ج7. إحياء
علوم الدين - الغزالي-كتاب : إحياء علوم الدين للإمام محمد بن محمد الغزالي أبو حامد
منع
من السعي إلى الجنة مع الفقراء المهاجرين وصار يحبو في آثارهم حبوا فما ظنك
بأمثالنا الغرقى في فتن الدنيا وبعد فالعجب كل العجب لك يا مفتون تتمرغ في تخاليط
الشبهات والسحت وتتكالب على أوساخ الناس وتتقلب في الشهوات والزينة والمباهاة
وتتقلب في فتن الدنيا ثم تحتج بعبد الرحمن وتزعم أنك إن جمعت المال فقد جمعه
الصحابة كأنك أشبهت السلف وفعلهم ويحك إن هذا من قياس إبليس ومن فتياه لأوليائه
وسأصف لك أحوالك وأحوال السلف لتعرف فضائحك وفضل الصحابة
ولعمري لقد كان لبعض الصحابة أموال أرادوها للتعفف والبذل في سبيل الله فكسبوا
حلالا وأكلوا طيبا وأنفقوا قصدا وقدموا فضلا ولم يمنعوا منها حقا ولم يبخلوا بها
لكنهم جادوا لله بأكثرها وجاد بعضهم بجميعها وفي الشدة آثروا الله على أنفسهم
كثيرا فبالله أكذلك أنت والله إنك لبعيد الشبه بالقوم
وبعد فإن أخيار الصحابة كانوا للمسكنة محبين ومن خوف الفقر آمنين وبالله في
أرزاقهم واثقين وبمقادير الله مسرورين وفي البلاء راضين وفي الرخاء شاكرين وفي
الضراء صابرين وفي السراء حامدين وكانوا لله متواضعين وعن حب العلو والتكاثر ورعين
لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم بالبلغة منها وزجوا الدنيا وصبروا على مكارهها
وتجرعوا مرارتها وزهدوا في نعيمها وزهرتها
فبالله أكذلك أنت
ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا وقالوا ذنب عجلت عقوبته من
الله وإذا رأوا الفقر مقبلا قالوا مرحبا بشعار الصالحين
وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيبا حزينا وإذا لم يكن عندهم
شيء أصبح فرحا مسرورا فقيل له إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا وإذا كان عندهم
شيء فرحوا وأنت لست كذلك قال إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت إذ كان لي
برسول الله صلى الله عليه و سلم أسوة وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت إذ لم يكن لي
بآل محمد أسوة
وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا ما لنا وللدنيا
وما يراد بها فكأنهم على جناح خوف وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا
وقالوا الآن تعاهدنا ربنا
فهذه أحوال السلف ونعتهم وفيهم من الفضل أكثر مما وصفنا
فبالله أكذلك أنت إنك لبعيد الشبه بالقوم
وسأصف لك أحوالك أيها المفتون ضدا لأحوالهم وذلك أنك تطغى عند الغنى وتبطر عند
الرخاء وتمرح عند السراء وتغفل عن شكر ذي النعماء وتقنط عند الضراء وتسخط عند
البلاء ولا ترضى بالقضاء 2
نعم وتبغض الفقر وتأنف من المسكنة وذلك فخر المرسلين وأنت تأنف من فخرهم
وأنت تدخر المال وتجمعه خوفا من الفقر وذلك من سوء الظن بالله عز و جل وقلة اليقين
بضمانه وكفى به إثما وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها وشهواتها ولذاتها
ولقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم
فربت عليهم أجسامهم // حديث شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم الحديث تقدم ذكره في
أوائل كتاب ذم البخل عند الحديث الرابع منه من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار
مسيرة سنة
وبلغنا أن بعض أهل العلم قال ليجيء يوم القيامة قوم يطلبون حسنات لهم فيقال لهم
أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها وأنت في غفلة قد حرمت نعيم الآخرة
بسبب نعيم الدنيا فيا لها حسرة ومصيبة نعم وعساك أن تجمع المال للتكاثر والعلو
والفخر والزينة في الدنيا وقد بلغنا أنه من طلب الدنيا للتكاثر أو للتفاخر لقي
الله وهو عليه غضبان وأنت غير مكترث بما حل بك من غضب ربك حين أردت التكاثر والعلو
نعم
وعساك المكث في الدنيا أحب إليك من النقلة إلى جوار الله فأنت تكره لقاء الله
والله للقائك أكره وأنت في غفلة وعساك تأسف على ما فاتك من عرض الدنيا وقد بلغنا
أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة
شهر
وقيل سنة
وأنت تأسف على ما فاتك غير مكترث بقربك من عذاب الله
نعم ولعلك تخرج من دينك أحيانا لتوفير دنياك وتفرح بإقبال الدنيا عليك وترتاح لذلك
سرورا بها وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من أحب الدنيا وسر بها
ذهب خوف الآخرة من قلبه // حديث من أحب الدنيا وسر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه لم
أجده إلا بلاغا للحارث بن أسد المحاسبي كما ذكره المصنف عنه
وبلغنا أن بعض أهل العلم قال إنك تحاسب على التحزن على ما فاتك من الدنيا وتحاسب
بفرحك في الدنيا إذا قدرت عليها وأنت فرح بدنياك وقد سلبت الخوف من الله تعالى
وعساك تعنى بأمور دنياك أضعاف ما تعنى بأمور آخرتك وعساك ترى مصيبتك في معاصيك
أهون من مصيبتك في انتقاص دنياك ونعم وخوفك من ذهاب مالك أكثر من خوفك من الذنوب
وعساك تبذل للناس ما جمعت من الأوساخ كلها للعلو والرفعة في الدنيا وعساك ترضى
المخلوقين مساخطا لله تعالى كيما تكرم وتعظم
ويحك فكأن احتقار الله تعالى لك في القيامة أهون عليك من احتقار الناس إياك وعساك
تخفي من المخلوقين مساويك ولا تكترث باطلاع الله عليك فيها فكأن الفضيحة عند الله
أهون عليك من الفضيحة عند الناس فكأن العبيد أعلى عندك قدرا من الله تعالى الله عن
جهلك فكيف تنطق عند ذوي الألباب وهذه المثالب فيك أف لك متلوثا بالأقذار وتحتج
بمال الأبرار هيهات هيهات ما أبعدك عن السلف الأخيار والله لقد بلغني أنهم كانوا
فيما أحل لهم أزهد منكم فيما حرم عليكم إن الذي لا بأس به عندكم كان من الموبقات
عندهم وكانوا للزلة الصغيرة أشد استعظاما منكم لكبائر المعاصي فليت أطيب مالك
وأحله مثل شبهات أمولهم وليتك أشفقت من سيئاتك كما أشفقوا على حسناتهم أن لا تقبل
ليت صومك على مثال إفطارهم وليت اجتهادك في العبادة مثل فتورهم ونومهم وليت جميع
حسناتك مثل واحدة من سيئاتهم
وقد بلغني عن بعض الصحابة أنه قال غنيمة الصديقين ما فاتهم من الدنيا ونهمتهم ما
زوى عنهم منها فمن لم يكن كذلك فليس معهم في الدنيا ولا معهم في الآخرة فسبحان
الله كم بين الفريقين من التفاوت فريق خيار الصحابة في العلو عند الله وفريق
أمثالكم في السفالة أو يعفو الله الكريم بفضله
وبعد فإنك إن زعمت أنك متأس بالصحابة بجمع المال للتعفف والبذل في سبيل الله فتدبر
أمرك ويحك هل تجد من الحلال في دهرك كما وجدوا في دهرهم أو تحسب أنك محتاط في طلب
الحلال كما احتاطوا لقد بلغني أن بعض الصحابة قال كنا ندع سبعين بابا من الحلال
مخافة أن نقع في باب من الحرام أفتطمع من نفسك في مثل هذا الاحتياط لا ورب الكعبة
ما أحسبك كذلك ويحك كن على يقين أن جمع المال لأعمال البر مكر من الشيطان ليوقعك
بسبب البر في اكتساب الشبهات الممزوجة بالسحت والحرام وقد بلغنا أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم قال من اجترأ على الشبهات أوشك أن يقع في الحرام // حديث من اجترأ
على الشبهات أوشك أن يقع في الحرام متفق عليه من حديث النعمان بن بشير نحوه وقد
تقدم في كتاب الحلال والحرام أول الحديث
أيها المغرور أما علمت أن خوفك من اقتحام الشبهات أعلى وأفضل وأعظم لقدرك عند الله
من اكتساب الشبهات وبذلها في سبيل الله وسبيل البر بلغنا ذلك عن بعض أهل العلم قال
لأن تدع درهما واحدا مخافة أن لا يكون حلالا خير لك من أن تتصدق بألف دينار من
شبهة لا تدري
أيحل
لك أم لا فإن زعمت أنك أتقى وأورع من أن تتلبس بالشبهات وإنما تجمع المال بزعمك من
الحلال للبذل في سبيل الله ويحك إن كنت كما زعمت بالغا في الورع فلا تتعرض للحساب
فإن خيار الصحابة خافوا المسألة وبلغنا أن بعض الصحابة قال ما سرني أن أكتسب كل
يوم ألف دينار من حلال وأنفقها في طاعة الله ولم يشغلني الكسب عن صلاة الجمعة
قالوا ولم ذاك رحمك الله قال لأني غني عن مقام يوم القيامة فيقول عبدي من أين
اكتسبت وفي أي شيء أنفقت فهؤلاء المتقون كانوا في جدة الإسلام والحلال موجود لديهم
تركوا المال وجلا من الحساب مخافة أن لا يقوم خير المال بشره وأنت بغاية الأمن
والحلال في دهرك مفقود
تتكالب على الأوساخ ثم تزعم أنك تجمع المال من الحلال ويحك أين الحلال فتجمعه
وبعد فلو كان الحلال موجودا لديك أما تخاف أن يتغير عند الغنى قلبك وقد بلغنا أن
بعض الصحابة كان يرث المال الحلال فيتركه مخافة أن يفسد قلبه أفتطمع أن يكون قلبك
أنقى من قلوب الصحابة فلا يزول عن شيء من الخلق في أمرك وأحوالك لئن ظننت ذلك لقد
أحسنت الظن بنفسك الأمارة بالسوء ويحك إني لك ناصح أرى لك أن تقنع بالبلغة ولا
تجمع المال لأعمال البر ولا تتعرض للحساب فإنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه و
سلم أنه قال من نوقش الحساب عذب // حديث من نوقش الحساب عذب متفق عليه من حديث
عائشة وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم يؤتى برجل يوم القيامة وقد جمع مالا من حرام وأنفقه في
حرام فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالا من حلال وأنفقه في حرام
فيقال اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالا من حرام وأنفقه في حلال فيقال
اذهبوا به إلى النار ويؤتى برجل قد جمع مالا من حلال وأنفقه في حلال فيقال له قف
لعلك قصرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها وفرطت في شيء من
ركوعها وسجودها ووضوئها فيقول لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في حلال ولم أضيع شيئا
فرضت علي فيقال لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب أو ثوب باهيت به فيقول لا
يا رب لم أختل ولم أباه في شيء فيقال لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل فيقول لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في
حلال ولم أضيع شيئا مما فرضت علي ولم أختل ولم أباه ولم أضيع حق أحد أمرتني أن
أعطيه قال فيجئ أولئك فيخاصمونه فيقولون يا رب أعطيته وأغنيته وجعلته بين أظهرنا
وأمرته أن يعطينا فإن كان أعطاهم وما ضيع من ذلك شيئا من الفرائض ولم يختل في شيء
فيقال قف الآن هات شكر كل نعمة أنعمتها عليك من أكلة أو شربة أو لذة فلا يزال يسئل
// حديث يؤتى بالرجل يوم القيامة وقد جمع مالا من حرام وأنفقه في حرام فيقال
اذهبوا به إلى النار الحديث بطوله لم أقف له على أصل
ويحك فمن ذا الذي يتعرض لهذه المسألة التي كانت لهذا الرجل الذي تقلب في الحلال
وقام بالحقوق كلها وأدى الفرائض بحدودها حوسب هذه المحاسبة فكيف ترى يكون حال
أمثالنا الغرقى في فتن الدنيا وتخاليطها وشبانها وشهواتها وزينتها ويحك لأجل هذه
المسائل يخاف المتقون أن يتلبسوا بالدنيا فرضوا بالكفاف منها وعملوا بأنواع البر
من كسب المال فلك ويحك بهؤلاء الأخيار أسوة فإن أبيت ذلك وزعمت أنك بالغ من الورع
والتقى ولم تجمع المال إلا من حلال بزعمك للتعفف والبذل في سبيل الله ولم تنفق
شيئا من الحلال إلا بحق ولم يتغير بسبب المال قلبك عما يحب الله ولم تسخط الله في
شيء من سرائرك وعلانيتك ويحك فإن كنت كذلك ولست كذلك فقد ينبغي لك أن ترضى بالبلغة
وتعتزل ذوي الأموال إذا وقفوا للسؤال وتسق مع الرعيل الأول في
زمرة
المصطفى لا حبس عليك للمسألة والحساب فإما سلامة وإما عطب
فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يدخل صعاليك المهاجرين قبل
أغنيائهم الجنة بخمسمائة عام // حديث يدخل صعاليك المهاجرين قبل أغنيائهم الجنة
بخمسمائة عام أخرجه الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي سعيد بلفظ فقراء مكان
صعاليك ولهما وللنسائي في الكبرى من حديث أبي هريرة يدخل الفقراء الجنة الحديث
ولمسلم من حديث عبد الله بن عمر إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء إلى الجنة
بأربعين خريفا
وقال عليه السلام يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيأكلون ويتمتعون
والآخرون جثاة على ركبهم فيقول قبلكم طلبتي أنتم حكام الناس وملوكهم فأروني ماذا
صنعتم فيما أعطيتكم // حديث يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيتمتعون
ويأكلون الحديث لم أر له أصلا
وبلغنا أن بعض أهل العلم قال
ما سرني أن لي حمر النعم ولا أكون في الرعيل الأول مع محمد صلى الله عليه و سلم
وحزبه
يا قوم فاستبقوا السباق مع المخفين في زمرة المرسلين عليهم السلام وكونوا وجلين من
التخلف والانقطاع عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وجل المتقين
لقد بلغني أن بعض الصحابة وهو أبو بكر رضي الله عنه عطش فاستسقى فأتي بشربة من ماء
وعسل فلما ذاقه خنقته العبرة ثم بكى وأبكى ثم مسح الدموع عن وجهه وذهب ليتكلم فعاد
في البكاء فلما أكثر البكاء قيل له أكل هذا من أجل هذه الشربة قال نعم بينا أنا
ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وما معه أحد في البيت غيري فجعل يدفع
عن نفسه وهو يقول إليك عني فقلت له فداك أبي وأمي ما أرى بين يديك أحدا فمن تخاطب
فقال هذه الدنيا تطاولت إلي بعنقها ورأسها فقالت لي
يا محمد خذني فقلت
إليك عني فقالت
إن تنج مني يا محمد فإنه لا ينجو مني من بعدك فأخاف أن تكون هذه قد لحقتني تقطعني
عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديث إن بعض الصحابة عطش فاستسقى بشربة ماء وعسل
الحديث في دفع النبي صلى الله عليه و سلم الدنيا عن نفسه وقوله إليك عني الحديث
أخرجه البزار والحاكم من حديث زيد بن أرقم وقال كنا عند أبي بكر فدعا بشراب فأتي بماء
وعسل الحديث قال الحاكم صحيح الإسناد قلت بل ضعيف وقد تقدم قبل هذا الكتاب
