الي بلوجر

الي بلوجر في أي شريعة تهدر حقي كمدون بحذفك من مدونات {12} صفحة وبأي حق تسلك هذا المسلك في كل مدوناتي  كف عن ذلك وخاف من الله العلي القدير  وكفي اهدار لجهودي بغير وجه حق// To blogger, in what law do you waste my right as a blogger by deleting you from the blogs of {12} pages, and by what right do you take this path in all my blogs?

الاثنين، 28 مارس 2022

ج6.كتاب : السيرة النبوية لابن كثير

 

ج6.كتاب : السيرة النبوية لابن كثير

بعرفة فقال: وقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف.
ووقف بالمزدلفة وقال: وقفت هاهنا، والمزدلفة كلها موقف.
هكذا أورد الامام أحمد هذا الحديث، وقد اختصر آخره جدا.
ورواه الامام مسلم بن الحجاج في المناسك من صحيحه، عن أبى بكر بن أبى شيبة وإسحاق بن ابراهيم، كلاهما عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد بن على بن الحسين ابن على بن أبى طالب، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله فذكره.
وقد أعلمنا في الزيادات المتفاوتة من سياق أحمد ومسلم، إلى قوله عليه السلام لعلى: صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج ; قال: قلت: اللهم إنى أهل بما أهل به رسولك صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن معى الهدى.
قال: فلا تحل.
قال: فكان جماعة الهدى الذى قدم به على من اليمن والذى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة.
قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى.
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت
الشمس وأمر بقبة له من شعر فضربت له بنمرة (1).
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه (2) واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها.
__________
(1) نمرة: موضع بجنب عرفات، وليس منها.
(2) إلا أنه: في أنه.
فإلا زائدة، وإن في موضع نصب على إسقاط الجار.
والمشعر الحرام: جبل في المزدلفة يقال له قزح.
(*)

حتى إذا زاغت (1) الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: " إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.
ألا كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمى موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث (2) كان مسترضعا في بنى سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه من ربانا ربا العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله.
واتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله.
وأنتم تسألون عنى، فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت.
فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها (3) على الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات.
ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء
إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة (4) بين يديه واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق (5) للقصواء الزمام حتى إن رأسها لتصيب مورك (6)
__________
(1) زاغت: مالت.
(2) قيل اسمه آدم، وقيل تمام.
الروض الانف 2.
(3) ينكتها: يقلبها ويرددها مشيرا إلى الناس وفى مسلم: إلى الناس..(4) جبل المشاة: يروى بالحاء وبالجيم.
ومعناه بالجيم الطريق.
وبالحاء مجتمع المشاة.
(5) شنق: ضيق.
(6) المورك: الموضع الذى يجعل عليه الراكب رجله.
(*)

رحله ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة.
كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد.
حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا.
فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العباس، وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل، فحول الفضل يده إلى الشق الآخر، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر.
حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التى تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التى عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها [ مثل ] حصى الخذف (1)، رمى من بطن الوادي.
ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها.
ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بنى عبدالمطلب وهم يسقون على زمزم، فقال: انزعوا بنى عبدالمطلب، فلولا أن
__________
(1) الخذف: حصى صغار يرمى باصبعين.
وهو مصدر سمى به.
(*)

يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم.
فناولوه دلوا فشرب منه.
ثم رواه مسلم عن عمر بن حفص، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر فذكره بنحوه.
وذكر قصة أبى سيارة (1)، وأنه كان يدفع بأهل الجاهلية على حمار عرى (2) وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم.
ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع (3) كلها موقف.
وقد رواه أبو داود بطوله عن النفيلى وعثمان بن أبى شيبة، وهشام بن عمار وسليمان ابن عبدالرحمن.
وربما زاد بعضهم على بعض الكلمة والشئ، أربعتهم عن حاتم بن إسماعيل، عن جعفر، بنحو من رواية مسلم.
وقد رمزنا لبعض زياداته عليه.
ورواه أبو داود أيضا والنسائي، عن يعقوب بن إبراهيم، عن يحيى بن سعيد القطان، عن جعفر به.
ورواه النسائي أيضا عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن سعيد ببعضه، عن إبراهيم بن هارون البلخى، عن حاتم بن إسماعيل ببعضه.
__________
(1) الاصل أبى سنان، وهو تحريف (2) العرى: مالا سرج عليه.
(3) جمع: المزدلفة.
(*)

ذكر الاماكن التى صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب
من المدينة إلى مكة في عمرته وحجته قال البخاري: باب المساجد التى على طريق المدينة، والمواضع التى صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن أبى بكر المقدمى، قال: حدثنا فضيل بن سليمان، قال: حدثنا موسى بن عقبة، قال: رأيت سالم بن عبدالله يتحرى أماكن من الطريق فيصلى فيها ويحدث أن أباه كان يصلى فيها، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلى في تلك الامكنة.
وحدثني نافع، عن ابن عمر رضى الله عنهما، أنه كان يصلى في تلك الامكنة، وسألت سالما فلا أعلمه إلا وافق نافعا في الامكنة كلها، إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء.
قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أنس بن عياض، قال: حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن عبدالله بن عمر أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذى الحليفة حين يعتمر وفى حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذى بذى الحليفة، وكان إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق أو في حج أو عمرة هبط من بطن واد، فإذا ظهر من بطن واد أناخ بالبطحاء التى على شفير الوادي الشرقية فعرس (1) ثم حتى يصبح ليس عند المسجد الذى بحجارة ولا على الاكمة التى عليها المسحد، كان ثم خليج (2) يصلى عبدالله عنده في بطنه كثب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلى، فدحا (3) السيل فيه بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذى كان عبدالله يصلى فيه.
__________
(1) عرس: نزل ليستريح.
(2) الخليج: واد له عمق (3) دحا: دفع.
(*)

وأن عبدالله بن عمر حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حيث المسجد الصغير الذى دون المسجد الذى بشرف الروحاء، وقد كان عبدالله يعلم المكان الذى كان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ثم عن يمينك حنى تقوم في المسجد تصلى، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الاكبر رمية
بحجر أو نحو ذلك.
وأن ابن عمر كان يصلى إلى العرق الذى عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق دون المسجد الذى بينه وبين المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة، وقد ابتنى ثم مسجد، فلم يكن عبدالله يصلى في ذلك المسجد، كان يتركه عن يساره ووراءه ويصلى أمامه إلى العرق نفسه، وكان عبدالله يروح من الروحاء فلا يصلى الظهر حتى يأتي ذلك المكان فيصلى فيه الظهر، وإذا أقبل من مكة فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتى يصلى بها الصبح.
وأن عبدالله حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحت سرحة (1) ضخمة دون الرويثة (2) عن يمين الطريق ووجاه الطريق في مكان بطح (3) سهل، حتى يفضى من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين، وقد انكسر أعلاها فانثنى في جوفها، وهى قائمة على ساق وفى ساقها كثب كثيرة.
وأن عبدالله بن عمر حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في طرف تلعة (4) من وراء العرج وأنت ذاهب إلى هضبة، عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة عن يمين الطريق عند سلمات (5) الطريق بين أولئك السلمات كان
__________
(1) السرحة: الشجرة لا شوك فيها (2) الرويثة: منهل من المناهل بين مكة والمدينة: المراصد.
(3) الصلح: المسيل الواسع (4) التلعة: ما ارتفع من الارض، وما انخفض.
(5) السلمات: أشجار لسلم.
(*)

عبدالله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلى الظهر في ذلك المسجد.
وأن عبدالله بن عمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عند سرحات عن يسار الطريق في مسيل دون هرشى (1) ; ذلك المسيل لاصق بكراع هرشى، بينه وبين
الطريق قريب من غلوة (2) وكان عبدالله يصلى إلى سرحة هي أقرب السرحات إلى الطريق، وهى أطولهن.
وأن عبدالله بن عمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل في المسيل الذى في أدنى مر الظهران قبل المدينة حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الطريق إلا رمية بحجر.
وأن عبدالله بن عمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذى طوى ويبيت حتى يصبح يصلى الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك على أكمة غليظة، وليس في المسجد الذى بنى ثم، ولكن أسفل من ذلك على أكمة غليظة.
وأن عبدالله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل فرضتي الجبل الذى بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذى بنى ثم يسار المسجد بطرف الاكمة، مصلى النبي صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الاكمة السوداء، تدع من الاكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم تصلى مستقبل الفرضتين من الجبل الذى بينك وبين الكعبة.
* * *
__________
(1) هرشى: ثنية في طريق مكة قريبة من الجحفة (2) الغلوة: قدر مرماة السهم.
(*)

تفرد البخاري رحمه الله بهذا الحديث بطوله وسياقه، إلا أن مسلما روى منه عند قوله في آخره: " وأن عبدالله بن عمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذى طوى " إلى آخر الحديث، عن محمد بن إسحاق المسيبى، عن أنس عن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر فذكره.
وقد رواه الامام أحمد بطوله عن
أبى قرة موسى بن طارق، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر به نحوه.
وهذه الاماكن لا يعرف اليوم كثير منها أو أكثرها، لانه قد غير أسماء أكثر هذه البقاع اليوم عند هؤلاء الاعراب الذين هناك، فإن الجهل قد غلب على أكثرهم.
وإنما أوردها البخاري رحمه الله في كتابه لعله أحدا يهتدى إليها بالتأمل والتفرس والتوسم، أو لعل أكثرها أو كثيرا منها كان معلوما في زمان البخاري.
والله تعالى أعلم.

باب دخول النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة شرفها الله عزوجل قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن عبدالله، حدثنى نافع، عن ابن عمر، قال: بات النبي صلى الله عليه وسلم بذى طوى حتى أصبح، ثم دخل مكة.
وكان ابن عمر يفعله.
ورواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به، وزاد: " حتى صلى الصبح، أو قال: حتى أصبح ".
وقال مسلم: حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، كان لا يقدم مكة إلا بات بذى طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارا، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله.
ورواه البخاري من حديث حماد بن زيد، عن أيوب به.
ولهما من طريق أخرى، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذى طوى.
وذكره.
وتقدم آنفا ما أخرجاه من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يبيت بذى طوى حتى يصبح، فيصلى الصبح حين يقدم مكة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أكمة غليظة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل فرضتي الجبل الذى بينه وبين الجبل الطويل نحو الكعبة، فجعل المسجد الذى بنى ثم يسار المسجد بطرف الاكمة، ومصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسفل منه على الاكمة السوداء، يدع من الاكمة عشرة أذرع أو نحوها، ثم يصلى مستقبل الفرضتين من الجبل الذى بينك وبين الكعبة.

أخرجاه في الصحيحين.
* * * وحاصل هذا كله: أنه عليه السلام لما انتهى في مسيره إلى ذى طوى ؟ وهو قريب من مكة متاخم للحرم، أمسك عن التلبية، لانه قد وصل إلى المقصود، وبات بذلك المكان حتى أصبح، فصلى هنالك الصبح في المكان الذى وصفوه بين فرضتي الجبل الطويل هنالك.
ومن تأمل هذه الاماكن المشار إليها بعين البصيرة عرفها معرفة جيدة وتعين له المكان الذى صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم اغتسل صلوات الله وسلامه عليه لاجل دخول مكة، ثم ركب ودخلها نهارا جهرة علانية من الثنية العليا التى بالبطحاء.
ويقال كداء ليراه الناس ويشرف عليهم، وكذلك دخل منها يوم الفتح كما ذكرناه.
قال مالك عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من من الثنية العليا وخرج من الثنية السفلى.
أخرجاه في الصحيحين من حديثه ولهما من طريق عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من الثنية العليا التى في البطحاء، وخرج من الثنية السفلى.
ولهما أيضا من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة مثل ذلك.
* * * ولما وقع بصره عليه السلام على البيت قال ما رواه الشافعي في مسنده: أخبرنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال: " اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرفه وكرمه، ومن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا ".

قال الحافظ البيهقى: هذا منقطع، وله شاهد مرسل عن سفيان الثوري، عن أبى سعيد الشامي، عن مكحول، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل مكة فرأى البيت رفع يديه وكبر وقال: " اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام، اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة وبرا، وزد من حجه أو اعتمره تكريما وتشريفا وتعظيما وبرا ".
وقال الشافعي: أنبأنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، قال: حدثت عن مقسم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ترفع الايدى في الصلاة وإذا رأى البيت، وعلى الصفا والمروة، وعشية عرفة وبجمع، وعند الجمرتين وعلى الميت ".
قال الحافظ البيهقى: وقد رواه محمد بن عبدالرحمن بن أبى ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، وعن نافع عن ابن عمر، مرة موقوفا عليهما ومرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون ذكر الميت.
قال: وابن أبى ليلى هذا غير قوى.
* * * ثم إنه عليه السلام دخل المسجد من باب بنى شيبة.
قال الحافظ البيهقى: روينا عن ابن جريج، عن عطاء بن أبى رباح، قال: يدخل
المحرم من حيث شاء.
قال: ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من باب بنى شيبة وخرج من باب بنى مخزوم إلى الصفا.
ثم قال البيهقى: وهذا مرسل جيد.
وقد استدل البيهقى على استحباب دخول المسجد من باب بنى شيبة، بما رواه من طريق أبى دواد الطيالسي، حدثنا حماد بن سلمة، وقيس بن سلام، كلهم عن سماك بن حرب

عن خالد بن عرعرة، عن على رضى الله عنه، قال، لما انهدم البيت بعد جرهم بنته قريش، فلما أرادوا وضع الحجر تشاجروا من يضعه، فاتفقوا أن يضعه أول من يدخل من هذا الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بنى شيبة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب فوضع الحجر في وسطه، وأمر كل فخذ أن يأخذوا بطائفة من الثوب، فرفعوه وأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه.
وقد ذكرنا (1) هذا مبسوطا في باب بناء الكعبة قبل البعثة.
وفى الاستدلال على استحباب الدخول من باب بنى شيبة بهذا نظر.
والله أعلم.
__________
(1) تقدم ذلك في الجزء الاول.
(*)

صفة طوافه صلوات الله وسلامه عليه قال البخاري: حدثنا أصبغ بن الفرج، عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن محمد، عن محمد بن عبدالرحمن، قال ذكرت لعروة قال: أخبرتني عائشة: أن أول شئ بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثم طاف ثم لم تكن عمرة، ثم حج أبو بكر وعمر مثله، ثم حججت مع أبى الزبير، فأول شئ بدأ به الطواف، ثم رأيت المهاجرين والانصار يفعلونه، وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة،
فلما مسحوا الركن حلوا.
هذا لفظه.
وقد رواه في موضع آخر عن أحمد بن عيسى، ومسلم، عن هارون بن سعيد، ثلاثتهم عن ابن وهب به.
وقولها: " ثم لم تكن عمرة " يدل على أنه عليه السلام لم يتحلل بين النسكين.
* * * ثم كان أول ما ابتدأ به عليه السلام استلام الحجر الاسود قبل الطواف، كما قال جابر: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن عابس بن ربيعة، عن عمر، أنه جاء إلى الحجر فقبله وقال: إنى لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى وأبى بكر بن أبى شيبة وزهير بن حرب وابن أبى نمير، جميعا عن أبى معاوية، عن الاعمش، عن إبراهيم، عن عابس بن ربيعة، قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إنى لاعلم (1) أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
__________
(1) مسلم: إنى لاقبلك وأعلم.
(*)

وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن عبيدة وأبو معاوية، قالا: حدثنا الاعمش، عن إبراهيم بن عابس بن ربيعة، قال: رأيت عمر أتى الحجر فقال: أما والله لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك.
ثم دنا فقبله.
فهذا السياق يقتضى أنه قال ما قال ثم قبله بعد ذلك، بخلاف سياق صاحبي الصحيح.
فالله أعلم.
وقال أحمد: حدثنا وكيع ويحيى واللفظ لوكيع، عن هشام، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب أتى الحجر فقال: إنى لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك.
وقال: ثم قبله.
وهذا منقطع بين عروة بن الزبير وبين عمر.
وقال البخاري أيضا: حدثنا سعيد بن أبى مريم، حدثنا محمد بن جعفر بن أبى كثير، أخبرني زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال للركن: أما والله إنى لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك.
فاستلمه.
ثم قال: وما لنا والرمل، إنما كنا راءينا به المشركين ولقد أهلكهم الله.
ثم قال: شئ صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه.
وهذا يدل على أن الاستلام تأخر عن القول.
وقال البخاري: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا ورقاء، حدثنا زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر وقال: لولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
وقال مسلم بن الحجاج: حدثنا حرملة، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، هو ابن

يزيد الايلى، وعمرو، وهو ابن دينار.
ح.
وحدثنا هارون بن سعيد الايلى، أنبأنا ابن وهب، أخبرني عمرو، عن ابن شهاب، عن سالم، أن أباه حدثه أنه قال: قبل عمر بن الخطاب الحجر ثم قال: أما والله لقد علمت أنك حجر، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
زاد هارون في روايته: قال عمرو: وحدثني بمثلها زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم - يعنى عن عمر - به.
وهذا صريح في أن التقبيل تقدم على القول.
فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا عبدالله، عن نافع، عن ابن عمر أن عمر قبل الحجر ثم قال: قد علمت أنك حجر، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك.
هكذا رواه الامام أحمد.
وقد أخرجه مسلم في صحيحه، عن محمد بن أبى بكر المقدمى، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر، قبل الحجر وقال: إنى لاقبلك وإنى لاعلم أنك حجر، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك.
ثم قال مسلم: حدثنا خلف بن هشام والمقدمي وأبو كامل وقتيبة، كلهم عن حماد قال خلف: حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم الاحول، عن عبدالله بن سرجس، قال: رأيت الاصلع - يعنى عمر - يقبل الحجر ويقول: والله إنى لاقبلك وإنى لاعلم أنك حجر، وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
وفى رواية المقدمى وأبى كامل: رأيت الاصيلع.
وهذا من أفراد مسلم دون البخاري.

وقد رواه الامام أحمد عن أبى معاوية، عن عاصم الاحول، عن عبدالله بن سرجس به.
ورواه أحمد أيضا عن غندر، عن شعبة، عن عاصم الاحول به.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدى، عن سفيان، عن إبراهيم بن عبدالاعلى، عن سويد بن غفلة، قال: رأيت عمر يقبل الحجر ويقول: إنى لاعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولكني رأيت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم بك حفيا.
ثم رواه أحمد عن وكيع، عن سفيان الثوري به.
وزاد: فقبله والتزمه.
وهكذا رواه مسلم من حديث عبدالرحمن بن مهدى بلا زيادة، ومن حديث وكيع بهذه الزيادة: قبل الحجر والتزمه وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا عبدالله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن عمر بن الخطاب أكب على الركن وقال: إنى لاعلم أنك حجر، ولو لم أر حبيبي صلى الله عليه وسلم قبلك واستلمك ما استلمتك ولا قبلتك " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ".
وهذا إسناد جيد قوى، ولم يخرجوه.
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا جعفر بن عثمان القرشى ; من أهل مكة، قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه ثم قال: رأيت خالك ابن عباس قبله وسجد عليه، وقال ابن عباس: رأيت عمر بن الخطاب قبله وسجد عليه.
ثم قال عمر: لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم قبله ما قبلته.
وهذا أيضا إسناد حسن، ولم يخرجه إلا النسائي، عن عمرو بن عثمان، عن

الوليد بن مسلم، عن حنظلة بن أبى سفيان، عن طاوس، عن ابن عباس، عن عمر فذكر نحوه.
وقد روى هذا الحديث عن عمر الامام أحمد أيضا من حديث يعلى بن أمية عنه، وأبو يعلى الموصلي في مسنده من طريق هشام بن حشيش بن الاشقر ; عن عمر.
وقد أوردنا ذلك كله بطرقه وألفاظه وعزوه وعلله في الكتاب الذى جمعناه في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
ولله الحمد والمنة.
* * * وبالجملة فهذا الحديث مروى من طرق متعددة عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضى الله عنه.
وهى تفيد القطع عند كثير من أئمة هذا الشأن.
وليس في هذه الرواية أنه عليه السلام سجد على الحجر، إلا ما أشعر به رواية أبى داود الطيالسي، عن جعفر بن عثمان، وليست صريحة في الرفع.
ولكن رواه الحافظ البيهقى من طريق أبى عاصم النبيل، حدثنا جعفر بن عبدالله، قال: رأيت محمد بن عباد بن جعفر قبل الحجر وسجد عليه ثم قال: رأيت خالك ابن عباس قبله وسجد عليه.
وقال ابن عباس: رأيت عمر قبله وسجد عليه.
ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلت.
قال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو الحسن على بن أحمد بن عبدان، أنبأنا الطبراني، أنبأنا أبوالزنباع، حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا سفيان بن أبى حسين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد على الحجر.
قال الطبراني: لم يروه عن سفيان إلا يحيى بن يمان.
وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا حماد، عن الزبير بن عربي، قال: سأل رجل

ابن عمر عن استلام الحجر.
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله.
قال: أرأيت إن زحمت أرأيت إن غلبت ؟ قال: اجعل أرأيت باليمن (1) ! رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله.
وتفرد به دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر قال: ما تركت استلام هذين الركنين في شدة ولا رخاء منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما.
فقلت لنافع: أكان ابن عمر يمشى بين الركنين ؟ قال: إنما كان يمشى ليكون أيسر لاستلامه.
وروى أبو داود والنسائي من حديث يحيى بن سعيد القطان، عن عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة ".
* * * وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، عن سالم ابن عبدالله، عن أبيه، قال: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين.
ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى وقتيبة، عن الليث بن سعد به.
وفى رواية عنه أنه قال: ما أرى النبي صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين الشاميين إلا أنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم.
وقال البخاري: وقال محمد بن بكر، أنبأنا ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، عن أبى الشعثاء، أنه قال: ومن يتقى شيئا من البيت !
__________
(1) أي اتركها بعيدا عنك (*)

وكان معاوية يستلم الاركان فقال له ابن عباس: إنه لا يستلم هذان الركنان.
فقال له: ليس من البيت شئ مهجور.
وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن.
انفرد بروايته البخاري رحمه الله تعالى.
وقال مسلم في صحيحه: حدثنى أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن قتادة بن دعامة حدثه، أن أبا الطفيل البكري حدثه، أنه سمع ابن عباس يقول: لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم غير الركنين اليمانيين انفرد به مسلم.
فالذي رواه ابن عمر موافق لما قاله ابن عباس، أنه لا يستلم الركنان الشاميان،
لانها لم يتمما على قواعد إبراهيم، لان قريشا قصرت بهم النفقة، فأخرجوا الحجر من البيت حين بنوه.
كما تقدم بيانه (1).
وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لو بناه فتممه على قواعد إبراهيم، ولكن خشى من حداثة عهد الناس بالجاهلية، فتنكره قلوبهم.
فلما كانت إمرة عبدالله بن الزبير هدم الكعبة وبناها على ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم كما أخبرته خالته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق.
فإن كان ابن الزبير استلم الاركان كلها بعد بنائه إياها على قواعد إبراهيم فحسن جدا وهو والله المظنون به ! * * * وقال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن عبد العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة ".
__________
(1) تقدم ذلك في الجزء الاول (*)

ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن يحيى.
وقال النسائي: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقى، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد، عن أبيه، عن عبدالله بن السائب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركن اليماني والحجر: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (1) ".
ورواه أبو داود، عن مسدد، عن عيسى بن يونس، عن ابن جريج به.
وقال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة دخل
المسجد فاستلم الحجر، ثم مضى على يمينه فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم أتى المقام فقال: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى (2) " فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، ثم أتى الحجر بعد الركعتين فاستلمه، ثم خرج إلى الصفا، أظنه قال: " إن الصفا والمروة من شعائر الله ".
هذا حديث حسن صحيح.
والعمل على هذا عند أهل العلم.
وهكذا رواه إسحاق بن راهويه، عن يحيى بن آدم.
ورواه الطبراني عن النسائي وغيره، عن عبدالاعلى بن واصل، عن يحيى بن آدم به.
__________
(1) سورة البقرة 201 (2) سورة البقرة 125 (*)

ذكر رمله عليه الصلاة والسلام في طوافه واضطباعه قال البخاري: حدثنا أصبغ بن الفرج، أخبرني ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سالم عن أبيه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الاسود أول ما يطوف يخب (1) ثلاثة أشواط من السبع.
ورواه مسلم عن أبى الطاهر بن السرح، وحرملة، كلاهما عن ابن وهب به.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سلام، حدثنا شريح بن النعمان، حدثنا فليح، عن نافع، عن ابن عمر، قال: سعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط ومشى أربعة في الحج والعمرة.
تابعه الليث: حدثنى كثير بن فرقد، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
انفرد به البخاري.
وقد روى النسائي عن محمد وعبد الرحمن ابني عبدالله بن عبد الحكم، كلاهما عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن كثير بن فرقد، عن نافع، عن
ابن عمر به.
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع، عن عبدالله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم، سعى ثلاثة أطواف ومشى أربعة ثم سجد سجدتين ثم يطوف بين الصفا والمروة.
__________
(1) يخب: يسرع، وهو ضرب من الرمل.
(*)

ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة.
وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا أنس، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان إذا طاف بالبيت الطواف الاول يخب ثلاثة أطواف ويمشى أربعة، وأنه كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة ".
ورواه مسلم من حديث عبيد الله بن عمر.
وقال مسلم: أنبأنا عبدالله بن عمر بن أبان الجعفي، أنبأنا ابن المبارك، أنبأنا عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى أربعا.
ثم رواه من حديث سليم بن أخضر، عن عبيدالله بنحوه وقال مسلم أيضا: حدثنى أبو الطاهر، حدثنى عبدالله بن وهب، أخبرني مالك وابن جريج، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبدالله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رمل ثلاثة (1) أطواف من الحجر إلى الحجر.
وقال عمر بن الخطاب: فيم الرملان والكشف عن المناكب، وقد أطد الله الاسلام ونفى الكفر ؟ ومع ذلك لا نترك شيئا كنا نفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي، من حديث هشام بن سعيد، عن زيد
ابن أسلم، عن أبيه عنه * * * وهذا كله رد على ابن عباس ومن تابعه من أن الرمل ليس بسنة، لان رسول الله إنما فعله لما قدم هو وأصحابه صبيحة رابعة - يعنى في عمرة القضاء - وقال المشركون: إنه يقدم عليكم وفد وهنتهم حمى يثرب.
فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرملوا
__________
(1) مسلم: الثلاثة (*)

الاشواط الثلاثة وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الاشواط كلها إلا الابقاء عليهم.
وهذا ثابت في الصحيحين، وتصريحه بعذر سببه في صحيح مسلم أظهر.
فكأن ابن عباس ينكر وقوع الرمل في حجة الوداع.
وقد صح بالنقل الثابت كما تقدم، بل فيه زيادة تكميل الرمل من الحجر إلى الحجر، ولم يمش مابين الركنين اليمانيين لزوال تلك العلة المشار إليها وهى الضعف.
وقد ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس، أنهم رملوا في عمرة الجعرانة واضطبعوا (1).
وهو رد عليه، فإن عمرة الجعرانة لم يبق في أيامها خوف، لانها بعد الفتح كما تقدم.
رواه حماد بن سلمة، عن عبدالله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت واضطبعوا ووضعوا أرديتهم تحت آباطهم وعلى عواتقهم.
ورواه أبو داود من حديث حماد بنحوه، ومن حديث عبدالله بن خثيم، عن أبى الطفيل، عن ابن عباس به.
فأما الاضطباع في حجة الوداع فقد قال قبيصة والفريابي، عن سفيان الثوري، عن ابن جريج، عن عبدالحميد بن جبير بن شيبة، عن يعلى بن أمية، عن أمية، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت مضطبعا.
رواه الترمذي من حديث الثوري، وقال: حسن صحيح.
__________
(1) الاضطباع: أن يدخل الرداء من تحت إبطه الايمن ويرد طرفه على يساره، ويبدى منكبه الايمن ويغطى الايسر، سمى به لابداء أحد الضبعين.
(*)

وقال أبو داود: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه، قال: طاف رسول الله مضطبعا ببرد أخضر.
وهكذا رواه الامام أحمد، عن وكيع، عن الثوري، عن ابن جريج، عن ابن يعلى، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع ببرد له حضرمى.
وقال جابر في حديثه المتقدم: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " فجعل المقام بينه وبين البيت.
فذكر أنه صلى ركعتين قرأ فيهما: " قل هو الله أحد ".
و " قل يا أيها الكافرون ".
* * * فإن قيل: فهل كان عليه السلام في هذا الطواف راكبا أو ماشيا ؟ فالجواب: أنه قد ورد نقلان، قد يظن أنهما متعارضان، ونحن نذكرهما ونشير إلى التوفيق بينهما ورفع اللبس عند من يتوهم فيهما تعارضا.
وبالله التوفيق وعليه الاستعانة وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال البخاري رحمه الله: حدثنا أحمد بن صالح ويحيى بن سليمان، قالا: حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عبيدالله بن عبدالله، عن
ابن عباس، قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعيره في حجة الوداع يستلم الركن بمحجن (1).
وأخرجه بقية الجماعة، إلا الترمذي، من طرق عن ابن وهب.
قال البخاري: تابعه الدراوردى، عن ابن أخى الزهري، عن عمه.
وهذه المتابعة غريبة جدا.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا خالد الحذاء،
__________
(1) المحجن: العصا المعوجة.
(*)

عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه.
وقد رواه الترمذي من حديث عبد الوهاب بن عبدالمجيد الثقفى وعبد الوارث، كلاهما عن خالد بن مهران الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، فإذا انتهى إلى الركن أشار إليه.
وقال: حسن صحيح.
ثم قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبدالله، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير، فلما أتى الركن أشار إليه بشئ كان عنده وكبر.
تابعه إبراهيم بن طهمان، عن خالد الحذاء.
وقد أسند هذا التعليق هاهنا في كتاب الطواف، عن عبدالله بن محمد، عن أبى عامر، عن إبراهيم بن طهمان به.
وروى مسلم عن الحكم بن موسى، عن شعيب بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع حول
الكعبة على بعير يستلم الركن، كراهية أن يضرب عنه الناس.
فهذا إثبات أنه عليه السلام طاف في حجة الوداع على بعير، ولكن حجة الوداع كان فيها ثلاثة أطواف: الاول طواف القدوم، والثانى طواف الافاضة وهو طواف الفرض وكان يوم النحر، والثالث طواف الوداع.
فلعل ركوبه صلى الله عليه وسلم كان في أحد الآخرين أو في كليهما، فأما الاول وهو طواف القدوم فكان ماشيا فيه.
وقد نص الشافعي على هذا كله.
والله أعلم وأحكم.
والدليل على ذلك ما قال الحافظ أبو بكر البيهقى في كتابه السنن الكبير: أخبرنا

أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو بكر محمد بن المؤمل بن الحسن بن عيسى، حدثنا الفضل ابن محمد بن المسيب، حدثنا نعيم بن حماد، حدثنا عيسى بن يونس، عن محمد بن إسحاق هو - ابن يسار رحمه الله - عن أبى جعفر، وهو محمد بن على بن الحسين، عن جابر بن عبدالله، قال: دخلنا مكة عند ارتفاع الضحى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم باب المسجد فأناخ راحلته، ثم دخل المسجد فبدأ بالحجر فاستلمه وفاضت عيناه بالبكاء، ثم رمل ثلاثا ومشى أربعا، حتى فرغ.
فلما فرغ قبل الحجر ووضع يده عليه ومسح بهما وجهه.
وهذا إسناد جيد.
* * * فأما ما رواه أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا خالد بن عبدالله، حدثنا يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكى، فطاف على راحلته فلما أتى على الركن استلمه بمحجن، فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين.
تفرد به يزيد بن أبى زياد وهو ضعيف.
ثم لم يذكر أنه في حجة الوداع، ولا ذكر أنه في الطواف الاول من حجة الوداع.
ولم يذكر ابن عباس في الحديث الصحيح عنه عند مسلم، وكذا جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب في طوافه لضعفه، وإنما ذكرا كثرة الناس وغشيانهم له، وكان لا يحب أن يضربوا بين يديه.
كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله.
ثم هذا التقبيل الثاني الذى ذكره ابن إسحاق [ في روايته ] (1) بعد الطواف وبعد ركعتيه أيضا، ثابت في صحيح مسلم من حديث جابر.
قال فيه، بعد ذكر صلاة ركعتي الطواف: ثم رجع إلى الركن فاستلمه.
وقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وابن نمير جميعا،
__________
(1) ليست في ا.
(*)

عن أبى خالد، قال أبو بكر: حدثنا أبو خالد الاحمر، عن عبيدالله، عن نافع، قال: رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده ثم قبل يده.
قال: وما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
فهذا يحتمل أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطوافات، أو في آخر استلام فعل مثل هذا.
لما ذكرنا أو أن ابن عمر لم يصل إلى الحجر لضعف كان به، أو لئلا يزاحم غيره فيحصل لغيره أذى به.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوالده، ما رواه أحمد في مسنده: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبى يعفور العبدى، قال: سمعت شيخا بمكة في إمارة الحجاج يحدث عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا عمر إنك رجل قوى، لا تزاحم على الحجر فتؤذى الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فاستقبله وكبر.
وهذا إسناد جيد، لكن راويه عن عمر مبهم لم يسم.
والظاهر أنه ثقة جليل، فقد رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة، عن أبى يعفور
العبدى واسمه وقدان، سمعت رجلا من خزاعة حين قتل ابن الزبير وكان أميرا على مكة يقول: قال رسول الله لعمر: يا أبا حفص إنك رجل قوى، فلا تزاحم على الركن، فإنك تؤذى الضعيف، ولكن إن وجدت خلوة فاستلمه وإلا فكبر وامض.
قال سفيان بن عيينة: هو عبدالرحمن بن الحارث، كان الحجاج استعمله عليها منصرفه منها حين قتل ابن الزبير.
قلت: وقد كان عبدالرحمن هذا جليلا نبيلا كبير القدر، وكان أحد النفر الاربعة الذين ندبهم عثمان بن عفان في كتابة المصاحف التى نفذها إلى الآفاق ووقع على ما فعله الاجماع والاتفاق.

ذكر طوافه عليه السلام بين الصفا والمروة روى مسلم في صحيحه عن جابر، في حديثه الطويل المتقدم، بعد ذكره طوافه عليه السلام بالبيت سبعا وصلاته عند المقام ركعتين.
قال: ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " أبدأ بما بدأ الله به.
فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير.
لا إله إلا الله أنجز وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده.
ثم دعا بين ذلك فقال مثل هذا ثلاث مرات.
ثم نزل، حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة فرقى عليها حتى نظر إلى البيت فقال عليها كما قال على الصفا.
وقال الامام أحمد: حدثنا عمر بن هارون البلخى، أبو حفص، حدثنا ابن جريج، عن بعض بنى يعلى بن أمية، عن أبيه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم
مضطبعا بين الصفا والمروة ببرد له نجرانى.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا عبدالله بن المؤمل، عن عمر بن عبد الرحمن، حدثنا عطية، عن حبيبة بنت أبى نجراة (1) قالت: دخلت دار حصين في نسوة من قريش والنبى صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، قالت: وهو يسعى يدور به إزاره من شدة السعي وهو يقول لاصحابه.
" اسعوا إن الله كتب عليكم السعي ".
__________
(1) الاصل غير منقوطة.
وما أثبته عن هامش المشتبه للذهبي 1 / 112 (*)

وقال أحمد أيضا: حدثنا شريح، حدثنا عبدالله بن المؤمل، حدثنا عطاء بن أبى رباح، عن صفية بنت شيبة، عن حبيبة بنت أبى تجراة قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي.
تفرد به أحمد.
وقد رواه أحمد أيضا عن عبد الرزاق، عن معمر، عن واصل مولى أبى عيينة، عن موسى بن عبيدة، عن صفية بنت شيبة، أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: " كتب عليكم السعي فاسعوا ".
وهذه المرأة هي حبيبة بنت أبى تجراة المصرح بذكرها في الاسنادين الاولين.
وعن أم ولد شيبة بن عثمان، أنها أبصرت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: " لا يقطع الابطح إلا شدا ".
رواه النسائي، والمراد بالسعي هاهنا هو الذهاب من الصفا إلى المروة ومنها إليها، وليس المراد بالسعي هاهنا الهرولة والاسراع، فإن الله لم يكتبه علينا حتما، بل لو مشى
الانسان على هيئته في السبع الطوافات بينهما ولم يرمل في المسيل، أجزأه ذلك عند جماعة العلماء لا نعرف بينهم اختلافا في ذلك.
وقد نقله الترمذي رحمه الله عن أهل العلم.
ثم قال: حدثنا يوسف بن عيسى، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن كثير بن جهمان، قال: رأيت ابن عمر يمشى في المسعى فقلت: أتمشى في السعي بين الصفا والمروة ؟ فقال: لئن سعيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى، ولئن مشيت لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى، وأنا شيخ كبير.

ثم قال: هذا حديث حسن صحيح.
وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا.
وقد رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عطاء بن السائب، عن كثير بن جهمان السلمى الكوفى، عن ابن عمر.
فقول ابن عمر: إنه شاهد الحالين منه صلى الله عليه وسلم يحتمل شيئين: أحدهما: أنه رآه يسعى في وقت ماشيا لم يمزجه برمل فيه بالكلية.
والثانى: أنه رآه يسعى في بعض الطريق ويمشى في بعضه.
وهذا له قوة، لانه قد روى البخاري ومسلم من حديث عبيدالله بن عمر العمرى، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة.
وتقدم في حديث جابر أنه عليه السلام: نزل من الصفا فلما انصبت قدماه في الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة.
وهذا هو الذى تستحبه العلماء قاطبة، أن الساعي بين الصفا والمروة - وتقدم في حديث جابر - يستحب له أن يرمل في بطن الوادي في كل طوفة في بطن المسيل الذى
بينهما، وحددوا ذلك بما بين الاميال الخضر، فواحد مفرد من ناحية الصفا مما يلى المسجد، واثنان مجتمعان من ناحية المروة مما يلى المسجد أيضا.
وقال بعض العلماء: ما بين هذه الاميال اليوم أوسع من بطن المسيل الذى رمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالله أعلم.
* * * وأما قول محمد بن حزم في الكتاب الذى جمعه في حجة الوداع: ثم خرج عليه السلام إلى الصفا فقرأ: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " أبدأ بما بدأ الله به، فطاف

بين الصفا والمروة أيضا سبعا راكبا على بعير يخب ثلاثا ويمشى أربعا.
فإنه لم يتابع على هذا القول ولم يتفوه به أحد قبله، من أنه عليه السلام خب ثلاثة أشواط بين الصفا والمروة ومشى أربعا.
ثم مع هذا الغلط الفاحش لم يذكر عليه دليلا بالكلية، بل لما انتهى إلى موضع الاستدلال عليه قال: ولم نجد عدد الرمل بين الصفا والمروة منصوصا، ولكنه متفق عليه.
هذا لفظه.
فإن أراد بأن الرمل في الثلاث الطوفات الاول، على ما ذكر، متفق عليه، فليس بصحيح، بل لم يقله أحد.
وإن أراد أن الرمل في الثلاث الاول في الجملة متفق عليه، فلا يجدى له شيئا ولا يحصل له مقصودا، فإنهم كما اتفقوا على الرمل في الثلاث الاول في بعضها، على ما ذكرناه، كذلك اتفقوا على استحبابه في الاربع الاخر أيضا.
فتخصيص ابن حزم الثلاث الاول باستحباب الرمل فيها مخالف لما ذكره العلماء.
والله أعلم.
وأما قول ابن حزم إنه عليه السلام كان راكبا بين الصفا والمروة، فقد تقدم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسعى بطن المسيل.
أخرجاه.
وللترمذي عنه: إن أسعى فقد رأيت رسول الله يسعى، وإن مشيت فقد رأيت رسول الله يمشى.
وقال جابر: فلما انصبت قدماه في الوادي رمل، حتى إذا صعد مشى.
رواه مسلم.

وقالت حبيبة بنت أبى تجراة: يسعى يدور به إزاره من شدة السعي.
رواه أحمد.
وفى صحيح مسلم عن جابر كما تقدم أنه رقى على الصفا حتى رأى البيت.
وكذلك على المروة.
وقد قدمنا من حديث محمد بن إسحاق، عن أبى جعفر الباقر، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ بعيره على باب المسجد، يعنى حتى طاف، ثم لم يذكر أنه ركبه حال ما خرج إلى الصفا.
وهذا كله مما يقتضى أنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة ماشيا.
ولكن قال مسلم: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا محمد - يعنى ابن بكر - أخبرنا ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة على بعير، ليراه الناس وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه ولم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.
ورواه مسلم أيضا، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن على بن مسهر، وعن على بن خشرم، عن عيسى بن يونس، وعن محمد بن حاتم، عن يحيى بن سعيد، كلهم عن ابن
جريج به.
وليس في بعضها: وبين الصفا والمروة.
وقد رواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد القطان، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة.
ورواه النسائي عن الفلاس عن يحيى، وعن عمران بن يزيد، عن سعيد بن إسحاق، كلاهما عن ابن جريج به.
* * *

فهذا محفوظ من حديث ابن جريج.
وهو مشكل جدا، لان بقية الروايات عن جابر وغيره تدل على أنه عليه السلام كان ماشيا بين الصفا والمروة.
وقد تكون رواية أبى الزبير عن جابر لهذه الزيادة وهى قوله: وبين الصفا والمروة مقحمة أو مدرجة ممن بعد الصحابي.
والله أعلم.
أو أنه عليه السلام طاف بين الصفا والمروة بعض الطوفان على قدميه، وشوهد منه ما ذكر، فلما ازدحم الناس عليه وكثروا ركب، كما يدل عليه حديث ابن عباس الآتى قريبا.
وقد سلم ابن حزم أن طوافه الاول بالبيت كان ماشيا، وحمل ركوبه في الطواف على ما بعد ذلك.
وادعى أنه كان راكبا في السعي بين الصفا والمروة قال: لانه لم يطف بينهما إلا مرة واحدة، ثم تأول قول جابر: حتى إذا انصبت قدماه في الوادي رمل.
بأنه يصدق ذلك وإن كان راكبا، فإنه إذا انصب بعيره فقد انصب كله وانصبت قدماه مع سائر جسده.
قال: وكذلك ذكر الرمل يعنى به رمل الدابة براكبها.
وهذا التأويل بعيد جدا.
والله أعلم.
وقال أبو داود: حدثنا أبو سلمة موسى، حدثنا حماد، أنبأنا أبو عاصم الغنوى،
عن أبى الطفيل، قال: قلت لابن عباس: يزعم قومك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رمل بالبيت وأن ذلك من سنته (1).
قال: صدقوا وكذبوا.
فقلت: ما صدقوا وما كذبوا ؟ قال: صدقوا، رمل رسول الله، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف (2)، فلما صالحوه على أن يحجوا من العام المقبل فيقيموا بمكة ثلاثة أيام، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركون من قبل قعيقعان، فقال رسول الله لاصحابه: ارملوا بالبيت ثلاثا.
وليس بسنة.
__________
(1) ا: وأن ذلك سنة.
(2) النغف: الدود وهو يضرب للمستحقن.
(*)

قلت: يزعم قومك أن رسول الله طاف بين الصفا والمروة على بعير، وأن ذلك سنة.
قال: صدقوا وكذبوا قلت: ما صدقوا وكذبوا ؟ قال: صدقوا، قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة على بعير، وكذبوا ليست بسنة، كان الناس لا يدفعون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه ولا تناله أيديهم.
هكذا رواه أبو داود.
وقد رواه مسلم عن أبى كامل، عن عبد الواحد بن زياد، عن الجريرى، عن أبى الطفيل، عن ابن عباس، فذكر فضل الطواف بالبيت كنحو ما تقدم ثم قال: قلت لابن عباس أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو ؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة.
قال: صدقوا وكذبوا.
قلت: فما قولك صدقوا وكذبوا ؟ قال: إن رسول الله كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه الناس ركب قال ابن عباس: والمشى والسعى أفضل.
هذا لفظ مسلم.
وهو يقتضى أنه إنما ركب في أثناء الحال.
وبه يحصل الجمع بين الاحاديث
والله أعلم.
* * * وأما ما رواه مسلم في صحيحه حيث قال: حدثنا محمد بن رافع، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا زهير، عن عبدالملك بن سعيد، عن أبى الطفيل، قال: قلت لابن عباس: أرانى قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فصفه لى.
قلت: رأيته عند المروة على ناقة وقد كثر الناس عليه.
فقال ابن عباس: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنهم كانوا لا يضربون عنه ولا يكرهون.

فقد تفرد به مسلم، وليس فيه دلالة على أنه عليه السلام سعى بين الصفا والمروة راكبا، إذ لم يقيد ذلك بحجة الوداع ولا غيرها.
وبتقدير أن يكون ذلك في حجة الوداع فمن الجائز أنه عليه السلام بعد فراغه من السعي وجلوسه على المروة وخطبته الناس وأمره إياهم من لم يسق الهدى منهم أن يفسخ الحج إلى العمرة، فحل الناس كلهم إلا من ساق الهدى، كما تقدم في حديث جابر.
ثم بعد هذا كله أتى بناقته فركبها وسار إلى منزله بالابطح، كما سنذكره قريبا، وحينئذ رآه أبو الطفيل عامر بن واثلة البكري، وهو معدود في صغار الصحابة.
قلت: قد ذهب طائفة من العراقيين كأبى حنيفة وأصحابه والثوري إلى أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين، وهو مروى عن على وابن مسعود ومجاهد والشعبى.
ولهم أن يحتجوا بحديث جابر الطويل، ودلالته على أنه سعى بين الصفا والمروة ماشيا، وحديثه هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم سعى بينهما راكبا على تعداد الطواف بينهما مرة ماشيا ومرة راكبا.
وقد روى سعيد بن منصور في سننه عن على رضى الله عنه، أنه أهل بحجة وعمرة، فلما قدم مكة طاف بالبيت وبالصفا والمروة لعمرته، ثم عاد فطاف بالبيت وبالصفا والمروة
لحجته، ثم أقام حراما إلى يوم النحر.
هذا لفظه.
ورواه أبو ذر الهروي في مناسكه عن على، أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل.
وكذلك رواه البيهقى والدارقطني والنسائي في خصائص على.
فقال البيهقى في سننه: أنبأنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، أنبأنا على بن عمير الحافظ، أنبأنا أبو محمد بن صاعد، حدثنا محمد بن زنبور، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن مالك

ابن الحارث، أو منصور عن مالك بن الحارث، عن أبى نصر، قال: لقيت عليا وقد أهللت بالحج وأهل هو بالحج والعمرة، فقلت: هل أستطيع أن أفعل كما فعلت ؟ قال: ذلك لو كنت بدأت بالعمرة.
قلت: كيف أفعل إذا أردت ذلك ؟ قال: تأخذ إداوة من ماء فتفيضها عليك، ثم تهل بهما جميعا ثم تطوف لهما طوافين وتسعى لهما سعيين ولا يحل لك حرام دون يوم النحر.
قال منصور: فذكرت ذلك لمجاهد قال: ما كنا نبنى إلا بطواف واحد، فأما الآن فلا نفعل.
قال الحافظ البيهقى: وقد رواه سفيان بن عيينة وسفيان الثوري وشعبة عن منصور، فلم يذكر فيه السعي.
قال: وأبو نصر هذا مجهول.
وإن صح فيحتمل أنه أراد طواف القدوم وطواف الزيارة.
قال: وقد روى بأسانيد أخر عن على مرفوعا وموقوفا، ومدارها على الحسن بن عمارة وحفص بن أبى داود وعيسى بن عبدالله وحماد بن عبدالرحمن، وكلهم ضعيف لا يحتج بشئ مما رووه في ذلك.
والله أعلم.
* * *
قلت: والمنقول في الاحاديث الصحاح خلاف ذلك (1).
فقد قدمنا عن ابن عمر في صحيح البخاري أنه أهل بعمرة وأدخل عليها الحج، فصار قارنا، وطاف لهما طوافا واحدا بين الحج والعمرة.
وقال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الترمذي وابن ماجه والبيهقي من حديث الدراوردى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جمع بين الحج والعمرة طاف لهما طوافا واحدا وسعى لهما سعيا واحدا ".
__________
(1) ا: خلافه.
(*)

قال الترمذي: وهذا حديث حسن غريب.
قلت: إسناده على شرط مسلم.
وهكذا جرى لعائشة أم المؤمنين، فإنها كانت ممن أهل بعمرة لعدم سوق الهدى معها، فلما حاضت أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتهل بحج مع عمرتها، فصارت قارنة، فلما رجعوا من منى طلبت أن يعمرها من بعد الحج، فأعمرها تطييبا لقلبها، كما جاء مصرحا به في الحديث.
وقد قال الامام أبو عبد الله الشافعي: أنبأنا مسلم - هو ابن خالد - الزنجي، عن ابن جريج، عن عطاء أن رسول الله قال لعائشة: طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك.
وهذا ظاهره الارسال، وهو مسند في المعنى، بدليل ما قال الشافعي أيضا: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبى نجيح، عن عطاء، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشافعي: وربما قال سفيان: عن عطاء، عن عائشة وربما قال: عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة.
فذكره.
قال الحافظ البيهقى: ورواه ابن أبى عمر، عن سفيان بن عيينة موصولا.
وقد رواه مسلم من حديث وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن عائشة بمثله.
وروى مسلم من حديث ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابرا يقول: دخل رسول الله على عائشة وهى تبكى، فقال: مالك تبكين ؟ قالت: أبكى أن الناس حلوا ولم أحل وطافوا بالبيت ولم أطف، وهذا الحج قد حضر.
قال: إن هذا أمر قد كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي وأهلي بحج.
قالت: ففعلت ذلك، فلما طهرت قال: " طوفى بالبيت وبين الصفا والمرة ثم قد حللت من حجك

وعمرتك " قالت: يا رسول الله إنى أجد في نفسي من عمرتي أنى لم أكن طفت حتى حججت قال: " اذهب بها يا عبدالرحمن فأعمرها من التنعيم ".
وله من حديث ابن جريج أيضا: أخبرني أبو الزبير، سمعت جابرا قال: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.
وعند أصحاب أبى حنيفة رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين ساقوا الهدى كانوا قد قرنوا بين الحج والعمرة، كما دل عليه الاحاديث المتقدمة.
والله أعلم.
وقال الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن على، قال في القارن: يطوف طوافين ويسعى سعيا.
قال الشافعي: وقال بعض الناس: طوافان وسعيان.
واحتج فيه برواية ضعيفة عن على، قال جعفر: يروى عن على قولنا، ورويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن قال أبو داود: حدثنا هارون بن عبدالله، ومحمد بن رافع، قالا: حدثنا أبو عاصم، عن معروف - يعنى ابن خربوذ المكى - حدثنا أبو الطفيل، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت على راحلته يستلم الركن بمحجن ثم يقبله.
زاد محمد بن رافع: ثم خرج إلى الصفا والمروة فطاف سبعا على راحلته.
وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى داود الطيالسي، عن معروف بن خربوذ به.
بدون الزيادة التى ذكرها محمد بن رافع.
وكذلك رواه عبيد الله بن موسى عن معروف بدونها.
ورواه الحافظ البيهقى عن أبى سعيد بن أبى عمرو، عن الاصم، عن يحيى بن أبى طالب، عن يزيد بن أبى حكيم، عن يزيد بن مالك، عن أبى الطفيل بدونها.
فالله أعلم.
وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو بكر بن الحسن وأبو زكريا بن أبى إسحاق، قالا:

حدثنا أبو جعفر محمد بن على بن دحيم، حدثنا أحمد بن حازم، أنبأنا عبيد الله بن موسى وجعفر بن عون، قالا: أنبأنا أيمن بن نابل، عن قدامة بن عبدالله بن عمار قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة على بعير لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.
وقال البيهقى: كذا قالا.
وقد رواه جماعة غير أيمن فقالوا: يرمى الجمرة يوم النحر.
قال: ويحتمل أن يكونا صحيحين.
قلت: رواه الامام أحمد في مسنده، عن وكيع وقران بن تمام، وأبى قرة موسى ابن طارف قاضى أهل اليمن، وأبى أحمد محمد بن عبدالله الزبيري ومعتمر بن سليمان، عن أيمن بن نابل الحبشى أبى عمران المكى نزيل عسقلان مولى أبى بكر الصديق، وهو ثقة جليل من رجال البخاري، عن قدامة بن عبدالله بن عمار الكلابي، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمى الجمرة يوم النحر من بطن الوادي على ناقة صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.
وهكذا رواه الترمذي، عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية.
وأخرجه النسائي عن إسحاق بن راهويه.
وابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة، كلاهما عن
وكيع، كلاهما عن أيمن بن نابل، عن قدامة.
كما رواه الامام أحمد.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
فصل قال جابر في حديثه: حتى إذا كان آخر طوافه عند المروة قال: " إنى لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لم أسق الهدى ".
رواه مسلم.

ففيه دلالة على من ذهب إلى أن السعي بين الصفا والمروة أربعة عشر، كل ذهاب وإياب يحسب مرة.
قاله جماعة من أكابر الشافعية.
وهذا الحديث رد عليهم، لان آخر الطواف عن قولهم يكون عند الصفا لا عند المروة.
ولهذا قال أحمد في روايته في حديث جابر: فلما كان السابع عند المروة قال: " أيها الناس إنى لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لم أسق الهدى وجعلتها عمرة، فمن لم يكن معه هدى فليحل وليجعلها عمرة " فحل الناس كلهم.
وقال مسلم: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى.
فصل روى أمره عليه السلام لمن لم يسق الهدى بفسخ الحج إلى العمرة خلق من الصحابة يطول ذكرنا لهم هاهنا، وموضع سرد ذلك كتاب الاحكام الكبير.
إن شاء الله.
وقد اختلف العلماء في ذلك فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: كان ذلك من خصائص الصحابة، ثم نسخ جواز الفسخ لغيرهم.
وتمسكوا بقول أبى ذر رضى الله عنه:
لم يكن فسخ الحج إلى العمرة إلا لاصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
رواه مسلم.
وأما الامام أحمد فرد ذلك، وقال: قد رواه أحد عشر صحابيا، فأين تقع هذه الرواية من ذلك ؟ وذهب رحمه الله إلى جواز الفسخ لغير الصحابة.

وقال ابن عباس رضى الله عنهما بوجوب الفسخ على كل من لم يسق الهدى، بل عنده أنه يحل شرعا إذا طاف بالبيت، ولم يكن ساق هديا صار حلالا بمجرد ذلك، وليس عنه النسك إلا القران لمن ساق الهدى أو التمتع لمن لم يسق.
فالله أعلم.
قال البخاري: حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد، عن عبدالملك بن جريج، عن عطاء، عن جابر.
وعن طاوس عن ابن عباس، قالا: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبح رابعة من ذى الحجة يهلون بالحج لا يخلطه شئ، فلما قدمنا أمرنا فجعلناها عمرة وأن نحل إلى نسائنا، ففشت في ذلك (2) المقالة.
قال عطاء: قال جابر: فيروح أحدنا إلى منى وذكره يقطر منيا ! قال جابر - بكفه - فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بلغني أن قوما يقولون كذا وكذا.
والله لانا أبر وأتقى لله منهم، ولو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معى الهدى لاحللت.
فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله هي لنا أو للابد ؟ فقال: بل للابد.
وقال مسلم: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، هو ابن سعد، عن أبى الزبير، عن جابر، أنه قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة، حتى إذا كنا بسرف عركت (1) حتى إذا قدمنا طفنا بالكعبة والصفا والمروة، وأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدى.
قال: فقلنا: حل ماذا ؟ قال: الحل كله فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ولبسنا ثيابا وليس بيننا وبين
عرفة إلا أربع ليال.
* * *
__________
(1) غير ا: ففشت تلك.
(2) عركت: حاضت.
(*)

فهذان الحديثان فيهما التصريح بأنه عليه السلام قدم مكة عام حجة الوداع لصبح رابعة ذى الحجة، وذلك يوم الاحد حين ارتفع النهار وقت الضحى لان أول ذى الحجة تلك السنة كان يوم الخميس بلا خلاف، لان يوم عرفة منه كان يوم الجمعة بنص حديث عمر بن الخطاب الثابت في الصحيحين.
كما سيأتي فلما قدم عليه السلام يوم الاحد رابع الشهر، بدأ كما ذكرنا بالطواف بالبيت ثم بالسعي بين الصفا والمروة، فلما انتهى طوافه بينهما عند المروة أمر من لم يكن معه هدى أن يحل من إحرامه حتما، فوجب ذلك عليهم لا محالة ففعلوه وبعضهم متأسف لاجل أنه عليه السلام لم يحل من إحرامه لاجل سوقه الهدى، وكانوا يحبون موافقته عليه السلام والتأسى به، فلما رأى ما عندهم من ذلك قال لهم: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة.
أي لو أعلم أن هذا يشق عليكم لكنت تركت سوق الهدى حتى أحل كما أحللتم.
ومن هاهنا تتضح الدلالة على أفضلية التمتع، كما ذهب إليه الامام أحمد، أخذا من هذا، فإنه قال: لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا، ولكن التمتع أفضل لتأسفه عليه.
وجوابه: أنه عليه السلام لم يتأسف على التمتع لكونه أفضل من القران في حق من ساق الهدى، وإنما تأسف عليه لئلا يشق على أصحابه في بقائه على إحرامه وأمره لهم بالاحلال.
ولهذا - والله أعلم - لما تأمل الامام أحمد هذا السر نص في رواية أخرى عنه على أن التمتع أفضل في حق من لم يسق الهدى، لامره عليه السلام من لم يسق الهدى من أصحابه بالتمتع، وأن القران أفضل في حق من ساق الهدى، كما اختار الله

عزوجل لنبيه صلوات الله وسلامه عليه في حجة الوداع وأمره له بذلك كما تقدم.
والله أعلم.
فصل ثم سار صلوات الله وسلامه عليه بعد فراغه من طوافه بين الصفا والمروة وأمره بالفسخ لمن لم يسق الهدى، والناس معه حتى نزل بالابطح شرقي مكة فأقام هنالك بقية يوم الاحد ويوم الاثنين والثلاثاء والاربعاء حتى صلى الصبح من يوم الخميس، كل ذلك يصلى بأصحابه هنالك ولم يعد إلى الكعبة من تلك الايام كلها.
قال البخاري: باب من لم يقرب الكعبة ولم يطف حتى يخرج إلى عرفة ويرجع بعد الطواف الاول: حدثنا محمد بن أبى بكر، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا موسى بن عقبة، قال أخبرني كريب، عن عبدالله بن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة فطاف سبعا وسعى بين الصفا والمروة، ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة.
انفرد به البخاري.
فصل وقدم - في هذا الوقت ورسول الله صلى الله عليه وسلم منيخ بالبطحاء خارج مكة - على من اليمن.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد بعثه - كما قدمنا - إلى اليمن أميرا بعد خالد بن الوليد رضى الله عنهما.

