمدارك الشرع متمكنا من استثارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره
والشرط الثاني أن يكون عدلا مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة وهذا يشترط لجواز الاعتماد على فتواه فمن ليس عدلا فلا تقبل فتواه
أما هو في نفسه فلا فكأن العدالة شرط القبول للفتوى لا شرط صحة الاجتهاد فإن قيل متى يكون محيطا بمدارك الشرع وما تفصيل العلوم التي لا بد منها لتحصيل منصب الاجتهاد قلنا إنما يكون متمكنا من الفتوى بعد أن يعرف المدارك المثمرة للأحكام وأن يعرف كيفية الاستثمار والمدارك المثمرة للأحكام كما فصلناها أربعة الكتاب والسنة والإجماع والعقل
وطريق الاستثمار يتم بأربعة علوم اثنان مقدمان واثنان متممان وأربعة في الوسط فهذه ثمانية فلنفصلها ولننبه فيها على دقائق أهملها الأصوليون أما كتاب الله عز وجل فهو الأصل ولا بد من معرفته ولنخفف عنه أمرين
أحدهما إنه لا يشترط معرفة جميع الكتاب بل ما تتعلق به الأحكام منه وهو مقدار خمسمائة آية
الثاني لا يشترط حفظها عن ظهر قلبه بل أن يكون عالما بمواضعها بحيث
____________________

(1/342)


يطلب فيها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة وأما السنة فلا بد من معرفة الأحاديث التي تتعلق بالأحكام وهي وإن كانت زائدة على ألوف فهي محصورة وفيها التخفيفان المذكوران إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأحاديث بالمواعظ وأحكام الآخرة وغيرها الثاني لا يلزمه حفظها عن ظهر قلبه بل أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن لأحمد البيهقي أو أصل وقعت العناية فيه بجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى وإن كان يقدر على حفظه فهو أحسن وأكمل
وأما الاجماع فينبغي أن تتميز عنده مواقع الاجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع كما يلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتي بخلافها والتخفيف في هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف بل كل مسألة يفتي فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس مخالفا للإجماع إما بأن يعلم أنه موافق مذهبا من مذاهب العلماء أيهم كان أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية وأما العقل فنعني به مستند النفي الأصلي للأحكام فإن العقل قد دل على نفي الحرج في الأقوال والأفعال وعلى نفي الأحكام عنها من صور لا نهاية لها أما ما استثنته الأدلة السمعية من الكتاب والسنة فالمستثناة محصورة وإن كانت كثيرة فينبغي أن يرجع في كل واقعة إلى النفي الأصلي والبراءة الأصلية ويعلم أن ذلك لا يغير إلا بنص أو قياس على منصوص فيأخذ في طلب النصوص وفي معنى النصوص الإجماع وأفعال الرسول بالإضافة إلى ما يدل عليه الفعل على الشرط الذي فصلناه هذه المدارك الأربعة
فأما العلوم الأربعة التي بها يعرف طرق الاستثمار فعلمان مقدمان أحدهما معرفة نصب الأدلة وشروطها التي بها تصير البراهين والأدلة منتجة والحاجة إلى هذا تعم المدارك الأربعة
والثاني معرفة اللغة والنحو على وجه يتيسر له به فهم خطاب العرب وهذا يخص فائدة الكتاب والسنة ولكل واحد من هذين العلمين تفصيل وفيه تخفيف وتثقيل أما تفصيل العلم الأول فهو أن يعلم أقسام الأدلة وأشكالها وشروطها فيعلم أن الأدلة ثلاثة عقلية تدل لذاتها وشرعية صارت أدلة بوضع الشرع ووضعية وهي العبارات اللغوية ويحصل تمام المعرفة فيه بما ذكرناه في مقدمة الأصول من مدارك العقول لا بأقل منه فإن من لم يعرف شروط الأدلة لم يعرف حقيقة الحكم ولا حقيقة الشرع ولم يعرف مقدمة الشارع ولا عرف من أرسل الشارع ثم قالوا لا بد أن يعرف حدوث العالم وافتقاره إلى محدث موصوف بما يجب لهومن الصفات منزه عما يستحيل عليه وأنه متعبد عباده ببعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات وليكن عارفا بصدق الرسول والنظر في معجزته والتخفيف في هذا عندي أن القدر الواجب من هذه الجملة اعتقاد جازم إذ به يصير مسلما والإسلام شرط المفتي لا محالة فأما معرفته بطرق الكلام والأدلة المحررة على عادتهم فليس بشرط إذا لم يكن في الصحابة والتابعين من يحسن صنعة الكلام
فأما مجاوزة حد التقليد فيه إلى معرفة الدليل فليس بشرط أيضا لذاته لكنه يقع من ضرورة منصب الاجتهاد فإنه لا يبلغ رتبة الاجتهاد في العلم إلا وقد قرع سمعه أدلة خلق العالم وأوصاف الخالق وبعثة الرسل وإعجاز القرآن فإن كل ذلك يشتمل عليه كتاب الله وذلك محصل للمعرفة الحقيقية مجاوز بصاحبه حد التقليد
____________________

(1/343)


وإن لم يمارس صاحبه صنعة الكلام فهذا من لوازم منصب الاجتهاد حتى لو تصور مقلد محض في تصديق الرسول وأصول الإيمان لجاز له الاجتهاد في الفروع
أما المقدمة الثانية فعلم اللغة والنحو أعني القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال إلى حد يميز بين صريح الكلام وظاهره ومجمله وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه ومحكمه ومتشابهة ومطلقه ومقيده ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة ويتعمق في النحو بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب ودرك حقائق المقاصد منه وأما العلمان المتممان
فأحدهما معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة وذلك في آيات وأحاديث مخصوصة والتخفيف فيه أن لا يشترط أنيكون جميعه على حفظه بل كل واقعة يفتي فيها بآية أو حديث فينبغي أن يعلم أن ذلك الحديث وتلك الآية ليست من جملة المنسوخ وهذا يعم الكتاب والسنة
الثاني وهو يخص السنة معرفة الرواية وتمييز الصحيح منها عن الفاسد والمقبول عن المردود فإن ما لا ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه والتخفيف فيه أن كل حديث يفتى به مما قبلته الأمة فلا حاجة به إلى النظر في إسناده وإن خالفه بعض العلماء فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم فإن كانوا مشهورين عنده كما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا اعتمد عليه فهؤلاء قد تواتر عند الناس عدالتهم وأحوالهم والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة أو بتواتر الخبر فمانزل عنه فهو تقليد وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار الصحيحين وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته فهذا مجرد تقليد وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع أحوالهم وسيرهم ثم ينظر في سيرهم أنها تقتضي العدالة أم لا وذلك طويل وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير
والتخفيف فيه أن يكتفي بتعديل الإمام العدل بعد أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل به ويجرح فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة والمشاهدة في حقه ولو شرط أن تتواتر سيرته فذلك لا يصادف إلا في الأئمة المشهورين فيقلد في معرفة سيرته عدلا فيما يخبر فنقلده في تعديله بعد أن عرفنا صحة مذهبه في التعديل فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الأئمة رواتها قصر الطريق على المفتي وإلا طال الأمر وعسر الخطب في هذا الزمان مع كثرة الوسائط ولا يزال الأمر يزداد شدة بتعاقب الأعصار فهذه هي العلوم الثمانية التي يستفاد بها منصب الاجتهاد ومعظم ذلك يشتمل عليه ثلاثة فنون علم الحديث وعلم اللغة وعلم أصول الفقه فأما الكلام وتفاريع الفقه فلا حاجة إليهما وكيف يحتاج إلى تفاريع الفقه وهذه التفاريع يولدها المجتهدون ويحكمون فيها بعد حيازة منصب الاجتهاد فكيف تكون شرطا في منصب الاجتهاد وتقدم الاجتهاد عليها شرط نعم إنما يحصل منصب الاجتهاد في زماننا بممارسته فهو طريق تحصيل الدربة في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمان الصحابة ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا
دقيقة في التخفيف يغفل عنها الأكثرون اجتماع هذه العلوم الثمانية إنما يشترط في
____________________

(1/344)


حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع وليس الاجتهاد عندي منصبا لا يتجزأ بل يجوز أن يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الأحكام دون بعض فمن عرف طريق النظر القياسي فله أن يفتي في مسألة قياسية وإن لم يكن ماهرا في علم الحديث فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفا بأصول الفرائض ومعانيها وإن لم يكن قد حصل الأخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات أو في مسألة النكاح بلا ولي فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها ولا تعلق لتلك الأحاديث بها فمن أين تصير الغفلة عنها أو القصور عن معرفتها نقصا ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى { وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } المائدة 6 وقس عليه ما في معناه وليس من شرط المفتي أن يجيب عن كل مسألة فقد سئل مالك رحمه الله عن أربعين مسألة فقال في ستة وثلاثين منها لا أدري وكم توقف الشافعي رحمه الله بل الصحابة في المسائل فإذا لا يشترط إلا أن يكون على بصيرة فيما يفتي فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري فيتوقف فيما لا يدري ويفتي فيما يدري
الركن الثالث المجتهد فيه والمجتهد فيه كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي واحترزنا بالشرعي عن العقليات ومسائل الكلام فإن الحق فيها واحد والمصيب واحد والمخطىء آثم وإنما نعني بالمجتهد فيه ما لا يكون المخطىء فيه آثما ووجوب الصلوات الخمس والزكوات وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع فيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف فليس ذلك محل الاجتهاد فهذه هي الأركان فإذا صدر الاجتهاد التام من أهله وصادف محله كان ما أدى إليه الاجتهاد حقا وصوابا كما سيأتي وقد ظن ظانون أن شرط المجتهد أن لا يكون نبيا فلم يجوزوا الاجتهاد للنبي وأن شرط الاجتهاد أن لا يقع في زمن النبوة فنرسم فيه مسألتين
مسألة ( الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ) اختلفوا في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمان الرسول عليه السلام فمنعه قوم وأجازه قوم وقال قوم يجوز للقضاة والولاة في غيبته لا في حضور النبي صلى الله عليه وسلم والذين جوزوا منهم من قال يجوز بالأذن ومنهم من قال يكفي سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اختلف المجوزون في وقوعه والمختار أن ذلك جائز في حضرته وغيبته وأن يدل عليه بالأذن أو السكوت لأنه ليس في التعبد به استحالة في ذاته ولا يفضي إلى محال ولا إلى مفسدة وإن أوجبنا الصلاح فيجوز أن يعلم الله لطفا يقتضي ارتباط صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد لعلمه بأنه لو نص لهم على قاطع لبغوا وعصوا فإن قيل الاجتهاد مع النص محال وتعرف الحكم بالنص بالوحي الصريح ممكن فكيف يردهم إلى ورطة الظن قلنا فإذا قال لهم أوحي إلي أن حكم الله تعالى عليكم ما أدى إليه اجتهادكم وقد تعبدكم بالاجتهاد فهذا نص وقولهم الاجتهاد مع النص محال مسلم ولكن لم ينزل نص في الواقعة وإمكان النص لا يضاد الاجتهاد وإنما يضاده نفس النص كيف وقد تعبد النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء بقول الشهود حتى قال إنكم لتختصمون
____________________

(1/345)


إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وكان يمكن نزول الوحي بالحق الصريح في كل واقعة حتى لا يحتاج إلى رجم بالظن وخوف الخطأ فأما وقوعه فالصحيح أنه قام الدليل على وقوعه في غيبته بدليل قصة معاذ فأما في حضرته فلم يقم فيه دليل فإن قيل فقد قال لعمرو بن العاص أحكم في بعض القضايا فقال إجتهد وأنت حاضر فقال نعم إن أصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر وقال لعقبة بن عامر ولرجل من الصحابة اجتهدوا فإن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن أخطأتما فلكما حسنة قلنا حديث معاذ مشهور قبلته الأمة وهذه أخبار آحاد لا تثبت وأن ثبتت احتمل أن يكون مخصوصا بهما أو في واقعة معينة وإنما الكلام في جواز الاجتهاد مطلقا في زمانه
مسألة ( اختلفوا في النبي عليه السلام ) هل يجوز له الحكم بالاجتهاد فيما لا نص فيه والنظر في الجواز والوقوع والمختار جواز تعبد بذلك لأنه ليس بمحال في ذاته ولا يفضي إلى محال ومفسدة فإن قيل المانع منه أنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح فكيف يرجم الظن قلنا فإذا استكشف فقيل له حكمنا عليك أن تجتهد وأنت متعبد به فهل له أن ينازع الله فيه أو يلزمه أن يعتقد أن صلاحه فيما تعبد به فإن قيل قوله نص قاطع يضاد الظن والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ فهما متضادان قلنا إذا قيل له ظنك علامة الحكم فهو يستيقن الظن والحكم جميعا فلا يحتمل الخطأ وكذلك اجتهاد غيره عندنا ويكون كظنه صدق الشهود فإنه يكون مصيبا وإن كان الشاهد مزورا في الباطن فإن قيل فإن ساواه غيره في كونه مصيبا بكل حال فليجز لغيره أن يخالف قياسه باجتهاد نفسه قلنا لو تعبد بذلك لجاز ولكن دل الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده كما دل على تحريم مخالفة الأمة كافة وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم لأن صلاح الخلق في اتباع دل على تحريم مخالفة الأمة كافة وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم لأن صلاح الخلق في اتباع رأي الإمام والحاكم وكافة الأمة فكذلك النبي ومن ذهب إلى أن المنصيب واحد يرجح اجتهاده لكونه معصوما عن الخطأ دون غيره ومنهم من جوز عليه الخطأ ولكن لا يقر عليه فإن قيل كيف يجوز ورود التعبد بمخالفة اجتهاده وذلك يناقض الاتباع وينفر عن الانقياد قلنا إذا عرفهم على لسانه بأن حكمهم اتباع ظنهم وإن خالف ظن النبي كان اتباعه في امتثال ما رسمه لهم كما في القضاء بالشهود فإن لو قضي النبي بشهادة شخصين لم يعرف فسقهما فشهدا عند حاكم عرف فسقهما لم يقبلهما وأما التنفير فلا يحصل بل تكون مخالفته فيه كمخالفته في الشفاعة وفي تأبير النخل ومصالح الدنيا فإن قيل لو قاس فرعا على أصل أفيجوز إيراد القياس على فرعه أم لا إن قلتم لا فمحال لأنه صار منصوصا عليه من جهته وإن قلتم نعم فكيف يجوز القياس على الفرع قلنا يجوز القياس عليه وعلى كل فرع أجمعت الأمة على إلحاقه بأصل لأنه صار أصلا بالإجماع والنص فلا ينظر إلى مأخذهم وما ألحقه بعض العلماء فقد جوز بعضهم القياس عليه وإن لم توجد علة الأصل أما الوقوع فقد قال به قوم وأنكره آخرون وتوقف فيه فريق ثالث وهو الأصح فإنه لم يثبت فيه قاطع احتج القائلون به بأنه عوتب عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر وقيل { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } الأنفال 67
____________________

(1/346)


وقال النبي عليه السلام ولو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر لأنه كان قد أشار بالقتل ولو كان قد حكم بالنص لما عوتب قلنا لعله كان مخيرا بالنص في إطلاق الكل أو قتل الكل أو فداء الكل فأشار بعض الأصحاب بتعيين الإطلاق على سبيل المنع عن غيره فنزل العتاب مع الذي عينوا لا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن ورد بصيغة الجمع والمراد به أولئك خاصة واحتجوا بأنه لما قال لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها قال العباس إلا الأذخر فقال صلى الله عليه وسلم إلا الأذخر وقال في الحج هو للأبد ولو قلت لعامنا لوجب ونزل منزلا للحرب فقيل له إن كان بوحي فسمعا وطاعة
وإن كان باجتهاد ورأي فهو منزل مكيدة فقال بل باجتهاد ورأي فرحل قلنا أما الأذخر فلعله كان نزل الوحي بأن لا يستثنى الأذخر إلا عند قول العباس أو كان جبريل عليه السلام حاضرا فأشار عليه بإجابة العباس وأما الحج فمعناه لو قلت لعامنا لما قلته إلا عن وحي ولوجب لا محالة وأما المنزل فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا وذلك جائز بلا خلاف إنما الخلاف في أمور الدين
أحتج المنكرون لذلك بأمور أحدها أنه لو كان مأمورا به لأجاب عن كل سؤال ولما انتظر الوحي
الثاني أنه لو كان مجتهدا لنقل ذلك عنه واستفاض
الثالث أنه لو كان لكان ينبغي أن يختلف اجتهاده ويتغير فيتهم بسبب تغير الرأي
قلنا أما انتظار الوحي فلعله كان حيث لم ينقدح له اجتهاد أو في حكم لا يدخله الاجتهاد أو نهي عن الاجتهاد فيه وأما الاستفاضة بالنقل فعلعه لم يطلع الناس عليه وإن كان متعبدا به أو لعله كان متعبدا بالاجتهاد إذا لم ينزل نص وكان ينزل النص فيكون كمن تبعد بالزكاة والحج إن ملك النصاب والزاد فلم يملك فلا يدل على أنه لم يكن متعبدا وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليها فقد اتهم بسب النسخ كما قال تعالى { قالوا إنما أنت مفتر } النحل 101 ولم يدل ذلك على استحالة النسخ كيف وقد عورض هذا الكلام بجنسه فقيل لو لم يكن متعبدا بالاجتهاد لفاته ثواب المجتهدين ولكان ثواب المجتهدين أجزل من ثوابه وهذا أيضا فاسد لأن ثواب تحمل الرسالة والأداء عن الله تعالى فوق كل ثواب
فإن قيل فهل يجوز التعبد بوضع العبادات ونصب الزكوات وتقديراتها بالاجتهاد قلنا لا محيل لذلك ولا يفضي إلى محال ومفسدة ولا بعد في أن يجعل الله تعالى صلاح عباده فيما يؤدي إليه اجتهاد رسوله لو كان الأمر مبينا على الصلاح ومنع القدرية هذا وقالوا إن وافق ظنه الصلاح في البعض فيمتنع أو يوافق الجميع وهذا فساد لأنه لا يبعد أن يلقى الله في اجتهاد رسوله ما فيه صلاح عباده هذا هو الجواز العقلي أما وقوعه فبعيد وإن لم يكن محالا بل الظاهر أن ذلك كله كان عن وحي صريح ناص على التفصيل
النظر الثاني في أحكام الاجتهاد والنظر في حق المجتهد في تأثيمه وتخطئته وإصابته وتحريم التقليد عليه وتحريم نقض حكمه الصادر عن الاجتهاد فهذه أحكام النظر
الأول في تأثيم المخطىء في الاجتهاد والإثم ينتفي عن كل من جمع صفات المجتهدين إذا تمم الاجتهاد في محله فكل اجتهاد تام إذا صدر من أهله وصادف محله فثمرته حق وصواب والإثم عن المجتهد منفي والذي نختاره أن الإثم والخطأ متلازمان فكل مخطىء آثم وكل
____________________

(1/347)