يا قوم فهؤلاء الأخبار بكوا وجلا أن تقطعهم عن رسول الله صلى الله عليه و سلم شربة
من حلال ويحك أنت في أنواع من النعم والشهوات من مكاسب السحت والشبهات لا تخشى
الانقطاع أف لك ما أعظم جهلك ويحك فإن تخلفت في القيامة عن رسول الله صلى الله
عليه و سلم محمد المصطفى لتنظرن إلى أهوال جزعت منها الملائكة والأنبياء ولئن قصرت
عن السباق فليطولن عليك اللحاق ولئن أردت الكثرة لتصيرن إلى حساب عسير ولئن لم
تقنع بالقليل لتصيرن إلى وقوف طويل وصراخ وعويل ولئن رضيت بأحوال المتخلفين لتقطعن
عن أصحاب اليمين وعن رسول رب العالمين ولتبطئن عن نعيم المتنعمين ولئن خالفت أحوال
المتقين لتكونن من المحتسبين في أهوال يوم الدين
فتدبر ويحك ما سمعت وبعد
فإن زعمت أنك في مثال خيار السلف قانع بالقليل زاهد في الحلال بذول لمالك مؤثر على
نفسك لا تخشى الفقر ولا تدخر شيئا لغدك مبغض للتكاثر والغنى راض بالفقر والبلاء
فرح بالقلة والمسكنة مسرور بالذل والضعة كاره للعلو والرفعة قوي في أمرك لا يتغير
عن الرشد قلبك قد حاسبت نفسك في الله وحكمت أمورك كلها على ما وافق رضوان الله ولن
توقف في المسألة ولن يحاسب مثلك من المتقين
وإنما تجمع المال الحلال للبذل في سبيل الله ويحك أيها المغرور فتدبر الأمر وأمعن
النظر أما علمت أن ترك الاشتغال بالمال وفراغ القلب للذكر والتذكر والتذكار والفكر
والاعتبار
أسلم للدين وأيسر للحساب وأخف للمسألة وآمن من روعات القيامة وأجزل للثواب وأعلى
لقدرك عند الله أضعافا
بلغنا عن بعض الصحابة أنه قال لو أن رجلا في حجره دنانير يعطيها والآخر يذكر الله
لكان
الذاكر
أفضل
وسئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر قال تركه أبر به
وبلغنا أن بغض خيار التابعين سئل عن رجلين أحدهما
طلب الدنيا حلالا فأصابها فوصل بها رحمه وقدم لنفسه
وأما الآخر
فإنه جانبها فلم يطلبها ولم يتناولها فأيهما أفضل قال
بعيد والله ما بينهما الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها
ويحك فهذا الفضل لك بترك الدنيا على من طلبها ولك في العاجل إن تركت الأشتغال
بالمال وإن ذلك أروح لبدنك وأقل لتعبك وأنعم لعيشك وأرضى لبالك وأقل لهمومك
فما عذرك في جمع المال وأنت بترك المال أفضل ممن طلب المال لأعمال البر نعم وشغلك
بذكر الله أفضل من بذل المال في سبيل الله فاجتمع لك راحة العاجل مع السلامة
والفضل في الآجل
وبعد
فلو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى بنبيك إذ هداك
الله به وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا
ويحك تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا فسر مع لواء
المصطفى سابقا إلى جنة المأوى
فإنه بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال سادات المؤمنين في الجنة من إذا
تغدى لم يجد عشاء وإذا استقرض لم يجد قرضا وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه ولم
يقدر على أن يكتسب ما يغنيه يمسي مع ذلك ويصبح راضيا عن ربه فأولئك مع الذين أنعم
الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا // حديث
سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء الحديث عزاه صاحب مسند الفردوس
للطبراني من رواية أبي حازم عن أبي هريرة مختصرا بلفظ سادة الفقراء في الجنة
الحديث ولم أره في معاجم الطبراني
ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر
والفضل تجمعه لا ولكنك خوفا من الفقر تجمعه وللنعيم والزينة والتكاثر والفخر
والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه ثم تزعم أنك لأعمال البر تجمع
المال ويحك راقب الله واستحي من دعواك أيها المغرور
ويحك إن كنت مفتونا بحب المال والدنيا فكن مقرا أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة
ومجانبة الفضول نعم وكن عند جمع المال مزريا على نفسك معترفا بإساءتك وجلا من
الحساب فذلك أنجى لك وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال
إخواني اعلموا أن دهر الصحابة كان الحال فيه موجودا وكانوا مع ذلك من أورع الناس
وأزهدهم في المباح لهم ونحن في دهر الحلال فيه مفقودا وكيف لنا من الحلال مبلغ
القوت وستر العورة
فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه
وبعد فأين لنا بمثل تقوى الصحابة وورعهم ومثل زهدهم واحتياطهم وأين لنا مثل
ضمائرهم وحسن نياتهم دهينا ورب السماء بأدواء النفوس وأهوائها وعن قريب يكون
الورود فيا سعادة المخفين يوم النشور وحزن طويل لأهل التكاثر والتخاليط وقد نصحت
لكم إن قبلتم والقابلون لهذا قليل
وفقنا الله وإياكم فكل خير برحمته آمين
هذا آخر كلامه وفيه كفاية في إظهار فضل الفقر على الغنى ولا مزيد عليه
ويشهد لذلك جميع الأخبار التي أوردناها في كتاب ذم الدنيا وفي كتاب الفقر والزهد
ويشهد له أيضا ما روي عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب قال يا رسول الله ادع
الله أن يرزقني مالا قال يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه قال يا
رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا قال يا ثعلبة أما لك في أسوة أما ترضى أن تكون
مثل نبي الله تعالى أما والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة
لسارت قال والذي بعثك بالحق نبيا لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأعطين كل ذي حق
حقه ولأفعلن ولأفعلن قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللهم ارزق ثعلبة مالا
فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت
عليه
المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة
ويدع ما سواهما ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الجماعة إلا الجمعة وهي تنمو كما ينمو
الدود حتى ترك الجمعة وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة فيسألهم عن الأخبار في المدينة
وسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه فقال ما فعل ثعلبة بن حاطب فقيل يا رسول
الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة وأخبر بأمره كله فقال يا ويح ثعلبة يا ويح
ثعلبة يا ويح ثعلبة قال وأنزل الله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها
وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وأنزل الله تعالى فرائض الصدقة فبعث رسول الله صلى
الله عليه و سلم رجلا من جهينة ورجلا من بني سليم عن الصدقة وكتب لهما كتابا بأخذ
الصدقة وأمرهما أن يخرجا فيأخذا من المسلمين وقال مرا بثعلبة بن حاطب وبفلان رجل
من بني سليم وخذا صدقاتهما فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا جزيه ما هذه إلا أخت
الجزية انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلى فانطلقا نحو السليمي فسمع بهما فقام إلى
خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم أستقبلهما بها فلما رأوها قالوا لا يجب عليك ذلك
وما نريد نأخذ هذا منك قال بلى خذوها فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة
فسألاه الصدقة فقال أروني كتابكما فنظر فيه فقال هذه أخت الجزية انطلقا حتى أرى
رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه و سلم فلما رآهما قال يا ويح ثعلبة قبل
أن يكلماه ودعا للسليمي فأخبراه بالذي صنع ثعلبة وبالذي صنع السليمي فأنزل الله
تعالى في ثعلبة ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين
فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم
يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون وعند رسول الله صلى الله عليه
و سلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ما أنزل الله فيه فخرج حتى أتى ثعلبة فقال لا أم لك
يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه و سلم
فسأله أن يقبل منه صدقته فقال إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك فجعل يحثو التراب
على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا عملك أمرتك فلم تطعني فلما أبى
أن يقبل منه شيئا رجع إلى منزله فلما قبض رسول صلى الله عليه و سلم جاء بها إلى
أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه وجاء بها إلى عمر بن الخطاب رضي
الله عنه فأبى أن يقبلها منه وتوفي ثعلبة بعد في خلافة عثمان // حديث أبي أمامة أن
ثعلبة بن حاطب قال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا قال يا ثعلبة قليل تؤدي
شكره خير من كثير لا تطيقه الحديث بطوله أخرجه الطبراني بسند ضعيف
فهذا طغيان المال وشؤمه وقد عرفته من هذا الحديث ولأجل بركة الفقر وشؤم الغنى آثر
رسول الله صلى الله عليه و سلم الفقر لنفسه ولأهل بيته حتى روى عن عمران بن حصين
رضي الله عنه أنه قال كانت لي من رسول الله منزلة وجاه فقال يا عمران إن لك عندنا
منزلة وجاها فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت نعم
بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقام وقمت معه حتى وقفت بباب منزل فاطمة فقرع الباب
وقال السلام عليكم أأدخل فقالت ادخل يا رسول الله قال أنا ومن معي قالت ومن معك يا
رسول الله فقال عمران بن حصين فقالت والذي بعثك بالحق نبيا ما علي إلا عباءة فقال
اصنعي بها هكذا وهكذا وأشار بيده فقالت هذا جسدي فقد واريته فكيف برأسي فألقى
إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال شدي بها على رأسك ثم أذنت له فدخل فقال السلام
عليك يابنتاه كيف أصبحت قالت أصبحت والله وجعة وزادني وجعا على ما بي أني لست أقدر
على طعام آكله فقد أجهدني الجوع فبكى رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال لا تجزعي
يا بنتاه فوالله ما ذقت طعاما منذ ثلاثة وإني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي
لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا
ثم
ضرب بيده على منكبها وقال لها أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة فقالت فأين
آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران فقال آسية سيدة نساء عالمها ومريم سيدة نساء
عالمها وخديجة سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك إنكن في بيوت من قصب لا أذى
فيها ولا صخب ثم قال لها اقنعي بابن عمك فوالله لقد زوجتك سيدا في الدنيا سيدا في
الآخرة // حديث عمران بن حصين كانت لي من رسول الله صلى الله عليه و سلم منزلة
وجاء فقال فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم الحديث بطوله
وفيه لقد زوجتك سيدا في الدنيا وسيدا في الآخرة لم أجده من حديث عمران ولأحمد
والطبراني من حديث معقل بن يسار وضأت النبي صلى الله عليه و سلم ذات يوم فقال هل
لك في فاطمة تعودها الحديث وفيه أما ترضين أن زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما
وأعظمهم حلما وإسناده صحيح
فانظر الآن إلى حال فاطمة رضي الله عنها وهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه و
سلم كيف آثرت الفقر وتركت المال
ومن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم وما ورد من أخبارهم وآثارهم لم يشك في
أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات إذ أقل ما فيه من أداء الحقوق
والتوقي من الشبهات والصرف إلى الخيرات اشتغال لهم بإصلاحه وانصرافه عن ذكر الله
إذ لا ذكر إلا مع الفراغ ولا فراغ مع شغل المال
وقد روي عن جرير عن ليث قال صحب رجل عيسى ابن مريم عليه السلام فقال أكون معك
وأصحابك فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة فأكلا
رغيفين وبقي رغيف ثالث فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب ثم رجع فلم يجد
الرغيف فقال للرجل من أخذ الرغيف فقال لا أدري قال فانطق ومعه صاحبه فرأى ظبية
ومعها خشفان لها قال فدعا أحدهما فأتاه فذبحه فاشتوى منه فأكل هو وذلك الرجل ثم
قال للخشف قم بإذن الله فقام فذهب فقال للرجل أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ
الرغيف فقال لا أدري ثم انتهيا إلى وادي ماء فأخذ عيسى بيد الرجل فمشيا على الماء
فلما جاوزا قال له أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف فقال لا أدري فانتهيا
إلى مفازة فجلسا فأخذ عيسى عليه السلام يجمع ترابا وكثيبا ثم قال كن ذهبا بإذن
الله تعالى فصار ذهبا فقسمه ثلاثة أثلاث ثم قال ثلث لي وثلث لك وثلث لمن أخذ
الرغيف فقال أنا الذي أخذت الرغيف فقال كله لك وفارقه عيسى عليه السلام فانتهى
إليه رجلان في المفازة ومعه المال فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه فقال هو بيننا
أثلاثا فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري لنا طعاما نأكله قال فبعثوا أحدهم فقال
الذي بعث لأي شيء أقاسم هؤلاء هذا المال لكني أضع في هذا الطعام سما فأقتلهما وآخذ
المال وحدي قال ففعل وقال ذانك الرجلان لأي شيء نجعل لهذا ثلث المال ولكن إذا رجع
قتلناه واقتسمنا المال بيننا قال فلما رجع إليهما قتلاه وأكلا الطعام فماتا فبقي
ذلك المال في المفازة وأولئك الثلاثة عنده قتلى فمر بهم عيسى عليه السلام على تلك
الحالة فقال لأصحابه هذه الدنيا فاحذروها
وحكي أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس بأيديهم شيء مما يستمتع به الناس من
دنياهم قد احتفروا قبورا فإذا أصبحوا تعهدوا تلك القبور وكنسوها وصلوا عندها ورعوا
البقل كما ترعى البهائم وقد قيض لهم في ذلك معايش من نبات الأرض وأرسل ذو القرنين