فلما قدم وجد زوجته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حلت، كما حل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين لم يسوقوا الهدى، واكتحلت ولبست ثيابا صبيغا فقال: من أمرك بهذا ؟ قالت: أبى.
فذهب محرشا عليها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره أنها حلت ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، وزعمت أنك أمرتها بذلك يا رسول الله.
فقال: صدقت صدقت صدقت.
ثم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم أهللت حين أوجبت الحج ؟ قال: بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن معى الهدى فلا تحل.
فكان جماعة الهدى الذى جاء به على من اليمن والذى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة واشتراه في الطريق مائة من الابل، واشتركا في الهدى جميعا.
وقد تقدم هذا كله في صحيح مسلم رحمه الله.
وهذا التقرير يرد الرواية التى ذكرها الحافظ أبو القاسم الطبراني رحمه الله من حديث عكرمة، عن ابن عباس، أن عليا تلقى النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجحفة.
والله أعلم.
وكان أبو موسى في جملة من قدم مع على، ولكنه لم يسق هديا، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحل بعد ما طاف للعمرة وسعى، ففسخ حجه إلى العمرة وصار متمتعا، فكان يفتى بذلك في أثناء خلافة عمر بن الخطاب.
فلما رأى عمر بن الخطاب أن يفرد الحج عن العمرة ترك فتياه مهابة لامير المؤمنين عمر رضى الله عنه وأرضاه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا سفيان، عن عون بن أبى جحيفة، عن أبيه، قال: رأيت بلالا يؤذن ويدور ويتبع فاه هاهنا وهاهنا وإصبعاه في أذنيه.
قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة له حمراء أراها من أدم.
قال: فخرج بلال

بين يديه بالعنزة (1) فركزها فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الرزاق: وسمعته بمكة قال: بالبطحاء يمر بين يديه الكلب والمرأة والحمار وعليه حلة حمراء، كأنى أنظر إلى بريق ساقيه.
قال: سفيان نراها حبرة.
وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن عون بن أبى جحيفة، عن أبيه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالابطح وهو في قبة له حمراء، فخرج بلال بفضل وضوئه، فمن ناضح ونائل.
قال: فأذن بلال، فكنت أتتبع فاه هكذا وهكذا - يعنى يمينا وشمالا - قال: ثم ركزت له عنزة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبة له حمراء أو حلة حمراء، وكأني أنظر إلى بريق ساقيه، فصلى بنا إلى عنزة الظهر أو العصر ركعتين، تمر المرأة والكلب والحمار لا يمنع، ثم لم يزل يصلى ركعتين حتى أتى المدينة.
وقال مرة: فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري.
وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن جعفر ; حدثنا شعبة وحجاج، عن الحكم، سمعت أبا جحيفة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ وصلى الظهر ركعتين وبين يديه عنزة.
وزاد فيه عون عن أبيه، عن أبى جحيفة: وكان يمر من ورائنا الحمار والمرأة.
قال حجاج في الحديث: ثم قام الناس فجعلوا يأخذون يده فيمسحون بها وجوههم قال: فأخذت يده فوضعتها على وجهى فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك.
وقد أخرجه صاحبا الصحيح من حديث شعبة بتمامه.
__________
(1) العنزة: رميح بين العصا والرمح فيه زج.
(*)

فصل فأقام عليه السلام بالابطح - كما قدمنا - يوم الاحد ويوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الاربعاء.
وقد حل الناس إلا من ساق الهدى.
وقدم في هذه الايام على بن أبى طالب من اليمن بمن معه من المسلمين وما معه من الاموال، ولم يعد عليه السلام إلى الكعبة بعد ما طاف بها.
فلما أصبح عليه السلام يوم الخميس صلى بالابطح الصبح من يومئذ، وهو يوم التروية، ويقال له يوم منى لانه يسار فيه إليها.
وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب قبل هذا اليوم، ويقال للذى قبله فيما رأيته في بعض التعاليق يوم الزينة، لانه يزين فيه البدن بالجلال (1) ونحوها فالله أعلم.
قال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أحمد بن محمد بن جعفر الجلودى، حدثنا محمد بن إسماعيل بن مهران، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا أبو قرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب يوم التروية خطب الناس فأخبرهم بمناسكهم.
فركب عليه السلام قاصدا إلى منى قبل الزوال، وقيل بعده، وأحرم الذين كانوا قد حلوا بالحج من الابطح حين توجهوا إلى منى، وانبعثت رواحلهم نحوها.
قال عبدالملك، عن عطاء، عن جابر بن عبدالله، قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحللنا، حتى كان يوم التروية وجعلنا مكة منا بظهر، لبينا بالحج.
ذكره البخاري تعليقا مجزوما.
__________
(1) الجلال: جمع جل، وهو ما تلبسه الدابة لتصان به.
(*)

وقال مسلم: حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، أخبرني أبو الزبير عن جابر، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى.
قال: وأهللنا من الابطح.
وقال عبيد بن جريج لابن عمر: رأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت حتى يوم التروية ؟ فقال: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته.
رواه البخاري في جملة حديث طويل (1).
قال البخاري: وسئل عطاء عن المجاور منى يلبى بالحج.
فقال: كان ابن عمر يلبى يوم التروية إذا صلى الظهر واستوى على راحلته.
قلت: هكذا كان ابن عمر يصنع إذا حج معتمرا، يحل من العمرة، فإذا كان يوم التروية لا يلبى حتى تنبعث به راحلته متوجها إلى منى، كما أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذى الحليفة بعد ما صلى الظهر وانبعثت به راحلته.
لكن يوم التروية لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالابطح، وإنما صلاها يومئذ بمنى، وهذا مما لا نزاع فيه.
* * * قال البخاري: باب أين يصلى الظهر يوم التروية.
حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا إسحاق الازرق، حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، قال: سألت أنس بن مالك قال: قلت: أخبرني بشئ عقلت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين صلى الظهر والعصر يوم التروية ؟ قال: بمنى.
قلت: فأين صلى العصر يوم النفر ؟ قال: بالابطح.
ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك !
__________
(1) الحديث بطوله في صحيح البخاري في كتاب اللباس: باب النعال السبتية ؟ وغيرها.
4 / 25 ط الاميرية (*)

وقد أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق، عن إسحاق بن يوسف الازرق، عن سفيان الثوري به.
وكذلك رواه الامام أحمد عن إسحاق بن يوسف الازرق به.
وقال الترمذي: حسن صحيح يستغرب من حديث الازرق، عن الثوري.
ثم قال البخاري: أنبأنا على، سمع أبا بكر بن عياش، حدثنا عبد العزيز بن رفيع، قال: لقيت أنس بن مالك.
وحدثني إسماعيل بن أبان، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عبد العزيز، قال: خرجت إلى منى يوم التروية فلقيت أنسا ذاهبا على حمار، فقلت: أين صلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا اليوم الظهر ؟ فقال: انظر حيث يصلى أمراؤك فصل.
وقال أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو كدينة، عن الاعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خمس صلوات بمنى.
وقال أحمد أيضا: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا أبو محياة يحيى بن يعلى التيمى، عن الاعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس ] (1)، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم التروية بمنى وصلى الغداة يوم عرفة بها.
وقد رواه أبو داود عن زهير بن حرب، عن أحوص، عن جواب، عن عمار بن رزيق، عن سليمان بن مهران الاعمش به.
ولفظه: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى.
وأخرجه الترمذي عن الاشج، عن عبدالله بن الاجلح، عن الاعمش بمعناه.
وقال: ليس هذا مما عده شعبة فيما سمعه الحكم عن مقسم.
وقال الترمذي: حدثنا أبو سعيد الاشج، حدثنا عبدالله بن الاجلح، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: صلى بنا رسول الله بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم غدا إلى عرفات.
ثم قال: وإسماعيل بن مسلم قد تكلم فيه.
__________
(1) سقط من ا.
(*)

وفى الباب عن عبدالله بن الزبير وأنس بن مالك.
وقال الامام أحمد: حدثنا من رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه راح إلى منى يوم التروية وإلى جانبه بلال بيده عود عليه ثوب يظلل به رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعنى من الحر -.
تفرد به أحمد.
وقد نص الشافعي على أنه عليه السلام ركب من الابطح إلى منى بعد الزوال، ولكنه إنما صلى الظهر بمنى، فقد يستدل له بهذا الحديث.
والله أعلم.
* * * وتقدم في حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدى، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة له من شعر فضربت له بنمرة.
فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس.
وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شئ من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمى، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وكان مسترضعا في بنى سعد فقتلته هذيل.
وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع

كله، واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدى إن اعتصمتم به، كتاب الله، وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال: بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها على الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد.
ثلاث مرات.
وقال أبو عبد الرحمن النسائي: أنبأنا على بن حجر، عن مغيرة، عن موسى بن زياد بن حذيم بن عمرو السعدى، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: " اعلموا أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا كحرمة شهركم هذا كحرمة بلدكم هذا.
وقال أبو داود: باب الخطبة على المنبر بعرفة: حدثنا هناد، عن ابن أبى زائدة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن زيد بن أسلم، عن رجل من بنى ضمرة، عن أبيه أو عمه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر بعرفة.
وهذا الاسناد ضعيف، لان فيه رجلا مبهما.
ثم تقدم في حديث جابر الطويل أنه عليه السلام خطب على ناقته القصواء.
ثم قال أبو داود: حدثنا مسدد، حدثنا عبدالله بن داود، عن سلمة بن نبيط، عن رجل من الحى، عن أبيه نبيط، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة على بعير أحمر يخطب.
وهذا فيه مبهم أيضا، ولكن حديث جابر شاهد له.
ثم قال أبو داود: حدثنا هناد بن السرى وعثمان بن أبى شيبة، قالا: حدثنا وكيع، عن عبدالمجيد بن أبى عمرو، قال: حدثنى العداء بن خالد بن هوذة.
وقال هناد: عن

عبدالمجيد، حدثنى خالد بن العداء بن هوذة، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائما في الركابين.
قال أبو داود: رواه ابن العلاء عن وكيع كما قال هناد.
وحدثنا عباس بن عبد العظيم، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا عبد المجيد أبو عمرو، عن العداء بن خالد بمعناه.
وفى الصحيحين عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: " من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل للمحرم ".
* * * وقال محمد بن إسحاق: حدثنى يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، قال: كان الرجل الذى يصرخ في الناس بقول رسول الله وهو بعرفة ربيعة بن أمية بن خلف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل أيها الناس إن رسول الله يقول: هل تدرون أي شهرا هذا ؟ فيقولون: الشهر الحرام.
فيقول: قل لهم: إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة شهركم هذا.
ثم يقول: قل أيها الناس إن رسول الله يقول هل تدرون أي بلد هذا.
وذكر تمام الحديث.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى ليث بن أبى سليم، عن شهر بن حوشب، عن عمرو بن خارجة، قال: بعثنى عتاب بن أسيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة في حاجة، فبلغته ثم وقفت تحت ناقته وإن لعابها ليقع على رأسي، فسمعته يقول: " أيها الناس إن الله أدى إلى كل ذى حق حقه، وإنه لا تجوز وصية لوارث.
والولد للفراش وللعاهر الحجر، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا ".
ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبدالرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.

قلت: وفيه اختلاف على قتادة.
والله أعلم.
وسنذكر الخطبة التى خطبها عليه السلام بعد هذه الخطبة يوم النحر، وما فيها من الحكم والمواعظ والتفاصيل والآداب النبوية إن شاء الله.
* * * قال البخاري: باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة: حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن محمد بن أبى بكر الثقفى، أنه سأل أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: كان يهل منا المهل فلا ينكر عليه ويكبر المكبر منا فلا ينكر عليه.
وأخرجه مسلم من حديث مالك وموسى بن عقبة، كلاهما عن محمد بن أبى بكر بن عوف بن رباح الثقفى الحجازى، عن أنس به.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبدالله، أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج بن يوسف أن يأتم بعبدالله بن عمر في الحج، فلما كان يوم عرفة جاء ابن عمر وأنا معه حين زاغت الشمس - أو زالت الشمس - فصاح عند فسطاطه: أين هذا ؟ فخرج إليه.
فقال ابن عمر: الرواح.
فقال: الآن ؟ قال: نعم.
فقال: أنظرني حتى أفيض على ماء.
فنزل ابن عمر حتى خرج، فسار بينى وبين أبى فقلت (1): إن كنت تريد أن تصيب السنة اليوم فاقصر الخطبة وعجل الوقوف فقال ابن عمر: صدق.
ورواه البخاري أيضا عن القعنبى عن مالك.
وأخرجه النسائي من حديث أشهب وابن وهب، عن مالك.
ثم قال البخاري، بعد روايته هذا الحديث: وقال الليث: حدثنى عقيل، عن ابن
__________
(1) القائل: سالم بن عبدالله للحجاج بن يوسف.
(*)

شهاب، عن سالم، أن الحجاج عام نزل بابن الزبير سأل عبدالله: كيف تصنع في هذا الموقف ؟ فقال: إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة.
فقال ابن عمر: صدق، إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة.
فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: هل يبتغون بذلك إلا سنة ؟ ! وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا يعقوب، حدثنا أبى عوف، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا من منى حين صلى الصبح صبيحة يوم عرفة فنزل بنمرة وهى منزل الامام الذى ينزل به بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا، فجمع بين الظهر والعصر.
وهكذا ذكر جابر في حديثه بعد ما أورد الخطبة المتقدمة قال: ثم أذن بلال ثم أقام، فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا.
وهذا يقتضى أنه عليه السلام خطب أولا ثم أقيمت الصلاة، ولم يتعرض للخطبة الثانية.
وقد قال الشافعي: أنبأنا إبراهيم بن محمد وغيره، عن جعفر بن محمد، عن أبيه وعن جابر في حجة الوداع (1)، قال: فراح النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموقف بعرفة فخطب الناس الخطبة الاولى ثم أذن بلال ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة وبلال من الاذان، ثم أقام بلال فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر.
قال البيهقى: تفرد به إبراهيم بن محمد بن أبى يحيى.
قال مسلم: عن جابر: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل جبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث
عن بكير، عن كريب، عن ميمونة، أن الناس شكوا في صيام النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ا: حجة الاسلام.
(*)

فأرسلت إليه بحلاب (1) وهو واقف في الموقف، فشرب منه والناس ينظرون.
وأخرجه مسلم عن هارون بن سعيد الايلى، عن ابن وهب به.
وقال البخاري: أنبأنا عبدالله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن أبى النضر مولى عمر بن عبيدالله، عن عمير مولى ابن عباس، عن أم الفضل بنت الحارث، أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صوم النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم.
وقال بعضهم: ليس بصائم.
فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه.
ورواه مسلم من حديث مالك أيضا.
وأخرجاه من طرق أخر عن أبى النضر به.
قلت: أم الفضل هي أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وقصتهما واحدة.
والله أعلم.
وصح إسناد الارسال إليها، لانه من عندها، اللهم إلا أن يكون بعد ذلك أو تعدد الارسال من هذه ومن هذه.
والله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، قال: لا أدرى أسمعته من سعيد ابن جبير أم عن بنيه عنه، قال: أتيت على ابن عباس وهو بعرفة وهو يأكل رمانا، وقال: أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة وبعثت إليه أم الفضل بلبن فشربه.
وقال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا ابن أبى ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس: أنهم تماروا في صوم النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فأرسلت أم فضل إلى رسول الله بلبن فشربه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق وأبو بكر، قالا: أنبأنا ابن جريج، قال: قال عطاء: دعا عبدالله بن عباس الفضل بن عباس إلى الطعام يوم عرفة، فقال: إنى صائم.
فقال عبدالله: لا تصم فإن رسول الله قرب إليه حلاب فيه لبن يوم عرفة فشرب منه، فلا تصم
فإن الناس مستنون بكم.
وقال ابن بكير وروح: إن الناس يستنون بكم.
__________
(1) الحلاب: إناء يحلب فيه.
(*)

وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: قال: بينا رجل واقف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته أو قال فأوقصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تمسوه طيبا ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا ".
ورواه مسلم عن أبى الربيع الزهراني عن حماد بن زيد.
وقال النسائي: أنبأنا إسحاق بن إبراهيم، هو ابن راهويه، أخبرنا وكيع، أنبأنا سفيان الثوري، عن بكير بن عطاء، عن عبدالرحمن بن يعمر الديلى، قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، وأتاه أناس من أهل نجد فسألوه عن الحج، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه ".
وقد رواه بقية أصحاب السنن من حديث سفيان الثوري.
زاد النسائي وشعبة عن بكير ابن عطاء به.
وقال النسائي: أنبأنا قتيبة، أنبأنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبرني عمرو بن عبدالله ابن صفوان أن يزيد بن شيبان قال: كنا وقوفا بعرفة مكانا بعيدا من الموقف، فأتانا ابن مربع الانصاري فقال: إنى رسول رسول الله إليكم يقول، لكم: " كونوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم ".
وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، من حديث سفيان بن عيينة به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن ولا نعرفه إلا من حديث ابن عيينة عن عمرو بن دينار.
وابن مربع اسمه زيد بن مربع الانصاري، وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد.
قال: وفى الباب عن على وعائشة وجبير بن مطعم والشريد بن سويد.
وقد تقدم

من رواية مسلم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف: زاد مالك في موطئه: وارفعوا عن بطن عرفة.
فصل فيما حفظ من دعائه عليه السلام وهو واقف بعرفة قد تقدم أنه عليه السلام أفطر يوم عرفة، فدل على أن الافطار هناك أفضل من الصيام، لما فيه من التقوى على الدعاء، لانه المقصود الاهم هناك.
ولهذا وقف عليه السلام وهو راكب على الراحلة من لدن الزوال إلى أن غربت الشمس.
وقد روى أبو داود الطيالسي في مسنده، عن حوشب بن عقيل، عن مهدى الهجرى، عن عكرمة، عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدى، حدثنا حوشب بن عقيل، حدثنى مهدى المحاربي، حدثنى عكرمة مولى ابن عباس، قال: دخلت على أبى هريرة في بيته فسألته عن صوم يوم عرفة بعرفات، فقال: نهى رسول لله صلى الله عليه وسلم عن صوم عرفة بعرفات.
وقال عبدالرحمن مرة: عن مهدى العبدى.
وكذلك رواه أحمد عن وكيع، عن حوشب، عن مهدى العبدى فذكره.
وقد رواه أبو داود عن سليمان بن حرب، عن حوشب، والنسائي عن سليمان بن معبد، عن سليمان بن حرب به.
وعن الفلاس عن ابن مهدى به.
وابن ماجه عن أبى بكر بن
أبى شيبة وعلى بن محمد، كلاهما عن وكيع، عن حوشب.

وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبى عمرو، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أبو أسامة الكلبى، حدثنا حسن بن الربيع، حدثنا الحارث بن عبيد، عن حوشب بن عقيل، عن مهدى الهجرى، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة بعرفة.
قال البيهقى: كذا قال الحارث بن عبيد، والمحفوظ: عن عكرمة عن أبى هريرة وروى أبو حاتم محمد بن حبان البستى، في صحيحه عن عبدالله بن عمرو، أنه سئل عن صوم يوم عرفة فقال: حججت مع رسول الله فلم يصمه، ومع أبى بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، وأنا فلا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه.
* * * قال الامام مالك عن زياد بن أبى زياد مولى ابن عباس، عن طلحة بن عبيدالله بن كريز، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ".
قال البيهقى: هذا مرسل.
وقد روى عن مالك بإسناد آخر موصولا، وإسناده ضعيف.
وقد روى الامام أحمد والترمذي، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلى، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير ".
وللامام أحمد أيضا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كان أكثر
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له،

له الملك وله الحمد، وهو على كل شئ قدير ".
وقال أبو عبدالله بن مندة، أنبأنا أحمد بن إسحاق بن أيوب النيسابوري، حدثنا أحمد بن داود بن جابر الاحمسي، حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي، حدثنا فرج ابن فضالة، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعائي ودعاء الانبياء قبلى عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ".
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، يعنى ابن عبد ربه الجرجى، حدثنا بقية بن الوليد، حدثنى جبير بن عمرو القرشى، عن أبى سعيد الانصاري، عن أبى يحيى مولى آل الزبير ابن العوام، عن الزبير بن العوام رضى الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية: " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب.
* * * وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في مناسكه: حدثنا الحسن بن مثنى بن معاذ العنبري حدثنا عفان بن مسلم، حدثنا قيس بن الربيع، عن الاغر بن الصباح، عن خليفة، عن على، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل ما قلت أنا والانبياء قبلى عشية عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير ".
وقال الترمذي في الدعوات: حدثنا محمد بن حاتم المؤدب، حدثنا على بن ثابت، حدثنا قيس بن الربيع، وكان من بنى أسد، عن الاغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن على رضى الله عنه، قال: كان أكثر ما دعا به رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم عرفة في الموقف: " اللهم لك الحمد كالذى نقول وخيرا مما نقول، اللهم لك

صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي ولك رب تراثي، أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الامر، اللهم إنى أعوذ بك من شر ما تهب به الريح ".
ثم قال: غريب من هذا الوجه، وليس إسناده بالقوى.
وقد رواه الحافظ البيهقى من طريق موسى بن عبيدة، عن أخيه عبدالله بن عبيدة، عن على قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أكثر دعاء من كان قبلى ودعائي يوم عرفة أن أقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، اللهم اجعل في بصرى نورا وفى سمعي نورا وفى قلبى نورا.
اللهم اشرح لى صدري ويسر لى أمرى، اللهم إنى أعوذ بك من وسواس الصدر وشتات الامر وشر فتنة القبر وشر ما يلج في الليل وشر ما يلج في النهار وشر ما تهب به الرياح وشر بوائق الدهر ".
ثم قال: تفرد به موسى بن عبيدة، وهو ضعيف وأخوه عبدالله لم يدرك عليا.
وقال الطبراني في مناسكه: حدثنا يحيى بن عثمان النصرى، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا يحيى بن صالح الايلى، عن إسماعيل بن أمية، عن عطاء بن أبى رباح، عن ابن عباس قال: كان فيما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: " اللهم إنك تسمع كلامي وترى مكاني وتعلم سرى وعلانيتي، ولا يخفى عليك شئ من أمرى، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته وفاضت لك عبرته، وذل لك جسده ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا وكن بى رؤوفا رحيما، ياخير المسئولين وياخير المعطين ".
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم، أنبأنا عبدالملك، حدثنا عطاء، قال: قال
أسامة بن زيد: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، فرفع يديه يدعو،

فمالت به ناقته فسقط خطامها.
قال: فتناول الخطام بإحدى يديه وهو رافع يده الاخرى.
وهكذا رواه النسائي عن يعقوب بن إبراهيم، عن هشيم.
وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا على بن الحسن، حدثنا عبدالمجيد بن عبد العزيز، حدثنا ابن جريج، عن حسين ابن عبدالله الهاشمي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة يداه إلى صدره كاستطعام المسكين.
* * * وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا عبدالقاهر بن السرى، حدثنى ابن لكنانة بن العباس بن مرداس، عن أبيه، عن جده عباس بن مرداس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لامته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء، فأوحى الله إليه: إنى قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا، وأما ذنوبهم فيما بينى وبينهم فقد غفرتها.
فقال: يا رب إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم، فلم يجبه تلك العشية.
فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء، فأجابه الله تعالى: إنى قد غفرت لهم (1).
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها ؟ قال: تبسمت من عدو الله إبليس، إنه لما علم أن الله عزوجل قد استجاب لى في أمتى أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه.
__________
(1) ذكر الزرقاني في شرح المواهب 8 / 189 أن ابن حجر صنف في هذا الحديث كراسا سماه: " قوة
الحجاج في عموم لمغفرة للحجاج " ثم قال: وأورده ابن الجوزى في الموضوعات من حديث ابن مرداس.
وقال الطبري: إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها.
(*)

ورواه أبو داود السجستاني في سننه، عن عيسى بن إبراهيم البركى وأبى الوليد الطيالسي، كلاهما عن عبدالقاهر بن السرى، عن ابن لكنانة بن عباس بن مرداس، عن أبيه عن جده.
مختصرا.
ورواه ابن ماجه، عن أيوب بن محمد الهاشمي بن عبدالقاهر بن السرى، عن عبدالله بن كنانة بن عباس، عن أبيه عن جده به.
مطولا.
ورواه ابن جرير في تفسيره عن إسماعيل بن سيف العجلى، عن عبد القاهر ابن السرى، عن ابن لكنانة، يقال له أبو لبابة، عن أبيه عن جده العباس بن مرداس فذكره.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبرى (1)، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عمن سمع قتادة يقول: حدثنا جلاس بن عمرو، عن عبادة ابن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: " أيها الناس إن الله تطول عليكم في هذا اليوم فغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم.
وأعطى محسنكم ما سأل، فادفعوا باسم الله ".
فلما كانوا بجمع قال: " إن الله قد غفر لصالحكم وشفع صالحيكم في طالحيكم، تنزل الرحمة فتعمهم ثم تفرق الرحمة في الارض فتقع على كل تائب ممن حفظ لسانه ويده.
وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم ; فإذا نزلت الرحمة دعا هو وجنوده بالويل والثبور، كنت أستفزهم حقبا من الدهر [ خوف ] (2) المغفرة فغشيتهم.
فيتفرقون يدعون بالويل والثبور.
__________
(1) نسبة إلى دبر: قرية باليمن.
(2) بياض بالاصل.
(*)

ذكر ما نزل على رسول الله من الوحى المنيف في هذا الموقف الشريف قال الامام أحمد: حدثنا جعفر بن عون، حدثنا أبو العميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرءون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا.
قال: وأى آية هي ؟ قال: قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ".
فقال عمر: والله إنى لاعلم اليوم الذى نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التى نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة.
ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح، عن جعفر بن عون.
وأخرجه أيضا ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن قيس بن مسلم به.

ذكر إفاضته عليه السلام من عرفات إلى المشعر الحرام قال جابر في حديثه الطويل: فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا قليلا حين غاب القرص، فأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق لناقته القصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رجله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة.
كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا.
ورواه مسلم.
وقال البخاري: باب السير إذا دفع من عرفة.
حدثنا عبدالله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سئل أسامة وأنا جالس: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يسير في حجة الوداع حين دفع ؟ قال: كان يسير العنق (1) فإذا وجد فجوة نص.
قال هشام: - والنص - فوق العنق.
ورواه الامام أحمد وبقية الجماعة إلا الترمذي من طرق عدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن أسامة بن زيد به.
وقال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن أسامة بن زيد، قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة.
قال: فلما وقعت الشمس دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع حطمة (2) الناس خلفه قال: رويدا أيها الناس، عليكم السكينة إن البر ليس بالايضاع (3).
__________
(1) العنق: نوع من سير الابل فيه إسراع.
(2) الحطمة: ازدحام الناس ودفع بعضهم بعضا.
(3) الايضاع: الاسراع.
(*)

قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التحم عليه الناس أعنق وإذا وجد فرجة نص، حتى أتى المزدلفة فجمع فيها بين الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة.
ثم رواه الامام أحمد من طريق محمد بن إسحاق، حدثنى إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن أسامة بن زيد، فذكر مثله.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد، قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وأنا رديفه، فجعل يكبح راحلته حتى إن ذفراها (1) ليكاد
يصيب قادمة الرحل.
ويقول: " يا أيها الناس عليكم السكينة والوقار، فإن البر ليس في إيضاع الابل ".
وكذا رواه عن عفان، عن حماد بن سلمة به، ورواه النسائي من حديث حماد بن سلمة به.
ورواه مسلم عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هارون، عن عبدالملك بن أبى سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس، عن أسامة بنحوه.
قال: وقال أسامة: فما زال يسير على هيئته حتى أتى جمعا.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا أحمد بن الحجاج، حدثنا ابن أبى فديك، عن ابن أبى ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد، أنه ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة حتى دخل الشعب، ثم أهراق الماء وتوضأ، ثم ركب ولم يصل.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا همام، عن قتادة، عن عروة، عن الشعبى، عن أسامة بن زيد، أنه حدثه قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من عرفات، فلم ترفع راحلته رجلها غادية حتى بلغ جمعا.
__________
(1) الذفرى: العظم الشاخص خلف الاذن.
(*)

وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس، أخبرني أسامة بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه من عرفة، فلما أتى الشعب نزل فبال، ولم يقل أهراق الماء، فصببت عليه فتوضأ وضوءا خفيفا فقلت: الصلاة ؟ فقال: الصلاة أمامك.
قال: ثم أتى المزدلفة فصلى المغرب، ثم حلوا رحالهم وأعنته ثم صلى العشاء.
كذا رواه الامام أحمد عن كريب، عن ابن عباس عن أسامة بن زيد، فذكره.
ورواه النسائي عن الحسين بن حريث (1)، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن عقبة ومحمد ابن أبى حرملة، كلاهما عن كريب، عن ابن عباس، عن أسامة.
قال شيخنا أبو الحجاج المزى في أطرافه: والصحيح: كريب عن أسامة.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن أسامة بن زيد، أنه سمعه يقول: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، فنزل الشعب فبال ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة ؟ فقال: الصلاة أمامك.
فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى العشاء ولم يصل بينهما.
وهكذا رواه البخاري أيضا عن القعنبى، ومسلم عن يحيى بن يحيى، والنسائي عن قتيبة عن مالك، عن موسى بن عقبة به.
وأخرجاه من حديث يحيى بن سعيد الانصاري، عن موسى بن عقبة أيضا.
ورواه مسلم من حديث إبراهيم بن عقبة ومحمد بن عقبة، عن كريب، كنحو رواية أخيهما موسى بن عقبة عنه.
وقال البخاري أيضا: حدثنا قتيبة، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن أبى حرملة، عن كريب، عن أسامة بن زيد، أنه قال: ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما
__________
(1) الحديث في سنن النسائي 2 / 46: حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان.
(*)

بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعب الايسر الذى دون المزدلفة أناخ فبال ; ثم جاء فصببت عليه الوضوء فتوضأ وضوءا خفيفا.
فقلت: الصلاة يا رسول الله ؟ قال: الصلاة أمامك ; فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة ; فصلى ثم ردف الفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع.
قال كريب: فأخبرني عبدالله بن عباس عن الفضل ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبى حتى بلغ الجمرة.
ورواه مسلم عن قتيبة ويحيى بن يحيى.
ويحيى بن أيوب ; وعلى بن حجر ; أربعتهم عن إسماعيل بن جعفر به.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عمر بن ذر ; عن مجاهد عن أسامة بن زيد ; أن رسول الله أردفه من عرفة.
قال: فقال الناس: سيخبرنا صاحبنا ما صنع.
قال: فقال أسامة: لما دفع من عرفة فوقف كف رأس راحلته حتى أصاب رأسها واسطة الرحل أو كاد يصيبه، يشير إلى الناس بيده: السكينة السكينة السكينة.
حتى أتى جمعا ثم أردف الفضل بن عباس، قال فقال الناس: سيخبرنا صاحبنا بما صنع رسول الله.
فقال الفضل: لم يزل يسير سيرا لينا كسيره بالامس، حتى أتى على وادى محسر فدفع فيه حتى استوت به الارض.
وقال البخاري: حدثنا سعيد بن أبى مريم، حدثنا إبراهيم بن سويد، حدثنى عمرو ابن أبى عمرو مولى المطلب، أخبرني سعيد بن جبير مولى والبة الكوفى، حدثنى ابن عباس أنه دفع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم وراءه زجزا شديدا وضربا للابل فأشار بسوطه إليهم وقال: " أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالايضاع ".
تفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقد تقدم رواية الامام أحمد ومسلم والنسائي

هذا من طريق عطاء بن أبى رباح، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد.
فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل بن عمر، حدثنا المسعودي، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: لما أفاض رسول الله من عرفات أوضع الناس، فأمر رسول الله مناديا ينادى: أيها الناس ليس البر بإيضاع الخيل ولا الركاب.
قال: فما رأيت من رافعة يديها غادية حتى نزل جمعا.
وقال الامام أحمد: حدثنا حسين وأبو نعيم، قالا: حدثنا إسرائيل، عن عبد العزيز ابن رفيع، قال: حدثنى من سمع ابن عباس يقول: لم ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات وجمع إلا أريق الماء.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبدالملك، عن أنس بن سيرين، قال: كنت مع ابن عمر بعرفات، فلما كان حين راح رحت معه حتى الامام، فصلى معه الاولى والعصر، ثم وقف وأنا وأصحاب لى حتى أفاض الامام فأفضنا معه، حتى انتهينا إلى المضيق دون المأزمين (1) فأناخ وأنخنا، ونحن نحسب أنه يريد أن يصلى، فقال غلامه الذى يمسك راحلته: إنه ليس يريد الصلاة، ولكنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى هذا المكان قضى حاجته، فهو يحب أن يقضى حاجته.
وقال البخاري: حدثنا موسى، حدثنا جويرية، عن نافع، قال: كان عبدالله بن عمر يجمع بين المغرب والعشاء بجمع، غير أنه يمر بالشعب الذى أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيدخل فينتفض ويتوضأ ولا يصلى حتى يجئ جمعا.
تفرد به البخاري رحمه الله من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا آدم بن أبى ذئب، عن الزهري، عن سالم بن عبدالله، عن ابن عمر، قال: جمع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء بجمع، كل واحدة منهما
__________
(1) المأزمان مضيق بين جمع وعرفة، وآخر بين مكة ومنى.
(*)

بإقامة، ولم يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما.
ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعا.
ثم قال مسلم: حدثنى حرملة، حدثنى ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب أن عبيدالله بن عبدالله بن عمر أخبره أن أباه قال: جمع رسول الله بين المغرب والعشاء
بجمع ليس بينهما سجدة، فصلى المغرب ثلاث ركعات وصلى العشاء ركعتين.
فكان عبدالله يصلى بجمع كذلك حتى لحق بالله.
ثم روى مسلم من حديث شعبة عن الحكم، وسلمة بن كهيل، عن سعيد بن جبير، أنه صلى المغرب بجمع والعشاء بإقامة واحدة.
ثم حدث عن ابن عمر أنه صلى مثل ذلك.
وحدث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ذلك.
ثم رواه من طريق الثوري، عن سلمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة.
ثم قال مسلم: حدثنا أبو بكر ابن أبى شيبة، حدثنا عبدالله بن جبير، حدثنا إسماعيل ابن أبى خالد، عن أبى إسحاق، قال: قال سعيد بن جبير: أفضنا مع ابن عمر، حتى أتينا جمعا فصلى بنا المغرب والعشاء بإقامة واحدة، ثم انصرف فقال: هكذا صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المكان.
وقال البخاري: حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال، حدثنى يحيى بن سعيد، حدثنى عدى بن ثابت، حدثنى عبدالله بن يزيد الخطمى، حدثنى أبو يزيد الانصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في حجة الوداع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة.
ورواه البخاري أيضا في المغازى عن القعنبى، عن مالك، ومسلم من حديث سليمان

ابن بلال والليث بن سعد، ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن عدى بن ثابت.
ورواه النسائي أيضا عن الفلاس عن يحيى القطان عن شعبة عن عدى بن ثابت به.
ثم قال البخاري: باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما: حدثنا عمرو بن خالد، حدثنا زهير بن حرب، حدثنا أبو إسحاق، سمعت عبدالرحمن
ابن يزيد يقول: حج عبدالله فأتينا المزدلفة حين الاذان بالعتمة أو قريبا من ذلك، فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى المغرب وصلى بعدها ركعتين، ثم دعا بعشائه فتعشى ثم أمر أرى رجلا فأذن وأقام.
قال عمرو: لا أعلم الشك إلا من زهير.
ثم صلى العشاء ركعتين فلما طلع الفجر قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلى هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم.
قال عبدالله: هما صلاتان تحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر.
قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.
وهذا اللفظ وهو قوله: " والفجر حين يبزغ الفجر " أبين وأظهر من الحديث الآخر الذى رواه البخاري عن حفص بن عمر بن غياث، عن أبيه، عن الاعمش، عن عمارة عن عبدالرحمن عن عبدالله بن مسعود قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة بغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء وصلاة الفجر قبل ميقاتها.
ورواه مسلم من حديث أبى معاوية وجرير عن الاعمش به.
وقال جابر في حديثه: ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة.
وقد شهد معه هذه الصلاة عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائى.
قال الامام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا ابن أبى خالد وزكريا، عن الشعبى، أخبرني

عروة بن مضرس، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بجمع فقلت: يا رسول الله جئتك من جبلى طيئ أتعبت نفسي وأنضيت راحلتي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لى من حج ؟ فقال: من شهد معنا هذه الصلاة يعنى صلاة الفجر بجمع ووقف معنا حتى يفيض منه، وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا، فقد تم حجه وقضى تفثه (1).
وقد رواه الامام أحمد أيضا وأهل السنن الاربعة من طرق، عن الشعبى، عن عروة ابن مضرس.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
فصل وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم طائفة من أهله بين يديه من الليل قبل حطمة الناس من المزدلفة إلى منى.
قال البخاري: باب من قدم ضعفه أهله بالليل، فيقفون بالمزدلفة ويدعون ويقدم إذا غاب القمر.
حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: قال سالم: كان عبدالله بن عمر يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بليل، فيذكرون الله ما بدا لهم، ثم يدفعون قبل أن يقف الامام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة.
وكان ابن عمر يقول: أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع بليل.
__________
(1) التفث: الشعث، وما كان من نحو قص الاظفار والشارب وحلق العانة وغير ذلك.
(*)

وقال البخاري: حدثنا على بن عبدالله، حدثنا سفيان، أخبرني عبدالله بن أبى يزيد، سمع ابن عباس يقول: أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله.
وروى مسلم من حديث ابن جريج، أخبرني عطاء، عن ابن عباس، قال: بعث بى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع بسحر مع ثقله.
وقال الامام أحمد: حدثنا روح حدثنا سفيان الثوري، حدثنا سلمة بن كهيل، عن
الحسن العرنى، (1) عن ابن عباس، قال: قدمنا رسول الله أغيلمة بنى عبدالمطلب على حراثنا فجعل يلطح (2) أفخاذنا بيده ويقول: أبنى لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس.
قال ابن عباس: ما أخال أحدا يرمى الجمرة حتى تطلع الشمس.
وقد رواه أحمد أيضا عن عبدالرحمن بن مهدى، عن سفيان الثوري فذكره.
وقد رواه أبو داود، عن محمد بن كثير، عن الثوري به.
والنسائي عن محمد بن عبدالله بن يزيد، عن سفيان بن عيينة، عن سفيان الثوري به.
وأخرجه بن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة، وعلى بن محمد، كلاهما عن وكيع، عن مسعر وسفيان الثوري، كلاهما عن سلمة بن كهيل به.
وقال أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا أبو الأحوص، عن الاعمش، عن الحكم ابن عيينة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: مر بنا رسول الله لية النحر وعلينا سواد من الليل، فجعل يضرب أفخاذنا ويقول: أبنى أفيضوا لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس.
ثم رواه الامام أحمد من حديث المسعودي، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس،
__________
(1) نسب إلى عرينة بن نذير..بطن من بجيلة.
اللباب 2 / 133.
(2) يلطح: يضرب ببطن كفه.
(*)

قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضعفة أهله من المزدلفة بليل، فجعل يوصيهم أن لا يرموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس.
وقال أبو داود: حدثنا عثمان ابن أبى شيبة، حدثنا الوليد بن عقبة، حدثنا حمزة الزيات بن حبيب، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفة أهله بغلس (1) ويأمرهم - يعنى أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس -.
وكذا رواه النسائي عن محمود بن غيلان، عن بشر بن السرى، عن سفيان، عن
حبيب.
قال الطبراني: وهو ابن أبى ثابت.
عن عطاء، عن ابن عباس.
فخرج حمزة الزيات من عهدته وجاد إسناد الحديث.
والله أعلم.
* * * وقد قال البخاري: حدثنا مسدد، عن يحيى، عن ابن جريج، حدثنى عبدالله مولى أسماء، عن أسماء، أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلى فصلت ساعة ثم قالت: يا بنى هل غاب القمر ؟ قلت: لا.
فصلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر ؟ قلت: نعم.
قالت: فارتحلوا.
فارتحلنا فمضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: ياهنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا.
فقالت: يا بنى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن.
ورواه مسلم من حديث ابن جريج به.
فإن كانت أسماء بنت الصديق رمت الجمار قبل طلوع الشمس، كما ذكر هاهنا، عن توقيف فروايتها مقدمة على رواية ابن عباس، لان إسناد حديثها أصح من إسناد حديثه، اللهم إلا أن يقال: إن الغلمان أخف حالا من النساء وأنشط، فلهذا أمر الغلمان بأن لا يرموا قبل طلوع الشمس وأذن للظعن في الرمى قبل طلوع الشمس، لانهم أثقل حالا وأبلغ في التستر.
والله أعلم.
__________
(1) الغلس: ظلمة آخر الليل.
(*)

وإن كانت أسماء لم تفعله عن توقيف، فحديث ابن عباس مقدم على فعلها.
لكن يقوى الاول قول أبى داود: حدثنا محمد بن خلاد الباهلى، حدثنا يحيى، عن ابن جريج، أخبرني عطاء، أخبرني مخبر عن أسماء، أنها رمت الجمرة بليل.
قلت: إنا رمينا الجمرة بليل.
قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا أفلح بن حميد، عن القاسم، عن محمد،
عن عائشة، قالت: نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس، وأقمنا نحن حتى أصبحنا، ثم دفعنا بدفعه فلان أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلى من مفروح به.
وأخرجه مسلم عن القعنبى عن أفلح بن حميد به.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان الثوري عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة به.
وقال أبو داود: حدثنا هارون بن عبدالله، حدثنا ابن أبى فديك، عن الضحاك - يعنى ابن عثمان - عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود - يعنى عندها -.
انفرد به أبو داود، وهو إسناد جيد قوى رجاله ثقات.
ذكر تلبيته عليه السلام بالمزدلفة قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن كثير بن مدرك، عن عبدالرحمن بن يزيد، قال: قال عبدالله ونحن بجمع: سمعت الذى أنزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المقام: لبيك اللهم لبيك.

فصل في وقوفه عليه السلام بالمشعر الحرام، ودفعه من المزدلفة قبل طلوع الشمس وإيضاعه في وادى محسر قال الله تعالى: " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام (1) " الآية وقال جابر في حديثه: فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب
القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا الله عزوجل وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، ودفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن عباس وراءه.
وقال البخاري: حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا شعبة، عن ابن إسحاق، قال: سمعت عمرو بن ميمون يقول: شهدت عمر صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون أشرق ثبير، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض قبل أن تطلع الشمس.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عبدالرحمن بن يزيد، قال: خرجت مع عبدالله إلى مكة ثم قدمنا جمعا، فصلى صلاتين كل صلاة وحدها بأذان وإقامة والعشاء بينهما، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، قائل يقول: طلع الفجر.
وقائل يقول: لم يطلع الفجر.
ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان: المغرب فلا تقدم الناس جمعا حتى يقيموا، وصلاة الفجر هذه الساعة.
ثم وقف حتى أسفر ثم قال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السنة.
فلا أدرى: أقوله كان أسرع أو دفع عثمان، فلم يزل
__________
(1) سورة البقرة 198.
(*)

يلبى حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر.
* * * وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا عبدالرحمن بن المبارك العبسى، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن المسور بن مخرمة، قال: خطبنا رسول الله بعرفة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد فإن
أهل الشرك والاوثان كانوا يدفعون من هاهنا عند غروب الشمس حتى تكون الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم.
وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رءوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم ".
قال: ورواه عبدالله بن إدريس، عن ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو خالد سليمان بن حيان، سمعت الاعمش، عن الحكم عن مقسم، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من المزدلفة قبل طلوع الشمس.
وقال البخاري: حدثنا زهير بن حرب، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبى، عن يونس الايلى، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عباس، أن أسامة كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى.
قال: فكلاهما قال: لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبى حتى رمى جمرة العقبة.
ورواه ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس.
وروى مسلم من حديث الليث بن سعد، عن أبى الزبير، عن أبى معبد، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال في عشية

عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا: عليكم بالسكينة.
وهو كاف ناقته حتى دخل محسرا وهو من منى.
قال: عليكم بحصى الخذف الذى يرمى به الجمرة.
قال: ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبى حتى رمى الجمرة.
* * * وقال الحافظ البيهقى: باب الايضاع في وادى محسر (1).
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عمرو المقرى وأبو بكر الوراق، أنبأنا الحسن بن سفيان، حدثنا هشام بن عمار
وأبو بكر بن أبى شيبة، قالا: حدثنا حاتم بن اسماعيل، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر في حج النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: حتى إذا أتى محسرا حرك قليلا.
رواه مسلم في الصحيح، عن أبى بكر بن شيبة.
ثم روى البيهقى من حديث سفيان الثوري، عن أبى الزبير، عن جابر قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وأمرهم بالسكينة وأوضع في وادى محسر، وأمرهم أن يرموا الجمار بمثل حصى الخذف.
وقال: خذوا عنى مناسككم، لعلى لا أراكم بعد عامى هذا.
ثم روى البيهقى من حديث الثوري، عن عبدالرحمن بن الحارث، عن زيد بن على، عن أبيه، عن عبيدالله بن أبى رافع، عن على، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من جمع حتى أتى محسرا، فقرع ناقته حتى جاوز الوادي فوقف، ثم أردف الفضل ثم أتى الجمرة فرماها.
هكذا رواه مختصرا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو أحمد محمد بن عبدالله الزبيري، حدثنا سفيان بن عبدالرحمن بن الحارث بن عياش بن أبى ربيعة، عن زيد بن على، عن أبيه، عن
__________
(1) محسر: واد قرب المزدلفة.
(*)

عبيدالله بن أبى رافع، عن على قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: هذا الموقف وعرفة كلها موقف.
وأفاض حين غابت الشمس وأردف أسامة، فجعل يعنق على بعيره، والناس يضربون يمينا وشمالا، لا يلتفت إليهم، ويقول: السكينة أيها الناس.
ثم أتى جمعا فصل بهم الصلاتين، المغرب والعشاء، ثم بات حتى أصبح ثم أتى قزح (1) فوقف على قزح فقال: هذا الموقف وجمع كلها موقف.
ثم سار حتى أتى محسرا فوقف
عليه فقرع دابته فخبت حتى جاز الوادي ثم حبسها، ثم أردف الفضل وسار حتى أتى الجمرة فرماها ثم أتى المنحر فقال: هذا المنحر ومنى كلها منحر.
قال: واستفتته جارية شابة من خثعم فقالت: إن أبى شيخ كبير قد أفند (2) وقد أدركته فريضة الله في الحج، فهل يجزئ عنه أن أؤدى عنه ؟ قال: نعم.
فأدى عن أبيك.
قال: ولوى عنق الفضل، فقال له العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك ؟ قال: " رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما ".
قال: ثم جاءه رجل فقال: يا رسول الله حلقت قبل أن أنحر.
قال: انحر ولا حرج.
ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله إنى أفضت قبل أن أحلق.
قال: أحلق أو قصر ولا حرج.
ثم أتى البيت فطاف ثم أتى زمزم فقال: يا بنى عبدالمطلب سقايتكم، ولولا أن يغلبكم الناس عليها لنزعت معكم.
وقد رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن آدم، عن سفيان الثوري.
ورواه الترمذي عن بندار، عن أبى أحمد الزبيري.
وابن ماجه عن على بن محمد عن يحيى ابن آدم.
وقال الترمذي: حسن صحيح لا نعرفه من حديث على إلا من هذا الوجه.
__________
(1) قزح: جبل بالمزدلفة.
(2) أفند: أنكر عقله وأخطأ في رأيه لهرمه.
(*)

قلت: وله شواهد من وجوه صحيحة مخرجة في الصحاح وغيرها.
فمن ذلك: قصة الخثعمية، وهو في الصحيحين من طريق الفضل، وتقدمت في حديث جابر.
وسنذكر من ذلك ما تيسر.
وقد حكى البيهقى بإسناده عن ابن عباس أنه أنكر الاسراع في وادى محسر وقال: إنما كان ذلك من الاعراب.
قال: والمثبت مقدم على النافي.
قلت: وفى ثبوته عنه نظر والله أعلم.
وقد صح ذلك عن جماعة من الصحابة عن رسول الله، وصح من صنيع الشيخين أبى بكر وعمر أنهما كانا يفعلان ذلك، فروى البيهقى عن الحاكم عن النجاد وغيره، عن أبى على محمد بن معاذ بن المستهل المعروف بدران، عن القعنبى، عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن المسور بن مخرمة، أن عمر كان يوضع ويقول: إليك تعدو قلقا وضينها * مخالفا دين النصارى دينها (1)
__________
(1) الوضين: حزام الرحل.
والقلق: المتسع، كناية عن هزال الناقة.
(*)

ذكر رميه عليه السلام جمرة العقبة وحدها يوم النحر، وكيف رماها ومتى رماها، ومن أي موضع رماها وبكم رماها، وقطعه التلبية حين رماها قد تقدم من حديث أسامة والفضل وغيرهما من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين أنه عليه السلام لم يزل يلبى حتى رمى جمرة العقبة.
وقال البيهقى: أنبأنا الامام أبو عثمان، أنبأنا أبو طاهر بن خزيمة، أنبأنا جدى - يعنى إمام الائمة محمد بن إسحاق بن خزيمة - حدثنا على بن حجر، حدثنا شريك، عن عامر بن شقيق، عن أبى وائل، عن عبدالله، قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل يلبى حتى رمى جمرة العقبة بأول حصاة.
وبه عن ابن خزيمة: حدثنا عمر بن حفص الشيباني، حدثنا حفص بن غياث، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه عن على بن الحسين عن ابن عباس، عن الفضل.
قال: أفضت مع رسول الله من عرفات فلم يزل يلبى حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة.
قال البيهقى: وهذه زيادة غريبة ليست في الروايات المشهورة عن ابن عباس، عن الفضل وإن كان ابن خزيمة قد اختارها.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى أبان بن صالح، عن عكرمة، قال: أفضت مع
الحسين بن على، فما أزال أسمعه يلبى حتى رمى جمرة العقبة، فلما قذفها أمسك.
فقلت: ما هذا ؟ فقال: رأيت أبى على بن أبى طالب يلبى حتى رمى جمرة العقبة، وأخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
وتقدم من حديث الليث عن أبى الزبير، عن أبى معبد، عن ابن عباس، عن أخيه

الفضل، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس في وادى محسر بحصى الخذف الذى يرمى به الجمرة.
رواه مسلم.
وقال أبو العالية: عن ابن عباس، حدثنى الفضل، قال: قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة يوم النحر: هات فالقط لى حصى.
فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف فوضعهن في يده فقال: " بأمثال هؤلاء بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ".
رواه البيهقى.
وقال جابر في حديثه: حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق الوسطى التى تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف رمى من بطن الوادي.
رواه مسلم.
وقال البخاري: وقال جابر رضى الله عنه: رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى، ورمى بعد ذلك بعد الزوال.
وهذا الحديث الذى علقه البخاري أسنده مسلم من حديث ابن جريج: أخبرني أبو الزبير سمع جابرا، قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى، وأما بعد فإذا زالت الشمس.
وفى الصحيحين من حديث الاعمش عن إبراهيم، عن عبدالرحمن بن يزيد، قال: رمى عبدالله من بطن الوادي فقلت: يا أبا عبدالرحمن إن ناسا يرمونها من فوقها.
فقال: والذى لا إله غيره هذا مقام الذى أنزلت عليه سورة البقرة.
لفظ البخاري.

وفى لفظ له من حديث شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن عبدالرحمن، عن عبدالله بن مسعود، أنه أتى الجمرة الكبرى فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ورمى بسبع وقال: هكذا رمى الذى أنزلت عليه سورة البقرة.
ثم قال البخاري: باب من رمى الجمار بسبع يكبر مع كل حصاة: قاله ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا إنما يعرف في حديث جابر من طريق جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر كما تقدم، أنه أتى الجمرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف.
وقد روى البخاري في هذه الترجمة من حديث الاعمش عن إبراهيم عن عبدالرحمن ابن يزيد، عن عبدالله بن مسعود، أنه رمى الجمرة من بطن الوادي بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.
ثم قال: من هاهنا والذى لا إله غيره قام الذى أنزلت عليه سورة البقرة.
وروى مسلم من حديث ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، سمع جابر بن عبدالله قال: رأيت رسول الله يرمى الجمرة بسبع مثل حصى الخذف.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن زكريا، حدثنا حجاج، عن الحكم، عن أبى القاسم - يعنى مقسما - عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة جمرة العقبة يوم النحر راكبا.
ورواه الترمذي عن أحمد بن منيع، عن يحيى بن زكريا بن أبى زائدة، وقال:
حسن.
وأخرجه ابن ماجه، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن أبى خالد الاحمر، عن الحجاج بن أرطاة به.
وقد روى أحمد وأبو داود وابن ماجه والبيهقي من حديث يزيد بن [ أبى ] (1) زياد، عن سليمان بن عمرو بن الاحوص، عن أمه أم جندب الازدية، قالت: رأيت رسول الله
__________
(1) من سنن أبى داود 1 / 309 (*)

صلى الله عليه وسلم يرمى الجمار من بطن الوادي وهو راكب يكبر مع كل حصاة ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل فقالوا: الفضل بن عباس.
فازدحم الناس.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة فارموه بمثل حصى الخذف ".
لفظ أبى داود.
وفى رواية له قالت: رأيته عند جمرة العقبة راكبا ورأيت بين أصابعه حجرا، فرمى ورمى الناس ولم يقم عندها.
ولابن ماجه قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند جمرة العقبة وهو راكب على بغلة وذكر الحديث.
وذكر البغلة هاهنا غريب جدا.
وقد روى مسلم في صحيحه من حديث ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، سمعت جابر ابن عبدالله يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمى الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول: " لتأخذوا مناسككم، فإنى لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى هذه ".
وروى مسلم أيضا من حديث زيد بن أبى أنيسة، عن يحيى بن الحصين، عن جدته أم الحصين، سمعتها تقول: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على راحلته يوم النحر وهو يقول:
" لتأخذوا مناسككم فإنى لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى هذه ".
وفى رواية قالت: حججت مع رسول الله حجة الوداع، فرأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو أحمد محمد بن عبدالله الزبيري، حدثنا أيمن بن نابل

حدثنا قدامة بن عبدالله الكلابي، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمره العقبة من بطن الوادي يوم النحر عن ناقة له صهباء (1)، لا ضرب ولا رد ولا إليك إليك (2) ! ورواه أحمد أيضا عن وكيع ومعتمر بن سليمان وأبى قرة موسى بن طارق الزبيدى، ثلاثتهم عن أيمن بن نابل به.
ورواه أيضا عن أبى قرة عن سفيان الثوري عن أيمن.
وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث وكيع به.
ورواه الترمذي عن أحمد بن منيع، عن مروان بن معاوية، عن أيمن بن نابل به.
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا نوح بن ميمون، حدثنا عبدالله - يعنى العمرى - عن نافع، قال: كان ابن عمر يرمى جمرة العقبة على دابته يوم النحر، وكان لا يأتي سائرها بعد ذلك إلا ماشيا.
وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يأتيها إلا ماشيا ذاهبا وراجعا.
ورواه أبو داود عن القعنبى، عن عبدالله العمرى به.
فصل قال جابر: ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاث وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها.
وسنتكلم على هذا الحديث.
وقال الامام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن حميد الاعرج، عن محمد بن إبراهيم التيمى، عن عبدالرحمن بن معاذ، عن رجل من أصحاب النبي
__________
(1) الصهباء: التى يضرب لونها إلى الحمرة.
(2) إليك إليك: اسم فعل أمر بمعنى ابتعد.
(*)

صلى الله عليه وسلم، قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ونزلهم منازلهم فقال: لينزل المهاجرون هاهنا.
وأشار إلى ميمنة القبلة والانصار هاهنا.
وأشار إلى ميسرة القبلة.
ثم لينزل الناس حولهم.
قال: وعلمهم مناسكهم، ففتحت أسماع أهل منى حتى سمعوه في منازلهم.
قال: فسمعته يقول: ارموا الجمرة بمثل حصى الخذف.
وكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل إلى قوله: ثم لينزل الناس حولهم.
وقد رواه الامام أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه.
وأبو داود عن مسدد، عن عبد الوارث، وابن ماجه من حديث ابن المبارك عن عبد الوارث، عن حميد بن قيس الاعرج، عن محمد بن إبراهيم التيمى، عن عبدالرحمن بن معاذ التيمى، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كأنا نسمع ما يقول.
الحديث.
* * * ذكر جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرك على بن أبى طالب في الهدى، وأن جماعة الهدى الذى قدم به على من اليمن والذى جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الابل، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر بيده الكريمة ثلاثا وستين بدنة.
قال ابن حبان وغيره: وذلك مناسب لعمره عليه السلام، فإنه كان ثلاثا وستين سنة ! وقد قال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا زهير، حدثنا محمد بن عبدالرحمن بن أبى ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج مائة بدنة نحر منها بيده ستين وأمر ببقيتها

فنحرت وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر فأكل منها وحسا من مرقها.
قال: ونحر يوم الحديبية سبعين، فيها جمل أبى جهل، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها.
وقد روى ابن ماجه بعضه عن أبى بكر بن أبى شيبة، وعلى بن محمد عن وكيع، عن سفيان الثوري، عن ابن أبى ليلى به.
وقال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن محمد بن إسحاق، حدثنى رجل، عن عبدالله بن أبى نجيح، عن مجاهد بن جبر، عن ابن عباس، قال: أهدى رسول الله في حجة الوداع مائة بدنة، نحر منها ثلاثين بدنة [ بيده ] (1) ثم أمر عليا فنحر ما بقى منها.
وقال: اقسم لحومها وجلودها وجلالها بين الناس، ولا تعطين جزارا منها شيئا، وخذ لنا من كل بعير جدية (2) من لحم، واجعلها في قدر واحدة حتى نأكل من لحمها ونحسو من مرقها.
ففعل.
وثبت في الصحيحين من حديث مجاهد، عن ابى أبى ليلى، عن على، قال: أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها، وأن لا أعطى الجزار منها شيئا وقال: نحن نعطيه من عندنا.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عبدالرحمن بن مهدى، حدثنا عبدالله بن المبارك، عن حرملة بن عمران، عن عبدالله بن الحارث الازدي، سمعت
عرفة بن الحارث قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى بالبدن فقال: ادع لى أبا حسن.
فدعى له على.
فقال: خذ بأسفل الحربة.
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلاها، ثم طعنا بها البدن، فلما فرغ ركب بغلته وأردف عليا.
تفرد به أبو داود، وفى إسناده ومتنه غرابة.
والله أعلم.
__________
(1) ليست في ا (2) الجدية: القطعة.
(*)

وقال الامام أحمد: حدثنا أحمد بن الحجاج، أنبأنا عبدالله، أنبأنا الحجاج بن أرطاة عن الحكم، عن أبى القاسم - يعنى مقسما - عن ابن عباس، قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم جمرة العقبة ثم ذبح ثم حلق.
وقد ادعى ابن حزم أنه ضحى عن نسائه بالبقر وأهدى بمنى بقرة، وضحى هو بكبشين أملحين.
صفة حلقه رأسه الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق في حجته.
ورواه النسائي عن إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - عن عبد الرزاق.
وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، قال: قال نافع: كان عبدالله بن عمر يقول: حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته.
ورواه مسلم من حديث موسى بن عقبة عن نافع به.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد بن أسماء، حدثنا جويرية بن أسماء، عن نافع، أن عبدالله بن عمر قال: حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة من أصحابه وقصر بعضهم.
ورواه مسلم من حديث الليث، عن نافع به.
وزاد: قال عبدالله قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " يرحم الله المحلقين " مرة أو مرتين.
قالوا: يا رسول الله والمقصرين ؟ قال: والمقصرين.
وقال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا وكيع وأبو داود الطيالسي، عن يحيى بن الحصين، عن جدته، أنها سمعت رسول الله في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة.
ولم يقل وكيع: في حجة الوداع.

وهكذا روى هذا الحديث مسلم من حديث مالك وعبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر، وعمارة عن أبى زرعة عن أبى هريرة، والعلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه عن أبى هريرة.
وقال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا حفص بن غياث، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى منى فأتى الجمرة فرماها ثم أتى منزله بمنى ونحر.
ثم قال للحلاق: خذ.
وأشار إلى جانبه الايمن ثم الايسر، ثم جعل يعطيه الناس.
وفى رواية له أنه حلق شقه الايمن فقسمه بين الناس من شعرة وشعرتين، وأعطى شقه الايسر لابي طلحة.
وفى رواية له أنه أعطى الايمن لابي طلحة وأعطاه الايسر وأمره أن أن يقسمه بين الناس.
وقال الامام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس.
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه.
وقد أطاف به أصحابه ما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل.
انفرد به أحمد.
فصل ثم لبس عليه السلام ثيابه وتطيب بعد ما رمى جمرة العقبة ونحر هديه وقبل أن
يطوف بالبيت طيبته عائشة أم المؤمنين.
قال البخاري: حدثنا على بن عبدالله بن المدينى، حدثنا سفيان - هو ابن عيينة - حدثنا عبدالرحمن بن القاسم بن محمد، وكان أفضل أهل زمانه، أنه سمع اباه وكان أفضل أهل زمانه يقول: إنه سمع عائشة تقول: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدى

هاتين حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف، وبسطت يديها.
وقال مسلم: حدثنا يعقوب الدورقى وأحمد بن منيع، قالا: حدثنا هشيم، أخبرنا منصور، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قال: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يحرم ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك.
وروى النسائي من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: طيبت رسول الله لحرمه حين أحرم ولحله بعد ما رمى جمرة العقبة قبل أن يطوف بالبيت.
وقال الشافعي: أنبأنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم، قال قالت عائشة: أنا طيبت رسول الله لحله وإحرامه.
ورواه عبد الرزاق، عن معمر عن الزهري، عن سالم، عن عائشة.
فذكره وفى الصحيحين من حديث ابن جريج: أخبرني عمر بن عبدالله بن عروة، أنه سمع عروة والقاسم يخبران عن عائشة أنها قالت: طيبت رسول الله بيدى بذريرة في حجة الوداع للحل والاحرام.
ورواه مسلم من حديث الضحاك بن عثمان، عن أبى الرجال، عن أمه عمرة، عن عائشة به.
وقال سفيان الثوري: عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العوفى، عن ابن عباس أنه
قال: إذا رميتم الجمرة فقد حللتم من كل شئ كان عليكم حراما إلا النساء حتى تطوفوا بالبيت.
فقال رجل: والطيب يا أبا العباس ؟ فقال له: إنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب هو أم لا ! وقال محمد بن إسحاق: حدثنى أبو عبيدة، عن عبدالله بن زمعة، عن أبيه وأمه

زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت: كانت الليلة التى يدور فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة النحر، فكان رسول الله عندي، فدخل وهب بن زمعة ورجل من آل أبى أمية متقمصين.
فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضتما ؟ قالا: لا.
قال: فانزعا قميصيكما فنزعاهما.
فقال له وهب: ولم يا رسول الله ; فقال: هذا يوم أرخص لكم فيه إذا رميتم الجمرة ونحرتم هديا إن كان لكم فقد حللتم من كل شئ حرمتم منه إلا النساء حتى تطوفوا بالبيت، فإذا رميتم ولم تفيضوا صرتم حرما كما كنتم أول مرة حتى تطوفوا بالبيت.
وهكذا رواه أبو داود، عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، كلاهما عن ابن أبى عدى، عن ابن إسحاق فذكره.
وأخرجه البيهقى عن الحاكم، عن أبى بكر بن أبى إسحاق، عن أبى المثنى العنبري، عن يحيى بن معين.
وزاد في آخره: قال أبو عبيدة: وحدثتني أم قيس بنت محصن، قالت: خرج من عندي عكاشة ابن محصن في نفر من بنى أسد متقمصين عشية يوم النحر، ثم رجعوا إلينا عشيا وقمصهم على أيديهم يحملونها، فسألتهم فأخبروها بمثل ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوهب بن زمعة وصاحبه.
وهذا الحديث غريب جدا، لا أعلم أحدا من العلماء قال به.