آثم مخطىء ومن انتفى عنه الإثم انتفى عنه الخطأ فلنقدم حكم الإثم أولا فنقول النظريات تنقسم إلى ظنية وقطعية فلا إثم في الظنيات إذ لا خطأ فيها والمخطىء في القطعيات آثم والقطعيات ثلاثة أقسام كلامية وأصولية وفقهية
أما الكلامية فنعني بها العقليات المحضة والحق فيها واحد ومن أخطأ الحق فيها فهو آثم ويدخل فيه حدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات وجواز الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وجميع ما الكلام فيه مع المعتزلة والخوارج والروافض والمبتدعة وحد المسائل الكلامية المحضة ما يصح للناظر درك حقيقته بنظر العقل قبل ورود الشرع فهذه المسائل الحق فيها واحد ومن أخطأه فهو آثم فإن أخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فهو كافر وإن أخطأ فيما لا يمنعه من معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله كما في مسألة الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وأمثالها فهو آثم من حيث عدل عن الحق وضل ومخطىء من حيث أخطأ الحق المتيقن ومبتدع من حيق قال قولا مخالفا للمشهورين السلف ولا يلزم الكفر
وأما الأصولية فنعني بها كون الإجماع حجة وكون القياس حجة وكون خبر الواحد حجة ومن جملته خلاف من جوز خلاف الإجماع المنبرم قبل انقضاء العصر وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاد ومنع المصير إلى أحد قولي الصحابة والتابعين عند اتفاق الأمة بعدهم على القول الآخر ومن جملته اعتقاد كون المصيب واحدا في الظنيات فإن هذه مسائل أدلتها قطعية والمخالف فيها آثم مخطىء وقد نبهنا على القطعيات والظنيات في أدراج الكلام في جملة الأصول
وأما الفقهية فالقطعية منها وجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم وتحريم الزنا والقتل والسرقة والشرب وكل ما علم قطعا من دين الله فالحق فيها واحد وهو المعلوم والمخالف فيها آثم ثم ينظر فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشارع كإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم فهو كافر لأن هذا الإنكار لا يصدر إلا عن مكذب بالشرع وإن علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة ككون الإجماع حجة وكون القياس وخبر الواحد حجة وكذلك الفقهيات المعلومة بالإجماع فهي قطعية فمنكرها ليس بكافر لكنه آثم مخطىء فإن قيل كيف حكمتم بأن وجوب الصلاة والصوم ضروري ولا يعرف ذلك إلا بصدق الرسول وصدق الرسول نظري قلنا نعني به أن إيجاب الشارع له معلوم تواترا أو ضرورة أما أن ما أوجبه فهو واجب فذلك نظري يعرف بالنظر في المعجزة المصدقة ومن ثبت عنده صدقه فلا بد أن يعترف به فإن أنكره فذلك لتكذيبه الشارع ومكذبه كافر فلذلك كفرناه به أما ما عدا من الفقهيات الظنية التي ليس عليها دليل قاطع فهو في محل الاجتهاد فليس فيها عندنا حق معين ولا إثم على المجتهد إذا تمم اجتهاده وكان من أهله فخرج من هذا أن النظريات قسمان قطعية وظنية فالمخطىء في القطعيات آثم ولا إثم في الظنيات أصلا لا عند من قال المصيب فيها واحد ولا عند من قال كل مجتهد مصيب هذا هو مذهب الجماهير وقد ذهب بشر المريسي إلى إلحاق الفروع بالأصول وقال فيها حق واحد متعين والمخطىء آثم وقد ذهب الجاحظ والعنبري إلى إلحاق الأصول بالفروع وقالالعنبري كل مجتهد في
____________________

(1/348)


الأصول أيضا مصيب وليس فيها حق متعين وقال الجاحظ فيها حق واحد متعين لكن المخطىء فيها معذور غير آثم كما في الفروع فلنرسم في الرد على هؤلاء الثلاثة ثلاث مسائل مسألة ( مخالفة أهل الكتاب للإسلام ) ذهب الجاحظ إلى أن مخالف ملة الإسلام من اليهود والنصارى والدهرية إن كان معاندا على خلاف اعتقاده فهو آثم وإن نظر فعجز عن درك الحق فهو معذور غير آثم وإن لم ينظر من حيث لم يعرف وجوب النظر فهو أيضا معذور وإنما الآثم المعذب هو المعاند فقط لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها وهؤلاء قد عجزوا عن درك الحق ولزموا عقائدهم خوفا من الله تعالى إذ استد عليهم طريق المعرفة وهذا الذي ذكره ليس بمحال عقلا لو ورد الشرع به وهو جائز ولو ورد التعبد كذلك لوقع ولكن الواقع خلاف هذا فهو باطل بأدلة سمعية ضرورية فإنا كما نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة والزكاة ضرورة فيعلم أيضا ضرورة أنه أمر اليهود والنصارى بالإيمان به واتباعه وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ولذلك قاتل جميعهم وكان يكشف عن مؤتزر من بلغ منهم ويقتله ويعلم قطعا أن المعاند العارف مما يقل وإنما الأكثر المقلدة الذين اعتقدوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا معجزة الرسول عليه السلام وصدقه والآيات الدالة في القرآن على هذا لا تحصى كقوله تعالى { ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار } ص 27 وقوله تعالى { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم } فصلت 23 وقوله تعالى 54 { إن هم إلا يظنون } الجاثية 24 وقوله تعالى { ويحسبون أنهم على شيء } المجادلة 18 وقوله تعالى { في قلوبهم مرض } البقرة 10 أي شك وعلى الجملة ذم الله تعالى والرسول عليه السلام المكذبين من الكفار مما لا ينحصر في الكتاب والسنة وأما قوله كيف يكلفهم ما لا يطيقون قلنا نعلم ضرورة أنه كلفهم أما أنهم يطيقون أو لا يطيقون فلننظر فيه بل نيه الله تعالى على أنه أقدرهم عليه بما رزقهم من العقل ونصب من الأدلة وبعث من الرسل المؤيدين بالمعجزات الذين نبهوا العقول وحركوا دواعي النظر حتى لم يبق على الله لأحد حجة بعد الرسل
مسألة ( الاجتهاد في العقليات ) ذهب عبد الله بن الحسن العنبري إلى أن كل مجتهد مصيب في العقليات كما في الفروع فنقول له إن أردت أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه وهو منتهى مقدورهم في الطلب
فهذا غير محال عقلا ولكنه باطل إجماعا وشرعا كما سبق رده على الجاحظ وإن عنيت به أن ما أعتقده فهو على ما اعتقده فنقول كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقا وإثبات الصانع ونفيه حقا وتصديق الرسول وتكذيبه حقا وليست هذه الأوصاف وضعية كالأحكام الشرعية إذ يجوز أن يكون الشيء حراما على زيد وحلالا لعمرو إذا وضع كذلك أما الأمور الذاتية فلا تتبع الاعتقاد بل الاعتقاد يتبعها فهذا المذهب شر من مذهب الجاحظ فإنه أقر بأن المصيب واحد ولكن جعل المخطىء معذورا بل هو شر من مذهب السوفسطائية لأنهم نفوا حقائق الأشياء وهذا قد أثبت الحقائق ثم جعلها تابعة للاعتقادات فهذا أيضا لو ورد به
____________________

(1/349)


الشرع لكان محالا بخلاف مذهب الجاحظ وقد استبشع إخوانه من المعتزلة هذا المذهب فأنكروه وأولوه وقالوا أراد به اختلاف المسلمين في المسائل الكلامية التي لا يلزم فيها تكفير كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن وإرادة الكائنات لأن الآيات والأخبار فيها متشابهة وأدلة الشرع فيها متعارضة وكل فريق ذهب إلى ما رآه أوفق لكلام الله وكلام رسوله عليه السلام وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه فكانوا فيه مصيبين ومعذورين فنقول أن زعم أنهم فيه مصيبون فهذا محال عقلا لأن هذه أمور ذاتية لا تختلف بالإضافة بخلاف التكليف فلا يمكن أن يكون القرآن قديما ومخلوقا أيضا بل أحدهما والرؤية محالا وممكنا أيضا والمعاصي بإرادة الله تعالى وخارجة عن إرادته أو يكون القرآن مخلوقا في حق زيد قديما في حق عمرو بخلاف الحلال والحرام فإن ذلك لا يرجع إلى أوصاف الذوات وإن أراد أن المصيب واحد لكم المخطىء معذور غير آثم فهذا ليس بمحال عقلا لكنه باطل بدليل الشرع واتفاق سلف الأمة على ذم المبتدعة ومهاجرتهم وقطع الصحبة معهم وتشديد الإنكار عليهم مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه فهذا من حيث الشرع دليل قاطع وتحقيقه أن اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به جهل والجهل بالله حرام مذموم والجهل بجواز رؤية الله تعالى وقدم كلامه الذي هو صفته وشمول إرادته المعاصي وشمول قدرته في التعلق بجميع الحوادث كل ذلك جهل بالله وجهل بدين الله فينبغي أن يكون حراما ومهما كان الحق في نفسه واحدا متعينا كان أحدهما معتقدا للشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلا فإن قيل يبطل هذا بالجهل في المسائل الفقهية وبالجهل في الأمور الدنيوية كجهل إذا اعتقد أن الأمير في الدار وليس فيها وأن المسافة بين مكة والمدينة أقل أو أكثر مما هي عليها قلنا أما الفقهيات فلا يتصور الجهل فيها إذ ليس فيها حق معين وأما الدنيويات فلا ثواب في معرفتها ولا عقاب على الجهل فيها أما معرفة الله تعالى ففيها ثواب وفي الجهل بها عقاب والمستند فيه الإجماع دون دليل العقل وإلا فدليل العقل لا يحيل حط المأثم عن الجاهل بالله فضلا عن الجاهل بصفات الله تعالى وأفعاله فإن قيل إنما يأثم بالجهل فيما يقدر فيه على العلم ويظهر عليه الدليل والأدلة غامضة والشبهات في هذه المسائل متعارضة قلنا وكذلك في مسألة حدوث العالم وإثبات النبوات وتمييز المعجزة عن السحر ففيها أدلة غامضة ولكنه لم ينته الغموض إلى حد لا يمكن فيه تمييز الشبهة عن الدليل فكذلك في هذه المسألة عندنا أدلة قاطعة على الحق ولو تصورت مسألة لا دليل عليها لكنا نسلم أنه لا تكليف على الخلق فيها
مسألة ( إثم المجتهد في الفروع ) ذهب بشر المريسي إلى أن الإثم غير محطوط عن المجتهدين في الفروع بل فيها حق معين وعليه دليل قاطع فمن أخطأه فهو آثم كما في العقليات لكن المخطىء قد يكفر كما في أصل الإلهية والنبوة وقد يفسق كما في مسألة الرؤية وخلق القرآن ونظائرها وقد يقتصر على مجرد التأثيم كما في الفقهيات وتابعه على هذا من القائلين بالقياس ابن علية وأبو بكر الأصم ووافقه جميع نفاة القياس ومنهم الإمامية وقالوا لا مجال للظن في الأحكام لكن العقل قاض بالنفي الأصلي في جميع الأحكام إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع فما
____________________

(1/350)


أثبته قاطع سمعي فهو ثابت بدليل قاطع وما لم يثبته فهو باق على النفي الأصلي قطعا ولا مجال للظن فيه وإنما استقام هذا لهم لإنكارهم القياس وخبر الواحد وربما أنكروا أيضا القول بالعموم والظاهر المحتمل حتى يستقيم لهم هذا المذهب وما ذكروه هو اللازم على قول من قال المصيب واحد ويلزمهم عليه منع المقلد من استفتاء المخالفين وقد ركب بعض معتزلة بغداد رأسه في الوفاء بهذا القياس وقال يجب على العامي النظر وطلب الدليل وقال بعضهم يقلد العالم أصاب المقلد أم أخطأ ويدل على فساد هذا المذهب دليلان الأول ما سنذكره في تصويب المجتهدين ونبين أن هذه المسائل ليس فيها دليل قاطع ولا فيها حكم معين والأدلة الظنية لا تدل لذاتها وتختلف بالإضافة فتكليف الإصابة لما لم ينصب عليه دليل قاطع تكليف ما لا يطاق وإذا بطل الإيجاب بطل التأثيم فانتفاء الدليل القاطع ينتج نفي التكليف ينتج نفي الإثم ولذلك يستدل تارة بنفي الإثم على نفي التكليف كما يستدل في مسألة التصويب ويستدل في هذه المسألة بانتفاء التكليف على انتفاء الإثم فإن النتيجة تدل على المنتج كما يدل المنتج على النتيجة
الدليل الثاني إجماع الصحابة على ترك النكير على المختلفين في الجد والأخوة ومسألة العول ومسألة الحرام وسائر ما اختلفوا فيه من الفرائض وغيرها فكانوا يتشاورون ويتفرقون مختلفين ولا يعترض بعضهم على بعض ولا يمنعه من فتوى العامة ولا يمنع العامة من تقليده ولا يمنعه من الحكم باجتهاده وهذا متواتر تواترا لا شك فيه وقد بالغوا في تخطئة الخوارج وما نعي الزكاة ومن نصب إماما من غير قريش أو رأى نصب إمامين بل لو أنكر منكر وجوب الصلاة والصوم وتحريم السرقة والزنا لبالغوا في التأثيم والتشديد لأن فيها أدلة قاطعة فلو كان سائر المجتهدات كذلك لأثموا وأنكروا فإن قيل لهم لعلهم أثموا ولم ينقل إلينا أو أضمروا التأثيم ولم يظهروا خوف الفتنة والهرج قلنا العادة تحيل اندراس التأثيم والإنكار لكثرة الاختلاف والوقائع بل لو وقع لتوفرت الدواعي على النقل كما نقلوا الإنكار على ما نعي الزكاة ومن استباح الدار وعلى الخوارج في تكفير علي وعثمان وعلى قاتلي عثمان ولو جاز أن يتوهم إندراس مثل هذا لجاز أن يدعي أن بعضهم نقض حكم بعض وأنهم اقتتلوا في المجتهدات ومنعوا العوام من التقليد للمخالفين أو للعلماء أو أوجبوا على العوام النظر أو اتباع إمام معين معصوم ثم نقول تواتر إلينا تعظيم بعضهم بعضا مع كثرة الاختلافات إذ كان توقيرهم وتسليمهم للمجتهد العمل باجتهاده وتقريره عليه أعظم من التوقير والمجاملة والتسليم في زماننا ومن علمائنا ولو اعتقد بعضهم في البغض التعصية والتأثيم بالاختلاف لتهاجروا ولتقاطعوا وارتفعت المجاملة وامتنع التوقير والتعظيم فأما امتناعهم من التأثيم للفتنة فمحال فإنهم حيث اعتقدوا ذلك لم تأخذهم في الله لومة لائم ولا منعهم ثوران الفتنة وهيجان القتال حتى جرى في قتال مانعي الزكاة وفي واقعة علي وعثمان والخوارج ما جرى فهذا توهم محال فإن قيل فقد نقل الإنكار والتشديد والتأثيم حتى قال ابن عباس ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا وقال أيضا من شاء باهلته أن الله لم يجعل في المال النصف والثلثين
وقالت عائشة رضي الله
____________________

(1/351)


عنها أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب
قلنا ما تواتر إلينا من تعظيم بعضهم بعضا وتسليمهم لكل مجتهد أن يحكم ويفتي ولكل عامي أن يقلد من شاء جاوز حدا لا يشك فيه فلا يعارضه أخبار آحاد لا يوثق بها ثم نقول من ظن بمخالفه أنه خالف دليلا قاطعا فعليه التأثيم والإنكار وإنما نقل إلينا في مسائل معدودة ظن أصحابها أن أدلتها قاطعة فظن ابن عباس أن الحساب مقطوع به فلا يكون في المال نصف وثلثان وظنت عائشة رضي الله عنها أن حسم الذرائع مقطوع به فمنعت مسألة العينة وقد أخطأوا في هذا الظن فهذه المسائل أيضا ظنية ولا يجب عصمتها عن مثل هذا الغلط أما عصمة جملة الصحابة عن العصيان بتعظيم المخالفين وترك تأثيمهم لو أثموا فواجب
الحكم الثاني في الاجتهاد والتصويب والتخطئة وقد اختلف الناس فيها واختلفت الرواية عن الشافعي وأبي حنيفة وعلى الجملة قد ذهب قوم إلى أن كل مجتهد في الظنيات مصيب وقال قوم المصيب واحد واختلف الفريقان جميعا في أنه هل في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين لله تعالى هو مطلوب المجتهد فالذي ذهب إليه محققو المصوبة أنه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه وهو المختار وإليه ذهب القاضي وذهب قوم من المصوبة إلى أن فيه حكما معينا يتوجه إليه الطلب إذ لا بد للطلب من مطلوب لكن لم يكلف المجتهد إصابته فلذلك كان مصيبا وإن أخطأ ذلك الحكم المعين الذي لم يؤمر بإصابته بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه وأما القائلون بأن المصيب واحد فقد اتفقوا على أن فيه حكما معينا لله تعالى لكن اختلفوا في أنه هل عليه دليلا أم لا فقال قوم لا دليل عليه وإنما هو مثل دفين يعثر الطلب عليه بالاتفاق فلمن عثر عليه أجران ولمن حاد عنه أجر واحد لأجل سعيه وطلبه والذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا اختلفوا في أن عليه دليلا قاطعا أو ظنيا فقال قوم وهو قاطع ولكن الأثم محطوط عن المخطىء لغموض الدليل وخفائه ومن هذا تمادي بشر المريسي في إتمام هذا القياس فقال إذا كان الدليل قطعيا أثم المخطىء كما في سائر القطعيات وهو تمام الوفاء بقياس مذهب من قال المصيب واحد ثم الذين ذهبوا إلى أن عليه دليلا ظنيا اختلفوا في أن المجتهد هل أمر قطعيا بإصابة ذلك الدليل فقال قوم لم يكلف المجتهد إصابته لخفائه وغموضه فلذلك كان معذورا ومأجورا وقال قوم أمر بطلبه وإذا أخطأ لم يكن مأجورا لكن حط الأثم عنه تخفيفا
هذا تفصيل المذاهب والمختار عندنا وهو الذي نقطع به ونخطىء المخالف فيه أن كل مجتهد في الظنيات مصيب وأنها ليس فيها حكم معين لله تعالى وسنكشف الغطاء عن ذلك بفرض الكلام في طرفين الطرف الأول مسألة فيها نص للشارع وقد أخطأ مجتهد النص فنقول ينظر فإن كان النص مما هو مقدور على بلوغه لو طلبه المجتهد بطريقه فقصر ولم يطلب فهو مخطىء
____________________

(1/352)