إلى ملكهم فقال له أجب ذو القرنين فقال مالي إليه حاجة فإن كان له حاجة فليأتني
فقال ذو القرنين صدق فأقبل إليه ذو القرنين وقال له أرسلت إليك لتأتيني فأبلت فها
أنا قد جئت فقال لو كان لي إليك حاجة لأتيتك فقال له ذو القرنين مالي أراكم على
حالة لم أر أحدا من الأمم عليها قال وما ذاك قال ليس لكم دنيا ولا شيء أفلا اتخذتم
الذهب والفضة فاستمتعتم بهما قالوا إنما كرهناهما
لأن
أحدا لم يعط منهما شيئا إلا تاقت نفسه ودعته إلى ما هو أفضل منه
فقال ما بالكم قد احتفرتم قبورا فإذا أصبحتم تعاهدتموها فكنستموها وصليتم عندها
قالوا أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل
قال وأراكم لا طعام لكن إلا البقل من الأرض أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام
فاحتلبتموها وركبتموها فاستمتعتم بها قالوا كرهنا أن نجعل بطوننا قبورا لها ورأينا
في نبات الأرض بلاغا وإنما يكفي ابن أدنى العيش من الطعام وإيما ما جاوز الحنك من
الطعام لم نجد له طعما كائنا ما كان من الطعام ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين
فتناول جمجمة فقال ياذا القرنين أتدري من هذا قال لا ومن هو قال ملك من ملوك الأرض
أعطاه الله سلطانا على أهل الأرض فغشم وظلم وعتا فلما رأى الله سبحانه ذلك منه
جسمه بالموت فصار كالحجر الملقى وقد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته
ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال ياذا القرنين هل تدري من هذا قال لا أدري ومن هو
قال هذا ملك ملكه الله بعده قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالناس من الغشم والظلم
والتجبر فتواضع وخشع لله عز و جل وأمر بالعدل في أهل مملكته فصار كما ترى قد أحصى
الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته
ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال
وهذه الجمجمة قد كانت كهذين فانظر ياذا القرنين ما أنت صانع فقال له ذو القرنين هل
لك في صحبتي فاتخذك أخا ووزيرا وشريكا فيما آتاني الله من هذا المال قال ما أصلح
أنا وأنت في مكان ولا أن نكون جميعا قال ذو القرنين ولم قال من أجل أن الناس كلهم
لك عدو ولي صديق قال ولم قال يعادونك لما في يديك من الملك والمال والدنيا ولا أجد
أحدا يعاديني لرفضي لذلك ولما عندي من الحاجة وقلة الشيء قال فانصرف عنه ذو
القرنين متعجبا منه ومتعظا به فهذه الحكايات تدلك على آفات الغنى مع ما قدمناه من
قبل وبالله التوفيق
تم كتاب ذم المال والبخل بحمد الله تعالى وعونه ويليه
كتاب ذم الجاه والرياء
كتاب ذم الجاه والرياء وهو الكتاب الثامن من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم
الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله علام الغيوب المطلع على سرائر القلوب المتجاوز عن كبائر الذنوب العالم
بما تجنه الضمائر من خفايا الغيوب البصير بسرائر النيات وخفافا الطويات الذي لا
يقبل من الأعمال إلا ما كمل ووفى وخلص عن شوائب الرياء والشرك وصفا فإنه المنفرد
بالملكوت فهو أغنى الأغنياء عن الشرك
والصلاة والسلام على محمد وآله وأصحابه المبرئين من الخيانة والإفك وسلم تسليما
كثيرا
أما بعد فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء
والشهوة الخفية التي هي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة
الظلماء // حديث إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية أخرجه ابن ماجه
والحاكم من حديث شداد بن أوس وقالا الشرك بدل الرياء وفسراه بالرياء قال الحاكم
صحيح الإسناد قلت بل ضعيفه وهو عند ابن المبارك في الزهد ومن طريقه عند البيهقي في
الشعب بلفظ المصنف
ولذلك عجز عن الوقوف على غوائلها سماسرة
العلماء
فضلا عن عامة العباد والأتقياء وهو من أواخر غوائل النفس وبواطن مكايدها
وإنما يبتلى به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة فإنهم
مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشبهات وحملوها بالقهر
على أصناف العبادات عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح
فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم فوجدت مخلصا من مشقة
المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار والتعظيم فسارعت إلى
إظهار الطاعة وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق وفرحت بحمد الناس ولم
تقنع بحمد الله وحده وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه الشهوات وتوقيه الشبهات وتحمله
مشاق العبادات أطلقوا ألسنتهم بالمدح والثناء وبالغوا في التقريظ والإطراء ونظروا
إليه بعين التوقير والاحترام وتبركوا بمشاهدته ولقائه ورغبوا في بركة دعائه وحرصوا
على اتباع رأيه وفاتحوه بالخدمة والسلام وأكرموه في المحافل غاية الإكرام وسامحوه
في البيع والمعاملات وقدموه في المجالس وآثروه بالمطاعم والملابس وتصاغروا له
متواضعين وانقادوا له في أغراضه موقرين فأصابت النفس في ذلك لذة هي أعظم اللذات
وشهوة هي أغلب الشهوات فاستحقرت فيه ترك المعاصي والهفوات واستلانت خشونة المواظبة
على العبادات لإدراكها في الباطن لذة اللذات وشهوة الشهوات فهو يظن أن حياته بالله
وبعبادته المرضية وإنما حياته بهذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول
النافذة القوية ويرى أنه مخلص في طاعة الله ومجتنب لمحارم الله والنفس قد أبطنت
هذه الشهوة تزيينا للعباد وتصنعا للخلق وفرحا بما نالت من المنزلة والوقار وأحبطت
بذلك ثواب الطاعات وأجور الأعمال وقد أثبتت اسمه في جريدة المنافقين وهو يظن أنه
عند الله من المقربين
وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون ومهواة لا يرقى منها إلا المقربون
ولذلك قيل آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة
وإذا كان الرياء هو الداء الدفين الذي هو أعظم شبكة للشياطين وجب شرح القول في
سببه وحقيقته ودرجاته وأقسامه وطرق معالجته والحذر منه ويتضح الغرض منه في ترتيب
الكتاب على شطرين الشطر الأول في حب الجاه والشهرة وفيه بيان ذم الشهرة وبيان
فضيلة الخمول وبيان ذم الجاه وبيان معنى الجاه وحقيقته وبيان السبب في كونه محبوبا
أشد من حب المال وبيان أن الجاه كمال وهمي وليس بكمال حقيقي وبيان ما يحمد من حب
الجاه وما يذم وبيان السبب في حب المدح والثناء وكراهية الذم
وبيان العلاج في حب الجاه وبيان علاج حب المدح وبيان علاج كراهة الذم وبيان اختلاف
أحوال الناس في المدح والذم
فهي اثنا عشر فصلا منها تنشأ معاني الرياء فلا بد من تقديمها والله الموفق للصواب
بلطفه ومنه وكرمه
بيان ذم الشهرة وانتشار الصيت
اعلم أصلحك الله أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار وهو مذموم بل المحمود
الخمول إلا من شهره الله تعالى لنشر دينه من غير تكلف طلب الشهرة منه
قال أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حسب امرئ من الشر أن يشير
الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه إلا من عصمه الله // حديث أنس حسب امرئ من
الشر إلا من عصمه أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه أخرجه البيهقي في
الشعب بسند ضعيف
وقال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم بحسب المرء من الشر إلا
من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه
بالأصابع
في دينه ودنياه
إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم // حديث جابر بحسب امرئ
من الشر الحديث مثله وزاد في آخره إن الله لا ينظر إلى صوركم الحديث هو غير معروف
من حديث جابر معروف من حديث أبي هريرة رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب
بسند ضعيف مقتصرين على أوله ورواه مسلم مقتصرا على الزيادة التي في آخره وروى
الطبراني والبيهقي في الشعب أوله من حديث عمران بن حصين بلفظ كفى بالمرء إثما
ورواه ابن يونس في تاريخ الغرباء من حديث ابن عمر بلفظ هلاك بالرجل وفسر دينه
بالبدعة ودنياه بالفسق وإسنادهما ضعيف
ولكن ذكر الحسن رحمه الله الحديث تأويلا ولا بأس به إذ روى هذا الحديث فقيل له يا
أبا سعيد إن الناس إذا رأوك أشاروا إليك بالأصابع فقال إنه لم يعن هذا وإنما عنى
به المبتدع في دينه والفاسق في دنياه وقال علي كرم الله وجهه تبذل ولا تشتهر ولا
ترفع شخصك لتذكر وتعلم واكتم واصمت تسلم تسر الأبرار وتغيظ الفجار
وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله ما صدق الله من أحب الشهرة
وقال أيوب السختياني والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه
وعن خالد بن معدان
أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة
وعن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام
ورأى طلحة قوما معه نحوا من عشرة فقال ذباب طمع وفراش نار
وقال سليم بن حنظلة بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة
فقال انظر يا أمير المؤمنين ما تصنع فقال إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع وعن
الحسن قال خرج ابن مسعود يوما من منزله فاتبعه ناس فالتفت إليهم فقال علام تتبعوني
فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان وقال الحسن إن خفق
النعال حول الرجال قلما تلبث عليه قلوب الحمقى
وخرج الحسن ذات يوم فاتبعه قوم فقال هل لكم من حاجة وإلا فما عسى أن يبقى هذا من
قلب المؤمن
وروي أن رجلا صحب ابن محيريز في سفر فلما فارقه قال أوصني فقال إن استطعت أن تعرف
ولا تعرف وتمشي ولا يمشى إليك وتسأل ولا تسئل فافعل
وخرج أيوب في سفر فشيعه ناس كثيرون فقال لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني
لهذا كاره لخشيت المقت من الله عز و جل
وقال معمر عاتبت أيوب على طول قميصه فقال
إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله وهي اليوم في تشميره
وقال بعضهم كنت مع أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال إياكم وهذا الحمار
الناهق يشير به إلى طلب الشهرة
وقال الثوري كانوا يكرهون الشهرة من الثياب الجيدة والثياب الرديئة إذ الأبصار
تمتد إليهما جميعا
وقال رجل لبشر بن الحارث
أوصني فقال أخمل ذكرك وطيب مطعمك
وكان حوشب يبكي ويقول بلغ اسمي مسجد الجامع
وقال بشر ما أعرف رجلا أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح
وقال أيضا لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس
رحمة الله عليه وعليهم أجمعين
بيان فضيلة الخمول
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على
الله لأبره // حديث رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم
البراء بن مالك أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على
الله لأبره وللحاكم رب أشعث أغبر ذي طمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله
لأبره وقال صحيح الإسناد ولأبي نعيم في الحلية من حديث أنس ضعيف رب ذي طمرين لا
يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك وهو عند الحاكم نحوه بهذه
الزيادة وقال صحيح الإسناد قلت بل ضعيفه
منهم البراء بن مالك وقال ابن مسعود قال النبي صلى الله عليه و سلم رب ذي طمرين لا
يؤبه له لو أقسم على الله لأبره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم
يعطه من الدنيا شيئا // حديث ابن مسعود رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله
لأبره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاء الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئا أخرجه
ابن أبي الدنيا ومن طريقه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف
وقال صلى الله عليه و سلم ألا
أدلكم
على أهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره وأهل النار كل متكبر مستكبر
جواظ // حديث ألا أدلكم على أهل الجنة كل ضعيف مستضعف الحديث متفق عليه من حديث
حارثة بن وهب
وقال أبو هريرة قال صلى الله عليه و سلم إن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين لا
يؤبه له الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا
وإذا قالوا لم ينصت لقولهم حوائج أحدهم تتخلل في صدره لو قسم نوره يوم القيامة على
الناس لوسعهم وقال صلى الله عليه و سلم إن من أمتي من لو أتى أحدكم يسأله دينارا
لم يعطه إياه ولو سأله درهما لم يعطه إياه ولو سأله فلسا لم يعطه إياه ولو سأل
الله الجنة لأعطاه إياها ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها وما منعها إياه إلا
لهوانها عليه رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره // حديث إن من أمتي
من لو أتى أحدكم فسأله دينارا لم يعطه إياه الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من
حديث ثوبان بإسناد صحيح دون قوله ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها وما منعها إياه
إلا لهوانها عليه
وروي أن عمر رضي الله عنه دخل المسجد فرأى معاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى
الله عليه و سلم فقال ما يبكيك فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن
اليسير من الرياء وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن
حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة // حديث معاذ بن جبل
إن اليسير من الرياء شرك وأن الله يحب الأتقياء الأخفياء الحديث أخرجه الطبراني
والحاكم واللفظ له وقال صحيح الإسناد قلت بل ضعيفه فيه عيسى بن عبد الرحمن وهو
الزرقي متروك