ذكر إفاضته عليه السلام إلى البيت العتيق قال جابر: ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فأفاض (1) ] إلى البيت، فصلى بمكة الظهر فأتى بنى عبدالمطلب وهم يسقون على زمزم.
فقال: " انزعوا بنى عبدالمطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم " فناولوه دلوا فشرب منه.
رواه مسلم.
ففى هذا السياق ما يدل على أنه عليه السلام ركب إلى مكة قبل الزوال فطاف بالبيت، ثم لما فرغ صلى الظهر هناك.
وقال مسلم أيضا: أخبرنا محمد بن رافع، أنبأنا عبد الرزاق، أنبأنا عبيدالله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى.
وهذا خلاف حديث جابر، وكلاهما عند مسلم.
فإن عللنا بهما أمكن أن يقال: إنه عليه السلام صلى الظهر بمكة ثم رجع إلى منى فوجد الناس ينتطرونه فصلى بهم.
والله أعلم.
ورجوعه عليه السلام إلى منى في وقت الظهر ممكن، لان ذلك الوقت كان صيفا والنهار طويل، وإن كان قد صدر منه عليه السلام أفعال كثيرة في صدر هذا النهار، فإنه دفع فيه من المزدلفة بعد ما أسفر الفجر جدا، ولكنه قبل طلوع الشمس، ثم قدم منى فبدأ برمى جمرة العقبة بسبع حصيات، ثم جاء فنحر بيده ثلاثا وستين بدنة ونحر على بقية المائة، ثم أخذت من كل بدنة بضعة ووضعت في قدر وطبخت حتى نضجت فأكل من ذلك اللحم وشرب من ذلك المرق.
وفى غضون ذلك حلق رأسه عليه السلام وتطيب، فلما فرغ من هذا كله ركب إلى البيت.
__________
(1) من صحيح مسلم 4 / 42 (*)

وقد خطب عليه السلام في هذا اليوم خطبة عظيمة.
ولست أدرى أكانت قبل ذهابه إلى البيت أو بعد رجوعه منه إلى منى.
فالله أعلم.
* * * والقصد أنه ركب إلى البيت فطاف به سبعة أطواف راكبا، ولم يطف بين الصفا والمروة، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر وعائشة رضى الله عنهما.
ثم شرب من ماء زمزم ومن نبيذ تمر من ماء زمزم.
فهذا كله مما يقوى قول من قال: إنه عليه السلام صلى الظهر بمكة، كما رواه جابر.
ويحتمل أنه رجع إلى منى في آخر وقت الظهر فصلى بأصحابه بمنى الظهر أيضا.
وهذا هو الذى أشكل على ابن حزم فلم يدر ما يقول فيه، وهو معذور لتعارض الروايات الصحيحة فيه.
والله أعلم.
وقال أبو داود: حدثنا على بن بحر وعبد الله بن سعيد المعنى، قالا: حدثنا أبو خالد الاحمر، عن محمد بن إسحاق، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالى أيام التشريق يرمى الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.
قال ابن حزم: فهذا جابر وعائشة قد اتفقا على أنه عليه السلام صلى الظهر يوم النحر بمكة.
وهما والله أعلم أضبط لذلك من ابن عمر.
كذا قال: وليس بشئ، فإن رواية عائشة هذه ليست ناصة أنه عليه السلام صلى الظهر بمكة، بل محتملة إن كان المحفوظ في الرواية: " حتى صلى الظهر ".
وإن كانت الرواية " حين صلى الظهر " وهو الاشبه فإن ذلك دليل على أنه عليه السلام صلى الظهر بمنى قبل أن يذهب إلى البيت، وهو محتمل.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

وعلى هذا فيبقى مخالفا لحديث جابر، فإن هذا يقتضى أنه صلى الظهر بمنى قبل أن يركب إلى البيت، وحديث جابر يقتضى أنه ركب إلى البيت قبل أن يصلى الظهر وصلاها بمكة.
وقد قال البخاري: وقال أبو الزبير، عن عائشة، وابن عباس، أخر النبي صلى الله عليه وسلم - يعنى طواف الزيارة إلى الليل -.
وهذا الذى علقه البخاري قد رواه الناس من حديث يحيى بن سعيد وعبد الرحمن بن مهدى وفرج بن ميمون، عن سفيان الثوري، عن أبى الزبير عن عائشة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل.
ورواه أهل السنن الاربعة من حديث سفيان به.
وقال الترمذي.
حسن.
وقال الامام أحمد.
حدثنا محمد بن عبدالله، حدثنا سفيان، عن أبى الزبير، عن عائشة وابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زار ليلا.
فإن حمل هذا على أنه أخر ذلك إلى ما بعد الزوال كأنه يقول إلى العشى، صح ذلك وأما إن حمل على ما بعد الغروب فهو بعيد جدا ومخالف لما ثبت في الاحاديث الصحيحة المشهورة من أنه عليه السلام طاف يوم النحر نهارا، وشرب من سقاية زمزم.
وأما الطواف الذى ذهب في الليل إلى البيت بسببه فهو طواف الوداع.
ومن الرواة من يعبر عنه بطواف الزيارة، كما سنذكره إن شاء الله.
أو طواف زيارة محضة قبل طواف الوداع وبعد طواف الصدر الذى هو طواف الفرض.
وقد ورد حديث سنذكره في موضعه: أن رسول الله كان يزور البيت كل ليلة من ليالى منى، وهذا بعيد أيضا والله أعلم.
وقد روى الحافظ البيهقى من حديث عمرو بن قيس، عن عبدالرحمن، عن القاسم

عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله أذن لاصحابه فزاروا البيت يوم النحر ظهيرة، وزار
رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه ليلا.
وهذا حديث غريب جدا أيضا.
وهذا قول طاوس وعروة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل.
والصحيح من الروايات وعليه الجمهور: أنه عليه السلام طاف يوم النحر بالنهار، والاشبه أنه كان قبل الزوال، ويحتمل أن يكون بعده.
والله أعلم.
* * * والمقصود أنه عليه السلام لما قدم مكة طاف بالبيت سبعا وهو راكب، ثم جاء زمزم وبنو عبدالمطلب يستقون منها ويسقون الناس، فتناول منها دلوا فشرب منه وأفرغ عليه منه.
كما قال مسلم: أخبرنا محمد بن منهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد الطويل، عن بكر بن عبدالله المزني، سمع ابن عباس يقول وهو جالس معه عند الكعبة: قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فأتيناه بإناء فيه نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة.
وقال: أحسنتم وأجملتم هكذا فاصنعوا ".
قال ابن عباس: فنحن لا نريد أن نغير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى رواية عن بكر أن أعرابيا قال لابن عباس: مالى أرى بنى عمكم يسقون اللبن والعسل وأنتم تسقون النبيذ، أمن حاجة بكم أم من بخل ؟ فذكر له ابن عباس هذا الحديث.
وقال أحمد: حدثنا روح، حدثنا حماد، عن حميد، عن بكر، عن عبدالله أن أعرابيا قال لابن عباس: ما شأن آل معاوية يسقون الماء والعسل، وآل فلان يسقون اللبن، وأنتم تسقون النببذ، أمن بخل بكم أم حاجة ؟

فقال ابن عباس: ما بنا بخل ولا حاجة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءنا
ورديفه أسامة بن زيد فاستسقى فسقيناه من هذا - يعنى نبيذ السقاية - فشرب منه وقال: " أحسنتم هكذا فاصنعوا ".
ورواه أحمد، عن روح ومحمد بن بكر، عن ابن جريج، عن حسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس، وداود بن على بن عبدالله بن عباس، عن ابن عباس فذكره.
وروى البخاري عن إسحاق بن سليمان [ حدثنا خالد ] عن خالد [ الحذاء ]، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأت رسول الله بشراب من عندها.
فقال: اسقنى.
فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه.
قال: اسقنى.
فشرب منه.
ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها.
فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح.
ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزعت حتى أضع الحبل على هذه - يعنى عاتقه - وأشار إلى عاتقه.
وعنده من حديث عاصم عن الشعبى، أن ابن عباس قال: سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم.
قال عاصم: فحلف عكرمة: ما كان يومئذ إلا على بعير وفى رواية: ناقته.
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت وهو على بعير واستلم الحجر بمحجن كان معه.
قال: وأتى السقاية فقال: اسقوني.
فقالوا: إن هذا يخوضه الناس ولكنا نأتيك به من البيت.
فقال: لا حاجة لى فيه اسقوني مما يشرب الناس.
وقد روى أبو داود عن مسدد، عن خالد الطحان، عن يزيد بن أبى زياد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قدم رسول الله مكة ونحن نستقي فطاف على راحلته.
الحديث.

وقال الامام أحمد: حدثنا روح وعفان، قالا: حدثنا حماد، عن قيس، وقال عفان
في حديثه: أنبأنا قيس عن مجاهد، عن ابن عباس، أنه قال: جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمزم فنزعنا له دلوا فشرب، ثم مج فيها ثم أفرغناها في زمزم.
ثم قال: لولا أن تغلبوا عليها لنزعت بيدى.
انفرد به أحمد وإسناده على شرط مسلم.
فصل ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يعد الطواف بين الصفا والمروة مرة ثانية بل اكتفى بطوافه الاول.
كما روى مسلم في صحيحه من طريق ابن جريج، أخبرني أبو الزبير، سمعت جابر بن عبدالله يقول: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا.
قلت: والمراد بأصحابه هاهنا الذين ساقوا الهدى وكانوا قارنين.
كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: - وكانت أدخلت الحج على العمرة فصارت قارنة -: " يكفيك طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة لحجك وعمرتك ".
وعند أصحاب الامام أحمد أن قول جابر وأصحابه عام في القارنين والمتمتعين.
ولهذا نص الامام أحمد على أن المتمتع يكفيه طواف واحد عن حجه وعمرته، وإن تحلل بينهما تحلل.
وهو قول غريب، مأخذه ظاهر عموم الحديث.
والله أعلم.
وقال أصحاب أبى حنيفة في المتمتع كما قال المالكية والشافعية: أنه يجب عليه طوافان وسعيان، حتى طردت الحنفية ذلك في القارن، وهو من أفراد مذهبهم أنه يطوف

طوافين ويسعى سعيين، ونقلوا ذلك عن على موقوفا.
وروى عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قدمنا الكلام على ذلك كله عند الطواف، وبينا أن أسانيد ذلك ضعيفة مخالفة للاحاديث الصحيحة.
والله أعلم.
فصل ثم رجع عليه السلام إلى منى بعد ما صلى الظهر بمكة، كما دل عليه حديث جابر.
وقال ابن عمر: رجع فصلى الظهر بمنى.
رواهما مسلم كما تقدم قريبا.
ويمكن الجمع بينهما بوقوع ذلك بمكة وبمنى والله أعلم.
وتوقف ابن حزم في هذا المقام فلم يجزم فيه بشئ، وهو معذور لتعارض النقلين الصحيحين فيه.
فالله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه عن عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالى أيام التشريق يرمى الجمرات إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.
رواه أبو داود منفردا به.
وهذا يدل على أن ذهابه عليه السلام إلى مكة يوم النحر كان بعد الزوال.
وهذا ينافى حديث ابن عمر قطعا وفى منافاته لحديث جابر نظر.
والله أعلم.
فصل وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم الشريف خطبة عظيمة تواترت

بها الاحاديث ونحن نذكر منها ما يسره الله عزوجل.
قال البخاري: باب الخطبة أيام منى: حدثنا على بن عبدالله، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا فضيل بن غزوان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر
فقال: يا أيها الناس أي يوم هذا.
قالوا: يوم حرام قال: فأى بلد هذا ؟ قالوا: بلد حرام.
قال: فأى شهر هذا ! قالوا: شهر حرام.
قال: " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " قال: فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه فقال: اللهم هل بلغت ! اللهم قد بلغت.
قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته: فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
ورواه الترمذي عن الفلاس عن يحيى القطان به.
وقال: حسن صحيح.
وقال البخاري أيضا: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا أبو عامر، حدثنا قرة، عن محمد بن سيرين أخبرني عبدالرحمن بن أبى بكرة عن أبيه ورجل أفضل في نفسي من عبدالرحمن حميد بن عبدالرحمن، عن أبى بكرة رضى الله عنه، قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أتدرون أي يوم هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
قال: أليس هذا يوم النحر ؟ قلنا بلى ؟ قال: أي شهر هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
قال: أليس ذا الحجة ؟ قلنا بلى.
قال: أي بلد هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
قال: أليس بالبلد الحرام ؟ قلنا: بلى.
قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم.
ألا هل بلغت ؟ قالوا: نعم.
قال: اللهم اشهد فليبلغ الشاهد

الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
ورواه البخاري ومسلم من طرق، عن محمد بن سيرين به.
ورواه مسلم من حديث عبدالله بن عون، عن ابن سيرين، عن عبدالرحمن بن أبى بكرة، عن أبيه فذكره.
وزاد
في آخره: ثم انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما وإلى جذيعة من الغنم فقسمها بيننا.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل، أنبأنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبى بكرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان.
ثم قال: ألا أي يوم هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
قال: أليس يوم النحر ؟ قلنا: بلى.
ثم قال: أي شهر هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
قال: أليس ذا الحجة ؟ قلنا بلى.
ثم قال: أي بلد هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
قال، أليست البلدة [ الحرام ] قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم - لاحسبه قال: وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا لا ترجعوا بعدى ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت ؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه.
هكذا وقع في مسند الامام أحمد، عن محمد بن سيرين، عن أبى بكرة.
وهكذا رواه أبو داود عن مسدد.
والنسائي عن عمرو بن زرارة، كلاهما عن إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبى بكرة به.

وهو منقطع لان صاحبا الصحيح أخرجاه من غير وجه عن أيوب وغيره، عن محمد ابن سيرين، عن عبدالرحمن بن أبى بكرة، عن أبيه به.
وقال البخاري أيضا: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا عاصم بن محمد بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر قال، قال: النبي صلى الله عليه وسلم بمنى: أتدرون
أي يوم هذا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: فإن هذا يوم حرام، أفتدرون أي بلد هذا ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: بلد حرام.
قال: أفتدرون أي شهر هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم.
قال: شهر حرام.
قال: فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.
وقد أخرجه البخاري في أماكن متفرقة من صحيحه، وبقية الجماعة إلا الترمذي، من طرق عن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر، عن جده عبدالله بن عمر فذكره.
قال البخاري: وقال هشام بن الغاز (1) أخبرني نافع، عن ابن عمر [ قال ] وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في الحجة التى حج بهذا (2) وقال: هذا يوم الحج الاكبر.
فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم اشهد.
وودع الناس فقالوا: هذه حجة الوداع.
وقد أسند هذا الحديث أبو داود، عن مؤمل بن الفضل، عن الوليد بن مسلم.
وأخرجه ابن ماجه، عن هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد، كلاهما عن هشام بن الغاز ابن ربيعة الجرشى أبى العباس الدمشقي به.
* * *
__________
(1) بحذف الياء وإثباتها، قاعل من الغزو.
(2) قال ابن حجر: بهذا، أي بالحديث الذى تقدم من طريق محمد بن زيد عن جده.
قال: وأراد المصنف بذلك أصل الحديث وأصل معناه لكن السياق مختلف.
وفسر الكرماني لفظة " بهذا " بقوله: وقف متلبسا بهذا الكلام المذكور يريد التفويض بقولهم: الله ورسوله أعلم والباء في بهذا تتعلق بقوله: وقف النبي.
انظر إرشاد السارى 3 / 244 (*)

وقيامه عليه السلام بهذه الخطبة عند الجمرات يحتمل أنه بعد رميه الجمرة يوم النحر وقبل طوافه.
ويحتمل أنه بعد طوافه ورجوعه إلى منى ورميه بالجمرات.
لكن يقوى الاول ما رواه النسائي حيث قال: حدثنا عمرو بن هشام الحرانى، حدثنا محمد بن سلمة، عن أبى عبدالرحيم، عن زيد بن أبى أنيسة، عن يحيى بن حصين الاحمسي، عن جدته أم حصين قالت: حججت في حجة النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت بلالا آخذا بقود راحلته وأسامة بن زيد رافع عليه ثوبه يظله من الحر وهو محرم حتى رمى جمرة العقبة.
ثم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه وذكر قولا كثيرا وقد رواه مسلم من حديث زيد بن أبى أنيسة، عن يحيى بن الحصين، عن جدته أم الحصين قالت: حججت مع رسول الله حجة الوداع فرأيت أسامة وبلال أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة.
قالت: فقال رسول الله قولا كثيرا.
ثم سمعته يقول: " إن أمر عليكم عبد مجدع - حسبتها قالت أسود - يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا ".
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن عبيدالله، حدثنا الاعمش، عن أبى صالح - وهو ذكوان السمان - عن جابر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أي يوم أعظم حرمة ؟ قالوا: يومنا هذا.
قال: أي شهر أعظم حرمة ؟ قالوا: شهرنا هذا.
قال: أي بلد أعظم حرمة ؟ قالوا: بلدنا هذا.
قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، هل بلغت ؟ قالوا: نعم.
قال اللهم اشهد.
انفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو على شرط الصحيحين.
ورواه أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى معاوية، عن الاعمش به.

وقد تقدم حديث جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر في خطبته عليه السلام يوم عرفة.
فالله أعلم.
قال الامام أحمد: حدثنا على بن بحر، حدثنا عيسى بن يونس، عن الاعمش،
عن أبى صالح، عن أبى سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
فذكر معناه.
وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار، عن عيسى بن يونس به.
وإسناده على شرط الصحيحين.
فالله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو هشام، حدثنا حفص، عن الاعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة وأبى سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال: أي يوم هذا ؟ قالوا: يوم حرام: قال: " فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ".
ثم قال البزار: رواه أبو معاوية، عن الاعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة وأبى سعيد.
وجمعهما لنا أبو هشام.
عن حفص بن غياث، عن الاعمش، عن أبى صالح، عن أبى هريرة وأبى سعيد.
قلت: وتقدم رواية أحمد له عن محمد بن عبيد الطنافسى، عن الاعمش، عن أبى صالح، عن جابر بن عبدالله، فلعله عند أبى صالح عن الثلاثة.
والله أعلم.
* * * وقال هلال بن يساف، عن سلمة بن قيس الاشجعى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: " إنما هن أربع، لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق، ولا تزنوا ولا تسرقوا ".
قال: فما أنا بأشح عليهن منى حين سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد رواه أحمد والنسائي من حديث منصور، عن هلال بن يساف.
وكذلك رواه سفيان بن عيينة والثوري عن منصور.
وقال ابن حزم في حجة الوداع: حدثنا أحمد بن عمر بن أنس العذري، حدثنا
أبو ذر عبدالله بن أحمد الهروي الانصاري، حدثنا أحمد بن عبدان الحافظ بالاهواز، حدثنا سهل بن موسى بن شيرزاد، حدثنا موسى بن عمرو بن عاصم، حدثنا أبو العوام، حدثنا محمد بن جحادة، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك، قال: شهدت رسول الله في حجة الوداع وهو يخطب وهو يقول: " أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك " قال: فجاء قوم فقالوا: يا رسول الله قتلنا بنو يربوع.
فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجنى نفس على أخرى " ثم سأله رجل نسى أن يرمى الجمار، فقال: " ارم ولا حرج " ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله نسيت الطواف فقال: طف ولا حرج.
ثم أتاه آخر حلق قبل أن يذبح قال: اذبح ولا حرج.
فما سألوه يومئذ عن شئ إلا قال: " لا حرج لا حرج ".
ثم قال: " قد أذهب الله الحرج إلا رجلا اقترض امرءا مسلما فذلك الذى حرج وهلك ".
وقال " ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء إلا الهرم ".
وقد روى الامام أحمد وأهل السنن بعض هذا السياق من هذه الطريق.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا حجاج، حدثنى شعبة، عن على بن مدرك، سمعت أبا زرعة يحدث عن جرير - وهو جده -، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: في حجة الوداع: يا جرير استنصت الناس.
ثم قال: في خطبته: " لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ".
ثم رواه أحمد، عن غندر وعن ابن مهدى، كل منهما عن شعبة به.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به.

وقال أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا إسماعيل، عن قيس، قال بلغنا أن جريرا قال: قال رسول الله: استنصت الناس.
ثم قال عند ذلك: " لا أعرفن بعد ما أرى
ترجعون كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ": ورواه النسائي من حديث عبدالله بن نمير به.
وقال النسائي: حدثنا هناد بن السرى، عن أبى الاحوص، عن ابن غرقدة، عن سليمان بن عمرو، عن أبيه، قال: شهدت رسول الله في حجة الوداع يقول: أيها الناس.
ثلاث مرات.
أي يوم هذا ؟ قالوا: يوم الحج الاكبر.
قال: " فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، ولا يجنى جان على ولده، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم فيرضى، ألا وإن كل ربا من ربا الجاهلية يوضع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون " وذكر تمام الحديث.
* * * وقال أبو داود: باب من قال يخطب (1) يوم النحر: حدثنا هارون بن عبدالله، حدثنا هشام بن عبدالملك، حدثنا عكرمة - هو ابن عمار - حدثنا الهرماس بن زياد الباهلى قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على ناقته العضباء يوم الاضحى بمنى.
ورواه أحمد والنسائي من غير وجه، عن عكرمة بن عمار، عن الهرماس.
قال: كان أبى مردفي فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى يوم النحر على ناقته العضباء.
__________
(1) أبو داود 1 / 307: خطب.
(*)

لفظ أحمد، وهو من ثلاثيات المسند.
ولله الحمد.
ثم قال أبو داود: حدثنا مؤمل بن الفضل الحرانى، حدثنا الوليد (1)، حدثنا
ابن جابر، حدثنا سليم بن عامر [ الكلاعى (2) ] سمعت أبا أمامة يقول: سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبدالرحمن، عن معاوية بن صالح، عن سليم بن عامر الكلاعى، سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ على الجدعاء واضع رجليه في الغرز يتطاول ليسمع الناس.
فقال بأعلى صوته: ألا تسمعون ؟ فقال رجل من طوائف الناس: يا رسول الله ماذا تعهد إلينا ؟ فقال: " اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وأطيعوا إذا أمرتم، تدخلوا جنة ربكم ".
فقلت: يا أبا أمامة مثل من أنت يومئذ ؟ قال: أنا يومئذ ابن ثلاثين سنة أزاحم البعير أزحزحه قدما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه أحمد أيضا عن زيد بن الحباب، عن معاوية بن صالح، وأخرجه الترمذي عن موسى بن عبدالرحمن الكوفى، عن زيد بن الحباب، وقال: حسن صحيح.
قال الامام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا إسماعيل بن عباس، حدثنا شرحبيل ابن مسلم الخولانى، سمعت أبا أمامة الباهلى يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: " إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث، والولد للفراش وللعاهر الحجر وحسابهم على الله، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله التابعة إلى يوم القيامة، لا تنفق امرأة من بيتها إلا بإذن زوجها ".
__________
(1) أبو داود: حدثنا الوليد بن جابر، حدثنا سليم.
(2) من سنن أبى داود 1 / 307 (*)

فقيل: يا رسول الله ولا الطعام ؟ قال: ذاك أفضل أموالنا.
ثم قال رسول الله: " العارية مؤداة والمنحة مردودة، والدين مقضى، والزعيم غارم ".
ورواه أهل السنن الاربعة من حديث إسماعيل بن عياش، وقال الترمذي: حسن.
ثم قال أبو داود رحمه الله: باب متى يخطب (1) يوم النحر: حدثنا عبد الوهاب بن عبدالرحيم الدمشقي، حدثنا مروان، عن هلال بن عامر المزني، حدثنى رافع بن عمرو المزني، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء وعلى يعبر عنه والناس بين قائم وقاعد.
ورواه النسائي عن دحيم، عن مروان الفزارى به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هلال بن عامر المزني، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله يخطب الناس بمنى على بغلة وعليه برد أحمر.
قال: ورجل من أهل بدر بين يديه يعبر عنه.
قال: فجئت حتى أدخلت يدى بين قدمه وشراكه.
قال: فجعلت أعجب من بردها.
حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا شيخ من بنى فزارة، عن هلال بن عامر المزني، عن أبيه، قال: رأيت رسول الله على بغلة شهباء وعلى يعبر عنه.
ورواه أبو داود من حديث أبى معاوية، عن هلال بن عامر.
ثم قال أبو داود: باب ما يذكر الامام في خطبته بمنى: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الوارث، عن حميد الاعرج، عن محمد بن إبراهيم التيمى، عن عبدالرحمن بن معاذ التيمى، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار فوضع السبابتين
__________
(1) أبو داود: أي وقت يخطب.
(*)

ثم قال بحصى الخذف، ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد، وأمر الانصار فنزلوا من وراء المسجد، ثم نزل الناس بعد ذلك.
وقد رواه أحمد عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه.
وأخرجه النسائي من حديث ابن المبارك، عن عبد الوارث كذلك.
وتقدم رواية الامام أحمد له عن عبد الرزاق، عن معمر، عن محمد بن ابراهيم التيمى، عن عبدالرحمن بن معاذ، عن رجل من الصحابة.
فالله أعلم.
وثبت في الصحيحين من حديث ابن جريج، عن الزهري، عن عيسى بن طلحة، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو يخطب يوم النحر فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أن كذا وكذا قبل كذا وكذا.
ثم قام آخر فقال: كنت أحسب أن كذا وكذا قبل كذا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " افعل ولا حرج ".
وأخرجاه من حديث مالك.
زاد مسلم: ويونس عن الزهري به.
وله ألفاظ كثيرة ليس هذا موضع استقصائها.
ومحله كتاب الاحكام وبالله المستعان.
وفى لفظ الصحيحين قال: فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم عن شئ قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج.
فصل ثم نزل عليه السلام بمنى حيث المسجد اليوم، فيما يقال، وأنزل المهاجرين يمنته والانصار يسرته والناس حولهم من بعدهم.
وقال الحافظ البيهقى: أبو عبد الله الحافظ أنبأنا على بن محمد بن عقبة الشيباني بالكوفة، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الزهري، حدثنا عبيدالله بن موسى، أنبأنا إسرائيل، عن

إبراهيم بن مهاجر، عن يوسف بن ماهك، عن أم مسيكة، عن عائشة، قالت: قيل يا رسول الله: ألا نبنى لك بمنى بناء يظلك ؟ قال: لا، منى مناخ من سبق.
وهذا إسناد لا بأس به، وليس هو في المسند ولا في الكتب الستة من هذا الوجه.
وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلى، حدثنا يحيى، عن ابن جريج [ حدثنى حريز (1) ] أو أبو حريز الشك من يحيى، أنه سمع عبدالرحمن بن فروخ يسأل ابن عمر قال: إنا نتبايع بأموال الناس فيأتى أحدنا مكة فيبيت على المال، فقال: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات بمنى وظل.
انفرد به أبو داود (2).
ثم قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبى شيبة، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة، عن عبيدالله عن نافع، عن ابن عمر قال استأذن العباس رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالى منى من أجل سقايته فأذن له.
وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن نمير.
زاد البخاري: وأبى ضمرة أنس بن عياض.
زاد مسلم: وأبى أسامة حماد بن أسامة.
وقد علقه البخاري عن أبى أسامة وعقبة بن خالد، كلهم عن عبيدالله ابن عمر به.
* * * وقد كان صلى الله عليه وسلم يصلى بأصحابه بمنى ركعتين، كما ثبت عنه ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود وحارثة بن وهب رضى الله عنهما.
ولهذا ذهب طائفة من العلماء إلى أن سبب هذا القصر النسك، كما هو قول طائفة من المالكية وغيرهم.
قالوا: ومن قال: إنه عليه السلام كان يقول بمنى لاهل مكة: أتموا
__________
(1) سقط من المطبوعة.
(2) سنن أبى داود 1 / 308.
(*)

فإنا قوم سفر: فقد غلط إنما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو نازل بالابطح، كما تقدم.
والله أعلم.
وكان صلى الله عليه سلم يرمى الجمرات الثلاث في كل يوم من أيام منى بعد الزوال
كما قال جابر فيما تقدم، ماشيا كما قال ابن عمر فيما سلف، كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة.
ويقف عند الاولى وعند الثانية يدعو الله عزوجل ولا يقف عند الثالثة.
قال أبو داود: حدثنا على بن بحر، وعبد الله بن سعيد المعنى، قالا حدثنا أبو خالد الاحمر، عن محمد بن إسحاق، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها [ ليالى (1) ] أيام التشريق، يرمى الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة ويقف عند الاولى والثانية فيطيل المقام ويتضرع، ويرمى الثالثة لا يقف عندها.
انفرد به أبو داود.
وروى البخاري من غير وجه، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، أنه كان يرمى الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة، ثم يتقدم ثم يسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو ويرفع يديه ثم يرمى الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل فيقوم مستقبل القبلة، ويدعو، ويرجع يديه، ويقوم طويلا.
ثم يرمى جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله.
وقال وبرة بن عبدالرحمن: قام ابن عمر عند العقبة بقدر قراءة سورة البقرة.
وقال أبو مجلز: حزرت قيامه بقدر قراءة سورة يوسف.
ذكرهما البيهقى.
__________
(1) من سنن أبى داود 1 / 309.
(*)

وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عبدالله بن أبى بكر، عن أبيه، عن أبى القداح، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يرموا
يوما ويرعوا يوما.
وقال أحمد: حدثنا محمد بن أبى بكر وأنبأنا روح، حدثنا ابن جريج، أخبرني محمد ابن أبى بكر بن محمد بن عمرو، عن أبيه، عن أبى القداح بن عاصم بن عدى، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص للرعاء أن يتعاقبوا فيرموا يوم النحر، ثم يدعوا يوما وليلة ثم يرموا الغد.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبدالرحمن، حدثنا مالك، عن عبدالله بن بكر، عن أبيه، عن أبى القداح بن عاصم بن عدى عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص لرعاء الابل في البيتوتة بمنى حتى يرموا يوم النحر ثم يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد أو من بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر.
وكذا رواه عن عبد الرزاق عن مالك بنحوه.
وقد رواه أهل السنن الاربعة من حديث مالك ومن حديث سفيان بن عيينة به.
قال الترمذي: ورواية مالك أصح، وهو حديث حسن صحيح.
فصل فيما ورد من الاحاديث الدالة على أنه عليه السلام خطب الناس بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق وهو أوسطها قال أبو داود: باب أي يوم يخطب: حدثنا محمد بن العلاء، أنبأنا ابن المبارك، عن إبراهيم بن نافع، عن ابن أبى نجيح، عن أبيه، عن رجلين من بنى بكر، قالا: رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بين أوسط أيام التشريق ونحن عند راحلته،

وهى خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التى خطب بمنى.
انفرد به أبو داود.
ثم قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا ربيعة بن عبدالرحمن
ابن حصين (1)، حدثتني جدتى سراء بنت نبهان - وكانت ربة بيت في الجاهلية - قالت: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الرؤوس فقال: أي يوم هذا ؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: أليس أوسط أيام التشريق ؟ انفرد به أبو داود.
قال أبو داود: وكذلك قال عم أبى حرة (2) الرقاشى أنه خطب أوسط أيام التشريق.
وهذا الحديث قد رواه الامام أحمد متصلا مطولا فقال: حدثنا عثمان، حدثنا حماد ابن سلمة، أنبأنا على بن زيد، عن أبى حرة الرقاشى، عن عمه، قال: كنت آخذا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود عنه الناس.
فقال: يا أيها الناس أتدرون في أي شهر أنتم وفى أي يوم أنتم وفى أي بلد أنتم ؟ قالوا: في يوم حرام وشهر حرام وبلد حرام.
قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى أن تلقوه.
ثم قال: " اسمعوا منى تعيشوا، ألا لا تظلموا ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه.
ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمى هذه إلى يوم القيامة، وإن أول دم يوضع دم [ ابن ] ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب كان مسترضعا في بنى سعد فقتلته هذيل، ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع وإن الله قضى
__________
(1) سنن أبى داود 1 / 307: ابن حصن.
(2) الاصل أبو حمزة.
وما أثبته عن سنن أبى داود 1 / 307.
وميزان الاعتدال 1 / 621.

أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبدالمطب، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.
ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض.
ثم قرأ: " إن عدة
الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم "، ألا لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكنه في التحريش بينكم.
واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان (1) لا يملكن لانفسهن شيئا، وإن لهن عليكم حقا ولكم عليهن حق، ألا يوطئن فرشكم أحدا غيركم، ولا يأذن في بيوتكم لاحد تكرهونه.
فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ".
وبسط يده وقال: ألا هل بلغت ؟ ألا هل بلغت ؟ ثم قال: ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رب مبلغ أسعد من سامع.
قال حميد: قال الحسن حين بلغ هذه الكلمة: قد والله بلغوا أقواما كانوا أسعد به.
وقد روى أبو داود في كتاب النكاح من سننه عن موسى بن إسماعيل، عن حماد ابن سلمة، عن على بن زيد بن جدعان، عن أبى حرة الرقاشى - واسمه حنيفة - عن عمه ببعضه (2) في النشوز.
__________
(1) العوانى: الاسرى، جمع عان.
(2) سنن أبى داود 1 / 334.
(*)

قال ابن حزم: جاء أنه خطب يوم الرؤوس وهو اليوم الثاني من يوم النحر بلا خلاف عند أهل مكة، وجاء أنه أوسط أيام التشريق، فتحمل على أن أوسط بمعنى أشرف كما قال تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " وهذا المسلك الذى أخذه ابن حزم بعيد والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الوليد بن عمرو بن مسكين، حدثنا أبو همام محمد بن الزبرقان، حدثنا موسى بن عبيدة، عن عبدالله بن دينار وصدقة بن يسار، عن عبدالله بن عمر، قال: نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى وهو في أوسط أيام التشريق في حجة الوداع: " إذ جاء نصر الله والفتح " فعرف أنه الوداع فأمر براحلته القصواء فرحلت له ثم ركب فوقف للناس بالعقبة، فاجتمع إليه ما شاء الله من المسلمين، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد، أيها الناس فإن كل دم كان في الجاهلية فهو هدر، وإن أول دمائكم أهدر دم [ ابن ] ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بنى ليث فقتلته هذيل.
وكل ربا في الجاهلية فهو موضوع، وأن أول رباكم أضع ربا العباس بن عبدالمطلب.
أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر منها أربعة حرم رجب - مضر - الذى بين جمادى وشعبان، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم " ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم " الآية " إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله " كانوا يحلون صفر عاما ويحرمون المحرم عاما، ويحرمون صفر عاما ويحلون المحرم عاما، فذلك النسئ.
يا أيها الناس من كان عنده وديعة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان، وقد يرضى عنكم، بمحقرات الاعمال، فاحذروه

على دينكم بمحقرات الاعمال، أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، لكم عليهن حق ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم ولا يعصينكم في معروف، فإن فعلن ذلك فليس لكم عليهن سبيل، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، فأن ضربتم فاضربوا ضربا غير مبرح.
ولا يحل
لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه، أيها الناس إنى قد تركت فيكم، ما إن أخذتم به لم تضلوا، كتاب الله، فاعملوا به.
أيها الناس أي يوم هذا ؟ قالوا: يوم حرام.
قال: فأى بلد هذا ؟ قالوا بلد حرام.
قال: أي شهر هذا ؟ قالوا: شهر حرام.
قال: فإن الله حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة هذا اليوم في هذا البلد وهذا الشهر، ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم، لا نبى بعدى ولا أمة بعدكم.
ثم رفع يديه فقال: اللهم اشهد.
ذكر إيراد حديث فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت في كل ليلة من ليالى منى قال البخاري: يذكر عن أبى حسان عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت في أيام منى.
هكذا ذكره معلقا بصيغة التمريض.
وقد قال الحافظ البيهقى: أخبرناه أبو الحسن بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيدالصفار، حدثنا العمرى، أنبأنا ابن عرعرة، فقال: دفع إلينا معاذ بن هشام كتابا قال: سمعته من أبى ولم يقرأه.
قال: فكان فيه: عن قتادة، عن أبى حسان، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور البيت كل ليلة ما دام بمنى.
قال: وما رأيت أحدا واطأه عليه.
قال البيهقى: وروى الثوري في الجامع عن ابن طاوس، عن طاوس، عن ابن عباس،

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفيض كل ليلة - يعنى ليالى منى - وهذا مرسل.
فصل اليوم السادس من ذى الحجة قال بعضهم: يقال له يوم الزينة، لانه يزين فيه البدن
بالجلال وغيرها.
واليوم السابع يقال له يوم التروية، لانهم يتروون فيه من الماء ويحملون منه ما يحتاجون إليه حال الوقوف وما بعده.
واليوم الثامن يقال له يوم منى لانهم يرحلون فيه من الابطح إلى منى.
واليوم التاسع يقال له يوم عرفة، لوقوفهم فيه بها.
واليوم العاشر يقال له يوم النحر ويوم الاضحى ويوم الحج الاكبر.
واليوم الذى يليه يقال له يوم القر، لانهم يقرون فيه، ويقال له يوم الرؤوس لانهم يأكلون فيه رءوس الاضاحي، وهو أول أيام التشريق.
وثاني أيام التشريق يقال له يوم النفر الاول، لجواز النفر فيه، وقيل هو اليوم الذى يقال له يوم الرؤوس.
واليوم الثالث من أيام التشريق يقال له يوم النفر الآخر.
قال الله تعالى: " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه (1) " الآية.
* * * [ فلما ن يوم النفر الآخر وهو اليوم الثالث من أيام التشريق ] (2)، وكان يوم الثلاثاء ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فنفر بهم من منى فنزل المحصب، وهو واد بين مكة ومنى فصلى به العصر.
كما قال البخاري: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا سفيان
__________
(1) سورة البقرة.
(2) سقط من ا.
(*)

الثوري، عن عبد العزيز بن رفيع، قال سألت أنس بن مالك: أخبرني عن شئ عقلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أين صلى الظهر يوم التروية ؟ قال: بمنى.
قلت: فأين صلى العصر يوم النفر ؟ قال: بالابطح، افعل كما يفعل أمراؤك.
وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النفر بالابطح، وهو المحصب.
فالله أعلم.
قال البخاري: حدثنا عبد المتعال بن طالب، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، أن قتادة حدثه، أن أنس بن مالك حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه صلى الظهر والعصر [ والمغرب ] (1) والعشاء، ورقد رقدة في المحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به.
قلت: يعنى طواف الوداع.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن عبد الوهاب، حدثنا خالد بن الحارث، قال: سئل عبدالله عن المحصب فحدثنا عبيد الله عن نافع قال: نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر وابن عمر.
وعن نافع: أن ابن عمر كان يصلى بها - يعنى المحصب - الظهر والعصر، أحسبه قال: والمغرب.
قال خالد: لا أشك في العشاء، ثم يهجع هجعة ويذكر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا نوح بن ميمون، أنبأنا عبدالله، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان نزلوا المحصب.
هكذا رأيته في مسند الامام أحمد من حديث عبدالله العمرى عن نافع.
وقد روى الترمذي هذا الحديث عن إسحاق بن منصور.
وأخرجه ابن ماجه عن محمد بن يحيى، كلاهما عن عبد الرزاق، عن عبيدالله بن عمر، عن نافع عن ابن عمر، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان ينزلون الابطح.
قال الترمذي: وفى الباب عن عائشة وأبى رافع وابن عباس، وحديث ابن عمر
__________
(1) من البخاري.
(*)

حسن غريب، وإنما نعرفه من حديث عبد الرزاق عن عبيدالله بن عمر به.
وقد رواه مسلم عن محمد بن مهران الرازي، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا ينزلون الابطح.
ورواه مسلم أيضا من حديث صخر بن جويرية، عن نافع عن ابن عمر، أنه كان ينزل المحصب (1)، وكان يصلى الظهر يوم النفر بالحصبة.
قال نافع: قد حصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده.
وقال الامام أحمد: حدثنا يونس، حدثنا حماد - يعنى ابن سلمة - عن أيوب وحميد، عن بكر بن عبدالله، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالبطحاء ثم هجع هجعة، ثم دخل - يعنى مكة - فطاف بالبيت.
ورواه أحمد أيضا عن عفان، عن حماد، عن حميد، عن بكر، عن ابن عمر فذكره.
وزاد في آخره: وكان ابن عمر يفعله.
وكذلك رواه أبودواد عن أحمد بن حنبل.
وقال البخاري: حدثنا الحميدى، حدثنا الوليد، حدثنا الاوزاعي، حدثنى الزهري، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر بمنى: " نحن نازلون غدا بخيف بنى كنانة حيث تقاسموا على الكفر " - يعنى بذلك المحصب - الحديث.
ورواه مسلم عن زهير بن حرب عن الوليد بن مسلم، عن الاوزاعي.
فذكر مثله سواء.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، عن على بن الحسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد، قال: قلت يا رسول الله أين تنزل غدا - في حجته - ؟ قال: وهل ترك لنا عقيل منزلا ! ثم قال: نحن نازلون غدا إن شاء الله
__________
(1) ت: كان يرى المحصب سنة.
(*)

بخيف بنى كنانة - يعنى المحصب - حيث قاسمت قريشا على الكفر.
وذلك أن بنى كنانة حالفت قريشا على بنى هاشم أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم ولا يؤوهم - يعنى حتى يسلموا - إليهم رسول الله.
ثم قال عند ذلك: " لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم " قال الزهري: والخيف: الوادي.
أخرجاه من حديث عبد الرزاق.
وهذان الحديثان فيهما دلالة على أنه عليه السلام قصد النزول في المحصب مراغمة لما كان تمالا عليه كفار قريش لما كتبوا الصحيفة في مصارمة بنى هاشم وبنى المطلب حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما قدمنا بيان ذلك في موضعه.
وكذلك نزله عام الفتح، فعلى هذا يكون نزوله سنة مرغبا فيها، وهو أحد قولى العلماء.
وقد قال البخاري: حدثنا أبو نعيم، أنبأنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: إنما كان منزلا ينزله النبي صلى الله عليه وسلم ليكون أسمح لخروجه - يعنى الابطح -.
وأخرجه مسلم من حديث هشام به.
ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: إنما نزل رسول الله المحصب ليكون أسمح لخروجه، وليس بسنة، فمن شاء نزله ومن شاء لم ينزله.
وقال البخاري: حدثنا على بن عبدالله، حدثنا سفيان، قال: قال عمرو عن عطاء، عن ابن عباس قال: ليس التحصيب بشئ، إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ورواه مسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة وغيره، عن سفيان - وهو ابن عيينة - به.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل وعثمان بن أبى شيبة المعنى ومسدد، قالوا: حدثنا سفيان، حدثنا صالح بن كيسان، عن سليمان بن يسار، قال: قال أبو رافع:
لم يأمرنى، يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن أنزله، ولكن ضربت قبته فنزله.
قال مسدد: وكان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال عثمان - يعنى [ في ] (1) الابطح -.
ورواه مسلم عن قتيبة وأبى بكر وزهير بن حرب عن سفيان بن عيينة به.
والمقصود أن هؤلاء كلهم اتفقوا على نزول النبي صلى الله عليه وسلم في المحصب لما نفر من منى، ولكن اختلفوا: فمنهم من قال: لم يقصد نزوله وإنما نزله اتفاقا ليكون أسمح لخروجه.
ومنهم من أشعر كلامه بقصده عليه السلام نزوله، وهذا هو الاشبه.
وذلك أنه عليه السلام أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، وكانوا قبل ذلك ينصرفون من كل وجه، كما قال ابن عباس، فأمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت - يعنى طواف الوداع - فأراد عليه السلام أن يطوف هو ومن معه من المسلمين بالبيت طواف الوداع وقد نفر من منى قريب الزوال، فلم يكن يمكنه أن يجئ البيت في بقية يومه ويطوف به ويرحل إلى ظاهر مكة من جانب المدينة، لان ذلك قد يتعذر على هذا الجم الغفير، فاحتاج أن يبيت قبل مكة.
ولم يكن منزل أنسب لمبيته من المحصب الذى كانت قريش قد عاقدت بنى كنانة على بنى هاشم وبنى المطلب فيه، فلم يبرم الله لقريش أمرا بل كبتهم وردهم
__________
(1) من سنن أبى داود 1 / 314.
(*)

خائبين، وأظهر الله دينه ونصر نبيه وأعلى كلمته، وأتم له الدين القويم، وأوضح به الصراط المستقيم فحج بالناس وبين لهم شرائع الله وشعائره، وقد نفر بعد إكمال المناسك فنزل في الموضع الذى تقاسمت قريش فيه على الظلم والعدوان والقطيعة، فصلى به الظهر والعصر
والمغرب والعشاء وهجع هجعة.
وقد كان بعث عائشة أم المؤمنين مع أخيها عبدالرحمن ليعمرها من التنعيم، فإذا فرغت أتته، فلما قضت عمرتها ورجعت أذن في المسلمين بالرحيل إلى البيت العتيق.
كما قال أبو داود: حدثنا وهب بن بقية، حدثنا خالد، عن أفلح، عن القاسم، عن عائشة، قالت: أحرمت من التنعيم بعمرة فدخلت فقضيت عمرتي، وانتظرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابطح حتى فرغت، وأمر الناس بالرحيل.
قالت: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فطاف به ثم خرج.
وأخرجاه في الصحيحين من حديث أفلح بن حميد.
ثم قال أبو داود: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو بكر - يعنى الحنفي - حدثنا أفلح عن القاسم، عن عائشة، قالت: خرجت معه، تعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، [ في ] (1) النفر الآخر فنزل المحصب.
قال أبو داود: فذكر ابن بشار بعثها إلى التنعيم، قالت: ثم جئت سحرا، فأذن في أصحابه بالرحيل فارتحل، فمر بالبيت قبل صلاة الصبح، فطاف به حين خرج، ثم انصرف متوجها إلى المدينة.
ورواه البخاري عن محمد بن بشار به.
* *
__________
(1) من سنن أبى داود 1 / 314.
(*)

قلت: والظاهر أنه عليه السلام صلى الصبح يومئذ عند الكعبة بأصحابه، وقرأ في صلاته تلك بسورة " والطور وكتاب مسطور في رق منشور.
والبيت المعمور والسقف المرفوع.
والبحر المسجور " السورة بكمالها.
وذلك لما رواه البخاري حيث قال: حدثنا إسماعيل، حدثنى مالك، عن محمد بن عبدالرحمن بن نوفل، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أبى سلمة، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: شكوت إلى رسول الله أنى أشتكى، قال: طوفى من وراء الناس وأنت راكبة.
فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى حينئذ إلى جنب البيت وهو يقرأ: " والطور وكتاب مسطور ".
وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي من حديث مالك بإسناد نحوه.
وقد رواه البخاري من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة، أن رسول الله قال وهو بمكة وأراد الخروج، ولم تكن أم سلمة طافت وأرادت الخروج فقال لها: " إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفى على بعيرك والناس يصلون " فذكر الحديث.
فأما ما رواه الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبى سلمة، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرها أن توافي معه صلاة الصبح يوم النحر بمكة.
فهو إسناد كما ترى على شرط الصحيحين، ولم يخرجه أحد من هذا الوجه بهذا اللفظ ولعل قوله: " يوم النحر " غلط من الراوى أو من الناسخ، وإنما هو يوم النفر، ويؤيده ما ذكرناه من رواية البخاري.
والله أعلم.
والمقصود أنه عليه السلام لما فرغ من صلاة الصبح طاف بالبيت سبعا ووقف في الملتزم بين الركن الذى فيه الحجر الاسود وبين باب الكعبة، فدعا الله عزوجل وألزق جسده

بجدار الكعبة.
قال الثوري عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزق وجهه وصدره بالملتزم.
المثنى ضعيف.
فصل ثم خرج عليه السلام من أسفل مكة كما قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة من أعلاها وخرج من أسفلها.
أخرجاه.
وقال ابن عمر: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثنية العليا التى بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى.
رواه البخاري ومسلم.
وفى لفظ: دخل من كداء وخرج من كدى.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل، حدثنا أجلح بن عبدالله، عن أبى الزبير، عن جابر، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة عند غروب الشمس، فلم يصل حتى أتى سرف، وهى على تسعة أميال من مكة.
وهذا غريب جدا، وأجلح فيه نظر.
ولعل هذا في غير حجة الوداع، فإنه عليه السلام كما قدمنا طاف بالبيت بعد صلاة الصبح، فماذا أخره إلى وقت الغروب ؟ هذا غريب جدا.
اللهم إلا أن يكون ما ادعاه ابن حزم صحيحا من أنه عليه السلام رجع إلى المحصب من مكة بعد طوافه بالبيت طواف الوداع، ولم يذكر دليلا على ذلك إلا قول عائشة حين رجعت من اعتمارها من التنعيم فلقيته بصعدة، وهو منهبط على أهل مكة، أو منهبطة وهو مصعد.
قال ابن حزم: الذى لا شك فيه أنها كانت مصعدة من مكة وهو منهبط، لانها

تقدمت إلى العمرة وانتظرها حتى جاءت، ثم نهض عليه السلام إلى طواف الوداع فلقيها منصرفه إلى المحصب من مكة.
وقال البخاري: باب من نزل بذى طوى إذا رجع من مكة.
وقال محمد بن عيسى: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أنه كان إذا أقبل بات بذى طوى حتى إذا أصبح دخل، وإذا نفر مر بذى طوى وبات بها حتى يصبح، وكان يذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك.
هكذا ذكر هذا معلقا بصيغة الجزم، وقد أسنده هو ومسلم من حديث حماد بن زيد به، لكن ليس فيه ذكر المبيت بذى طوى في الرجعة.
فالله أعلم.
* * * فائدة عزيزة: فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استصحب معه من ماء زمزم شيئا.
قال الحافظ أبو عيسى الترمذي: حدثنا أبو كريب، حدثنا خلاد بن يزيد الجعفي، حدثنا زهير بن معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها كانت تحمل من ماء زمزم وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله.
ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبدالله - هو ابن المبارك - حدثنا موسى بن عقبة، عن سالم ونافع، عن عبدالله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من الغزو أو من الحج أو من العمرة، يبدأ فيكبر ثلاث مرات ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الاحزاب وحده.
والاحاديث في هذا كثيرة ولله الحمد والمنة.

فصل في إيراد الحديث الدال على أنه عليه السلام خطب بمكان بين مكة والمدينة،
مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة - يقال له غدير خم - فبين فيها فضل على بن أبى طالب وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن، بسبب ما كان صدر منه إليهم من المعدلة التى ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا، والصواب كان معه في ذلك.
ولهذا لما تفرغ عليه السلام من بيان المناسك ورجع إلى المدينة بين ذلك في أثناء الطريق، فخطب خطبة عظيمة في اليوم الثامن عشر من ذى الحجة عامئذ، وكان يوم الاحد بغدير خم، تحت شجرة هناك، فبين فيها أشياء.
وذكر من فضل على وأمانته وعدله وقربه إليه ما أزاح به ما كان في نفوس كثير من الناس منه.
ونحن نورد عيون الاحاديث الواردة في ذلك ونبين ما فيها من صحيح وضعيف، بحول الله وقوته وعونه.
وقد اعتنى بأمر هذا الحديث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ، فجمع فيه مجلدين أورد فيهما طرقه وألفاظه، وساق الغث والسمين والصحيح والسقيم، على ما جرت به عادة كثير من المحدثين، يوردون ما وقع لهم في ذلك الباب من غير تمييز بين صحيحه وضعيفه.
وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم بن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة.
ونحن نورد عيون ما روى في ذلك، مع إعلامنا أنه لاحظ للشيعة فيه، ولا متمسك لهم ولا دليل، لما سنبينه وننبه عليه.
فنقول وبالله المستعان:

قال محمد بن إسحاق - في سياق حجة الوداع -: حدثنى يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبى عمرة، عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، قال: لما أقبل على من اليمن ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، تعجل إلى رسول الله واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل من القوم
حلة من البز الذى كان مع على.
فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا ؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس.
قال: ويلك ! انزع قبل أن تنتهى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم.
قال ابن إسحاق: فحدثني عبدالله بن عبدالرحمن بن معمر بن حزم، عن سليمان ابن محمد بن كعب بن عجرة، عن عمته زينب بنت كعب - وكانت عند أبى سعيد الخدرى - عن أبى سعيد، قال: اشتكى الناس عليا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا خطيبا، فسمعته يقول: " أيها الناس لا تشكوا عليا، فوالله إنه لاخشن في ذات الله أو في سبيل الله [ من أن يشكى (1) ].
ورواه الامام أحمد من حديث محمد بن إسحاق به وقال: إنه لاخشن في ذات الله أو في سبيل الله.
وقال الامام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين، حدثنا ابن أبى غنية، (2) عن الحكم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن بريدة قال: غزوت مع على اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عليا فتنقصته فرأيت وجه
__________
(1) من ابن هشام 2 / 603.
(2) الاصل: عينة.
(*)

رسول الله يتغير، فقال: " يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قلت: بلى يا رسول الله.
قال: " من كنت مولاه فعلى مولاه ".
وكذا رواه النسائي عن أبى داود الحرانى، عن أبى نعيم الفضل بن دكين، عن عبدالملك بن أبى غنية بإسناده نحوه.
وهذا إسناد جيد قوى رجاله كلهم ثقات.
وقد روى النسائي في سننه، عن محمد بن المثنى، عن يحيى بن حماد، عن أبى معاوية، عن الاعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن أبى الطفيل، عن زيد بن أرقم، قال: لما رجع رسول الله من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن (1) ثم قال: " كأنى قد دعيت فأجبت، إنى قد تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتى، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " ثم قال: " الله مولاى وأنا ولى كل مؤمن " ثم ثم أخذ بيد على فقال: " من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ".
فقلت لزيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينيه وسمعه بأذنيه.
تفرد به النسائي من هذا الوجه.
قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: وهذا حديث صحيح.
* * * وقال ابن ماجه: حدثنا على بن محمد، أخبرنا أبو الحسين، أنبأنا حماد بن سلمة، عن على بن زيد بن جدعان، عن عدى بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع التى حج، فنزل في الطريق، فأمر الصلاة جامعة.
__________
قممن: كنسن.
(*)

فأخذ بيد على فقال: " ألست بأولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: بلى.
قال: ألست بأولى بكل مؤمن من نفسه ؟ قالوا: بلى.
قال: فهذا ولى من أنا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ".
وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن على بن زيد بن جدعان، عن عدى عن البراء.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي والحسن بن سفيان: حدثنا هدبة، حدثنا حماد بن سلمة، عن على بن زيد وأبى هارون، عن عدى بن ثابت، عن البراء، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فلما أتينا على غدير خم كسح (1) لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين، ونودى في الناس الصلاة جامعة، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وأخذ بيده فأقامه عن يمينه فقال: " ألست أولى بكل امرئ من نفسه ؟ قالوا: بلى.
قال: فإن هذا مولى من أنا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ".
فلقيه عمر بن الخطاب فقال: هنيئا لك ! أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة ! ورواه ابن جرير، عن أبى زرعة، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن على بن زيد، وأبى هارون العبدى - وكلاهما ضعيف - عن عدى بن ثابت، عن البراء بن عازب به.
وروى ابن جرير هذا الحديث من حديث موسى بن عثمان الحضرمي - وهو ضعيف جدا - عن أبى إسحاق السبيعى، عن البراء وزيد بن أرقم.
فالله أعلم.
__________
(1) كسح: كنس (*)

وقال الامام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا عبدالملك، عن أبى عبدالرحيم الكندى، عن زاذان أبى عمر، قال سمعت عليا بالرحبة وهو ينشد الناس من شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم وهو يقول ما قال ؟ قال: فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا أنهم سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: " من كنت مولاه فعلى مولاه ".
تفرد به أحمد، وأبو عبد الرحيم هذا لا يعرف.
وقال عبدالله بن الامام أحمد في مسند أبيه: حديث على بن حكيم الازدي، أخبرنا شريك، عن أبى إسحاق، عن سعيد بن وهب، وعن زيد بن يثيع قال: نشد على الناس في الرحبة من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم إلا قام.
قال: فقام من قبل سعيد ستة ومن قبل زيد ستة، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلى يوم غدير خم: " أليس الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: بلى.
قال: اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ".
قال عبدالله: وحدثني على بن حكيم، أخبرنا شريك، عن أبى إسحاق، عن عمرو ذى أمر، مثل حديث أبى إسحاق يعنى عن سعيد وزيد.
وزاد فيه: " وانصر من نصره واخذل من خذله ".
قال عبدالله: وحدثنا على، حدثنا شريك، عن الاعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن أبى الطفيل، عن زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وقال النسائي في كتاب " خصائص على ": حدثنا الحسين بن حرب، حدثنا

الفضل بن موسى، عن الاعمش، عن أبى إسحاق، عن سعيد بن وهب، قال: قال على في الرحبة: أنشد بالله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم يقول: " إن الله ولى المؤمنين، ومن كنت وليه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره ".
وكذلك رواه شعبة عن أبى إسحاق وهذا إسناد جيد.
ورواه النسائي أيضا من حديث إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عمرو ذى أمر، قال نشد على الناس بالرحبة، فقام أناس فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول يوم
غدير خم: " من كنت مولاه فإن عليا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه وانصر من نصره ".
ورواه ابن جرير، عن أحمد بن منصور، عن عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن زيد بن وهب وعبد خير، عن على.
وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور، عن عبيدالله بن موسى وهو شيعي ثقة، عن مطر بن خليفة، عن أبى إسحاق، عن زيد بن وهب وزيد بن يثيع وعمرو ذى أمر، أن عليا نشد الناس بالكوفة.
وذكر الحديث.
وقال عبدالله بن أحمد: حدثنى عبدالله بن عمر القواريرى، حدثنا يونس بن أرقم، حدثنا يزيد بن أبى زياد، عن عبدالرحمن بن أبى ليلى، شهدت عليا في الرحبة ينشد الناس فقال: أنشد الله من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم يقول: " من كنت مولاه فعلى مولاه " لما قام فشهد.
قال عبدالرحمن: فقام اثنا عشر رجلا بدريا كأنى أنظر إلى أحدهم، فقالوا: نشهد أنا سمعنا رسول الله يقول يوم غدير خم: " ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجي

أمهاتهم ؟ " فقلنا: بلى يارسول الله.
قال: " من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه " إسناد ضعيف غريب.
وقال عبدالله بن أحمد: حدثنا أحمد بن نمير الوكيعى، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا الوليد بن عقبة بن ضرار القيسي، أنبأنا سماك، عن عبيد بن الوليد القيسي، قال: دخلت على عبدالرحمن بن أبى ليلى فحدثني أنه شهد عليا في الرحبة قال: أنشد الله رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهده يوم غدير خم إلا قام، ولا يقوم إلا من قد رآه.
فقام اثنا عشر رجلا فقالوا: قد رأيناه وسمعناه حيث أخذ بيده يقول: " اللهم
وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله " فقام إلا ثلاثة لم يقوموا فدعا عليهم فأصابتهم دعوته.
وروى أيضا عن عبدالاعلى بن عامر الثعلبي وغيره، عن عبدالرحمن بن أبى ليلى به.
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا أبو عامر العقدى، وروى ابن أبى عاصم، عن سليمان الغلابى، عن أبى عامر العقدى، حدثنا كثير بن زيد، حدثنى محمد بن عمر بن على، عن أبيه، عن على، أن رسول الله حضر الشجرة بخم.
فذكر الحديث وفيه: من كنت مولاه فإن عليا مولاه.
وقد رواه بعضهم عن أبى عامر، عن كثير، عن محمد بن عمر بن على، عن على منقطعا.
وقال إسماعيل بن عمرو البجلى، وهو ضعيف، عن مسعر عن طلحة، بن مصرف عن عميرة بن سعد: أنه شهد عليا على المنبر يناشد أصحاب رسول الله من سمع رسول الله يوم غدير خم.
فقام اثنا عشر رجلا منهم أبو هريرة وأبو سعيد وأنس بن مالك،

فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله يقول: " من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".
وقد رواه عبيدالله بن موسى عن هانئ بن أيوب، وهو ثقة، عن طلحة ابن مصرف به.
وقال عبدالله بن أحمد: حدثنى حجاج بن الشاعر، حدثنا شبابة، حدثنا نعيم بن حكيم، حدثنى أبو مريم ورجل من جلساء على عن على، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم غدير خم: " من كنت مولاه فعلى مولاه ".
قال: فزاد الناس بعد: " وال من والاه، وعاد من عاداه ".
روى أبو داود بهذا السند حديث المخدج.
وقال الامام أحمد: حدثنا حسين بن محمد وأبو نعيم المعنى، قالا: حدثنا قطن، عن أبى الطفيل، قال: جمع على الناس في الرحبة - يعنى رحبة مسجد الكوفة - فقال: أنشد الله كل من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام.
فقام ناس كثير فشهدوا حين أخذ بيده فقال للناس: " أتعلمون أنى أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا: نعم يا رسول الله.
قال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".
قال: فخرجت كأن في نفسي شيئا، فلقيت زيد بن أرقم.
فقلت له: إنى سمعت عليا يقول: كذا وكذا.
قال: فما تنكر ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك له.
هكذا ذكره الامام أحمد في مسند زيد بن أرقم رضى الله عنه.
ورواه النسائي من حديث الاعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن أبى الطفيل، عن زيد بن أرقم به.
وقد تقدم.
وأخرجه الترمذي عن بندار، عن غندر، عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، سمعت

أبا الطفيل يحدث عن أبى سريحة - أو زيد بن أرقم شك شعبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من كنت مولاه فعلى مولاه.
ورواه ابن جرير عن أحمد بن حازم، عن أبى نعيم، عن كامل أبى العلاء، عن حبيب بن أبى ثابت، عن يحيى بن جعدة، عن زيد بن أرقم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبى عبيد، عن ميمون أبى عبدالله، قال: قال زيد بن أرقم وأنا أسمع: نزلنا مع رسول الله منزلا يقال له وادى خم، فأمر بالصلاة فصلاها بهجير.
قال: فخطبنا وأظل رسول الله بثوب على شجرة ستره من الشمس.
فقال: " ألستم
تعلمون - أو ألستم تشهدون - أنى أولى بكل مؤمن من نفسه، قالوا: بلى.
قال: فمن كنت مولاه فإن عليا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ".
ثم رواه أحمد عن غندر عن شعبة، عن ميمون أبى عبدالله، عن زيد بن أرقم إلى قوله: من كنت مولاه فعلى مولاه قال ميمون: حدثنى بعض القوم عن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".
وهذا إسناد جيد رجاله ثقات على شرط السنن، وقد صحح الترمذي بهذا السند حديثا في الريث.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حنش بن الحارث بن لقيط الاشجعى، عن رباح بن الحارث قال: جاء رهط إلى على بالرحبة فقالوا: السلام عليك يا مولانا.
قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب.
قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم يقول: من كنت مولاه فهذا مولاه.
قال رباح: فلما مضوا تبعتهم فسألت: من هؤلاء ؟ قالوا: نفر من الانصار منهم أبو أيوب الانصاري.

وقال الامام أحمد: حدثنا حنش، عن رباح بن الحارث، قال: رأيت قوما من الانصار قدموا على على في الرحبة فقال: من القوم ؟ فقالوا: مواليك يا أمير المؤمنين فذكر معناه.
هذا لفظه وهو من أفراده.
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن عثمان أبو الجوزاء، حدثنا محمد بن خالد بن عثمة، حدثنا موسى بن يعقوب الزمعى، وهو صدوق، حدثنى مهاجر بن مسمار، عن عائشة بنت سعد، سمعت أباها يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم يوم الجحفة وأخذ بيد على فخطب ثم قال: أيها الناس إنى وليكم.
قالوا: صدقت.
فرفع يد على فقال:
هذا وليى والمؤدى عنى، وإن الله موالى من والاه، ومعادي من عاداه.
قال شيخنا الذهبي: وهذا حديث حسن غريب.
ثم رواه ابن جرير من حديث يعقوب بن جعفر بن أبى كبير، عن مهاجر بن مسمار فذكر الحديث وأنه عليه السلام وقف حتى لحقه من بعده وأمر برد من كان تقدم، فخطبهم الحديث.
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في الجزء الاول من كتاب " غدير خم ".
قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: وجدته في نسخة مكتوبة عن ابن جرير -: حدثنا محمود بن عوف الطائى، حدثنا عبيدالله بن موسى، أنبأنا إسماعيل بن كشيط، عن جميل بن عمارة، عن سالم بن عبدالله بن عمر - قال ابن جرير: أحسبه قال: عن عمر وليس في كتابي - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد على [ يقول ] " من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ".
وهذا حديث غريب.
بل منكر وإسناده ضعيف قال البخاري في جميل بن عمارة هذا فيه نظر.

وقال المطلب بن زياد، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، سمع جابر بن عبدالله يقول: كنا بالجحفة بغدير خم فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خباء أو فسطاط، فأخذ بيد على فقال: " من كنت مولاه فعلى مولاه ".
قال شيخنا الذهبي: هذا حديث حسن.
وقد رواه ابن لهيعة عن بكر بن سوادة وغيره، عن أبى سلمة بن عبدالرحمن، عن جابر بنحوه.
* * * وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم وابن أبى بكير، قالا: حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن حبشي بن جنادة.
قال يحيى بن آدم: وكان قد شهد حجة
الوداع.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على منى وأنا منه، ولا يؤدى عنى إلا أنا أو على.
وقال ابن أبى بكير: لا يقضى عنى دينى إلا أنا أو على.
وكذا رواه أحمد أيضا عن أبى أحمد الزبيري، عن إسرائيل.
قال الامام أحمد: وحدثناه الزبيري، حدثنا شريك، عن أبى إسحاق، عن حبشي ابن جنادة مثله.
قال: فقلت لابي إسحاق: أين سمعت منه ؟ قال: وقف علينا على فرس في مجلسنا في جبانة السبيع.
وكذا رواه أحمد، عن أسود بن عامر، ويحيى بن آدم، عن شريك ورواه الترمذي عن إسماعيل بن موسى، عن شريك، وابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة وسويد بن سعيد وإسماعيل بن موسى، ثلاثتهم عن شريك به ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان، عن يحيى بن آدم، عن إسرائيل به.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
ورواه سليمان بن قرم - وهو متروك - عن أبى إسحاق، عن حبشي بن جنادة، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم: " من كنت مولاه فعلى مولاه،

اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ".
وذكر الحديث.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، أنبأنا شريك، عن أبى يزيد الازدي، عن أبيه، قال: دخل أبو هريرة المسجد فاجتمع الناس إليه فقام إليه شاب فقال: أنشدك بالله أسمعت رسول الله يقول: " من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " قال: نعم.
ورواه ابن جرير عن أبى كريب، عن شاذان، عن شريك به.
تابعه إدريس الازدي، عن أخيه أبى يزيد، واسمه داود بن يزيد به.
ورواه ابن جرير أيضا من حديث إدريس وداود عن أبيهما عن أبى هريرة فذكره
* * * فأما الحديث الذى رواه ضمرة عن ابن شوذب، عن مطر الوراق، عن شهر بن حوشب، عن أبى هريرة، قال لما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد على قال: " من كنت مولاه فعلى مولاه " فأنزل الله عزوجل: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ".
قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، من صام يوم ثمان عشرة من ذى الحجة كتب له صيام ستين شهرا.
فانه حديث منكر جدا، بل كذب، لمخالفته لما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن هذه الآية نزلت في يوم الجمعة يوم عرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بها.
كما قدمنا.
وكذا قوله: " إن صيام يوم الثامن عشر من ذى الحجة وهو يوم غدير خم يعدل صيام ستين شهرا " لا يصح، لانه قد ثبت ما معناه في الصحيح أن صيام شهر رمضان بعشرة أشهر، فكيف يكون صيام يوم واحد يعدل ستين شهرا ؟ ! هذا باطل.