وآثم بسبب تقصيره لأنه كلف الطلب المقدور عليه فتركه فعصى وأثم وأخطأ حكم الله تعالى عليه أما إذا لم يبلغه النص لا لتقصير من جهته لكن لعائق من جهة بعد المسافة وتأخير المبلغ والنص قبل أن يبلغه ليس حكما في حقه فقد يسمى مخطئا مجازا على معنى أنه أخطأ بلوغ ما لو بلغه لصار حكما في حقه ولكنه قبل البلوغ ليس حكما في حقه فليس مخطئا حقيقة وذلك أنه لو صلى النبي عليه السلام إلى بيت المقدس بعد أن أمر الله تعالى جبريل أن ينزل على محمد عليه السلام ويخبره بتحويل القبلة فلا يكون النبي مخطئا لأن خطاب استقبال الكعبة بعد لم يبلغه فلا يكون مخطئا في صلاته فلو نزل فأخبره وأهل مسجد قباء يصلون إلى بيت المقدس ولم يخرج بعد إليهم النبي عليه السلام ولا مناد من جهته فليسوا مخطئين إذ ذلك ليس حكما في حقهم قبل بلوغه فلو بلغ ذلك أبا بكر وعمر واستمر سكان مكة على استقبال بيت المقدس قبل بلوغ الخبر إليهم فليسوا مخطئين لأنهم ليسوا مقصرين وكذلك نقل عن ابن عمر أنا كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج النهي عن المخابرة فليس ذلك خطأ منهم قبل البلوغ لأن الراوي غاب عنهم أو قصر في الرواية فإذا ثبت هذا في مسألة فيها نص فالمسألة التي لا نص فيها كيف يتصور الخطأ فيها فإن قيل فرضتم المسألة حيث لا دليل على الحكم المنصوص ونحن نخطئه إذا كان عليه دليل ووجب عليه طلبه فلم يعثر عليه قلنا عليه دليل قاطع أو دليل ظني فإن كان عليه دليل قاطع فلم يعثر عليه وهو قادر عليه فهو آثم عاص ويجب تأثيمه وحيث وجب تأثيمه وجبت تخطئته كانت المسألة فقهية أو أصولية أو كلامية وإنما كلامنا في مسائل ليس عليها دليل قاطع ولو كان لنبه عليه من عثر عليه من الصحابة غيره ولشدد الإنكار عليهم فإن الدليل القاطع في مثل هذه المسألة نص صريح أو في معنى المنصوص على وجه يقطع به ولا يتطرق الشك إليه والتنبيه على ذلك سهل أفيقولون لم يعثر عليه جميع الصحابة رضي الله عنهم فأخطأ أهل الإجماع الحق أو عرفه بعضهم وكتمه أو أظهره فلم يفهمه الآخرون أو فهموه فعاندوا الحق وخالفوا النص الصريح وما يجري مجراه وجميع هذه الاحتمالات مقطوع ببطلانها ومن نظر في المسائل الفقهية التي لا نص فيها علم ضرورة انتفاء دليل قاطع فيها وإذا انتفى الدليل فتكليف الإصابة من غير دليل قاطع تكليف محال فإذا انتفى التكليف انتفى الخطأ فإن قيل عليه دليل ظني بالاتفاق فمن أخطأ الدليل الظني فقد أخطأ قلنا الأمارات الظنية ليست أدلة بأعيانها بل يختلف ذلك بالإضافات فرب دليل يفيد الظن لزيد وهو بعينه لا يفيد الظن لعمرو مع إحاطته به وربما يفيد الظن لشخص واحد في حال دون حال بل قد يقوم في حق شخص واحد في حال واحدة في مسألة واحدة دليلان متعارضان كان كل واحد لو انفرد لأفاد الظن ولا يتصور في الأدلة القطعية تعارض وبيانه أن أبا بكر رأى التسوية في العطاء إذ قال الدنيا بلاغ كيف وإنما عملوا لله عز وجل وأجورهم على الله حيث قال عمر كيف تساوي بين الفاضل والمفضول ورأى عمر التفاوت ليكون ذلك ترغيبا في طلب الفضائل ولأن أصل الإسلام وإن كان لله فيوجب الاستحقاق والمعنى الذي ذكره أبو بكر فهمه عمر رضي الله عنهما ولم يفده غلبة الظن وما رآه عمر فهمه أبو بكر ولم يفده غلبة
____________________

(1/353)


الظن ولا مال قلبه إليه وذلك لاختلاف أحوالهما فمن خلق خلقة أبي بكر في غلبة التأله وتجريد النظر في الآخرة غلب على ظنه لا محالة ما ظنه أبو بكر ولم ينقدح في نفسه إلا ذلك ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته في الالتفات إلى السياسة ورعاية مصالح الخلق وضبطهم وتحريك دواعيهم للخير فلا بد أن تميل نفسه إلى ما مال إليه عمر مع إحاطة كل واحد منهما بدليل صاحبه ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسات يوجب اختلاف الظنون فمن مارس علم الكلام ناسب طبعه أنواعا من الأدلة يتحرك بها ظنه لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه ولذلك من مارس الوعظ صار مائلا إلى جنس ذلك الكلام بل يختلف باختلاف الأخلاق فمن غلب عليه الغضب مالت نفسه إلى كل ما فيه شهامة وانتقام ومن لان طبعه ورق قلبه نفر عن ذلك ومال إلى ما فيه الرفق والمساهلة فالامارات كحجر المغناطيس تحرك طبعا يناسبها كما يحرك المغناطيس الحديد دون النحاس بخلاف دليل العقل فإنه موجب لذاته فإن تسليم المقدمتين على الشكل الذي ذكرناه في مدارك العقول يوجب التصديق ضرورة بالنتيجة
فإذا لا دليل في الظنيات على التحقيق وما يسمى دليلا فهو على سبيل التجوز بالإضافة إلى ما مالت نفسه إليه فإذا أصل الخطأ في هذه المسألة إقامة الفقهاء للأدلة الظنية وزنا حتى ظنوا أنها أدلة في أنفسها لا بالإضافة وهو خطأ محض يدل على بطلانه البراهين القاطعة
فإن قيل لم تنكرون على من يقول فيه أدلة قطعية وإنما لم يؤثم المخطىء لغموض الدليل قلنا الشيء ينقسم إلى معجوز عنه ممتنع وإلى مقدور عليه على يسر وإلى مقدور عليه على عسر فإن كان درك الحق المتعين معجوزا عنه ممتنعا فالتكليف به محال وإن كان مقدورا على يسر فالتارك له ينبغي أن يأثم قطعا لأنه ترك ما قدر عليه وقد أمر به وإن كان مقدورا على عسر فلا يخلوا إما أن يكون العسر صار سببا للرخصة وحط التكليف
كإتمام الصلاة في السفر أو بقي التكليف مع العسر فإن بقي التكليف مع العسر فتركه مع القدرة إثم كالصبر على قتل الكفار مع تضاعف عددهم فإنه شديد جدا وعسير ولكن يعصى إذا تركه لأن التكليف لم يزل بهذا العسر وكذلك صبر المرأة على الضرات وحسن التبعل مع أن ذلك جهاد شديد على النفس
ولكنها تأثم بتركه مع ضعفها وعجزها وكذلك التمييز بين الدليل والشبهة في مسألة حدوث العالم ودلالة المعجزة وتمييزها عن السحر في غاية الغموض ومن أخطأ فيه أثم بل كفر واستحق التخليد في النار وكذلك الحق في المسائل الفقهية مع العسران أمر به فالمخطىء آثم فيه وإن لم يؤمر بإصابة الحق بل بحسب غلبة الظن فقد أدى ما كلف وأصاب ما هو حكم في حقه وأخطأ ما ليس حكما في حقه بل هو بصدد أن يكون حكما في حقه لو خوطب به أو نصب على معرفته دليل قاطع فإذا الحاصل أن الإصابة محال أو ممكن ولا تكليف بالمحال ومن أمر بممكن فتركه عصى وأثم ومحال أن يقال هو مأمور به لكن إن خالف لم يعص ولم يأثم وكان معذورا لأن هذا يناقض حد الأمر والإيجاب إذ حد الإيجاب ما يتعرض تاركه للعقاب والذم
وهذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل منصف ويرد النزاع إلى عبارة وهو إن ما ليس حكما في حقه قد أخطأه وذلك مسلم ولكنه نوع مجاز كتخطئة المصلي إلى بيت المقدس قبل بلوغ
____________________

(1/354)


الخبر ثم هذا المجاز أيضا إنما ينقدح في حكم نزل من السماء ونطق به الرسول كما في تحويل القبلة ومسألة المخابرة أما سائر المجتهدات التي يلحق فيها المسكوت بالمنطوق قياسا واجتهادا فليس فيها حكم معين أصلا إذا الحكم خطاب مسموع أو مدلول عليه بدليل قاطع وليس فيها خطاب ونطق فلا حكم فيها أصلا إلا ما غلب على ظن المجتهد وسنفرد لهذا مسألة ونبين أنه ليس في المسألة أشبه عند الله عز وجل ونذكر الآن شبه المخالفين وهي أربع الشبهة الأولى قولهم هذا المذهب في نفسه محال لأنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين وهو أن يكون قليل النبيذ مثلا حلالا حراما والنكاح بلا ولي صحيحا باطلا والمسلم إذا قتل كافرا مهدرا ومقادا إذ ليس في المسألة حكم معين وكل واحد من المجتهدين مصيب فإذا الشيء ونقيضه حق وصواب وتبجح بعضهم بهذا الدليل حتى قال هذا مذهب أوله سفسطة وآخره زندقة لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقا وبالآخر يرفع الحجر ويخير المجتهد بين الشيء ونقيضه عند تعارض الدليلين ويخير المستفتى لتقليد من شاء وينتقي من المذاهب أطيبها عنده
والجواب أن هذا كلام فقيه سليم القلب جاهل بالأصول وبحد النقيضين وبحقيقة الحكم ظان أن الحل والحرمة وصف للأعيان فيقول يستحيل أن يكون النبيذ حلالا حراما كما يستحيل أن يكون الشيء قديما حادثا وليس يدري أن الحكم خطاب لا يتعلق بالأعيان بل بأفعال المكلفين ولا يتناقض أن يحل لزيد ما يحرم على عمرو كالمنكوحة تحل للزوج وتحرم على الأجنبي وكالميتة تحل للمضطر دون المختار وكالصلاة تجب على الطاهر وتحرم على الحائض وإنما المتناقض أن يجتمع التحليل والتحريم في حالة واحدة لشخص واحد في فعل واحد من وجه واحد فإذا تطرق التعدد والانفصال إلى شيء من هذه الجملة انتفى التناقض حتى نقول الصلاة في الدار المغصوبة حرام قربة في حالة واحدة لشخص واحد لكن من وجه دون وجه فإذا اختلاف الأحوال ينفي التناقص ولا فرق بين أن يكون اختلاف الأحوال بالحيض والطهر والسفر والحضر أو بالعلم والجهل أو غلبة الظن فالصلاة حرام على المحدث إذا علم أنه محدث واجبة عليه إذا جهل كونه محدثا ولو قال الشارع يحل ركوب البحر لمن غلب على ظنه السلامة ويحرم على من غلب على ظنه الهلاك فغلب على ظن الجبان الهلاك وعلى ظن الجسور السلامة حرم على الجبان وحل للجسور لاختلاف حالهما وكذلك لو صرح الشارع وقال من غلب على ظنه أن النبيذ بالخمر أشبه فقد حرمته عليه ومن غلب على ظنه أنه بالمباحات أشبه فقد حللته له لم يتناقض فصريح مذهبنا إن لو نطق به الشرع لم يكن متناقضا ولا محالا ومذهب الخصم لو صرح به الشرع كان محالا وهو أن يقول كلفتك العثور على ما لا دليل عليه أو يقول كلفتك العثور على ما عليه دليل لكن لو تركته مع القدرة لم تأثم فيكون الأول محالا من جهة تكليف ما لا يطاق ويكون الثاني محالا من جهة تناقض حد الأمر إذ حد الأمر ما يعصى تاركه
الجواب الثاني أن نقول لو سلمنا أن الحل والحرمة وصف للأعيان أيضا لم يتناقض إذ يكون من الأوصاف الإضافية ولا
____________________

(1/355)


يتناقض أن يكون الشخص الواحد أبا وأبنا لكن لشخصين وأن يكون الشيء مجهولا ومعلوما لكن لإثنين وتكون المرأة حلالا حراما لرجلين كالمنكوحة حرام للأجنبي حلال للزوج والميتة حرام للمختار حلال للمضطر
الجواب الثالث هو أن التناقض ما ركبه الخصم فإنه اتفق كل محصل لم يهذ هذيان المريسي أن كل مجتهد يجب عليه أن يعمل بما أدى إليه اجتهاده ويعصي بتركه فالمجتهدان في القبلة يجب على أحدهما استبقال جهة يحرم على الآخر استقبالها فإن المصيب لا يتميز عن المخطىء فيجب على كل واحد منهما العمل بنقيض ما يعمل به الآخر
الشبهة الثانية قولهم إن سلمنا لكم أن هذه المذهب ليس بمحال في نفسه لو صرح الشرع به فهو مؤد إلى المحال في بعض الأمور وما يؤدي إلى المحال فهو محال فأداؤه إلى المحال فهو في حق المجتهد بأن يتقاوم عنده دليلان فيتحير عندكم بين الشيء ونقيضه في حالة واحدة وأما في حق صاحب الواقعة فإذا نكح مجتهد مجتهدة ثم قال لها أنت بائن وراجعها والزوج شفعوي يرى الرجعة والزوجة حنفية ترى الكنايات قاطعة للعصمة والرجعة فيسلط الزوج على مطالبتها بالوطء ويجب عليها مع تسلط الزوج عليها منعه وكذلك إذا نكح بغير ولي أولا ثم نكح آخر بولي فإن كان كل واحد من المذهبين حقا فالمرأة حلال للزوجين وهذا محال ويمكن أن يستعمل هذا في نصرة الشبهة الأولى والاعتراض على ما ذكرنا من دفع التناقض ورده إلى شخصين فقد تكلفوا تقريره في حق شخص واحد
والجواب من أوجه وحاصله أنه لا إشكال في هذه المسائل ولا استحالة وما فيه من الأشكال فينقلب عليهم ولا يختص إشكاله بهذا المذهب أما المجتهد إذا تعارض عنده دليلان قلنا فيه رأيان أحدهما وهو الذي ننصره في هذه المسألة أنه يتوقف ويطلب الدليل من موضع آخر لأنه مأمور باتباع غالب الظن ولم يغلب على ظنه شيء فقولنا فيه قولكم فإنه وإن كان أحدهما حقا عندكم فقد تعذر عليه الوصول إليه وهذا يقطع مادة الإشكال وعلى رأيي نقول يتخير بأي دليل شاء وسنفرد هذه المسألة بالذكر وننبه على غورها
أما الثانية فقولنا فيها أيضا قولكم فإن المصيب وإن كان واحدا عندهم فلا يتميز عن المخطىء ويجب على المخطىء في الحال العمل بموجب اجتهاده لجهله بكونه مخطئا إذا لا يتميز عن صاحبه فقد أوجبوا عليها المنع وأباحوا للزوج الطلب فقد ركبوا المحال إن كان هذا محالا فسيقولون إنه ليس بمحال وهو جوابنا الثاني ووجهه أن إيجاب المنع عليها لا يناقض إباحة الطلب للزوج ولا إيجابه بل للسيد أن يقول لأحد عبديه أوجبت عليك سلب فرس الآخر ويقول للآخر أوجبت عليك منعه ودفعه ويقول لهذا إن لم تسلب عاقبتك ويقول للآخر إن لم تحفظ عاقبتك وكذلك يجب على ولي الطفل أن يطلب غرامة مال الطفل إذا أخبره عدلان بأنه أتلفه طفل آخر ويجب على ولي الطفل المنسوب إلى الاتلاف إذا عاين صدور الاتلاف من غير الطفل أو علم كذب الشاهدين أن يمنع ويدفع فيجب الطلب على أحدهما والدفع على الآخر مؤاخذة لكل واحد بموجب اعتقاده نعم هذا السؤال يحسن من منكري الاجتهاد من التعليمية وغيرهم إذ يقولون أصل
____________________

(1/356)


الاجتهاد باطل لأدائه إلى هذا النوع من التناقض وجوابه ما ذكرناه ونقابله على مذهبه أيضا بما لا يجد عنه محيصا فنقول إن أنكرت الظنون لم تنكر القواطع وسعي الإنسان في هلاك نفسه أو إهلاك غيره حرام بالقواطع فلو اضطر شخصان إلى قدر من الميتة لا يفي إلا بسد رمق أحدهما ولو قسماه أو تركاه ماتا ولو أخذه أحدهما هلك الآخر ولو وكله إليه أهلك نفسه فماذا يجب عليه وكيفما قال فهو مناقض ولا مخلص فإن أوجب على كل واحد أن يأخذ فقد أوجب الأخذ على هذا وأوجب الدفع على ذاك فإن أوجب عليهما الترك فقد أوجب إهلاكهما جميعا وإن خص أحدهما بالأخذ فهو تحكم وإن قال يتخير كل واحد منهما بين الأخذ والترك فقد سلط هذا على الأخذ وذاك على الدفع فإن أحدهما لو اختار الأخذ واختار الآخر الدفع جاز وهو أيضا متناقض بزعمهم فماذا يقولون والمختار عندنا في هذه الصورة التخيير لكل واحد فإنه إنما يجب الأخذ إذا لم يهلك غيره وإنما يجب الترك والإيثار إذا لم يهلك نفسه فإذا تعارضا تخيرا ويحتمل أن يقرع بينهما كبينتين متعارضتين
وأما المسألة الثانية إذا نشب الخصام بين الزوج وزوجته احتمل وجهين أحدهما أن يقول يلزمهما الرفع إلى حاكم البلد فإن قضى بثبوت الرجعة لزم تقديم اجتهاد الحاكم على اجتهاد أنفسهما وحل لهما مخالفة اجتهاد أنفسهما إذ اجتهاد الحاكم أولى من اجتهادهما لضرورة رفع الخصومات فإن عجزا عن حاكم فعليهما تحكيم عالم فيقضي بينهما فإن لم يفعلا أثما وعصيا وكل ذلك احتمالات فقهية ويحتمل أن يتركا متنازعين ولا يبالي بتمانعهما فإنه تكليف بنقيضين في حق شخصين فلا يتناقض
وأما المسألة الثالثة وهي أن تنكح بولي من نكحت بغير ولي فنقول إن كان النكاح بلا ولي صدر من حنفي يعتقد ذلك فقد صح النكاح في حقه والنكاح الثاني بعده باطل قطعا لأنها صارت زوجة للأول وإن كان الحنفي عقده بإجتهاد نفسه واتصل به قضاء حنفي فذلك أوكد فإن كان مقلدا فقد صح أيضا في حقه وإن صدر العقد من شفعوي على خلاف معتقده احتمل أمرين أحدهما أن نقطع ببطلانه فإنا إنما نجعله حقا إذا صدر من معتقده عن تقليد أو اجتهاد حيث لا يأثم ولا يعصي وهذا قد عصى فهو مخطىء ويحتمل أن يقال ما لم يطلق أو لم يقض حاكم ببطلانه فلا تحل لغيره لأنه نكاح بصدد أن يقضي به حنفي فينحسم سبيل نقضه فلا يعقد نكاح آخر قبل نقضه وقد اختلفوا في أن الحنفي لو قضى لشفعوي بشفعة الجار أو بصحة النكاح بلا ولي فهل يؤثر قضاؤه في الإحلال باطنا فغلا أبو حنيفة وجعل القضاء بشهادة الزور يغير الحكم باطنا فيما للقاضي فيه ولاية الفسخ والعقد وغلا قوم فقالوا لا يحل القضاء شيئا بل يبقى على ما كان عليه وإن كان قضاؤه في محل الاجتهاد
وقال قوم يؤثر في محل الاجتهاد ويغير الحكم باطنا ولا يؤثر حيث قاله أبو حنيفة وهذه احتمالات فقهية لا يستحيل شيء منها فنختار منها ما نشاء فلا يتناقض ولا يلزمنا في الأصول تصحيح واحد من هذه الاختيارات الفقهية فإنها ظنيات محتملة كل مجتهد أيضا فيها مصيب
الشبهة الثالثة تمسكهم بطريق الدلالة بقولهم لو صح ما ذكرتموه لجاز لكل واحد
____________________