وقال محمد بن سويد قحط أهل المدينة وكان بها رجل صالح لا يؤبه له ملازم لمسجد
النبي صلى الله عليه و سلم هم في دعائهم إذ جاءهم رجل عليه طمران خلقان فصلى
ركعتين أوجز فيهما ثم بسط يديه فقال يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة فلم
يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغمام وأمطروا حتى صاح أهل المدينة من
مخافة الغرق فقال يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم وسكن وتبع الرجل
صاحبه الذي استسقى حتى عرف منزله ثم بكر عليه فخرج إليه فقال إني أتيتك في حاجة فقال
ما هي قال تخصني بدعوة قال سبحان الله أنت أنت وتسألني أن أخصك بدعوة ثم قال ما
الذي بلغك ما رأيت قال أطعت الله فيما أمرني ونهاني فسألت الله فأعطاني
وقال ابن مسعود كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى أحلاس البيوت سرج الليل جدد
القلوب خلقان الثياب تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض
وقال أبو أمامة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى إن أغبط
أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر كان
غامضا في الناس لا يشار إليه بالأصابع ثم صبر على ذلك قال ثم نقر رسول الله صلى الله
عليه و سلم بيده فقال عجلت منينه وقل تراثه وقلت بواكيه // حديث أبي أمامة إن أغبط
أوليائي عندي مؤمن خفيف الخاذ الحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسنادين ضعيفين
وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما
أحب عباد الله إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء قال الفارون بدينهم يجتمعون يوم
القيامة إلى المسيح عليه السلام
وقال الفضيل بن عياض بلغني أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده ألم أنعم
عليك ألم أسترك ألم أخمل ذكرك وكان الخليل بن أحمد يقول اللهم اجعلني عندك من أرفع
خلقك واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك واجعلني عند الناس من أوسط خلقك
وقال الثوري وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب قوت وعناء
وقال إبراهيم بن أدهم ما قرت عيني يوما في الدنيا قط إلا مرة بت ليلة في بعض مساجد
قرى الشام وكان بي البطن فجرني المؤذن برجليA حتى أخرجني من
المسجد
وقال الفضيل إن قدرت على أن لا تعرف فافعل
وما
عليك أن لا تعرف وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا
كنت محمودا عند الله تعالى فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة وفضيلة الخمول
وإنما المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه والمنزلة في القلوب وحب الجاه هو
منشأ كل فساد
فإن قلت فأي شهوة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء فكيف
فاتهم فضيلة الخمول فاعلم أن المذموم طلب الشهرة فأما وجودها من جهة الله سبحانه
من غير تكلف من العبد فليس بمذموم
نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء وهم كالغريق الضعيف إذا كان معه جماعة من
الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم فيهلك معهم
وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك
بيان ذم الجاه ومعناه
وقال الله تعالى تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا
جمع بين إرادة الفساد والعلو وبين أن الدار الآخرة للخالي عن الإرادتين جميعا
فقال عز و جل ومن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها
لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما
كانوا يعملون وهذا أيضا متناول بعمومه لحب الجاه فإنه أعظم لذة من لذات الحياة
الدنيا وأكثر زينة من زينتها
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما
ينبت الماء البقل // حديث المال والجاه ينبتان النفاق الحديث تقدم في أول هذا
الباب ولم أجده
وقال صلى الله عليه و سلم ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأسرع إفسادا من حب
الشرف والمال في دين الرجل المسلم // حديث ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم
الحديث تقدم أيضا هناك
وقال صلى الله عليه و سلم لعلي كرم الله وجهه إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب
الثناء // حديث إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء لم أره بهذا اللفظ وقد
تقدم في العلم من حديث أنس ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع الحديث ولأبي منصور
الديلمي في مسند الفردوس من حديث ابن عباس بسند ضعيف حب الثناء من الناس يعمي ويصم
نسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه
بيان معنى الجاه وحقيقته
اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا
ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها
وطاعتها
وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى
الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك
قلوب الناس أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه
وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع
من المعاملات ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات فكل من اعتقد القلب
فيه وصفا من أوصاف الكمال انقاد له وتسخر له بحسب قوة اعتقاد القلب وبحسب درجة ذلك
الكمال عنده وليس يشترط أن يكون الوصف كمالا في نفسه بل يكفى أن يكون كمالا عنده
وفي اعتقاده وقد يعتقد ما ليس كمالا كمالا ويذعن قلبه للموصوف به انقيادا ضروريا
بحسب اعتقاده فإن انقياد القلب حال للقلب
وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها وكما أن محب المال يطلب
ملك الأرقاء والعبيد
فطالب
الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم بل الرق الذي
يطلبه صاحب الجاه أعظم لأن المالك يملك العبد قهرا والعبد متأب بطبعه ولو خلى
ورأيه انسل عن الطاعة وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعا ويبغي أن تكون له الأحرار
عبيدا بالطبع والطوع مع الفرح بالعبودية والطاعة له فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك
الرق بكثير
فإذا معنى الجاه قيام المنزلة في قلوب الناس أي اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال
فيه فيقدر ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على
القلوب وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه
فهذا هو معنى الجاه وحقيقتة وله ثمرات كالمدح والإطراء فإن المعتقد للكمال لا يسكت
عن ذكر ما يعتقده فيثني عليه وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته
بقدر اعتقاده فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه وكالإيثار وترك المنازعة والتعظيم
والتوقير بالمفاتحة بالسلام وتسليم الصدر في المحافل والتقديم في جميع المقاصد
فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب
على اعتقاد صفات الكمال في الشخص إما بعلم أو عبادة أو حسن خلق أو نسب أو ولاية أو
جمال في صورة أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالا فإن هذه الأوصاف كلها
تعظم محله في القلوب فتكون سببا لقيام الجاه والله تعالى أعلم
بيان سبب كون الجاه محبوبا بالطبع حتى لا يخلو عنه قلب إلا بشديد
المجاهدة
اعلم أن السبب الذي يقتضي كون الذهب والفضة وسائر أنواع الأموال محبوبا هو بعينه
يقتضي كون الجاه محبوبا بل يقتضي أن يكون أحب من المال كما يقتضي أن يكون يكون
الذهب أحب من الفضة مهما تساويا في المقدار وهو أنك تعلم أن الدراهم والدنانير لا
غرض في أعيانهما إذ لا تصلح لمطعم ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس وإنما هي والحصباء
بمثابة واحدة ولكنهما محبوبان لأنهما وسيلة إلى جميع المحاب وذريعة إلى قضاء الشهوات
فكذلك الجاه لأن معنى الجاه ملك القلوب وكما أن ملك الذهب والفضة يفيد قدرة يتوصل
الإنسان بها إلى سائر أغراضه فكذلك ملك القلوب من الأحرار والقدرة على استسخارها
يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض فالاشتراك في السبب اقتضى الاشتراك في
المحبة وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه أحب من المال ولملك الجاه
ترجيح على ملك المال من ثلاثة أوجه
الأول أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصيل بالمال إلى الجاه فالعالم أو
الزاهد الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له فإن أموال أرباب
القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف
بصفة كمال إذا وجد كنزا ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه
لم يتيسر له فإذا الجاه آلة ووسيلة إلى المال فمن ملك الجاه فقد ملك المال ومن ملك
المال لم يملك الجاه بكل حال فلذلك صار الجاه أحب
الثاني هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلمة
ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس والخزائن ويتطرق إليه أخطار كثيرة وأما القلوب إذا
ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهي على التحقيق خزائن عتيدة لا يقدر عليها السراق ولا
تتناولها أيدي النهاب والغصاب وأثبت الأموال العقار ولا يؤمن فيه الغصب والظلم ولا
يستغني عن المراقبة والحفظ وأما خزائن القلوب فهي محفوظة محروسة بأنفسها والجاه في
أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها
نعم إنما تغضب القلوب بالتصريف وتقبيح الحال وتغيير الاعتقاد فيما صدق به من أوصاف
الكمال وذلك مما يهون دفعه ولا يتيسر على محاولة فعله
الثالث
أن ملك القلوب يسرى وينمى ويتزايد من غير حاجة إلى تعب ومقاساة فإن القلوب إذا
أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها
فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص ذلك القلب أيضا له ولهذا المعنى يحب الطبع الصيت
وانتشار الذكر
لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ودعاها إلى الإذعان والتعظيم فلا يزال
يسري من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين وأما المال فمن ملك منه شيئا فهو
مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة والجاه أبدا في النماء بنفسه ولا
مرد لموقعه والمال واقف ولهذا إذا عظم الجاه وانتشر الصيت وانطلقت الألسنة بالثناء
استحقرت الأموال في مقابلته فهذه مجامع ترجيحات الجاه على المال
وإذا فصلت كثرت وجوه الترجيح
فإن قلت فالإشكال قائم في المال والجاه جميعا فلا ينبغي أن يحب الإنسان المال
والجاه
نعم القدر الذي يتوصل به إلى جلب الملاذ ودفع المضار معلوم كالمحتاج إلى الملبس
والمسكن والمطعم أو كالمبتلى بمرض أو بعقوبة إذا كان لا يتوصل إلى دفع العقوبة عن
نفسه إلا بمال أو جاه فحبه للمال والجاه معلوم إذ كل ما لا يتوصل إلى المحبوب إلا
به فهو محبوب وفي الطباع أمر عجيب وراء هذا وهو حب جمع الأموال وكنز الكنوز وادخار
الذخائر واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات حتى لو كان للعبد واديان من ذهب
لابتغى لهما ثالثا وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد
التي يعلم قطعا أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها ليعظموه أو ليبروه بمال أو ليعينوه
على غرض من أغراضه ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ وحب ذلك ثابت في
الطبع ويكاد يظن أن ذلك جهل فإنه حب لما لا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة
فنقول نعم هذا الحب لا تنفك عنه القلوب
وله سببان
أحدهما جلي تدركه الكافة
والآخر خفي وهو أعظم السببين ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء
فضلا عن الأغنياء وذلك لاستمداده من عرق خفي في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع لا
يكاد يقف عليها إلا الغواصون
فأما السبب الأول فهو دفع ألم الخوف لأن الشفيق بسوء الظن مولع والإنسان وإن كان
مكفيا في الحال فإنه طويل الأمل ويخطر بباله أن المال الذي فيه كفايته ربما يتلف
فيحتاج إلى غيره فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ولا يدفع ألم الخوف إلا
الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزع إليه إن أصابت هذا المال جائحة فهو أبدا لشفقته
على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة ويقدر هجوم الحاجات ويقدر إمكان تطرق الآفات
إلى الأموال ويستشعر الخوف من ذلك فيطلب ما يدفع خوفه وهو كثرة المال حتى إن أصيب
بطائفة من ماله استغنى بالآخر وهذا خوف لا يوقف له على مقدار مخصوص من المال فلذلك
لم يكن لمثله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا ولذلك قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال // حديث منهومان لا يشبعان
الحديث أخرجه الطبراني من حديث ابن مسعود بسند ضعيف والبزار والطبراني في الأوسط
من حديث ابن عباس بسند لين وقد تقدم
ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده
فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه
ويحتاج إلى الاستعانة بهم ومهما كان ذلك ممكنا ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلا
إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم لما فيه من الأمن من هذا
الخوف
وأما
السبب الثاني وهو الأقوى لأن الروح أمر رباني به وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي أو معنى كونه ربانيا أنه من أسرار علوم المكاشفة
ولا رخصة في إظهاره إذا لم يظهره رسول الله صلى الله عليه و سلم // حديث أنه صلى