وقد قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي بعد إيراده هذا الحديث: هذا حديث منكر جدا.
ورواه حبشون الخلال وأحمد بن عبدالله بن أحمد النيرى، وهما صدوقان عن على ابن سعيد الرملي، عن ضمرة.
قال: ويروى هذا الحديث من حديث عمر بن الخطاب ومالك بن الحويرث وأنس بن مالك وأبى سعيد وغيرهم بأسانيد واهية.
قال: وصدر الحديث متواتر أتيقن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، وأما: " اللهم وال من والاه " فزيادة قوية الاسناد.
وأما هذا الصوم فليس بصحيح، ولا والله ما نزلت هذه الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم بأيام.
والله تعالى أعلم.
وقال الطبراني: حدثنا على بن إسحاق الوزير الاصبهاني، حدثنا على بن محمد المقدمى
حدثنا محمد بن عمر بن على المقدمى، حدثنا على بن محمد بن يوسف بن شبان بن مالك بن مسمع، حدثنا سهل بن حنيف بن سهل بن مالك أخى كعب بن مالك، عن أبيه عن جده، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من حجة الوداع صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن أبا بكر لم يسؤنى قط، فاعرفوا ذلك له.
أيها الناس إنى عن أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف والمهاجرين الاولين راض، فاعرفوا ذلك لهم.
أيها الناس احفظوني في أصحابي وأصهاري وأحبابي، لا يطلبكم الله بمظلمة أحد منهم أيها الناس ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين، وإذا مات أحد منهم فقولوا فيه خيرا.

سنة إحدى عشرة من الهجرة استهلت هذه السنة وقد استقر الركاب الشريف النبوى بالمدينة النبوية المطهرة، مرجعه من حجة الوداع.
وقد وقعت في هذه السنة أمور عظام، من أعظمها خطبا وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه عليه السلام نقله الله عزوجل من هذه الدار الفانية إلى النعيم الابدي في محلة عالية رفيعة ودرجة في الجنة لا أعلى منها ولا أسنى كما قال تعالى: " وللآخرة خير لك من الاولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى ".
وذلك بعد ما أكمل أداء الرسالة التى أمره الله تعالى بإبلاغها، ونصح أمته ودلهم على خير ما يعلمه لهم، وحذرهم ونهاهم عما فيه مضرة عليهم في دنياهم وأخراهم، وقد قدمنا ما رواه صاحبا الصحيح من حديث عمر بن الخطاب أنه قال: نزل قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة.
وروينا من طريق جيد: أن عمر بن الخطاب حين نزلت هذه الآية بكى، فقيل:
ما يبكيك ؟ فقال: إنه ليس بعد الكمال إلا النقصان.
وكأنه استشعر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أشار عليه السلام إلى ذلك فيما رواه مسلم من حديث ابن جريج، عن أبى الزبير عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند جمرة العقبة وقال لنا: " خذوا عنى مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامى هذا ".
وقدمنا ما رواه الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة

الربذى، عن صدقة بن يسار، عن ابن عمر، قال: نزلت هذه السورة: " إذا جاء نصر الله والفتح " في أوسط أيام التشريق، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت.
ثم ذكر خطبته في ذلك اليوم كما تقدم.
وهكذا قال عبدالله بن عباس رضى الله عنهما لعمر بن الخطاب حين سأله عن تفسير هذه السورة بمحضر كثير من الصحابة، ليريهم فضل ابن عباس وتقدمه وعلمه، حين لامه بعضهم على تقديمه وإجلاسه له مع مشايخ بدر، فقال: إنه من حيث تعلمون.
ثم سألهم وابن عباس حاضر عن تفسير هذه السوره: " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا.
فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " فقالوا: أمرنا إذا فتح لنا أن نذكر الله ونحمده ونستغفره.
فقال: ما تقول يابن عباس ؟ فقال هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى إليه.
فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تعلم.
وقد ذكرنا في تفسير هذه السورة ما يدل على قول ابن عباس من وجوه، وإن كان لا ينافى ما فسر به الصحابة رضى الله عنهم.
وكذلك ما رواه الامام أحمد، حدثنا وكيع، عن ابن أبى ذئب، عن صالح مولى التوأمة، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حج بنسائه قال: " إنما
هي هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقد رواه أبو داود في سننه من وجه آخر جيد.
* * * والمقصود أن النفوس استشعرت بوفاته عليه السلام في هذه السنة.
ونحن نذكر ذلك ونورد ما روى فيما يتعلق به من الاحاديث والآثار.
وبالله المستعان.

ولنقدم على ذلك ما ذكره الائمة محمد بن إسحاق بن يسار وأبو جعفر بن جرير وأبو بكر البيهقى في هذا الموضع قبل الوفاة، من تعداد حججه وغزواته وسراياه وكتبه ورسله إلى الملوك.
فلنذكر ذلك ملخصا مختصرا.
ثم نتبعه بالوفاة.
ففى الصحيحين من حديث أبى إسحاق السبيعى عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة، وحج بعد ما هاجر حجة الوداع ولم يحج بعدها.
قال أبو إسحاق: وواحدة بمكة.
كذا قال أبو إسحاق السبيعى.
وقد قال زيد بن الحباب، عن سفيان الثوري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حج ثلاث حجات: حجتين قبل أن يهاجر، وواحدة بعد ما هاجر معها عمرة، وساق ستا وثلاثين (1) بدنة وجاء على بتمامها من اليمن.
وقد قدمنا عن غير واحد من الصحابة منهم أنس بن مالك في الصحيحين أنه عليه السلام: اعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية، وعمرة القضاء، وعمرة الجعرانة، والعمرة التى مع حجة الوداع.
وأما الغزوات فروى البخاري عن أبى عاصم النبيل، عن يزيد بن أبى عبيد، عن
سلمة بن الاكوع.
قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات ومع زيد ابن حارثة تسع غزوات يؤمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى الصحيحين عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن زيد، عن سلمة، قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات، وفيما يبعث من البعوث تسع غزوات، مرة علينا أبو بكر ومرة علينا أسامة بن زيد.
__________
(1) الذى سبق أن ما ساقه الرسول معه من الهدى ست وستون (*).

وفى صحيح البخاري من حديث إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن البراء، قال: غزا رسول الله خمس عشرة غزوة.
وفى الصحيحين من حديث شعبة، عن أبى إسحاق، عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة وشهد معه منها سبع عشرة أولها العشير أو العسير.
وروى مسلم عن أحمد بن حنبل، عن معتمر، عن كهمس بن الحسن، عن ابن بريدة، عن أبيه، أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ست عشرة غزوة.
وفى رواية لمسلم من طريق الحسين بن واقد، عن عبدالله بن بريدة، عن أبيه.
أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة قاتل منها في ثمان.
وفى رواية عنه بهذا الاسناد: وبعث أربعا وعشرين سرية، قاتل يوم بدر وأحد والاحزاب والمريسيع وخيبر ومكة وحنين.
وفى صحيح مسلم من حديث أبى الزبير، عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا إحدى وعشرين غزوة، غزوت معه منها تسع عشرة غزوة ولم أشهد بدرا ولا أحدا منعنى أبى، فلما قتل أبى يوم أحد لم أتخلف عن غزاة غزاها.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: غزا رسول الله ثمانى عشرة غزوة.
قال: وسمعته مرة يقول: أربعا وعشرين غزوة، فلا
أدرى أكان ذلك وهما أو شيئا سمعته بعد ذلك.
وقال قتادة: غزا رسول الله تسع عشرة قاتل في ثمان منها، وبعث من البعوث أربعا وعشرين.
فجميع غزواته وسراياه ثلاث وأربعون.
وقد ذكر عروة بن الزبير والزهرى وموسى بن عقبة ومحمد إسحاق بن يسار وغير واحد من أئمة هذا الشأن، أنه عليه السلام قاتل يوم بدر في رمضان من سنة اثنتين، ثم في أحد في شوال سنة ثلاث، ثم الخندق وبنى قريظة في شوال أيضا من سنة أربع وقيل:

خمس، ثم في بنى المصطلق بالمريسيع في شعبان سنة خمس، ثم في خيبر في صفر سنة سبع ومنهم من يقول سنة ست.
والتحقيق أنه في أول سنة سبع وآخر سنة ست، ثم قاتل أهل مكة في رمضان سنة ثمان، وقاتل هوازن، وحاصر أهل الطائف في شوال وبعض ذى الحجة سنة ثمان كما تقدم تفصيله.
وحج في سنة ثمان بالناس عتاب بن أسيد نائب مكة، ثم في سنة تسع أبو بكر الصديق، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين سنة عشر.
* * * وقال محمد بن إسحاق: وكان جميع ما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة سبعا وعشرين غزوة: غزوة ودان وهى غزوة الابواء، ثم غزوة بواط من ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الاولى يطلب كرز بن جابر، ثم غزوة بدر العظمى التى قتل الله فيها صناديد قريش، ثم غزوة بنى سليم حتى بلغ الكدر، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب، ثم غزوة غطفان وهى غزوة ذى أمر ثم غزوة بحران معدن بالحجاز، ثم غزوة أحد، ثم حمراء الاسد، ثم غزوة بنى النضير، ثم غزوة ذات الرقاع من نخل، ثم غزوة بدر الآخرة، ثم غزوة دومة الجندل، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بنى قريظة، ثم غزوة بنى لحيان من هذيل، ثم غزوة ذى قرد، ثم غزوة بنى المصطلق من خزاعة، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم
غزوة خيبر، ثم عمرة القضاء، ثم غزوة الفتح، ثم غزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك.
قال ابن إسحاق: قاتل منها في تسع غزوات: غزوة بدر وأحد والخندق وقريظة والمصطلق وخيبر والفتح وحنين والطائف.
قلت: وقد تقدم ذلك كله مبسوطا في أماكنه بشواهده وأدلته.
ولله الحمد.
* * *

قال ابن إسحاق وكانت بعوثه عليه السلام وسراياه ثمانيا وثلاثين من بين بعث وسرية.
ثم شرع رحمه الله في ذكر تفصيل ذلك.
وقد قدمنا ذلك كله أو أكثره مفصلا في مواضعه ولله الحمد والمنة.
ولنذكر ملخص ما ذكره ابن إسحاق: بعث عبيدة بن الحارث إلى أسفل ثنية ذى المروة (1) ثم بعث حمزة بن عبدالمطلب إلى الساحل من ناحية العيص، ومن الناس من يقدم هذا على بعث عبيدة كما تقدم فالله أعلم.
بعث سعد بن أبى وقاص إلى الخرار، بعث عبدالله بن جحش إلى نخلة، بعث زيد ابن حارثة إلى القردة، بعث محمد بن مسلمة إلى كعب بن الاشرف، بعث مرثد بن أبى مرثد إلى الرجيع، بعث المنذر بن عمرو إلى بئر معونة، بعث أبى عبيدة إلى ذى القصة، بعث عمر بن الخطاب إلى تربة في أرض بنى عامر، بعث على إلى اليمن.
بعث غالب بن عبدالله الكلبى إلى الكديد فأصاب بنى الملوح، وأغار عليهم في الليل فقتل طائفة منهم فاستاق نعمهم فجاء نفرهم في طلب النعم، فلما اقتربوا حال بينهم واد من السيل، وأسروا في مسيرهم هذا الحارث بن مالك بن البرصاء.
وقد حرر ابن إسحاق هذا هاهنا وقد تقدم بيانه.
بعث على بن أبى طالب إلى أرض فدك، بعث أبى العوجاء السلمى إلى بنى سليم
أصيب هو وأصحابه، بعث عكاشة إلى الغمرة، بعث أبى سلمة بن عبد الاسد إلى قطن وهو ماء بنجد لبنى أسد، بعث محمد بن مسلمة إلى القرطاء من هوازن، بعث بشير بن سعد إلى بنى مرة بفدك، وبعثه أيضا إلى ناحية حنين، بعث زيد بن حارثة إلى الجموم من أرض بنى سليم.
بعث زيد بن حارثة إلى جذام من أرض بنى خشين.
قال ابن هشام: وهى من
__________
(1) الاصل: ثنية المرة.
وما أثبته عن ابن هشام 2 / 609.
(*)

أرض حسمى.
وكان سببها فيما ذكره ابن إسحاق وغيره: أن دحية بن خليفة لما رجع من عند قيصر وقد أبلغه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الله فأعطاه من عنده تحفا وهدايا، فلما بلغ واديا في أرض بنى جذام يقال له شنار أغار عليه الهنيد بن عوص وابنه عوص بن الهنيد الضليعيان، والضليع بطن من جذام، فأخذا ما معه فنفر حى منهم قد أسلموا فاستنقذوا ما كان أخذ لدحية فردوه عليه.
فلا رجع دحية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره الخبر واستسقاه دم الهنيد وابنه عوص، فبعث حينئذ زيد بن حارثة في جيش إليهم فساروا إليهم من ناحية الاولاج فأغار بالماقص من ناحية الحرة، فجمعوا ما وجدوا من مال وناس وقتلوا الهنيد وابنه ورجلين من بنى الاحنف ورجلا من بنى خصيب.
فلما احتاز زيد أموالهم وذراريهم اجتمع نفر منهم برفاعة بن زيد، وكان قد جاءه كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله، فقرأه عليهم رفاعة فاستجاب له طائفة منهم، ولم يكن زيد بن حارثة يعلم ذلك فركبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ثلاثة أيام، فأعطوه الكتاب فأمر بقراءته جهرة على الناس، ثم قال: رسول الله: كيف أصنع بالقتلى ؟ ثلاث مرات.
فقال رجل منهم يقال له أبو زيد بن عمرو: أطلق لنا يا رسول الله من كان حيا ومن قتل فهو تحت قدمى هذه.
فبعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب، فقال على: إن زيدا لا يطيعني.
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه علامة، فسار معهم على جمل لهم فلقوا زيدا وجيشه ومعهم الاموال والذراري بفيفاء الفحلتين، فسلمهم على جميع ما كان أخذلهم لم يفقدوا منه شيئا بعث زيد بن حارثة أيضا إلى بنى فزارة بوادي القرى.
فقتل طائفة من أصحابه وارتث (1) هو من بين القتلى، فلما رجع آلى ألا يمس رأسه غسل من جنابة حتى يغزوهم أيضا،
__________
(1) جمل جريحا وبه رمق.
(*)

فلما استبل من جراحه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانيا في جيش، فقتلهم بوادي القرى، وأسر أم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن بدر وكانت عند مالك بن حذيفة بن بدر ومعها ابنة لها، فأمر زيد بن حارثة قيس بن المسحر اليعمرى فقتل أم قرفة واستبقى ابنتها وكانت من بيت شرف يضرب بأم قرفة المثل في عزها، وكانت بنتها مع سلمة بن الاكوع، فاستوهبها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياها، فوهبها رسول الله لخاله حزن بن أبى وهب فولدت له ابنه عبدالرحمن.
بعث عبدالله بن رواحة إلى خيبر مرتين: إحداهما التى أصاب فيها اليسير بن رزام، وكان يجمع غطفان لغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله عبدالله بن رواحة في نفر منهم عبدالله بن أنيس، فقدموا عليه فلم يزالوا يرغبونه ليقدموه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار معهم فلما كانوا بالقرقرة على ستة أميال من خيبر ندم اليسير على مسيره، ففطن له عبدالله بن أنيس - وهو يريد السيف - فضربه بالسيف فأطن قدمه، وضربه اليسير بمخرش من شوحط في رأسه فأمه، ومال كل رجل من المسلمين على صاحبه من اليهود فقتله، إلا رجلا واحدا أفلت على قدميه.
فلما قدم ابن أنيس تفل في رأسه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقح
جرحه ولم يؤذه.
قلت: وأظن البعث الآخر إلى خيبر لما بعثه عليه السلام خارصا على نخيل خيبر.
والله أعلم.
بعث عبدالله بن عتيك وأصحابه إلى خيبر فقتلوا أبا رافع اليهودي.
بعث عبدالله بن أنيس إلى خالد بن سفيان بن نبيح فقتله بعرنة.
وقد روى ابن إسحاق قصته هاهنا مطولة.
وقد تقدم ذكرها في سنة خمس والله أعلم.
بعث زيد بن حارثة وجعفر وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام، فأصيبوا

كما تقدم.
بعث كعب بن عمير إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فأصيبوا جميعا أيضا.
بعث عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر إلى بنى العنبر من تميم فأغار عليهم، فأصاب منهم أناسا ثم ركب وفدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسراهم فأعتق بعضا وفدى بعضا.
بعث غالب بن عبدالله أيضا إلى أرض بنى مرة فأصيب بها مرداس بن نهيك حليف لهم من الحرقة من جهينة، قتله أسامة بن زيد ورجل من الانصار أدركاه، فلما شهرا السلاح قال: لا إله إلا الله.
فلما رجعا لامهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد اللوم، فاعتذرا بأنه ما قال ذلك إلا تعوذا من القتل.
فقال لاسامة: هلا شققت عن قلبه ؟ ! وجعل يقول لاسامة: من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ! قال أسامة: فما زال يكررها حتى لوددت أن لم أكن أسلمت قبل ذلك.
وقد تقدم الحديث بذلك.
بعث عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل من أرض بنى عذرة يستنفر العرب إلى الشام.
وذلك أن أم العاص بن وائل كانت من بلى، فلذلك بعث عمرا يستنفرهم ليكون أنجع فيهم.
فلما وصل إلى ماء لهم يقال له السلسل خافهم، فبعث يستمد رسول الله، فبعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيهم أبو بكر وعمر وعليها أبو عبيدة بن الجراح، فلما انتهوا إليه تأمر عليهم كلهم عمرو وقال: إنما بعثتم مددا لى.
فلم يمانعه أبو عبيدة لانه كان رجلا سهلا لينا هينا عند أمر الدنيا، فسلم له وانقاد معه، فكان عمرو يصلى بهم كلهم، ولهذا لما رجع قال: يا رسول الله أي الناس أحب إليك ؟ قال: عائشة.
قال: فمن الرجال ؟ قال: أبوها.
بعث عبدالله بن أبى حدرد إلى بطن إضم، وذلك قبل فتح مكة، وفيها قصة مجلم بن حثامة.
وقد تقدم مطولا في سنة سبع.
بعث ابن أبى حدرد أيضا إلى الغابة.

بعث عبدالرحمن بن عوف إلى دومة الجندل.
قال محمد بن إسحاق: حدثنى من لا أتهم، عن عطاء بن أبى رباح، قال: سمعت رجلا من أهل البصرة يسأل عبدالله بن عمر بن الخطاب عن إرسال العمامة من خلف الرجل إذا اعتم.
قال: فقال عبدالله: أخبرك إن شاء الله عن ذلك.
تعلم أنى كنت عاشر عشرة رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده، أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وأبو سعيد الخدرى، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل فتى من الانصار فسلم على رسول الله ثم جلس، فقال: يارسول الله أي المؤمنين أفضل ؟ قال: أحسنهم خلقا.
قال: فأى المؤمنين أكيس ؟ قال: أكثرهم ذكرا للموت وأحسنهم استعدادا له قبل أن ينزل به، أولئك الاكياس.
ثم سكت الفتى.
وأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين خمس خصال إذا نزلن بكم - وأعوذ بالله أن تدركوهن - إنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يغلبوا عليها إلا ظهر فيهم الطاعون والاوجاع التى لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم
ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا منعوا القطر من السماء فلولا البهائم ما مطروا، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوا من غيرهم فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله ويجبروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم.
قال: ثم أمر عبدالرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية بعثه عليها فأصبح وقد اعتم بعمامة من كرابيس سوداء، فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نقضها ثم عممه بها وأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوا من ذلك.
ثم قال: هكذا يابن عوف فاعتم فإنه أحسن وأعرف.

ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللواء، فدفعه إليه فحمد الله وصلى على نفسه ثم قال: خذه يابن عوف، اغزوا جميعا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله لا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، فهذا عهد الله وسيرة نبيكم فيكم.
فأخذ عبدالرحمن بن عوف اللواء.
قال: ابن هشام: فخرج إلى دومة الجندل.
بعث أبى عبيدة بن الجراح، وكانوا قريبا من ثلاثمائة راكب إلى سيف البحر، وزوده عليه السلام جرابا من تمر و [ فيها ] قصة العنبر وهى الحوت العظيم الذى دسره البحر، وأكلهم كلهم منه قريبا من شهر حتى سمنوا وتزودوا منه وشائق أي شرائح، حتى رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطعموه منه فأكل منه.
كما تقدم بذلك الحديث.
قال ابن هشام: ومما لم يذكر ابن إسحاق من البعوث - يعنى هاهنا - بعث عمرو بن أمية الضمرى لقتل أبى سفيان صخر بن حرب بعد مقتل خبيب بن عدى وأصحابه، فكان من أمره ما قدمناه.
وكان مع عمرو بن أمية جبار بن صخر ولم يتفق لهما قتل أبى سفيان بل قتلا رجلا
غيره وأنزلا خبيبا عن جذعه.
وبعث سالم بن عمير أحد البكائين إلى أبى عفك، أحد بنى عمرو بن عوف وكان قد نجم نفاقه حين قتل رسول الله الحارث بن سويد بن الصامت كما تقدم.
فقال يرثيه ويذم - قبحه الله - الدخول في الدين: لقد عشت دهرا وما إن أرى * من الناس دارا ولا مجمعا أبر عهودا وأوفى لمن * يعاقد فيهم إذا ما دعا من أولاد قيلة في جمعهم * يهد الجبال ولم يخضعا

فصدعهم راكب جاءهم * حلال حرام لشتى معا فلو أن بالعز صدقتم * أو الملك تابعتم تبعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من لى بهذا الخبيث ؟ فانتدب له سالم بن عمير هذا فقتله، فقالت أمامة المريدية في ذلك: تكذب دين الله والمرء أحمدا * لعمرو الذى أمناك بئس الذى يمنى حباك حنيف آخر الليل طعنة * أبا عفك خذها على كبر السن وبعث عمير بن عدى الخطمى لقتل العصماء بنت مروان من بنى أمية بن زيد، كانت تهجو الاسلام وأهله، ولما قتل أبو عفك المذكور أظهرت النفاق وقالت في ذلك: باست بنى مالك والنبيت * وعوف وباست بنى الخزرج أطعتم أتاوى من غيركم * فلا من مراد ولا مذحج ترجونه بعد قتل الرؤوس * كما يرتجى ورق المنضج ألا أنف يبتغى غرة * فيقطع من أمل المرتجى قال: فأجابها حسان بن ثابت فقال:
بنو وائل وبنو واقف * وخطمة دون بنى الخزرج متى ما دعت سفها ويحها * بعولتها والمنايا تجى فهزت فتى ماجدا عرقه * كريم المداخل والمخرج فضرجها من نجيع الدما * ء بعيد الهدو فلم يحرج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك: ألا آخذ لى من ابنة مروان ؟ فسمع ذلك عمير بن عدى، فلما أمسى من تلك الليلة سرى عليها فقتلها.
ثم أصبح فقال:

يا رسول الله قتلتها.
فقال: نصرت الله ورسوله يا عمير.
قال: يا رسول الله هل على من شأنها ؟ قال: لا تنتطح فيها عنزان.
فرجع عمير إلى قومه وهم يختلفون في قتلها وكان لها خمسة بنون، فقال: أنا قتلتها فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون.
فذلك أول يوم عز الاسلام في بنى خطمة، فأسلم منهم بشر كثير لما رأوا من عز الاسلام.
ثم ذكر البعث الذين أسروا ثمامة بن أثال الحنفي، وما كان من أمره في إسلامه.
وقد تقدم ذلك في الاحاديث الصحاح.
وذكر ابن هشام أنه هو الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء.
لما كان من قلة أكله بعد إسلامه، وأنه لما انفصل عن المدينة دخل مكة معتمرا وهو يلبى، فنهاه أهل مكة عن ذلك فأبى عليهم وتوعدهم بقطع الميرة عنهم من اليمامة، فلما عاد إلى اليمامة منعهم الميرة، حتى كتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعادها إليهم.
وقال بعض بنى حنيفة: ومنا الذى لبى بمكة محرما * برغم أبى سفيان في الاشهر الحرم وبعث علقمة بن مجزز المدلجى ليأخذ بثأر أخيه وقاص بن مجزز يوم قتل بذى قرد، فاستأذن رسول الله ليرجع في آثار القوم، فأذن له وأمره على طائفة من الناس، فلما قفلوا
أذن لطائفة منهم في التقدم واستعمل عليهم عبدالله بن حذافة وكانت فيه دعابة، فاستوقد نارا وأمرهم أن يدخلوها، فلما عزم بعضهم على الدخول قال.
إنما كنت أضحك.
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه.
والحديث في هذا ذكره ابن هشام عن الدراوردى، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن عمرو بن الحكم بن ثوبان، عن أبى سعيد الخدرى.
وبعث كرز بن جابر لقتل أولئك النفر الذين قدموا المدينة، وكانوا من قيس من

بجيلة، فاستوخموا المدينة واستوبؤوها فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبله فيشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا قتلوا راعيها وهو يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبحوه وغرزوا الشوك في عينيه، واستاقوا اللقاح، فبعث في آثارهم كرز بن جابر في نفر من الصحابة فجاءوا بأولئك النفر من بجيلة مرجعه عليه السلام من غزوة ذى قرد، فأمر فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم.
وهؤلاء النفر إن كانوا هم المذكورين في حديث أنس المتفق عليه أن نفرا ثمانية من عكل أو عرينة قدموا المدينة، الحديث، والظاهر أنهم هم، فقد تقدم قصتهم مطولة، وإن كانوا غيرهم فها قد أوردنا عيون ما ذكره ابن هشام.
والله أعلم.
قال ابن هشام: وغزوة على بن أبى طالب التى غزاها مرتين.
قال أبو عمرو المدنى: بعث رسول الله عليا إلى اليمن وخالدا في جند آخر.
وقال إن اجتمعتم فالامير على بن أبى طالب.
قال: وقد ذكر ابن إسحاق بعث خالد، ولم يذكره في عدد البعوث والسرايا فينبغي أن تكون العدة في قوله تسعا وثلاثين.
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة إلى الشام، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، فتجهز الناس
وأوعب مع أسامة المهاجرون الاولون.
قال ابن هشام: وهو آخر بعث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثنا مالك، عن عبدالله بن دينار، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد، فطعن الناس في إمارته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وايم الله إن كان لخليقا للامارة وإن كان لمن أحب الناس

إلى، وإن هذا لمن أحب الناس إلى بعده.
ورواه الترمذي من حديث مالك وقال حديث صحيح حسن.
وقد انتدب كثير من الكبار من المهاجرين الاولين والانصار في جيشه، فكان من أكبرهم عمر بن الخطاب.
ومن قال إن أبا بكر كان فيهم فقد غلط، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد به المرض وجيش أسامة مخيم بالجرف.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس كما سيأتي.
فكيف يكون في الجيش وهو إمام المسلمين بإذن الرسول من رب العالمين، ولو فرض أنه كان قد انتدب معهم فقد استثناه الشارع من بينهم بالنص عليه للامامة في الصلاة التى هي أكبر أركان الاسلام، ثم لما توفى عليه الصلاة والسلام استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب فأذن له في المقام عند الصديق، ونفذ الصديق جيش أسامة.

فصل في الآيات والاحاديث المنذرة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضه الذى مات فيه قال الله تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون "
وقال تعالى: " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ".
وقال تعالى: " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة، فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ".
وقال تعالى: " وما محمد إلى رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين ".
وهذه الآية هي التى تلاها الصديق يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سمعها الناس كأنهم لم يسمعوها قبل.
وقال تعالى: " إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ".
قال عمر بن الخطاب وابن عباس: هو أجل رسول الله نعى إليه.
وقال ابن عمر: نزلت أوسط أيام التشريق في حجة الوداع، فعرف رسول الله أنه الوداع، فخطب الناس خطبة أمرهم فيها ونهاهم، الخطبة المشهورة كما تقدم.
وقال جابر رأيت رسول الله يرمى الجمار فوقف وقال: " لتأخذوا عنى مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامى هذا ".
وقال عليه السلام لابنته فاطمة كما سيأتي: " إن جبريل كان يعارضنى بالقرآن في كل

سنة مرة، وإنه عارضنى به العام مرتين، وما أرى ذلك إلا اقتراب أجلى ".
وفى صحيح البخاري من حديث أبى بكر بن عياش عن أبى حصين، عن أبى صالح، عن أبى هريرة، قال: كان رسول الله يعتكف في كل شهر رمضان عشرة أيام، فلما كان من العام الذى توفى فيه اعتكف عشرين يوما، وكان يعرض عليه القرآن في كل رمضان، فلما كان العام الذى توفى فيه عرض عليه القرآن مرتين.
* * *
وقال محمد بن إسحاق رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع في ذى الحجة، فأقام بالمدينة بقيته والمحرم وصفرا.
وبعث أسامة بن زيد.
فبينا الناس على ذلك ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشكواه الذى قبضه الله فيه إلى ما أراده الله من رحمته وكرامته في ليال بقين من صفر أو في أول شهر ربيع الاول.
فكان أول ما ابتدئ به رسول الله من ذلك، فيما ذكر لى، أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل فاستغفر لهم، ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك.
قال ابن اسحاق: وحدثني عبدالله بن جعفر، عن عبيد بن جبير مولى الحكم، عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن أبى مويهبة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بعثنى رسول الله من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة إنى قد أمرت أن أستغفر لاهل هذا البقيع فانطلق معى.
فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الاولى.

ثم أقبل على فقال: يا أبا مويهبة إنى قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة.
قال: قلت: بأبى أنت وأمى ! فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة.
قال: لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربى والجنة.
ثم استغفر لاهل البقيع، ثم انصرف فبدئ برسول الله وجعه الذى قبضه الله فيه.
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب.
وإنما رواه أحمد عن يعقوب بن إبرهيم، عن
أبيه، عن محمد بن إسحاق به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا الحكم بن فضيل، حدثنا يعلى بن عطاء، عن عبيد بن جبير، عن أبى مويهبة، قال: أمر رسول الله أن يصلى على أهل البقيع، فصلى عليهم ثلاث مرات، فلما كانت الثالثة قال: يا أبا مويهبة أسرج لى دابتي.
قال: فركب ومشيت حتى انتهى إليهم، فنزل عن دابته وأمسكت الدابة فوقف.
أو قال - قام عليهم - فقال: ليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس، أتت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا، الآخرة أشد من الاولى، فليهنكم ما أنتم فيه مما فيه الناس.
ثم رجع فقال: يا أبا مويهبة إنى أعطيت، أو قال: خيرت، بين مفاتيح ما يفتح على أمتى من بعدى والجنة أو لقاء ربى.
قال فقلت: بأبى أنت وأمى فاخترنا.
قال: لان ترد على عقبها ما شاء الله (1)، فاخترت لقاء ربى.
فما لبث بعد ذلك إلا سبعا أو ثمانيا حتى قبض.
وقال عبد الرزاق عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: قال رسول الله نصرت بالرعب وأعطيت الخزائن، وخيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتى وبين التعجيل، فاخترت التعجيل.
__________
(1) المعنى خشيته من فتنة أمته بالدنيا، فلم يرتض طول الاقامة فيها.
(*)

قال البيهقى: وهذا مرسل.
وهو شاهد لحديث أبى مويهبة.
* * * قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله ابن عتبة، عن ابن مسعود، عن عائشة، قالت: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه.
فقال: بل أنا والله يا عائشة
وارأساه.
قالت: ثم قال: وما ضرك لو مت قبلى فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك ؟ قالت: قلت: والله لكأنى بك لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك ! قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونام به وجعه، وهو يدور على نسائه حتى استعز به في بيت ميمونة، فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض في بيتى فأذن له.
قالت: فخرج رسول الله بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن عباس ورجل آخر عاصبا رأسه تخط قدماه حتى دخل بيتى.
قال عبيدالله: فحدثت به ابن عباس فقال: أتدرى من الرجل الآخر ؟ هو على بن أبى طالب.
وهذا الحديث له شواهد ستأتي قريبا.
وقال البيهقى: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الاصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس ابن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنى يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عبيد الله ابن عبدالله، عن عائشة، قالت: دخل على رسول الله وهو يصدع وأنا أشتكى رأسي، فقلت: وارأساه.
فقال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه ! ثم قال: وما عليك لو مت قبلى فوليت أمرك وصليت عليك وواريتك ؟ فقلت:

والله إنى لاحسب لو كان ذلك لقد خلوت ببعض نسائك في بيتى من آخر النهار ! فضحك رسول الله.
ثم تمادى به وجعه فاستعز (1) به وهو يدور على نسائه في بيت ميمونة، فاجتمع إليه أهله.
فقال العباس: إنا لنرى برسول الله ذات الجنب فهلموا فلنلده (2)، فلدوه، فأفاق رسول الله.
فقال: من فعل هذا ؟ فقالوا: عمك العباس تخوف أن يكون بك ذات الجنب.
فقال رسول الله: إنها من الشيطان، وما كان الله ليسلطه على، لا يبقى في
البيت أحد إلا لددتموه إلا عمى العباس.
فلد أهل البيت كلهم حتى ميمونة وإنها لصائمة وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم استأذن أزواجه أن يمرض في بيتى، فأذن له، فخرج وهو بين العباس ورجل آخر - لم تسمه - تخط قدماه بالارض.
قال عبيد الله: قال ابن عباس: الرجل الآخر على بن أبى طالب.
قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير، حدثنا الليث، حدثنى عقيل، عن ابن شهاب أخبرني عبيد الله بن عبدالله بن عتبة، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: لما ثقل رسول الله واشتد به وجعه استأذن أزواجه أن يمرض في بيتى فأذن له، فخرج وهو بين الرجلين تخط رجلاه الارض بين عباس.
قال ابن عبدالمطلب: وبين رجل آخر.
قال عبيد الله: فأخبرت عبدالله - يعنى ابن عباس - بالذى قالت عائشة.
فقال لى عبدالله بن عباس: هل تدرى من الرجل الآخر الذى لم تسم عائشة ؟ قال: قلت: لا.
قال ابن عباس: هو على.
فكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تحدث أن رسول الله لما دخل بيتى
__________
(1) استعز: اشتد.
(2) اللد: صب الدواء بالمسعط في أحد شقى الفم.
(*)

واشتد به وجعه.
قال: هريقوا على من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلى أعهد إلى الناس.
فأجلسناه في مخضب (1) لحفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن.
قالت عائشة: ثم خرج إلى الناس فصلى لهم وخطبهم.
وقد رواه البخاري أيضا في مواضع أخر من صحيحه، ومسلم من طرق عن الزهري به.
وقال البخاري: حدثنا إسماعيل، حدثنا سليمان بن بلال، قال هشام بن عروة، أخبرني أبى، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذى مات فيه: أين أنا غدا ؟ أين أنا غدا ؟ يريد يوم عائشة فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها.
قالت عائشة رضى الله عنها: فمات في اليوم الذى كان يدور على فيه في بيتى، وقبضه الله وإن رأسه لبين سحري (2) ونحرى، وخالط ريقه ريقي.
قالت: ودخل عبدالرحمن بن أبى بكر ومعه سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبدالرحمن.
فأعطانيه فقضمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستن به وهو مسند إلى صدري.
انفرد به البخاري من هذا الوجه.
وقال البخاري: أخبرنا عبدالله بن يوسف، حدثنا الليث، حدثنى ابن الهاد، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: مات النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) المخضب: المركن.
(2) السحر: الرئة: تريد الصدر.
(*)

وإنه لبين حاقنتى (1) وذاقنتى، فلا أكره شدة الموت لاحد أبدا بعد النبي الله عليه وسلم.
* * * وقال البخاري: حدثنا حبان، أنبأنا عبدالله، أنبأنا يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة، أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح عنه بيده، فلما اشتكى وجعه الذى توفى فيه طفقت أنفث عليه (2) بالمعوذات التى كان ينفث وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
ورواه مسلم من حديث ابن وهب، عن يونس بن يزيد الايلى، عن الزهري به.
والفلاس ومسلم عن محمد بن حاتم كلهم.
[ وثبت في الصحيحين من حديث أبى عوانة، عن فراس، عن الشعبى، عن مسروق، عن عائشة قالت: اجتمع نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده لم يغادر منهن امرأة، فجاءت فاطمة تمشى لا تخطئ مشيتها مشية أبيها، فقال: مرحبا بابنتى.
فأقعدها عن يمينه أو شماله.
ثم سارها بشئ فبكت، ثم سارها فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسرار وأنت تبكين ! فلما أن قامت قلت: أخبريني ما سارك.
فقالت: ما كنت لافشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما توفى.
قلت لها: أسألك لما لى عليك من الحق لما أخبرتيني.
قالت: أما الآن فنعم.
قالت: سارنى في الاول قال لى: إن جبريل كان يعارضنى القرآن كل سنة مرة، وقد عارضنى في هذا العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا لاقتراب أجلى، فاتقى الله واصبري فنعم السلف أنا لك.
فبكيت.
ثم سارنى فقال: أما ترضيني أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الامة ؟ فضحكت.
__________
(1) الحاقنة: ما بين الترقوتين.
ولذاقنة: الذقن، أو طرف الحلقوم.
(2) صحيح البخاري 2 / 280: على نفسه.
(*)

وله طرق عن عائشة ] (1).
وقد روى البخاري عن على بن عبدالله والفلاس، ومسلم بن محمد بن حاتم، كلهم عن يحيى بن سعيد القطان، عن سفيان الثوري، عن موسى بن أبى عائشة، عن عبيد الله ابن عبدالله، عن عائشة، قالت: لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني، قلنا: كراهية المريض للدواء.
فلما أفاق قال: ألم أنهكم ألا تلدوني ؟ قلنا: كراهية المريض الدواء فقال: لا يبقى أحد في البيت إلا لد وأنا أنظر
إلا العباس فإنه لم يشهدكم.
قال البخاري: ورواه ابن أبى الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال البخاري: وقال يونس عن الزهري قال عروة: قالت عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذى مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم.
هكذا ذكره البخاري معلقا.
وقد أسنده الحافظ البيهقى عن الحاكم، عن أبى بكر بن محمد بن أحمد بن يحيى الاشقر، عن يوسف بن موسى، عن أحمد بن صالح عن عنبسة، عن يونس بن يزيد الايلى، عن الزهري به.
* * * وقال البيهقى: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الاصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار، عن أبى معاوية عن الاعمش، عن عبدالله بن مرة، عن أبى الاحوص، عن عبدالله بن مسعود، قال: لئن أحلف تسعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل قتلا أحب إلى من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبيا واتخذه شهيدا.
__________
(1) من ت.
(*)

وقال البخاري: حدثنا إسحاق، أخبرنا بشر بن شعيب بن أبى حمزة، حدثنى أبى، عن الزهري، قال أخبرني عبدالله بن كعب بن مالك الانصاري، وكان كعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، أن عبدالله بن عباس أخبره أن على بن أبى طالب خرج من عند رسول الله في وجعه الذى توفى فيه فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا.
فأخذ بيده عباس بن عبدالمطلب فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا ! وإنى والله لارى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا، إنى لاعرف وجوه بنى عبدالمطلب عند الموت، اذهب بنا إلى رسول الله فلنسأله فيمن هذا الامر ؟ إن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا.
فقال على: إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده، وإنى والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
انفرد به البخاري.
وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان، عن سليمان الاحول، عن سعيد بن جبير، قال: قال ابن عباس: يوم الخميس وما يوم الخميس ! اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه.
فقال: ائتونى أكتب لكم كتابا لا تضلوا (1) بعده أبدا.
فتنازعوا - ولا ينبغى عند نبى تنازع - فقالوا: ما شأنه أهجر (2) ؟ استفهموه، فذهبوا يردون عنه، فقال: دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعوني إليه.
فأوصاهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم.
وسكت عن الثالثة أو قال فنسيتها.
ورواه البخاري في موضع آخر، ومسلم من حديث سفيان بن عيينة.
__________
(1) البخاري: لن تضلوا.
(2) هجر: اختلف كلامه بسبب المرض، على سبيل الاستفهام، أي هل تغير كلامه واختلط لاجل ما به من المرض.
النهاية 4 / 255.
وفى الاصل: يهجر، وما أثبته عن صحيح البخاري 2 / 279.
(*)

ثم قال البخاري: حدثنا على بن عبدالله، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله، عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلموا أكتب لكم كتابا
لا تضلوا بعده أبدا.
فقال بعضهم: إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.
فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده.
ومنهم من يقول غير ذلك.
فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا.
قال عبيد الله: قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم.
ورواه مسلم عن محمد بن رافع، وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق بنحوه.
وقد أخرجه البخاري في مواضع من صحيحه من حديث معمر ويونس عن الزهري به.
* * * وهذا الحديث مما قد توهم به بعض الاغبياء من أهل البدع من الشيعة وغيرهم، كل مدع أنه كان يريد أن يكتب في ذلك الكتاب ما يرمون إليه من مقالاتهم، وهذا هو التمسك بالمتشابه وترك المحكم.
وأهل السنة يأخذون بالمحكم ويردون ما تشابه إليه، وهذه طريقة الراسخين في العلم كما وصفهم الله عزوجل في كتابه.
وهذا الموضع مما زل فيه أقدام كثير من أهل الضلالات، وأما أهل السنة فليس لهم مذهب إلا اتباع الحق يدورون معه كيفما دار.
وهذا الذى كان يريد عليه الصلاة والسلام أن يكتبه قد جاء في الاحاديث الصحيحة التصريح بكشف المراد منه.

فإنه قد قال الامام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا نافع، عن ابن عمرو، حدثنا ابن أبى مليكة، عن عائشة، قالت: لما كان وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى قبض
فيه قال: " ادعوا لى أبا بكر وابنه لكى لا يطمع في أمر أبى بكر طامع ولا يتمناه متمن.
ثم قال: يأبى الله ذلك والمؤمنون ".
مرتين.
قالت عائشة: فأبى الله ذلك والمؤمنون ! انفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبدالرحمن بن أبى بكر القرشى، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة، قالت: لما ثقل رسول الله قال لعبد الرحمن بن أبى بكر: " ائتنى بكتف أو لوح حتى أكتب لابي بكر كتابا لا يختلف عليه أحد " فلما ذهب عبدالرحمن ليقوم.
قال: " يأبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر ".
انفرد به أحمد من هذا الوجه أيضا.
وروى البخاري عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قالت قال رسول الله: " لقد هممت أن أرسل إلى أبى بكر وابنه فأعهد، أن يقول القائلون أو يتمنى متمنون.
فقال: يأبى الله، أو يدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون ".
وفى صحيح البخاري ومسلم من حديث إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن جبير ابن مطعم، عن أبيه، قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه.
فقالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك ؟ كأنها تقول الموت - قال: " إن لم تجديني فأت أبا بكر ".
والظاهر والله أعلم أنها إنما قالت ذلك له عليه السلام في مرضه الذى مات فيه صلوات الله وسلامه عليه.

وقد خطب عليه الصلاة والسلام في يوم الخميس قبل أن يقبض عليه السلام بخمسة أيام خطبة عظيمة بين فيها فضل الصديق من بين سائر الصحابة، مع ما كان قد نص عليه
أن يؤم الصحابة أجمعين.
كما سيأتي بيانه مع حضورهم كلهم.
ولعل خطبته هذه كانت عوضا عما أراد أن يكتبه في الكتاب.
وقد اغتسل عليه السلام بين يدى هذه الخطبة الكريمة فصبوا عليه من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، وهذا من باب الاستشفاء بالسبع، كما وردت بها الاحاديث في غير هذا الموضع.
والمقصود أنه عليه السلام اغتسل ثم خرج فصلى بالناس ثم خطبهم.
كما تقدم في حديث عائشة رضى الله عنها.
ذكر الاحاديث الواردة في ذلك قال البيهقى: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن أيوب بن بشير، أن رسول الله قال في مرضه: أفيضوا على من سبع قرب من سبع آبار شتى حتى أخرج فأعهد إلى الناس.
ففعلوا، فخرج فجلس على المنبر، فكان أول ما ذكر بعد حمد الله والثناء عليه ذكر أصحاب أحد، فاستغفر لهم ودعا لهم، ثم قال: يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون والانصار على هيئتها لا تزيد، وإنهم عيبتي التى أويت إليها، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم.
ثم قال عليه السلام: أيها الناس إن عبدا من عباد الله قد خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله.
ففهمها أبو بكر رضى الله عنه من بين الناس فبكى وقال: بل نحن نفديك بأنفسنا

وأبنائنا وأموالنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر ! انظروا إلى هذه الابواب الشارعة في المسجد فسدوها إلا ما كان من بيت أبى بكر، فإنى لا أعلم أحدا عندي أفضل في الصحبة منه.
هذا مرسل له شواهد كثيرة.
وقال الواقدي: حدثنى فروة بن زبيد بن طوسا، عن عائشة بنت سعد، عن أم ذر، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت: خرج رسول الله عاصبا رأسه بخرقة، فلما استوى على المنبر تحدق الناس بالمنبر واستكفوا، فقال: والذى نفسي بيده إنى لقائم على الحوض الساعة.
ثم تشهد فلما قضى تشهده كان أول ما تكلم به أن استغفر للشهداء الذين قتلوا بأحد.
ثم قال: إن عبدا من عباد الله خير بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله.
فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه.
وقال: بأبى وأمى ! نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجعل رسول الله يقول له: على رسلك ! وقال الامام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا فليح، عن سالم أبى النضر، عن بشر ابن سعيد، عن أبى سعيد، قال: خطب رسول الله الناس فقال: إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله.
قال: فبكى أبو بكر.
قال: فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله عن عبد، فكان رسول الله هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به.
فقال رسول الله: إن أمن الناس على في صحبته وماله أبو بكر، لو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الاسلام مودته، لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر.
وهكذا رواه البخاري من حديث أبى عامر العقدى به.

ثم رواه الامام أحمد عن يونس، عن فليح، عن سالم أبى النضر، عن عبيد بن حنين وبشر بن سعيد، عن أبى سعيد به.
وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث فليح ومالك بن أنس، عن سالم عن بشر ابن سعيد وعبيد بن حنين، كلاهما عن أبى سعيد بنحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو الوليد، حدثنا هشام، حدثنا أبو عوانة، عن عبد الملك، عن ابن أبى المعلى، عن أبيه، أن رسول الله خطب يوما فقال: إن رجلا خيره ربه بين أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش فيها يأكل من الدنيا ما شاء أن يأكل منها، وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه.
فبكى أبو بكر، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا تعجبون من هذا الشيخ أن ذكر رسول الله رجلا صالحا خيره ربه بين البقاء في الدنيا (1) وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه ! فكان أبو بكر أعلمهم بما قال رسول الله.
فقال أبو بكر: بل نفديك بأموالنا وأبنائنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من الناس أحد أمن علينا في صحبته وذات يده من ابن أبى قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبى قحافة، ولكن ود وإخاء وإيمان، ولكن ود وإخاء وإيمان.
مرتين وإن صاحبكم خليل الله عزوجل.
تفرد به أحمد.
قالوا: وصوابه ابن سعيد بن المعلى.
فالله أعلم.
وقد روى الحافظ البيهقى من طريق إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - حدثنا زكريا بن عدى، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقى، عن زيد بن أبى أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن عبدالله بن الحارث حدثنا جندب، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوفى بخمس وهو يقول: قد كان لى منكم إخوة وأصدقاء، وإنى أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذا من أمتى خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، وإن ربى اتخذني
__________
(1) ا: بين لقاء الدنيا.
(*)

خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإن قوما ممن كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد فإنى أنهاكم عن ذلك.
وقد رواه مسلم في صحيحه عن إسحاق بن راهويه بنحوه.
وهذا اليوم الذى كان قبل وفاته عليه السلام بخمسة أيام هو يوم الخميس الذى ذكره ابن عباس فيما تقدم.
وقد روينا هذه الخطبة من طريق ابن عباس.
قال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو الحسن على بن محمد المقرئ، أنبأنا الحسن بن محمد بن إسحاق، حدثنا يوسف بن يعقوب - هو ابن عوانة الاسفرايينى - قال: حدثنا محمد بن أبى بكر، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا أبى، سمعت يعلى بن حكيم يحدث عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذى مات فيه عاصبا رأسه بخرقة، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه ليس من الناس أحد أمن على بنفسه وماله من أبى بكر، ولو كنت متخذا من الناس خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الاسلام أفضل، سدوا عنى كل خوخة في المسجد غير خوخة أبى بكر.
رواه البخاري عن عبيد الله بن محمد الجعفي، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه به.
وفى قوله عليه السلام: " سدوا عنى كل خوخة - يعنى الابواب الصغار - إلى المسجد غير خوخة أبى بكر " إشارة إلى الخلافة، أي ليخرج منها إلى الصلاة بالمسلمين.
وقد رواه البخاري أيضا من حديث عبدالرحمن بن سليمان بن حنظلة بن الغسيل، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله خرج في مرضه الذى مات فيه عاصبا رأسه بعصابة دسماء (1) ملتحفا بملحفة على منكبيه، فجلس على المنبر فذكر الخطبة، وذكر فيها الوصاة بالانصار إلى أن قال: فكان آخر مجلس جلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض - يعنى آخر خطبة خطبها عليه السلام.
__________
(1) الدسماء: التى يضرب لونها إلى السواد.
(*)

وقد روى من وجه آخر عن ابن عباس بإسناد غريب ولفظ غريب.
فقال البيهقى: أنبأنا على بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار،
حدثنا ابن أبى قماش وهو محمد بن عيسى، حدثنا موسى بن إسماعيل أبوعمران الجبلى، حدثنا معن بن عيسى القزاز، عن الحارث بن عبدالملك بن عبدالله بن أناس الليثى، عن القاسم بن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن عطاء، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس، قال: أتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكا شديدا، وقد عصب رأسه فقال: خذ بيدى يا فضل.
قال: فأخذت بيده حتى قعد على المنبر.
ثم قال: ناد في الناس يا فضل.
فناديت: الصلاة جامعة.
قال: فاجتمعوا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: أما بعد، أيها الناس إنه قد دنا منى خلوف من بين أظهركم، ولن ترونى في هذا المقام فيكم، وقد كنت أرى أن غيره غير مغن عنى حتى أقومه فيكم، ألا فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضى فليستقد، ولا يقولن قائل: أخاف الشحناء من قبل رسول الله، ألا وإن الشحناء ليست من شأني ولا من خلقي، وإن أحبكم إلى من أخذ حقا إن كان له على أو حللني فلقيت الله عزوجل وليس لاحد عندي مظلمة.
قال: فقام منهم رجل فقال: يا رسول الله لى عندك ثلاثة دراهم.
فقال: أما أنا فلا أكذب قائلا ولا مستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندي ؟ قال: أما تذكر أنه مر بك سائل فأمرتني فأعطيته ثلاثة دراهم.
قال: أعطه يا فضل.
قال: وأمر به فجلس.
قال: ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقالته الاولى.
ثم قال: يا أيها الناس من عنده من الغلول شئ فليرده.
فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثة

دراهم غللتها في سبيل الله.
قال: فلم غللتها ؟ قال: كنت إليها محتاجا قال: خذها منه يا فضل.
ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقالته الاولى وقال: يا أيها الناس من أحس من نفسه شيئا فليقم أدعو الله له.
فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله إنى لمنافق وإنى لكذوب وإنى لنئوم.
فقال عمر بن الخطاب: ويحك أيها الرجل ! لقد سترك الله لو سترت على نفسك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه يابن الخطاب فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وأذهب عنه النوم إذا شاء.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمر معى وأنا مع عمر والحق بعدى مع عمر.
وفى إسناده ومتنه غرابة شديدة.

ذكر أمره عليه السلام أبا بكر الصديق رضى الله عنه أن يصلى بالصحابة أجمعين، مع حضورهم كلهم، وخروجه عليه السلام فصلى وراءه مقتديا به في بعض الصلوات على ما سنذكره وإماما له ولمن بعده من الصحابة قال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن ابن إسحاق، قال: وقال ابن شهاب الزهري: حدثنى عبدالملك بن أبى بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبيه، عن عبدالله بن هشام، عن أبيه، عن عبدالله بن زمعة بن الاسود بن المطلب بن أسد، قال: لما استعز برسول الله وأنا عنده في نفر من المسلمين دعا بلال للصلاة فقال: مروا من يصلى بالناس.
قال: فخرجت فإذا عمر في الناس، وكان أبو بكر غائبا فقلت: قم يا عمر فصل بالناس.
قال: فلما كبر عمر سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته، وكان عمر رجلا مجهرا فقال رسول الله: فأين أبو بكر ؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله
ذلك والمسلمون.
قال: فبعث إلى أبى بكر فجاء بعد ما صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس.
وقال عبدالله بن زمعة: قال لى عمر: ويحك ماذا صنعت يابن زمعة ! والله ما ظننت حين أمرتنى إلا أن رسول الله أمرنى بذلك، ولولا ذلك ما صليت.
قال: قلت: والله ما أمرنى رسول الله، ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة.
وهكذا رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق، حدثنى الزهري، ورواه يونس

ابن بكير، عن ابن إسحاق، حدثنى يعقوب بن عتبة، عن أبى بكر بن عبدالرحمن، عن عبدالله بن زمعة فذكره.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبى فديك، حدثنا موسى بن يعقوب، عن عبدالرحمن بن إسحاق، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة، أن عبدالله بن زمعة أخبره بهذا الخبر، قال: لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت عمر.
قال ابن زمعة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطلع رأسه من حجرته ثم قال: لا لا، لا يصلى للناس إلا ابن أبى قحافة.
يقول ذلك مغضبا.
* * * وقال البخاري: حدثنا عمر بن حفص، حدثنا أبى، حدثنا الاعمش، عن إبراهيم، قال الاسود: كنا عند عائشة فذكرنا المواظبة على الصلاة والمواظبة لها.
قالت: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذى مات فيه فحضرت الصلاة فأذن بلال، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فقيل له: إن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلى بالناس، وأعاد فعادوا له فأعاد الثالثة، فقال: إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فخرج أبو بكر، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فخرج يهادى بين
رجلين كأنى أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك.
ثم أتى به حتى جلس إلى جنبه.
قيل للاعمش: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى وأبو بكر يصلى بصلاته والناس يصلون بصلاة أبى بكر ؟ فقال برأسه: نعم.
ثم قال البخاري: رواه أبو داود عن شعبة بعضه.
وزاد أبو معاوية عن الاعمش: جلس عن يسار أبى بكر، فكان أبو بكر يصلى قائما.

وقد رواه البخاري في غير ما موضع من كتابه، ومسلم والنسائي وابن ماجه من طرق متعددة عن الاعمش به.
منها ما رواه البخاري عن قتيبة، ومسلم عن أبى بكر بن أبى شيبة ويحيى بن يحيى، عن أبى معاوية به.
وقال البخاري: حدثنا عبدالله بن يوسف، أنبأنا مالك، عن هشام ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال في مرضه: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
قال ابن شهاب: فأخبرني عبيد الله بن عبدالله عن عائشة، أنها قالت: لقد عاودت رسول الله في ذلك وما حملني على معاودته إلا أنى خشيت أن يتشاءم الناس بأبى بكر، وإلا أنى علمت أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله عن أبى بكر إلى غيره.
وفى صحيح مسلم من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: وأخبرني حمزة بن عبدالله بن عمر، عن عائشة قالت: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتى.
قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
قالت قلت: يا رسول الله: إن أبا بكر رجل رقيق إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فلو أمرت غير أبى بكر ؟ قالت: والله ما بى إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأول من يقوم في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: فراجعته مرتين أو ثلاثا.
فقال: ليصل بالناس أبو بكر فإنكن صواحب يوسف.
وفى الصحيحين من حديث عبدالملك بن عمير، عن أبى بردة، عن أبى موسى، عن أبيه، قال: مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فقالت عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق متى يقم مقامك لا يستطيع يصلى

بالناس.
قال: فقال: مروا أبا بكر يصل بالناس فإنكن صواحب يوسف.
قال فصلى أبو بكر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدى، أنبأنا زائدة، عن موسى بن أبى عائشة، عن عبيد الله بن عبدالله، قال دخلت على عائشة فقلت: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: بلى، ثقل برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال: أصلى الناس ؟ قلنا لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.
فقال: ضعوا لى ماء في في المخضب.
ففعلنا.
قالت: فاغتسل ثم ذهب لينوء (1) فأغمى عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس ؟ قلنا: لا هم ينتظرونك يا رسول الله.
قال: ضعوا لى ماء في المخضب.
ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس ؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.
قال: ضعوا لى ماء في المخضب، ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس ؟ قلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله.
قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبى بكر بأن يصلى بالناس، وكان أبو بكر رجلا رقيقا.
فقال: يا عمر صل بالناس.
فقال: أنت أحق بذلك.
فصلى بهم تلك الايام.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس
لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلى قائما ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى قاعدا.
قال عبيد الله: فدخلت على ابن عباس فقلت: ألا أعرض عليك ما حدثتني
__________
(1) ينوء: ينهض.
(*)

عائشة عن مرض رسول الله ؟ قال: هات.
فحدثته فما أنكر منه شيئا، غير أنه قال: سمت لك الرجل الذى كان مع العباس ؟ قلت: لا.
قال: هو على وقد رواه البخاري ومسلم جميعا عن أحمد بن يونس، عن زائدة به.
وفى رواية: فجعل أبو بكر يصلى بصلاة رسول الله وهو قائم، والناس يصلون بصلاة أبى بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد.
قال البيهقى: ففى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقدم في هذه الصلاة وعلق أبو بكر صلاته بصلاته.
قال: وكذلك رواه الاسود وعروة عن عائشة، وكذلك رواه الارقم بن شرحبيل عن ابن عباس.
يعنى بذلك ما رواه الامام أحمد: حدثنا يحيى بن زكريا بن أبى زائدة، حدثنى أبى، عن أبى إسحاق، عن الارقم بن شرحبيل، عن ابن عباس، قال: لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يصلى بالناس، ثم وجد خفة فخرج، فلما أحس به أبو بكر أراد أن ينكص، فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فجلس إلى جنب أبى بكر عن يساره واستفتح من الآية التى انتهى إليها أبو بكر رضى الله عنه.
ثم رواه أيضا عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أرقم، عن ابن عباس بأطول من هذا.
وقال وكيع مرة: فكان أبو بكر يأتم بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يأتمون بأبى بكر.
ورواه ابن ماجه عن على بن محمد، عن وكيع، عن إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أرقم بن شرحبيل، عن ابن عباس بنحوه.
وقد قال الامام أحمد حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا شعبة، عن نعيم بن أبى هند،

عن أبى وائل، عن مسروق، عن عائشة قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبى بكر قاعدا في مرضه الذى مات فيه.
[ وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث شعبة، وقال الترمذي: حسن صحيح (1) ] وقال أحمد: حدثنا بكر بن عيسى، سمعت شعبة بن الحجاج، عن نعيم بن أبى هند عن أبى وائل، عن مسروق، عن عائشة، أن أبا بكر صلى بالناس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف.
وقال البيهقى: أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان، أنبأنا عبدالله بن جعفر، أنبأنا يعقوب بن سفيان، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا شعبة، عن سليمان الاعمش، عن إبراهيم، عن الاسود، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبا بكر.
وهذا إسناد جيد ولم يخرجوه.
قال البيهقى: وكذلك رواه حميد، عن أنس بن مالك، ويونس، عن الحسن مرسلا، ثم أسند ذلك من طريق هشيم، أخبرنا يونس عن الحسن.
قال هشيم: وأنبأنا حميد، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وأبو بكر يصلى بالناس فجلس إلى جنبه وهو في بردة قد خالف بين طرفيها، فصلى بصلاته.
قال البيهقى: وأخبرنا على بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفار،
حدثنا عبيد بن شريك، أنبأنا ابن أبى مريم، أنبأنا محمد بن جعفر، أخبرني حميد أنه سمع أنسا يقول: آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القوم في ثوب واحد ملتحفا به خلف أبى بكر.
قلت: وهذا إسناد جيد على شرط الصحيح ولم يخرجوه.
__________
(1) من: ت (*)

وهذا التقييد جيد بأنها آخر صلاة صلاها مع الناس، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد ذكر البيهقى من طريق سليمان بن بلال ويحيى بن أيوب، عن حميد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف أبى بكر في ثوب واحد مخالفا بين طرفيه، فلما أراد أن يقوم قال: ادع لى أسامة بن زيد.
فجاء فأسند ظهره إلى نحره، فكانت آخر صلاة صلاها.
قال البيهقى: ففى هذا دلالة أن هذه الصلاة كانت صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة لانها آخر صلاة صلاها، لما ثبت أنه توفى ضحى يوم الاثنين.
وهذا الذى قاله البيهقى أخذه مسلما من مغازى موسى بن عقبة، فإنه كذلك ذكر وكذا روى أبو الأسود عن عروة.
وذلك ضعيف، بل هذه آخر صلاة صلاها مع القوم، كما تقدم تقييده في الرواية الاخرى، والحديث واحد، فيحمل مطلقه على مقيده.
ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لان تلك لم يصلها مع الجماعة بل في بيته لما به من الضعف صلوات الله وسلامه عليه.
والدليل على ذلك ما قال البخاري في صحيحه: حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك، وكان تبع النبي صلى الله عليه وسلم وخدمه وصحبه، أن أبا بكر كان يصلى لهم في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذى توفى فيه، حتى
إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة فكشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف (1) [ ثم (2) ] تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرج برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف.
__________
(1) عبارة عن حسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته.
(2) من صحيح البخاري.
(*)

وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم وأرخى الستر وتوفى من يومه صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة وصبيح بن كيسان ومعمر، عن الزهري عن أنس.
ثم قال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عبد العزيز، عن أنس بن مالك، قال: لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدم فقال نبى الله صلى الله عليه وسلم (1) بالحجاب.
فرفعه، فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبى بكر أن يتقدم، وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات صلى الله عليه وسلم.
ورواه مسلم من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه به.
فهذا أوضح دليل على أنه عليه السلام لم يصل يوم الاثنين صلاة الصبح مع الناس، وأنه كان قد انقطع عنهم لم يخرج إليهم ثلاثا.
قلنا: فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاها معهم الظهر، كما جاء مصرحا به في حديث عائشة المتقدم ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت ولا يوم الاحد، كما حكاه البيهقى عن مغازى موسى بن عقبة، وهو ضعيف، ولما قدمنا من خطبته بعدها ولانه انقطع عنهم
يوم الجمعة، والسبت، والاحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل.
وقال الزهري عن أبى بكر بن أبى سبرة، أن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة.
وقال غيره: عشرين صلاة.
فالله أعلم.
ثم بدا لهم وجهه الكريم صبيحة يوم الاثنين فودعهم بنظرة كادوا يفتتنون بها، ثم كان ذلك آخر عهد جمهورهم به ولسان حالهم يقول كما قال بعضهم:
__________
(1) الاصل: فقال نبى الله عليكم بالحجاب.
وما أثبته عن البخاري، وأراد من قال معنى فعل.
(*)

وكنت أرى كالموت من بين ساعة * فكيف ببين كان موعده الحشر ! والعجب أن الحافظ البيهقى أورد هذا الحديث من هاتين الطريقين.
ثم قال ما حاصله: فلعله عليه السلام احتجب عنهم في أول ركعة ثم خرج في الركعة الثانية فصلى خلف أبى بكر، كما قاله عروة وموسى بن عقبة، وخفى ذلك عن أنس بن مالك أو أنه ذكر بعض الخبر وسكت عن آخره.
وهذا الذى [ ذكره ] أيضا بعيد جدا، لان أنسا قال: فلم يقدر عليه حتى مات.
وفى رواية قال: فكان ذلك آخر العهد به.
وقول الصحابي مقدم على قول التابعي.
والله أعلم.
* * * والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر الصديق إماما للصحابة كلهم في الصلاة التى هي أكبر أركان الاسلام العملية.
قال الشيخ أبو الحسن الاشعري: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الاسلام.
قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم، لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب
الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم مسلما.
قلت: وهذا من كلام الاشعري رحمه الله مما ينبغى أن يكتب بماء الذهب.
ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضى الله عنه وأرضاه.
وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم خلفه في بعض الصلوات، كما قدمنا بذلك الروايات الصحيحة، لا ينافى ما روى في الصحيح أن أبا بكر ائتم به عليه السلام، لان

ذلك في صلاة أخرى، كما نص على ذلك الشافعي وغيره من الائمة رحمهم الله عزوجل.
فائدة: استدل مالك والشافعي وجماعة من العلماء ومنهم البخاري بصلاته عليه السلام قاعدا وأبو بكر مقتديا به قائما والناس بأبى بكر على نسخ قوله عليه السلام في الحديث المتفق عليه حين صلى ببعض أصحابه قاعدا، وقد وقع عن فرس فجحش (1) شقه فصلوا وراءه قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال: " كذلك والذى نفسي بيده تفعلون كفعل فارس والروم، يقومون على عظمائهم وهم جلوس ".
" وقال: إنما جعل الامام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون ".
قالوا: ثم إنه عليه السلام أمهم قاعدا وهم قيام في مرض الموت.
فدل على نسخ ما تقدم والله أعلم.
وقد تنوعت مسالك الناس في الجواب عن هذا الاستدلال، على وجوه كثيرة موضع ذكرها كتاب الاحكام الكبير إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
وملخص ذلك: أن من الناس من زعم أن الصحابة جلسوا لامره المتقدم، وإنما استمر أبو بكر قائما لاجل التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم.
ومن الناس من قال: بل كان أبو بكر هو الامام في نفس الامر، كما صرح به بعض الرواة كما تقدم.
وكان أبو بكر لشدة أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا يبادره بل يقتدى به، فكأنه عليه السلام صار إمام الامام، فلهذا لم يجلسوا لاقتدائهم بأبى بكر وهو قائم، ولم يجلس الصديق لاجل أنه إمام ولانه يبلغهم عن النبي صلى الله عليه وسلم الحركات والسكنات والانتقالات.
والله أعلم.
__________
(1) جحش: أصيب (*)

ومن الناس من قال: فرق بين أن يبتدئ الصلاة خلف الامام في حال القيام فيستمر فيها قائما وإن طرأ جلوس الامام في أثنائها، كما في هذه الحال، وبين أن يبتدئ الصلاة خلف إمام جالس فيجب الجلوس للحديث المتقدم.
والله أعلم.
ومن الناس من قال: هذا الصنيع والحديث المتقدم دليل على جواز القيام والجلوس، وأن كلا منهما سائغ جائز: الجلوس، لما تقدم، والقيام للفعل المتأخر.
والله أعلم.