(1/357)


من المجتهدين في القبلة والإناءين إذا اختلف اجتهادهما أن يقتدي بالآخر لأن صلاة كل واحد صحيحة فلم لا يقتدي بمن صحت صلاته وكذلك ينبغي أن يصح اقتداء الشافعي بحنفي إذا ترك الفاتحة أيضا صحيحة لأنه بناها على الاجتهاد فلما اتفقت الأمة على فساد هذا الاقتداء دل على أن الحق واحد والجواب أن الاتفاق في هذا غير مسلم فمن العلماء من جوز الاقتداء مع اختلاف المذاهب وهو منقدح لأن كل مصل يصلي لنفسه ولا يجب الاقتداء إلا بمن هو في صلاة وصلاة الإمام غير مقطوع ببطلانها فكيف يمتنع الاقتداء ولو بان كون الإمام جنبا ربما لم يجب قضاء الصلاة ولو سلمنا فنقول إنما يجوز الاقتداء بمن صحت صلاته في حق المقتدي وللمقتدي أن يقول صلاة الإمام صحيحة في حقه لأنها على وفق اعتقاده فاسدة في حقي لأنها على خلاف اعتقادي فظهر أثر صحتها في كل ما يخص المجتهد أما ما يتعلق بمخالفته فينزل منزلة الباطل والاقتداء يتعلق بالمقتدي فصلاته لا تصلح لقدوة من يعتقد فسادها في حق نفسه وإن كان يعتقد صحتها في حق غيره والدليل عليه أن الإمام وإن صلى بغير فاتحة فيحتمل صلاته الصحة بالاتفاق إذ الشافعي لا يقطع بخطئه فلم فسد اقتداؤه بمن تجوز صحة صلاته ويجوز بطلانها وكل إمام فيحتمل أن تكون صلاته باطلة بحدث أو نجاسة لا يعرفها المقتدي ولا تبطل صلاته بالاحتمال فلا سبب لها إلا أنها باطلة في اعتقاده وبموجب اجتهاده ونحن نقول هي باطلة بموجب اعتقاده في حقه لا في حق إمامه وبطلانها في حقه كاف لبطلان اقتدائه
الشبهة الرابعة قولهم إن صح تصويب المجتهدين فينبغي أن نطوي بساط المناظرات في الفروع لأن مقصود المناظرة دعوة الخصم إلى الانتقال عن مذهبه فلم يدع إلى الانتقال بل ينبغي أن يقال ما اعتقدته فهو حق فلازمه فإنه لا فضل لمذهبي على مذهبك فالمناظرة إما واجبة وإما ندب وإما مفيدة ولا يبقى لشيء من ذلك وجه مع التصويب
والجواب أنا لا ننكر أن جماعة من ضعفة الفقهاء يتناظرون لدعوة الخصم إلى الانتقال لظنهم أن المصيب واحد بل لاعتقادهم في أنفسهم أنهم المصيبون وأن خصمهم مخطىء على التعيين أما المحصلون فلا يتناظرون في الفروع لذلك لكن يعتقدون وجوب المناظرة لغرضين واستحبابها لستة أغراض أما الوجوب ففي موضعين أحدهما أنه يجوز أن يكون في المسألة دليل قاطع من نص أو ما في معنى النص أو دليل عقلي قاطع فيما يتنازع فيه في تحقيق مناط الحكم ولو عثر عليه لامتنع الظن والاجتهاد فعليه المباحثة والمناظرة حتى ينكشف انتفاء القاطع الذي يأثم ويعصي بالغفلة عنه
الثاني أن يتعارض عنده دليلان ويعسر عليه الترجيح فيستعين بالمباحثة على طلب الترجيح فإنا وإن قلنا على رأي أنه يتخير فإنما يتخير إذا حصل اليأس عن طلب الترجيح وإنما يحصل اليأس بكثرة المباحثة
وأما الندب ففي مواضع الأول أن يعتقد فيه أنه معاند فيما يقوله غير معتقد له وأنه إنما يخالف حسدا أو عنادا أو نكرا فيناظر ليزيل عنهم معصية سوء الظن ويبين أنه يقوله عن اعتقاد واجتهاد
الثاني أن ينسب إلى الخطأ وأنه قد خالف دليلا قاطعا فيعلم جهلهم
____________________

(1/358)


فيناظر ليزيل عنهم الجهل كما أزال في الأول معصية التهمة
الثالث أن ينبه الخصم على طريقه في الاجتهاد حتى إذا فسد ما عنده لم يتوقف ولم يتخير وكان طريقه عنده عتيدا يرجع إليه إذا فسد ما عنده وتغير فيه ظنه
الرابع أن يعتقد أن مذهبه أثقل وأشد وهو لذلك أفضل وأجزل ثوابا فيسعى في استجرار الخصم من الفاضل إلى الأفضل ومن الحق إلى الأحق
الخامس أنه يفيد المستمعين معرفة طرق الاجتهاد ويذلل لهم مسلكه ويحرك دواعيهم إلى نيل رتبة الاجتهاد ويهديهم إلى طريقه فيكون كالمعاونة على الطاعات والترغيب في القربات
السادس وهو الأهم وهو أن يستفيد هو وخصمه تذليل طرق النظر في الدليل حتى يترقى من الظنيات إلى ما الحق فيه واحد من الأصول فيحصل بالمناظرة نوع من الارتباض وتشحيذ الخاطر وتقوية المنة في طلب الحقائق ليترقى به إلى نظر هو فرض عينه إن لم يكن في البلد من يقوم به أو كان قد وقع الشك في أصل من الأصول أو إلى ما هو فرض على الكفاية إذ لا بد في كل بلد من عالم مليء بكشف معضلات أصول الدين وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب متعين إن لم يكن إليه طريق سواه وإن كان إليه طريق سواه فيكون هو إحدى خصال الواجب فهذا في بعض الصور يلتحق بالمناظرة الواجبة فهذه فوائد مناظرات المحصلين دون الضعفاء المغترين حين يطلبون من الخصم الانتقال ويفتون بأنه يجب على خصمهم العمل بما غلب على ظنه وأنه لو وافقه على خلاف اجتهاد نفسه عصى وأثم وهل في عالم الله تناقض أظهر منه فهذه شبههم العقلية
أما الشبه النقلية فخمس الأولى تمسكهم بقوله تعالى { وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين } لأنعام الأنبياء 78 79 وهذا يدل على اختصاص سليمان بمدرك الحق وأن الحق واحد
الجواب من ثلاثة أوجه الأول أنه من أين صح أنهما بالاجتهاد حكما ومن العلماء من منع اجتهاد الأنبياء عقلا ومنهم من منعه سمعا ومن أجاز أحال الخطأ عليهم فكيف ينسب الخطأ إلى داود عليه السلام ومن أين يعلم أنه قال ما قال عن اجتهاد الثاني أن الآية أدل على نقيض مذهبهم إذ قال { وكلا آتينا حكما وعلما } والباطل والخطأ يكون ظلما وجهلا لا حكما وعلما ومن قضى بخلاف حكم الله تعالى لا يوصف بأنه حكم الله وأنه الحكم والعلم الذي آتاه الله لا سيما في معرض المدح والثناء فإن قيل فما معنى قوله تعالى { ما } الأنبياء 79 قلنا لا يلزمنا ذكر ذلك بعد أن أبطلنا نسبة الخطأ إلى داود
الجواب الثالث التأويل وهو أنه يحتمل أنهما كانا مأذونين في الحكم باجتهادهما فحكما وهما محقان ثم نزل الوحي على وفق اجتهاد سليمان فصار ذلك حقا متعينا بنزول الوحي على سليمان بخلافه لكن لنزوله على سليمان أضيف إليه ويتعين تنزيل ذلك على الوحي إذ نقل المفسرون أن سليمان حكم بأنه يسلم الماشية إلى صاحب الزرع حتى ينتفع بدرها ونسلها وصوفها حولا كاملا وهذا إنما يكون حقا وعدلا إذا علم أن الحاصل منه في جميع السنة يساوي ما فات على صاحب الزرع وذلك يدركه علام الغيوب ولا يعرف بالاجتهاد
الشبهة الثانية قوله تعالى { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } النساء
____________________

(1/359)


83 ) وقوله { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } آل عمران 7 فدل على أن في مجال النظر حقا متعينا يدركه المستنبط وهذا فاسد من وجهين أحدهما أنه ربما أراد به الحق فيما الحق فيه واحد من العقليات والسمعيات القطعيات إذ منها ما يعلم بطريق قاطع نظري مستنبط
والثاني أنه ليس فيه تخصيص بعض العلماء فكل ما أفضى إليه نظر عالم فهو استنباطه وتأويله وهو حق مستنبط وتأويل أذن للعلماء فيه دون العوام وجعل الحق في حق العوام الحق الذي استنبطه العلماء بنظرهم وتأويلهم فهذا لا يدل على تخطئة البعض
الشبهة الثالثة قوله عليه السلام إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر فدل أن فيه خطأ وصوابا وقد ادعيتم استحالة الخطأ في الاجتهاد والجواب من وجهين الأول أن هذا هو القاطع على أن كل واحد مصيب إذ له أجر وإلا فالمخطىء الحاكم بغير حكم الله تعالى كيف يستحق الأجر الثاني هو أنا لا ننكر إطلاق اسم الخطأ على سبيل الإضافة إلى مطلوبه لا إلى ما وجب عليه فإن الحاكم يطلب رد المال إلى مستحقه وقد يخطىء ذلك فيكون مخطئا فيما طلبه مصيبا فيما هو حكم الله تعالى عليه وهو اتباع ما غلب على ظنه من صدق الشهود وكذلك كل من اجتهد في القبلة يقال أخطأ أي أخطأ ما طلبه ولم يجب عليه الوصول إلى مطلوبه بل الواجب استقبال جهة يظن أن مطلوبه فيها فإن قبل ولم كان للمصيب أجران وهما في التكليف وأداء ما كلفا سواء قلنا لقضاء الله تعالى وقدره وإرادته فإنه لو جعل للمخطىء أجرين لكان له ذلك وله أن يضاعف الأجر على أخف العملين لأن ذلك منه تفضل ثم السبب فيه أنه أدى ما كلف وحكم بالنص إذ بلغه والآخر حرم الحكم بالنص إذ لم يبلغه ولم يكلف إصابته لعجزه ففاته فضل التكليف والامتثال وهذا ينقدح في كل مسألة فيها نص وفي كل اجتهاد يتعلق بتحقيق مناط الحكم كأروش الجنايات وقدر كفاية الأقارب فإن فيها حقيقة متعينة عند الله تعالى وإن لم يكلف المجتهد طلبها وهو جار في المسائل التي لا نص فيها عند من قال في كل مسألة حكم متعين وأشبه عند الله تعالى وسيأتي وجه فساده بعد هذا إن شاء الله تعالى
الشبهة الرابعة تمسكهم بقوله تعالى { ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم } آل عمران 103 { تنازعوا فتفشلوا } الأنفال 46 { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } آل عمران 105 48 { وكذلك } هود 118 119 والإجماع منعقد على الحث على الإلفة والموافقة والنهي عن الفرقة فدل أن الحق واحد ومذهبكم أن دين الله مختلف ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا والجواب من أوجه الأول أن اختلاف الحكم باختلاف الأحوال في العلم والجهل والظن كاختلافه باختلاف السفر والإقامة والحيض والطهر والحرية والرق والاضطرار والاختيار
الثاني أن الأمة مجمعة على أنه يجب على المختلفين في الاجتهاد أن يحكم كل واحد بموجب اجتهاده وهو مخالف لغيره والأمر باتباع المختلف أمر بالاختلاف فهذا ينقلب عليكم إشكاله وإنما يصح هذا السؤال من منكري أصل الاجتهاد
الثالث وهو جواب منكري أصل الاجتهاد
____________________

(1/360)


أيضا أنه لو كان المراد ما ذكروه لما جاز للمجتهدين في القبلة أن يصلوا إلى جهات مختلفة مع أن القبلة عند الله تعالى واحدة ولما جاز في الكفارات المختلفة أن يعتق واحد ويصوم آخر ولما جاز للمضطرين إلى ميتة لا تفي برمق جميعهم أن يتقارعوا ولما جاز الاجتهاد في أروش الجنايات وتقدير النفقات وفي مصالح الحرب وكل ما سميناه بتحقيق مناط الحكم وذلك كله ضروري في الدين وليس مرادنا الاختلاف المنهي عنه بل المنهي عنه الاختلاف في أصول الدين وعلى الولاة والأئمة
الشبهة الخامسة قولهم حسمتم إمكان الخطأ في الاجتهاد والصحابة مجمعون على الحذر من الخطأ حتى قالأبو بكر رضي الله عنه أقول في الكلالة برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمن الشيطان
وقال علي لعمر رضي الله عنهما إن لم يجتهدوا فقد غشوا وإن اجتهدوا فقد أخطأوا أما الإثم فأرجو أن يكون عنك زائلا وأما الدية فعليك
ولما كتب أبو موسى كتابا عن عمر كتب فيه هذا ما أرى الله عمر فقال امحه واكتب هذا ما رأى عمر فإن يك خطأ فمن عمر
وقال في جواب المرأة التي ردت عليه في النهي عن لمبالغة في المهر حيث ذكرت القنطار في الكتاب أصابت امرأة وأخطأ عمر
وقال ابن مسعود في المفوضة إن كانت خطأ فمني ومن الشيطان بعد أن اجتهد شهرا
الجواب إنا نثبت الخطأ في أربعة أجناس أن يصدر الاجتهاد من غير أهله أو لا يستتم المجتهد نظره أو يضعه في غير محله بل في موضع فيه دليل قاطع أو يخالف في اجتهاده دليلا قاطعا كما ذكرناه في باب مثارات إفساد القياس وإنا ذكرنا عشرة أوجه تبطل القياس قطعا لا ظنا فجميع هذا محال الخطأ وإنما ينتفي الخطأ متى صدر الاجتهاد من أهله وتم في نفسه ووضع في محله ولم يقع مخالفا لدليل قاطع ثم مع ذلك كله يثبت اسم الخطأ بالإضافة إلى ما طلب لا إلى ما وجب كما في القبلة وتحقيق مناط الأحكام فمن ذكره من الصحابة فإما إن كان اعتقد أن الخطأ ممكن وذهب مذهب من قال المصيب واحد أو خاف على نفسه أن يكون قد خالف دليلا قاطعا غفل عنه أو لم يستتم نظره ولم يستفرغ تمام وسعه أو يخاف أن لا يكون أهلا للنظر في تلك المسألة أو أمن ذلك كله لكن قال ما قال إظهارا للتواضع والخوف من الله تعالى كما يقولون أنا مؤمن بالله إن شاء الله مع أنهم لم يشكوا في إيمانهم ثم جميع ما ذكروا أخبار آحاد لا يقوم بها حجة ويتطرق إليها الاحتمال المذكور فلا يندفع بها البراهين القاطعة التي ذكرناها
مسألة ( الخطأ والإصابة في الاجتهاد ) القول في نفي حكم معين في المجتهدات أما من ذهب إلى أن المصيب واحد فقد وضع في كل مسألة حكما معينا هو قبلة الطالب ومقصد طلبه فيصيب أو يخطىء أما المصوبة فقد اختلفوا فيه فذهب بعضهم إلى إثباته وإليه تشير نصوص الشافعي رحمه الله لأنه لا بد للطالب من مطلوب وربما عبروا عنه بأن مطلوب المجتهد الأشبه عند الله تعالى والأشبه معين عند الله والبرهان الكاشف للغطاء عن هذا الكلام المبهم هو أنا نقول المسائل منقسمة إلى ما ورد فيها نص وإلى ما لم يرد أما ما ورد فيه نص فالنص كأنه مقطوع به من جهة الشرع لكن لا يصير حكما في حق المجتهد إلا إذا بلغه وعثر عليه أو كان عليه
____________________

(1/361)


دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم يقصر في طلبه فهذا مطلوب المجتهد وطلبه واجب وإذا لم يصب فهو مقصر آثم أما إذا لم يكن إليه طريق متيسر قاطع كما في النهي عن المخابرة وتحويل القبلة قبل بلوغ الخبر فقد بينا أن ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه لكنه عرضة أن يصير حكما فيه حكم بالقوة لا بالفعل وإنما يصير حكما بالبلوغ أو تيسر طريقه على وجه يأثم من لا يصيبه فمن قال في هذه المسائل حكم معين لله تعالى وأراد به أنه حكم موضوع ليصير حكما في حق المكلف إذا بلغه وقبل البلوغ وتيسر الطريق ليس حكما في حقه بالفعل بل بالقوة فهو صادق وإن أراد به غيره فهو باطل أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم أنه لا حكم فيها لأن حكم الله تعالى خطابه وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي عليه السلام أو سكوته فإنه قد يعرفنا خطاب الله تعالى من غير استماع صيغة فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراما فمعنى تحريمه أنه قيل فيه لا تشربوه وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطبا والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون ولا بد أن يكون المخاطب به هم المكلفون من الآدميين ومتى خوطبوا ولم ينزل فيه نص بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق فإذا لا يعقل خطاب لا مخاطب به كما لا يعقل علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له ويستحيل أن يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل قاطع فإن قيل عليه أدلة ظنية قلنا قد بينا أن تسمية الأمارات أدلة مجاز فإن الأمارات لا توجب الظن لذاتها بل تختلف بالإضافة فمما لا يفيد الظن لزيد فقد يفيد لعمرو وما يفيد لزيد حكما فقد يفيد لعمرو ونقيضه وقد يختلف تأثيره في حق زيد في حالتين فلا يكون طريقا إلى المعرفة ولو كان طريقا لعصى إذا لم يصبه فسبب هذا الغلط إطلاق اسم الدليل على الأمارات مجازا فظن أنه دليل محقق وإنما الظن عبارة عن ميل النفس إلى شيء واستحسان المصالح كاستحسان الصور فمن وافق طبعه صورة مال إليها وعبر عنها بالحسن وذلك قد يخالف طبع غيره فيعبر عنه بالقبح حيث ينفر عنه فالأسمر حسن عند قوم قبيج عند قوم فهي أمور إضافية ليس لها حقيقة في نفسها فلو قال قائل الأسمر حسن عند الله أو قبيح قلنا لا حقيقة لحسنه وقبحه عند الله إلا موافقته لبعض الطباع ومخالفته لبعضها وهو عند الله كما هو عند الناس فهو عند الله حسن عند زيد قبيح عند عمرو إذ لا معنى لحسنه إلا موافقته طبع زيد ولا معنى لقبحه إلا مخالفته لطبع عمرو وكذلك تحريك الرغبة للفضائل والتفاوت في العطاء هو حسن عند عمر رضي الله عنه موافق لرأيه وهو بعينه ليس موافقا لأبي بكر رضي الله عنه بل الحسن عند أن يجعل الدنيا بلاغا ولا يلتفت إليها فهذه الحقيقة في الظنون ينبغي أن تفهم حتى ينكشف الغطاء وإنما غلط فيه الفقهاء من حيث ظنوا أن الحلال والحرام وصف للأعيان كما ظن قوم أن الحسن والقبح وصف للذوات فإن قيل نحن لا ننكر أن ما لم يرد فيه نطق ولا دليل قاطع فليس فيه حكم نازل موضوع لكن نعني بالأشبه فيما هو قبلة للطالب الحكم الذي كان الله ينزله لو أنزله وربما كان الشارع يقوله لو رجع في تلك المسألة قلنا هذا هو
____________________