الله عليه و سلم لم يظهر سر الروح أخرجه البخاري من حديث ابن مسعود وقد تقدم
ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلا إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع وإلى صفات
سبعية كالقتل والضرب والإيذاء وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء وإلى
صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة
يطول شرحها وتفصيلها فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع ومعنى
الربوبية التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال
فصار الكمال من صفات الإلهية فصار محبوبا بالطبع للإنسان والكمال بالتفرد بالوجود
فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها فلو كان
معها شمس أخرى لكان ذلك نقصا في حقها إذ لم تكن منفددة بكمال معنى الشمسية
والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه فإن ما سواه أثر من آثار
قدرته لا قوام له بذاته بل هو قائم به فلم يكن موجودا معه لأن المعية توجب
المساواة في الرتبة والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال بل الكامل من لا نظير له
في رتبته
وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصانا في الشمس بل هو من جملة
كمالها وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء عنها
فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعا ولا يكون
متبعا فإذن معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال
وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المنفرد بالكمال ولذلك قال بعض مشايخ
الصوفية ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله أنا ربكم الأعلى ولكنه
ليس يجد له مجالا وهو كما قال فإن العبودية قهر على النفس
والربوبية محبوبة بالطبع وذلك للنسبة الربانية التي أومأ إليها قوله تعالى قل
الروح من أمر ربي ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لم تسقط شهوتها للكمال
فهي محبة للكمال ومشتهية له وملتذة به لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال وكل موجود
فهو محب لذاته ولكمال ذاته ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته أو عدم صفات الكمال من
ذاته
وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل الموجودات فإن أكمل
الكمال أن يكون وجود غيرك منك فإن لم يكن منك فأن تكون مستوليا عليه فصار
الاستيلاء على الكل محبوبا بالطبع لأنه نوع كمال
وكل موجود يعرف ذاته فإنه يحب ذاته ويحب كمال ذاته ويلتذ به إلا أن الاستيلاء على
الشيء بالقدرة على التأثير فيه وعلى تغييره بحسب الإرادة وكونه مسخرا لك تردده كيف
تشاء فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة معه
إلا أن الموجودات منقسمة إلى مالا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته
وإلى ما يقبل التغيير ولكن لا يستولي عليه قدرة الخلق كالأملاك والكواكب وملكوت
السموات ونفوس الملائكة والجن والشياطين وكالجبال والبحار
وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها وما عليها من المعادن والنبات
والحيوان ومن جملتها قلوب الناس فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد
الحيوانات
فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات وإلى ما لا
يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات أحب الإنسان أن يستولي على السموات
بالعلم والإحاطة والاطلاع على أسرارها فإن ذلك نوع استيلاء إذ المعلوم المحاط به
كالداخل تحت العلم والعالم كالمستولي عليه فلذلك أحب أن يعرف
الله
تعالى والملائكة والأفلاك والكواكب وجميع عجائب السموات وجميع عجائب البحار
والجبال وغيرها لأن ذلك نوع استيلاء عليها والاستيلاء نوع كمال
وهذا يضاهي اشتياق من عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها كمن يعجز عن
وضع الشطرنج فأنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به وأنه كيف وضع وكمن يرى صنعة عجيبة في
الهندسة أو الشعبذة أو جر الثقيل أو غيره وهو مستشعر في نفسه بعض العجز والقصور
عنه ولكنه يشتاق إلى معرفة كيفية فهو متألم ببعض العجز متلذذ بكمال العلم إن علمه
وأما القسم الثاني وهو الأرضيات التي يقدر الإنسان عليها فإنه يحب بالطبع أن
يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد وهي قسمان أجساد وأرواح
أما الأجساد فهي الدراهم والدنانير والأمتعة فيجب أن يكون قادرا عليها يفعل فيها
ما شاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع فإن ذلك قدرة والقدرة كمال والكمال من
صفات الربوبية والربوبية محبوبة بالطبع فلذلك أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها
في ملبسه ومطعمه وفي شهوات نفسه وبذلك طلب استرقاق العبيد واستعباد الأشخاص
الأحرار ولو بالقهر والغلبة حتى يتصرف في أجسادهم وأشخاصهم بالاستسخار وإن لم يملك
قلوبهم فإنها ربما لم تعتقد كماله حتى يصير محبوبا لها ويقوم القهر منزلته فيها
فإن الحشمة القهرية أيضا لذيذة لما فيها من القدرة
القسم الثاني نفوس الآدميين وقلوبهم وهي أنفس ما على وجه الأرض فهو يحب أن يكون له
استيلاء وقدرة عليها لتكون مسخرة له متصرفة تحت إشارته وإرادته لما فيه من كمال
الاستيلاء والتشبه بصفات الربوبية والقلوب إنما تتسخر الحب ولا تحب إلا باعتقاد
الكمال فإن كل كمال محبوب لأن الكمال من الصفات الإلهية والصفات الإلهية كلها
محبوبة بالطبع للمعنى الرباني من جملة معاني الإنسان وهو الذي لا يبليه الموت
فيعدمه ولا يتسلط عليه التراب فيأكله فإنه محل الإيمان والمعرفة وهو الواصل إلى
لقاء الله تعالى والساعي إليه فإذن معنى الجاه تسخير القلوب ومن تسخرت له القلوب
كانت له قدرة واستيلاء عليها والقدرة والاستيلاء كمال وهو من أوصاف الربوبية
فإذن محبوب القلب بطبعه الكمال بالعلم والقدرة والمال والجاه من أسباب القدرة ولا
نهاية للمعلومات ولا نهاية للمقدورات وما دام يبقى معلوم أو مقدور فالشوق لا يسكن
والنقصان لا يزول
ولذلك قال صلى الله عليه و سلم منهومان لا يشبعان فإذن مطلوب القلوب الكمال
والكمال بالعلم والقدرة وتفاوت الدرجات فيه غير محصور فسرور كل إنسان ولذته بقدر
ما يدركه من الكمال فهذا هو السبب في كون العلم والمال والجاه محبوبا وهو أمر وراء
كونه محبوبا لأجل التوصل إلى قضاء الشهوات فإن هذه العلة قد تبقى مع سقوط الشهوات
بل يحب الإنسان من العلوم ما لا يصلح للتوصل به إلى الأغراض بل ربما يفوت عليه
جملة من الأغراض والشهوات ولكن الطبع يتقاضى طلب العلم في جميع العجائب والمشكلات
لأن في العلم استيلاء على المعلوم وهو نوع من الكمال الذي هو من صفات الربوبية
فكان محبوبا بالطبع إلا أن في حب كمال العلم والقدرة أغاليط لا بد من بيانها إن
شاء الله تعالى
بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي الذي لا حقيقة له
قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة ولكن الكمال
الحقيقي فيه متلبس بالكمال الوهمي وبيانه أن كمال العلم لله تعالى وذلك من ثلاثة
أوجه
أحدها من حيث كثرة المعلومات وسعتها فإنه محيط
بجميع
المعلومات فلذلك كلما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى
الثاني من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به وكون المعلوم مكشوفا به كشفا تاما
فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه فلذلك مهما كان
علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات العلوم كان أقرب إلى
الله تعالى
الثالث من حيث بقاء العلم أبد الأباد بحيث لا يتغير ولا يزول فإن علم الله تعالى
باق لا يتصور أن يتغير فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير
والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى
والمعلوم قسمان متغيرات وأزليات
أما المتغيرات فمثالها العلم بكون زيد في الدار فإنه علم له معلوم ولكنه يتصور أن
يخرج زيد من الدار ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلا فيكون نقصانا
لا كمالا فكلما اعتقدت اعتقادا موافقا وتصور أن ينقلب المعتقد فيه كما اعتقدته كنت
بصدد أن ينقلب كمالك نقصا ويعود علمك جهلا
ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم كعلمك مثلا بارتفاع جبل ومساحة أرض وبعد
البلاد وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ وسائر ما يذكر في المسالك والممالك
وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تتغير بتغير الأعصار والأمم والعادات فهذه
علوم معلوماتها مثل الزئبق تتغير من حال إلى حال فليس فيه كمال إلا في الحال ولا
يبقى كمالا في القلب
القسم الثاني هو المعلومات الأزلية وهو جواز الجائزات ووجوب الواجبات واستحالة
المستحيلات فإن هذه معلومات أزلية أبديه إذ لا يستحيل الواجب قط جائزا ولا الجائز
محالا ولا المحال واجبا
فكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله وما يجب له وما يستحيل في صفاته ويجوز في
أفعاله فالعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السموات والأرض وترتيب
الدنيا والآخرة وما يتعلق به هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله
تعالى ويبقى كمالا للنفس بعد الموت وتكون هذه المعرفة نور للعارفين بعد الموت يسعى
نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا أي تكون هذه المعرفة رأس
مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا كما أن من معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير
ذلك سببا لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه فيكمل النور الخفي على سبيل الاستتمام
ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك فمن ليس معه أصل معرفة الله تعالى لم
يكن له مطمع في هذا النور فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها بل كظلمات في
بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض فإذن لا سعادة
إلا في معرفة الله تعالى وأما ما عدا ذلك من المعارف فمنها ما لا فائدة له أصلا
كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما ومنها ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله
تعالى كمعرفة لغة العرب والتفسير والفقه والأخبار فإن معرفة لغة العرب تعين على
معرفة تفسير القرآن ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات
والأعمال التي تفيد تزكية النفس ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول
الهدايا إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى قد أفلح من زكاها وقال عز و
جل والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق
معرفة الله تعالى وإنما الكمال في معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله وينطوي فيه
جميع المعارف المحيطة بالموجودات إذ الموجودات كلها من أفعاله فمن عرفها من حيث هي
فعل الله تعالى
ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة فهي من تكملة معرفة الله تعالى وهذا
حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقا بأحكام الجاه والرياء ولكن أوردناه
لاستيفاء أقسام الكمال
وأما
القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقة وإنما
القدرة الحقيقة لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة
بإحداث الله كما قررناه في كتاب الصبر والشكر وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع
المنجيات فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة
فلا
نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة
أطرافه وقوة يده للبطش ورجله للمشي وحواسه للإدراك فإن هذه القوة آلة للوصول بها
إلى حقيقة كمال العلم وقد يحتاج في استيفاء هذه القوى إلى القدرة بمال والجاه
للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن وذلك إلى قدر معلوم فإن لم يستعمله
للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي
تنقضي على القرب ومن ظن ذلك كمالا فقد جهل فالخلق أكثرهم هالكون في غمرة هذا الجهل
فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى
وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه كمال فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ولما
طلبوه شغلوا به وتهالكوا عليه فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى
ومن ملائكته وهو العلم والحرية أما العلم فما ذكرناه من معرفة الله تعالى وأما
الحرية فالخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر تشبها
بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة ولا يستهويهم الغضب فإن دفع آثار الشهوة والغضب
عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة
ومن صفات الكمال لله تعالى استحالة التغير والتأثر عليه فمن كان عن التغير والتأثر
بالعوارض أبعد كان إلى الله تعالى أقرب وبالملائكة أشبه ومنزلته عند الله أعظم
وهذا كمال ثالث سوى كمال العلم والقدرة وإنما لم نورده في أقسام الكلام لأن حقيقته
ترجع إلى عدم ونقصان فإن التغير نقصان إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها
والهلاك نقص في اللذات وفي صفات الكمال
فإذن الكمالات ثلاثة إن عددنا عدم التغير بالشهوات وعدم الانقياد لها كمالا ككمال
العلم وكمال الحرية وأعني به عدم العبودية للشهوات وإرادة الأسباب الدنيوية وكمال