فصل في كيفية احتضاره ووفاته عليه السلام قال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الاعمش، عن إبراهيم التيمى، عن الحارث بن سويد، عن عبدالله، هو ابن مسعود، قال: دخلت عل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك فمسسته.
فقلت: يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا.
قال أجل، إنى أوعك كما يوعك الرجلان منكم.
قلت: إن لك أجرين.
قال: " نعم، والذى نفسي بيده ما على الارض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها ".
وقد أخرجه البخاري ومسلم من طرق متعددة عن سليمان بن مهران الاعمش به.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا إسحاق بن أبى إسرائيل، حدثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبى سعيد الخدرى، (1) وضع يده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما أطيق أن أضع يدى عليك من شدة حماك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنا معشر الانبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الاجر، إن كان النبي من الانبياء ليبتلى بالقمل حتى يقتله، وإن كان الرجل ليبتلى بالعرى حتى يأخذ العباءة فيجوبها (2)، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء ".
فيه رجل مبهم لا يعرف بالكلية، فالله أعلم.
وقد روى البخاري ومسلم من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، زاد مسلم:
__________
(1) كذا، ولعلها: أنه.
(2) يجوبها: أي يجعل لها جبا فيلبسها.
(*)

وجرير.
ثلاثتهم عن الاعمش، عن أبى وائل شقيق بن سلمة، عن مسروق، عن عائشة قالت: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى صحيح البخاري من حديث يزيد بن الهاد، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حاقنتى وذاقنتى، فلا أكره شدة الموت لاحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وفى الحديث الآخر الذى رواه [ البخاري ] في صحيحه قال: قال رسول الله: " أشد الناس بلاء الانبياء ثم الصالحون، ثم الامثل فالامثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة شدد عليه في البلاء ".
وقال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنى سعيد بن عبيد بن السباق، عن محمد بن أسامة بن زيد، عن أبيه أسامة بن زيد، قال:
لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت وهبط الناس معى إلى المدينة، فدخلت على رسول الله وقد أصمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يصيبها (1) على أعرف أنه يدعو لى.
ورواه الترمذي عن أبى كريب، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وقال: حسن غريب.
* * * وقال الامام مالك في موطأه عن إسماعيل عن أبى حكيم، أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: كان من آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: " قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، لا يبقين دينان بأرض العرب ".
هكذا رواه مرسلا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
__________
(1) ت: على وجهه.
وهو تحريف.
والحديث في مسند أحمد 5 / 201 (*)

وقد روى البخاري ومسلم من حديث الزهري، عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة، عن عائشة وابن عباس، قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة (1) له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه.
فقال وهو كذلك: " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما صنعوا.
وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو بكر بن أبى رجاء الاديب، أنبأنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الاعمش، عن أبى سفيان، عن جابر بن عبدالله، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: أحسنوا الظن بالله.
وفى بعض الاحاديث كما رواه مسلم من حديث الاعمش، عن أبى سفيان طلحة ابن نافع، عن جابر، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو
حسن الظن بالله تعالى ".
وفى الحديث الآخر يقول الله تعالى: " أنا عند ظن عبدى بى فليظن بى خيرا ".
وقال البيهقى: أنبأنا الحاكم، حدثنا الاصم، حدثنا محمد بن إسحاق الصغانى، حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن سليمان التيمى، عن قتادة، عن أنس، قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الوفاة: " الصلاة وما ملكت أيمانكم " حتى جعل يغرغر بها وما يفصح بها لسانه.
وقد رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه، عن جرير بن عبدالحميد به، وابن ماجه عن أبى الاشعث، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسباط بن محمد، حدثنا التيمى، عن قتادة، عن أنس ابن مالك، قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت:
__________
(1) الخميصة: كساء أسود مربع له علمان.
(*)

الصلاة وما ملكت أيمانكم.
حتى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره وما يكاد يفيض بها لسانه.
وقد رواه النسائي وابن ماجه من حديث سليمان بن طرخان، وهو التيمى، عن قتادة عن أنس به.
وفى رواية للنسائي عن قتادة، عن صاحب له، عن أنس به.
وقال أحمد: حدثنا بكر بن عيسى الراسبى، حدثنا عمر بن الفضل، عن نعيم بن يزيد، عن على بن أبى طالب، قال: أمرنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بطبق يكتب فيه ما لا تضل أمته من بعده.
قال: فخشيت أن تفوتنى نفسه.
قال: قلت: إنى أحفظ وأعى.
قال: أوصى بالصلاة والزكاة وما ملكت أيمانكم.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضيل (1)، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن سفينة، عن أم سلمة قالت: كان عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانه.
وهكذا رواه النسائي عن حميد بن مسعدة، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، عن سفينة عن أم سلمة به.
قال البيهقى: والصحيح ما رواه عفان، عن همام، عن قتادة عن أبى الخليل، عن سفينة عن أم سلمة به.
وهكذا رواه النسائي أيضا وابن ماجه، من حديث يزيد بن هارون، عن همام، عن قتادة، عن صالح أبى الخليل، عن سفينة عن أم سلمة به.
__________
(1) غير ا: الفضل (*)

وقد رواه النسائي أيضا عن قتيبة، عن أبى عوانة، عن قتادة، عن سفينة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
ثم رواه عن محمد بن عبدالله بن المبارك عن يونس بن محمد قال: حدثنا عن سفينة فذكر نحوه.
وقال أحمد: حدثنا يونس، حدثنا الليث، عن زيد بن الهاد، عن موسى بن سرجس، عن القاسم، عن عائشة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يموت وعنده قدح فيه ماء، فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعنى على سكرات الموت.
ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث الليث به.
وقال الترمذي: غريب.
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، عن إسماعيل، عن مصعب بن إسحاق بن طلحة،
عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليهون على أنى رأيت بياض كف عائشة في الجنة.
تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به.
وهذا دليل على شدة محبته عليه السلام لعائشة رضى الله عنها.
وقد ذكر الناس معاني كثيرة في كثرة المحبة ولم يبلغ أحدهم هذا المبلغ، وما ذاك إلا لانهم يبالغون كلاما لا حقيقة له، وهذا كلام حق لا محالة ولا شك فيه.
وقال حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبى مليكة قال: قالت عائشة: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتى وتوفى بين سحري ونحرى وكان جبريل يعوذه بدعاء إذا مرض، فذهبت أعوذه فرفع بصره إلى السماء وقال: في الرفيق الاعلى في الرفيق الاعلى.
ودخل عبدالرحمن بن أبى بكر وبيده جريدة رطبة فنظر إليها فظننت أن له بها

حاجة، قالت: فأخذتها فنفضتها فدفعتها إليه فاستن بها أحسن ما كان مستنا، ثم ذهب يناولنيها فسقطت من يده.
قالت: فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة.
ورواه البخاري عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد به.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، حدثنا صالح بن محمد الحافظ البغدادي، حدثنا داود، عن عمرو بن زهير الضبى، حدثنا عيسى بن يونس، عن عمر بن سعيد بن أبى حسين، أنبأنا ابن أبى مليكة أن أبا عمرو ذكوان مولى عائشة أخبره أن عائشة كانت تقول: إن من نعمة الله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى في يومى وفى بيتى وبين سحري ونحرى وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت.
قالت: دخل على أخى بسواك معه وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري، فرأيته ينظر إليه.
وقد عرفت أنه يحب السواك ويألفه.
فقلت: آخذه لك ؟ فأشار برأسه: أن نعم.
فلينته له، فأمره على فيه.
قالت: وبين يديه ركوة أو علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه.
ثم يقول: لا إله إلا الله إن للموت لسكرات.
ثم نصب إصبعه اليسرى وجعل يقول: في الرفيق الاعلى في الرفيق الاعلى.
حتى قبض ومالت يده في الماء.
ورواه البخاري عن محمد عن عيسى بن يونس.
* * * وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، سمعت عروة يحدث عن عائشة قالت: كنا نحدث أن النبي لا يموت حتى يخير بين الدنيا والآخرة.

قالت: فلما كان مرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى مات فيه عرضت له بحة.
فسمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
قالت عائشة: فظننا أنه كان يخير.
وأخرجاه من حديث شعبة به.
وقال الزهري: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير في رجال من أهل العلم، أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح: إنه لم يقبض نبى حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير.
قالت عائشة: فلما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه على فخذي غشى عليه ساعة ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت.
وقال: اللهم الرفيق الاعلى.
فعرفت أنه الحديث الذى كان حدثناه وهو صحيح، أنه لم
يقبض نبى قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير.
قالت عائشة: فقلت: إذا لا يختارنا.
وقالت عائشة: كانت تلك الكلمة آخر كلمة تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفيق الاعلى.
أخرجاه من غير وجه عن الزهري به.
وقال سفيان - هو الثوري - عن إسماعيل ابن أبى خالد، عن أبى بردة، عن عائشة قالت: أغمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في حجري فجعلت أمسح وجهه وأدعو له بالشفاء.
فقال: لا، بل أسأل الله الرفيق الاعلى الاسعد، مع جبريل وميكائيل وإسرافيل.
رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ وغيره قالوا: حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا محمد بن عبدالله بن عبد الحكم، حدثنا أنس بن عياض، عن هشام بن عروة، عن عباد بن عبدالله بن الزبير، أن عائشة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه

وسلم وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها يقول: اللهم اغفر لى وارحمني وألحقني بالرفيق [ الاعلى (1) ].
أخرجاه من حديث هشام بن عروة.
وقال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن ابن إسحاق، حدثنى يحيى ابن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه عباد، سمعت عائشة تقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحرى وفى دولتي (2) ولم أظلم فيه أحدا، فمن سفهى وحداثة سنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو في حجري ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم (3) مع النساء وأضرب وجهى.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن عبدالله بن الزبير، حدثنا كثير بن زيد، عن المطلب بن عبدالله، قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من
نبى إلا تقبض نفسه ثم يرى الثواب ثم ترد إليه فيخير بين أن ترد إليه وبين أن يلحق.
فكنت قد حفظت ذلك منه فإنى لمسندته إلى صدري فنظرت إليه حين مالت عنقه فقلت: قد قضى.
فعرفت الذى قال، فنظرت إليه حين ارتفع فنظر.
قالت: قلت: إذا والله لا يختارنا.
فقال مع الرفيق الاعلى في الجنة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
تفرد به أحمد ولم يخرجوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، أنبأنا همام، أنبأنا هشام بن عروة،
__________
(1) من ت (2) دولتي: بيتى وسلطاني (2) ألتدم: ألطم.
(*)

عن أبيه، عن عائشة، قالت قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه بين سحري ونحرى.
قالت: فلما خرجت نفسه لم أجد ريحا قط أطيب منها.
وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
ورواه البيهقى من حديث حنبل بن إسحاق عن عفان.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبدالله الحافظ، أنبأنا أبو العباس الاصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن أبى معشر، عن محمد بن قيس، عن أبى عروة، عن أم سلمة قالت: وضعت يدى على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات، فمرت لى جمع آكل وأتوضأ وما يذهب ريح المسك من يدى.
وقال أحمد: حدثنا عفان وبهز قالا: حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال،
عن أبى بردة، قال: دخلت على عائشة فأخرجت إلينا إزارا غليظا مما يصنع باليمن وكساء من التى يدعون الملبدة فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض في هذين الثوبين.
وقد رواه الجماعة إلا النسائي من طرق، عن حميد بن هلال به.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الامام أحمد: حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا أبوعمران الجونى، عن يزيد بن بابنوس، قال: ذهبت أنا وصاحب لى إلى عائشة فاستأذنا عليها، فألقت لنا وسادة وجذبت إليها الحجاب.
فقال صاحبي: يا أم المؤمنين ما تقولين في العراك ؟ قالت: وما العراك ؟ فضربت منكب صاحبي.
قالت: مه آذيت أخاك.
ثم قالت: ما العراك المحيض ؟ قولوا ما قال الله عزوجل في المحيض.
ثم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه

وسلم يتوشحنى وينال من رأسي وبيني وبينه ثوب وأنا حائض.
ثم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر ببابى مما يلقى الكلمة ينفعني الله بها، فمر ذات يوم فلم يقل شيئا ثم مر فلم يقل شيئا مرتين أو ثلاثا.
فقلت: يا جارية ضعى لى وسادة على الباب.
وعصبت رأسي فمر بى.
فقال: يا عائشة ما شأنك ؟ فقلت: أشتكى رأسي.
فقال: أنا وارأساه.
فذهب فلم يلبث إلا يسيرا حتى جئ به محمولا في كساء، فدخل على وبعث إلى النساء فقال: إنى قد اشتكيت، وإنى لا أستطيع أن أدور بينكن، فأذن لى فلاكن عند عائشة.
فكنت أمرضه ولم أمرض أحدا قبله، فبينما رأسه ذات يوم على منكبي إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة فخرجت من فيه نطفة (1) باردة، فوقعت على ثغرة نحرى فاقشعر لها جلدى فظننت أنه غشى عليه فسجيته ثوبا.
فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا فأذنت لهما وجذبت إلى الحجاب، فنظر عمر إليه
فقال: واغشياه ما أشد غشى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قاما فلما دنوا من الباب قال المغيرة: يا عمر مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت: كذبت بل أنت رجل نحوسك (2) فتنة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يموت حتى يفنى الله المنافقين.
قالت: ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ! مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه من قبل رأسه فحدر فاه فقبل جبهته، ثم قال: وانبياه ! ثم رفع رأسه فحدر فاه وقبل جبهته ثم قال.
واصفياه.
ثم رفع رأسه وحدر فاه وقبل جبهته وقال: واخليلاه مات رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخرج إلى المسجد وعمر يخطب الناس ويتكلم ويقول: إن رسول الله لا يموت حتى يفنى الله المنافقين.
__________
(1) النطفة: الماء القليل.
وفى الاصل: نقطة.
وما أثبته عن مسند أحمد (2) تحوسك: تتخلك.
(*)

فتكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله يقول: " إنك ميت وإنهم ميتون " حتى فرغ من الآية " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه ".
حتى فرغ من الآية.
ثم قال: فمن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات.
فقال عمر: أو إنها في كتاب الله ؟ ما شعرت أنها في كتاب الله.
ثم قال عمر: يا أيها الناس هذا أبو بكر وهو ذوشيبة (1) المسلمين، فبايعوه.
فبايعوه.
وقد روى أبو داود والترمذي في الشمائل من حديث مرحوم بن عبد العزيز العطار، عن أبى عمران الجونى به ببعضه.
وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن
شهاب، أخبرني أبو سلمة، عن عبدالرحمن، أن عائشة أخبرته: أن أبا بكر أقبل على فرس من مسكنه بالسنح (2) حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله ثم بكى.
ثم قال: بأبى أنت وأمى يا رسول الله ! والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدا، أما الموتة التى كتبت عليك فقد متها.
قال الزهري: وحدثني أبو سلمة، عن ابن عباس، أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس.
فقال: اجلس يا عمر.
فأبى عمر أن يجلس.
فقال: اجلس يا عمر.
فأبى عمر أن يجلس.
فتشهد أبو بكر فأقبل الناس إليه، فقال، أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدا فإن محمدا قد
__________
(1) ذو الشيبة: أقدمهم وأولاهم.
(2) السنح: موضع بعوالي المدينة.
(*)

مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت، قال الله تعالى: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " الآية.
قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها منه الناس كلهم فما سمع بشر من الناس إلا يتلوها.
قال الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب، أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنه الحق فعقرت (1) حتى ما تقلني رجلاى وحتى هويت إلى الارض وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
ورواه البخاري عن يحيى بن بكير به وروى الحافظ البيهقى من طريق ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود، عن عروة بن الزبير في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقام عمر بن الخطاب يخطب الناس ويتوعد من قال مات بالقتل والقطع ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غشية
لو قد قام قتل وقطع.
وعمرو بن قيس بن زائدة بن الاصم بن أم مكتوم في مؤخر المسجد يقرأ: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل (2) " الآية والناس في المسجد يبكون ويموجون لا يسمعون.
فخرج عباس بن عبدالمطلب على الناس فقال: يا أيها الناس هل عند أحد منكم من عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفاته فليحدثنا ؟ قالوا: لا.
قال: هل عندك يا عمر من علم ؟ قال: لا.
فقال العباس: اشهدوا أيها الناس أن أحدا لا يشهد على رسول الله بعهد عهده إليه في وفاته، والله الذى لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت.
__________
(1) عقر، فجئه الروع، فما يتقدم وما يتأخر.
(2) سورة آل عمران 144 (*)

قال، وأقبل أبو بكر رضى الله عنه من السنح على دابته حتى نزل بباب المسجد، وأقبل مكروبا حزينا، فاستأذن في بيت ابنته عائشة فأذنت له، فدخل ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفى على الفراش والنسوة حوله فخمرن وجوههن واستترن من أبى بكر، إلا ما كان من عائشة، فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجثا عليه يقبله ويبكى ويقول: ليس ما يقوله ابن الخطاب شيئا، توفى رسول الله والذى نفسي بيده ! رحمة الله عليك يارسول الله، ما أطيبك حيا وميتا ! ثم غشاه بالثوب.
ثم خرج سريعا إلى المسجد يتخطى رقاب الناس حتى أتى المنبر، وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلا إليه، وقام أبو بكر إلى جانب المنبر ونادى الناس، فجلسوا وأنصتوا، فتشهد أبو بكر بما علمه من التشهد، وقال، إن الله عزوجل نعى نبيه إلى نفسه وهو حى بين أظهركم ونعاكم إلى أنفسكم، وهو الموت حتى لا يبقى منكم أحد إلا الله عزوجل، قال تعالى، " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " الآية.
فقال عمر: هذه الآية في القرآن ؟ والله ما علمت أن هذه الآية أنزلت قبل اليوم وقد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " إنك ميت وإنهم ميتون (1) " وقال الله تعالى: " كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون (2) "، وقال: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام (3) " وقال: " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة (4) ".
وقال: إن الله عمر محمدا صلى الله عليه وسلم وأبقاه حتى أقام دين الله وأظهر أمر الله وبلغ رسالة الله وجاهد في سبيل الله، ثم توفاه الله على ذلك وقد ترككم على الطريقة، فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة والشقاء، فمن كان الله ربه فإن الله حى لا يموت،
__________
(1) سورة الزمر 30 (2) سورة القصص 88 (3) سورة الرحمن 26، 27 (5) سورة آل عمران 144 (*)

ومن كان يعبد محمدا وينزله إلها فقد هلك إلهه.
فاتقوا الله أيها الناس واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم وإن كلمة الله تامة وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه، وإن كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وفيه حلال الله وحرامه والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد، ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يبغين أحد إلا على نفسه.
ثم انصرف معه المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فذكر الحديث في غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه.
قلت، كما سنذكره مفصلا بدلائله وشواهده إن شاء الله تعالى.
وذكر الواقدي عن شيوخه.
قالوا: ولما شك ؟ في موت النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال بعضهم: مات.
وقال بعضهم: لم يمت، وضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفي
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقالت: قد توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رفع الخاتم من بين كتفيه.
فكان هذا الذى قد عرف به موته.
هكذا أورده الحافظ البيهقى في كتابه دلائل النبوة من طريق الواقدي، وهو ضعيف وشيوخه لم يسمون ثم هو منقطع بكل حال ومخالف لما صح وفيه غرابة شديدة وهو رفع الخاتم فالله أعلم بالصواب.
وقد ذكر الواقدي وغيره في الوفاة أخبارا كثيرة فيها نكارات وغرابة شديدة، أضربنا عن أكثرها صفحا لضعف أسانيدها ونكارة متونها، ولا سيما ما يورده كثير من القصاص المتأخرين وغيرهم فكثير منه موضوع لا محالة.
وفى الاحاديث الصحيحة والحسنة المروية في الكتب المشهورة غنية عن الاكاذيب وما لا يعرف سنده.
والله أعلم.

فصل في ذكر أمور مهمة وقعت بعد وفاته وقبل دفنه عليه السلام ومن أعظمها وأجلها وأيمنها بركة على الاسلام وأهله بيعة أبى بكر الصديق رضى الله عنه.
وذلك لانه عليه الصلاة والسلام لما مات كان الصديق رضى الله عنه قد صلى بالمسلمين صلاة الصبح، وكان إذ ذاك قد أفاق رسول الله صلى الله عليه وسلم إفاقة من غمرة ما كان فيه من الوجع، وكشف ستر الحجرة ونظر إلى المسلمين وهم صفوف في الصلاة خلف أبى بكر، فأعجبه ذلك وتبسم صلوات الله وسلامه عليه، حتى هم المسلمون أن يتركوا ما هم فيه من الصلاة لفرحهم به، حتى أراد أبو بكر أن يتأخر ليصل الصف، فأشار إليهم أن يمكثوا كما هم وأرخى الستارة، وكان آخر العهد به عليه السلام.
فلما انصرف أبو بكر رضى الله عنه من الصلاة دخل عليه وقال لعائشة: ما أرى
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد أقلع عنه من الوجع، وهذا يوم بنت خارجة، يعنى إحدى زوجتيه، وكانت ساكنة بالسنح شرقي المدينة.
فركب على فرس له وذهب إلى منزله.
وتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم، وقيل عند زوال الشمس.
والله أعلم.
فلما مات واختلف الصحابة فيما بينهم، فمن قائل يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قائل: لم يمت.
فذهب سالم بن عبيد وراء الصديق إلى السنح فأعلمه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء الصديق من منزله حين بلغه الخبر، فدخل على رسول

الله صلى الله عليه وسلم منزله وكشف الغطاء عن وجهه وقبله وتحقق أنه قد مات.
[ ثم ] خرج إلى الناس فخطبهم إلى جانب المنبر وبين لهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمنا، وأزاح الجدل وأزال الاشكال، ورجع الناس كلهم إليه، وبايعه في المسجد جماعة من الصحابة.
ووقعت شبهة لبعض الانصار وقام في أذهان بعضهم جواز استخلاف خليفة من الانصار، وتوسط بعضهم بين أن يكون أمير من المهاجرين وأمير من الانصار، حتى بين لهم الصديق أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، فرجعوا إليه وأجمعوا عليه.
كما سنبينه وننبه عليه.

قصة سقيفة بنى ساعدة قال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع، حدثنا مالك بن أنس، حدثنى ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود، أن ابن عباس أخبره أن عبدالرحمن بن عوف رجع إلى رحله.
قال ابن عباس: وكنت أقرئ عبد الرحمن
ابن عوف فوجدني وأنا أنتظره، وذلك بمنى في آخر حجة حجها عمر بن الخطاب.
فقال عبدالرحمن بن عوف: إن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال: إن فلانا يقول: لو قد مات عمر بايعت فلانا.
فقال عمر: إنى قائم العشية إن شاء الله في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم.
قال عبد الرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك إذا قمت في الناس، فأخشى أن تقول مقالة يطير بها أولئك فلا يعوها ولا يضعوها مواضعها، ولكن حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم، فتقول ما قلت متمكنا، فيعوا مقالتك ويضعوها مواضعها.
قال عمر: لئن قدمت المدينة صالحا لاكلمن بها الناس في أول مقام أقومه.
فلما قدمنا المدينة في عقب ذى الحجة وكان يوم الجمعة، عجلت الرواح صكة الاعمى (1).
قلت لمالك: وما صكة الاعمى ؟ قال: إنه لا يبالى أي ساعة خرج لا يعرف الحر والبرد أو نحو هذا.
__________
(1) الصكة: شدة الهاجرة.
وفى القاموس: وتضاف إلى عمى، رجل من العمالقة أغار على قوم في الظهيرة فاجتاحهم.
(*)

فوجدت سعيد بن زيد عند ركن المنبر الايمن قد سبقني، فجلست حذاءه تحك ركبتي ركبته، فلم أنشب أن طلع عمر، فلما رأيته قلت ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة ما قالها عليه أحد قبله.
قال: فأنكر سعيد بن زيد ذلك وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل أحد ؟ فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما
بعد، أيها الناس فإنى قائل مقالة وقد قدر لى أن أقولها، لا أدرى لعلها بين يدى أجلى، فمن وعاها وعقلها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته، ومن لم يعها فلا أحل له أن يكذب على.
إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله.
فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله عزوجل، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف.
ألا وإنا قد كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترعبوا عن آبائكم.
ألا وإن سول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطرونى كما أطرى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا: عبدالله ورسوله.
وقد بلغني أن قائلا منكم يقول: لو قد مات عمر بايعت فلانا فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبى بكر كانت فلتة فتمت، ألا وإنها كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها، وليس فيكم اليوم من تقطع إليه الاعناق مثل أبى بكر، وإنه كان من خيرنا حين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن عليا والزبير ومن كان معهما تخلفوا في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتخلف عنها الانصار بأجمعها في سقيفة بنى ساعدة، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر فقلت له: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الانصار.
فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان فذكرا لنا الذى صنع القوم، فقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ فقلت: نريد إخواننا من الانصار.
فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم واقضوا أمركم يا معشر المهاجرين.
فقلت: والله لنأتينهم.
فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بنى ساعدة، فإذا هم مجتمعون وإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل، فقلت: من هذا ؟ قالوا: سعد بن عبادة.
فقلت.
ماله ؟ قالوا: وجع.
فلما جلسنا قام خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله وقال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الاسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفت دافة (1) منكم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ويحصونا من الامر.
فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدى أبى بكر وكنت أدارى منه بعض الحد (2)، وهو كان أحكم منى وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهته وأفضل حين سكت.
فقال: أما بعد، فما ذكرتم من خير فأنتم أهله، وما تعرف العرب هذا الامر إلا لهذا الحى من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم، وأخذ بيدى ويد أبى عبيدة بن الجراح.
فلم أكره مما قال غيرها، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلى إثم ؟ أحب إلى أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، إلا أن تغر نفسي عند الموت.
__________
(1) دفت دافة: بدرت بادرة.
والدفيف: المشى الخفيف ويختزلونا: يقتطعونا.
ويحصونا: يمنعونا.
(2) الحد: الغضب، كالحدة.
(*)

فقال قائل من الانصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب (1)، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش.
فقلت لمالك: ما يعنى: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب ؟ قال: كأنه يقول: أنا داهيتها.
قال فكثر اللغط وارتفعت الاصوات حتى خشينا الاختلاف، فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر.
فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الانصار ونزونا على سعد بن عبادة.
فقال قائل منهم: قتلتم سعدا.
فقلت: قتل الله سعدا ! قال عمر: أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أوفق من مبايعة أبى بكر، خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما نتابعهم على مالا نرضى وإما أن نخالفهم فيكون فساد.
فمن بايع أميرا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذى بايعه تغرة (2) أن يقتلا قال مالك: فأخبرني ابن شهاب عن عروة: أن الرجلين اللذين لقياهما عويم بن ساعدة ومعن بن عدى.
قال ابن شهاب: وأخبرني سعيد بن المسيب أن الذى قال، أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب هو الحباب بن المنذر.
وقد أخرج هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طرق عن مالك وغيره عن الزهري به.
* * * وقال لامام أحمد حدثنا معاوية عن عمرو، حدثنا زائدة، حدثنا عاصم ح وحدثني حسين بن على، عن زائدة، عن عاصم عن زر، عن عبدالله - هو ابن مسعود - قال:
__________
(1) الجذيل: عود ينصب للجربى لتحتك به، يريد أنه يشتفى برأيه.
والعذيق تصغير العذق، وهو النخلة بما عليها.
والمرجب الذى ضم أعذاقه إلى سعفاته وشدت بالخوص لئلا تنفضها الريح.
(2) التغرة: مصدر غررته إذا ألقيته في الغرر.
أي خوف التغرة.
(*)

لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الانصار: منا أمير ومنكم أمير، فأتاهم عمر فقال: يا معشر الانصار ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس ؟ فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر.
فقالت الانصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ؟ ورواه النسائي عن إسحاق بن راهويه وهناد بن السرى، عن حسين بن على الجعفي،
عن زائدة به.
ورواه على بن المدينى عن حسين بن على، وقال: صحيح لا أحفظه إلا من حديث زائدة عن عاصم.
وقد رواه النسائي أيضا من حديث سلمة بن نبيط، عن نعيم بن أبى هند، عن نبيط ابن شريط، عن سالم بن عبيد، عن عمر مثله.
وقد روى عن عمر بن الخطاب نحوه من طريق آخر.
وجاء من طريق محمد بن إسحاق، عن عبدالله بن أبى بكر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبدالله، عن ابن عباس، عن عمر، أنه قال: قلت: يا معشر المسلمين إن أولى الناس بأمر نبى الله ثانى اثنين إذ هما في الغار وأبو بكر السباق المسن.
ثم أخذت بيده وبدرنى رجل من الانصار فضرب على يده قبل أن أضرب على يده، ثم ضربت على يده وتبايع الناس.
وقد روى محمد بن سعد عن عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، فذكر نحوا من هذه القصة وسمى هذا الرجل الذى بايع الصديق قبل عمر بن الخطاب فقال: هو بشير بن سعد والد النعمان بن بشير.

ذكر اعتراف سعد بن عبادة بصحة ما قاله الصديق يوم السقيفة قال الامام أحمد: [ حدثنا عفان، حدثنا أبو عوانة، عن داود بن عبدالله الازدي عن حميد بن عبدالرحمن قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضى الله عنه في صائفه من المدينة.
قال: فجاء [ فكشف ] عن وجهه فقبله.
وقال: فداك أبى وأمى ما أطيبك حيا وميتا، مات محمد ورب الكعبة.
فذكر الحديث.
قال: فانطلق أبو بكر وعمر يتعاديان حتى أتوهم، فتكلم أبو بكر فلم يترك شيئا أنزل
في الانصار ولا ذكره رسول الله من شأنهم إلا ذكره.
وقال: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو سلك الناس واديا وسلكت الانصار واديا سلكت وادى الانصار، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: - وأنت قاعد - قريش ولاة هذا الامر، فبر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم.
فقال له سعد: صدقت نحن الوزراء وأنتم الامراء.
وقال الامام أحمد: ] (1) حدثنا على بن عباس، حدثنا الوليد بن مسلم، أخبرني يزيد بن سعيد بن ذى عضوان العبسى، عن عبدالملك بن عمير اللخمى، عن رافع الطائى رفيق أبى بكر الصديق في غزوة ذات السلاسل، قال: وسألته عما قيل في بيعتهم، فقال: وهو يحدثه عما تقاولت به الانصار وما كلمهم به وما كلم به عمر بن الخطاب الانصار وما ذكرهم به من إما متى إياهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه.
فبايعوني لذلك وقبلتها منهم وتخوفت أن تكون فتنة بعدها ردة.
وهذا إسناد جيد قوى.
__________
(1) من ت (*)

ومعنى هذا أنه رضى الله عنه إنما قبل الامامة تخوفا أن تقع فتنة أربى من تركه قبولها رضى الله عنه وأرضاه.
قلت: كان هذا في بقية يوم الاثنين، فلما كان الغد صبيحة يوم الثلاثاء اجتمع الناس في المسجد فتمت البيعة من المهاجرين والانصار قاطبة، وكان ذلك قبل تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * * قال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام، عن معمر، عن الزهري، أخبرني أنس بن مالك، أنه سمع خطبة عمر الاخيرة حين جلس على المنبر، وذلك الغد
من يوم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا - يريد بذلك أن يكون آخرهم - فإن يك محمد قد مات فإن الله قد جعل بين أظهركم نورا تهتدون به هدى الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وإن أبا بكر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين وإنه أولى المسلمين بأموركم، فقدموا فبايعوه.
وكانت طائفة قد بايعوه قبل ذلك في سقيفة بنى ساعدة وكانت بيعة العامة على المنبر.
قال الزهري، عن أنس بن مالك، سمعت عمر يقول يومئذ لابي بكر: اصعد المنبر.
فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى الزهري، حدثنى أنس بن مالك، قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر، وقام عمر فتكلم قبل أبى بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إنى قد كنت قلت لكم بالامس مقالة ما كانت وما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهده إلى رسول الله صلى

الله عليه وسلم، ولكني كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا - يقول: يكون آخرنا - وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذى هو به هدى رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه الله له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه.
فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.
ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله.
ثم قال: أما بعد، أيها الناس فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوى [ عندي ] (1) حتى أزيح علته إن
شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
وهذا إسناد صحيح.
فقوله رضى الله عنه: " وليتكم ولست بخيركم " من باب الهضم والتواضع، فإنهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضى الله عنهم.
* * * وقال الحافظ أبو بكر البيهقى: أخبرنا أبو الحسن على بن محمد الحافظ الاسفرايينى، حدثنا أبو على الحسين بن على الحافظ، حدثنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وإبراهيم بن أبى طالب.
قالا: حدثنا بندار بن بشار.
وحدثنا أبو هشام المخزومى، حدثنا وهيب، حدثنا داود بن أبى هند، حدثنا أبو نضرة، عن أبى سعيد الخدرى،
__________
(1) ليست في ا.
(*)

قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمع الناس في دار سعد بن عبادة، وفيهم أبو بكر وعمر.
قال: فقام خطيب الانصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره.
قال: فقام عمر بن الخطاب فقال: صدق قائلكم أما لو قلتم غير هذا لم نتابعكم.
وأخذ بيد أبى بكر.
وقال: هذا صاحبكم فبايعوه.
فبايعه عمر وبايعه المهاجرون والانصار.
قال: فصعد أبو بكر المنبر فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير.
قال: فدعا بالزبير فجاء فقال: قلت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه أردت أن تشق عصا المسلمين ؟ فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقام فبايعه.
ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا، فدعا بعلى بن أبى طالب فجاء.
فقال: قلت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين ؟ قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه.
هذا أو معناه.
قال أبو على الحافظ: سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: جاءني مسلم بن الحجاج فسألني عن هذا الحديث، فكتبته له في رقعة وقرأته عليه.
وهذا حديث يسوى بدنة.
فقلت: يسوى بدنه بل يسوى بدرة ! ثم قد رواه البيهقى عن الحاكم وأبى محمد بن حامد المقبرى، كلاهما عن أبى العباس محمد بن يعقوب الاصم، عن جعفر بن محمد بن شاكر، عن عفان بن سلم، عن وهيب به.
ولكن ذكر أن الصديق هو القائل لخطيب الانصار بدل عمر وفيه: أن زيد بن ثابت

أخذ بيد أبى بكر.
فقال: هذا صاحبكم فبايعوه.
ثم انطلقوا فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليا، فسأل عنه، فقام ناس من الانصار فأتوا به: فذكر نحو ما تقدم، ثم ذكر قصة الزبير بعد على.
فالله أعلم.
وقد رواه الامام أحمد بن حنبل عن الثقة عن وهيب مختصرا.
وقد رواه على بن عاصم، عن الجريرى، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد الخدرى.
فدكر نحو ما تقدم.
وهذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبى نضرة المنذر بن مالك بن نطعة، عن أبى سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدرى.
وفيه فائدة جليلة، وهى مبايعة على بن أبى طالب، إما في أول يوم أو في اليوم
الثاني من الوفاة.
وهذا حق، فإن على بن أبى طالب لم يفارق الصديق في وقت من الاوقات، ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه.
كما سنذكره وخرج معه إلى ذى القصة لما خرج الصديق شاهرا سيفه يريد قتال أهل الردة.
ولكن لما حصل من فاطمة رضى الله عنها عتب على الصديق، بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تعلم بما أخبرها به أبو بكر الصديق رضى الله عنه أنه قال: " لا نورث ما تركنا فهو صدقة " فحجبها وغيرها من أزواجه وعمه عن الميراث بهذا النص الصريح، كما سنبينه في موضعه، فسألته أن ينظر على في صدقة الارض التى بخيبر وفدك فلم يجبها إلى ذلك، لانه رأى أن حقا عليه أن يقوم في جميع ماكان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق البار الراشد التابع للحق رضى الله عنه، فحصل لها - وهى امرأة من البشر ليست براجية العصمة - عتب وتغضب، ولم تكلم الصديق حتى ماتت، واحتاج على أن يراعى خاطرها بعض الشئ، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم رأى على أن يجدد

البيعة مع أبى بكر رضى الله عنه، مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويزيد ذلك صحة قول موسى بن عقبة في مغازيه عن سعد بن إبراهيم، حدثنى أبى، أن أباه عبدالرحمن بن عوف كان مع عمر، وإن محمد بن مسلمة كسر سيف الزبير.
ثم خطب أبو بكر واعتذر إلى الناس وقال: ما كنت حريصا على الامارة يوما ولا ليلة ولا سألتها في سر ولا علانية.
فقبل المهاجرون مقالته.
وقال على والزبير: ما غضبنا إلا لانا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، إنه لصاحب الغار وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يصلى بالناس وهو حى.
إسناد جيد.
ولله الحمد والمنة.
فصل ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له إجماع الصحابة المهاجرين منهم والانصار على تقديم أبى بكر، وظهر برهان قوله عليه السلام: " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ".
وظهر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينص على الخلافة عينا لاحد من الناس، لا لابي بكر، كما قد زعمه طائفة من أهل السنة، ولا لعلى كما تقوله طائفة من الرافضة.
ولكن أشار إشارة قوية يفهمها كل ذى لب وعقل إلى الصديق كما قدمنا وسنذكره ولله الحمد.
كما ثبت في الصحيحين من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن عمر، أن

عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: ألا تستخلف يا أمير المؤمنين ؟ فقال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى.
- يعنى أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خير منى، - يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن عمر: فعرفت حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غير مستخلف.
وقال سفيان الثوري عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن سفيان، قال: لما ظهر على على الناس قال، يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الامارة شيئا، حتى رأينا من الرأى أن نستخلف أبا بكر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثم أن أبا بكر رأى من الرأى أن يستخلف عمر، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله - أو قال حتى ضرب الدين بجرانه (1) - إلى آخره.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا شريك، عن الاسود بن قيس، عن عمرو بن سفيان، قال: خطب رجل يوم البصرة حين ظهر على فقال على: هذا الخطيب
السجسج (2) - سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى (3) أبو بكر وثلث عمر، ثم خبطتنا فتنة بعدهم يصنع الله فيها ما يشاء.
وقال الحافظ البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد الزكي بمرو، حدثنا عبدالله بن روح المدائني، حدثنا شبابة بن سوار، حدثنا شعيب بن ميمون، عن حصين بن عبدالرحمن، عن الشعبى، عن أبى وائل، قال: قيل لعلى بن أبى طالب: ألا تستخلف علينا ؟ فقال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الجران: مقدم عنق البعير، والمراد، قوى واشتد أمره.
(2) السجسج: الارض التى ليست يصلبة ولا لينة.
(3) صلى: جاء تاليا.
(*)

فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدى على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.
إسناد جيد ولم يخرجوه.
وقد قدمنا ما ذكره البخاري من حديث الزهري، عن عبدالله بن كعب بن مالك عن ابن عباس: أن عباسا وعليا لما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال على: أصبح بحمد الله بارئا.
فقال العباس: إنك والله عبد العصا بعد ثلاث ! إنى لاعرف في وجوه بنى هاشم الموت، وإنى لارى في وجه رسول الله الموت فاذهب بنا إليه فنسأله فيمن هذا الامر ؟ فإن كان فينا عرفناه وإن كان في غيرنا أمرناه فوصاه بنا.
فقال على: إنى لا أسأله ذلك والله إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده أبدا.
وقد رواه محمد بن إسحاق عن الزهري به فذكره.
وقال فيه: فدخلا عليه يوم قبض صلى الله عليه وسلم.
فذكره.
وقال في آخره: فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
حين اشتد الضحى من ذلك اليوم قلت: فهذا يكون في يوم الاثنين يوم الوفاة، فدل على أنه عليه السلام توفى عن غير وصية في الامارة (1).
وفى الصحيحين عن ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب ذلك الكتاب.
وقد قدمنا أنه عليه السلام كان طلب أن يكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده،
__________
(1) ت: الامامة.
(*)

فلما أكثروا اللغط والاختلاف عنده قال: " قوموا عنى، فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه ".
وقد قدمنا أنه قال بعد ذلك: " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ".
وفى الصحيحين من حديث عبدالله بن عون عن إبراهيم التيمى، عن الاسود.
قال: قيل لعائشة إنهم يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إلى على.
فقالت: بم أوصى إلى على ؟ لقد دعا بطست ليبول فيها وأنا مسندته إلى صدري فانحنف (1) فمات وما شعرت، فيم يقول هؤلاء إنه أوصى إلى على ؟ وفى الصحيحين من حديث مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف، قال: سألت عبدالله بن أبى أوفى، هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لا.
قلت: فلم أمرنا بالوصية ؟ قال: أوصى بكتاب الله عزوجل.
قال طلحة بن مصرف: وقال هذيل بن شرحبيل: أبو بكر يتأمر على وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ود أبو بكر أنه وجد عهدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرم أنفه بخرامة ! وفى الصحيحين أيضا من حديث الاعمش عن إبراهيم التيمى، عن أبيه، قال:
خطبنا على بن أبى طالب رضى الله عنه فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرأه ليس في كتاب الله وهذه الصحيفة - لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الابل وأشياء من الجراحات فقد كذب.
وفيها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المدينة حرم ما بين عير إلى ثور (2) من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا (3)، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير
__________
(1) انحنف: مال.
(2) عير: جبل بالمدينة.
وثور جبل بالمدينة خلف أحد.
(3) الصرف: التوبة.
والعدل: الفدية.
(*)

مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ".
وهذا الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما عن على رضى الله عنه يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إليه بالخلافة، ولو كان الامر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته وبعد وفاته من أن يفتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا ولم ؟ ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطؤ على معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم ومضادته في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الاسلام وكفر بإجماع الائمة الاعلام، وكان إراقة دمه أحل من أراقة المدام ! ثم لو كان مع على بن أبى طالب رضى الله عنه نص فلم لا كان يحتج به على الصحابة
على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم ؟ فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز، والعاجز لا يصلح للامارة، وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن، والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الامارة، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل.
ثم وقد عرفه وعلمه من بعده ! هذا محال وافتراء وجهل وضلال.
وإنما يحسن هذا في أذهان الجهلة الطغام والمغترين من الانام، يزينه لهم الشيطان بلا دليل ولا برهان، بل بمجرد التحكم والهذيان والافك والبهتان.
عياذا بالله مما هم فيه من التخليط والخذلان والتخبيط والكفران، وملاذا

بالله بالتمسك بالسنة والقرآن والوفاة على الاسلام والايمان، والموافاة على الثبات والايقان وتثقيل الميزان، والنجاة من النيران والفوز بالجنان إنه كريم منان رحيم رحمن.
* * * وفى هذا الحديث الثابت في الصحيحين عن على الذى قدمناه رد على متقولة كثير من الطرقية والقصاص الجهلة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى على بأشياء كثيرة يسوقونها مطولة: يا على افعل كذا، يا على لا تفعل كذا، يا على من فعل كذا كان كذا وكذا.
بألفاظ ركيكة ومعان أكثرها سخيفة، وكثير منها صحفية لا تساوى تسويد الصحيفة.
والله أعلم.
وقد أورد الحافظ البيهقى من طريق حماد بن عمرو النصيبى - وهو أحد الكذابين الصواغين - عن السرى بن خلاد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جده، عن على ابن أبى طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: يا على أوصيك بوصية احفظها فإنك لا تزال بخير ما حفظتها، يا على إن للمؤمن ثلاث علامات: الصلاة والصيام والزكاة.
قال البيهقى: فذكر حديثا طويلا في الرغائب والآداب.
وهو حديث موضوع.
وقد شرطت في أول الكتاب ألا أخرج فيه حديثا أعلمه موضوعا.
ثم روى من طريق حماد بن عمر، وهذا عن زيد بن رفيع، عن مكحول الشامي، قال: هذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى بن أبى طالب حين رجع من غزوة حنين وأنزلت عليه سورة النصر.
قال البيهقى: فذكر حديثا طويلا في الفتنة وهو أيضا حديث منكر ليس له أصل، وفى الاحاديث الصحيحة كفاية وبالله التوفيق.
ولنذكر هاهنا ترجمة حماد بن عمرو بن أبى إسماعيل النصيبى: روى عن الاعمش

وغيره، وعنه إبراهيم بن موسى ومحمد بن مهران وموسى بن أيوب وغيرهم.
قال يحيى بن معين: هو ممن يكذب ويضع الحديث.
وقال عمرو بن على الفلاس وأبو حاتم: منكر الحديث ضعيف جدا.
وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجانى: كان يكذب.
وقال البخاري: منكر الحديث.
وقال أبو زرعة: واهى الحديث.
وقال النسائي: متروك.
وقال ابن حبان: يضع الحديث وضعا.
وقال ابن عدى: عامة حديثه مما لا يتابعه أحد من الثقات عليه.
وقال الدارقطني: ضعيف.
وقال الحاكم أبو عبد الله: يروى عن الثقات أحاديث موضوعة، وهو ساقط بمرة.
فأما الحديث الذى قال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبدالله الحافظ، أنبأنا حمزة بن العباس العقبى ببغداد، حدثنا عبدالله بن روح المدائني، حدثنا سلام بن سليمان المدائني، حدثنا سلام بن سليم الطويل، عن عبدالملك بن عبدالرحمن، عن الحسن المقبرى، عن الاشعث بن طليق، عن مرة بن شراحيل، عن عبدالله بن مسعود، قال: لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعنا في بيت عائشة فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه، ثم قال لنا: قد دنا الفراق.
ونعى إلينا نفسه، ثم قال:
مرحبا بكم حياكم الله، هداكم الله، نصركم الله، نفعكم الله، وفقكم الله، سددكم الله، وقاكم الله، أعانكم الله، قبلكم الله.
أوصيكم بتقوى الله، وأوصى الله بكم وأستخلفه عليكم، إنى لكم منه نذير مبين ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده.
فإن الله قال لى ولكم: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " (1) وقال: " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " (2).
قلنا: فمتى أجلك يا رسول الله ؟ قال: قد دنا الاجل، والمنقلب إلى الله والسدرة المنتهى
__________
(1) سورة القصص.
(2) سورة الزمر.
(*)

والكأس الاوفى والفرش الاعلى.
قلنا: فمن يغسلك يا رسول الله ؟ قال: رجال أهل بيتى الادنى فالادنى، مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم.
قلنا: ففيم نكفنك يا رسول الله ؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في يمنية أو في بياض مصر.
قلنا: فمن يصل عليك يا رسول الله ؟ فبكى وبكينا.
وقال: مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا، إذا غسلتموني وحنطتمونى وكفنتموني فضعونى على شفير قبري ثم اخرجوا عنى ساعة.
فإن أول من يصلى على خليلاى وجليساى جبريل وميكائيل ثم إسرافيل، ثم ملك الموت مع جنود من الملائكة عليهم السلام، وليبدأ بالصلاة على رجال أهل بيتى ثم نساؤهم ثم ادخلوا على أفواجا وفرادى ; ولا تؤذوني بباكية ولا برنة ولا بصيحة، ومن كان غائبا من أصحابي فأبلغوه عنى السلام، وأشهدكم بأنى قد سلمت على من دخل في الاسلام ومن تابعني في دينى هذا منذ اليوم إلى يوم القيامة.
قلنا: فمن يدخلك قبرك يا رسول الله ؟ قال: رجال أهل بيتى الادنى فالادنى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم.
ثم قال البيهقى: تابعه أحمد بن يونس، عن سلام الطويل، وتفرد به سلام الطويل.
قلت: وهو سلام بن سلم، ويقال ابن سليم، ويقال ابن سليمان.
والاول أصح، التميمي السعدى الطويل.
يروى عن جعفر الصادق وحميد الطويل وزيد العمى وجماعة.
وعنه جماعة منهم: أحمد بن عبدالله بن يونس، وأسد بن موسى، وخلف بن هشام البزار، وعلى بن الجعد، وقبيصة بن عقبة.
وقد ضعفه على بن المدينى وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين والبخاري وأبو حاتم وأبو زرعة والجوزجاني والنسائي وغير واحد، وكذبه بعض الائمة، وتركه آخرون.

لكن روى هذا الحديث بهذا السياق بطوله الحافظ أبو بكر البزار من غير طريق سلام هذا فقال: حدثنا محمد بن إسماعيل الاحمسي، حدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن الاصبهاني، أنه أخبره عن مرة، عن عبدالله فذكر الحديث بطوله.
ثم قال البزار: وقد روى هذا عن مرة من غير وجه بأسانيد متقاربة وعبد الرحمن ابن الاصبهاني لم يسمع هذا من مرة، وإنما هو عمن أخبره عن مرة، ولا أعلم أحدا رواه عن عبدالله عن مرة.

فصل في ذكر الوقت الذى توفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبلغ سنه حال وفاته وفى كيفية غسله عليه السلام وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وموضع قبره صلوات الله وسلامه عليه لا خلاف أنه عليه السلام توفى يوم الاثنين.
قال ابن عباس: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين.
وخرج من مكة مهاجرا يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، ومات
يوم الاثنين.
رواه الامام أحمد والبيهقي.
وقال سفيان الثوري عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة قالت: قال لى أبو بكر: أي يوم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت: يوم الاثنين.
فقال: إنى لارجو أن أموت فيه.
فمات فيه.
رواه البيهقى من حديث الثوري به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا هريم، حدثنى ابن إسحاق، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ودفن ليلة الاربعاء.
تفرد به أحمد.
وقال عروة بن الزبير في مغازيه وموسى بن عقبة عن ابن شهاب: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه أرسلت عائشة إلى أبى بكر، وأرسلت حفصة

إلى عمر، وأرسلت فاطمة إلى على، فلم يجتمعوا حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صدر عائشة وفى يومها ; يوم الاثنين حين زاغت الشمس لهلال ربيع الاول.
وقد قال أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن أنس، قال: آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله يوم يوم الاثنين، كشف الستارة والناس خلف الستارة والناس خلف أبى بكر فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف، فأراد الناس أن ينحرفوا فأشار إليهم أن امكثوا: وألقى السجف، وتوفى من آخر ذلك اليوم.
وهذا الحديث في الصحيح، وهو يدل على أن الوفاة وقعت بعد الزوال.
والله أعلم.
وروى يعقوب بن سفيان، عن عبدالحميد بن بكار، عن محمد بن شعيب، وعن
صفوان، عن عمر بن عبد الواحد، جميعا عن الاوزاعي، أنه قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين قبل أن ينتصف النهار.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أحمد بن كامل (1)، حدثنا الحسين بن على البزار، حدثنا محمد بن عبدالاعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، وهو سليمان ابن طرخان التيمى في كتاب المغازى، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرض لاثنتين وعشرين ليلة من صفر، وبدأه وجعه عند وليدة له يقال لها ريحانة كانت من سبى اليهود، وكان أول يوم مرض يوم السبت، وكانت وفاته عليه السلام يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الاول لتمام عشر سنين من مقدمه عليه السلام المدينة.
وقال الواقدي: حدثنا أبو معشر عن محمد بن قيس، قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاربعاء لاحدى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة إحدى عشرة
__________
(1) المطبوعة: ابن حنبل (*)

في بيت زينب بنت جحش شكوى شديدة، فاجتمع عنده نساؤه كلهن، فاشتكى ثلاثة عشر يوم، وتوفى يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الاول سنة إحدى عشرة.
وقال الواقدي: وقالوا: بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاربعاء لليلتين بقيتا من صفر، وتوفى يوم الاثنين لثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الاول.
وهذا جزم به محمد بن سعد كاتبه، وزاد: ودفن يوم الثلاثاء.
قال الواقدي: وحدثني سعيد بن عبدالله بن أبى الابيض، عن المقبرى، عن عبدالله بن رافع، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بدئ في بيت ميمونة.
وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس، قال: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر يوما، فكان إذا وجد
خفة صلى وإذا ثقل صلى أبو بكر رضى الله عنه.
وقال محمد بن إسحاق: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الاول في اليوم الذى قدم فيه المدينة مهاجرا، واستكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته عشر سنين كوامل.
قال الواقدي: وهو المثبت عندنا.
وجزم به محمد بن سعد كاتبه.
وقال يعقوب بن سفيان، عن يحيى بن بكير، عن الليث، أنه قال: توفى رسول الله يوم الاثنين لليلة خلت من ربيع الاول وفيه قدم المدينة على رأس عشر سنين من مقدمه.
وقال سعد بن إبراهيم الزهري: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الاول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة.

رواه ابن عساكر.
ورواه الواقدي عن أبى معشر عن محمد بن قيس مثله سواء.
وقاله خليفة بن خياط أيضا.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: توفى رسول الله يوم الاثنين مستهل ربيع الاول سنة إحدى عشرة من مقدمه المدينة، ورواه ابن عساكر أيضا.
وقد تقدم قريبا عن عروة وموسى بن عقبة والزهرى مثله فيما نقلناه عن مغازيهما فالله أعلم.
والمشهور قول ابن إسحاق والواقدى.
ورواه الواقدي عن ابن عباس وعائشة رضى الله عنهما فقال: حدثنى إبراهيم بن يزيد، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، وحدثني محمد بن عبدالله عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
قالا: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الاول.
ورواه ابن إسحاق عن عبدالله بن أبى بكر بن حزم، عن أبيه مثله - وزاد:
ودفن ليلة الاربعاء.
وروى سيف بن عمر، عن محمد بن عبيدالله العرزمى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ارتحل فأتى المدينة فأقام بها بقية ذى الحجة والمحرم وصفرا، ومات يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الاول.
وروى أيضا عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عروة.
وفى حديث فاطمة عن عروة عن عائشة مثله، إلا أن ابن عباس قال في أوله: لايام مضين منه.
وقالت عائشة: بعدما مضى أيام منه.

فائدة قال أبو القاسم السهيلي في الروض ما مضمونه: لا يتصور وقوع وفاته عليه السلام يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الاول من سنة إحدى عشرة.
وذلك لانه عليه السلام وقف في حجة الوداع سنة عشر يوم الجمعة ; فكان أول ذى الحجة يوم الخميس، فعلى تقدير أن تحسب الشهور تامة أو ناقصة أو بعضها تام وبعضها ناقص، لا يتصور أن يكون يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الاول.
وقد اشتهر هذا الايراد على هذا القول.
وقد حاول جماعة الجواب عنه.
ولا يمكن الجواب عنه إلا بمسلك واحد، وهو اختلاف المطالع، بأن يكون أهل مكة رأوا هلال ذى الحجة ليلة الخميس، وأما أهل المدينة فلم يروه إلا ليلة الجمعة.
ويؤيد هذا قول عائشة وغيرها: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس بقين من ذى القعدة - يعنى من المدينة - إلى حجة الوداع.
ويتعين كما ذكرنا أنه خرج يوم السبت، وليس كما زعم ابن حزم أنه خرج يوم
الخميس، لانه قد بقى أكثر من خمس بلاشك، ولا جائز أن يكون خرج يوم الجمعة، لان أنسا قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذى الحليفة ركعتين.
فتعين أنه خرج يوم السبت لخمس بقين.
فعلى هذا إنما رأى أهل المدينة هلال ذى الحجة ليلة الجمعة، وإذا كان أول ذى الحجة عند أهل المدينة الجمعة وحسبت الشهور بعده كوامل يكون أول ربيع الاول يوم الخميس، فيكون ثانى عشره يوم الاثنين.
والله أعلم.
وثبت في الصحيحين من حديث مالك، عن ربيعة بن أبى عبدالرحمن، عن

أنس بن مالك، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير وليس بالابيض الامهق ولا بالآدم ولا بالجعد القطط ولا بالسبط (1)، بعثه الله عزوجل على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله عليه رأس ستين سنة وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
وهكذا رواه ابن وهب، عن عروة، عن الزهري، عن أنس، وعن قرة بن ربيعة، عن أنس مثل ذلك.
قال الحافظ ابن عساكر: حديث قرة عن الزهري غريب.
وأما من رواية ربيعة عن أنس فرواها عنه جماعة كذلك.
ثم أسند من طريق سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد وربيعة (2) عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى وهو ابن ثلاث وستين.
وكذلك رواه ابن البربري ونافع بن أبى نعيم، عن ربيعة عن أنس به.
قال: والمحفوظ عن ربيعة عن أنس ستون.
ثم أورده ابن عساكر من طريق مالك والاوزاعي ومسعر وإبراهيم بن طهمان، وعبد الله بن عمر وسليمان بن بلال، وأنس بن بلال، وأنس بن عياض والدراوردى
ومحمد بن قيس المدنى، كلهم عن ربيعة عن أنس، قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستين سنة.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو عمرو بن السماك، حدثنا حنبل بن إسحاق، حدثنا أبو معمر، عبدالله بن عمرو، حدثنا عبد الوراث، حدثنا أبو غالب الباهلى، قال: قلت لانس بن مالك: ابن أي الرجال رسول الله إذ بعث ؟
__________
(1) الامهق: الابيض لا تخالطه حمرة.
والآدم: الاسمر.
والقطط: الشديد جعودة الشعر، والسبط: نقيض الجعد.
(2) ا: وزمعة.
(*)

قال: كان ابن أربعين سنة.
قال: ثم كان ماذا ؟ قال: كان بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين فتمت له ستون سنة يوم قبضه الله عزوجل وهو كأشد الرجال وأحسنه وأجمله وألحمه.
ورواه الامام أحمد، عن عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبيه به.
وقد روى مسلم عن أبى غسان محمد بن عمرو الرازي الملقب بربيح، عن حكام بن سلم، عن عثمان بن زائدة، عن الزبير بن عدى، عن أنس بن مالك قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وقبض عمر وهو ابن ثلاث وستين.
انفرد به مسلم.
وهذا لا ينافى ما تقدم عن أنس، لان العرب كثيرا ما تحذف الكسر.
وثبت في الصحيحين من حديث الليث بن سعد، عن عقيل عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة.
قال الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب مثله.
وروى موسى بن عقبة وعقيل ويونس بن يزيد وابن جريج، عن الزهري عن عروة، عن عائشة.
قالت: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين.
قال الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب مثل ذلك.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا شيبان، عن يحيى بن أبى كثير، عن أبى سلمة، عن عائشة وابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بمكة عشر سنين يتنزل عليه القرآن، وبالمدينة عشرا.
لم يخرجه مسلم.
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة، عن أبى إسحاق، عن عامر بن

سعد، عن جرير بن عبدالله، عن معاوية بن أبى سفيان، قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين.
وهكذا رواه مسلم من حديث غندر، عن شعبة، وهو من أفراده دون البخاري.
ومنهم من يقول عن عامر بن سعد عن معاوية، والصواب ما ذكرناه عن عامر بن سعد عن جرير عن معاوية.
وروينا من طريق عامر بن شراحيل، عن الشعبى، عن جرير بن عبدالله البجلى، عن معاوية فذكره.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق القاضى أبى يوسف، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن أنس، قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين، وتوفى أبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وتوفى عمر وهو ابن ثلاث وستين.
وقال ابن لهيعة، عن أبى الاسود، عن عروة، عن عائشة قالت: تذاكر رسول الله
وأبو بكر ميلادهما عندي، فكان رسول الله أكبر من أبى بكر، فتوفى رسول الله وهو ابن ثلاث وستين، وتوفى أبو بكر بعده وهو ابن ثلاث وستين.
وقال الثوري عن الاعمش، عن القاسم بن عبدالرحمن، قال: توفى رسول الله وأبو بكر وعمر وهم بنو ثلاث وستين.
وقال حنبل: حدثنا الامام أحمد، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وأربعين، فأقام بمكة عشرا وبالمدينة عشرا.
وهذا غريب عنه وصحيح إليه.
وقال أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا داود بن أبى هند، عن الشعبى، قال: نبئ

رسول الله وهو ابن أربعين سنة، فمكث ثلاث سنين، ثم بعث إليه جبريل بالرسالة ثم مكث بعد ذلك عشر سنين ثم هاجر إلى المدينة، فقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة.
قال الامام أبو عبد الله أحمد بن حنبل: الثابت (1) عندنا ثلاث وستون.
قلت: وهكذا روى مجاهد عن الشعبى، وروى من حديث إسماعيل بن أبى خالد عنه.
وفى الصحيحين من حديث روح بن عبادة، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث بمكة ثلاث عشرة وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وفى صحيح البخاري من حديث روح بن عبادة أيضا، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ثم مات وهو ابن ثلاث
وستين.
وكذلك رواه الامام أحمد عن روح بن عبادة ويحيى بن سعيد ويزيد بن هارون، كلهم عن هشام بن حسان.
عن عكرمة، عن ابن عباس به.
وقد رواه أبو يعلى الموصلي، عن الحسن بن عمر بن سفيان (2)، عن جعفر بن سليمان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس.
فذكر مثله.
ثم أورده من طرق عن ابن عباس مثل ذلك.
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة، عن أبى جمرة، عن ابن عباس، أن رسول
__________
(1) ا: الثبت.
(2) ح ا: شقيق.
(*)

الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه.
وبالمدينة عشرا ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وقد أسند الحافظ ابن عساكر من طريق مسلم بن جنادة، عن عبدالله بن عمر، عن كريب، عن ابن عباس، قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين.
ومن حديث أبى نضرة عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس مثله.
وهذا القول هو الاشهر وعليه الاكثر.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسماعيل، عن خالد الحذاء، حدثنى عمار مولى بنى هاشم، سمعت ابن عباس يقول: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين سنة.
ورواه مسلم من حديث خالد الحذاء به.
وقال أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمارة بن أبى عمار، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة خمس عشرة سنة، ثمانى
سنين أو سبعا، يرى الضوء ويسمع الصوت، وثمانية أو سبعا يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشرا.
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به.
وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا يونس، عن عمار مولى بنى هاشم، قال: سألت ابن عباس كم أتى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات ؟ قال: ما كنت أرى مثلك في قومه يخفى عليك ذلك.
قال: قلت: إنى قد سألت فاختلف على فحببت أن أعلم قولك فيه.
قال: أتحسب ؟ قلت: نعم قال: أمسك أربعين بعث لها، وخمس عشرة أقام بمكة يأمن ويخاف، وعشرا مهاجره (1) بالمدينة.
وهكذا رواه مسلم من حديث يزيد بن زريع وشعبة بن الحجاج، كلاهما عن يونس
__________
(1) غير ا: " مهاجرا ".
(*)

ابن عبيد، عن عمار، عن ابن عباس بنحوه.
وقال الامام أحمد: حدثنا ابن نمير، حدثنا العلاء بن صالح، حدثنا المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، أن رجلا أتى ابن عباس فقال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم عشرا بمكة وعشرا بالمدينة ؟ فقال: من يقول ذلك ؟ لقد أنزل عليه بمكة خمس عشرة وبالمدينة عشرا، خمسا وستين وأكثر.
وهذا من أفراد أحمد إسنادا ومتنا.
وقال الامام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين سنة.
تفرد به أحمد.
وقد روى الترمذي في كتاب الشمائل وأبو يعلى الموصلي والبيهقي من حديث قتادة، عن الحسن البصري عن دغفل بن حنظلة الشيباني النسابة، أن النبي صلى الله عليه وسلم
قبض وهو ابن خمس وستين.
ثم قال الترمذي: دغفل لا نعرف له سماعا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان في زمانه رجلا.
وقال البيهقى: وهذا يوافق رواية عمار ومن تابعه عن ابن عباس.
ورواية الجماعة عن ابن عباس في ثلاث وستين أصح، فهم أوثق وأكثر وروايتهم توافق الرواية الصحيحة عن عروة عن عائشة، وإحدى الروايتين عن أنس، والرواية الصحيحة عن معاوية.
وهو قول سعيد بن المسيب وعامر الشعبى وأبى جعفر محمد بن على رضى الله عنهم.
قلت: وعبد الله بن عقبة والقاسم بن عبدالرحمن والحسن البصري وعلى بن الحسين وغير واحد.
* * *

ومن الاقوال الغريبة ما رواه خليفة بن خياط، عن معاذ بن هشام، حدثنى أبى، عن قتادة، قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة.
ورواه يعقوب بن سفيان، عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة مثله.
ورواه زيد العمى، عن يزيد، عن أنس.
ومن ذلك ما رواه محمد بن عامر، عن القاسم بن حميد، عن النعمان بن المنذر الغساني، عن مكحول، قال: توفى رسول الله وهو ابن اثنتين وستين سنة وأشهر.
ورواه يعقوب بن سفيان، عن عبدالحميد بن بكار (1)، عن محمد بن شعيب، عن النعمان بن المنذر، عن مكحول، قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتين وستين سنة ونصف.
وأغرب من ذلك كله ما رواه الامام أحمد عن روح، عن سعيد بن أبى عروبة، عن
قتادة، عن الحسن، قال: نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانى سنين بمكة وعشرا بعد ما هاجر (2).
فإن كان الحسن ممن يقول بقول الجمهور، وهو أنه عليه السلام أنزل عليه القرآن وعمره أربعون سنة فقد ذهب إلى أنه عليه السلام عاش ثمانيا وخمسين سنة.
وهذا غريب جدا.
لكن روينا من طريق مسدد، عن هشام بن حسان، عن الحسن، أنه قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستين سنة.
وقال خليفة بن خياط: حدثنا أبو عاصم، عن أشعث، عن الحسن، قال: بعث رسول الله وهو ابن خمس وأربعين، فأقام بمكة عشرا وبالمدينة ثمانيا وتوفى وهو ابن ثلاث وستين.
__________
(1) ا: دحار.
(2) ا: وعشرا وقد هاجر.
(*)

وهذا بهذا الصفة غريب جدا والله أعلم.
صفة غسله عليه السلام قد قدمنا أنهم رضى الله عنهم اشتغلوا ببيعة الصديق بقية يوم الاثنين وبعض يوم الثلاثاء، فلما تمهدت وتوطدت وتمت شرعوا بعد ذلك في تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتدين في كل ما أشكل عليهم بأبى بكر الصديق رضى الله عنه.
قال ابن إسحاق: فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء.
وقد تقدم من حديث ابن إسحاق، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله توفى يوم الاثنين ودفن ليلة الاربعاء.
وقال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا أبو معاوية، حدثنا أبو بردة، عن علقمة بن
يزيد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: لما أخذوا في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناداهم مناد من الداخل: ألا تجردوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه.
ورواه ابن ماجه من حديث أبى معاوية عن أبى بردة - واسمه عمرو بن يزيد التميمي كوفى - وقال محمد بن إسحاق: حدثنى يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، سمعت عائشة تقول: لما أرادوا غسل النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: ما ندرى أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه.
فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى مامنهم أحد إلا وذقنه في صدره.
ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه.

فقاموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوه وعليه قميص.
يصبون الماء فوق القميص فيدلكونه بالقميص دون أيديهم.
فكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه.
رواه أبو داود من حديث ابن إسحاق.
وقال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن ابن إسحاق، حدثنى حسين بن عبدالله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: اجتمع (1) القوم لغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس في البيت إلا أهله، عمه العباس بن عبدالمطلب وعلى بن أبى طالب والفضل بن عباس وقثم بن العباس وأسامة بن زيد بن حارثة وصالح مولاه.
فلما اجتمعوا لغسله نادى من وراء الناس أوس بن خولى الانصاري، أحد (2) بنى
عوف بن الخزرج - وكان بدريا - على بن أبى طالب، فقال: يا على ننشدك (3) الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له على: ادخل.
فدخل فحضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يل من غسله شيئا.
فأسنده على إلى صدره وعليه قميصه، وكان العباس وفضل وقثم يقلبونه مع على، وكان أسامة بن زيد وصالح مولاه هما يصبان الماء، وجعل على يغسله ولم ير من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما يرى (4) من الميت، وهو يقول: بأبى وأمى ! ما أطيبك حيا وميتا.
حتى إذا فرغوا من غسل رسول الله، - وكان يغسل بالماء والسدر - جففوه ثم صنع به ما يصنع (5) بالميت.
ثم أدرج في ثلاثة أثواب: ثوبين أبيضين وبرد حبرة.
__________
(1) مسند أحمد: لما اجتمع.
حديث 2358 (2) المسند: ثم أحد.
(3) المسند: نشدتك.
(4) ا: مما يراه (5) ا: مما يصنع.
(*)

قال: ثم دعا العباس رجلين، فقال: ليذهب أحدكما إلى أبى عبيدة بن الجراح - وكان أبو عبيدة يضرح لاهل مكة.
وليذهب الآخر إلى أبى طلحة بن سهل الانصاري - وكان أبو طلحة يلحد لاهل المدينة.
قال: ثم قال العباس حين سرحهما: اللهم خر لرسولك ! قال: فذهبا فلم يجد صاحب أبى عبيدة أبا عبيدة، ووجد صاحب أبى طلحة أبا طلحة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
انفرد به أحمد.
وقال يونس بن بكير، عن المنذر بن ثعلبة، عن الصلت، عن العلباء بن أحمر، قال: كان على والفضل يغسلان رسول الله، فنودى على: ارفع طرفك إلى السماء،
وهذا منقطع.
قلت: وقد روى بعض أهل السنن عن على بن أبى طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " يا على لا تبد فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حى ولا ميت ".
وهذا فيه إشعار بأمره له في حق نفسه والله أعلم.
* * * وقال الحافظ أبو بكر البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا محمد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، حدثنا ضمرة، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: قال على: غسلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئا، وكان طيبا حيا وميتا صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه أبو داود في المراسيل وابن ماجه من حديث معمر.
زاد البيهقى في روايته: قال سعيد بن المسيب: وقد ولى دفنه عليه السلام أربعة.

على والعباس والفضل وصالح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لحدوا له لحدا ونصبوا عليه اللبن نصبا.
وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين منهم عامر الشعبى ومحمد بن قيس وعبد الله بن الحارث وغيرهم بألفاظ مختلفة يطول بسطها هاهنا.
قال البيهقى: وروى أبو عمرو كيسان، عن يزيد بن بلال، سمعت عليا يقول: أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يغسله أحد غيرى، فإنه لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه.
قال على: فكان العباس وأسامة يناولاني الماء من وراء الستر.
قال على: فما تناولت عضوا إلا كأنه يقلبه معى ثلاثون رجلا، حتى فرغت من غسله.
وقد أسند هذا الحديث الحافظ أبو بكر البزار في مسنده، فقال: حدثنا محمد بن عبدالرحيم، حدثنا عبد الصمد بن النعمان، حدثنا كيسان أبو عمرو، عن يزيد بن بلال، قال: قال على بن أبى طالب: أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم ألا يغسله أحد غيرى، فإنه لا يرى أحد عورتى إلا طمست عيناه.
قال على: فكان العباس وأسامة يناولاني الماء من وراء الستر.
قلت: وهذا غريب جدا.
وقال البيهقى: أنبأنا محمد بن موسى بن الفضل، حدثنا أبو العباس الاصم، حدثنا أسيد بن عاصم، حدثنا الحسين بن حفص، عن سفيان، عن عبدالملك بن جريج، سمعت محمد بن على أبا جعفر قال: غسل النبي صلى الله عليه وسلم بالسدر ثلاثا، وغسل وعليه قميص، وغسل من بئر كان يقال لها الغرس بقباء كانت لسعد بن خيثمة، وكان رسول الله يشرب منها، وولى غسله على والفضل يحتضنه، والعباس يصب الماء، فجعل الفضل يقول: أرحني قطعت وتينى، إنى لاجد شيئا يترطل على (1).
__________
(1) الوتين: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه.
ويترطل: يسترخى ويسترسل.
(*)

وقال الواقدي: حدثنا عاصم بن عبدالله الحكمى، عن عمر بن عبد الحكم، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم البئر بئر غرس هي من عيون الجنة وماؤها أطيب المياه ".
وكان رسول الله يستعذب له منها وغسل من بئر غرس.
وقال سيف بن عمر، عن محمد بن عدى، عن عكرمة، عن ابن عباس ; قال: لما فرغ من القبر وصلى الناس الظهر، أخذ العباس في غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب عليه كلة (1) من ثياب يمانية صفاق في جوف البيت، فدخل الكلة ودعا عليا والفضل، فكان إذا ذهب إلى الماء ليعاطيهما دعا أبا سفيان بن الحارث فأدخله، ورجال
من بنى هاشم من وراء الكلة، ومن أدخل من الانصار حيث ناشدوا أبى وسألوه، منهم أوس بن خولى رضى الله عنهم أجمعين.
ثم قال سيف عن الضحاك بن يربوع الحنفي عن ماهان الحنفي، عن ابن عباس، فذكر ضرب الكلة وأن العباس أدخل فيها عليا والفضل وأبا سفيان وأسامة، ورجال من بنى هاشم من وراء الكلة في البيت، فذكر أنهم ألقى عليهم النعاس فسمعوا قائلا يقول: لا تغسلوا رسول الله فإنه كان طاهرا.
فقال العباس: ألا بلى.
وقال أهل البيت: صدق فلا تغسلوه، فقال العباس: لا ندع سنة لصوت لا ندرى ما هو.
وغشيهم النعاس ثانية، فناداهم: أن غسلوه وعليه ثيابه، فقال أهل البيت: ألا لا.
وقال العباس: ألا نعم.
فشرعوا في غسله وعليه قميص ومجول (2) مفتوح، فغسلوه بالماء القراح وطيبوه بالكافور في مواضع سجوده ومفاصله، واعتصر قميصه ومجوله، ثم أدرج في أكفانه، وجمروه عودا وندا (3)، ثم احتملوه حتى وضعوه على سريره وسجوه.
وهذا السياق فيه غرابة جدا.
__________
(1) الكلة: غشاء رقيق يتوقى به من البعوض.
(2) المجول: ثوب أبيض يجعل على يد من تدفع إليه القداح إذا تجمعوا.
(3) الند: العنبر، أو نوع من الطيب.
وفى ا: عودا، ثم احتملوه.
(*)

صفة كفنه عليه الصلاة والسلام قال الامام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الاوزاعي، حدثنى الزهري، عن القاسم، عن عائشة، قالت: أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب حبرة ثم أخر عنه.
قال القاسم: إن بقايا ذلك الثوب لعندنا بعد.
وهذا الاسناد على شرط الشيخين، وإنما رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل
والنسائي عن محمد بن مثنى، ومجاهد بن موسى فرقهما، كلهم عن الوليد بن مسلم به.
وقال الامام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي: حدثنا مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية (1)، ليس فيها قميص ولا عمامة.
وكذا رواه البخاري عن إسماعيل بن أبى أويس، عن مالك وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن هشام عن أبيه عن عائشة: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب [ سحولية ] (2) بيض.
وأخرجه مسلم من حديث سفيان بن عيينة.
وأخرجه البخاري عن أبى نعيم عن سفيان الثوري، كلاهما عن هشام بن عروة به.
وقال أبو داود: حدثنا قتيبة، حدثنا حفص بن غياث، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن رسول الله كفن في ثلاثة أثواب بيض يمانية من كرسف (3)، ليس ليس فيها قميص ولا عمامة.
__________
(1) سحولية: منسوبة إلى سحول، موضع باليمن تنسج به الثياب.
(2) ليست في ا (3) الكرسف: القطن.
(*)

قال: فذكر لعائشة قولهم: في ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتى بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه.
وهكذا رواه مسلم، عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن حفص بن غياث به.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا هناد بن السرى، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحوليه من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة، فأما الحلة فإنما شبه على الناس فيها، إنما اشتريت له حلة
ليكفن فيها فتركت، وأخذها عبدالله بن أبى بكر فقال: لاحبسنها لنفسي حتى أكفن فيها.
ثم قال: لو رضيها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم لكفنه فيها.
فباعها وتصدق بثمنها.
رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن يحيى وغيره، عن أبى معاوية.
ثم رواه البيهقى عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبى معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كفن رسول الله في برد حبرة كانت لعبد الله بن أبى بكر ولف فيها ثم نزعت عنه، فكان عبدالله بن أبى بكر قد أمسك تلك الحلة لنفسه حتى يكفن فيها إذا مات.
ثم قال بعد أن أمسكها: ما كنت أمسك لنفسي شيئا منع الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يكفن فيه.
فتصدق بثمنها عبدالله.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب سحولية بيض.
ورواه النسائي، عن إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزاق.
وقال الامام أحمد: حدثنا مسكين بن بكر، عن سعيد، يعنى ابن عبد العزيز، قال

مكحول: حدثنى عروة عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب رياط يمانية.
انفرد به أحمد.
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا سهل بن حبيب الانصاري، حدثنا عاصم بن هلال إمام مسجد أيوب، حدثنا أيوب عن نافع، عن ابن عمر: قال كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية.
وقال سفيان عن عاصم بن عبيدالله، عن سالم، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب.
ووقع في بعض الروايات ; ثوبين صحاريين (1) وبرد حبرة.
وقال الامام أحمد: حدثنا ابن إدريس، حدثنا يزيد، عن مقسم، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب: في قميصه الذى مات فيه، وحلة نجرانية - الحلة ثوبان -.
ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل وعثمان بن أبى شيبة، وابن ماجه عن على ابن محمد، ثلاثتهم عن عبدالله بن إدريس، عن يزيد بن أبى زياد، عن مقسم، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه.
وهذا غريب جدا.
وقال الامام أحمد: أيضا: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا سفيان، عن ابن أبى ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين أبيضين وبرد أحمر.
انفرد به أحمد من هذا الوجه.
__________
(1) كذا ولعلها نسبة إلى صحار، وهى هضبة عمان مما يلى الجبل.
المراصد.
(*)

وقال أبو بكر الشافعي: حدثنا على بن الحسن، حدثنا حميد بن الربيع، حدثنا بكر - يعنى ابن عبدالرحمن - حدثنا عيسى - يعنى ابن المختار - عن محمد بن عبدالرحمن هو ابن أبى ليلى، عن عطاء، عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس، قال: كفن رسول الله في ثوبين أبيضين وبرد أحمر.
وقال أبو يعلى: حدثنا سليمان الشاذكونى، حدثنا يحيى بن أبى الهيثم، حدثنا عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، عن الفضل، قال: كفن رسول الله صلى عليه وسلم في ثوبين أبيضين سحوليين.
زاد فيه محمد بن عبدالرحمن بن أبى ليلى: وبرد أحمر.
وقد رواه غير واحد عن إسماعيل المؤدب، عن يعقوب بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس، عن الفضل، قال: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين أبيضين وفى رواية: وسحولية.
فالله أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق أبى طاهر المخلص، حدثنا أحمد بن إسحاق عن البهلول، حدثنا عباد بن يعقوب، حدثنا شريك، عن أبى إسحاق، قال: وقعت على مجلس بنى عبدالمطلب وهم متوافرون، فقلت لهم: في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا قباء ولا عمامة.
قلت: كم أسر منكم يوم بدر ؟ قالوا: العباس ونوفل وعقيل.
وقد روى البيهقى من طريق الزهري، عن على بن الحسين زين العابدين، أنه قال: كفن رسول الله في ثلاثة أثواب أحدها برد حبرة.
وقد ساقه الحافظ ابن عساكر من طريق في صحتها نظر، عن على بن أبى طالب، قال: كفنت رسول صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين وبرد حبرة.
وقد قال أبو سعيد ابن الاعرابي، حدثنا إبراهيم بن الوليد حدثنا محمد بن كثير

حدثنا هشام عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، قال، كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ريطتين وبرد نجرانى.
وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن هشام وعمران القطان، عن قتادة عن سعيد، عن أبى هريرة به.
وقد رواه الربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى، حدثنا نصر بن طريف، عن قتادة، حدثنا ابن المسيب، عن أم سلمة: أن رسول الله كفن في ثلاثة أثواب أحدها برد نجرانى.
قال البيهقى: وفيما روينا عن عائشة بيان سبب الاشتباه على الناس، وأن الحبرة أخرت عنه والله أعلم.
ثم روى الحافظ البيهقى من طريق محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا يعقوب ابن إبراهيم الدورقى، عن حميد بن عبدالرحمن الرؤاسى، عن حسن بن صالح، عن هارون بن سعيد، قال: كان عند على مسك فأوصى أن يحنط به، وقال، هو من فضل حنوط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواه من طريق إبراهيم بن موسى، عن حميد، عن حسن، عن هارون، عن أبى وائل عن على.
فذكره.

كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وقد تقدم الحديث الذى رواه البيهقى من حديث الاشعث بن طليق، والبزار من حديث الاصبهاني، كلاهما عن مرة، عن ابن مسعود: في وصية النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسله رجال أهل بيته، وأنه قال: كفنوني في ثيابي هذه أو في يمانية أو بياض مصر، وأنه إذا كفنوه يضعونه على شفير قبره ثم يخرجون عنه حتى تصلى عليه الملائكة، ثم يدخل عليه رجال أهل بيته فيصلون عليه، ثم الناس بعدهم فرادى.
الحديث بتمامه.
وفى صحته نظر كما قدمنا.
والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق: حدثنى الحسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخل الرجال فصلوا عليه بغير إمام أرسالا حتى فرغوا، ثم أدخل النساء فصلين عليه، ثم أدخل الصبيان فصلوا عليه، ثم أدخل العبيد فصلوا عليه أرسالا، لم يؤمهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
وقال الواقدي: حدثنى أبى بن عياش بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده،
قال: لما أدرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكفانه وضع على سريره، ثم وضع على شفير حفرته، ثم كان الناس يدخلون عليه رفقا رفقا لا يؤمهم أحد.
قال الواقدي: حدثنى موسى بن محمد بن إبراهيم، قال وجدت كتابا بخط أبى فيه أنه لما كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع على سريره، دخل أبو بكر وعمر رضى الله عنهما ومعهما نفر من المهاجرين والانصار بقدر ما يسع البيت، فقالا:

السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وسلم المهاجرون والانصار كما سلم أبو بكر وعمر، ثم صفوا صفوفا لا يؤمهم أحد.
فقال أبو بكر وعمر - وهما في الصف الاول حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اللهم إنا نشهد أنه قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لامته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، وأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا إلهنا ممن يتبع القول الذى أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى تعرفه بنا وتعرفنا به، فإنه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، لا نبتغى بالايمان به بدلا ولا نشترى به ثمنا أبدا.
فيقول الناس: آمين آمين.
ويخرجون ويدخل آخرون، حتى صلى الرجال، ثم النساء، ثم الصبيان.
وقد قيل: إنهم صلوا عليه من بعد الزوال يوم الاثنين إلى مثله من يوم الثلاثاء، وقيل إنهم مكثوا ثلاثة أيام يصلون عليه.
كما سيأتي بيان ذلك قريبا.
والله أعلم.
وهذا الصنيع، وهو صلاتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد عليه، أمر مجمع عليه لا خلاف فيه.
وقد اختلف في تعليله.
فلو صح الحديث الذى أوردناه عن ابن مسعود لكان نصا في ذلك، ويكون من باب التعبد الذى يعسر تعقل معناه (1).
وليس لاحد أن يقول: لانه لم يكن لهم إمام، لانا قد قدمنا أنهم إنما شرعوا في تجهيزه عليه السلام بعد تمام بيعة
أبى بكر رضى الله عنه وأرضاه.
وقد قال بعض العلماء: إنما لم يؤمهم أحد ليباشر كل واحد من الناس الصلاة عليه منه إليه، ولتكرر صلاة المسلمين عليه مرة بعد مرة من كل فرد فرد من آحاد الصحابة رجالهم ونسائهم وصبيانهم حتى العبيد والاماء.
__________
(1) ت: الذى نعقل.
(*)

وأما السهيلي فقال ما حاصله: إن الله قد أخبر أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر كل واحد من المؤمنين أن يباشر الصلاة عليه منه إليه، والصلاة عليه بعد موته من هذا القبيل.
قال: وأيضا فإن الملائكة لنا في ذلك أئمة.
فالله أعلم.
وقد اختلف المتأخرون من أصحاب الشافعي في مشروعية الصلاة على قبره لغير الصحابة.
فقيل: نعم.
لان جسده عليه السلام طرى في قبره، لان الله قد حرم على الارض أن تأكل أجساد الانبياء، كما ورد بذلك الحديث في السنن وغيرها فهو كالميت اليوم، وقال آخرون: لا يفعل، لان السلف ممن بعد الصحابة لم يفعلوه، ولو كان مشروعا لبادروا إليه ولثابروا عليه.
والله أعلم.
صفة دفنه عليه السلام، وأين دفن، وذكر الخلاف في دفنه أليلا كان أم نهارا قال الامام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، أخبرني أبى - وهو عبد العزيز بن جريج: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لم يدروا أين يقبرون النبي صلى الله عليه وسلم.
حتى قال أبو بكر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم يقبر نبى إلا حيث يموت، فأخروا فراشه وحفروا تحت فراشه صلى الله عليه وسلم.
وهذا فيه انقطاع بين عبد العزيز بن جريج وبين الصديق، فإنه لم يدركه، لكن رواه الحافظ أبو يعلى من حديث ابن عباس وعائشة، عن أبى بكر الصديق رضى الله
عنهم، فقال: حدثنا أبو موسى الهروي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا عبدالرحمن بن أبى بكر، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة، قالت: اختلفوا في دفن النبي صلى الله عليه وسلم حين قبض، فقال أبو بكر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:

" لا يقبض النبي إلا في أحب الامكنة إليه " فقال: ادفنوه حيث قبض.
وهكذا رواه الترمذي عن أبى كريب، عن أبى معاوية، عن عبدالرحمن بن أبى بكر المليكى، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة قالت: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر: سمعت من رسول الله شيئا ما نسيته، قال: " ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذى يحب أن يدفن فيه ".
ادفنوه في موضع فراشه.
ثم إن الترمذي ضعف المليكى ثم قال: وقد روى هذا الحديث من غير هذا الوجه، رواه ابن عباس عن أبى بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الاموى عن أبيه عن ابن إسحاق، عن رجل حدثه، عن عروة، عن عائشة، أن أبا بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه لم يدفن نبى قط إلا حيث قبض ".
قال أبو بكر بن أبى الدنيا: حدثنى محمد بن سهل التميمي، حدثنا هشام بن عبدالملك الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان بالمدينة حفاران فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: أين ندفنه ؟ فقال أبو بكر رضى الله عنه: في المكان الذى مات فيه، وكان أحدهما يلحد والآخر يشق، فجاء الذى يلحد فلحد للنبى صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه منقطعا.
وقال أبو يعلى: حدثنا جعفر بن مهران، حدثنا عبدالاعلى، عن محمد بن إسحاق، حدثنى حسين بن عبدالله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أرادوا أن يحفروا للنبى
صلى الله عليه وسلم وكان أبو عبيدة الجراح يضرح كحفر أهل مكة، وكان أبو طلحة زيد ابن سهل هو الذى كان يحفر لاهل المدينة وكان يلحد، فدعا العباس رجلين فقال لاحدهما: اذهب إلى أبى عبيدة.
وقال للآخر: اذهب إلى أبى طلحة، اللهم خره لرسولك.

قال: فوجد صاحب أبى طلحة أبا طلحة.
فجاء به فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته، وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه.
فقال قائل: ندفنه في مسجده.
وقال قائل: ندفنه مع أصحابه.
فقال أبو بكر: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما قبض نبى إلا دفن حيث قبض ".
فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى توفى فيه فحفروا له تحته، ثم أدخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون عليه أرسالا، الرجال حتى إذا فرغ منهم أدخل النساء، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد.
فدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوسط الليل ليلة الاربعاء.
وهكذا رواه ابن ماجه عن نصر بن على الجهضمى، عن وهب بن جرير، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق فذكر بإسناده مثله.
وزاد في آخره: ونزل في حفرته على بن أبى طالب والفضل وقثم ابنا عباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال أوس بن خولى - وهو أبو ليلى - لعلى بن أبى طالب: أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له على: انزل.
وكان شقران مولاه أخذ قطيفة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها فدفنها في القبر وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك.
فدفنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه الامام أحمد، عن حسين بن محمد، عن جرير بن حازم، عن ابن إسحاق
مختصرا، وكذلك رواه يونس بن بكير وغيره عن إسحاق به.
* * * وروى الواقدي عن ابن أبى حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن

عباس، عن أبى بكر الصديق، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قبض الله نبيا إلا ودفن حيث قبض ".
وروى البيهقى عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبدالرحمن بن عبدالله بن الحصين أو محمد بن جعفر بن الزبير، قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في دفنه فقالوا: كيف ندفنه ؟ مع الناس أو في بيوته.
فقال أبو بكر: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما قبض الله نبيا إلا دفن حيث قبض ".
فدفن حيث كان فراشه، رفع الفراش وحفر تحته.
وقال الواقدي: حدثنا عبدالحميد بن جعفر، عن عثمان بن محمد الاخنسى، عن عبد الرحمن بن سعيد - يعنى ابن يربوع - قال: لما توفى النبي صلى الله عيله وسلم اختلفوا في موضع قبره.
فقال قائل: في البقيع، فقد كان يكثر الاستغفار لهم.
وقال قائل: عند منبره.
وقال قائل: في مصلاه.
فجاء أبو بكر فقال: إن عندي من هذا خبرا وعلما، سمعت رسول الله يقول: " ما قبض نبى إلا دفن حيث توفى ".
قال الحافظ البيهقى: وهو في حديث يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، وفى حديث ابن جريج عن أبيه، كلاهما عن أبى بكر الصديق، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
وقال البيهقى: عن الحاكم، عن الاصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن سلمة بن نبيط بن شريط، عن أبيه، عن سالم بن عبيد - وكان من أصحاب
الصفة - قال: دخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات ثم خرج، فقيل له: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم.
فعلموا أنه كما قال.
وقيل له: أنصلي عليه ؟ وكيف نصلى عليه ؟ قال: تجيئون عصبا عصبا، فتصلون.
فعلموا أنه كما قال.

قالوا: هل يدفن وأين ؟ قال: حيث قبض الله روحه، فإنه لم يقبض روحه إلا في مكان طيب.
فعلموا أنه كما قال.
* * * وروى البيهقى من حديث سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد الانصاري، عن سعيد بن المسيب، قال: عرضت عائشة على أبيها رؤيا، وكان من أعبر الناس قالت: رأيت ثلاثة أقمار وقعن في حجري، فقال لها: إن صدقت رؤياك دفن في بيتك من خير أهل الارض ثلاثة.
فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا عائشة هذا خير أقمارك ! ورواه مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عائشة منقطعا.
وفى الصحيحين عنها أنها قالت: توفى النبي صلى الله عليه وسلم في بيتى وفى يومى وبين سحري ونحرى، وجمع الله بين ريقي وريقه في آخر ساعة من الدنيا وأول ساعة من الآخرة.
وفى صحيح البخاري من حديث أبى عوانة، عن هلال الوراق، عن عروة، عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذى مات فيه يقول: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
قالت عائشة: ولولا ذلك لابرز قبره، غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا.
وقال ابن ماجه: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا هاشم بن القاسم: حدثنا مبارك بن
فضالة، حدثنى حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان (1) بالمدينة رجل يلحد والآخر يضرح فقالوا: نستخير الله (2) ونبعث
__________
(1) سنن ابن ماجه حديث 1557 - لما توفى النبي صلى الله عليه وسلم كان بالمدينة.
(2) ابن ماجه: نستخير ربنا.
(*)

إليهما، فأيهما سبق تركناه.
فأرسل إليهما فسبق صاحب اللحد، فلحدوا للنبى صلى الله عليه وسلم.
تفرد به ابن ماجه وقد رواه الامام أحمد، عن أبى النضر هاشم بن القاسم به.
وقال ابن ماجه أيضا: حدثنا عمر بن شبة بن عبيدة بن زيد (1)، حدثنا عبيد بن طفيل، حدثنا عبدالرحمن بن أبى مليكة، حدثنى ابن أبى مليكة، عن عائشة، قالت: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في اللحد والشق حتى تكلموا في ذلك وارتفعت أصواتهم.
فقال عمر: لاتصخبوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا ولا ميتا - أو كلمة نحوها - فأرسلوا إلى الشقاق واللاحد جميعا.
فجاء اللاحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دفن.
تفرد به ابن ماجه.
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا العمرى، عن نافع، عن ابن عمر.
وعن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحد له لحد.
تفرد به أحمد من هذين الوجهين.
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن شعبة وابن جعفر، حدثنا شعبة، حدثنى أبو جمرة عن ابن عباس، قال: جعل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء.
وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من طرق، عن شعبة به.
وقد رواه وكيع
عن شعبة.
وقال وكيع: كان هذا خاصا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
رواه ابن عساكر.
__________
(1) الاصل: ابن يزيد.
وما أثبته عن سنن ابن ماجه.
(*)

وقال ابن سعد: أنبأنا محمد بن عبدالله الانصاري، حدثنا أشعث بن عبدالملك الحمراني، عن الحسن، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسط تحته قطيفة حمراء كان يلبسها، قال: وكانت أرضا ندية.
وقال هشيم بن منصور عن الحسن قال: جعل في قبر النبي صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء كان أصابها يوم حنين.
قال [ الحسن (1) ]: جعلها لان المدينة أرض سبخة.
وقال محمد بن سعد: حدثنا حماد بن خالد الخياط، عن عقبة بن أبى الصهباء، سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " افرشوا لى قطيفة في لحدي فإن الارض لم تسلط على أجساد الانبياء ".
وروى الحافظ البيهقى من حديث مسدد، حدثنا عبد الواحد، حدثنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: قال على: غسلت النبي صلى الله عليه وسلم فذهبت أنظر إلى ما يكون من الميت فلم أر شيئا، وكان طيبا حيا وميتا.
قال: وولى دفبه عليه الصلاة والسلام وإجنانه دون الناس أربعة، على والعباس والفضل وصالح مولى النبي صلى الله عليه وسلم، ولحد للنبى صلى الله عليه وسلم لحد، ونصب عليه اللبن نصبا.
وذكر البيهقى عن بعضهم أنه نصب على لحده عليه السلام تسع لبنات.
وروى الواقدي عن ابن أبى سبرة عن عبدالله بن معبد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم موضوعا على سريره من حين زاغت الشمس من
يوم الاثنين إلى أن زاغت الشمس يوم الثلاثاء، يصلى الناس عليه وسريره على شفير قبره فلما أرادوا أن يقبروه عليه السلام نحوا السرير قبل رجليه فأدخل من هناك.
ودخل في حفرته العباس وعلى وقثم والفضل وشقران.
__________
(1) ليست في ا.
(*)

وروى البيهقى من حديث إسماعيل السدى، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس وعلى والفضل وسوى لحده رجل من الانصار وهو الذى سوى لحود قبور الشهداء يوم بدر.
قال ابن عساكر: صوابه يوم أحد.
وقد تقدم رواية ابن إسحاق عن حسين بن عبدالله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان الذين نزلوا في قبر رسول الله على والفضل وقثم وشقران، وذكر الخامس وهو أوس بن خولى، وذكر قصة القطيفة التى وضعها في القبر شقران.
وقال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو طاهر الخداباذى، حدثنا أبو قلابة، حدثنا أبو عاصم، حدثنا سفيان بن سعيد، هو الثوري، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، قال: حدثنى أبو مرحب، قال: كأنى أنظر إليهم في قبر النبي صلى الله عليه وسلم أربعة: أحدهم عبد الرحمن بن عوف.
وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن الصباح، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبى خالد به.
ثم رواه عن أحمد بن يونس، عن زهير عن إسماعيل، عن الشعبى، حدثنى مرحب أو ابن عمى مرحب (1): أنهم أدخلوا معهم عبدالرحمن بن عوف، فلما فرغ على قال: إنما يلى الرجل أهله.
وهذا حديث غريب جدا وإسناده جيد قوى، ولا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقد قال أبو عمر بن عبد البر في استيعابه: أبو مرحب اسمه سويد بن قيس، وذكر أبا مرحب آخر وقال: لا أعرف خبره.
قال ابن الاثير في الغابة: فيحتمل أن يكون راوي هذا الحديث أحدهما أو ثالث غيرهما [ ولله الحمد ] (2).
__________
(1) ح: أو أبو مرحب.
(2) ليست في ا.
(*)

ذكر من كان آخر الناس به عهدا عليه الصلاة والسلام قال الامام أحمد: حدثنا يعقوب، حدثنا أبى، عن ابن إسحاق، حدثنى أبى إسحاق ابن يسار، عن مقسم أبى القاسم مولى عبدالله بن الحارث بن نوفل، عن مولاه عبدالله بن الحارث، قال: اعتمرت مع على في زمان عمر أو زمان عثمان، فنزل على أخته أم هانئ بنت أبى طالب، فلما فرغ من عمرته رجع فسكبت له غسلا فاغتسل.
فلما فرغ من غسله دخل عليه نفر من أهل العراق فقالوا: يا أبا حسن جئناك نسألك عن أمر نحب أن تخبرنا عنه.
قال: أظن المغيرة بن شعبة يحدثكم أنه كان أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أجل.
عن ذلك جئنا نسألك.
قال: أحدث الناس عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم قثم بن عباس.
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقد رواه يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق به مثله سواء، إلا أنه قال قبله عن ابن إسحاق قال: وكان المغيرة بن شعبة يقول: أخذت خاتمي فألقيته في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت حين خرج القوم: إن خاتمي قد سقط في القبر.
وإنما طرحته عمدا لامس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون آخر الناس عهدا به.
قال ابن إسحاق: فحدثني والدى إسحاق بن يسار، عن مقسم، عن مولاه عبدالله بن الحارث، قال: اعتمرت مع على.
فذكر ما تقدم.
وهذا الذى ذكر عن المغيرة بن شعبة لا يقتضى أنه حصل له ما أمله، فإنه قد يكون على رضى الله عنه لم يمكنه من النزول في القبر بل أمر غيره فناوله أياه، وعلى ما تقدم يكون الذى أمره بمناولته له قثم بن عباس.
وقد قال الواقدي: حدثنى عبدالرحمن بن أبى الزناد، عن أبيه، عن عبيدالله بن

عبدالله بن عتبة، قال: ألقى المغيرة بن شعبة خاتمه في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال على: إنما ألقيته لتقول: نزلت في قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
فنزل فأعطاه.
أو أمر رجلا فأعطاه.
وقد قال الامام أحمد حدثنا بهز وأبو كامل، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن أبى عمران الجونى، عن أبى عسيب أو أبى عسيم قال بهز: إنه شهد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: كيف نصلى، قال: ادخلوا أرسالا أرسالا، فكانوا يدخلون من هذا الباب فيصلون عليه ثم يخرجون من الباب الآخر.
قال: فلما وضع في لحده قال المغيرة: قد بقى من رجليه شئ لم تصلحوه.
قالوا: فادخل فأصلحه.
فدخل وأدخل يده فمس قدميه عليه السلام.
فقال: أهيلوا على التراب.
فأهالوا عليه حتى بلغ إلى أنصاف ساقيه، ثم خرج فكان يقول: أنا أحدثكم عهدا برسول الله صلى الله عليه وسلم ! متى وقع دفنه عليه الصلاة والسلام وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثتني فاطمة بنت محمد امرأة عبدالله بن أبى بكر وأدخلني عليها حتى سمعته (1) منها، عن عمرة، عن عائشة، أنها قالت: ما علمنا بدفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحى في جوف ليلة الاربعاء.
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبى سبرة، عن الحليس بن هشام، عن عبدالله بن وهب، عن أم سلمة، قالت: بينا نحن مجتمعون نبكى لم ننم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيوتنا
ونحن نتسلى برؤيته على السرير، إذ سمعنا صوت الكرازين (2) في السحر.
قالت أم سلمة: فصحنا وصاح أهل المسجد، فارتجت المدينة صيحة واحدة، وأذن بلال بالفجر، فلما ذكر
__________
(1) ا: تسمعه.
(2) الكرازين: جمع كرزن وهو الفأس الكبيرة.
(*)

النبي صلى الله عليه وسلم بكى وانتحب، فزادنا حزنا وعالج الناس الدخول إلى قبره فغلق دونهم، فيالها من مصيبة ما أصبنا بعدها بمصيبة إلا هانت إذا ذكرنا مصيبتنا به صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الامام أحمد من حديث محمد بن إسحاق، عن عبدالرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى يوم الاثنين ودفن ليلة الاربعاء.
وقد تقدم مثله في غير ما حديث.
وهو الذى نص عليه غير واحد من الائمة سلفا وخلفا ; منهم سليمان بن طرخان التيمى، وجعفر بن محمد الصادق، وابن إسحاق، وموسى ابن عقبة وغيرهم.
وقد روى يعقوب بن سفيان، عن عبدالحميد، عن بكار، عن محمد بن شعيب، عن الاوزاعي أنه قال: توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين قبل أن ينتصف النهار، ودفن يوم الثلاثاء.
وهكذا روى الامام أحمد عن عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات في الضحى يوم الاثنين ودفن من الغد في الضحى.
* * * وقال يعقوب: حدثنا سفيان، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا سفيان، عن جعفر ابن محمد، عن أبيه و [ عن ] (1) ابن جريج، عن أبى جعفر، أن رسول الله توفى يوم
الاثنين، فلبث ذلك اليوم وتلك الليلة ويوم الثلاثاء إلى آخر النهار.
فهو قول غريب، والمشهور عن الجمهور ما أسلفناه من أنه عليه السلام توفى يوم الاثنين، ودفن ليلة الاربعاء.
__________
(1) ليست في ا.
(*)

ومن الاقوال الغريبة في هذا أيضا ما رواه يعقوب بن سفيان عن عبدالحميد بن بكار، عن محمد بن شعيب، عن أبى النعمان، عن مكحول، قال: ولد رسول الله يوم الاثنين، وأوحى إليه يوم الاثنين، وهاجر يوم الاثنين، وتوفى يوم الاثنين لثنتين وستين سنة ونصف، ومكث ثلاثة أيام لا يدفن، يدخل عليه الناس أرسالا أرسالا يصلون لا يصفون ولا يؤمهم عليه أحد.
فقوله: إنه مكث ثلاثة أيام لا يدفن.
غريب، والصحيح أنه مكث بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء بكماله، ودفن ليلة الاربعاء كما قدمنا.
والله أعلم.
وضده ما رواه سيف، عن هشام، عن أبيه، قال: توفى رسول الله يوم الاثنين.
[ وغسل يوم الاثنين ] (1) ودفن ليلة الثلاثاء.
قال سيف: وحدثنا يحيى بن سعيد مرة بجميعه عن عائشة به.
وهذا غريب جدا.
وقال الواقدي: حدثنا عبدالله بن جعفر، عن ابن أبى عون، عن أبى عتيق، عن جابر بن عبدالله، قال: رش على قبر النبي صلى الله عليه وسلم الماء رشا، وكان الذى رشه بلال بن رباح بقربة، بدأ من قبل رأسه من شقه الايمن حتى انتهى إلى رجليه، ثم ضرب بالماء إلى الجدار لم يقدر على أن يدور من الجدار.
وقال سعيد بن منصور، عن الدراوردى عن يزيد بن عبدالله بن أبى يمن، عن أم سلمة، قالت: توفى رسول الله يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء.
وقال ابن خزيمة: حدثنا مسلم بن حماد، عن أبيه، عن عبدالله بن عمر، عن كريب، عن ابن عباس، قال: توفى رسول الله يوم الاثنين، ودفن يوم الثلاثاء.
وقال الواقدي: حدثنى أبى بن عياش بن سهل بن سعد، عن أبيه، قال: توفى رسول الله
__________
(1) سقطت من ا.
(*)

صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، ودفن ليلة الثلاثاء.
وقال أبو بكر بن أبى الدنيا عن محمد بن سعد: توفى رسول الله يوم الاثنين لثنتى عشرة ليلة خلت من ربيع الاول، ودفن يوم الثلاثاء.
وقال عبدالله بن محمد بن أبى الدنيا: حدثنا الحسن بن إسرائيل أبو محمد النهرتيرى (1)، حدثنا عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن أبى خالد، سمعت عبدالله بن أبى أوفى يقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ; فلم يدفن إلا يوم الثلاثاء.
وهكذا قال سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وأبو جعفر الباقر.
فصل في صفة قبره عليه الصلاة والسلام قد علم بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام دفن في حجرة عائشة التى كانت تختص بها شرقي مسجده في الزاوية الغربية القبليه من الحجرة.
ثم دفن بعده فيها أبو بكر ثم عمر رضى الله عنهما.
وقد قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن سفيان التمار، أنه حدثه أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنما (2).
تفرد به البخاري.
وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن أبى فديك، أخبرني عمرو بن عثمان بن هانئ، عن القاسم، قال: دخلت على عائشة وقلت لها: يا أمه اكشفي لى عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
فكشفت لى عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا
لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء النبي صلى الله عليه وسلم.
أبو بكر رضى الله عنه عمر رضى الله عنه
__________
(1) نسبة إلى نهر تيرى، بلد من نواحى الاهواز (2) التسنيم: ضد التسطيح.
(*)

[ تفرد به أبو داود ] (1).
وقد رواه الحاكم والبيهقي من حديث ابن أبى فديك، عن عمرو بن عثمان، عن القاسم، قال فرأيت النبي عليه السلام مقدما، وأبو بكر رأسه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجل النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقى: وهذه الرواية تدل على أن قبورهم مسطحة لان الحصباء لا تثبت إلا على المسطح.
وهذا عجيب من البيهقى رحمه الله، فإنه ليس في الرواية ذكر الحصباء بالكلية، وبتقدير ذلك فيمكن أن يكون مسنما وعليه الحصباء مغروزة بالطين ونحوه.
وقد روى الواقدي عن الدراوردى، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: جعل قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسطحا.
وقال البخاري: حدثنا فروة بن أبى المغراء، حدثنا على بن مسهر، عن هشام، عن عروة، عن أبيه، قال: لما سقط عليهم الحائط في زمان الوليد بن عبدالملك أخذوا في بنائه فبدت لهم قدم ففزعوا فظنوا أنها قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فما وجد واحد يعلم ذلك حتى قال لهم عروة: لا والله ماهى قدم النبي صلى الله عليه وسلم ; ما هي إلا قدم عمر.
وعن هشام، عن أبيه، عن عائشة: أنها أوصت عبدالله بن الزبير: لا تدفني معهم وادفني مع صواحبي بالبقيع، لا أزكى به أبدا.
قلت: كان الوليد بن عبدالملك حين ولى الامارة في سنة ست وثمانين قد شرع
في بناء جامع دمشق وكتب إلى نائبه بالمدينة ابن عمه عمر بن عبد العزيز أن يوسع في مسجد المدينة، فوسعه حتى من ناحية الشرق (2) فدخلت الحجرة النبوية فيه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر بسنده عن زاذان مولى الفرافصة، وهو الذى بنى المسجد النبوى أيام [ ولاية ] عمر بن عبد العزيز على المدينة، فذكر عن سالم بن عبدالله نحو ما ذكره البخاري، وحكى صفة القبور كما رواه أبو داود.
__________
(1) سقط من ا.
(2) ت: من ناحية السوق.
(*)

ذكر ما أصاب المسلمين من المصيبة العظيمة بوفاته عليه الصلاة والسلام قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا ثابت، عن أنس، قال: لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم جعل يتغشاه الكرب.
فقالت فاطمة: واكرب أبتاه.
فقال لها: " ليس على أبيك كرب بعد اليوم ".
فلما مات قالت: وأبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
فلما دفن قالت فاطمة: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب ؟ ! تفرد به البخاري رحمه الله.
وقال الامام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا ثابت البنانى، قال أنس: فلما دفن النبي صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة: يا أنس أطابت أنفسكم أن دفنتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في التراب ورجعتم ؟ وهكذا رواه ابن ماجه مختصرا من حديث حماد بن زيد به.
وعنده قال حماد: فكان ثابت إذا حدث بهذا الحديث بكى حتى تختلف أضلاعه.
وهذا لا يعد نياحة بل هو من باب ذكر فضائله الحق عليه أفضل الصلاة والسلام،
وإنما قلنا هذا لان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن النياحة.
وقد روى الامام أحمد والنسائي من حديث شعبة، سمعت قتادة، سمعت مطرفا يحدث عن حكيم بن قيس بن عاصم، عن أبيه - فيما أوصى به إلى بنيه - أنه قال: ولا تنوحوا على فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه.
وقد رواه إسماعيل بن إسحاق القاضى في النوادر، عن عمرو بن ميمون عن شعبة به.

ثم رواه عن على بن المدينى، عن المغيرة بن سلمة، عن الصعق بن حزن، عن القاسم بن مطيب، عن الحسن البصري، عن قيس بن عاصم به.
قال: لا تنوحوا على فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه، وقد سمعته ينهى عن النياحة.
ثم رواه عن على عن محمد بن الفضل، عن الصعق، عن القاسم، عن يونس بن عبيد، عن الحسن عن عاصم به.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عقبة بن سنان، حدثنا عثمان بن عثمان، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه.
وقال الامام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا ثابت، عن أنس قال: لما كان اليوم الذى قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شئ.
قال: وما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الايدى حتى أنكرنا قلوبنا.
وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعا، عن بشر بن هلال الصواف، عن جعفر بن سليمان الضبعى به.
وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.
قلت.
وإسناده على شرط الصحيحين، ومحفوظ من حديث جعفر بن سليمان، وقد
أخرج له الجماعة، ورواه الناس عنه كذلك.
* * * وقد أغرب الكديمى، وهو محمد بن يونس رحمه الله في روايته له حيث قال: حدثنا أبو الوليد هشام بن عبدالملك الطيالسي، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعى، عن ثابت عن أنس، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أظلمت المدينة حتى لم ينظر بعضنا

إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يراها أو لا يبصرها، وما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.
رواه البيهقى من طريقه كذلك.
وقد رواه من طريق غيره من الحفاظ عن أبى الوليد الطيالسي، كما قدمنا، وهو المحفوظ والله أعلم.
وقد روى الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر من طريق أبى حفص بن شاهين، حدثنا حسين ابن أحمد بن بسطام بالابله، حدثنا محمد بن يزيد الرؤاسى، حدثنا مسلمة ابن علقمة، عن داود بن أبى هند، عن أبى نضرة، عن أبى سعيد الخدرى، قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ، فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شئ.
وقال ابن ماجه: حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا عبد الوهاب ابن عطاء العجلى، عن ابن عون، عن الحسن، عن أبى بن كعب، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما وجهنا واحد، فلما قبض نظرنا هكذا وهكذا.
وقال أيضا: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامى، حدثنا خالي محمد بن إبراهيم بن المطلب بن السائب بن أبى وداعة السهمى، حدثنى موسى بن عبدالله بن أبى أمية المخزومى، حدثنى مصعب بن عبدالله، عن أم سلمة بنت أبى أمية زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أنها
قالت: كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام المصلى يصلى لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلى لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه، فتوفى أبو بكر وكان عمر، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلى لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة، فتوفى عمر وكان عثمان وكانت الفتنة، فتلفت الناس يمينا وشمالا.

وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن ثابت عن أنس ; أن أم أيمن بكت لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها ما يبكيك على النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت: إن قد علمت أن رسول الله سيموت، ولكني إنما أبكى على الوحى الذى رفع عنا.
هكذا رواه مختصرا.
وقد قال البيهقى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن نعيم ومحمد بن النضر الجارودي، قالا: حدثنا الحسن بن على الخولانى (1)، حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس، قال: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم أيمن زائرا وذهبت معه، فقربت إليه شرابا.
فإما كان صائما وإما كان لا يريده فرده، فأقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تضاحكه.
فقال أبو بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها.
فلما انتهينا إليها بكت.
فقالا لها: ما يبكيك ؟ ما عند الله خير لرسوله.
قالت: والله ما أبكى ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكى أن الوحى انقطع من السماء.
فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان.
ورواه مسلم منفردا به عن زهير بن حرب، عن عمرو بن عاصم به.
* * * وقال موسى بن عقبة في قصة وفاة رسول صلى الله عليه وسلم وخطبة أبى بكر فيها: قال: ورجع الناس حين فرغ أبو بكر من الخطبة وأم أيمن قاعدة تبكى، فقيل لها: ما يبكيك ؟ قد أكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم فأدخله جنته، وأراحه من نصب الدنيا.
__________
(1) ا: الحلواني.
(*)

فقالت: إنما أبكى على خبر السماء كان يأتينا غضا جديدا كل يوم وليلة، فقد انقطع ورفع، فعليه أبكى.
فعجب الناس من قولها.
وقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: وحدثت عن أبى أسامة، وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهرى، حدثنا أبو أسامة، حدثنى بريد بن عبدالله عن أبى بردة، عن أبى موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها فجعله لها فرطا وسلفا يشهد لها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حى فأهلكها وهو ينظر إليها فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره ".
تفرد به مسلم إسنادا ومتنا.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا عبدالمجيد بن عبد العزيز بن أبى رواد، عن سفيان، عن عبدالله بن السائب، عن زاذان، عن عبد الله - هو ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتى السلام ".
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، ووفاتى خير لكم تعرض على أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه،
وما رأيت من شر استغفرت الله لكم ".
ثم قال البزار: لا نعرف آخره يروى عن عبدالله إلا من هذا الوجه.
قلت: وأما أوله وهو قوله عليه السلام: " إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتى السلام " فقد رواه النسائي من طرق متعددة، عن سفيان الثوري وعن الاعمش، كلاهما عن عبدالله بن السائب، عن أبيه به.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا حسين بن على الجعفي، عن عبدالرحمن بن يزيد ابن جابر، عن أبى الاشعث الصنعانى، عن أوس بن أوس، قال قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: " من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا على من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة على ".
قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ - يعنى قد بليت - قال: " إن الله قد حرم على الارض أن تأكل أجساد الانبياء عليهم السلام ".
وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن عبدالله وعن الحسن بن على، والنسائي عن إسحاق بن منصور، ثلاثتهم عن حسين بن على به.
ورواه ابن ماجه عن أبى بكر بن أبى شيبة، عن حسين بن على، عن ابن جابر، عن أبى الاشعث، عن شداد بن أوس فذكره.
قال شيخنا أبو الحجاج المزى: وذلك وهم من ابن ماجه، والصحيح أوس بن أوس وهو الثقفى رضى الله عنه.
قلت: وهو عندي في نسخة جيدة مشهورة على الصواب، كما رواه أحمد وأبو داود والنسائي عن أوس ابن أوس.
ثم قال ابن ماجه: حدثنا عمرو بن سواد المصرى، حدثنا عبدالله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبى هلال، عن زيد بن أيمن، عن عبادة بن نسى، عن أبى الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكثروا الصلاة على يوم
الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدا لن يصلى على إلا عرضت على صلاته حتى يفرغ منها ".
قال قلت: وبعد الموت ؟ قال: إن الله حرم على الارض أن تأكل أجساد الانبياء عليهم السلام - نبى الله حى ويرزق (1).
وهذا من أفراد ابن ماجه رحمه الله.
وقد عقد الحافظ ابن عساكر هاهنا بابا في إيراد الاحاديث المروية في زيارة قبره الشريف صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين، وموضع استقصاء ذلك في كتاب الاحكام الكبير إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ابن ماجه حديث 1637: فنبي الله حى يرزق.
(*)

ذكر ما ورد من التعزية به عليه الصلاة والسلام وقال ابن ماجه: حدثنا الوليد بن عمرو بن السكين، حدثنا أبو همام وهو محمد بن الزبرقان الاهوازي، حدثنا موسى بن عبيدة، حدثنا مصعب بن محمد، عن أبى سلمة ابن عبدالرحمن، عن عائشة، قالت: فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بابا بينه وبين الناس - أو كشف سترا - فإذا الناس يصلون وراء أبى بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم رجاء أن يخلفه فيهم بالذى رآهم (1).
فقال: " يا أيها الناس أيما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته بى عن المصيبة التى تصيبه بغيرى، فإن أحدا من أمتى لن يصاب بمصيبة بعدى أشد عليه من مصيبتي ".
تفرد به ابن ماجه.
وقال الحافظ البيهقى: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفقيه، حدثنا شافع بن محمد حدثنا أبو جعفر بن سلامة الطحاوي، حدثنا المزى، حدثنا الشافعي، عن القاسم بن عبدالله ابن عمر بن حفص، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، أن رجالا من قريش دخلوا على أبيه على بن الحسين، فقال: ألا أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: بلى.
فحدثنا
عن أبى القاسم قال: لما ان مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك تكريما لك وتشريفا لك وخاصة لك، أسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك ؟ قال: " أجدني يا جبريل مغموما، وأجدني يا جبريل مكروبا ".
ثم جاءه اليوم الثاني فقال له ذلك فرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما رد أول يوم، ثم جاءه اليوم الثالث فقال له كما قال أول يوم ورد عليه كما رد، وجاء معه ملك يقال له إسماعيل على مائة ألف ملك، كل ملك على مائة ألف ملك، فاستأذن عليه فسأل عنه ثم قال:
__________
(1) ابن ماجه حديث 1259: ورجاء أن يخلفه الله فيهم.
(*)

جبريل: هذا ملك الموت يستأذن عليك ما استأذن على آدمى قبلك، ولا يستأذن على آدمى بعدك.
فقال عليه السلام: إيذن له.
فأذن له.
فدخل فسلم عليه ثم قال: يا محمد إن الله أرسلني إليك فإن أمرتنى أن أقبض روحك قبضت، وإن أمرتنى أن أتركه تركته.
فقال رسول الله: " أو تفعل يا ملك الموت ؟ " قال: نعم، وبذلك أمرت، وأمرت أن أطيعك.
قال: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل فقال له جبريل: يا محمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لملك الموت: " امض لما أمرت به " فقبض روحه.
فلما توفى النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية سمعوا صوتا من ناحية البيت، السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب.
فقال على رضى الله عنه: أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر عليه السلام.
وهذا الحديث مرسل وفى إسناده ضعف بحال القاسم العمرى هذا، فإنه قد ضعفه
غير واحد من الائمة، وتركه بالكلية آخرون.
وقد رواه الربيع عن الشافعي عن القاسم عن جعفر عن أبيه عن جده - فذكر منه قصة التعزية فقط موصولا - وفى الاسناد العمرى المذكور، قد نبهنا على أمره لئلا يغتر به.
على أنه قد رواه الحافظ البيهقى، عن الحاكم، عن أبى جعفر البغدادي، حدثنا عبدالله بن الحارث أو عبدالرحمن بن المرتعد الصغانى، حدثنا أبو الوليد المخزومى، حدثنا أنس بن عياض، عن جعفر بن محمد، عن جابر بن عبدالله، قال: لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ناداهم مناد ] يسمعون الحس ولا يرون الشخص.
فقال: السلام عليكم

أهل البيت ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل فائت، ودركا من كل هالك، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المحروم من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ثم قال البيهقى: هذان الاسنادان وإن كانا ضعيفين فأحدهما يتأكد بالآخر، ويدل على أن له أصلا من حديث جعفر والله أعلم.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن بالويه، حدثنا محمد بن بشر بن مطر، حدثنا كامل بن طلحة، حدثنا عباد بن عبد الصمد، عن أنس بن مالك، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدق به أصحابه فبكوا حوله واجتمعوا، فدخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضا من كل فائت، وخلفا من كل هالك، فإلى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا، ونظره إليكم في البلايا فانظروا، فإن المصاب من لم يجبر، فانصرف.
فقال بعضهم لبعض: تعرفون الرجل ؟ فقال أبو بكر وعلى: نعم هذا أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضر.
ثم قال البيهقى: عباد بن عبد الصمد ضعيف.
وهذا منكر بمرة.
وقد روى الحارث بن أبى أسامة عن محمد بن سعد، أنبأنا هاشم بن القاسم، حدثنا صالح المزى، عن أبى حازم المدنى، أن رسول الله حين قبضه الله عزوجل دخل المهاجرون فوجا فوجا يصلون عليه ويخرجون، ثم دخلت الانصار على مثل ذلك، ثم دخل أهل المدينة حتى إذا فرغت الرجال دخلت النساء، فكان منهن صوت وجزع كبعض ما يكون منهن، فسمعن هدة في البيت فعرفن فسكتن، فإذا قائل يقول: إن في الله عزاء

من كل هالك، وعوضا من كل مصيبة، وخلفا من كل فائت، والمجبور من جبره الثواب والمصاب من لم يجبره الثواب.
فصل فيما روى من معرفة أهل الكتاب بيوم وفاته عليه السلام قال أبو بكر بن أبى شيبة: حدثنا عبدالله بن إدريس، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس بن أبى حازم، عن جرير بن عبدالله البجلى، قال: كنت باليمن فلقيت رجلين من أهل اليمن ذا كلاع وذا عمرو، فجعلت أحدثهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقالا لى: إن كان ما تقول حقا فقد مضى صاحبك على أجله منذ ثلاث.
قال: فأقبلت وأقبلا، حتى إذا كنا في بعض الطريق رفع لنا ركب من المدينة، فسألناهم فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر والناس صالحون.
قال: فقالا لى: أخبر صاحبك أنا قد جئنا، ولعلنا سنعود إن شاء الله عزوجل.
قال: ورجعا إلى اليمن، فلما أتيت أخبرت أبا بكر بحديثهم قال: أفلا جئت بهم ؟ فلما كان بعد قال لى ذو عمرو: يا جرير إن لك على كرامة وإنى مخبرك خبرا، إنكم معشر العرب لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، أما إذا كانت بالسيف.
كنتم ملوكا تغضبون غضب الملوك وترضون رضا الملوك.
هكذا رواه الامام أحمد والبخاري عن أبى بكر بن أبى شيبة، وهكذا رواه البيهقى عن الحاكم عن عبدالله بن جعفر، عن يعقوب بن سفيان عنه.
وقال البيهقى: أنبأنا الحاكم، أنبأنا على بن المتوكل، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، حدثنا زائدة، عن زياد بن علاقة، عن جرير، قال: لقيني حبر باليمن وقال لى: إن كان صاحبكم نبيا فقد مات يوم الاثنين.

هكذا رواه البيهقى.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا زائدة ; حدثنا زياد بن علاقة، عن جرير، قال: قال لى حبر باليمن: إن كان صاحبكم نبيا فقد مات اليوم.
قال جرير: فمات يوم الاثنين.
وقال البيهقى: أنبأنا أبو الحسين بن بشران المعدل ببغداد، أنبأنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا محمد بن الهيثم، حدثنا سعيد بن كثير بن عفير، حدثنى عبدالحميد بن كعب بن علقمة بن كعب بن عدى التنوخى، عن عمرو بن الحارث، عن ناعم بن أجبل، عن كعب بن عدى، قال: أقبلت في وفد من أهل الحيرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فعرض علينا الاسلام، فأسلمنا ثم انصرفنا إلى الحيرة.
فلم نلبث أن جاءتنا وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فارتاب أصحابي وقالوا: لو كان نبيا لم يمت.
فقلت: قد مات الانبياء قبله، وثبت على إسلامى، ثم خرجت أريد المدينة فمررت براهب كنا لا نقطع أمرا دونه، فقلت له: أخبرني عن أمر أردته نفخ في صدري منه شئ، فقال: إئت باسم من الاسماء.
فأتيته بكعب فقال: ألقه في هذا السفر، لسفر أخرجه، فألقيت الكعب فيه فصفح فيه فإذا بصفة النبي صلى الله عليه وسلم كما رأيته، وإذا هو يموت في الحين الذى مات فيه.
قال: فاشتدت بصيرتي في إيمانى، وقدمت على أبى بكر رضى الله عنه فأعلمته وأقمت
عنده، فوجهني إلى المقوقس فرجعت، ووجهني أيضا عمر بن الخطاب فقدمت عليه بكتابه، فأتيته، وكانت وقعة اليرموك ولم أعلم بها فقال لى: أعلمت أن الروم قتلت العرب وهزمتهم ؟ فقلت كلا قال: ولم ؟ قلت إن الله وعد نبيه أن يظهره على الدين كله، وليس بمخلف الميعاد.