(1/362)


الحكم بالقوة وما كان ينزل لو نزل إنما يكون حكما لو نزل فقبل نزوله ليس حكما فقد ظهر أنه لا حكم ومن أخطأ لم يخطىء الحكم بل أخطأ ما كان لعله سيصير حكما لو جرى في تقدير الله انزله ولم يجر في تقديره فلا معنى له ويلزم من هذا أن يجوز خطأ المجتهدين جميعا في تقديره وإصابة المجتهدين جميعا فإنه ربما كان ينزل لو أنزل التخيير بين المذهبين وتصويب كل من قال فيه قولا كيفما قال أو ينزل تخطئة كل من قطع القول بإثبات أو نفي حيث لم يتخير بين الحكمين فإن هذه التجويزات لا تنحصر فربما يعلم الله صلاح العباد في أن لا يضع في الوقائع حكما بل يجعل حكمها تابعا لظن المجتهدين فتعبدهم بما يظنون ويبطل مذهب من يقول فيها بحكم معين فيكون في هذا تخطئة كل من أثبت من المجتهدين حكما معينا نفيا أو إثباتا احتجوا بأن قالوا إنما اضطرنا إلى هذا ضرورة الطلب فإنه يستدعي مطلوبا فمن علم أن الجماد ليس بعالم ولا جاهل لا يتصور أن يطلب الظن أو العلم بجهله وعلمه ومن اعتقد أن العالم خال عن وصف القدم والحدوث هل يتصور أن يطلب ما يعتقد انتفاءه فإذا اعتقد الطلب أن قليل النبيذ ليس عند الله حراما ولا حلالا فكيف يجتهد في طلب أحدهما قلنا فقد أخطأ إذ ظننتم أن المجتهد يطلب حكم الله مع علمه بأن حكم الله خطابه فإن الواقعة لا نص فيها ولا خطاب بل إنما يطلب غلبة الظن وهو كمن كان على ساحل البحر وقيل له إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب وإن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب وقبل حصول الظن لا حكم لله عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك ويتبع ظنك بعد حصوله فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم فإن قيل هذا في البحر معقول لأنه ينظر في أمارات الهلاك والسلامة فذلك مطلوبة والإباحة والتحريم أمر وراءه وفي مسألتنا لا مطلوب سوى الحكم قلنا من ههنا غلطتم فإنه لا فرق بين الصورتين ونحن نكشف ذلك بالأمثلة فنقول لو قلنا للشارع ما حكم الله تعالى في العطاء الواجب التسوية أو التفضيل
فقال حكم الله على كل إمام ظن أن الصلاح في التسوية هو التسوية وحكمه على كل من ظن أن المصلحة في التفضيل ولا حكم عليهم قبل تحصيل الظن إنما يتجدد حكمه بالظن وبعده كما يتجدد الحكم على راكب البحر بعد الظن ويتجدد على قاضيين شهد عندهما في واقعتين شخصان وجوب القبول ووجوب الرد عند ظن الصدق وظن الكذب فيجب على أحدهما التصديق وعلى الآخر التكذيب وكذلك إذا قلنا ما حكمه في قليل النبيذ فقال حكمه تحريم الشرب على من ظن أني حرمت قليل الخمر لأنه يدعوه إلى كثيره والتحليل لمن ظن أني حرمت الخمر لعينها إلا لهذه العلة ولا حكم لله تعالى قبل هذا الظن وكذلك إذا قلنا ما حكم الله في قيمة العبد أتضرب على العاقلة أم على الجاني فقال حكم الله تعالى على من ظن أنه بالحر أشبه الضرب على العاقلة وعلى من ظن أنه بالبهيمة أشبه الضرب على الجاني وكذلك نقول ما حكم الله في المفاضلة في بيع الجص والبطيخ فقال حكم الله على من ظن إني حرمت ربا الفضل في البر لأنه مطعوم تحريم البطيخ دون الجص وعلى من ظن أني حرمته للكيل تحريم الجص دون البطيخ فإن قيل فما علة تحريم ربا البر عند الله أهي الطعم أم
____________________

(1/363)


الكيل أم القوت فنقول كل واحد من الطعم والكيل لا يصلح أن يكون علة لذاتها بل معنى كونها علة أنها علامة فمن ظن أن الكيل علامة فهو علامة في حقه دون من ظن أن علامته الطعم وليست العلة وصفا ذاتيا كالقدم والحدوث للعالم حتى يجب أن يكون في علم الله على أحد الوصفين لا محالة بل هو أمر وضعي والوضع يختلف بالإضافة وقد وضعته كذلك فهذا لو صرح الشارع به فهو معقول وجانب الخصم لو صرح به كان محالا وهو أن يكون لله حكم ليس بخطاب ولا يتعلق بمخاطب ومكلف فإن هذا يضاد حد الحكم وحقيقته أو يقول تعلق به لكن لا طريق له إلى معرفته فهو محال لما فيه من تكليف ما لا يطاق أو يقول له طريق إلى معرفته وقد أمر به لكنه لا يعصي بتركه فهو أيضا يضاد حد الواجب ويضاد حد الاجماع المنعقد على أن المجتهد يجب عليه العمل بموجب اجتهاده فكيف يجب عليه مع ذلك ضده وكيف يكون مأمورا باستقبال القبلة من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أخرى بل بالإجماع لو خالف اجتهاد نفسه واستقبل جهة أخرى فاتفق إن كان جهة القبلة عصى ولزمه القضاء فاستبان أن ذلك الاجتهاد الشرعي على الممكن دون المحال هذا حكم التأثيم والتصويب ونذكر بقية أحكام الاجتهاد في صور مسائل
مسألة ( تعارض الأدلة مع بعضها ) إذا تعارض دليلان عند المجتهد وعجز عن الترجيح ولم يجد دليلا من موضع آخر وتحير فالذين ذهبوا إلى أن المصيب واحد يقولون هذا بعجز المجتهد وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح فيلزم التوقف أو الأخذ بالاحتياط أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح وأما المصوبة فاختلفوا فمنهم من قال يتوقف لأنه متعبد باتباع غالب الظن ولم يغلب عليه ظن شيء وهذا هو الأسلم الأسهل وقال القاضي يتخير لأنه تعارض عنده دليلان وليس أحدهما أولى من الآخر فيعمل بأيهما شاء وهذا ربما يستنكر ويستبعد ويقال كيف يتخير في حال واحدة بين الشيء وضده وليس هذا محالا لأن التخيير بين حكمين مما ورد الشرع به كالتخيير بين خصال الكفارة ولو صرح الشرع بالتخيير كان له ذلك فقد اضطررنا إلى التخيير لأن الحكم تارة يؤخذ من النص وتارة من المصلحة وتارة من الشبه وتارة من الاستصحاب فإن نظرنا إلى النص فيجوز أن يتعارض في حقنا نصان ولا يتبين تاريخ أو يتعارض عمومان ولا يتبين ترجيح أو يتعارض استصحابان كما في مسائل تقابل الأصلين أو يتعارض شبهان بأن تدور المسألة بين أصلين ويكون شبهه هذا كشبهه ذاك أو يتعارض مصلحتان بحيث لا ترجيح فلو قلنا يتوقف فإلى متى يتوقف وربما لا يقبل الحكم التأخير ولا نجد مأخذا آخر للحكم ولا نجد مفتيا آخر يترجح عنده أو وجد من ترجح عنده بخيال هو فاسد عنده يعلم أنه لا يصلح للترجيح فكيف يرجح بما يعتقد أنه لا يصلح للترجيح بل لا سبيل إلا التخيير كما لو اجتمع على العامي مفتيان استوى حالهما عنده في العلم والورع ولم يجد ثالثا فلا طريق إلا التخيير وللفقهاء في تعارض البينتين مذاهب فمنهم من قال نقسم المال بينهما ومعناه تصديق البينتين وتقدير أنه قام لكل واحد سبب كمال الملك لكن ضاق المحل عن الوفاء بهما ولا ترجيح فصار كما لو استحقاه بالشفعة إذ لكل واحد من الشفيعين سبب كامل في استحقاق جميع الشقص المبيع لكن ضاق المحل
____________________

(1/364)


فيوزع عليهما وعلى الجملة الاحتمالات أربعة أما العمل بالدليلين جميعا أو إسقاطهما جميعا أو تعيين أحدهما بالتحكم أو التخيير ولا سبيل إلى الجمع عملا وإسقاطا لأنه متناقض ولا سبيل إلى التوقف إلى غير نهاية فإن فيه تعطيلا ولا سبيل إلى التحكم بتعيين أحدهما فلا يبقى إلا الرابع وهو التخيير كما في اجتماع المفتيين على العامي فإن قيل كما استحالت الأقسام الثلاثة فالتخيير أيضا جمع بين النقيضين فهو محال قلنا المحال ما لو صرح الشرع به لم يعقل ولو قال الشارع من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جدار أراد فيتخير بين أن يستقبل جدارا أو يستدبره كان معقولا لأنه كيفما فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة وكيفما تقلب فإليها ينقلب وكذلك إذا قال تعبدتكم باتباع الاستصحاب ثم تعارض استصحابان فكيفما تقلب فهو مستصحب كما إذا أعتق عن كفارته عبدا غائبا انقطع خبره فالأصل بقاء الحياة والأصل بقاء اشتغال الذمة فقد تعارضا وكذلك إذا علم المجتهد أن في التسوية في العطاء مصلحة وهي الأحتراز عن وحشة الصدور بمقدار التفاوت الذي لا يتقدر إلا بنوع من الاجتهاد وفي التفاوت مصلحة تحريك رغبات الفضائل وهما مصلحتان ربما تساوتا عند الله تعالى أيضا فكيفما فعل فقد مال إلى مصلحة وكذلك قد تشبه المسألة أصلين شبها متساويا وقد أمرنا باتباع الشبه فكيفما فعل فهو ممتثل ومثاله قوله تعالى عليه السلام في زكاة الإبل في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فمن له من الإبل مائتان فإن أخرج الحقاق فقد عمل بقوله عليه السلام في كل خمسين حقة وإن أخرج بنات لبون فقد عمل بقوله في كل أربعين بنت لبون وليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فيتخير فكذلك عند تعارض الاستصحاب والمصلحة والشبه فإن قيل التخيير بين التحريم ونقيضه يرفع التحريم والتخيير بين الواجب وتكره يرفع الوجوب والجمع بين أختين مملوكتين أما أن يحرم أو لا يحرم فإن قلنا بهما جميعا فهو متناقض قلنا يحتمل أن يرجع عند تعارض الدليل الموجب والمسقط إلى الوجه الآخر وهو القول بالتساقط ويطلب الدليل من موضع آخر ويخص وجه التخيير بما لو ورد الشرع فيه بالتخيير لم يتناقض مما يضاهي مسألة بنات اللبون والحقاق وكالاختلاف في المحرم إذا جمع بين التحليلين الواجب عليه بدنة أو شاة إذ التخيير بينهما معقول فيحصل في تعارض الدليلين ثلاثة أوجه وجه في التساقط ووجه في التخيير ووجه في التفصيل وفصل بين ما يمكن التخيير فيه من الواجبات إذ يمكن التخيير فيها وبين ما يتعارض فيه الموجب والمبيح أو المحرم والمبيح فلا يمكن التخيير فيه فيرجع إلى التساقط وإن أردنا الإصرار على وجوب التخيير مطلقا فله وجه أيضا وهو أنا نقول إنما يناقض الوجوب جواز الترك مطلقا أما جوازه بشرط فلا بدليل أن الحج واجب على التراخي وإذا أخر ثم مات قبل الأداء لم يلق الله عاصيا عندنا إذا أخر مع العزم على الامتثال فجواز تركه بشرط العزم لا ينافي الوجوب بل المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فالركعتان واجبتان ويجوز أن يتركهما ولكن جاز تركهما بشرط أن يقصد الترخص ويقبل صدقة قد تصدق الله بها على عباده فهو كمن يستحق أربعة دراهم على غيره فقال له تصدقت عليك بدرهمين إن قبلت وإن لم تقبل وأتيت بالأربعة قبلت
____________________

(1/365)


الأربعة عن الدين الواجب فإن شاء قبل الصدقة وأتى بدرهمين وإن شاء اتى بالأربعة عن الواجب ولا يتناقض فكذلك في مسألتنا إذا اقتضى استصحاب شغل الذمة إيجاب عتق آخر بعد أن أعتق عبدا غائبا فلا يجوز له تركه إلا بشرط أن يقصد استصحاب الحياة ويعمل بموجبه فمن لم يخطر له الدليل المعارض أو خطر له ولم يقصد العمل وترك الواجب لم يجز وكذلك إذا سمع قوله تعالى { وأن تجمعوا بين الأختين } النساء 23 حرم عليه الجمع بين المملوكتين وإنما يجوز له قصد العمل بموجب الدليل الثاني هو قوله تعالى 4 { أو ما ملكت أيمانكم } النساء 3 كما قال عثمان أحلتهما آية وحرمتهما آية وسئل ابن عمر عمن نذر صوم يوم من كل أسبوع فوافق يوم العيد فقال أمر الله بوفاء النذر ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم العيد ولم يزد على هذا معناه أنه إذا لم يظهر ترجيح فيحرم صوم العيد بالنهي ويجوز أن يصوم بشرط أن يقصد العمل بموجب الدليل الثاني وهو الأمر بالوفاء وكان ذلك جوازا بشرط فلا يتناقض الواجب وأما إذا تعارض الموجب والمحرم فيتولد منه التخيير المطلق كالولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسم عليهما أو منعهما لماتا ولو أطعم أحدهما مات الآخر فإذا أشرنا إلى رضيع معين كان إطعامه واجبا لأن فيه إحياءه وحراما لأن فيه هلاك غيره فنقول هو مخير بين أن يطعم هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا فلا سبيل إلا التخييرة فإذا مهما تعارض دليلان في واجبين كالشاة والبدنة في الجمع بين التحليلين تخيير بينهما وأن تعارض دليل الوجوب ودليل الإباحة تخير بشرط قصد العمل بموجب الدليل المبيح كما يتخير بين ترك الركعتين قصدا وبين إتمامهما لكن بشرط قصد الترخص وإن تعارض الموجب والمحرم حصل التخيير المطلق أيضا هذا طريق نصره اختيار القاضي في التخيير فإن قيل تعارض دليلين من غير ترجيح محال وإنما يخفى الترجيح على المجتهد قلنا وبم عرفتم استحالة ذلك فكما تعارض موجب بنات اللبون والحقاق فلم يستحل أن يتعارض استصحابان وشبهان ومصلحتان وينتفى الترجيح في علم الله تعالى فإن قيل فما معنى قول الشافعي المسألة على قولين قلنا هو التخيير في بعض المواضع والتردد في بعض المواضع كتردده في أن البسملة هل هي آية في أول كل سورة فإن ذلك لا يحتمل التخيير لأنه في نفسه أمر حقيقي ليس بإضافي فيكون الحق فيه واحدا فإن قيل فمذهب التخيير يفضي إلى محال وهو أن يخير الحاكم المتخاصمين في شفعة الجوار أو استغراق الجد للميراث أو المقاسمة لأن حكم الله الخيرة وكذلك يخير المفتي العامي وكذلك يحكم لزيد بشفعة الجوار ولعمرو بنقيضه ويوم السبت باستغراق الجد للميراث ويوم الأحد بالمقاسمة بل تثبت الشفعة يوم الأحد وتسترد يوم الاثنين بالرأي الآخر قلنا لا تخيير للمخاصمين بين النقيضين لأن الحاكم منصوب لفصل الخصومة عند التنازع فيلزمه أن يفصل الخصومة بأي رأي أراد كما لو تنازع الساعي والمالك في بنات اللبون والحقاق وفي الشاة والدراهم في الجبران فالحاكم يحكم بما أراد أما الرجوع فغير جائز لمصلحة الحكم أيضا فإنه لو تغير اجتهاده عندكم تغير فتواه ولا ينقض الحكم السابق للمصلحة أما قضاؤه يوم الأحد بخلاف قضائه يوم السبت
____________________

(1/366)


وفي حق زيد بخلاف ما في حق عمرو فما قولكم فيه لو تغير اجتهاده أليس ذلك جائزا فكذلك إذا اجتمع دليلان عليه عندنا كما في الحقاق وبنات اللبون يجوز أن يشير بإشارة مختلفة فيأمر زيدا ببنات اللبون وعمرا بالحقاق وعلى الجملة يجوز أن يغاير أمر الحكم أمر الفتوى لمصلحة الحكم كما لو تغير الاجتهاد فإنه لا ينقض الحكم الماضي ويحكم في المستقبل بالاجتهاد الثاني وكذلك المجتهد في القبلة إذا تعارض عنده دليلان في جهتين والصلاة لا تقبل التأخير ولا مجتهد يقلد فهل له سبيل إلا أن يتخير إحدى الجهتين فيصلي إلى أي الجهتين شاء ولا يجوز له أن يعدل إلى الجهتين الباقيتين اللتين دل اجتهاده على أن القبلة ليست فيهما فهذه أمور لو وقع التصريح بها من الشارع كان مقبولا ومعقولا وإليه الإشارة بقول علي وعثمان رضي الله عنهما في الجمع بين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية
مسألة ( نقض الاجتهاد ) في نقض الاجتهاد المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد أن خالع الزوج ثلاثا ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل فاضطربت الأحكام ولم يوثق بها أما إذا نكح المقلد بفتوى مفت وأمسك زوجته بعد دور الطلاق وقد نجز الطلاق بعد الدور ثم تغير اجتهاد المفتي فهل على المقلد تسريح زوجته هذا ربما يتردد فيه والصحيح أنه يجب تسريحها كما لو تغير اجتهاد مقلده عن القبلة في أثناء الصلاة فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى كما لو تغير اجتهاده في نفسه وإنما حكم الحاكم هو الذي لا ينقض ولكن بشرط أن لا يخالف نصا ولا دليلا قاطعا فإن أخطأ النص نقصنا حكمه وكذلك إذا تنبهنا لأمر معقول في تحقيق مناط الحكم أو تنقيحه بحيث يعلم أنه لو تنبه له لعلم قطعا بطلان حكمه فينقض الحككم
فإن قيل قد ذكرتم أن مخالف النص مصيب إذا لم يقصر لأن ذلك حكم الله تعالى عليه بحسب حاله فلم ينقض حكمه قلنا نعم هو مصيب بشرط دوام الجهل كمن ظن أنه متطهر فحكم الله عليه وجوب الصلاة ولو علم أنه محدث فحكم الله عليه تحريم الصلاة مع الحدث لكن عند الجهل الصلاة واجبة عليه وجوبا حاصلا ناجزا وهي حرام عليه بالقوة أي هي بصدد أن تصير حراما ما لو علم محدث فمهما علم لزمه تدارك ما مضى وكان ذلك صلاة بشرط دوام الجهل وكذلك مهما بلغ المجتهد النص نقض حكمه الواقع فكذلك الحاكم الآخر العالم بالنص ينقض حكمه وعند هذا ننبه على دقيقة وهي أنا ذكرنا أن اختلاف حال المكلف في الظن والعلم كاختلاف حاله في السفر والإقامة والطهر والحيض فيجوز أن يكون ذلك سببا لاختلاف الحكم لكن بينهما فرق وهو أن من سقط عنه وجوب لسفره أو عجزه فلا يجب إزالة سفره وعجزه ليتحقق الوجوب ومن سقط عنه لجهله وجب إزالة جهله فإن التعليم وتبليغ حكم الشرع وتعريف أسبابه واجب وكذلك نقول من صلى وعلى ثوبه نجاسة لا يعرفها تصح صلاته ولا يقضيها على قول فمن رأى في ثوبه تلك النجاسة يلزمه تعريفه ولو
____________________