القدرة للعبد طريق إلىاكتساب كمال العلم وكمال الحرية ولا طريق له إلى اكتساب كمال
القدرة الباقية بعد موته إذ قدرته على أعيان الأموال وعلى استسخار القلوب والأبدان
تنقطع بالموت ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت بل يبقيان كمالا فيه ووسيله إلى
القرب من الله تعالى
فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان فأقبلوا على طلب كمال
القدرة بالجاه والمال وهو الكمال الذي لا يسلم وإن سلم فلا بقاء له وأعرضوا عن
كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبديا لا انقطاع له وهؤلاء هم الذين اشتروا
الحياة الدنيا بالآخرة فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وهم الذين لم
يفهموا قوله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند
ربك ثوابا وخير أملا فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقي كمالا في
النفس والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب وهو كما مثله الله تعالى حيث قال
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض الآية وقال
تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى قوله فأصبح هشيما
تذروه الرياح وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا وكل ما لا يقطعه
الموت فهو الباقيات الصالحات
فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال ظني لا أصل له وأن من قصر الوقت
على طلبه وظنه مقصودا فهو جاهل وإليه أشار أبو الطيب بقوله
ومن
ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر
إلا قدر البلغة منهما إلى الكمال الحقيقي اللهم اجعلنا ممن وفقته للخير وهديته
بلطفك
بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم
مهما عرفت أن معنى الجاه ملك القلوب والقدرة عليها فحكمه حكم ملك الأموال فإنه عرض
من أعراض الحياة الدنيا وينقطع بالموت كالمال والدنيا مزرعة الآخرة فكل ما خلق في
الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم
والمشرب والملبس فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق والإنسان كما لا
يستغني عن طعام يتناوله له فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام
فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه ورفيق يعينه وأستاذ يرشده وسلطان يحرسه
ويدفع عنه ظلم الأشرار فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى
الخدمة ليس بمذموم وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته
ومعاونته ليس بمذموم وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده
وتعليمه والعناية به ليس بمذموم وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه
ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم فإن الجاه وسيلة إلى الأعراض كالمال فلا فرق
بينهما إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما محبوبين
له بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون له في داره بيت ماء لأنه مضطر إليه لقضاء
حاجته ويود أن لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء فهذا على التحقيق
ليس محبا لبيت الماء فكل ما يراد للتوصل به إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوصل
إليه
وتدرك التفرقة بمثال آخر وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث إنه يدفع بها فضلة
الشهوة كما يدفع بيت الماء فضلة الطعام ولو كفى مؤنة الشهوة لكان يهجر زوجته كما
أنه لو كفى قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به وقد يحب الإنسان زوجته
لذاتها حب العشاق ولو كفى الشهوة لبقي مستصحبا لنكاحها فهذا هو الحب دون الأول
وكذلك الجاه والمال
وقد يحب كل واحد منهما على هذين الوجهين فحبهما لأجل التوصل بهما إلى مهمات البدن
غير مذموم وحبهما لأعيانهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم ولكنه لا يوصف
صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمل الحب على مباشرة معصية
وما يتوصل به إلى اكتساب بكذب وخداع وارتكاب محظور وما لم يتوصل إلى اكتسابه
بعبادة فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين وهو حرام وإليه يرجع
معنى الرياء المحظور كما سيأتي
فإن قلت طلبه المنزلة والجاه في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به
أمره مباح على الإطلاق كيفما كان أو يباح إلى حد مخصوص على وجه مخصوص فأقول يطلب
ذلك على ثلاثة أوجه وجهان مباحان ووجه محظور
أما الوجه المحظور فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة وهو منفك
عنها مثل العلم والورع والنسب فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع وهو لا يكون كذلك
فهذا حرام لأنه كذب وتلبيس إما بالقول أو بالمعاملة
أما أحد المباحين فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف صلى الله عليه و
سلم فيما أخبر عنه الرب تعالى اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فإنه طلب
المنزلة في قلبه بكونه حفيظا عليما وكان
محتاجا
إليه وكان صادقا فيه
والثاني أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه حتى لا يعلم فلا تزول منزلته
به فهذا أيضا مباح لأن حفظ الستر على القبائح جائز ولا يجوز هتك الستر وإظهار
القبيح
وهذا ليس فيه تلبيس بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به كالذي يخفي عن
السلطان أنه يشرب الخمر ولا يلقي إليه أنه ورع فإن قوله إني ورع تلبيس وعدم إقراره
بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع بل يمنع العلم بالشرب
ومن جملة المحظورات تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده فإن ذلك رياء وهو
ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله وهو مراء بما يفعله فكيف يكون
مخلصا فطلب الجاه بهذا الطريق حرام وكذا بكل معصية وذلك يجري مجرى اكتساب المال
الحرام من غير فرق وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره فلا
يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع فإن ملك القلوب أعظم من ملك الأموال
بيان السبب في حب المدح والثناء وارتياح النفس به وميل الطبع إليه وبغضها
للذم ونفرتها منه
اعلم أن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب
السبب الأول وهو الأقوى شعور النفس بالكمال فإنا بينا أن الكمال محبوب وكل محبوب
فإدراكه لذيذ
فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واعتزت وتلذذت والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها
فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جليا ظاهرا أو يكون مشكوكا فيه فإن كان
جليا ظاهرا محسوسا كانت اللذة به أقل ولكنه لا يخلو عن لذة كثنائه عليه بأنه طويل
القامة أبيض اللون فإن هذا نوع كمال ولكن النفس تغفل عنه فتخلو عن لذته فإذا
استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك
فاللذة فيه أعظم كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال الورع أو بالحسن المطلق فإن
الإنسان ربما يكون شاكا في كمال حسنه وفي كمال علمه وكمال ورعه ويكون مشتاقا إلى
زوال هذا الشك بأن يصير مستيقنا لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه
إليه فإذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينه وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذاته وإنما
تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات خبير بها لا يجازف في
القول إلا عن تحقيق ذلك كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة
الفضل فإنه في غاية اللذة وإن صدر ممن يجازف في الكلام أو لا يكون بصيرا بذلك
الوصف ضعفت اللذة وبهذه العلة يبغض الذم أيضا ويكرهه لأنه يشعره بنقصان نفسه
والنقصان ضد الكمال المحبوب فهو ممقوت الشعور به مؤلم ولذلك يعظم الألم إذا صدر
الذم من بصير موثوق به كما ذكرناه في المدح
السبب الثاني أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح وأنه مريد له ومعتقد
فيه ومسخر تحت مشيئته وملك القلوب محبوب والشعور بحصوله لذيذ وبهذه العلة تعظم
اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه كالملوك والأكابر ويضعف
مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة
على أمر حقير فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة وبهذه العلة أيضا يكره الذم ويتألم
به القلب وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم
السبب الثالث أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه لا سيما إذا
كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم
كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى
قوله
كان المدح ألذ والذم أشد على النفس
السبب الرابع أن المدح يدل على حشمة الممدوح واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان
بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر فإن الحشمة أيضا لذيذة لما فيها من
القهر والقدرة وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به ولكن
كونه مضطرا إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه فلا جرم تكون لذته بقدر تمنع المادح
وقوته فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد
فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد فيعظم بها الالتذاذ وقد تفترق فتنقص
اللذة بها
أما العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في
قوله كما إذا مدح بأنه نسيب أو سخي أو عالم يعلم أو متورع عن المحظورات وهو يعلم
من نفسه ضد ذلك فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال وتبقى لذة الاستيلاء على
قلبه وعلى لسانه وبقية اللذات فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله ويعلم
خلوه عن هذه الصفة بطلب اللذة الثانية وهو استيلاؤه على قلبه وتبقى لذة الاستيلاء
والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق
اللعب بطلب اللذات كلها فلم يكن فيه أصلا لذة لفوات الأسباب الثلاثة فهذا ما يكشف
الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم
وإنما ذكرنا ذلك ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة وخوف المذمة فإن ما لا
يعرف سببه لا يمكن معالجته إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض
والله الموفق بكرمه ولطفه وصلى الله على كل عبد مصطفى
بيان علاج حب الجاه
اعلم أن من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفا بالتودد
إليهم والمراءات لأجلهم ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتا إلى ما يعظم منزلته
عندهم وذلك بذر النفاق وأصل الفساد ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات
والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب ولذلك شبه رسول
الله صلى الله عليه و سلم حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين وقال صلى
الله عليه و سلم إنه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل إذ النفاق هو مخالفة الظاهر
للباطن بالقول أو الفعل وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم
وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها وذلك هو عين النفاق
فحب الجاه إذا من المهلكات فيجب علاجه وإزالته عن القلب فإن طبع جبل عليه القلب
كما جبل على حب المال وعلاجه مركب من علم وعمل
أما العلم فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه وهو كمال القدرة على أشخاص
الناس وعلى قلوبهم وقد بينا أن ذلك إن صفا وسلم فآخره الموت فليس هو من الباقيات
الصالحات بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة
لا يبقى الساجد ولا المسجود له ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع
المتواضعين له
فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها ومن
فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي كما سبق صغر الجاه في عينه إلا أن ذلك إنما
يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل
عنده ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز أما بعد فكأنك
بآخر من كتب عليه الموت قد مات فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائنا
وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه أما بعد فكأنك بالدنيا لم تكن
وكأنك
بالآخرة لم تزل فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة فكان عملهم لها بالتقوى إذ علموا
أن العاقبة للمتقين فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا
وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة التي لا يمتد نورها إلى مشاهدة
العواقب ولذلك قال تعالى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى وقال عز و جل
كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة فمن هذا حده فينبغي أن يعالج قلبه من حب الجاه
بالعلم بالآفات العاجلة وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في
الدنيا فإن كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من
أن تتغير منزلته في القلوب والقلوب أشد تغيرا من القدر في غليانها وهي مترددة بين
الإقبال والإعراض فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه
لا ثبات له والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء
كل ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها فضلا عما
يفوت في الآخرة فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة
وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا يلتفت إلى الدنيا فهذا هو العلاج من حيث
العلم
وأما من حيث العمل فإسقاط الجاه على قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط
من أعين الخلق وتفارقه لذه القبول ويأنس بالخمول ويرد الخلق ويقنع بالقبول من
الخالق
وهذا هو مذهب الملامتية إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين
الناس فيسلموا من آفة الجاه وهذا غير جائز لمن يقتدى به فإنه يوهن الدين في قلوب
المسلمين وأما الذي لا يقتدى به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك بل له أن
يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس كما روي أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد
فلما علم بقربه منه استدعى طعاما وبقلا وأخذ يأكل بشره ويعظم اللقمة فلما نظر إليه
الملك سقط من عينه وانصرف فقال الزاهد الحمد لله الذي صرفك عني
ومنهم من شرب شرابا حلالا في قدح لونه لون الخمر حتى يظن به أنه يشرب الخمر فيسقط
من أعين الناس
وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه إلا أن أرباب الأحوال ربما يعالجون أنفسهم بما لا
يفتي به الفقيه مهما رأوا إصلاح قلوبهم فيه ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة
التقصير كما فعل بعضهم فإنه عرف بالزهد وأقبل الناس عليه فدخل حماما ولبس ثياب
غيره وخرج فوقف في الطريق حتى عرفوه فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب وقالوا إنه
طرار وهجروه وأقوى الطرق في قطع الجاه الاعتزال عن الناس والهجرة إلى موضع الخمول
فإن المعتزل في بيته في البلد الذي هو به مشهور لا يخلو عن حب المنزلة التي ترسخ
له في القلوب بسبب عزلته فإنه ربما يظن أنه ليس محبا لذلك الجاه وهو مغرور وإنما
سكنت نفسه لأنها قد ظفرت بمقصودها ولو تغير الناس عما اعتقدوه فيه فذموه أو نسبوه
إلى أمر غير لائق به جزعت نفسه وتألمت وربما توصلت إلى الاعتذار عن ذلك وإماطة ذلك
الغبار عن قلوبهم وربما يحتاج في إزالة ذلك عن قلوبهم إلى كذب وتلبيس ولا يبالي به
وبه ويتبين بعد أنه محب للجاه والمنزلة
ومن أحب الجاه والمنزلة فهو كمن أحب المال بل هو شر منه فإن فتنة الجاه أعظم ولا
يمكنه أن لا يحب المنزلة في قلوب الناس ما دام يطمع في الناس فإذا أحرز قوته من
كسبه أو من جهة أخرى وقطع طمعه عن الناس رأسا أصبح الناس كلهم عنده كالأرذال فلا
يبالي أكان له منزلة في قلوبهم أم لم يكن كما لا يبالي بما في قلوب الذين هم منه
في أقصى المشرق لأنه لا يراهم ولا يطمع فيهم ولا يقطع الطمع عن الناس إلا بالقناعة
فمن قنع استغنى عن الناس وإذا استغنى لم يشتغل قلبه بالناس ولم يكن لقيام منزلته
في القلوب عنده وزن ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع
ويستعين على جميع ذلك بالأخبار الواردة في ذم
الجاه
ومدح الخمول والذل مثل قولهم المؤمن لا يخلو من ذلة أو قلة أو علة
وينظر في أحوال السلف وإيثارهم للذل على العز ورغبتهم في ثواب الآخرة رضي الله
عنهم أجمعين
بيان وجه العلاج لحب المدح وكراهة الذم
اعلم أن أكبر الناس إنما هلكوا بخوف مذمة الناس وحب مدحهم فصار حركاتهم كلها
موقوفة على ما يوافق رضا الناس رجاء للمدح وخوفا من الذم وذلك من المهلكات فيجب
معالجته وطريقة ملاحظة الأسباب التي لأجلها يحب المدح ويكره الذم
أما السبب الأول فهو استشعار الكمال بسبب قول المادح فطريقك فيه أن ترجع إلى عقلك
وتقول لنفسك هذه الصفة التي يمدحك بها أنت متصف بها أم لا فإن كنت متصفا بها فهي
إما صفة تستحق بها المدح كالعلم والورع وإما صفة لا تستحق المدح كالثروة والجاه
والأعراض الدنيوية فإن كانت من الأعراض الدنيوية فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض الذي
يصير على القرب هشيما تذروه الرياح وهذا من قلة العقل بل العاقل يقول كما قال
المتنبي
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
فلا ينبغي أن يفرح الإنسان بعروض الدنيا وإن فرح فلا ينبغي أن يفرح بمدح المادح
بها بوجودها والمدح ليس هو سبب وجودها
وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع فينبغي أن لا يفرح بها لأن
الخاتمة غير معلومة وهذا إنما يقتضي الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى وخطر الخاتمة
غير معلومة وهذا إنما يقتضى الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى وخطر الخاتمةباق ففي
الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا بل الدنيا دار أحزان وغموم لا
دار فرح وسرور ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة فينبغي أن يكون فرحك بفضل
الله عليك بالعلم والتقوى لا بمدح المادح فإن اللذة في استشعار الكمال والكمال
موجود من فضل الله لا من المدح والمدح تابع له فلا ينبغي أن تفرح بالمدح والمدح لا
يزيدك فضلا وإن كانت الصفة التي مدحت بها أنت خال عنها ففرحك بالمدح غاية الجنون
ومثالك مثال من يهزأ به إنسان ويقول سبحان الله ما أكثر العطر الذي في أحشائه وما
أطيب الروائح التي تفوح منه إذا قضى حاجته وهو يعلم ما تشتمل عليه أمعاؤه من
الأقذار والأنتان ثم يفرح بذلك فكذلك إذا أثنوا عليك بالصلاح والورع ففرحت به
والله مطلع على خبائث باطنك وغوائل سريرتك وأقذار صفاتك كان ذلك من غاية الجهل
فإذا المادح إن صدق فليكن فرحك بصفتك التي هي من فضل الله عليك وإن كذب فينبغي أن
يغمك ذلك ولا تفرح به
وأما السبب الثاني وهو دلالة المدح على تسخير قلب المادح وكونه سببا لتسخير قلب
آخر فهذا يرجع إلى حب الجاه والمنزلة في القلوب وقد سبق وجه معالجته وذلك بقطع
الطمع عن الناس وطلب المنزلة عند الله وبأن تعلم أن طلبك المنزلة في قلوب الناس
وفرحك به يسقط منزلتك عند الله فكيف تفرح به
وأما السبب الثالث وهو الحشمة التي اضطرت المادح إلى المدح فهو أيضا يرجع إلى قدرة
عارضة لإثبات لها ولا تستحق الفرح بل ينبغي أن يغمك مدح المادح وتكرهه وتغضب به
كما نقل ذلك عن السلف لأن آفة المدح على الممدوح عظيمة كما ذكرناه في كتاب آفات
اللسان قال بعض السلف من فرح بمدح فقد مكن الشيطان من أن يدخل في بطنه
وقال بعضهم إذا قيل لك نعم الرجل أنت فكان أحب إليك من أن يقال لك بئس الرجل أنت
فأنت والله بئس الرجل
وروي في بعض الأخبار فإن صح فهو قاصم للظهور
أن
رجلا أثنى على رجل خيرا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لو كان صاحبك
حاضرا فرضي الذي قلت فمات على ذلك دخل النار // حديث أن رجلا أثنى على رجل خيرا
فقال لو كان صاحبك حاضرا فرضي الذي قلت ومات على ذلك دخل النار لم أجد له أصلا
وقال صلى الله عليه و سلم مرة للمادح ويحك قصمت ظهره لو سمعك ما أفلح إلى يوم
القيامة // حديث ويحك قطعت ظهره الحديث قاله للمادح تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم
التراب // حديث ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب تقدم
دون قوله ألا لا تمادحوا
فلهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على وجل عظيم من المدح وفتنته وما يدخل
على القلب من السرور العظيم به حتى إن بعض الخلفاء الراشدين سأل رجلا عن شيء فقال
أنت يا أمير المؤمنين خير مني وأعلم فغضب وقال إني لم آمرك بأن تزكيني وقيل لبعض
الصحابة لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله فغضب وقال إني لأحسبك عراقيا
وقال بعضهم لما مدح اللهم إن عبدك تقرب إلي بمقتك فأشهدك على مقته
وإنما كرهوا المدح خيفة أن يفرحوا بمدح الخلق وهم ممقوتون عند الخالق فكان اشتغال
قلوبهم بحالهم عند الله تعالى يبغض إليهم مدح الخلق لأن الممدوح هو المقرب عند
الله والمذموم بالحقيقة هو المبعد من الله الملقى في النار مع الأشرار فهذا
الممدوح إن كان عند الله من أهل النار فما أعظم جهله إذا فرح بمدح غيره وإن كان من
أهل الجنة فلا ينبغي أن يفرح إلا بفضل الله تعالى وثنائه عليه إذ ليس أمره بيد
الخلق
ومهما علم أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى قل التفاته إلى مدح الخلق وذمهم وسقط
من قلبه حب المدح واشتغل بما يهمه من أمر دينه
والله الموفق للصواب برحمته
بيان علاج كراهة الذم
قد سبق أن العلة في كراهة الذم هو ضد العلة في حب المدح فعلاجه أيضا يفهم منه
والقول الوجيز فيه أن من ذمك لا يخلو من ثلاثة أحوال
إما أن يكون قد صدق فيما قال وقصد به النصح والشفقة وإما أن يكون صادقا ولكن قصده
الإيذاء والتعنت وإما أن يكون كاذبا
فإن كان صادقا وقصده النصح فلا ينبغي أن تذمه وتغضب عليه وتحقد بسببه بل ينبغي أن
تتقلد منته فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى المهلك حتى تتقيه فينبغي أن تفرح
به وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها فأما اغتمامك بسببه
وكراهتك له وذمك إياه فإنه غاية الجهل وإن كان قصده التعنت فأنت قد انتفعت بقوله
إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلا به وأذكرك عيبك إن كنت غافلا عنه أو قبحه في عينك
لينبعث حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته
وكل ذلك أسباب سعادتك وقد استفدته منه فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها
بسبب ما سمعته من المذمة
فمهما قصدت الدخول على ملك وثوبك ملوث بالعذرة وأنت لا تدري ولو دخلت عليه كذلك
لخفت أن يحز رقبتك لتلويثك مجلسه بالعذرة فقال قائل أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك
فينبغي أن تفرح به لأن تنبيهك بقوله غنيمة وجميع مساوي الأخلاق مهلكة في الآخرة
والإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه فينبغي أن يغتنمه
وأما قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه وهو نعمة منه عليك فلم تغضب عليه
بقول انتفعت به أنت وتضرر هو به
الحالة
الثالثة أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله تعالى فينبغي أن لا تكره ذلك ولا
تشتغل بذمه بل تتفكر في ثلاثة أمور
أحدها أنك إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه وما ستره الله من
عيوبك أكثر فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء
عنه
والثاني أن ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من
ذنوب أنت ملوث بها وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته وكل من مدحك فقد قطع ظهرك
فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى وأنت
تزعم أنك تحب القرب من الله
وأما الثالث فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه
بافترائه وتعرض لعقابه الأليم فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به
الشيطان وتقول اللهم أهلكه بل ينبغي أن تقول اللهم أصلحه اللهم تب عليه اللهم
ارحمه كما قال صلى الله عليه و سلم اللهم اغفر لقومي اللهم اهد قومي فإنهم لا
يعلمون // حديث اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون قاله لما ضربه قومه أخرجه
البيهقي في دلائل النبوة وقد تقدم والحديث في الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قاله
حكاية عن نبي من الأنبياء حين ضربه قومه
لما أن كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمه حمزة يوم أحد
ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة فقيل له في ذلك فقال علمت أني مأجور
بسببه وما نالني منه إلا خير فلا أرضى أن يكون هو معاقبا بسببي
ومما يهون عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر
ذلك في قلبه وأصل الدين القناعة وبها ينقطع الطمع عن المال والجاه وما دام الطمع
قائما كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالبا وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة
في قلبه مصروفة ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه
ومحب المدح ومبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جدا
بيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم
اعلم أن للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى الذام والمادح
الحالة الأولى أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه
أو يحب مكافأته وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية في هذا الباب
الحالة الثانية أن يمتعض في الباطن على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافأته
ويفرح باطنه ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور وهذا من النقصان إلا
أنه بالإضافة إلى ما قبله كمال
الحالة الثالثة وهي أول درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة
ولا تسره استثقالا
وهذا قد يظنه بعض العباد بنفسه ويكون مغرورا إن لم يمتحن نفسه بعلاماته
وعلاماته أن لا يجد في نفسه استثقالا للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده
في المادح وأن لا يجد في نفسه زيادة هزة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده
في قضاء حاجة الذام وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح
وأن لا يكون موت المادح المطري له أشد نكاية في قلبه من موت الذام وأن لا يكون غمه
بمصيبة المادح وما يناله من أعدائه أكثر مما يكون بمصيبة الذام وأن لا تكون زلة
المادح أخف على قلبه وفي عينه من زلة الذام
فمهما خف الذام على قلبه كما خف المادح واستويا من كل وجه فقد نال هذه الرتبة وما