قال: فإن نبيكم قد صدقكم، قتلت الروم والله قتل عاد.
قال: ثم سألني عن وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته وأهدى إلى عمر وإليهم.
وكان ممن أهدى إليه على وعبد الرحمن والزبير - وأحسبه ذكر العباس - قال كعب: وكنت شريكا لعمر في البز في الجاهلية، فلما أن فرض الديوان فرض لى في بنى عدى بن كعب.
وهذا أثر غريب وفيه نبأ عجيب وهو صحيح.
فصل قال محمد بن إسحاق: ولما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم، حتى جمعهم الله على أبى بكر رضى الله عنه.
قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بالرجوع عن الاسلام وأرادوا ذلك، حتى خافهم عتاب بن أسيد رضى الله عنه فتوارى، فقام سهيل بن عمرو رضى الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن ذلك لم يزد الاسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه.
فتراجع الناس وكفوا عما هموا به، فظهر عتاب بن أسيد.
فهذا المقام الذى أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لعمر الخطاب - يعنى

حين أشار بقلع ثنيته حين وقع في الاسارى يوم بدر -: إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمنه ! قلت: وقد ذكرنا (1) ما وقع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الردة في أحياء كثيرة من العرب، وما كان من أمر مسيلمة بن حبيب المتنبئ باليمامة، والاسود العنسى باليمن، وما كان من أمر الناس حتى فاءوا ورجعوا إلى الله تائبين نازعين عما كانوا عليه في حال ردتهم من السفاهة والجهل العظيم الذى استفزهم الشيطان به، حتى نصرهم الله وثبتهم وردهم إلى دينه الحق على يدى الخليفة الصديق أبى بكر رضى الله عنه وأرضاه.
__________
(1) وذلك في أخبار سنة إحدى عشرة من البداية والنهاية للمؤلف (*)

فصل وقد ذكر ابن إسحاق وغيره قصائد لحسان بن ثابت رضى الله عنه في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أجل ذلك وأفصحه وأعظمه، ما رواه عبدالملك بن هشام رحمه الله عن أبى زيد الانصاري، أن حسان بن ثابت رضى الله عنه قال يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم: بطيبة رسم للرسول ومعهد * منير وقد تعفو الرسوم وتهمد (1) ولا تمتحى الآيات من دار حرمة * بها منبر الهادى الذى كان يصعد وواضح آيات (2) وباقى معالم * وربع له فيه مصلى ومسجد بها حجرات كان ينزل وسطها * من الله نور يستضاء ويوقد معارف لم تطمس على العهد آيها * أتاها البلى فالآى منها تجدد عرفت بها رسم الرسول وعهده * وقبرا بها واراه في الترب ملحد
ظللت بها أبكى الرسول فأسعدت * عيون ومثلاها من الجن تسعد يذكرن آلاء الرسول ولا أرى * لها محصيا نفسي فنفسي تبلد مفجعة قد شفها فقد أحمد * فظلت لآلاء الرسول تعدد وما بلغت من كل أمر عشيره * ولكن لنفسي بعد ما قد توجد أطالت وقوفا تذرف العين جهدها * على طلل القبر الذى فيه أحمد فبوركت يا قبر الرسول وبوركت * بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
__________
(1) الاصل: تمهد.
وما أثبته عن ابن هشام 2 / 666 (2) ابن هشام: آثار (*)

وبورك لحد منك ضمن طيبا * عليه بناء من صفيح منضد (1) تهيل عليه الترب أيد وأعين * عليه - وقد غارت بذلك أسعد لقد غيبوا حلما وعلما ورحمة * عشية علوه الثرى لا يوسد وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم * وقد وهنت منهم ظهور وأعضد ويبكون من تبكى السموات يومه * ومن قد بكته الارض فالناس أكمد وهل عدلت يوما رزية هالك * رزية يوم مات فيه محمد تقطع فيه منزل الوحى عنهم * وقد كان ذا نور يغور وينجد يدل على الرحمن من يقتدى به * وينقذ من هول الخزايا ويرشد إمام لهم يهديهم الحق جاهدا * معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا عفو عن الزلات يقبل عذرهم * وإن يحسنوا فالله بالخير أجود وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله * فمن عنده تيسير ما يتشدد فبينا هم في نعمة الله وسطهم * دليل به نهج الطريقة يقصد عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى * حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
عطوف عليهم لا يثنى جناحه * إلى كنف يحنو عليه ويمهد فبيناهم في ذلك النور إذ غدا * إلى نورهم سهم من الموت مقصد فأصبح محمودا إلى الله راجعا * يبكيه حق المرسلات ويحمد (2) وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها * لغيبة ما كانت من الوحى تعهد قفارا سوى معمورة اللحد ضافها * فقيد يبكيه بلاط وغرقد (3) ومسجده فالموحشات لفقده * خلاء له فيها (4) مقام ومقعد
__________
(1) من ت وابن هشام (2) المرسلات: الملائكة.
وفى ج: جفن المرسلات.
ويروى جن، أي الملائكة المستورون (3) البلاط: الارض المستوية الملساء.
والغرقد: شجر.
(4) ابن هشام فيه.
(*)

وبالجمرة الكبرى له ثم أوحشت * ديار وعرصات وربع ومولد فبكى رسول الله يا عين عبرة * ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد ومالك لا تبكين ذا النعمة التى * على الناس منها سابغ يتغمد فجودي عليه بالدموع وأعولى * لفقد الذى لا مثله الدهر يوجد وما فقد الماضون مثل محمد * ولا مثله حتى القيامة يفقد أعف وأوفى ذمة بعد ذمة * وأقرب منه نائلا لا ينكد وأبذل منه للطريف وتالد * إذا ضن معطاء بما كان يتلد وأكرم حيا (1) في البيوت إذا انتمى * وأكرم جدا أبطحيا يسود وأمنع ذروات وأثبت في العلا * دعائم عز شاهقات تشيد وأثبت فرعا في الفروع ومنبتا * وعودا غذاه المزن فالعود أغيد رباه وليدا فاستم تمامه * على أكرم الخيرات رب ممجد تناهت وصاة المسلمين بكفه * فلا العلم محبوس ولا الرأى يفند
أقول ولا يلفى لما قلت (2) عائب * من الناس إلا عازب العقل مبعد وليس هوائي نازعا عن ثنائه * لعلى به في جنة الخلد أخلد مع المصطفى أرجو بذاك جواره * وفى نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد وقال الحافظ أبو القاسم السهيلي في آخر كتابه الروض: وقال أبو سفيان بن الحارث ابن عبدالمطلب يبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرقت فبات ليلى لا يزول * وليل أخى المصيبة فيه طول وأسعدنى البكاء وذاك فيما * أصيب المسلمون به قليل لقد عظمت مصيبتنا وجلت * عشية قيل قد قبض الرسول
__________
(1) ا: صيتا.
(2) ابن هشام: لقولي.
(*)

وأضحت أرضنا مما عراها * تكاد بنا جوانبها تميل فقدنا الوحى والتنزيل فينا * يروح به ويغدو جبرئيل وذاك أحق ما سالت عليه * نفوس الناس أو كادت (1) تسيل نبى كان يجلو الشك عنا * بما يوحى إليه وما يقول ويهدينا فلا نخشى ضلالا * علينا والرسول لنا دليل أفاطم إن جزعت فذاك عذر * وإن لم تجزعي ذاك السبيل فقبر أبيك سيد كل قبر * وفيه سيد الناس الرسول
__________
(1) الروض الانف: كربت.
(*)

باب بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شاة ولا بعيرا ولا شيئا يورث عنه
بل أرضا جعلها كلها صدقة لله عزوجل فإن الدنيا بحذافيرها كانت أحقر عنده - كما هي عند الله - من أن يسعى لها أو يتركها بعده ميراثا صلوات الله وسلامه عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين.
قال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا أبو الأحوص، عن أبى إسحاق، عن عمرو ابن الحارث، قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة، إلا بغلته البيضاء التى كان يركبها، وسلاحه، وأرضا جعلها لابن السبيل صدقة.
انفرد به البخاري دون مسلم، فرواه في أماكن من صحيحه من طرق متعددة، عن أبى الاحوص وسفيان الثوري وزهير بن معاوية.
ورواه الترمذي من حديث إسرائيل، والنسائي أيضا من حديث يونس بن أبى إسحاق، كلهم عن أبى إسحاق عمرو بن عبدالله السبيعى، عن عمرو بن الحارث بن المصطلق بن أبى ضرار، أخى جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضى الله عنهما به.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الاعمش وابن نمير، عن الاعمش، عن شقيق، عن مسروق، عن عائشة، قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشئ.
وهكذا رواه مسلم منفردا به عن البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق

متعددة عن سليمان بن مهران الاعمش، عن شقيق بن سلمة أبى وائل، عن مسروق بن الاجدع، عن أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سموات رضى الله عنها وأرضاها.
وقال الامام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، عن سفيان، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عائشة، قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا
أمة ولا عبدا ولا شاة ولا بعيرا.
وحدثنا عبدالرحمن عن سفيان، عن عاصم عن زر عن عائشة: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا.
قال سفيان: وأكثر علمي وأشك في العبد والامة.
وهكذا رواه الترمذي في الشمائل عن بندار، عن عبدالرحمن بن مهدى به.
قال الامام أحمد: وحدثنا وكيع، حدثنا مسعر، عن عاصم بن أبى النجود، عن زر عن عائشة، قالت: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة لا شاة ولا بعيرا.
هكذا رواه الامام أحمد من غير شك.
وقد رواه البيهقى، عن أبى زكريا بن أبى إسحاق المزكى، عن أبى عبدالله محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبأنا جعفر بن عون، أنبأنا مسعر، عن عاصم عن زر، قال: قالت عائشة: تسألونى عن ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا وليدة.
قال مسعر: أراه قال: ولا شاة ولا بعيرا.

قال: وأنبأنا مسعر، عن عدى بن ثابت، عن على بن الحسين، قال: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا وليدة.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث الاعمش، عن إبرهيم، عن الاسود، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى طعاما من يهودى إلى أجل، ورهنه درعا من حديد.
وفى لفظ للبخاري رواه عن قبيصة، عن الثوري، عن الاعمش، عن إبراهيم عن الاسود، عن عائشة رضى الله عنها.
قالت: توفى النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة
عند يهودى بثلاثين (1).
ورواه البيهقى من حديث يزيد بن هارون، عن الثوري، عن الاعمش، عن إبراهيم عن الاسود عنها، قالت: توفى النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة بثلاثين صاعا من شعير.
ثم قال: رواه البخاري، عن محمد بن كثير، عن سفيان.
ثم قال البيهقى: أنبأنا على بن أحمد بن عبدان، أنبأنا أبو بكر محمد بن حمويه العسكري، حدثنا جعفر بن محمد القلانسى، حدثنا آدم، حدثنا شيبان، عن قتادة عن أنس، قال: لقد دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم على خبز شعير وإهالة سنخة (2).
قال أنس: ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " والذى نفس محمد بيده ما أصبح عند آل محمد صاع بر ولا صاع تمر ".
وإن له يومئذ تسع نسوة، ولقد رهن درعا له عند يهودى بالمدينة وأخذ منه طعاما فما وجد ما يفتكها به حتى مات صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) زاد في البخاري: أي صاعا من شعير.
(2) الاهالة: الزيت.
السنخة: المتغيرة الرائحة.
(*)

وقد روى ابن ماجه بعضه من حديث شيبان بن عبدالرحمن النحوي عن قتادة به.
وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا ثابت، حدثنا هلال، عن عكرمة، عن ابن عباس ; أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أحد فقال: " والذى نفسي بيده ما يسرنى أن أحدا لآل محمد ذهبا أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت وعندي منه ديناران إلا أن أرصدهما لدين ".
قال: فمات فما ترك دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا وليدة، فترك درعه رهنا عند يهودى بثلاثين صاعا من شعير.
وقد روى آخره ابن ماجه، عن عبدالله بن معاوية الجمحى، عن ثابت بن يزيد، عن هلال بن خباب العبدى الكوفى به.
ولاوله شاهد في الصحيح من حديث أبى ذر رضى الله عنه.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبد الصمد وأبو سعيد وعفان، قالوا: حدثنا ثابت - هو ابن يزيد - حدثنا هلال - هو ابن خباب - عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه عمر وهو على حصير قد أثر في جنبه.
فقال: يا نبى الله لو اتخذت فراشا أوثر من هذا ؟ فقال: " مالى وللدنيا، ما مثلى ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها ".
تفرد به أحمد وإسناده جيد.
وله شاهد من حديث ابن عباس عن عمر في المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله

صلى الله عليه وسلم ; وقصة الايلاء.
وسيأتى الحديث مع غيره (1) مما شاكله في بيان زهده عليه السلام وتركه الدنيا، وإعراضه عنها، واطراحه لها، وهو مما يدل على ما قلناه من أنه عليه السلام لم تكن الدنيا عنده ببال.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، حدثنا عبد العزيز بن رفيع، قال: دخلت أنا وشداد بن معقل على ابن عباس فقال ابن عباس: ما ترك رسول الله صلى الله.
عليه وسلم إلا ما بين هذين اللوحين.
قال: ودخلنا على محمد بن على فقال مثل ذلك.
وهكذا رواه البخاري، عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة به.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا مالك بن مغول، عن طلحة، قال سألت عبدالله بن أبى أوفى: أأوصى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: لا.
فقلت: كيف كتب على الناس الوصية، أو أمروا (2) بها ؟ قال: أوصى بكتاب الله عزوجل.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم وأهل السنن إلا أبا داود من طرق عن مالك ابن مغول به.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك ابن مغول.
تنبيه قد ورد أحاديث كثيرة سنوردها قريبا بعد هذا الفصل في ذكر أشياء كان يختص بها صلوات الله وسلامه عليه في حياته من دور ومساكن نسائه وإماء وعبيد
__________
(1) وذلك في قسم الشمائل من متعلقات السيرة النبوية: الذى سننشره مفردا.
(2) البخاري: أو أمروا بالوصية.
(*)

وخيول وإبل وغنم وسلاح وبغلة وحمار وثياب وأثاث وخاتم وغير ذلك مما سنوضحه بطرقه ودلائله.
فلعله عليه السلام تصدق بكثير منها في حياته منجزا، وأعتق من أعتق من إمائه وعبيده، وأرصد ما أرصده من أمتعته، مع ما خصه الله به من الارضين من بنى النضير وخيبر وفدك في مصالح المسلمين على ما سنبينه إن شاء الله، إلا أنه لم يخلف من ذلك شيئا يورث عنه قطعا، لما سنذكره قريبا.
وبالله المستعان.

باب بيان أنه عليه السلام قال: لا نورث قال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن أبى الزناد، عن الاعرج، عن أبى هريرة يبلغ به.
وقال مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقتسم ورثتي دينارا
ولا درهما، ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملي فهو صدقة ".
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود من طرق، عن مالك بن أنس، عن أبى الزناد عبدالله بن ذكوان، عن عبدالرحمن بن هرمز الاعرج، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملي فهو صدقة ".
لفظ البخاري.
ثم قال البخاري: حدثنا عبدالله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أردن أن يبعثن عثمان إلى أبى بكر ليسألنه ميراثهن، فقالت عائشة: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا نورث، ما تركنا صدقة ؟ ".
وهكذا رواه مسلم، عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبى، والنسائي عن قتيبة، كلهم عن مالك به.
فهذه إحدى النساء الوارثات - إن لو قدر ميراث - قد اعترفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ما تركه صدقة لا ميراثا، والظاهر أن بقية أمهات المؤمنين وافقنها على

ما روت، وتذكرن ما قالت لهن من ذلك، فإن عبارتها تؤذن بأن هذا أمر مقرر عندهن.
والله أعلم.
وقال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا عبدالله بن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا صدقة ".
وقال البخاري: باب قول رسول الله: لا نورث ما تركنا صدقة: حدثنا عبدالله ابن محمد، حدثنا هشام، أنبأنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة
والعباس أتيا أبا بكر رضى الله عنه يلتمسان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال ".
قال أبو بكر: والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فيه إلا صنعته.
قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت.
وهكذا رواه الامام أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر.
ثم رواه أحمد عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، أن فاطمة سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله ميراثها مما ترك مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا صدقة " فغضبت فاطمة وهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت.
قال: وعاشت فاطمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، وذكر تمام الحديث.

هكذا قال الامام أحمد.
وقد روى البخاري هذا الحديث في كتاب المغازى من صحيحه عن ابن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة كما تقدم، وزاد: فلما توفيت دفنها على ليلا ولم يؤذن أبا بكر وصلى عليها.
وكان لعلى من الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر على وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبى بكر ومبايعته ولم يكن بايع تلك الاشهر، فأرسل إلى أبى بكر: إيتنا ولا يأتنا معك أحد، وكره أن يأتيه عمر لما علم من شدة عمر.
فقال عمر: والله لا تدخل عليهم وحدك.
قال أبو بكر: وما عسى أن يصنعوا بى ؟ والله لآتينهم.
فانطلق أبو بكر رضى الله عنه [ فتشهد على ] وقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيرا ساقه الله إليك، ولكنكم استبددتم بالامر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لنا في هذا الامر نصيبا، فلم يزل على يذكر حتى بكى أبو بكر رضى الله عنه.
وقال: والذى نفسي بيده لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أصل من قرابتي، وأما الذى شجر بينكم في هذه الاموال فإنى لم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمرا صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صنعته.
فلما صلى أبو بكر رضى الله عنه الظهر رقى على المنبر فتشهد وذكر شأن على وتخلفه عن البيعة وعذره بالذى اعتذر به، وتشهد على رضى الله عنه فعظم حق أبى بكر وذكر فضيلته وسابقته، وحدث أنه لم يحمله على الذى صنع نفاسة على أبى بكر.
ثم قام إلى أبى بكر رضى الله عنهما فبايعه.
فأقبل الناس على على فقالوا: أحسنت.
وكان الناس إلى على قريبا حين راجع الامر المعروف.
وقد رواه البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق متعددة عن الزهري عن عروة عن عائشة بنحوه.
فهذه البيعة التى وقعت من على رضى الله عنه، لابي بكر رضى الله عنه، بعد وفاة

فاطمة رضى الله عنها، بيعة مؤكدة للصلح الذى وقع بينهما وهى ثانية للبيعة التى ذكرناها أولا يوم السقيفة، كما رواه ابن خزيمة وصححه مسلم بن الحجاج، ولم يكن على مجانبا لابي بكر هذه الستة الاشهر، بل كان يصلى وراءه ويحضر عنده للمشورة، وركب معه إلى ذى القصة.
وفى صحيح البخاري أن أبا بكر رضى الله عنه صلى العصر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بليال، ثم خرج من المسجد فوجد الحسن بن على يلعب مع الغلمان، فاحتمله على كاهله وجعل يقول: يا بأبى شبه النبي * ليس شبيها بعلى ؟
وعلى يضحك.
ولكن لما وقعت هذه البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن عليا لم يبايع قبلها فنفى ذلك، والمثبت مقدم على النافي كما تقدم وكما تقرر.
والله أعلم.
* * * وأما تغضب فاطمة رضى الله عنها وأرضاها على أبى بكر رضى الله عنه وأرضاه فما أدرى ما وجهه.
فإن كان لمنعه إياها ما سألته من الميراث فقد اعتذر إليها بعذر يجب قبوله، وهو ما رواه عن أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا نورث ما تركنا صدقة " وهى ممن تنقاد لنص الشارع الذى خفى عليها قبل سؤالها الميراث، كما خفى على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى أخبرتهن عائشة بذلك، ووافقنها عليه.
وليس يظن بفاطمة رضى الله عنها أنها اتهمت الصديق رضى الله عنه فيما أخبرها به، حاشاها وحاشاه من ذلك، كيف وقد وافقه على رواية هذا الحديث عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، والعباس بن عبدالمطلب، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبى وقاص، وأبو هريرة، وعائشة رضى الله عنهم أجمعين.
كما سنبينه قريبا.

ولو تفرد بروايته الصديق رضى الله عنه لوجب على جميع أهل الارض قبول روايته والانقياد له في ذلك.
وإن كان غضبها لاجل ما سألت الصديق، إذا كانت هذه الاراضي صدقة لا ميراثا أن يكون زوجها ينظر فيها، فقد اعتذر بما حاصله: أنه لما كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يرى أن فرضا عليه أن يعمل بما كان يعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلى ما كان يليه رسول الله، ولهذا قال: وإنى والله لا أدع أمرا كان يصنعه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صنعته.
قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت.
وهذا الهجران والحالة هذه فتح على فرقة الرافضة شرا عريضا، وجهلا طويلا، وأدخلوا أنفسهم بسببه فيما لا يعنيهم.
ولو تفهموا الامور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله، وقبلوا منه عذره الذى يجب على كل أحد قبوله.
ولكنهم طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، يتمسكون بالمتشابه، ويتركون الامور المحكمة المقدرة عند أئمه الاسلام، من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الاعصار، والامصار رضى الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
بيان رواية الجماعة لما رواه الصديق وموافقتهم على ذلك قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان، وكان محمد بن جبير بن مطعم ذكر لى ذكرا من حديثه ذلك، فانطلقت حتى دخلت عليه فسألته فقال: انطلقت حتى أدخل على عمر فأتاه حاجبه يرفأ فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد ؟ قال: نعم فأذن لهم.
ثم قال: هل لك في على وعباس ؟ قال نعم: قال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بينى وبين هذا.

قال: أنشدكم بالله الذى بإذنه تقوم السماء والارض: هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نورث ما تركنا صدقة ؟ " يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ قال الرهط: قد قال ذلك.
فأقبل على على وعباس فقال: هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا: قد قال ذلك.
قال عمر بن الخطاب: فإنى أحدثكم عن هذا الامر: إن الله كان قد خص لرسول الله في هذا الفئ بشئ لم يعطه أحدا غيره، قال: " ما أفاء الله على رسوله (1) " إلى قوله " قدير " فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما احتازها دونكم،
ولا استأثر بها عليكم، لقد أعطاكموها وبتها فيكم حتى بقى منها هذا المال، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته، ثم يأخذ ما بقى فيجعله مجعل مال الله، فعمل بذلك رسول الله حياته، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك ؟ قالوا: نعم.
ثم قال لعلى وعباس: أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك ؟ قالا: نعم.
فتوفى الله نبيه، فقال أبو بكر رضى الله عنه: أنا ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم توفى الله أبا بكر فقلت: أنا ولى ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبضتها سنتين أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع، حتى جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا يسألنى نصيب امرأته من أبيها، فقلت: إن شئتما دفعتها إليكما بذلك، فتلتمسان منى قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذى بإذنه تقوم السماء والارض لا أقضى فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما فادفعاها إلى فأنا أكفيكماها (2).
__________
(1) سورة الحشر 7.
(2) البخاري كتاب الفرائض 3 / 227.
(*)

وقد رواه البخاري في أماكن متفرقة من صحيحه، ومسلم وأهل السنن من طرق، عن الزهري به.
وفى رواية في الصحيحين فقال عمر: فوليها أبو بكر فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والله يعلم أنه صادق بار راشد تابع للحق، ثم وليتها فعملت فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، والله يعلم أنى صادق بار راشد تابع للحق.
ثم جئتماني فدفعتها إليكما لتعملا فيها بما عمل رسول الله وأبو بكر وعملت فيها أنا، أنشدكم بالله أدفعتها إليهما بذلك ؟ قالوا: نعم.
ثم قال لهما.
أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قالا: نعم، قال: أفتلتمسان منى قضاء غير ذلك ؟ لا والذى بإذنه تقوم
السماء والارض.
وقال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن الزهري، عن مالك بن أوس، قال سمعت عمر يقول لعبد الرحمن وطلحة والزبير وسعد: نشدتكم بالله الذى تقوم السماء والارض بأمره أعلمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: " لا نورث ما تركنا صدقة ؟ " قالوا: نعم.
على شرط الصحيحين.
* * * قلت: وكان الذى سألاه بعد تفويض النظر إليهما، والله أعلم، هو أن يقسم بينهما النظر، فيجعل لكل واحد منهما نظر ما كان يستحقه بالارض لو قدر أنه كان وارثا.
وكأنهما قدما: بين أيديهما جماعة من الصحابة منهم عثمان وابن عوف وطلحة والزبير وسعد، وكان قد وقع بينهما خصومة شديدة بسبب إشاعة النظر بينهما، فقالت الصحابة الذين قدموهم بين أيديهما: يا أمير المؤمنين اقض بينهما، أو أرح أحدهما من الآخر.

فكأن عمر رضى الله عنه تحرج من قسمة النظر بينهما بما يشبه قسمة الميراث ولو في الصورة الظاهرة، محافظة على امتثال قوله صلى الله عليه وسلم: " لا نورث ما تركنا صدقة " فامتنع عليهم كلهم وأبى من ذلك أشد الاباء رضى الله عنه وأرضاه.
ثم إن عليا والعباس استمرا على ما كانا عليه ينظران فيها جميعا إلى زمان عثمان بن عفان، فغلبه عليها على وتركها له العباس بإشارة ابنه عبدالله رضى الله عنهما بين يدى عثمان، كما رواه أحمد في مسنده.
فاستمرت في أيدى العلويين.
وقد تقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في مسندي الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، فإنى ولله الحمد جمعت لكل واحد منهما مجلدا ضخما مما رواه عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ورآه من الفقه النافع الصحيح، ورتبته على أبواب الفقه المصطلح عليها اليوم.
وقد روينا أن فاطمة رضى الله عنها احتجت أولا بالقياس وبالعموم في الآية الكريمة، فأجابها الصديق بالنص على الخصوص بالمنع في حق النبي، وأنها سلمت له ما قال.
وهذا هو المظنون بها رضى الله عنها.
فقال الامام أحمد: حدثنا عفان ; حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبى سلمة، أن فاطمة قالت لابي بكر: من يرثك إذا مت ؟ قال: ولدى وأهلي.
قالت: فما لنا لا نرث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن النبي لا يورث " ولكني أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعول وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق.
وقد رواه الترمذي في جامعه عن محمد بن المثنى، عن أبى الوليد الطيالسي، عن محمد ابن عمرو، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، فذكره فوصل الحديث وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.

فأما الحديث الذى قال الامام أحمد: حدثنا عبدالله بن محمد بن أبى شيبة، حدثنا محمد بن فضيل، عن الوليد بن جميع، عن أبى الطفيل، قال: لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت فاطمة إلى أبى بكر: أأنت ورثت رسول الله أم أهله ؟ فقال: لا بل أهله، فقالت: فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو بكر: إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذى [ يقوم (1) ] من بعده " فرأيت أن أرده على المسلمين.
قالت: فأنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهكذا رواه أبو داود عن عثمان بن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل به.
ففى لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة، ولعله روى بمعنى ما فهمه بعض الرواة، وفيهم من فيه تشيع، فليعلم ذلك.
وأحسن ما فيه قولها: أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو الصواب والمظنون بها، واللائق بأمرها وسيادتها وعلمها ودينها، رضى الله عنها.
وكأنها سألته بعد هذا أن يجعل زوجها ناظرا على هذه الصدقة فلم يجبها إلى ذلك لما قدمناه، فتعتبت عليه بسبب ذلك، وهى امرأة من بنات آدم تأسف كما يأسفن، وليست بواجبة العصمة مع وجود نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومخالفة أبى بكر الصديق رضى الله عنها.
وقد روينا عن أبى بكر رضى الله عنه: أنه ترضى فاطمة وتلاينها قبل موتها فرضيت رضى الله عنها.
قال الحافظ أبو بكر البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا عبدان بن عثمان العتكى بنيسابور، أنبأنا أبو جمرة، عن إسماعيل بن
__________
(1) ليست في ا.
(*)

ابن أبى خالد، عن الشعبى، قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها.
فقال على: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك ؟ فقالت أتحب أن آذن له ؟ قال: نعم.
فأذنت له فدخل عليها يترضاها فقال: والله ما تركت الدار والمال والاهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت.
ثم ترضاها حتى رضيت.
وهذا إسناد جيد قوى، والظاهر أن عامر الشعبى سمعه من على، أو ممن سمعه من على.
وقد اعترف علماء أهل البيت بصحة ما حكم به أبو بكر في ذلك:
قال الحافظ البيهقى: أنبأنا محمد بن عبدالله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضى، حدثنا نصر بن على، حدثنا ابن داود، عن فضيل بن مرزوق، قال: قال زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب: أما أنا فلو كنت مكان أبى بكر لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك.
فصل وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل، وتكلفوا ما لا علم لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم.
وحاول بعضهم أن يرد خبر أبى بكر رضى الله عنه فيما ذكرناه بأنه مخالف للقرآن حيث يقول الله تعالى: " وورث سليمان داود (1) " الآية.
وحيث قال تعالى إخبارا عن زكريا أنه قال: " فهب لى من لدنك وليا، يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (2) ".
__________
(1) سورة النمل 16 (2) سورة مريم 5، 6.
(*)

واستدلالهم بهذا باطل من وجوه.
أحدها أن قوله: " وورث سليمان داود " إنما يعنى بذلك في الملك والنبوة، أي جعلناه قائما بعده فيما كان يليه من الملك وتدبير الرعايا، والحكم بين بنى إسرائيل، وجعلناه نبيا كريما كأبيه، وكما جمع لابيه الملك والنبوة كذلك جعل ولده بعده.
وليس المراد بهذا وراثة المال، لان داود كما ذكره كثير من المفسرين كان له أولاد كثيرون يقال مائة، فلم اقتصر على ذلك سليمان من بينهم لو كان المراد وراثة المال ؟ إنما المراد وراثة القيام بعده في النبوة والملك، ولهذا قال: " وورث سليمان داود " وقال: " يأيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين " وما بعدها من الآيات.
وقد أشبعنا الكلام على هذا في كتابنا التفسير بما فيه كفاية ولله الحمد والمنة كثيرا.
وأما قصة زكريا فإنه عليه السلام من الانبياء الكرام، والدنيا كانت عنده أحقر من أن يسأل الله ولدا ليرثه في ماله، كيف وإنما كان نجارا يأكل من كسب يده كما رواه البخاري، ولم يكن ليدخر منها فوق قوته حتى يسأل الله ولدا يرث عنه ماله، أن لو كان له مال، وإنما سأل ولدا صالحا يرثه في النبوة والقيام بمصالح بنى إسرائيل، وحملهم على السداد.
ولهذا قال تعالى: " كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا، قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا، وإنى خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لى من لدنك وليا، يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " القصة بتمامها.
فقال: وليا يرثنى ويرث من آل يعقوب " يعنى النبوة كما قررنا ذلك في التفسير ولله الحمد والمنة.
وقد تقدم في رواية أبى سلمة عن أبى هريرة عن أبى بكر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: " والنبى لا يورث " وهذا اسم جنس يعم كل الانبياء وقد حسنه الترمذي.
وفى الحديث الآخر: " نحن معشر الانبياء لا نورث ".
والوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خص من بين الانبياء، بأحكام لا يشاركونه فيها، كما سنعقد له بابا مفردا في آخر السيرة إن شاء الله، فلو قدر أن غيره من الانبياء يورثون - وليس الامر كذلك - لكان ما رواه من ذكرنا من الصحابة الذين منهم الائمة الاربعة ; أبو بكر وعمر وعثمان وعلى مبينا لتخصيصه بهذا الحكم دون ما سواه.
والثالث: أنه يجب العمل بهذا الحديث والحكم بمقتضاه كما حكم به الخلفاء، واعترف بصحته العلماء، سواء كان من خصائصه أم لا.
فإنه قال: " لا نورث
ما تركناه صدقة.
إذ يحتمل من حيث اللفظ أن يكون قوله عليه السلام: " ما تركناه صدقة " أن يكون خبرا عن حكمه أو حكم سائر الانبياء معه على ما تقدم، وهو الظاهر.
ويحتمل أن يكون إنشاء وصية كأنه يقول: لا نورث لان جميع ما تركناه صدقة، ويكون تخصيصه من حيث جواز جعله ماله كله صدقة.
والاحتمال الاول أظهر، وهو الذى سلكه الجمهور، وقد يقوى المعنى الثاني بما تقدم من حديث مالك وغيره، عن أبى الزناد، عن الاعرج، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقتسم ورثتي دينارا، ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملي فهو صدقة ".
وهذا اللفظ مخرج في الصحيحين، وهو يرد تحريف من قال من الجهلة من طائفة الشيعة في رواية هذا الحديث: ما تركنا صدقة بالنصب، جعل ما نافية، فكيف يصنع بأول

الحديث وهو قوله: لا نورث ؟ وبهذه الرواية: " ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملي فهو صدقة ".
وما شأن هذا إلا كما حكى عن بعض المعتزلة أنه قرأ على شيخ من أهل السنة: " وكلم الله موسى تكليما " بنصب الجلالة، فقال له الشيخ: ويحك كيف تصنع بقوله تعالى: " فلما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه " ! والمقصود أنه يجب العمل بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا نورث ما تركنا صدقة " على كل تقدير احتمله اللفظ والمعنى، فإنه مخصص لعموم آية الميراث، ومخرج له عليه السلام منها، إما وحده أو مع غيره من إخوانه الانبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام.

باب
ذكر زوجاته صلوات الله وسلامه عليه ورضى عنهن وأولاده صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: " يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى في قلبه مرض وقلن قولا معروفا، وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا " (1).
لا خلاف أنه عليه السلام توفى عن تسع وهن: عائشة بنت أبى بكر الصديق التيمية، وحفصة بنت عمر بن الخطاب العدوية، وأم حبيبة رملة بنت أبى سفيان صخر بن حرب ابن أمية الاموية، وزينب بنت جحش الاسدية، وأم سلمة هند بنت أبى أمية المخزومية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وسودة بنت زمعة العامرية، وجويرية بنت الحارث ابن أبى ضرار المصطلقية، وصفية بنت حيى بن أخطب النضرية الاسرائيلية الهارونية، رضى الله عنهن وأرضاهن.
وكانت له سريتان وهما، مارية بنت شمعون القبطية المصرية من كورة أنصناء وهى أم ولده إبراهيم عليه السلام، وريحانة بنت شمعون القرظية، أسملت ثم أعتقها فلحقت بأهلها، ومن الناس من يزعم أنها احتجبت عندهم والله أعلم.
__________
(1) سورة الاحزاب 32 - 34.
(*)

وأما الكلام على ذلك مفصلا ومرتبا من حيث ما وقع أولا فأولا، مجموعا من كلام الائمة رحمهم الله فنقول وبالله المستعان: روى الحافظ الكبير أبو بكر البيهقى، من طريق سعيد بن أبى عروبة، عن قتادة، قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس عشرة امرأة، دخل منهن بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة، ومات عن تسع.
ثم ذكر هولاء التسع اللاتى ذكرناهن رضى الله عنهن.
ورواه سيف بن عمر، عن سعيد، عن قتادة عن أنس، والاول أصح (1).
ورواه سيف بن عمر التميمي عن سعيد عن قتادة عن أنس وابن عباس مثله.
وروى سيف عن سعيد بن عبدالله، عن عبدالله بن أبى مليكة، عن عائشة مثله.
قالت فالمرأتان اللتان لم يدخل بهما فهما ; عمرة بنت يزيد الغفارية والشنباء، فأما عمرة فإنه خلا بها وجردها فرأى بها وضحا فردها وأوجب لها الصداق وحرمت على غيره، وأما الشنباء فلما أدخلت عليه لم تكن يسيرة فتركها ينتظر بها اليسر، فلما مات ابنه إبراهيم على بغتة ذلك قالت: لو كان نبيا لم يمت ابنه.
فطلقها وأوجب لها الصداق وحرمت على غيره.
قالت: فاللاتي اجتمعن عنده ; عائشة وسودة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وزينب بنت جحش وزينب بنت خزيمة وجويرية وصفية وميمونة وأم شريك.
قلت: وفى صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه وهن إحدى عشرة امرأة.
والمشهور أن أم شريك لم يدخل بها كما سيأتي بيانه، ولكن المراد بالاحدى عشرة اللاتى كان يطوف عليهن التسع المذكورات والجاريتان مارية وريحانة.
__________
(1) هامش الاصل: ورواه بحير بن كثير عن قتادة عن أنس والاول أصح.
(*)

ورواه يعقوب بن سفيان الفسوى، عن الحجاج بن أبى منيع، عن جده عبيد الله ابن أبى زياد الرصافي، عن الزهري.
وقد علقه البخاري في صحيحه عن الحجاج هذا.
وأورد له الحافظ ابن عساكر طرفا عنه، أن أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصى، زوجه إياها أبوها
قبل البعثة.
وفى رواية قال الزهري: وكان عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تزوج خديجة إحدى وعشرين سنة، وقيل خمسا وعشرين سنة، زمان بنيت الكعبة.
وقال الواقدي وزاد: ولها خمس وأربعون سنة.
وقال آخرون من أهل العلم: كان عمره عليه السلام يومئذ ثلاثين سنة.
وعن حكيم ابن حزام قال: كان عمر رسول الله يوم تزوج خديجة خمسا وعشرين سنة، وعمرها أربعون سنة.
وعن ابن عباس كان عمرها ثمانيا وعشرين سنة.
رواهما ابن عساكر.
* * * وقال ابن جرير: كان عليه السلام ابن سبع وثلاثين سنة، فولدت له القاسم وبه كان يكنى والطيب والطاهر، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة.
قلت: وهى أم أولاده كلهم سوى إبرهيم، فمن مارية كما سيأتي بيانه.
ثم تكلم على كل بنت من بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تزوجها.
وحاصله: أن زينب تزوجها العاص بن الربيع بن عبدالعزى بن عبد شمس بن عبد مناف وهو ابن أخت خديجة، أمه هالة بنت خويلد، فولدت له ابنا اسمه على، وبنتا اسمها أمامة بنت زينب، وقد تزوجها على بن أبى طالب بعد وفاة فاطمة ومات وهى عنده،

ثم تزجت بعده بالمغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب.
وأما رقية فتزوجها عثمان بن عفان، فولدت له ابنه عبدالله وبه كان يكنى أولا، ثم اكتنى بابنه عمرو، وماتت رقية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر.
ولما قدم زيد ابن حارثة بالبشارة وجدهم قد ساووا التراب عليها، وكان عثمان قد أقام عندها يمرضها، فضرب له رسول اله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأجره، ثم زوجه بأختها أم كلثوم، ولهذا
كان يقال له ذو النورين، فتوفيت عنده أيضا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما فاطمة فتزوجها ابن عمه على بن أبى طالب بن عبدالمطلب، فدخل بها بعد وقعة بدر كما قدمنا، فولدت له حسنا وبه كان يكنى، وحسينا وهو المقتول شهيدا بأرض العراق.
قلت: ويقال ومحسنا.
قال: وزينب وأم كلثوم، وقد تزوج زينب هذه ابن عمها عبدالله بن جعفر فولدت له عليا وعونا وماتت عنده، وأما أم كلثوم فتزوجها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فولدت له زيدا ومات عنها، فتزوجت بعده ببنى عمها جعفر واحدا بعد واحد، تزوجت بعون بن جعفر فمات عنها، فخلف عليها أخوه محمد فمات عنها، فخلف عليها أخوهما عبدالله بن جعفر فماتت عنده.
قال الزهري: وقد كانت خديجة بنت خويلد تزوجت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلين ; الاول منهما عتيق بن عائذ بن مخزوم، فولدت منه جارية (1) وهى أم.
محمد بن صيفي، والثانى أبو هالة التميمي فولدت له هند بن هند (2).
وقد سماه ابن إسحاق فقال: ثم خلف عليها بعد هلاك عائذ أبو هالة النباش بن زرارة
__________
(1) واسمها هند، كما في المواهب 3 / 220.
(2) وهو هند بن أبى هالة الصحابي، راوي حديث صفة النبي صلى الله عليه وسلم.
وله ولد اسمه أيضا هند، شرح المواهب 3 / 220.
(*)

أحد بنى عمرو بن تميم حليف بنى عبد الدار، فولدت له رجلا وامرأة ثم هلك عنها، فخلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فولدت له بناته الاربع ثم بعدهن القاسم والطيب والطاهر، فذهب الغلمة جميعا وهم يرضعون.
قلت: ولم يتزوج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة حياتها امرأة.
كذلك رواه عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري عن عروة، عن عائشة، أنها
قالت ذلك.
وقد قدمنا تزويجها في موضعه وذكرنا شيئا من فضائلها بدلائلها (1).
* * * قال الزهري: ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة بعائشة بنت أبى بكر عبدالله بن أبى قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة، ولم يتزوج بكرا غيرها.
قلت: ولم يولد له منها ولد، وقيل: بل أسقطت منه ولدا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله، ولهذا كانت تكنى بأم عبدالله.
وقيل إنما كانت تكنى بعبدالله ابن اختها أسماء من الزبير بن العوام رضى الله عنهم.
قلت: وقد قيل إنه تزوج سودة قبل عائشة، قاله ابن إسحاق وغيره، كما قدمنا ذكر الخلاف في ذلك.
فالله أعلم.
وقد قدمنا صفة تزويجه عليه السلام بهما قبل الهجرة وتأخر دخوله بعائشة إلى ما بعد الهجرة (2).
قال: وتزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة ابن قيس بن عدى بن حذافة بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى، مات عنها مؤمنا.
__________
(1) تقدم ذكر تزويجها بالرسول في الجزء الاول ص 263 وذكر فضائلها في الجزء الثاني ص 132 (2) سبق ذلك في الجزء الثاني ص 139 (*)

قال: وتزوج أم سلمة هند بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، وكانت قبله تحت ابن عمها أبى سلمة عبدالله بن عبد الاسد بن هلال بن عبدالله بن عمر ابن مخزوم.
قال: وتزوج سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك ابن حسل بن عامر بن لؤى، وكانت قبله تحت السكران بن عمرو أخى سهيل بن عمرو ابن عبد شمس، مات عنها مسلما بعد رجوعه وإياها من أرض الحبشة إلى مكة رضى الله عنهما.
قال: وتزوج أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى، وكانت قبله تحت عبيد الله (1) بن جحش بن رئاب من بنى أسد ابن خزيمة، مات بأرض الحبشة نصرانيا، بعث إليها رسول الله يعنى عمرو بن أمية الضمرى إلى أرض الحبشة، فخطبها عليه فزوجها منه عثمان بن عفان.
كذا قال والصواب عثمان بن أبى العاص وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة.
وقد قدمنا ذلك كله مطولا ولله الحمد.
قال: وتزوج [ زينب ] بنت جحش بن رئاب بن أسد بن خزيمة، وأمها أميمة بنت عبدالمطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت قبله تحت زيد بن حارثة مولاه عليه الصلاة والسلام، وهى أول نسائه لحوقا به، وأول من عمل عليها النعش، صنعته أسماء بنت عميس عليها، كما رأت ذلك بأرض الحبشة.
قال: وتزوج زينب بنت خزيمة، وهى من بنى عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، ويقال لها أم المساكين، وكانت قبله تحت عبدالله بن جحش بن رئاب قتل يوم أحد، فلم تلبث عنده عليه السلام إلا يسيرا حتى توفيت رضى الله عنها.
__________
(1) الاصل: عبدالله.
وما أثبته عن ابن هشام والمواهب.
(*)

وقال يونس عن محمد بن إسحاق: كانت قبله عند الحصين بن الحارث بن عبدالمطلب ابن عبد مناف، أو عند أخيه الطفيل بن الحارث.
قال الزهري: وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة بنت الحارث بن حزن ابن بجير بن الهزم بن رؤبة بن عبدالله بن هلال بن عامر بن صعصعة.
قال: وهى التى
وهبت نفسها.
قلت: الصحيح أنه خطبها، وكان السفير بينهما أبو رافع مولاه كما بسطنا ذلك في عمرة القضاء.
قال الزهري: وقد تزوجت قبله رجلين أولهما ابن عبد ياليل.
وقال سيف بن عمر في روايته: كانت تحت عمير بن عمرو أحد بنى عقدة بن ثقيف ابن عمرو الثقفى مات عنها، ثم خلف عليها أبورهم بن عبدالعزى بن أبى قيس بن عبد ود ابن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤى.
قال: وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار بن الحارث بن عامر بن مالك بن المصطلق من خزاعة يوم المريسيع، فأعتقها وتزوجها.
ويقال بل قدم أبوها الحارث، وكان ملك خزاعة، فأسلم ثم تزوجها منه، وكانت قبله عند ابن عمها صفوان بن أبى الشفر.
قال قتادة: عن سعيد بن المسيب والشعبى ومحمد بن إسحاق وغيرهم قالوا: وكان هذا البطن من خزاعة حلفاء لابي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا يقول حسان: وحلف الحارث بن أبى ضرار * وحلف قريظة فيكم سواء وقال سيف بن عمر في روايته عن سعيد بن عبدالله عن ابن أبى مليكة، عن عائشة قالت: وكانت جويرية تحت ابن عمها مالك بن صفوان بن تولب ذى الشفر بن

أبى السرح ابن مالك بن المصطلق.
قال: وسبى صفية بنت حيي بن أخطب من بنى النضير يوم خيبر وهى عروس بكنانة بن أبى الحقيق.
وقد زعم سيف بن عمر في روايته أنها كانت قبل كنانة عند سلام بن مشكم
فالله أعلم.
فقال: فهذه إحدى عشرة امرأة دخل بهن.
قال: وقد قسم عمر بن الخطاب في خلافته لكل امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أثنى عشر ألفا، وأعطى جويرية وصفية ستة آلاف ستة آلاف، بسبب أنهما سبيتا.
قال الزهري: وقد حجبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسم لهما.
قلت: وقد بسطنا الكلام فيما تقدم في تزويجه عليه السلام كل واحدة من هذه النسوة رضى الله عنهن في موضعه.
* * * قال الزهري: وقد تزوج العالية بنت ظبيان بن عمرو، من بنى بكر بن كلاب، ودخل بها وطلقها.
قال البيهقى: كذا في كتابي، وفى رواية غيره: ولم يدخل بها فطلقها.
وقد قال محمد بن سعد عن هشام بن محمد السائب الكلبى: حدثنى رجل من بنى أبى بكر بن كلاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج العالية بنت ظبيان بن عمرو ابن عوف بن كعب بن عبد بن أبى بكر بن كلاب، فمكثت عنده دهرا ثم طلقها.
وقد روى يعقوب بن سفيان، عن حجاج بن أبى منيع، عن جده، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن الضحاك بن سفيان الكلابي هو الذى دل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وأنا أسمع من وراء الحجاب، قال يا رسول الله هل لك في أخت أم شبيب ؟

وأم شبيب امرأة الضحاك.
وبه قال الزهري: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بنى عمرو بن كلاب فأنبئ أن بها بياضا فطلقها ولم يدخل بها.
قلت: الظاهر أن هذه هي التى قبلها والله أعلم.
قال: وتزوج أخت بنى الجون الكندى وهم حلفاء بنى فزارة فاستعاذت منه فقال: " لقد عذت بعظيم، الحقى بأهلك " فطلقها ولم يدخل بها.
قال: وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سرية يقال لها مارية، فولدت له غلاما اسمه ابراهيم، فتوفى وقد ملاء المهد، وكانت له وليدة يقال لها ريحانة بنت شمعون من أهل الكتاب من خنافة، وهم بطن من بنى قريظة، أعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أنها قد احتجبت.
وقد روى الحافظ ابن عساكر بسنده عن على بن مجاهد أن رسول الله تزوج خولة بنت الهذيل بن هبيرة التغلبي، وأمها خرنق بنت خليفة أخت دحية بن خليفة، فحملت إليه من الشام فماتت في الطريق، فتزوج خالتها شراف بنت فضالة بن خليفة فحملت إليه من الشام فماتت في الطريق أيضا.
وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أسماء بنت كعب الجونية فلم يدخل بها حتى طلقها وتزوج عمرة بنت زيد إحدى نساء بنى كلاب ثم من بنى الوحيد، وكانت قبله عند الفضل بن عباس بن عبدالمطلب، فطلقها ولم يدخل بها.
وقال البيهقى: فهاتان هما اللتان ذكرهما الزهري ولم يسمهما، إلا أن ابن إسحاق لم يذكر العالية.
وقال البيهقى: أنبأنا الحاكم، أنبأنا الاصم، أنبأنا أحمد بن عبد الجبار، عن يونس

ابن بكير، عن زكريا بن أبى زائدة، عن الشعبى، قال: وهبن لرسول الله صلى الله عليه وسلم نساء أنفسهن فدخل ببعضهن وأرجى بعضهن، فلم يقربهن حتى توفى، ولم ينكحن بعده، منهن أم شريك فذلك قوله تعالى: " ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء، ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ".
قال البيهقى: وقد روينا عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت خولة - يعنى بنت حكيم - ممن وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال البيهقى: وروينا في حديث أبى رشيد الساعدي في قصة الجونية التى استعاذت فألحقها بأهلها أن اسمها أميمة بنت النعمان بن شراحيل.
كذا قال.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن عبدالله الزبيري ; حدثنا عبدالرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبى أسيد، عن أبيه وعباس بن سهل عن أبيه، قالا: مر بنا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحاب له فخرجنا معه حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشوط حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجلسوا " ودخل هو وقد أتى بالجونية فعزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها داية لها، فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هبى لى نفسك.
قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة ! وقالت: إنى أعوذ بالله منك.
قال: لقد عذت بمعاذ.
ثم خرج علينا فقال: " يا أبا أسيد اكسها دراعتين وألحقها بأهلها ".
وقال غير أبى أحمد: امرأة من بنى الجون يقال لها أمينة.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبدالرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبى أسيد، عن أبى أسيد، قال: خرجنا مع رسول الله حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشوط، حتى انتهينا إلى حائطين جلسنا بينهما، فقال: " اجلسوا هاهنا " فدخل وقد أتى بالجونية فأنزلت في محل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل ومعها دايتها حاضنة لها، فلما دخل عليها

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هبى لى نفسك ".
قالت: وهل تهب الملكة نفسها لسوقة ؟ ! قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك.
قال: " لقد عذت بمعاذ ".
ثم خرج علينا فقال: " يا أبا أسيد اكسها رازقيين (1) وألحقها بأهلها ".
قال البخاري: وقال الحسين بن الوليد، عن عبدالرحمن بن الغسيل، عن عباس ابن سهل بن سعد، عن أبيه وأبى أسيد، قالا: تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنها كرهت ذلك.
فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين.
ثم قال البخاري: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا إبراهيم بن الوزير، حدثنا عبد الرحمن بن حمزة، عن أبيه وعن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه بهذا.
انفرد البخاري بهذه الروايات من بين أصحاب الكتب.
وقال البخاري: حدثنا الحميدى، حدثنا الوليد، حدثنا الاوزاعي، سألت الزهري: أي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم استعاذت منه ؟ فقال: أخبرني عروة عن عائشة أن ابنة الجون لما أدخلت على رسول الله قالت: أعوذ بالله منك، فقال: " لقد عذت بعظيم، الحقى بأهلك ".
قال: ورواه حجاج بن أبى منيع، عن جده عن الزهري أن عروة أخبره أن عائشة قالت.
الحديث.
انفرد به دون مسلم.
قال البيهقى: ورأيت في كتاب المعرفة لابن منده أن اسم التى استعاذت منه أميمة بنت النعمان بن شراحيل.
ويقال فاطمة بنت الضحاك، والصحيح أنها أميمة والله أعلم.
__________
(1) الرازقية: ثياب كتان بيض.
(*)

وزعموا أن الكلابية اسمها عمرة، وهى التى وصفها أبوها بأنها لم تمرض قط، فرغب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى محمد بن سعد عن محمد بن عبدالله عن الزهري، قال: هي فاطمة بنت الضحاك بن سفيان استعاذت منه فطلقها، فكانت تلقط البعر وتقول: أنا الشقية.
قال: وتزوجها في ذى القعدة سنة ثمان، وماتت سنة ستين.
* * * وذكر يونس عن ابن إسحاق فيمن تزوجها عليه السلام ولم يدخل بها أسماء بنت كعب الجونية (1) وعمرة بنت يزيد الكلابية.
وقال ابن عباس وقتادة: أسماء بنت النعمان ابن أبى الجون.
فالله أعلم.
قال ابن عباس: لما استعاذت منه خرج من عندها مغضبا، فقال له الاشعث: لا يسؤك ذلك يا رسول الله فعندي أجمل منها، فزوجه أخته قتيلة.
وقال غيره: كان ذلك في ربيع سنة تسع.
وقال سعيد بن أبى عروبة عن قتادة: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة امرأة، فذكر منهن أم شريك الانصارية النجارية.
قال: وقد قال رسول الله صلى الله وسلم: " إنى لاحب أن أتزوج من الانصار ولكني أكره غيرتهن " ولم يدخل بها.
قال: وتزوج أسماء بنت الصلت من بنى حرام ثم من بنى سليم ولم يدخل بها، وخطب حمزة بنت الحارث المزنية.
وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تزوج رسول الله ثمانى عشرة امرأة، فذكر منهن قتيلة بنت قيس أخت الاشعث بن قيس،
__________
(1) ابن هشام: أسماء بنت النعمان بن الجون الكندية.
(*)

فزعم بعضهم أنه تزوجها قبل وفاته بشهرين، وزعم آخرون أنه تزوجها في مرضه.
قال ولم تكن قدمت عليه ولا رآها ولم يدخل بها.
قال: وزعم آخرون أنه عليه السلام أوصى أن تخير قتيلة فإن شاءت يضرب عليها الحجاب وتحرم على المؤمنين، وإن شاءت فلتنكح من شاءت، فاختارت النكاح
فتزوجها عكرمة بن أبى جهل بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر.
فقال: لقد هممت أن أحرق عليهما.
فقال عمر بن الخطاب: ماهى من أمهات المؤمنين.
ولا دخل بها ولا ضرب عليها الحجاب.
قال أبو عبيدة: وزعم بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوص فيها بشئ، وأنها ارتدت بعده، فاحتج عمر على أبى بكر بارتدادها أنها ليست من أمهات المؤمنين.
وذكر ابن منده أن التى ارتدت هي البرصاء من بنى عوف بن سعد بن ذبيان.
وقد روى الحافظ ابن عساكر من طرق، عن داود بن أبى هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن رسول الله تزوج قتيلة أخت الاشعث بن قيس، فمات قبل أن يخيرها فبرأها الله منه.
وروى حماد بن سلمة عن داود بن أبى هند، عن الشعبى، أن عكرمة بن أبى جهل لما تزوج قتيلة أراد أبو بكر أن يضرب عنقه، فراجعه عمر بن الخطاب فقال: إن رسول الله صلى الله عليه لم يدخل بها وأنها ارتدت مع أخيها، فبرئت من الله ورسوله.
فلم يزل به حتى كف عنه.
قال الحاكم: وزاد أبو عبيدة في العدد فاطمة بنت شريح، وسبأ بنت أسماء بن الصلت السلمية.
هكذا روى ذلك ابن عساكر من طريق ابن منده بسنده عن قتادة فذكره.
وقال محمد بن سعد عن ابن الكلبى مثل ذلك.
قال ابن سعد: وهى سبأ.

قال ابن عساكر: ويقال: سبأ بنت الصلت بن حبيب بن حارثة بن هلال بن حرام ابن سماك بن عوف السلمى.
قال ابن سعد: وأخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبى حدثنى العرزمى، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كان في نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم سبأ بنت سفيان بن
عوف بن كعب بن أبى بكر بن كلاب.
وقال ابن عمر: إن رسول الله بعث أبا أسيد يخطب عليه امرأة من بنى عامر يقال لها عمرة بنت يزيد بن عبيد بن كلاب، فتزوجها فبلغه أن بها بياضا فطلقها.
وقال محمد بن سعد عن الواقدي: حدثنى أبو معشر قال: تزوج رسول الله مليكة بنت كعب، وكانت تذكر بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة فقالت: ألا تستحين أن تنكحي قاتل أبيك ؟ فاستعاذت منه فطلقها.
فجاء قومها فقالوا يا رسول الله إنها صغيرة ولا رأى لها، وإنها خدعت فارتجعها، فأبى.
فاستأذنوه أن يزوجوها بقريب لها من بنى عذرة فأذن لهم.
قال: وكان أبوها قد قتله خالد بن الوليد يوم الفتح.
قال الواقدي: وحدثني عبد العزيز الجندعى، عن أبيه، عن عطاء بن يزيد قال: دخل بها رسول الله في رمضان سنة ثمان، وماتت عنده.
قال الواقدي: وأصحابنا ينكرون ذلك.
* * * وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أنبأنا.
أبو الفتح يوسف بن عبد الواحد الماهانى، أنبأنا شجاع بن على بن شجاع، أنبأنا أبو عبد الله بن منده، أنبأنا الحسن بن محمد بن حكيم المروزى، حدثنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه الفزارى، أنبأنا عبد الله بن عثمان، أنبأنا عبدالله بن المبارك، أنبأنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري،

قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد بن أسد بمكة، وكانت قبله تحت عتيق بن عائذ المخزومى، ثم تزوج بمكة عائشة بنت أبى بكر، ثم تزوج بالمدينة حفصة بنت عمر، وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمى، ثم تزوج سودة بنت زمعة وكانت قبله تحت السكران بن عمرو أخى بنى عامر بن لؤى، ثم تزوج أم حبيبة
بنت أبى سفيان وكانت قبله تحت عبيدالله بن جحش الاسدي أحد بنى خزيمة، ثم تزوج أم سلمة بنت أبى أمية وكان اسمها هند وكانت قبله تحت أبى سلمة عبدالله بن عبد الاسد ابن عبدالعزى، ثم تزوج زينب بنت خزيمة الهلالية، وتزوج العالية بنت ظبيان من بنى بكر بن عمرو بن كلاب، وتزوج امرأة من بنى الجون من كندة، وسبى جويرية - في الغزوة التى هدم فيها مناة غزوة المريسيع - ابنة الحارث بن أبى ضرار من بنى المصطلق من خزاعة، وسبى صفية بنت حيى بن أخطب من بنى النضير، وكانتا مما أفاء الله عليه فقسمهما له، واستسر مارية القبطية فولدت له إبراهيم، واستسر ريحانة من بنى قريظة ثم أعتقها فلحقت بأهلها واحتجبت وهى عند أهلها.
وطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم العالية بنت ظبيان، وفارق أخت بنى عمرو بن كلاب وفارق أخت بنى الجون الكندية من أجل بياض كان بها، وتوفيت زينب بنت خزيمة الهلالية ورسول الله صلى الله عليه وسلم حى، وبلغنا أن العالية بنت ظبيان التى طلقت تزوجت قبل أن يحرم الله النساء، فنكحت ابن عم لها من قومها وولدت فيهم.
سقناه بالسند لغرابة ما فيه من ذكره تزويج سودة بالمدينة، والصحيح أنه كان بمكة قبل الهجرة، كما قدمناه والله أعلم.
قال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق قال: فماتت خديجة بنت خويلد قبل أن يهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين لم يتزوج عليها امرأة حتى ماتت هي وأبو طالب في سنة، فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خديجة سودة بنت

زمعة، ثم تزوج بعد سودة عائشة بنت أبى بكر لم يتزوج بكرا غيرها ولم يصب منها ولدا حتى مات، ثم تزوج بعد عائشة حفصة بنت عمر، ثم تزوج بعد حفصة زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين، ثم تزوج بعدها أم حبيبة بنت أبى سفيان، ثم تزوج بعدها أم سلمة هند بنت أبى أمية، ثم تزوج بعدها زينب بنت جحش، ثم تزوج بعدها جويرية
بنت الحارث بن أبى ضرار.
قال: ثم تزوج بعد جويرية صفية بنت حيى بن أخطب، ثم تزوج بعدها ميمونة بنت الحارث الهلالية.
فهذا الترتيب أحسن وأقرب مما رتبه الزهري.
والله أعلم.
وقال يونس بن بكير عن أبى يحيى، عن حميل بن زيد الطائى، عن سهل بن زيد الانصاري، قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من بنى غفار، فدخل بها فأمرها فنزعت ثوبها، فرأى بها بياضا من برص عند ثدييها، فانماز رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " خذى ثوبك " وأصبح فقال لها: " الحقى بأهلك " فأكمل لها صداقها.
[ (1) وقد رواه أبو نعيم من حديث حميل بن زيد، عن سهل بن زيد الانصاري، وكان ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من غفار فذكر مثله.
قلت: وممن تزوجها صلى الله عليه وسلم ولم يدخل بها أم شريك الازدية.
قال الواقدي: والمثبت أنها دوسية وقيل الانصارية، ويقال عامرية وأنها خولة بنت حكيم السلمى.
وقال الواقدي: اسمها غزية بنت جابر بن حكيم.
قال محمد بن إسحاق: عن حكيم بن حكيم، عن محمد بن على بن الحسين، عن
__________
(1) من هنا إلى نهاية الفصل من ت.
(*)

أبيه، قال: كان جميع ما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشر امرأة، منهن أم شريك الانصارية، وهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم.
وقال سعيد بن أبى عروبة عن قتادة، وتزوج أم شريك الانصارية من بنى النجار.
وقال: " إنى أحب أن أتزوج من الانصار لكنى أكره غيرتهن "
ولم يدخل بها.
وقال ابن إسحاق عن حكيم، عن محمد بن على، عن أبيه، قال: تزوج صلى الله عليه وسلم ليلى بنت الخطيم الانصارية وكانت غيورا فخافت نفسها عليه فاستقالته فأقالها.