(1/367)


تيمم ليصلي وقدر غيره على أن يزيل عجزه بحمل ماء إليه لم يلزمه ففي هذه الدقيقة يختلف حكم العلم والجهل وحكم سائر الأوصاف
فإن قيل فلو خالف الحاكم قياسا جليا هل ينقض حكمه قلنا قال الفقهاء ينقض فإن أرادوا به ما هو في معنى الأصل مما يقطع به فهو صحيح وإن أرادوا به قياسا مظنونا مع كونه جليا فلا وجه له إذ لا فرق بين ظن وظن فإذا أنتقى القاطع فالظن يختلف بالإضافة وما يختلف بالإضافة فلا سبيل إلى تتبعه
فإن قيل فمن حكم على خلاف خبر الواحب أو بمجرد صيغة لأمر أو حكم في الفساد بمجرد النهي فهل ينقض حكمه وقد قطعتم بصحة خبر الواحد وأن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب والنهي لا يدل بمجرده على الفساد قلنا معما كانت المسألة ظنية فلا ينقض الحكم لأنا لا ندري أنه حكم لرده خبر الواحد أو أنه حكم بمجرد صيغة الأمر بل لعله كان حكم لدليل آخر ظهر له فإن علمنا أنه حكم لذلك لا لغيره وكانت المسألة مع ذلك ظنية اجتهادية فلا ينبغي أن ينقض لأنه ليس لله في المسألة الظنية حكم معين فقد حكم بما هو حكم الله تعالى على بعض المجتهدين فإن أخطأ في الطريق فليس مخطئا في نفس الحكم بل حكم في محل الاجتهاد وعلى الجملة الحكم في مسألة فيها خبر واحد على خلاف الخبر ليس حكما برد الخبر مطلقا وإنما المقطوع به كون الخبر حجة على الجملة أما آحاد المسائل فلا يقطع فيها بحكم فإن قيل فإن حكم بخلاف اجتهاده لكن وافق مجتهدا آخر وقلده فهل ينقض حكمه ولو حكم حاكم مقلد بخلاف مذهب إمامه فهل ينقض قلنا هذا في حق المجتهد لا يعرف يقينا بل يحتمل تغير اجتهاده وأما المقلد فلا يصح حكمه عند الشافعي ونحن وإن حكمنا يتنفيذ حكم المقلدين في زماننا لضرورة الوقت فإن قضينا بأنه لا يجوز للمقلد أن يتبع أي مفت شاء بل عليه اتباع إمامه الذي هو أحق بالصواب في ظنه فينبغي أن ينقض حكمه ولو جوزنا ذلك فإذا وافق مذهب ذي مذهب فقد وقع الحكم في محل الاجتهاد فلا ينقض وهذه مسائل فقهية أعني نقض الحكم في هذه الصور وليست من الأصول في شيء والله أعلم
مسألة ( في وجوب الاجتهاد على المجتهد وتحريم التقليد عليه ) وقد اتفقوا على أنه إذا فرغ من الاجتهاد وغلب على ظنه حكم فلا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بنظر غيره ويترك نظر نفسه أما إذا لم يجتهد بعد ولم ينظر فإن كان عاجزا عن الاجتهاد كالعامي فله التقليد وهذا ليس مجتهدا لكن ربما يكون متمكنا من الاجتهاد في بعض الأمور وعاجزا عن البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كعلم النحو مثلا في مسألة نحوية وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة نحوية خبرية وقع النظر فيها في صحة الإسناد فهذا من حيث حصل بعض العلوم واستقل بها لا يشبه العامي ومن حيث أنه لم يحصل هذا العلم فهو كالعامي فيلحق بالعامي أو بالعالم فيه نظر والأشهر والأشبه أنه كالعامي وإنما المجتهد هو الذي صارت العلوم عنده بالقوة القريبة أما إذا احتاج إلى تعب كثير في التعلم بعد فهو في ذلك الفن عاجز وكما يمكنه تحصيله فالعامي أيضا يمكنه التعلم ولا يلزمه بل يجوز له ترك الاجتهاد وعلى الجملة بين درجة المبتدىء في العلم وبين رتبة الكمال منازل واقعة بين
____________________

(1/368)


طرفين وللنظر فيها مجال وإنما كلامنا الآن في المجتهد لو بحث عن مسألة ونظر في الأدلة لاستقل بها ولا يفتقر إلى تعلم علم من غيره فهذا هو المجتهد فهل يجب عليه الاجتهاد أم يجوز له أن يقلد غيره هذا مما اختلفوا فيه فذهب قوم إلى أن الإجماع قد حصل على أن من وراء الصحابة لا يجوز تقليدهم وقال قوم من وراء الصحابة والتابعين وكيف يصح دعوى الإجماع وممن قال بتقليد العالم أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وسفيان الثوري وقال محمد بن الحسن يقلد العالم الأعلم ولا يقلد من هو دونه أو مثله وذهب الأكثرون من أهل العراق إلى جواز تقليد العالم العالم فيما يفتي وفيما يخصه وقال قوم يجوز فيما يخصه دون ما يفتي وخصص قوم من جملة ما يخصه ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد واختار القاضي منع تقليد العالم للصحابة ولمن بعدهم وهو الأظهر عندنا والمسألة ظنية اجتهادية والذي يدل عليه أن قليد من لا تثبت عصمته ولا يعلم بالحقيقة إصابته بل يجوز خطؤه وتلبيسه حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص ولا نص ولا منصوص إلا العامي والمجتهد إذ للمجتهد أن يأخذ بنظر نفسه وإن لم يتحقق وللعامي أن يأخذ بقوله أما المجتهد إنما يجوز له الحكم بظنه لعجزه عن العلم فالضرورة دعت إليه في كل مسألة ليس فيها دليل قاطع أما العامي فإنما جوز له تقليد غيره للعجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه والمجتهد غير عاجز فلا يكون في معنى العاجز فينبغي أن يطلب الحق بنفسه فإنه يجوز الخطأ على العالم بوضع الاجتهاد في غير محله والمبادرة قبل استتمام الاجتهاد والغفلة عن دليل قاطع وهو قادر على معرفة جميع ذلك ليتوصل في بعضها إلى اليقين وفي بعضها إلى الظن فكيف يبني الأمر على عماية كالعميان وهو بصير بنفسه فإن قيل وهو ليس يقدر إلا على تحصيل ظن وظن غيره كظنه ولا سيما عندكم وقد صوبتم كل مجتهد قلنا مع هذا إذا حصل ظنه لم يجز له اتباع ظن غيره فكان ظنه أصلا وظن غيره بدلا يدل عليه أنه لم يجز العدول إليه مع وجود المبدل فلا يجوز مع القدرة على المبدل كما في سائر الإبدال والمبدلات إلا أن يرد نص بالتخيير فترتفع البدلية أو يرد نص بأنه بدل عند الوجود لا عند العدم كبنت مخاض وابن لبون في خمس وعشرين من الإبل فإن وجوب بنت مخاض يمنع من قبول ابن لبون والقدرة على شرائه لا تمنع منه
فإن قيل حصرتم طريق معرفة الحق في الإلحاق ثم قطعتم طريق الإلحاق ولا نسلم أن مأخذه الإلحاق بل عمومات تشمل العامي والعالم كقوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } الأنبياء 7 وما أراد من لا تعلم شيئا أصلا فإن ذاك مجنون أو صبي بل من لا يعلم تلك المسألة وكذلك قوله تعالى { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } النساء 59 وهم العلماء قلنا أما قوله تعالى { فاسألوا أهل الذكر } فإنه لا حجة فيه من وجهين أحدهما أن المراد به أمر العوام بسؤال العلماء إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول فمن هو من أهل العلم مسؤول وليس بسائل ولا يخرج عن كونه من أهل العلم بأن لا تكون المسألة حاضرة في ذهنه إذ هو متمكن من معرفتها من غير أن يتعلم من غيره
الثاني أن معناه سلوا لتعلموا أي سلوا عن الدليل لتحصيل العلم كما يقال كل لتشبع واشرب لتروي وأما أولو الأمر فإنما أراد بهم الولاة إذ أوجب طاعتهم كطاعة الله ورسوله ولا يجب على المجتهد اتباع المجتهد فإن كان المراد بأولي الأمر الولاة فالطاعة على الرعية وإن كان هم العلماء فالطاعة على العوام ولا نفهم غير ذلك ثم نقول يعارض هذه العمومات عمومات أقوى منها يمكن التمسك بها ابتداء في المسألة كقوله تعالى { فاعتبروا يا أولي الأبصار }
____________________

(1/369)


الحشر 2 وقوله تعالى { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } النساء 83 وقوله { أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها } محمد 24 وقوله { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } الشورى 10 وقوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } النساء 59 فهذا كله أمر بالتدبر والاستنباط والاعتبار وليس خطابا مع العوام فلم يبق مخاطب إلا العلماء والمقلد تارك للتدبر والاعتبار والاستنباط وكذلك قوله تعالى 34 الزمر 55 وهذا بظاهره يوجب الرجوع إلى الكتاب فقط لكن دل الكتاب على اتباع السنة والسنة على الإجماع والإجماع على القياس وصار جميع ذلك منزلا فهو المتبع دون أقوال العباد فهذه ظواهر قوية والمسألة ظنية يقوي فيها التمسك بأمثالها ويعتضد ذلك بفعل الصحابة فإنهم تشاوروا في ميراث الجد والعول والمفوضة ومسائل كثيرة وحكم كل واحد منهم بظن نفسه ولم يقلد غيره فإن قيل لم ينقل عن طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهم أهل الشورى نظر في الأحكام مع ظهور الخلاف والأظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم قلنا كانوا لا يفتون اكتفاء بمن عداهم في الفتوى أما عملهم في حق أنفسهم لم يكن إلا بما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب وعرفوه فإن وقعت واقعة لم يعرفوا دليلها شاوروا غيرهم لتعرف الدليل لا للتقليد فإن قيل فما تقولون في تقليد الأعلم قلنا الواجب أن ينظر أولا فإن غلب على ظنه ما وافق الأعلم فذاك وإن غلب على ظنه خلافه فما ينفع كونه أعلم وقد صار رأيه مزيفا عنده والخطأ جائز على الأعلم وظنه أقوى في نفسه من ظن غيره وله أن يأخذ بظن نفسه وفاقا ولم يلزمه تقليده لكونه أعلم فينبغي أن لا يجوز تقليده ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تسويغ الخلاف لابن عباس وابن عمر وابن الزبير وزيد بن ثابت وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم من أحداث الصحابة لأكابر الصحابة ولأبي بكر ولعمر رضي الله عن جميعهم فإن قيل فهل من فرق بين ما يخصه وبين ما يفتي به قلنا يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الشافعي وأبي حنيفة لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره إذ لو جاز ذلك لجاز الفتوى الشافعي وأبي حنيفة لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره إذا لو جاز ذلك لجاز الفتوى للعوام وأما ما يخصه إذا ضاق الوقت وكان في البحث تفويت فهذا هل يلحقه بالعاجز في جواز التقليد فيه نظر فقهي ذكرناه في مسألة العدول إلى التيمم عند ضيق الوقت وتناوب جماعة على بئر ماء فهذه مسألة محتملة والله أعلم
الفن الثاني من هذا القطب في التقليد والاستفتاء وحكم العوام فيه وفيه أربع مسائل مسألة ( تعريف التقليد ) التقليد هو قبول قول بلا حجة وليس ذلك طريقا إلى العلم لا في الأصول ولا
____________________

(1/370)


في الفروع وذهب الحشوية والتعليمية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد وأن ذلك هو الواجب وأن النظر والبحث حرام ويدل على بطلان مذهبهم مسالك
الأول هو أن صدق المقلد لا يعلم ضرورة فلا بد من دليل ودليل الصدق المعجزة فيعلم صدق الرسول عليه السلام بمعجزته وصدق كلام الله بأخبار الرسول عن صدقه وصدق أهل الإجماع بأخبار الرسول عن عصمتهم ويجب على القاضي الحكم بقول العدول لا بمعنى اعتقاد صدقهم لكن من حيث دل السمع على تعبد القضاة باتباع غلبة الظن صدق الشاهد أم كذب ويجب على العامي اتباع المفتي إذ دل الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أم أصاب فنقول قول المفتي والشاهد لزم بحجة الإجماع فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليدا فإنا نعني بالتقليد قبول قول بلا حجة فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بدليل فالاتباع فيه اعتماد على الجهل
المسلك الثاني أن نقول أتحيلون الخطأ على مقلدكم أم تجوزونه فإن جوزتموه فإنكم شاكون في صحة مذهبكم وإن أحلتموه فبم عرفتم استحالته بضرورة أم بنظر أو تقليد ولا ضرورة ولا دليل فإن قلدتموه في قوله أن مذهبه حق فبم عرفتم صدقه في تصديق نفسه وإن قلدتم فيه غيره فبم عرفتم صدق المقلد الآخر وإن عولتم على سكون النفس إلى قوله فبم تفرقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود وبم تفرقون بين قول مقلدكم إني صادق محق وبين قول مخالفكم ويقال لهم أيضا في إيجاب التقليد هل تعلمون وجوب التقليد أم لا فإن لم تعلموه فلم قلدتم وإن علمتم فبضرورة أم بنظر أو تقليد ويعود عليهم السؤال في التقليد ولا سبيل لهم إلى النظر والدليل فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكم فإن قيل عرفنا صحته بأنه مذهب للأكثرين فهو أولى بالاتباع قلنا وبم أنكرتم على من يقول الحق دقيق غامض لا يدركه إلا الأقلون ويعجز عنه الأكثرون لأنه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر ونفاذ القريحة والخلو عن الشواغل ويدل على أنه عليه السلام محقا في ابتداء أمره وهو في شرذمة يسيرة على خلاف الأكثرين وقد قال تعالى { نحن } الأنعام 116 كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين فإن ساووهم توقفوا وإن غلبوا رجحوا كيف وهو على خلاف نص القرآن قال الله تعالى { وقليل من عبادي الشكور } سبأ 13 { ولكن } ولكن أكثرهم لا يعلمون { الطور } { وأكثرهم للحق كارهون } المؤمنون 70 فإن قيل فقد قال عليه السلام عليكم بالسواد الأعظم ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة والشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد قلنا أولا بم عرفتم صحة هذه الأخبار وليست متواترة فإن كان عن تقليد فبم تتميزون عن مقلد اعتقد فسادها ثم لو صح فمتبع السواد الأعظم ليس بمقلد بل علم بقول الرسول وجوب اتباعه وذلك قبول قول بحجة وليس بتقليد ثم المراد بهذه الأخبار ذكرناه في كتاب الإجماع وأنه الخروج عن موافقة الإمام أو موافقة الإجماع ولهم شبه الشبهة الأولى قولهم إن الناظر متورط في شبهات وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى قلنا وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار حيث قالوا 9 الزخرف 22 ثم نقول إذا وجبت المعرفة
____________________

(1/371)


كان التقليد جهلا وضلالا فكأنكم حملتم هذا خوفا من الوقوع في الشبهة كمن يقتل نفسه عطشا وجوعا خيفة من أن يغص بلقمة أو يشرق بشربة لو أكل وشرب وكالمريض يترك العلاج رأسا خوفا من أن يخطىء في العلاج وكمن يترك التجارة والحراثة خوفا من نزول صاعقة فيختار الفقر خوفا من الفقر
الشهبة الثانية تمسكهم بقوله تعالى { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } غافر 4 وأنه نهى عن الجدال في القدر والنظر يفتح باب الجدال قلنا نهى عن الجدال بالباطل كما قال تعالى { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } غافر 5 بدليل قوله تعالى { وجادلهم بالتي هي أحسن } النحل 125 فأما القدر فنهاهم عن الجدال فيه إما لأنه كان قد وقفهم على الحق بالنص فمنعهم عن الممارة في النص أو كان في بدء الإسلام فاحترز عن أن يسمعه المخالف فيقول هؤلاء بعد لم تستقر قدمهم في الدين أو لأنهم كانوا مدفوعين إلى الجهاد الذي هو أهم عندهم ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } الإسراء 36 { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } البقرة 169 { قل هاتوا برهانكم } البقرة 111 هذا كله نهي عن التقليد وأمر بالعلم ولذلك عظم شأن العلماء وقال تعالى { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } المجادلة 11 وقال عليه السلام يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين ولا يحصل هذا بالتقليد بل بالعلم وقالابن مسعود لا تكونن إمعة قيل وما إمعة قال أن يقول الرجل أنا مع الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ألا لا يوطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس
مسألة ( تقليد العامي للعلماء ) العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء وقال قوم من القدرية يلزمهم النظر في الدليل واتباع الإمام المعصوم وهذا باطل بمسلكين أحدهما إجماع الصحابة فإنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم فإن قال قائل من الإمامية كان الواجب عليهم اتباع على لعصمته وكان علي لا ينكر عليهم تقية وخوفا من الفتنة قلن هذا كلام جاهل سد على نفسه باب الاعتماد على قول علي وغيره من الأئمة في حال ولايته إلى آخر عمره لأنه لم يزل في اضطراب من أمره فلعل جميع ما قاله خالف فيه الحق خوفا وتقية
المسلك الثاني إن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال لأنه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل وتتعطل الحرف والصنائع ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بحملتهم بطلب العلم وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش ويؤدي إلى اندراس العلم بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء فإن قيل فقد أبطلتم التقليد وهذا عين التقليد قلنا التقليد قبول قول بلا حجة وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الإجماع كما وجب على الحاكم قبول قول الشهود
____________________

(1/372)


ووجب علينا قبول خبر الواحد وذلك عند ظن الصدق والظن معلوم ووجوب الحكم عند الظن معلوم بدليل سمعي قاطع فهذا الحكم قاطع والتقليد جهل فإن قيل فقد رفعتم التقليد من الدين وقد قال الشافعي رحمه الله ولا يحل تقليد أحد سوى النبي عليه السلام فقد أثبت تقليدا قلنا قد صرح بإبطال التقليد رأسا إلا ما استثنى فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء وقبول خبر الواحد وشهادة العدول تقليد نعم يجوز تسمية قبول قول الرسول تقليدا توسعا واستثناؤه من غير جنسه ووجه التجوز أن قبول قوله وإن كان لحجة دلت على صدقه جملة فلا تطلب منه حجة على غير تلك المسألة فكأنه تصديق بغير حجة خاصة ويجوز أن يسمى ذلك تقليدا مجازا
مسألة ( فتوى العامي للعلماء العدول ) لا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقا وأن سأل من لا يعرف جهله فقد قال قوم يجوز وليس عليه البحث وهذا فساد لأن كل من وجب عليه قبول قول غيره فيلزمه معرفة حاله فيجب على الأمة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزته فلا يؤمن بكل مجهول يدعي أنه رسول الله ووجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة وعلى المفتي معرفة حال الراوي وعلى الرعية معرفة حال الإمام والحاكم وعلى الجملة كيف يسأل من يتصور أن يكون أجهل من السائل فإن قيل إذا لم يعرف عدالة المفتي هل يلزمه البحث إن قلتم يلزمه البحث فقد خالفتم العادة لأن من دخل بلدة فيسأل عالم البلدة ولا يطلب حجة على عدالته وإن جوزتم مع الجهل فكذلك في العلم قلنا من عرفه بالفسق فلا يسأله ومن عرفه بالعدالة فيسأله ومن لم يعرف حاله فيحتمل أن يقال لا يهجم بل يسأل عن عدالته أولا فإنه لا يأمن كذبه وتلبيسه ويحتمل أن يقال ظاهر حال العالم العدالة لا سيما إذا اشتهر بالفتوى ولا يمكن أن يقال ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة الفتوى والجهل أغلب على الخلق فالناس كلهم عوام إلا الأفراد بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد فإن قيل فإن وجب السؤال لمعرفة عدالته أو علمه فيفتقر إلى التواتر أم لا يفتقر إليه قيل يحتمل أن يقال ذلك فإن ذلك ممكن ويحتمل أن يقال يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين وقد جوز قوم العمل بإجماع نقله العدل الواحد وهذا يقرب منه من وجه
مسألة ( تعدد العلماء بالنسبة لسؤال العامي ) إذا لم يكن في البلدة إلا مفت واحد وجب على العامي مراجعته وإن كانوا جماعة فله أن يسأل ممن شاء ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء وقال قوم تجب مراجعة الأفضل فإن استووا تخير بينهم وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة وقد عرف كلهم بذلك نعم إذا اختلف عليه مفتيان في حكم فإن تساويا راجعهما مرة أخرى وقال تناقض فتواكما وتساويتما عندي فما الذي يلزمني فإن خيراه تخير وإن اتفقا على الأمر بالاحتياط أو الميل إلى جانب معين فعل وإن أصرا على الخلاف لم يبق إلا التخيير فإنه لا سبيل إلى تعطيل الحكم وليس أحدهما بأولى من الآخر والأئمة كالنجوم فبأيهم اقتدى
____________________

(1/373)


اهتدى أما إذا كان أحدهما أفضل وأعلم في اعقتاده اختار القاضي أنه يتخير أيضا لأن المفضول أيضا من أهل الاجتهاد لو انفرد فكذلك إذا كان معه غيره فزيادة الفضل لا تؤثر والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الأفضل فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي فإنه يتبع ظنه في الترجيح فكذلك ههنا وإن صوبنا كل مجتهد ولكن الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع والغلط على الأعلم أبعد لا محالة وهذا التحقيق وهو أنا نعتقد أن لله تعالى سرا في رد العباد إلى ظنونهم حتى لا يكونوا مهملين متبعين للهوى مسترسلين استرسال البهائم من غير أن يزمهم لجام التكليف فيردهم من جانب إلى جانب فيتذكرون العبودية ونفاذ حكم الله تعالى فيهم في كل حركة وسكون يمنعهم من جانب إلى جانب فما دمنا نقدر على ضبطهم بضابط فذلك أولى من تخييرهم وإهمالهم كالبهائهم والصبيان أما إذا عجزنا عند تعارض مفتيين وتساويهما أو عند تعارض دليلين فذلك ضرورة والدليل عليه أنه إذا كان يمكن أن يقال كل مسألة ليس لله تعالى فيها حكم معين أو يصوب فيها كل مجتهد فلا يجب على المجتهد فيها النظر بل يتخير فيفعل ما شاء إذ ما من جانب إلا ويجوز أن يغلب على ظن مجتهد والإجماع منعقد على أنه يلزمه أولا تحصيل الظن ثم يتبع ما ظنه فكذلك ظن العامي ينبغي أن يؤثر فإن قيل المجتهد لا يجوز له أن يتبع ظنه قيل أن يتعلم طرق الاستدلال والعامي يحكم بالوهم ويغتر بالظواهر وربما يقدم المفضول على الفاضل فإن جاز أن يحكم بغير بصيرة فلينظر في نفس المسألة وليحكم بما يظنه فلمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها من شأن العوام وهذا سؤال واقع ولكنا نقول من مرض له طفل وهو ليس بطبيب فسقاه دواء برأيه كان متعديا مقصرا ضامنا ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا فإن كان في البلد طبيبان فاختلفا في الدواء فخالف الأفضل عد مقصرا ويعلم فضل الطبيبين بتواتر الأخبار وبإذعان المفضول له وبتقديمه بأمارات تفيد غلبة الظن فكذلك في حق العلماء يعلم الأفضل بالتسامع وبالقرائن دون البحث عن نفس العلم والعامي أهل له فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي فهذا هو الأصح عندنا والأليق بالمعنى الكلي في ضبط الخلق بلجام التقوى والتكليف والله أعلم
الفن الثالث من القطب الرابع في الترجيح وكيفية تصرف المجتهد عند تعارض الأدلة ويشتمل هذا الفن على مقدمات ثلاث وبابين أما المقدمة الأولى ففي بيان ترتيب الأدلة
فنقول يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة فينظر أول شيء في الإجماع فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة
____________________

(1/374)


فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لا يقبله فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة وهما على رتبة واحدة لأن كل واحد يفيد العلم القاطع ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعية إلا بأن يكون أحدهما ناسخا فما وجد فيه نص كتاب أو سنة متواترة أخذ به وينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره ثم ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد ومن الأقيسة فإن عارض قياس عموما أو خبر واحد عموما فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها فإن لم يجد لفظا نصا ولا ظاهرا نظر إلى قياس النصوص فإن تعارض قياسات أو خبران أو عمومان طلب الترجيح كما سنذكره فإن تساويا عنده توقف على رأي وتخير على رأي آخر كما سبق
المقدمة الثانية في حقيقة التعارض ومحله
اعلم أن الترجيح إنما يجري بين ظنين لأن الظنون تتفاوت في القوة ولا يتصور ذلك في معلومين إذ ليس بعض العلوم أقوى وأغلب من بعض وإن كان بعضها أجلى وأقرب حصولا وأشد أستغناء عن التأمل بل بعضها يستغني عن أصل التأمل وهو البديهي وبعضها غير بديهي يحتاج إلى تأمل لكنه بعد الحصول محقق يقيني لا يتفاوت في كونه محققا فلا ترجيح لعلم على علم ولذلك قلنا إذا تعارض نصان قاطعان فلا سبيل إلى الترجيح بل إن كانا متواترين حكم بأن المتأخر ناسخ ولا بد أن يكون أحدهما ناسخا وإن كانا من أخبار الآحاد وعرفنا التاريخ أيضا حكمنا بالمتأخر وإن لم نعرف فصدق الراوي مظنون فنقدم الأقوى في نفوسنا وكما لا يجوز التعارض والترجيح بين نصين قاطعين فكذلك في علتين قاطعتين فلا يجوز أن ينصب الله علة قاطعة للتحريم في موضع وعلة قاطعة للتحليل في موضع وتدور بينهما مسألة توجد فيها العلتان ونتعبد بالقياس لأنه يؤدي إلى أن يجتمع قاطع على التحريم وقاطع على التحليل في فرع واحد في حق مجتهد واحد وهو محال لا كالعلل المظنونة لأن الظنون تختلف بالإضافات فلا تجتمع في حق مجتهد واحد فإن تقاوم ظنان أوجبنا التوقف على رأي كما لو تعارض قاطعان ومن أمر بالتخيير أجاب بأنه لا يجوز أن يرد نصان قاطعان بالتحريم والتحليل من غير تقدم وتأخر ويكون معناه التخيير لأن اللفظ لا يحتمل التخيير فكذلك التعبد بالقياس مع التصريح بالتعليل تصريح بالنفي والإثبات لا يحتمل التخيير من حيث اللفظ فيكون متناقضا أما الدليل الذي دل على تعبد المجتهد باتباع الظن فيصلح لأن ينزل على اتباع أغلب الظنين وعند التعارض على التخيير بينهما فإنه أمر بإتباع المصلحة وبالتشبيه وبالاستصحاب فإذا تعارضا فكيفما فعل فهو مستصحب ومشبه ومتبع للمصلحة أما القواطع فمتضادة ومتناقضة لا بد من أن تكون ناسخا أو منسوخا فلا تقبل الجمع نعم لو أشكل التاريخ وعجزنا عن طلب دليل آخر فلا بد أن يتخير إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر مع تضادهما فإن قيل فهل يجوز أن يجتمع علم وظن قلنا لا فإن الظن لو خالف العلم فهو محال لأن ما علم كيف يظن خلافه وظن خلافه شك فكيف يشك فيما يعلم وإن وافقه فإن أثر الظن يمحي بالكلية بالعلم فلا يؤثر معه
المقدمة الثالثة في دليل وجوب الترجيح
فإن قال قائل لم رجحتم أحد الظنين وكل
____________________

(1/375)


ظن لو انفرد بنفسه لوجب اتباعه وهلا قضيتم بالتخيير أو التوقف قلنا كان يجوز أن يرد التعبد بالتسوية بين الظنين وإن تفاوتا لكن الإجماع قد دل على خلافه على ما علم من السلف في تقديم بعض الأخبار على بعض لقوة الظن بسبب علم الرواة وكثرتهم وعدالتهم وعلو منصبهم فلذلك قدموا خبر أزواجه عليه السلام على غيره من النساء وقدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر من روى لاماء إلا من الماء وخبر من روت من أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة عن الفضل بن عباس أن من أصبح جنبا فلا صوم له وكما قوي علي خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة لما روى معه محمد بن مسلمة وقوى عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان بموافقة أبي سعيد الخدري في الرواية إلى غير ذلك مما يكثر تتبعه وكذلك إذا غلب على الظن كون الفرع أشبه بأحد الأصلين وجب اتابعه بالإجماع فقد فهم من أهل الإجماع أنهم تعبدوا بما هو عادة للناس في ميراثهم وتجارتهم وسلوكهم الطرق المخوفة فإنهم عند تعارض الأسباب المخوفة يرجحون ويميلون إلى الأقوى
فإن قيل فلم لم ترجحوا في الشهادة بالكثرة وقوة غلبة الظن بل يقضي بالتعارض عند تناقض البينتين قلنا لأن أهل الإجماع لم يرجحوا في الشهادة وقد رجحوا في الرواية وسببه أن باب الشهادة مبني على التعبد حتى لو أتى عشرة بلفظ الأخبار دون الشهادة لم تقبل ولا تقبل شهادة مائة امرأة ولا مائة عبد على باقة بقل هذه هي المقدمات
الباب الأول فيما ترجح به الأخبار اعلم أن التعارض هو التناقض فإن كان في خبرين فأحدهما كذب والكذب محال على الله ورسوله وإن كان في حكمين من أمر ونهي وحظر وإباحة فالجمع تكليف محال فأما أن يكون أحدهما كذبا أو يكون متأخرا ناسخا أو أمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالتين كما إذا قال الصلاة واجبة على أمتي الصلاة غير واجبة على أمتي فنقول أراد بالأول المكلفين وأراد بالثاني الصبيان والمجانين أو في حالتي العجز والقدرة أو في زمن دون زمن
وإن عجزنا عن الجمع وعن معرفة المتقدم والمتأخر رجحنا وأخذنا بالأقوى وتقوى الخبر في نفوسنا بصدق الراوي وصحته وتضعيف الخبر في نفوسنا إما باضطراب في متنه أو بضعف في سنده أو بأمر خارج من السند والمتن أما ما يتعلق بالسند والمتن فسبعة عشر الأول سلامة متن أحد الخبرين عن الاختلاف والاضطراب دون الآخر فسلامته مرجحة فإن ما لا يضطرب فهو بقول الرسول أشبه فإن انضاف إلى اضطراب اللفظ اضطراب المعنى كان أبعد عن أن يكون قول الرسول فيدل على الضعف وتساهل الراوي في الرواية
فإن قيل فيجب أن تكون رواية الزيادة في متن الحديث اضطرابا يوجب إطراحه قلنا لا يجب لأنه في معنى خبرين منفصلين إلا أن يعرف محدث بكثرة الانفراد بالرواية عن الحفاظ فيجوز أن يقدم خبر غيره على خبره
الثاني اضطراب السند بأن يكون في أحدهما ذكر رجال تلتبس أسماؤهم ونعوتهم وصفاتهم بأسماء قوم ضعفاء وصفاتهم بحيث يعسر التمييز
الثالث أن يروي أحدهما في تضاعيف قصة مشهورة متداولة بين أهل النقل ومعارضة قد
____________________

(1/376)


انفرد به الراوي لا في جملة القصة فما روي في الجماعة أقوى في النفوس وأقرب إلى السلامة من الغلط مما يرويه الواحد عاريا عن قصته المشهورة
الرابع أن يكون راويه معروفا بزيادة التيقظ وقلة الغلط فالثقة بروايته عند الناس أشد
الخامس أن يقول أحدهما سمعنا النبي عليه السلام والآخر أن يقول كتب إلي بكذا فإن التحريف والتصحيف في المكتوب أكثر منه في المسموع
السادس أن يتطرق الخلاف إلى أحد الخبرين أنه موقوف على الراوي أو مرفوع فالمتفق على كونه مرفوعا أولى
السابع أن يكون منسوبا إليه نصا وقولا والآخر ينسب إليه اجتهادا بأن يروي أنه كان في زمانه أو في مجلسه ولم ينكره فما نسب إليه قولا ونصا أقوى لأن النص غير محتمل وما في زمانه ربما لم يبلغه وما في مجلسه ربما غفل عنه
الثامن أن يروي أحد الخبرين عمن تعارضت الرواية عنه فنقل عنه أيضا ضده فيقدم عليه ما لم يتعارض لأن المتعارض متساقط فيبقى الآخر سليما عن المعارضة
التاسع أن يكون الراوي صاحب الواقعة فهو أولى بالمعرفة من الأجنبي فرواية ميمونة تزوجني النبي عليه السلام ونحن حلالان بعدما رجع مقدمة على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام
العاشر أن يكون أحد الراويين أعدل وأوثق وأضبط وأشد تيقظا وأكثر تحريا
الحادي عشر أن يكون أحدهما على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى لأن ما رآهمالك رحمه الله حجة وإجماعا إن لم يصلح حجة فيصلح للترجيح لأن المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي الناسخ فيبعد أن ينطوي عليهم
الثاني عشر أن يوافق أحد الخبرين مرسل غيره فيرجح به من يرجح بكثرة الرواة لأن المرسل حجة عند قوم فإن لم يكن حجة فلا أقل من أن يكون مرجحا
الثالث عشر أن تعمل الأمة بموجب أحد الخبرين فإنه إذا احتمل أن يكون عملهم بدليل آخر فيحتمل أن يكون هذا الخبر فيكون صدقه أقوى في النفس
الرابع عشر أن يشهد القرآن أو الإجماع أو النص المتواتر أو دليل العقل لوجوب العمل على وفق الخبر فيرجح به
فإن قيل ذلك قاطع في تصديقه قلنا لا بل يتصور أن يكذب على النبي عليه السلام فيما يوافق القرآن والاجماع فيقول سمعت ما لم يسمعه وإنما يجب صدقه إذا اجتمعت الأمة على صدقه لا إذا اجتمعت على عمل يوافق خبره ولعله عن دليل آخر
الخامس عشر أن يكون أحدهما أخص والآخر أعم فيقدم ما هو أخص بالمقصود كتقديم قوله في الرقة ربع العشر في إيجابه على الطفل والبالغ على قوله رفع القلم عن ثلاثة لأن هذا تعرض لنفي الخطاب العام وليس بتعرض للزكاة ولا لسقوط الزكاة عن الولي بإخراج زكاته والحديث الأول متعرض لخصوص الزكاة ومتناول لعمومه مال الصبي فهو أخص وأمس بالمقصود
السادس عشر أن يكون أحدهما مستقلا بالإفادة ومعارضه لا يفيد إلا بتقدير إضمار أو حذف وذلك مما يتطرق إليه زيادة التباس لا يتطرق إلى المستقبل
السابع عشر أن يكون رواة أحد الخبرين أكثر فالكثرة تقوي الظن ولكن رب عدل أقوى في النفس من عدلين لشدة تيقظه وضبطه والاعتماد في ذلك على ما غلب على ظن المجتهد
هذا ما يوجب الترجيح لأمر في سند الخبر أو في متنه وقد يرجح لأمور خارجة عنها وهي خمسة الأول كيفية استعمال الخير في محل الخبر كقوله لا نكاح إلا بولي مع قوله الأيم
____________________

(1/377)