فصل فيمن خطبها عليه السلام ولم يعقد عليها قال إسماعيل بن أبى خالد، عن الشعبى، عن أم هائئ فاختة بنت أبى طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبها فذكرت أن لها صبية صغارا، فتركها وقال: " خير نساء ركبن الابل صالح نساء قريش، أحناه على ولد طفل في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده ".
[ وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أم هانئ بنت أبى طالب فقالت: يا رسول الله إنى قد كبرت ولى عيال.
وقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد، حدثنا عبدالله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن السدى، عن أبى صالح، عن أم هانئ بنت أبى طالب، قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم أنزل الله " إنا أحللنا لك أزواجك اللاتى آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتى هاجرن معك " الآية.
قالت: فلم أكن أحل له لانى لم أهاجر، كنت من الطلقاء.
ثم قال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث السدى.
فهذا يقتضى أن من لم تكن من المهاجرات لا تحل له صلى الله عليه وسلم.
وقد نقل هذا المذهب مطلقا القاضى الماوردى في تفسيره عن بعض العلماء.
وقيل: المراد بقوله " اللاتى
هاجرن معك " أي من القرابات المذكورات.
وقال قتادة: " اللاتى هاجرن معك " أي أسلمن معك، فعلى هذا لا يحرم عليه

إلا الكفار، وحل له جميع المسلمات، فلا ينافى تزويجه من نساء الانصار إن ثبت ذلك ولكن لم يدخل بواحدة منهن أصلا.
وأما حكاية الماوردى عن الشعبى، أن زينب بنت خزيمة أم المساكين أنصارية، فليس بجيد.
فإنها هلالية بلا خلاف كما تقدم بيانه والله أعلم ] (1).
وروى محمد بن سعد، عن هشام بن الكلبى، عن أبيه، عن أبى صالح، عن ابن عباس، قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى رسول الله وهو مول ظهره إلى الشمس، فضربت منكبه فقال: " من هذا ؟ أكله الاسود ! " فقالت: أنا بنت مطعم الطير، ومبارى الريح، أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لاعرض عليك نفسي تزوجني ؟ قال: " قد فعلت " فرجعت إلى قومها فقالت: قد تزوجت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: بئس ما صنعت، أنت امرأة غيرى ورسول الله صاحب نساء تغارين عليه، فيدعو الله عليك، فاستقيليه.
فرجعت فقالت: أقلنى يا رسول الله.
فأقالها، فتزوجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر فولدت له، فبينما هي يوما تغتسل في بعض حيطان المدينة إذ وثب عليها ذئب أسود فأكل بعضها، فماتت.
وبه عن ابن عباس أن ضباعة بنت عامر بن قرط كانت تحت عبدالله بن جدعان فطلقها، فتزوجها بعده هشام بن المغيرة فولدت له سلمة، وكانت امرأة ضخمة جميلة لها شعر غزير يجلل جسهما، فخطبها رسول الله من ابنها سلمة، فقال: حتى أستأمرها ؟ فاستأذنها فقالت: يا بنى أفى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذن ؟ فرجع ابنها فسكت ولم يرد جوابا، وكأنه رأى أنها قد طعنت في السن، وسكت النبي صلى الله عليه
وسلم عنها.
وبه عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت بشامة بن
__________
(1) سقط من ا.
(*)

نضلة العنبري: وكان أصابها سبى، فخيرها رسول الله فقال: " إن شئت أنا وإن شئت زوجك " فقالت: بل زوجي.
فأرسلها، فلعنتها بنو تميم.
وقال محمد بن سعد: أنبأنا الواقدي، حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم التيمى، عن أبيه، قال: كانت أم شريك امرأة من بنى عامر بن لؤى قد وهبت نفسها من رسول الله، فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت.
قال محمد بن سعد: وأنبأنا وكيع، عن شريك، عن جابر، عن الحكم، عن على ابن الحسين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم شريك الدوسية.
قال الواقدي: الثبت عندنا أنها من دوس من الازد.
قال محمد بن سعد: واسمها غزية بنت جابر بن حكيم.
وقال الليث بن سعد: عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال متحدث أن أم شريك كانت وهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم، وكانت امرأة صالحة.
وممن خطبها ولم يعقد عليها حمرة (1) بنت الحارث بن عون بن أبى حارثة المرى فقال أبوها: إن بها - سوءا ولم يكن بها - فرجع إليها وقد تبرصت، وهى أم شبيب بن البرصاء الشاعر.
هكذا ذكره سعيد بن أبى عروبة عن قتادة.
قال: وخطب حبيبة بنت العباس بن عبدالمطلب فوجد أباها أخاه من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة مولاة أبى لهب.
فهؤلاء نساؤه وهن ثلاثة أصناف ; صنف دخل بهن ومات عنهن، وهن التسع
المبتدأ بذكرهن.
وهن حرام على الناس بعد موته عليه السلام بالاجماع المحقق المعلوم من الدين
__________
(1) كذا، وفى القاموس: والبرصاء لقب أم شبيب الشاعر، واسمها أمامة أو قرصافة.
(*)

ضرورة، وعدتهن بانقضاء أعمارهن.
قال الله تعالى: " وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما (1) ".
وصنف دخل بهن وطلقهن في حياته، فهل يحل لاحد أن يتزوجهن بعد انقضاء عدتهن منه عليه السلام ؟ فيه قولان للعلماء، أحدهما: لا لعموم الآية التى ذكرناها.
والثانى: نعم بدليل آية التخيير وهى قوله: " يا أيها النبي قل لازواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما ".
قالوا: فلولا أنها تحل لغيره أن يتزوجها بعد فراقه إياها لم يكن في تخييرها بين الدنيا والآخرة فائدة، إذ لو كان فراقه لها لا يبيحها لغيره لم يكن فيه فائدة لها.
وهذا قوى والله تعالى أعلم.
وأما الصنف الثالث وهى من تزوجها وطلقها قبل أن يدخل بها، فهذه يحل لغيره أن يتزوجها، ولا أعلم في هذا القسم نزاعا.
وأما من خطبها ولم يعقد عقده عليها فأولى لها أن تتزوج وأولى.
وسيجئ فصل في كتاب الخصائص يتعلق بهذا المقام والله أعلم.
__________
(1) سورة الاحزاب 53.
(*)

فصل في ذكر سراريه عليه السلام
كانت له عليه السلام سريتان ; إحداهما مارية بنت شمعون القبطية، أهداها له صاحب إسكندرية واسمه جريج بن مينا، وأهدى معها أختها شيرين.
وذكر أبو نعيم أنه أهداها في أربع جوار والله أعلم.
وغلاما خصيا اسمه مابور، وبغلة يقال لها الدلدل، فقبل هديته واختار لنفسه مارية، وكانت من قرية ببلاد مصر يقال لها حفن من كورة أنصنا، وقد وضع عن أهل هذه البلدة معاوية بن أبى سفيان في أيام إمارته الخراج إكراما لها من أجل أنها حملت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بولد ذكر وهو إبراهيم عليه السلام.
قالوا: وكانت مارية جميلة بيضاء، أعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبها وحظيت عنده، ولا سيما بعد ما وضعت إبراهيم ولده.
وأما أختها شيرين فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبدالرحمن بن حسان.
وأما الغلام الخصى وهو مابور، فقد كان يدخل على مارية وشيرين بلا إذن، كما جرت به عادته بمصر، فتكلم بعض الناس فيها بسبب ذلك ولم يشعروا أنه خصى حتى انكشف الحال، على ما سنبينه قريبا إن شاء الله.
وأما البغلة فكان عليه السلام يركبها، والظاهر والله أعلم أنها التى كان راكبها يوم حنين.
وقد تأخرت هذه البغلة وطالت مدتها حتى كانت عند على بن أبى طالب في أيام إمارته، ومات فصارت إلى عبدالله بن جعفر بن أبى طالب، وكبرت حتى كان يجش (1) لها الشعير لتأكله.
__________
(1) يجش: يطحن.
(*)

قال أبو بكر بن خزيمة: حدثنا محمد بن زياد بن عبيد الله، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن بشير بن المهاجر عن عبدالله بن بريدة بن الحصيب، عن أبيه، قال: أهدى
أمير القبط إلى رسول الله جاريتين أختين وبغلة فكان يركب البغلة بالمدينة، واتخذ إحدى الجاريتين فولدت له إبراهيم ابنه، ووهب الاخرى.
وقال الواقدي: حدثنا يعقوب بن محمد بن أبى صعصعة، عن عبدالله بن عبدالرحمن ابن أبى صعصعة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجب بمارية القبطية وكانت بيضاء جعدة (1) جميلة، فأنزلها وأختها على أم سليم بنت ملحان، فدخل عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمتا هناك، فوطئ مارية بالملك، وحولها إلى مال له بالعالية كان من أموال بنى النضير، فكانت فيه في الصيف، وفى خرافة النخل (2).
فكان يأتيها هناك، وكانت حسنة الدين، ووهب أختها شيرين لحسان بن ثابت فولدت له عبدالرحمن.
وولدت مارية لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما سماه إبراهيم، وعق عنه بشاة يوم سابعه، وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الارض، وسماه إبراهيم، وكانت قابلتها سلمى (3) مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت إلى زوجها أبى رافع فأخبرته بأنها قد ولدت غلاما، فجاء أبو رافع إلى رسول الله فبشره فوهب له عقدا، وغار نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد عليهن حين رزق منها الولد.
وروى الحافظ أبو الحسن الدارقطني، عن أبى عبيد القاسم بن إسماعيل، عن زياد ابن أيوب، عن سعيد بن زكريا المدائني، عن ابن أبى سارة، عن عكرمة، عن
__________
(1) الجعدة: ذات الشعر غير السبط.
(2) الخرافة، النخل المجتنى.
(3) في القاموس: وأم سلمى امرأة أبى رافع.
(*)

ابن عباس، قال: لما ولدت مارية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعتقها ولدها ".
ثم قال الدارقطني: تفرد به زياد بن أيوب وهو ثقة.
وقد رواه ابن ماجه من حديث حسين بن عبدالله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس بمثله ورويناه من وجه آخر.
وقد أفردنا لهذه المسألة وهى بيع أمهات الاولاد مصنفا مفردا على حدته، وحكينا فيه أقوال العلماء بما حاصله يرجع إلى ثمانية أقوال، وذكرنا مستند كل قول ولله الحمد والمنة.
* * * وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، عن إبراهيم بن محمد بن على بن أبى طالب، عن أبيه، عن جده على بن أبى طالب، قال: أكثروا على مارية أم إبراهيم في قبطى ابن عم لها يزورها ويختلف إليها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذ هذا السيف فانطلق فإن وجدته عندها فاقتله " قال: قلت يارسول الله، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة لا يثنينى شئ حتى أمضى لما أمرتنى به، أم الشاهد يرى مالا يرى الغائب ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بل الشاهد يرى مالا يرى الغائب ".
فأقبلت متوشحا السيف فوجدته عندها، فاخترطت السيف، فلما رأني عرف أنى أريده، فأتى نخلة فرقى فيها ثم رمى بنفسه على قفاه، ثم شال رجليه، فإذا به أجب أمسح ماله مما للرجال لا قليل ولا كثير، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: " الحمد لله الذى صرف عنا أهل البيت ".
وقال الامام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا سفيان، حدثنى محمد بن عمر بن على بن أبى طالب، عن على قال: قلت يا رسول الله إذا بعثتني أكون كالسكة المحماة ؟

أم الشاهد يرى مالا يرى الغائب ؟ قال: " الشاهد يرى مالا يرى الغائب ".
هكذا رواه مختصرا.
وهو أصل الحديث الذى أوردناه وإسناده رجال ثقات
.
[ وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحرانى، حدثنا أبى، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبى حبيب وعقيل، عن الزهري، عن أنس، قال: لما ولدت مارية إبراهيم كاد أن يقع في النبي صلى الله عليه وسلم منه شئ حتى نزل جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم.
وقال أبو نعيم: حدثنا عبدالله بن محمد، حدثنا أبو بكر بن أبى عاصم، حدثنا محمد ابن يحيى الباهلى، حدثنا يعقوب بن محمد، عن رجل سماه عن الليث بن سعد، عن الزهري، عن عروة عن عائشة، قالت: أهدى ملك من بطارقة الروم يقال له المقوقس جارية قبطية من بنات الملوك يقال لها مارية وأهدى معها ابن عم لها شابا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ذات يوم يدخل خلوته فأصابها حملت بإبراهيم.
قالت عائشة: فلما استبان حملها جزعت من ذلك، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن لها لبن فاشترى لها ضأنة لبونا تغذى منها الصبى، فصلح إليه جسمه وحسن لونه، وصفا لونه، فجاءته ذات يوم تحمله على عاتقها فقال: " يا عائشة كيف ترين الشبه ؟ فقلت: أنا وغيري ما أرى شبها، فقال: " ولا اللحم ؟ " فقلت: لعمري من تغدى بألبان الضأن ليحسنن لحمه (1) ].
قال الواقدي: ماتت مارية في المحرم سنة خمس عشرة فصلى عليها عمر ودفنها في البقيع، وكذا قال المفضل بن غسان الغلابى (2).
وقال خليفة وأبو عبيدة ويعقوب بن سفيان: ماتت سنة ست عشرة رحمها الله.
* * *
__________
(1) سقط من ا.
(2) نسب إلى امرأة وهى أم خالد بن الحارث بن أوس بن النابغة.
اللباب 2 / 184 (*)

ومنهن ريحانة بنت زيد من بنى النضير ويقال من بنى قريظة.
قال الواقدي: كانت ريحانة بنت زيد من بنى النضير ويقال من بنى قريظة.
قال الواقدي: كانت ريحانة بنت زيد من بنى النضير وكانت مزوجة فيهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذها لنفسه صفيا، وكانت جميلة فعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسلم فأبت إلا اليهودية.
فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه، فأرسل إلى ابن سعية فذكر له ذلك فقال ابن سعية: فداك أبى وأمى هي تسلم، فخرج حتى جاءها فجعل يقول لها: لا تتبعي قومك فقد رأيت ما أدخل عليهم حيى بن أخطب، فأسلمي يصطفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه.
فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ سمع وقع نعلين فقال: " إن هاتين لنعلا ابن سعية يبشرني بإسلام ريحانة " فجاء يقول: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة.
فسر بذلك.
[ وقال محمد بن إسحاق (1): لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة اصطفى لنفسه ريحانة بنت عمرو بن خنافة، فكانت عنده حتى توفى عنها وهى في ملكه، وكان عرض عليها الاسلام ويتزوجها فأبت إلا اليهودية.
ثم ذكر من إسلامها ما تقدم ].
قال الواقدي: فحدثني عبدالملك بن سليمان، عن أيوب بن عبدالرحمن بن أبى صعصعة، عن أيوب بن بشير المعاوى، قال: فأرسل بها رسول الله إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر، فكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها، فجاءت أم المنذر فأخبرت رسول الله، فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها: " إن أحببت أن أعتقك وأتزوجك فعلت، وأن أحببت أن تكوني في ملكى أطأك بالملك فعلت " فقالت: يا رسول الله إن أخف عليك وعلى أن أكون في ملكك، فكانت في ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم يطأها حتى ماتت.
__________
(1) سقط من ا ولم يرد في ابن هشام، إذ أن هذه الرواية من طريق يونس بن بكير.
(*)

قال الواقدي: وحدثني ابن أبى ذئب قال: سألت الزهري عن ريحانة فقال: كانت
أمة رسول الله فأعتقها وتزوجها، فكانت تحتجب في أهلها وتقول: لا يرانى أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: وهذا أثبت الحديثين عندنا، وكان زوجها قبله عليه السلام الحكم.
وقال الواقدي: حدثنا عاصم بن عبدالله بن الحكم، عن عمر بن الحكم، قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة، وكانت عند زوج لها، وكان محبا لها مكرما، فقالت: لا أستخلف بعده أحدا أبدا، وكانت ذات جمال.
فلما سبيت بنو قريظة عرض السبى على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: فكنت فيمن عرض عليه فأمر بى فعزلت، وكان يكون له صفى في كل غنيمة، فلما عزلت خار الله لى، فأرسل بى إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل الاسرى وفرق السبى، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتجنبت منه حياء، فدعاني فأجلسني بين يديه فقال: إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله لنفسه.
فقلت: إنى أختار الله ورسوله.
فلما أسلمت أعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجني، وأصدقني اثنتى عشرة أوقية ونشا كما كان يصدق نساءه، وأعرس بى في بيت أم المنذر، وكان يقسم لى كما يقسم لنسائه، وضرب على الحجاب.
قال، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم معجبا بها، وكانت لا تسأله شيئا إلا أعطاها، فقيل لها: لو كنت سألت رسول الله صل الله عليه وسلم بنى قريظة لاعتقهم، فكانت تقول: لم يخل بى حتى فرق السبى، ولقد كان يخلو بها ويستكثر منها، فلم تزل عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع.
فدفنها بالبقيع.
وكان تزويجه إياها في المحرم سنه ست من الهجرة.
وقال ابن وهب عن يونس بن يزيد، عن الزهري قال: واستسر رسول الله ريحانة

من بنى قريظة ثم أعتقها فلحقت بأهلها.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كانت ريحانة بنت زيد بن شمعون من بنى النضير.
وقال بعضهم: من بنى قريظة وكانت تكون في نخل من نخل الصدقة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيل عندها أحيانا.
وكان سباها في شوال سنة أربع.
وقال أبو بكر بن أبى خيثمة: حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا زهير، عن سعيد، عن قتادة، قال: كانت لرسول الله وليدتان، مارية القبطية وريحة أو ريحانة بنت شمعون بن زيد بن خنافة، من بنى عمرو بن قريظة، كانت عند ابن عم لها يقال له عبد الحكم فيما بلغني، وماتت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ولائد ; مارية القبطية، وريحانة القرظية، وكانت له جارية أخرى جميلة فكادها نساؤه وخفن أن تغلبهن عليه، وكانت له جارية نفيسة وهبتها له زينب، وكان هجرها في شأن صفية بنت حيى ذا الحجة والمحرم وصفر، فلما كان شهر ربيع الاول الذى قبض فيه رضى عن زينب ودخل عليها، فقالت: ما أدرى ما أجزيك ؟ فوهبتها له صلى الله عليه وسلم.
وقد روى سيف بن عمر، عن سعيد بن عبدالله، عن ابن أبى مليكة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم لمارية وريحانة مرة، ويتركهما مرة.
وقال أبو نعيم: قال أبو محمد بن عمر الواقدي: توفيت ريحانة سنة عشرة وصلى عليها عمر بن الخطاب ودفنها بالبقيع ولله الحمد.

فصل في ذكر أولاده عليه وعليهم الصلاة والسلام لا خلاف أن جميع أولاده من خديجة بنت خويلد، سوى إبراهيم فمن مارية بنت شمعون القبطية.
قال محمد بن سعد: أنبأنا هشام بن الكلبى، أخبرني أبى، عن أبى صالح، عن ابن
عباس، قال: كان أكبر ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم، ثم زينب، ثم عبدالله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، فمات القاسم، وهو أول ميت من ولده بمكة، ثم مات عبدالله فقال العاص بن وائل السهمى: قد انقطع نسله فهو أبتر، فأنزل الله عزوجل: " إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الابتر ".
قال: ثم ولدت له مارية بالمدينة إبراهيم في ذى الحجة سنة ثمان من الهجرة، فمات ابن ثمانية عشر شهرا وقال أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريرى: حدثنا عبد الباقي بن نافع، حدثنا محمد ابن زكريا، حدثنا العباس بن بكار، حدثنى محمد بن زياد والفرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، قال: ولدت خديجة من النبي صلى الله عليه وسلم عبدالله ابن محمد، ثم أبطأ عليه الولد من بعده، فبينا رسول الله يكلم رجلا والعاص بن وائل ينظر إذ قال له رجل: من هذا ؟ قال له هذا الابتر.
وكانت قريش إذا ولد للرجل ثم أبطأ عليه الولد من بعده قالوا هذا إليه الابتر، فأنزل الله: " إن شانئك هو الابتر " أي مبغضك هو الابتر من كل خير.
قال: ثم ولدت له زينب، ثم ولدت له رقية، ثم ولدت له القاسم، ثم ولدت الطاهر، ثم ولدت المطهر، ثم ولدت الطيب، ثم ولدت المطيب، ثم ولدت أم كلثوم، ثم ولدت فاطمة.
وكانت أصغرهم.

وكانت خديجة إذ ولدت ولدا دفعته إلى من يرضعه، فلما ولدت فاطمة لم يرضعها غيرها.
* * * وقال الهيثم بن عدى: حدثنا هشام بن عروة، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: كان للنبى صلى الله عليه وسلم ابنان ; طاهر والطيب، وكان يسمى أحدهما عبد شمس،
والآخر عبدالعزى.
وهذا فيه نكارة.
والله أعلم.
وقال محمد بن عائذ: أخبرني الوليد بن مسلم، عن سعيد بن عبد العزيز، أن خديجة ولدت القاسم والطيب والطاهر ومطهرا وزينب ورقية وفاطمة وأم كلثوم.
وقال الزبير بن بكار: أخبرني عمى مصعب بن عبدالله قال: ولدت خديجة القاسم والطاهر وكان يقال له الطيب، وولد الطاهر بعد النبوة، ومات صغيرا واسمه عبدالله، وفاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم.
قال الزبير: وحدثني إبراهيم بن المنذر، عن ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبى الاسود، أن خديجة ولدت القاسم والطاهر والطيب وعبد الله وزينب ورقية وفاطمة وأم كلثوم.
وحدثني محمد بن فضالة عن بعض من أدرك من المشيخة قال: ولدت خديجة القاسم وعبد الله، فأما القاسم فعاش حتى مشى، وأما عبدالله فمات وهو صغير.
وقال الزبير بن بكار: كانت خديجة تدعى في الجاهلية الطاهرة بنت خويلد، وقد ولدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم وهو أكبر ولده وبه كان يكنى، ثم زينب، ثم عبدالله وكان يقال له الطيب، ويقال له الطاهر، ولد بعد النبوة ومات صغيرا.
ثم ابنته أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية.
هكذا الاول فالاول.

ثم مات القاسم بمكة، وهو أول ميت من ولده، ثم مات عبدالله.
ثم ولدت له مارية بنت شمعون إبراهيم، وهى القبطية التى أهداها المقوقس صاحب إسكندرية، وأهدى معها أختها شيرين وخصيا يقال له مابور، فوهب شيرين لحسان بن ثابت، فولدت له ابنه عبدالرحمن.
وقد انقرض نسل حسان بن ثابت.
وقال أبو بكر بن البرقى (1): يقال إن الطاهر هو الطيب وهو عبدالله، ويقال إن
الطيب والمطيب ولدا في بطن، والطاهر والمطهر ولدا في بطن.
وقال المفضل بن غسان عن أحمد بن حنبل، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا ابن جريج، عن مجاهد، قال: مكث القاسم ابن النبي صلى الله عليه وسلم سبع ليال ثم مات.
قال المفضل: وهذا خطأ، والصواب أنه عاش سبعة عشر شهرا.
وقال الحافظ أبو نعيم: قال مجاهد: مات القاسم وله سبعة أيام.
وقال الزهري: وهو ابن سنتين.
وقال قتادة: عاش حتى مشى.
وقال هشام بن عروة: وضع أهل العراق ذكر الطيب والطاهر، فأما مشايخنا فقالوا: عبدالعزى وعبد مناف والقاسم، ومن النساء رقية وأم كلثوم وفاطمة.
هكذا رواه ابن عساكر وهو منكر، والذى أنكره هو المعروف.
وسقط ذكر زينب ولا بد منها.
والله أعلم.
فأما زينب فقال عبد الرزاق عن ابن جريج: قال لى غير واحد: كانت زينب أكبر بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت فاطمة أصغرهن وأحبهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوج زينب أبو العاص بن الربيع فولدت منه عليا وأمامة، وهى التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحملها في الصلاة، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
__________
(1) ينسب إلى برق، بيت كبير من خوارزم انتقلوا إلى بخارى وسكنوها.
(*)

ولعل ذلك كان بعد موت أمها سنة ثمان من الهجرة، على ما ذكره الواقدي وقتادة وعبد الله بن أبى بكر بن حزم وغيرهم، وكأنها كانت طفلة صغيرة.
فالله أعلم.
وقد تزوجها على بن أبى طالب رضى الله عنه بعد موت فاطمة.
وكانت وفاة زينب رضى الله عنها في سنة ثمان.
قاله قتادة عن عبدالله بن أبى بكر
ابن حزم وخليفة بن خياط وأبو بكر بن أبى خيثمة وغير واحد.
وقال قتادة عن ابن حزم في أول سنة ثمان.
وذكر حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنها لما هاجرت دفعها رجل فوقعت على صخرة فأسقطت حملها، ثم لم تزل وجعة حتى ماتت، فكانوا يرونها ماتت شهيدة.
وأما رقية فكان قد تزوجها أولا ابن عمها عتبة بن أبى لهب كما تزوج أختها أم كلثوم أخوه عتيبة بن أبى لهب، ثم طلقاهما قبل الدخول بهما بغضة في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله: " تبت يدا أبى لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد ".
فتزوج عثمان بن عفان رضى الله عنه رقية، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة، ويقال إنه أول من هاجر إليها.
ثم رجعا إلى مكة، كما قدمنا، وهاجرا إلى المدينة وولدت له ابنه عبدالله فبلغ ست سنين، فنقره ديك في عينيه فمات وبه كان يكنى أولا، ثم اكتنى بابنه عمرو.
وتوفيت وقد انتصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، ولما أن جاء البشير بالنصر إلى المدينة - وهو زيد بن حارثة - وجدهم قد ساووا على قبرها التراب، وكان عثمان قد أقام عليها يمرضها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم

وضرب له بسهمه وأجره، ولما رجع زوجه بأختها أم كلثوم أيضا ولهذا كان يقال له ذو النورين، ثم ماتت عنده في شعبان سنة تسع ولم تلد له شيئا.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كانت عندي ثالثة لزوجتها عثمان " وفى رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو كن عشرا لزوجتهن عثمان ".
وأما فاطمة فتزوجها ابن عمها على بن أبى طالب في صفر سنة اثنتين، فولدت له
الحسن والحسين، ويقال ومحسن، وولدت له أم كلثوم وزينب.
وقد تزوج عمر بن الخطاب في أيام ولايته بأم كلثوم بنت على بن أبى طالب من فاطمة وأكرمها إكراما زائدا، أصدقها أربعين ألف درهم لاجل نسبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فولدت له زيدا بن عمر بن الخطاب.
ولما قتل عمر بن الخطاب تزوجها بعده ابن عمها عون بن جعفر فمات عنها، فخلف عليها أخوه محمد فمات عنها، فتزوجها أخوهما عبدالله بن جعفر فماتت عنده.
وقد كان عبدالله بن جعفر تزوج بأختها زينب بنت على وماتت عنده أيضا، وقد توفيت فاطمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بستة أشهر على أشهر الاقوال.
وهذا الثابت عن عائشة في الصحيح، وقاله الزهري أيضا وأبو جعفر الباقر.
وعن الزهري بثلاثة أشهر، وقال أبو الزبير بشهرين، وقال أبو بريدة: عاشت بعده سبعين من بين يوم وليلة.
وقال عمرو بن دينار: مكثت بعده ثمانية أشهر.
وكذا قال عبدالله بن الحارث.
وفى رواية عن عمرو بن دينار بأربعة أشهر.
وأما إبراهيم فمن مارية القبطية كما قدمنا، وكان ميلاده في ذى الحجة سنة ثمان.
وقد روى عن ابن لهيعة وغيره عن عبدالرحمن بن زياد قال: لما حبل بإبراهيم أتى جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، إن الله قد وهب لك غلاما من أم ولدك مارية،

وأمرك أن تسميه إبراهيم، فبارك الله لك فيه وجعله قرة عين لك في الدنيا والآخرة.
وروى الحافظ أبو بكر البزار عن محمد بن مسكين، عن عثمان بن صالح، عن ابن لهيعة، عن عقيل ويزيد بن أبى حبيب، عن الزهري، عن أنس قال: لما ولد للنبى صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم وقع في نفسه منه شئ فأتاه جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم.
وقال أسباط عن السدى، وهو إسماعيل بن عبدالرحمن، قال: سألت أنس بن مالك قلت: كم بلغ إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم من العمر ؟ قال: وقد
كان ملا مهده، ولو بقى لكان نبيا، ولكن لم يكن ليبقى لان نبيكم صلى الله عليه وسلم آخر الانبياء.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا عبدالرحمن بن مهدى، حدثنا سفيان، عن السدى، عن أنس بن مالك، قال: لو عاش إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم لكان صديقا نبيا.
وقال أبو عبد الله بن منده: حدثنا محمد بن سعد، ومحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد ابن عثمان العبسى، حدثنا منجاب، حدثنا أبو عامر الاسدي، حدثنا سفيان، عن السدى عن أنس، قال: توفى إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ستة عشر شهرا فقال رسول الله: " ادفنوه في البقيع فإن له مرضعا يتم رضاعه في الجنة ".
وقال أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن عمرو بن سعيد، عن أنس، قال: ما رأيت أحدا أرحم بالعيال من رسول الله، كان ابراهيم مسترضعا في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه فيدخل إلى البيت وإنه ليدجن (1)، وكان ظئره فينا فيأخذه فيقبله ثم يرجع.
قال عمرو: فلما توفى إبراهيم قال رسول الله: " إن ابراهيم ابني، وإنه
__________
(1) وفى ا: يدخن.
(*)

مات في الثدى، وإن له لظئرين تكملان رضاعه في الجنة ".
وقد روى جرير وأبو عوانة، عن الاعمش، عن مسلم بن صبيح أبى الضحى، عن البراء قال: توفى إبراهيم بن رسول الله وهو ابن ستة عشر شهرا، فقال: " ادفنوه في البقيع فإن له مرضعا في الجنة ".
ورواه أحمد من حديث جابر، عن عامر، عن البراء، وهكذا رواه سفيان الثوري عن فراس، عن الشعبى، عن البراء بن عازب بمثله.
وكذا رواه الثوري أيضا عن أبى إسحاق، عن البراء وأورد له ابن عساكر من طريق عتاب بن محمد بن شوذب، عن عبدالله بن أبى أوفى قال: توفى إبراهيم فقال رسول الله: " يرضع بقية رضاعه في الجنة ".
وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا زكريا بن يحيى الواسطي، حدثنا هشيم، عن إسماعيل، قال سألت ابن أبى أوفى - أو سمعته يسأل - عن إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: مات وهو صغير، ولو قضى أن يكون بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبى لعاش.
وروى ابن عساكر من حديث أحمد بن محمد بن سعيد الحافظ، حدثنا عبيد بن إبراهيم الجعفي، حدثنا الحسن بن أبى عبدالله الفراء، حدثنا مصعب بن سلام، عن أبى حمزة الثمالى، عن أبى جعفر محمد بن على، عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو عاش إبراهيم لكان نبيا ".
وروى ابن عساكر من حديث محمد ابن إسماعيل بن سمرة، عن محمد بن الحسن الاسدي، عن أبى شيبة، عن أنس، قال: لما مات إبراهيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه ".
فجاء فانكب عليه وبكى حتى اضطرب لحياه وجنباه صلى الله عليه وسلم.

قلت: أبو شيبة هذا لا يتعامل بروايته.
ثم روى من حديث مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن خيثم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: لما توفى إبراهيم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر وعمر: أنت أحق من علم لله حقه.
فقال: " تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، لولا أنه وعد صادق، وموعود جامع، وأن الآخر منا يتبع الاول، لوجدنا عليك يا إبراهيم وجدا أشد مما وجدنا، وإنا بك
يا إبراهيم لمحزونون ".
وقال الامام أحمد حدثنا أسود بن عامر، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن الشعبى عن البراء، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، ومات وهو ابن شتة عشر شهرا، وقال: " إن له في الجنة من يتم رضاعه وهو صديق ".
وقد روى من حديث الحكم بن عيينة، عن الشعبى، عن البراء.
وقال أبو يعلى: حدثنا القواريرى، حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن ابن أبى أوفى، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه، وصليت خلفه وكبر عليه أربعا.
وقد روى يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنى محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال: مات إبراهيم ابن رسول الله وهو ابن ثمانية عشر شهرا، فلم يصل عليه.
وروى ابن عساكر من حديث إسحاق ابن محمد الفروى، عن عيسى بن عبدالله بن محمد بن عمر بن على بن أبى طالب، عن أبيه، عن أبى جده عن على، قال: لما توفى إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث على بن أبى طالب إلى أمه مارية القبطية وهى في مشربة، فحمله على في سفط (1) وجعله بين يديه على الفرس، ثم جاء به إلى رسول الله
__________
(1) السفط: كالجوالق أو القفة.
(*)

صلى الله عليه وسلم فغسله وكفنه وخرج به وخرج الناس معه، فدفنه في الزقاق الذى يلى دار محمد بن زيد، فدخل على في قبره حتى سوى عليه ودفنه، ثم خرج ورش على قبره، وأدخل رسول الله يده في قبره فقال: " أما والله إنه لنبى ابن نبى " وبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكى المسلمون حوله حتى ارتفع الصوت.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يغضب الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ".
وقال الواقدي: مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من ربيع الاول سنة عشر، وهو ابن ثمانية عشر شهرا في بنى مازن بن النجار في دار أم برزة بنت المنذر، ودفن بالبقيع.
قلت: وقد قدمنا أن الشمس كسفت يوم موته، فقال الناس: كسفت لموت إبراهيم.
فخطب رسول الله فقال في خطبته: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزوجل، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ".
قال الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر:

باب ذكر عبيده عليه السلام وإمائه وذكر خدمه وكتابه وأمنائه، مع مراعاة الحروف في أسمائهم، وذكر بعض ما ذكر من أنبائهم ولنذكر ما أورده مع الزيادة والنقصان وبالله المستعان.
فمنهم أسامة بن زيد بن حارثة أبو زيد الكلبى، ويقال أبو يزيد ويقال أبو محمد.
مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولاه، وحبه وابن حبه، وأمه أم أيمن واسمها بركة، كانت حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صغره، وممن آمن به قديما بعد بعثته.
وقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أيام حياته، وكان عمره إذ ذاك ثمانى عشرة أو تسع عشرة، وتوفى وهو أمير على جيش كثيف، منهم عمر بن الخطاب، ويقال وأبو بكر الصديق وهو ضعيف، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم نصبه للامامة.
فلما توفى عليه السلام وجيش أسامة مخيم بالجرف كما قدمناه، استطلق أبو بكر من أسامة عمر بن الخطاب في الاقامة عنده ليستضئ برأيه فأطلقه له، وأنفذ أبو بكر
جيش أسامة بعد مراجعة كثيرة من الصحابة له في ذلك، وكل ذلك يأبى عليهم ويقول: والله لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فساروا حتى بلغوا تخوم البلقاء من أرض الشام حيث قتل أبوه زيد وجعفر بن أبى طالب وعبد الله بن رواحة رضى الله عنهم، فأغار على تلك البلاد وغنم وسبى وكر راجعا سالما مؤيدا.

فلهذا كان عمر بن الخطاب رضى الله عنه لا يلقى أسامة إلا قال له: السلام عليك أيها الامير.
ولما عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم راية الامرة طعن بعض الناس في إمارته، فخطب رسول الله فقال فيها: " إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن كان لخليقا للامارة، وإن كان لمن أحب الخلق إلى بعده ".
وهو في الصحيح من حديث موسى بن عقبة، عن سالم، عن أبيه.
وثبت في صحيح البخاري عن أسامة رضى الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني والحسن فيقول: " اللهم إنى أحبهما فأحبهما ".
وروى عن الشعبى عن عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب الله ورسوله فليحب أسامة بن زيد ".
ولهذا لما فرض عمر بن الخطاب للناس في الديوان فرض لاسامة في خمسة آلاف ; وأعطى ابنه عبدالله بن عمر في أربعة آلاف.
فقيل له في ذلك فقال: إنه كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله من أبيك.
وقد روى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن أسامة، أن رسول الله أردفه خلفه على حمار عليه قطيفة، حين ذهب يعود سعد بن عبادة، قبل وقعة بدر.
قلت: وهكذا أردفه وراءه على ناقته حين دفع من عرفات إلى المزدلفة، كما قدمنا في حجة الوداع.
وقد ذكر غير واحد أنه رضى الله عنه لم يشهد مع على شيئا من مشاهده، واعتذر إليه بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قتل ذلك الرجل وقد قال لا إله إلا الله، فقال: " من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ؟ أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة " الحديث.

وذكر فضائله كثيرة رضى الله عنه.
وقد كان أسود كالليل، أفطس حلوا حسنا كبيرا فصيحا عالما ربانيا، رضى الله عنه.
وكان أبوه كذلك، إلا أنه كان أبيض شديد البياض، ولهذا طعن بعض من لا يعلم في نسبه منه.
ولما مر مجزز المدلجى عليهما وهما نائمان في قطيفة وقد بدت أقدامهما أسامة بسواده وأبوه زيد ببياضه، قال: سبحان الله: إن بعض هذه الاقدام لمن بعض.
أعجب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل على عائشة مسروا تبرق أسارير وجهه فقال: " ألم ترى أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: إن بعض هذه الاقدام لمن بعض ؟ ! " ولهذا أخذ فقهاء الحديث كالشافعي وأحمد من هذا الحديث، من حيث التقرير عليه والاستبشار به ; العمل بقول القافة في اختلاط الانساب واشتباهها، كما هو مقرر في موضعه.
والمقصود أنه رضى الله عنه توفى سنة أربع وخمسين مما صححه أبو عمر.
وقال غيره سنة ثمان أو تسع وخمسين، وقيل مات بعد مقتل عثمان فالله أعلم.
وروى له الجماعة في كتبهم الستة.
* * *
ومنهم أسلم وقيل إبراهيم وقيل ثابت وقيل هرمز أبو رافع القبطى، أسلم قبل بدر ولم يشهدها لانه كان بمكة مع سادته آل العباس، وكان ينحت القداح، وقصته مع الخبيث أبى لهب حين جاء خبر وقعة بدر تقدمت ولله الحمد.
ثم هاجر وشهد أحدا وما بعدها، وكان كاتبا، وقد كتب بين يدى على بن أبى طالب بالكوفة.
قاله المفضل بن غسان الغلابى.
وشهد فتح مصر في أيام عمر.
وقد كان أولا للعباس بن عبدالمطلب فوهبه للنبى صلى الله عليه وسلم وعتقه وزوجه

مولاته سلمى، فولدت له أولادا وكان يكون على ثقل (1) النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وبهز قالا: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن ابن أبى رافع، عن أبى رافع، أن رسول الله بعث رجلا من بنى مخزوم على الصدقة، فقال لابي رافع: اصحبني كيما تصيب منها.
فقال: لا.
حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله.
فأتى رسول الله فسأله فقال: " الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم منهم ".
وقد رواه الثوري عن محمد بن عبدالرحمن بن أبى ليلى، عن الحكم به.
وروى أبو يعلى في مسنده عنه أنه أصابهم برد شديد وهم بخيبر، فقال رسول الله: " من كان له لحاف فليلحف من لا لحاف له ".
قال أبو رافع: فلم أجد من يحلفنى معه، فأتيت رسول الله فألقى على لحافه، فنمنا حتى أصبحنا، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رجليه حية فقال: " يا أبا رافع اقتلها اقتلها ".
وروى له الجماعة في كتبهم، ومات في أيام على رضى الله عنه.
ومنهم أنسة بن زياد (2) أبو مشرح، ويقال أبو مسرح، من مولدي السراة، مهاجري شهد بدرا فيما ذكره عروة والزهرى وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق والبخاري وغير واحد.
قالوا: وكان ممن يأذن على النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس.
وذكر خليفة بن خياط في كتابه قال: قال على بن محمد، عن عبد العزيز بن أبى ثابت، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: استشهد يوم بدر أنسة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: وليس هذا بثبت عندنا، ورأيت أهل العلم يثبتون أنه شهد أحدا أيضا وبقى زمانا وأنه توفى في حياة أبى بكر رضى الله عنه أيام خلافته.
__________
(1) الثقل: متاع المسافر (2) ا: ابن مادة.
(*)

ومنهم أيمن بن عبيد بن زيد الحبشى ونسبه ابن مندة إلى عوف بن الخزرج وفيه نظر.
وهو ابن أم أيمن بركة، أخو أسامة لامه.
قال ابن إسحاق: وكان على مطهرة (1) النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ممن ثبت يوم حنين، ويقال: إن فيه وفى أصحابه نزل قوله تعالى: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (2) ".
قال الشافعي: قتل أيمن مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين.
قال: فرواية مجاهد عنه منقطعة يعنى بذلك ما رواه الثوري عن منصور، عن مجاهد، عن عطاء، عن أيمن الحبشى قال: لم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم السارق إلا في المجن (3)، وكان ثمن المجن يومئذ دينارا.
وقد رواه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة، عن هارون بن عبدالله، عن أسود ابن عامر، عن الحسين بن صالح، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد وعطاء، عن أيمن، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وهذا يقتضى تأخر موته عن النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يكن الحديث مدلسا عنه، ويحتمل أن يكون أريد غيره.
والجمهور كابن اسحاق وغيره ذكروه فيمن قتل من الصحابة يوم حنين فالله أعلم.
ولابنه الحجاج بن أيمن مع عبدالله بن عمر قصة.
ومنهم با ام ؟ وسيأتى ذكره في ترجمة طهمان.
__________
(1) المطهرة بكسر الميم وفتحها: الاداوة، أو الاناء الذى يتطهر به.
(2) سورة الكهف 110 (3) المجن: الترس.
(*)

ومنهم ثوبان بن بجدد، ويقال ابن جحدر أبو عبدالله، ويقال أبو عبد الكريم، ويقال أبو عبد الرحمن.
أصله من أهل السراة، مكان بين مكة واليمن، وقيل من حمير من أهل اليمن.
وقيل من الهان (1)، وقيل من حكم بن سعد العشيرة من مذحج أصابه سبى في الجاهلية.
فاشتراه رسول الله فأعتقه وخيره إن شاء أن يرجع إلى قومه، وإن شاء يثبت فإنه منهم أهل البيت.
فأقام على ولاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه حضرا ولا سفرا حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وشهد فتح مصر أيام عمر، ونزل حمص بعد ذلك وابتنى بها دارا، وأقام بها إلى أن مات سنة أربع وخمسين، وقيل سنة أربع وأربعين - وهو خطأ - وقيل إنه مات بمصر، والصحيح بحمص كما قدمنا والله أعلم.
روى له البخاري في كتاب الادب، ومسلم في صحيحه وأهل السنن الاربعة.
ومنهم حنين مولى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جد إبراهيم بن عبدالله بن حنين.
وروينا أنه كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم ويوضئه، فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم خرج بفضلة الوضوء إلى أصحابه، فمنهم من يشرب منه، ومنهم من يتمسح به،
فاحتبسه حنين فخبأه عنده في جرة حتى شكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: " ما تصنع به ؟ " فقال: أدخره عندي أشربه يا رسول الله.
فقال عليه السلام: " هل رأيتم غلاما أحصى ما أحصى هذا ؟ ".
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لعمه العباس فأعتقه رضى الله عنهما.
ومنهم ذكوان يأتي ذكره في ترجمة طهمان.
ومنهم رافع أو أبو رافع ويقال له أبو البهى.
__________
(1) كذا، ولعلها الهون.
(*)

قال أبو بكر بن أبى خيثمة: كان لابي أحيحة سعيد بن العاص الاكبر فورثه بنوه وأعتق ثلاثة منهم أنصباءهم وشهد معهم يوم بدر، فقتلوا ثلاثتهم، ثم اشترى أبو رافع بقية أنصباء بنى سعيد مولاه إلا نصيب خالد بن سعيد، فوهب خالد نصيبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله وأعتقه.
فكان يقول، انا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك كان بنوه يقولون من بعده.
ومنهم رباح الاسود، وكان يأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذى أخذ الاذن لعمر بن الخطاب حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المشربة يوم آلى من نسائه واعتزلهن في تلك المشربة وحده عليه السلام.
هكذا جاء مصرحا باسمه في حديث عكرمة بن عمار، عن سماك بن الوليد، عن ابن عباس، عن عمر.
وقال الامام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الاكوع، عن أبيه قال: كان للنبى صلى الله عليه وسلم غلام يسمى رباح.
ومنهم رويفع مولاه عليه الصلاة والسلام.
هكذا عده في الموالى مصعب بن عبدالله الزبيري وأبو بكر بن أبى خيثمة قالا:
وقد وفد ابنه على عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته ففرض له.
قالا: ولا عقب له.
قلت: كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله شديد الاعتناء بموالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحب أن يعرفهم ويحسن إليهم، وقد كتب في أيام خلافته إلى أبى بكر بن حزم عالم أهل المدينة في زمانه: أن يفحص له عن موالى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال والنساء وخدامه.
رواه الواقدي.
وقد ذكره أبو عمر مختصرا وقال: لا أعلم له رواية، حكاه ابن الاثير في الغابة.

ومنهم زيد بن حارثة الكلبى.
وقد قدمنا طرفا من ذكره عند ذكر مقتله بغزوة مؤتة رضى الله عنه، وذلك في جمادى من سنة ثمان قبل الفتح بأشهر.
وقد كان هو الامير المقدم، ثم بعده جعفر، ثم بعدهما عبدالله بن رواحة.
وعن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: ما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقى بعده لاستخلفه.
رواه أحمد.
ومنهم زيد أبو يسار.
قال أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة: سكن المدينة، روى حديثا واحدا لا أعلم له غيره: حدثنا محمد بن على الجوزجانى، حدثنا أبو سلمة - هو التبوذكى - حدثنا حفص ابن عمر الطائى، حدثنا أبو عمر بن مرة، سمعت بلال بن يسار بن زيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم، سمعت أبى حدثنى عن جدى، أنه سمع رسول الله يقول: " من قال: أستغفر الله الذى لا إله إلا هو الحى القيوم وأتوب إليه، غفر له وإن كان فر من الزحف ".
وهكذا رواه أبو داود عن أبى سلمة، وأخرجه الترمذي عن محمد بن إسماعيل البخاري، عن أبى سلمة موسى بن إسماعيل به.
وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
* * * ومنهم سفينة أبو عبد الرحمن ويقال أبوالبخترى.
كان اسمه مهران، وقيل عبس، وقيل أحمر، وقيل رومان، فلقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسبب سنذكره، فغلب عليه.

وكان مولى لام سلمة، فأعتقته واشترطت عليه أن يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يموت، فقبل ذلك.
وقال: لو لم تشترطي على ما فارقته.
وهذا الحديث في السنن.
وهو من مولدي العرب، وأصله من أبناء فارس وهو سفينة بن مافنه.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا حشرج بن نباتة العبسى، كوفى، حدثنا سعيد بن جمهان، حدثنى سفينة، قال: قال رسول الله: " الخلافة في أمتى ثلاثون سنة، ثم ملكا بعد ذلك ".
ثم قال لى سفينة: أمسك خلافة أبى بكر، وخلافة عمر، وخلافة عثمان، وأمسك خلافة على، ثم قال: فوجدناها ثلاثين سنة.
ثم نظرت بعد ذلك في الخلفاء فلم أجده يتفق لهم ثلاثون.
قلت لسعيد: أين لقيت سفينة ؟ قال: ببطن نخلة في زمن الحجاج، فأقمت عنده ثلاث ليال أسأله عن أحاديث رسول الله.
قلت له: ما اسمك ؟ قال: ما أنا بمخبرك، سمانى رسول الله سفينة.
قلت: ولم سماك سفينة ؟ قال: خرج رسول الله ومعه أصحابه، فثقل عليهم متاعهم فقال لى: " ابسط كساءك " فبسطته، فجعلوا فيه متاعهم ثم حملوه على، فقال
لى رسول الله: " احمل فإنما أنت سفينة " فلو حملت يومئذ وقر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة ما ثقل على، إلا أن يحفوا (1).
وهذا الحديث عن أبى داود والترمذي والنسائي، ولفظه عندهم: " خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا ".
وقال الامام أحمد: حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة، قال: كنا في سفر، فكان كلما أعيا رجل ألقى على ثيابه، ترسا أو سيفا،
__________
(1) يحفوا: يزيدوا ويبالغوا (*)

حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت سفينة ".
هذا هو المشهور في تسميته سفينة.
وقد قال أبو القاسم البغوي: حدثنا الربيع سليمان بن داود الزهراني ومحمد بن جعفر الوركانى، قالا: حدثنا شريك بن عبدالله النخعي، عن عمران البجلى، عن مولى لام سلمة، قال: كنا مع رسول الله فمررنا بواد - أو نهر - فكنت أعبر الناس، فقال لى رسول الله: " ما كنت منذ اليوم إلا سفينة ".
وهكذا رواه الامام أحمد، عن أسود بن عامر، عن شريك.
وقال أبو عبد الله بن منده: حدثنا الحسن بن مكرم، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا أسامة بن زيد، عن محمد بن المنكدر، عن سفينة، قال: ركبت البحر في سفينة فكسرت بنا، فركبت لوحا منها فطرحني في جزيرة فيها أسد فلم يرعنى إلا به، فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجعل يغمزني بمنكبه حتى أقامنى على الطريق، ثم همهم فظننت أنه السلام.
وقد رواه أبو القاسم البغوي عن إبراهيم بن هانئ، عن عبيدالله بن موسى، عن رجل، عن محمد بن المنكدر، عنه.
ورواه أيضا عن محمد بن عبدالله المخرمى، عن حسين بن محمد، قال: قال عبد العزيز بن عبدالله بن أبى سلمة، عن محمد بن المنكدر، عن سفينة.
فذكره.
ورواه أيضا: حدثنا هارون بن عبدالله، حدثنا على بن عاصم، حدثنى أبو ريحانة، عن سفينة مولى رسول الله قال: لقيني الاسد فقلت: أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فضرب بذنبه الارض وقعد.
وروى له مسلم وأهل السنن.
وقد تقدم في الحديث الذى رواه الامام أحمد أنه كان

يسكن بطن نخلة، وأنه تأخر إلى أيام الحجاج.
* * * ومنهم سلمان الفارسى، أبو عبد الله مولى الاسلام.
أصله من فارس وتنقلت به الاحوال إلى أن صار لرجل من يهود المدينة، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسلم سلمان وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فكاتب سيده اليهودي، وأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أداء ما عليه فنسب إليه وقال: " سلمان منا أهل البيت ".
وقد قدمنا صفة هجرته (1) من بلده وصحبته لاولئك الرهبان واحدا بعد واحد حتى آل به الحال إلى المدينة النبوية، وذكرنا صفة إسلامه رضى الله عنه في أوائل الهجرة النبوية إلى المدينة، وكانت وفاته في سنة خمس وثلاثين في آخر أيام عثمان - أو في أول سنة ست وثلاثين - وقيل: إنه توفى في أيام عمر بن الخطاب، والاول أكثر.
قال العباس بن يزيد البحراني: وكان أهل العلم لا يشكون أنه عاش مائتين وخمسين سنة، واختلفوا فيما زاد على ذلك إلى ثلاثمائة وخمسين.
وقد ادعى بعض الحفاظ المتأخرين أنه لم يجاوز المائة.
فالله أعلم بالصواب.
* * *
ومنهم شقران الحبشى، واسمه صالح بن عدى، ورثه عليه السلام من أبيه.
وقال مصعب الزبيري ومحمد بن سعد: كان لعبد الرحمن بن عوف فوهبه للنبى صلى الله عليه وسلم.
وقد روى أحمد بن حنبل، عن إسحاق بن عيسى، عن أبى معشر، أنه ذكره فيمن شهد بدرا، قال: ولم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) وذلك في الجزء الاول من الكتاب.
(*)

وهكذا ذكره محمد بن سعد فيمن شهد بدرا وهو مملوك فلهذا لم يسهم له بل استعمله على الاسرى، فحذاه (1) كل رجل له أسير شيئا، فحصل له أكثر من نصيب كامل.
قال: وقد كان ببدر ثلاثة غلمان غيره: غلام لعبد الرحمن بن عوف، وغلام لحاطب ابن أبى بلتعة، وغلام لسعد بن معاذ، فرضخ لهم ولم يقسم.
قال أبو القاسم البغوي: وليس له ذكر فيمن شهد بدرا في كتاب الزهري، ولا في كتاب ابن إسحاق.
وذكر الواقدي عن أبى بكر بن عبدالله بن أبى سبرة عن أبى بكر بن عبدالله بن أبى جهم قال: استعمل رسول الله شقران مولاه على جميع ما وجد في رحال المريسيع من رثة (2) المتاع والسلاح والنعم والشاء وجمع الذرية ناحية.
وقال الامام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا مسلم بن خالد، عن عمرو بن يحيى المازنى، عن أبيه، عن شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رأيته - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم - متوجها إلى خيبر على حمار يصلى عليه يومئ إيماء.
وفى هذه الاحاديث شواهد أنه رضى الله عنه شهد هذه المشاهد.
وروى الترمذي عن زيد بن أخزم، عن عثمان بن فرقد، عن جعفر بن محمد، أخبرني ابن أبى رافع قال: سمعت شقران يقول: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول
الله صلى الله عليه وسلم في القبر.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: الذى اتخذ قبر النبي صلى الله عليه وسلم أبو طلحة، والذى ألقى القطيفة شقران.
ثم قال: الترمذي حسن غريب.
__________
(1) حذاه: أعطاه.
(2) الرثة: ما يسقط من المتاع.
(*)

وقد تقدم أنه شهد غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل في قبره، وأنه وضع تحته القطيفة التى كان يصلى عليها وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك.
وذكر الحافظ أبو الحسن بن الاثير في الغابة أنه انقرض نسله فكان آخرهم موتا بالمدينة في أيام الرشيد.
* * * ومنهم ضميرة بن أبى ضميرة الحميرى، أصابه سبى في الجاهلية فاشتراه النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقه، ذكره مصعب الزبيري قال: وكانت له دار بالبقيع وولد.
قال عبدالله بن وهب: عن ابن أبى ذئب، عن حسين بن عبدالله بن ضميرة، عن أبيه عن جده ضميرة، أن رسول الله مر بأم ضميرة وهى تبكى فقال لها: " ما يبكيك ؟ أجائعة أنت، أعارية أنت ؟ ".
قالت: يارسول الله فرق بينى وبين ابني.
فقال رسول الله: " لا يفرق بين الوالدة وولدها ".
ثم أرسل إلى الذى عنده ضميرة فدعاه فابتاعه منه ببكر.
قال ابن أبى ذئب: ثم أقرأنى كتابا عنده: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لابي ضميرة وأهل بيته، أن رسول الله أعتقهم، وأنهم أهل بيت
من العرب، إن أحبوا أقاموا عند رسول الله، وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم، فلا يعرض لهم إلا بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرا.
وكتب أبى بن كعب.
ومنهم طهمان، ويقال ذكوان.
ويقال مهران، ويقال ميمون، وقيل كيسان، وقيل باذام.
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الصدقة لا تحل لى ولا لاهل بيتى، وإن مولى القوم من أنفسهم ".
رواه البغوي عن منجاب بن الحارث وغيره، عن شريك، عن عطاء بن السائب،

عن إحدى بنات على بن أبى طالب وهى أم كلثوم بنت على، قالت: حدثنى مولى للنبى صلى الله عليه وسلم يقال له طهمان أو ذكوان، قال قال رسول الله.
فذكره.
ومنهم عبيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو داود الطيالسي: عن شعبة، عن سليمان التيمى، عن شيخ، عن عبيد مولى للنبى صلى الله عليه وسلم قال: قلت: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بصلاة سوى المكتوبة ؟ قال: صلاة بين المغرب والعشاء.
قال أبو القاسم البغوي: لا أعلم روى غيره.
قال ابن عساكر: وليس كما قال.
ثم ساق من طريق أبى يعلى الموصلي: حدثنا عبدالاعلى بن حماد، حدثنا حماد بن سلمة، عن سليمان التيمى، عن عبيد مولى رسول الله أن امرأتين كانتا صائمتين، وكانتا تغتابان الناس، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فقال لهما: " قيئا " فقاءا قيحا ودما ولحما عبيطا ثم قال: " إن هاتين صامتا عن الحلال وأفطرتا على الحرام ".
وقد رواه الامام أحمد، عن يزيد بن هارون وابن أبى عدى، عن سليمان التيمى، عن رجل حدثهم في مجلس أبى عثمان، عن عبيد مولى رسول الله فذكره.
ورواه أحمد أيضا عن غندر، عن عثمان بن غياث قال: كنت مع أبى عثمان فقال
رجل: حدثنى سعيد - أو عبيد -، يشك عثمان، مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
فذكره.
ومنهم فضالة مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن سعد: أنبأنا الواقدي، حدثنى عتبة بن خيرة الاشهلى، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبى بكر محمد بن عمرو بن حزم، أن افحص لى عن خدم رسول الله من الرجال والنساء ومواليه.

فكتب إليه قال: وكان فضالة مولى له يمانى نزل الشام بعد، وكان أبو مويهبة مولدا من مولدي مزينة فأعتقه قال ابن عساكر: لم أجد لفضالة ذكرا في الموالى إلا من هذا الوجه.
ومنهم قفيز أوله قاف وآخره زاى.
قال أبو عبد الله بن منده: أنبأنا سهل بن السرى، حدثنا أحمد بن محمد بن المنكدر، حدثنا محمد بن يحيى، عن محمد بن سليمان الحرانى، عن زهير بن محمد، عن أبى بكر بن عبدالله بن أنيس، قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلام يقال له قفيز.
تفرد بن محمد بن سليمان.
ومنهم كركرة، كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته.
وقد ذكر أبو بكر بن حزم فيما كتب به إلى عمر بن عبد العزيز.
قال الامام أحمد: حدثنا سفيان، عن عمرو، عن سالم بن أبى الجعد، عن عبدالله ابن عمرو، قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة، فمات فقال: " هو في النار " فنظروا فإذا عليه عباءة قد غلها، أو كساء قد غله.
رواه البخاري عن على بن المدينى، عن سفيان.
قلت: وقصته شبيهة بقصة مدعم الذى أهداه رفاعة من بنى النصيب كما سيأتي.
ومنهم كيسان.
قال البغوي: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا ابن فضيل، عن عطاء بن السائب قال: أتيت أم كلثوم بنت على فقالت: حدثنى مولى للنبى صلى الله عليه وسلم يقال له كيسان قال له النبي صلى الله عليه وسلم في شئ من أمر الصدقة: " إنا أهل بيت نهينا أن نأكل الصدقة، وإن مولانا من أنفسنا فلا تأكل الصدقة ".
ومنهم مابور القبطى الخصى، أهداه له صاحب إسكندرية مع مارية وشيرين والبغلة.

وقد قدمنا من خبره في ترجمة مارية رضى الله عنهما ما فيه كفاية.
ومنهم مدعم، وكان أسود من مولدي حسمى (1) أهداه رفاعة بن زيد الجذامي، قتل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك مرجعهم من خيبر.
فلما وصلوا إلى وادى القرى فبينما مدعم يحط عن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلها، إذ جاءه سهم عائر فقتله، فقال الناس: هنيئا له الشهادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلا والذى نفسي بيده، إن الشملة التى أخذها يوم خيبر - لم تصبها المقاسم - لتشتعل عليه نارا ".
فلما سمعوا ذلك جاء رجل بشراك - أو شراكين - فقال النبي صلى الله عليه وسلم " شراك من نار، أو شرا كان من نار ".
أخرجاه من حديث مالك، عن ثور بن يزيد، عن أبى الغيث، عن أبى هريرة.
ومنهم مهران ويقال طهمان، وهو الذى روت عنه أم كلثوم بنت على في تحريم الصدقة على بنى هاشم ومواليهم كما تقدم.
ومنهم ميمون وهو الذى قبله (2).
ومنهم نافع مولاه.
قال الحافظ ابن عساكر: أنبأنا أبو الفتح الماهانى، أنبأنا شجاع الصوفى، أنبأنا محمد ابن إسحاق، أنبأنا أحمد بن محمد بن زياد، حدثنا محمد بن عبدالملك بن مروان، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأنا أبو مالك الاشجعى، عن يوسف بن ميمون، عن نافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يدخل الجنة شيخ زان، ولا مسكين متكبر، ولا منان بعمله على الله عزوجل ".
__________
(1) حسمى: أرض ببادية الشام.
(2) قتله.
وهو تحريف.
(*)

ومنهم نفيع، ويقال مسروح، ويقال نافع بن مسروح والصحيح نافع بن الحارث ابن كلدة بن عمرو بن علاج بن سلمة بن عبدالعزى بن غيرة بن عوف بن قيس، وهو ثقيف أبو بكرة الثقفى.
وأمه سمية أم زياد.
تدلى هو وجماعة من العبيد من سور الطائف، فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان نزوله في بكرة فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكرة.
قال أبو نعيم: وكان رجلا صالحا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين أبى برزة الاسلمي.
قلت: وهو الذى صلى عليه بوصيته إليه، ولم يشهد أبو بكرة وقعة الجمل، ولا أيام صفين، وكانت وفاته في سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة اثنتين وخمسين.
ومنهم واقد، أو أبو واقد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ أبو نعيم الاصبهاني: حدثنا أبو عمرو بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن يحيى بن عبد الكريم، حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا الهيثم بن حماد، عن الحارث بن غسان، عن رجل من قريش من أهل المدينة، عن زاذان، عن واقد مولى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أطاع
الله فقد ذكر الله، وإن قلت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن، ومن عصى الله فلم يذكره، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن ".
ومنهم هرمز أبو كيسان، ويقال هرمز أو كيسان، وهو الذى يقال فيه طهمان كما تقدم.
وقد قال ابن وهب: حدثنا على بن عابس، عن عطاء بن السائب، عن فاطمة بنت على، أو أم كلثوم بنت على قالت: سمعت مولى لنا يقال له هرمز يكنى أبا كيسان، قال:

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة، وإن موالينا من أنفسنا فلا تأكلوا الصدقة ".
وقد رواه الربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى، عن ورقاء، عن عطاء بن السائب، قال: دخلت على أم كلثوم فقالت: إن هرمز أو كيسان حدثنا أن رسول الله قال: " إنا لا نأكل الصدقة ".
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا منصور بن أبى مزاحم، حدثنا أبو حفص الابار، عن ابن أبى زياد، عن معاوية قال: شهد بدرا عشرون مملوكا، منهم مملوك للنبى صلى الله عليه وسلم يقال له هرمز، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " إن الله قد أعتقك وإن مولى القوم من أنفسهم ; وإنا أهل بيت لا نأكل الصدقة فلا تأكلها ".
ومنهم هشام مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن سعد: أنبأنا سليمان بن عبيدالله الرقى، أنبأنا محمد بن أيوب الرقى، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن أبى الزبير، عن هشام مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي لا تدفع يد لامس.
قال: " طلقها " قال: إنها تعجبني، قال: " فتمتع بها ".
قال ابن منده: وقد رواه جماعة عن سفيان الثوري، عن أبى الزبير، عن مولى بنى هاشم عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمه.
ورواه عبيدالله بن عمرو، عن عبد الكريم،
عن أبى الزبير، عن جابر.
ومنهم يسار، ويقال إنه الذى قتله العرنيون وقد مثلوا به.
وقد ذكر الواقدي بسنده عن يعقوب بن عتبة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه يوم قرقرة الكدر مع نعم بنى غطفان وسليم، فوهبه الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله منهم، لانه رآه يحسن الصلاة فأعتقه، ثم قسم في الناس النعم فأصاب كل إنسان منهم سبعة أبعرة، وكانوا مائتين.

ومنهم أبو الحمراء مولى النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه، وهو الذى يقال إن اسمه هلال بن الحارث، وقيل ابن مظفر، وقيل هلال بن الحارث بن ظفر السلمى، أصابه سباء في الجاهلية.
وقال أبو جعفر محمد بن على بن دحيم: حدثنا أحمد بن حازم، أنبأنا عبدالله بن موسى والفضل بن دكين، عن يونس بن أبى إسحاق، عن أبى داود القاص، عن أبى الحمراء، قال: رابطت المدينة سبعة أشهر كيوم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي باب على وفاطمة كل غداة فيقول: " الصلاة الصلاة، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ".
قال أحمد بن حازم: وأنبأنا عبيدالله بن موسى والفضل بن دكين - واللفظ له - عن يونس بن أبى إسحاق، عن أبى داود، عن أبى الحمراء، قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل عنده طعام في وعاء فأدخل يده، فقال: " غششته ! من غشنا فليس منا ".
وقد رواه ابن ماجه، عن أبى بكر بن أبى شيبة عن أبى نعيم به.
وليس عنده سواه.
وأبو داود هذا هو نفيع بن الحارث الاعمى أحد المتروكين الضعفاء.
قال عباس الدوري عن ابن معين: أبو الحمراء صاحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم اسمه هلال بن الحارث، كان يكون بحمص، وقد رأيت بها غلاما من ولده.
وقال غيره: كان منزله خارج باب حمص.
وقال أبو الوازع عن سمرة: كان أبو الحمراء في الموالى.
ومنهم أبو سلمة راعى النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال أبو سلام واسمه حريث.
قال أبو القاسم البغوي: حدثنا كامل بن طلحة، حدثنا عباد بن عبد الصمد، حدثنى أبو سلمة راعى النبي صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه

وسلم يقول: " من لقى الله يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وآمن بالبعث والحساب ; دخل الجنة ".
قلنا: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأدخل إصبعيه في أذنيه ثم قال: أنا سمعت هذا منه غير مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع.
لم يورد له ابن عساكر سوى هذا الحديث.
وقد روى له النسائي في اليوم والليلة آخر، وأخرج له ابن ماجه ثالثا.
ومنهم أبو صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو القاسم البغوي: حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا معتمر، حدثنا أبو كعب عن جده بقية، عن أبى صفية مولى النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يوضع له نطع (1) ويجاء بزنبيل فيه حصى فيسبح به إلى نصف النهار، ثم يرفع فإذا صلى الاولى سبح حتى يمسى.
ومنهم أبو ضميرة مولى النبي صلى الله عليه وسلم والد ضميرة المتقدم، وزوج أم ضميرة.
وقد تقدم في ترجمة ابنه طرف من ذكرهم وخبرهم في كتابهم وقال محمد بن سعد في الطبقات: أنبأنا إسماعيل بن عبدالله بن أويس المدنى، حدثنى حسين بن عبدالله بن أبى ضميرة، أن الكتاب الذى كتبه رسول الله صلى الله عليه
وسلم لابي ضميرة: بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من محمد رسول الله لابي ضميرة وأهل بيته، إنهم كانوا أهل بيت من العرب، وكانوا ممن أفاء الله على رسوله فأعتقهم ثم خير أبا ضميرة إن أحب أن يلحق بقومه فقد أذن له، وإن أحب أن يمكث مع رسول الله فيكونوا من أهل بيته، فاختار الله ورسوله ودخل في الاسلام، فلا يعرض لهم أحد إلا بخير، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيرا، وكتب أبى بن كعب.
__________
(1) النطع: بساط من الاديم، وهو الجلد.
(*)