أحق بنفسها من وليها لأنا نحمل ذلك على أنها أحق بنفسها في الأذن لا في العقد واللفظ يعم الأذن والعقد وهم يحملون خبرنا على الصغير أو الأمة أو النكاح من غير كفء ولاخلاف واقع في الكبيرة وهم صرفوا خبرنا عن محل الخلاف ونحن استعملنا الخبرين في الكبيرة فتأويلنا أقرب فإنه لا ينبو عنه اللفظ بل كان اللفظ محتملا لهما أما تنزيل خبرنا على الصغيرة والأمة فبعيد
الثاني أن يكون أحد الخبرين يوجب غضا من منصب الصحابة فيكون أضعف كما رووا من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بإعادة الوضوء عند القهقهة فخبرنا وهو قوله كان يأمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة لا من بول أو غائط أو نوم وليس فيه القهقهة فهو أولى من خبرهم
الثالث أن يكون أحد الخبرين متنازعا في خصوصه والآخر متفق على تطرق الخصوص إليه فقد قال قوم أنه يسقط الاحتجاج به فإن لم يصح ذلك فيدل على ضعفه لا محالة
الرابع أن يكون أحد الخبرين قد قصد به بيان الحكم المتنازع فيه دون الآخر كقوله أيما إهاب دبغ فقد طهر لم يفرق فيه بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل فدلالة عمومه على جلد ما لا يؤكل أقوى من دلالة نهيه عن افتراش جلود السباع لأنه ما سيق لبيان النجاسة والطهارة بل ربما نهى عن الافتراش للخيلاء أو لخاصية لا نعقلها
الخامس يتضمن أحد الخبرين إثبات ما ظهر تأثيره في الحكم دون الآخر حتى تقدم رواية عائشة وابن عمر وابن عباس أن بريرة أعتقت تحت عبد على ما روي أنها أعتقت تحت حر لأن ضرر الرق في الخيار قد ظهر أثره ولا يجري ذلك في الحر
القول فيما يظن أنه ترجيح وليس بترجيح وله أمثلة ستة الأول أن يعمل أحد الراويين بالخبر دون الآخر أو يعمل بعض الأمة أو بعض الأئمة بموجب أحد الخبرين فلا يرجح به إذ لا يجب تقليدهم فالمعمول به وغير المعمول به واحد
الثاني أن يكون أحدهما غريبا لا يشبه الأصول كحديث القهقهة وغرة الجنين وضرب الدية على العاقلة وخبر نبيذ التمر ودفع القيمة في إحدى عيني الفرس فهذه الأحاديث لو صحت لا تؤخر عن معارضها الموافق للأصول لأن للشارع أن يتعبد بالغريب والمألوف نعم لو ثبت التقاوم بين الخبرين تساقطا ورجعنا إلى القياس وذلك ليس من الترجيح في شيء
الثالث الخبر الذي يدرأ الحد لا يقدم على الموجب وإن كان الحد يسقط بالشبهة وقال قوم الرافع أولى وهو ضيعف لأن هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الإيجاب أو الإسقاط
الرابع إذا روي خبران من فعل النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما مثبت والآخر ناف فلا يرجع أحدهما على الآخر لاحتمال وقوعهما في حالين فلا يكون بينهما تعارض
وقد بينا في باب أفعال النبي عليه السلام محل امتناع التعارض بين الفعلين
الخامس خبر يتضمن العتق والآخر يتضمن نفيه قال قوم من أهل العراق المثبت للعتق أولى لغلبة العتق ولأنه لا يقبل الفسخ وهذا ضعيف لأن هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي وثبوت نقله
السادس الخبر الحاظر لا يرجح على
____________________

(1/378)


المبيح على ما ظنه قوم لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة
الباب الثاني في ترجيح العلل ومجامع ما يرجع إليه ترجيح العلل خمسة الأول ما يرجع إلى قوة الأصل الذي منه الانتزاع فإن قوة الأصل تؤكد العلة
الثاني ما يرجع إلى تقوية نفس العلة في ذاتها
الثالث ما يرجع إلى قوة طريق إثبات العلة من نص أو إجماع أو أمارة
الرابع ما يقوي حكم العلة الثابت بها
الخامس أن تتقوى بشهادة الأصول وموافقتها لها
القسم الأول ما يرجع إلى قوة الأصل وهي عشرة الأول أن تكونا إحدى العلتين منتزعة من أصل معلوم استقراره في الشرع ضرورة والأخرى من أصل معلوم لكن بنظر ودليل فإنهما وإنا كانا معلومين فجاحد الضروري يكفر وجاحد النظري لا يكفر فذلك أقوى
فإن قيل أليس قد قدمتم أنه لا يقدم معلوم على معلوم قلنا العلتان مظنونتان وإنما المعلوم أصلاهما والترجيح للعلة المظنونة
الثاني أن يكون أحد الأصلين محتملا للنسخ أو ذهب بعض العلماء إلى نسخه فما سلم عن الاختلاف والاحتمال أولى وأقوى
الثالث أن يثبت أصل إحدى العلتين بخبر الواحد والآخر بخبر متواتر وأمر مقطوع به فإن العمل بخبر الواحد وإن كان واجبا قطعا فهو حق بالإضافة إلى من ظن صدق الراوي والآخر حق في نفسه مطلقا لا بالإضافة
الرابع أن يكون أحد الأصلين ثابتا بروايات كثيرة والآخر برواية واحدة فإنه يرجح الأول عند من يرجح بكثرة الرواة ولا يرجح عند من لا يرى ذلك
الخامس أن يكون أحد الأصلين ثابتا بعموم لم يدخله التخصيص فيقدم على ما ثبت بعموم دخله التخصيص لضعفه
السادس أن يكون أحد الأصلين ثابتا بصريح النص والآخر ثبت بتقدير إضمار أو حذف دقيق فالنص الصريح أولى
السابع أن يكون أحد الأصلين أصلا بنفسه والآخر فرعا لأصل آخر فالفرع ضعيف عند من جوز القياس عليه والأظهر منع القياس عليه وكذلك أصل ثبت بخبر الواحد أقوى من أصل ثبت بالقياس على خبر الواحد
الثامن أن يكون أحد الأصلين مما اتفق القائسون على تعليله والآخر اختلفوا فيه فالمتفق على تعليله من القائسين وإن لم يكونوا كل الأمة أقرب إلى كونه معلوما من المختلف فيه
التاسع أن يكون دليل أحد الأصلين مكشوفا معينا والآخر أجمعوا على أنه ثابت بدليل فإن لم يكن معينا فيقدم المكشوف لأنه يمكن معرفة رتبته وتقديمه على غيره والمجهول لا يدري ما رتبته وما وجه معارضته لغيره ومساواته له
العاشر أن يكون أحد الأصلين مغيرا للنفي الأصلي والآخر مقررا فالمغير أولى لأنه حكم شرعي وأصل سمعي والآخر نفي للحكم على الحقيقة
القسم الثاني ما لا يرجع إلى الأصل ونرجع إلى بقية الأقسام الأربعة نوردها من غير تفصيل لتعلق بعضها بالعض ويرجع ذلك إلى قريب من عشرين وجها الأول أن تثبت إحدى العلتين بنص قاطع وهذا قد أورد في الترجيح وهو ضعيف لأن الظن ينمحي في مقابلة القاطع فلا يبقى معه حتى يحتاج إلى ترجيح إذ لو بقي معه لتطرق شكنا إليه ويخرج عن
____________________

(1/379)


كونه معلوما وقد بينا أنه لا ترجيح لمعلوم على معلوم ولا لمظنون على مظنون
الثاني أن تعتضد إحدى العلتين بموافقة قول صحابي انتشر وسكت عنه الآخرون وهذا يصح على مذهب من لا يرى ذلك إجماعا أما من اعتقده إجماعا صار عنده قاطعا ويسقط الظن في مقابلته
الثالث أن تعتضد بقول صحابي وحده ولم ينتشر فقد قال قوم قوله حجة فإن لم يكن حجة فلا يبعد أن يقوى القياس به في ظن مجتهد إذ يقول إن كان ما قاله عن توقيف فهو أولى وإن كان قال ما قاله عن ظن وقياس فهو أولى بفهم مقاصد الشرع منا ويجوز أن لا يترجح عند مجتهد
الرابع أن يترجح بموافقته بخبر مرسل أو بخبر مردود عنده لكن قال به بعض العلماء فهذا مرجح بشرط أن لا يكون قاطعا ببطلان مذهب القائلين به بل يرى ذلك في محل الاجتهاد
الخامس أن تشهد الأصول بمثل حكم إحدى العلتين أعني لجنسها لا لعينها فإنه إن شهدت لعينها كان قاطعا رافعا للظنون إلى النيات وشهادة الكفارات لاستواء البدل والمبدل في النية فهذا أيضا يصلح للترجيح عند من غلب على ظنه ذلك
السادس أن يكون نفس وجود العلة ضروريا في أحدهما نظريا في الآخر فإن كانا معلومين أو كان أحدهما متيقنا والآخر مظنونا فإن من أوصاف العلة ما يتيقن ككون البر قوتا وكون الخمر مسكرا ومنه ما يظن ككون الكلب نجسا إذا عللنا منع بيعه بنجاسته وككون التراب مبطلا رائحة النجاسة إذا ألقي في الماء الكثير المتغير لا ساترا وكذلك علة مركبة من وصفين أحدهما ضروري والآخر نظري أو أحدهما معلوم والآخر مظنون إذا عارضها ما هو ضروري الوصفين أو معلوم الوصفين لأن ما علم مجموع وصفيه أولى مما تطرق الشك أو الظن إلى أحد وصفيه لأن الحكم لا محالة يتبع وجود نفس العلة فما قوى العلم أو الظن بوجود العلة قوى الظن بحكم العلة
السابع الترجيح بما يعود إلى التعلق بالعلم بالعلة فإذا كان إحدى العلتين حكما ككنونه حراما أو نجسا والأخرى حسيا ككونه قوتا ومسكرا زعموا أن رد الحكم إلى الحكم أولى حتى أن تعليل الحكم بالحرية والرق أولى من تعليله بالتمييز والعقل وتعليله بالتكليف أولى من تعليله بالإنسانية وهذا من الترجيحات الضعيفة
الثامن أن تكون إحدى العلتين سببا أو سببا للسبب كما لو جعل الزنا والسرقة علة للحد والقطع كان أولى من جعل أخذ مال الغير على سبيل الخفية علة ومن جعل إيلاج الفرج في الفرج علة حتى يتعدى إلى النباش واللائط لأن تلك العلة استندت إلى الاسم الذي ظهر الحكم به هذا إذا تساوت العلتان من كل وجه أما إذا دل الدليل على أن الحكم غير منوط بالسبب الظاهر بل بمعنى تضمنه فالدليل متبع فيه كما أن القاضي لا يقضي في حالة الغضب لا للغضب ولكن لكونه ممنوعا من استيفاء الفكر فيجري في الحاقن والجائع وهو أولى من التعليل بالغضب الذي ينسب الحكم إليه
التاسع الترجيح بشدة التأثير ولا نعني بشدة التأثير قيام الدليل على كونه علة لأن الدليل يقوم على المعنى الكائن في نفسه دون الدليل فليكن لكون العلة مؤثرة معنى ثم إذا تحقق ذلك في نفسه وفي علم الله تعالى ربما
____________________

(1/380)


نصب الله عليه دليلا معرفا أو أمارة معلنة وربما لم ينصب دليلا فإذا قوة الدليل المعرف بكونها علة ليس من شدة التأثير في شيء بل فسروا شدة التأثير بوجوه أولها انعكاس العلة مع اطرادها فهي أولى من التي لا تنعكس عند قوم إذ دوران الحكم مع عدمها ووجودها نفيا وإثباتا يدل على شدة تأثيرها كشدة الخمر إذ يزول الحكم بزوالها
الثاني أن تكون العلة مع كونها علة داعية إلى فعل ما هي علة تحريمه كالشدة فإنها محرمة وهي داعية إلى الشرب المحرم لما فيها من الأطراب والسرور فهي مع تأثيرها في الحكم أثرت في تحصيل محل الحكم وهو الشرب
الثالث أن تكون علة ذات وصف واحد وعارضها علة ذات أوصاف فقال قوم الوصف الواحد أولى لأن الحكم الثابت به المخالف للنفي الأصلي أكثر فكان تأثيره أكثر فروعا فهي أكثر تأثيرا وقال قوم ذات أوصاف أولى لأن الشريعة حنيفية فالباقي على النفي الأصلي أكثر ولا يبعد أن يغلب على ظن المجتهد شيء من ذلك
الرابع أن تكون إحداهما أكثر وقوعا فهي أكثر تأيرا فتكون أولى وهذا بعيد لأن تأثيرا العلة إنما يكون في محل وجودها أما حيث وجود لها كيف يطلب تأثيرها
الخامس علة يشهد لها أصلان أولى مما يشهد لها أصل واحد عند قوم وهذا يظهر إن كان طريق الاستنباط مختلفا وإن كان متساويا فهو ضعيف ولا يبعد أن يقوي ظن مجتهد به وتكون كثرة الأصول ككثرة الرواة للخبر مثاله أنا إذا تنازعنا في أن يد السوم لم توجب الضمان فقال الشافعي رحمه الله علته أنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق وعداه إلى المستعير وقال الخصم بل علته أنه أخذ ليتملك فيشهد للشافعي في علته رحمه الله يد الغاصب ويد المستعير من الغاصب ولا يشهد لأبي حنيفة رحمه الله إلا يد الرهن فلا يبعد أن يغلب رجحان علة الشافعي عند مجتهد ويكون كل أصل كأنه شاهد آخر وكذلك الربا إذا علل بالطعم بشهد له الملح أيضا وإن علل بالقوت لم يشهد له فلا يبعد أن يكون ذلك من الترجيحات
العاشر من الترجيحات العلة المثبتة للعموم الذي منه الاستنباط فهي أولى من المخصصة قال الله تعالى { أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا } النساء 43 فبرزت علة تقتضي إخراج المحرم والصغيرة من العموم وبرزت علة أخرى توافق العموم فالذي ينفي العموم لمجرده حجة فلا أقل من الترجيح به
وقال قوم المخصصة أولى لأنها عرفت ما لم يعرف العموم فأفادت والعلة المقررة للعموم لم تفد مزيدا فكانت أولى كالمتعدية فإنها أولى من القاصرة عند قوم وهذا ضعيف لأن المتعدية قررت الملفوظ وألحقت به المسكوت وأفادت والقاصرة لم تفد شيئا حتى قال قائلون هي فاسدة فتخيل قوم لذلك ترجيح المتعدية وليس ذلك بصحيح أيضا
وأما المخصصة فخالفت موجب العموم فكانت أضعف من التي لم تخالف
الحادي عشر ترجيح العلة بكثرة شبهها بأصلها على التي هي أقل شبها بأصلها وهذا ضعيف عند من لا يرى مجرد الشبه في الوصف الذي لا يتعلق الحكم به موجبا للحكم ومن رأى ذلك موجبا فغاينه أن تكون كعلة أخرى ولا يجب ترجيح علتين على علة واحدة لأن الشيء يترجح بقوته لا بانضمام مثله إليه كما لا يترجح الحكم الثابت بالكتاب والسنة والاجماع على الثابت بأحد هذه الأصول ويقرب من هذا قولهم رد الشيء إلى
____________________

(1/381)


جنسه أولى من رده إلى غير جنسه حتى يكون قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياسها على الصوم والحج لأنه أقرب شبها به
وهذا ليس ببعيد لأن اختلاف الأصول يناسب اختلاف الأحكام فإذا كان جنس المظنون واحدا كان التفاوت أغلب على الظن وعن هذا جعل مجرد الشبه حجة عند قوم
الثاني عشر علة أوجبت حكما وزيادة مرجحة على ما لا يوجب الزيادة عند قوم لأن العلة تراد لحكمها فما كانت فائدتها أكثر فهي أولى حتى قالوا ما أوجب الجلد والتغريب أولى مما لا يوجب إلا الجلد وعلى مسافة قالوا علة تقتضي الوجوب أولى مما تقتضي الندب
وما تقتضي الندب أولى مما تقتضي الإباحة لأن في الواجب معنى الندب وزيادة
الثالث عشر ترجيح المتعدية على القاصرة وهو ضعيف عند من لا يفسد القاصرة لأن كثرة الفروع بل وجود أصل الفروع لا تبين قوة في ذات العلة بل ينقدح أن يقال القاصرة أوفق للنص فهي أولى
الرابع عشر ترجيح الناقلة عن حكم العقل على المقررة لأ الناقلة أثبتت حكما شرعيا والمقررة ما أثبتت شيئا وقال قوم بل المقررة أولى لأنها معتضدة بحكم العقل الذي يستقل بالنفي لولا هذه العلة ومثاله علة تقتضي الزكاة في الخضراوات وأخرى تنفي الزكاة وعلة توجب الربا في الأرز وأخرى تنفي فإن قيل فلم صحت العلة المبقية على حكم الأصل ولم تفد شيئا لأنها لو لم تكن علة لكنا نبقي الحكم أيضا قلنا إن كان الأمر كذلك فلا يصح كمن علل ليدل على أن هبوب الرياح لا يوجب الصوم والوضوء بل ينبغي أن يقتضي تفصيلا لا يقتضيه العقل أو تقتضي زيادة شرط أو إطلاقا لا يقتضيه العقل
كما لو نصب علة لجواز بيع غير القوت فإن تخصيص غير القوت عن القوت مما لا يقتضيه العقل
الخامس عشر تقديم العلة المثبتة على النافية قال به قوم وهو غير صحيح لأن النفي الذي لا يثبت إلا شرعا كالإثبات وإن كان نفيا أصليا يرجع إلى ما قدمناه من الناقلة والمقررة وقد قال الكرخي العلة الدارئة للحد أولى من الموجبة وهذا يصح بعد ثبوت قوله عليه السلام ادرؤوا الحدود بالشبهات ولا يجري في العبادات والكفارات وما لا يسقط بالشبهات بل إذا كان للوجوب وجه وللسقوط وجه وتعارض الوجهان كان المحل محل شبهة فيسقط لعموم الخبر لا لترجيح الدارئة على الموجبة
السادس عشر ترجيح علة هي بطريق الأولى على ما هي مثل كتعليل قبول شهادة التائب وقياسه على ما قبل إقامة حد القذف وتعليل وجوب كفارة العمد وقياسه على الخطأ وتعليل صحة النكاح عند فساد التسمية قياسا على ترك التسمية وإن كان ذلك بطريق الأولى فهو أقوى
السابع عشر رجح قوم العلة الملازمة على التي تفارق في بعض الأحوال وهو ضعيف إذ رب لازم لا يكون علة كحمرة الخمر بل كوجود الخمر والبر
الثامن عشر رجح قوم علة انتزعت من أصل سلم من المعارضة على علة انتزعت من أصل لم يسلم من المعارضة بمثلها
التاسع عشر رجح قوم علة توجب حكما أخف لأن الشريعة حنيفية سمحة ورجح آخرون بالضد لأن التكليف شاق ثقيل فهذه ترجيحات ضعيفة
العشرون ترجيح علة توجب في الفرع مثل حكمها على علة توجب في الفرع خلاف حكمها كتعليل الشافعي رحمه الله في مسألة جنين الأمة يوجب حكما مساويا للأصل في التسوية بين الذكر والأنثى وتعليل أبي
____________________

(1/382)


حنيفة رضي الله عنه يوجب الفرق بين الذكر والأنثى في الفرع إذ أوجب في الأنثى من الأمة عشر قيمتها وفي الذكر نصف
عشر قيمته والأصل هو جنين الحرة وفي الذكر والأنثى منه خمس من الإبل والعلة التي تقطع النظر عن الأنوثة والذكورة أولى لأنها أوفق للأصل فهذه وجوه الترجيحات وبعضها ضعيف يفيد الظن لبعض المجتهدين دون بعض ويمكن أن يكون وراء هذه الجملة ترجيحات من جنسها وفيما ذكرناه تنبيه عليها إن شاء الله تعالى
هذا تمام القول في القطب الرابع وبه وقع الفراغ من الأقطاب الأربعة التي عليها مدار أصول الفقه وبالله التوفيق 

==========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الي بلوجر

الي بلوجر في أي شريعة تهدر حقي كمدون بحذفك من مدونات {12} صفحة وبأي حق تسلك هذا المسلك في كل مدوناتي   كف عن ذلك وخاف من الله العلي القد...