أبعد ذلك وما أشده على القلوب وأكثر العباد فرحهم بمدح الناس لهم مستبطن في قلوبهم
وهم لا يشعرون حيث لا يمتحنون
أنفسهم
بهذه العلامات وربما شعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام والشيطان يحسن له
ذلك ويقول الذام قد عصى الله بمذمتك والمادح قد أطاع الله بمدحك فكيف تسوي بينهما
وإنما استثقالك للذام من الدين المحض
وهنا محض التلبيس فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب كبائر المعاصي أكثر
مما ارتكب الذام في مذمته ثم إنه لا يستثقلهم ولا ينفر عنهم ويعلم أن المادح الذي
مدح لا يخلو عن مذمة غيره
ولا يجد في نفسه نفرة عنه بمذمة غيره كما يجد لمذمة نفسه والمذمة من حيث إنها
معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره
فإذا العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعض ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من
الدين حتى يعتل على الله بهواه فيزيده ذلك بعدا من الله ومن لم يطلع على مكايد
الشيطان وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع يفوت عليه الدنيا ويخسره في الآخرة
وفيهم قال الله تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة
الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا
الحالة الرابعة وهي الصدق في العبادة أن يكره المدح ويمقت المادح إذا يعلم أنه
فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين ويحب الذام إذ يعلم أنه مهد إليه عيبه
ومرشد له إلى مهمه ومهد إليه حسناته فقد قال صلى الله عليه و سلم رأس التواضع أن
تكره أن تذكر بالبر والتقوى // حديث رأس التواضع أن يكره أن يذكر بالبر والتقوى لم
أجد له أصلا
وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح إذ روي أنه صلى الله عليه
و سلم قال ويل للصائم وويل للقائم وويل لصاحب الصوف إلا من فقيل يا رسول الله إلا
من فقال إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا وأبغض المدحة واستحب المذمة // حديث ويل
للصائم وويل للقائم وويل لصاحب الصوف الحديث لم أجده هكذا وذكر صاحب الفردوس من
حديث أنس ويل لمن لبس الصوف فخالف فعله قوله ولم يخرجه ولد في مسنده
وهذا شديد جدا وغاية أمثالنا الطمع في الحالة الثانية وهو أن يضمر الفرح والكراهة
على الذام والمادح ولا يظهر ذلك بالقول والعمل فأما الحالة الثالثة وهي التسوية
بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها
ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فإنها لا تفي بها لأنه لا بد وأن
تتسارع إلى إكرام المادح وقضاء حاجاته وتتثاقل على إكرام الذام والثناء عليه وقضاء
حوائجه ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر كما لا نقدر عليه في سريرة
القلب ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ
قدوة في هذا الزمان إن وجد فإنه الكبريت الأحمر يتحدث الناس به ولا يرى فكيف بما
بعده من المرتبتين وكل واحدة من هذه الرتب أيضا فيها درجات
أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت
فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات ولا يبالي بمقارفة المحظورات
لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين
ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ولا يطلبه بالعبادات ولا يباشر المحظورات وهذا
على شرف جرف هار فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب وحدود الأعمال لا يمكنه أن
يضبطها فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد فهو قريب من الهالكين جدا
ومنهم من لا يريد المدحة ولا يسعى لطلبها ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإذا
لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى
الرتبة التي قبلها وإن جاهد نفسه في ذلك وكلف قلبه الكراهية وبغض السرور إليه
بالتفكر في آفات المدح فهو في خطر المجاهدة فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه
ومنهم من إذا سمع المدح لم يسر به ولم يغنم به ولم يؤثر فيه وهذا على خير وإن كان
قد بقي عليه بقية من الإخلاص
ومنهم من يكره المدح إذا سمعه ولكن
لا
ينتهي به إلى أن يغضب على المادح وينكر عليه وأقصى درجاته أن يكره ويغضب ويظهر
الغضب وهو صادق فيه لا أن يظهر الغضب وقلبه محب له فإن ذلك عين النفاق لأنه يريد
أن يظهر من نفسه الإخلاص والصدق وهو مفلس عنه وكذلك بالضد من هذا تتفاوت الأحوال
في حق الذام وأول درجاته إظهار الغضب وآخرها إظهار الفرح ولا يكون الفرح وإظهاره
إلا ممن في قلبه حنق وحقد على نفسه لتمردها عليه وكثرة عيوبها ومواعيدها الكاذبة
وتلبيساتها الخبيثة فيبغضها بغض العدو والإنسان يفرح ممن يذم عدوه وهذا شخص عدوه
نفسه فيفرح إذا سمع ذمها ويشكر الذام على ذلك ويعتقد فطنته وذكاءه لما وقف على
عيوبها فيكون ذلك كالتشفي له من نفسه ويكون غنيمة عنده إذ صار بالمذمة أوضع في
أعين الناس حتى لا يبتلى بفتنة الناس وإذا سيقت إليه حسنات لم ينصب فيها فعساه يكون
خيرا لعيوبه التي هو عاجز عن إماطتها ولو جاهد المريد نفسه طول عمره في هذه الخصلة
الواحدة وهو أن يستوي عنده ذامه ومادحه لكان له شغل شاغل فيه لا يتفرغ معه لغيره
وبينه وبين السعادة عقبات كثيرة هذه إحداها ولا يقطع شيئا منها إلا بالمجاهدة
الشديدة في العمر الطويل الشطر الثاني من الكتاب في طلب الجاه والمنزلة بالعبادات
وهو الرياء وفيه
بيان ذم الرياء
وبيان حقيقة الرياء وما يرائي وبيان درجات الرياء وبيان الرياء الخفي وبيان ما
يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط وبيان دواء الرياء وعلاجه وبيان الرخصة في إظهار
الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب وبيان ترك الطاعات خوفا من الرياء والآفات
وبيان ما يصح من نشاط العبد للعبادات بسبب رؤية الخلق وبيان ما يجب على المريد أن
يلزمه قلبه قبل الطاعة وبعدها
وهي عشرة فصول وبالله التوفيق بيان ذم الرياء
اعلم أن الرياء حرام والمرائي عند الله ممقوت وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار
والآثار
أما الآيات فقوله تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون
وقوله عز و جل والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور قال مجاهد
هم أهل الرياء
وقال تعالى إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا فمدح المخلصين ينفي
كل إرادة سوى وجه الله والرياء ضده وقال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا
صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا // حديث نزول قوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه
الآية فيمن يطلب الآخرة بعباداته وأعماله
أخرجه الحاكم من حديث طاوس قال رجل إني أقف الموقف أبتغي وجه الله وأحب أن يرى
موطني فلم يرد عليه حتى نزلت هذه الآية
هكذا في نسختي من المستدرك ولعله سقط منه ابن عباس أو أبو هريرة وللبزار من حديث
معاذ بسند ضعيف من صام رياء فقد أشرك الحديث وفيه أنه صلى الله عليه و سلم تلا هذه
الآية
نزل بعد ذلك فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله
وأما الأخبار فقد قال صلى الله عليه و سلم حين سأله رجل فقال يا رسول الله فيم
النجاة فقال أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس وقال أبو هريرة في حديث
الثلاثة المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتاب الله كما أوردناه في
كتاب الإخلاص وإن الله عز و جل يقول لكل واحد منهم كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد
كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئ فأخبر صلى الله
عليه و سلم
أنهم
لم يثابوا وأن رياءهم هو الذي أحبط أعمالهم // حديث أبي هريرة في الثلاثة المقتول
في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتابه فإن الله تعالى يقول لكل واحد منهم
كذبت
رواه مسلم وسيأتي في كتاب الإخلاص
وقال ابن عمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه و سلم من راءى راءى الله به
ومن سمع سمع الله به // حديث ابن عمر من راءى راءى الله تعالى به ومن سمع سمع الله
به متفق عليه من حديث جندب بن عبد الله وأما حديث ابن عمر فرواه الطبراني في
الكبير والبيهقي في الشعب من رواية شيخ يكنى أبا يزيد عنه بلفظ من سمع الناس سمع
الله به سامع خلقه وحقره وصغره وفي الزهد لابن المبارك ومسند أحمد بن منيع إنه من
حديث عبد الله بن عمرو
وفي حديث آخر طويل إن الله تعالى يقول لملائكته إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في
سجين // حديث إن الله يقول للملائكة إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في سجين أخرجه
ابن المبارك في الزهد ومن طريقه ابن أبي الدنيا في الإخلاص وأبو الشيخ في كتاب
العظمة من رواية حمزة بن حبيب مرسلا ورواه ابن الجوزي في الموضوعات
وقال صلى الله عليه و سلم إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك
الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله عز و جل يوم القيامة إذا جازى العباد
بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء
// حديث إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر الحديث أخرجه أحمد والبيهقي في الشعب
من حديث محمود بن لبيد وله رواية ورجاله ثقات ورواه الطبراني من رواية محمود بن
لبيد عن رافع بن خديج
وقال صلى الله عليه و سلم استعيذوا بالله عز و جل من جب الحزن قيل وما هو يا رسول
الله قال واد في جهنم أعد للقراء المرائين // حديث استعيذوا بالله من جب الحزن قيل
وما هو قال واد في جهنم أعد للقراء المرائين أخرجه الترمذي وقال غريب وابن ماجه من
حديث أبي هريرة وضعفه ابن عدي
وقال صلى الله عليه و سلم يقول الله عز و جل من عمل لي عملا أشرك فيه غيري فهو له
كله وأنا منه بريء وأنا منه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك // حديث يقول الله
من عمل لي عملا أشرك فيه غيري فهو له كله الحديث أخرجه مالك واللفظ له من حديث أبي
هريرة دون قوله وأنا منه بريء ومسلم مع تقديم وتأخير دونها أيضا وهي عند ابن ماجه
بسند صحيح
وقال عيسى المسيح صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته
ويمسح شفتيه لئلا يرى الناس أنه صائم وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله وإذا صلى
فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق وقال نبينا صلى الله عليه و
سلم لا يقبل الله عز و جل عملا فيه مثقال ذرة من رياء // حديث لا يقبل الله عملا
فيه مقدار ذرة من رياء لم أجده هكذا
وقال عمر لمعاذ بن جبل حين رآه يبكي ما يبكيك قال حديث سمعته من صاحب هذا القبر
يعني النبي صلى الله عليه و سلم يقول إن أدنى الرياء شرك // حديث معاذ إن أدنى
الرياء شرك أخرجه الطبراني هكذا والحاكم بلفظ إن اليسير من الرياء شرك وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهرة الخفية // حديث أخوف
ما أخاف عليكم الرياء الحديث تقدم في أول هذا الكتاب
وهي أيضا ترجع إلى خطايا الرياء ودقائقه وقال صلى الله عليه و سلم إن في ظل العرش
يوم لا ظل إلا ظله رجلا تصدق بيمينه فكاد يخفيها عن شماله // حديث إن في ظل العرش
يوم لا ظل إلا ظله رجلا تصدق بيمينه فكاد أن يخفيها عن شماله متفق عليه من حديث
أبي هريرة بنحوه في حديث سبعة يظلهم الله في ظله
ولذلك ورد أن فضل عمل السر على عمل الجهر بسبعين ضعفا // حديث تفضيل عمل السر على
عمل الجهر بسبعين ضعفه البيهقي في الشعب من حديث أبي الدرداء إن الرجل ليعمل العمل
فيكتب له عمل صالح معمول به في السر يضعف أجره سبعين ضعفا قال البيهقي هذا من
أفراد بقية عن شيوخه المجهولين وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص من حديث عائشة
بسند ضعيف يفضل الذكر الخفي الذي لا تسمعه الحفظة على الذكر الذي تسمعه الحفظة
سبعين درجة
وقال صلى الله عليه و سلم إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا
مرائي ضل عملك وحبط أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له // حديث إن المرائي ينادى
يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك وحبط أجرك الحديث أخرجه ابن أبي
الدنيا من رواية جبلة اليحصبي من صحابي لم يسم وزاد يا كافر يا خاسر ولم يقل يا
مرائي // وإسناده ضعيف //
وقال شداد بن أوس رأيت النبي صلى الله عليه و سلم يبكي فقلت ما يبكيك يا رسول الله
قال
إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنما ولا شمسا ولا قمرا ولا حجرا
ولكنهم يراءون بأعمالهم // حديث شداد بن أوس إني تخوفت على أمتي الشرك الحديث أخرجه
ابن ماجه والحاكم نحوه وقد تقدم قريبا //
وقال صلى الله عليه و سلم لما خلق الله الأرض مادت بأهلها فخلق الجبال فصيرها
أوتادا للأرض فقالت الملائكة ما خلق ربنا خلقا هو أشد من الجبال فخلق الله الحديد
فقطع الجبال ثم خلق النار فأذابت الحديد ثم أمر الله الماء بإطفاء النار وأمر
الريح فكدرت الماء فاختلفت الملائكة فقالت نسأل الله تعالى قالوا يا رب ما أشد ما
خلقت من خلقك قال الله تعالى لم أخلق خلقا هو أشد علي من قلب ابن آدم حين يتصدق
بصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله فهذا أشد خلقا خلقه // حديث لما خلق الله الأرض مادت
بأهلها الحديث وفيه لم أخلق خلقا هو أشد من ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفيها عن شماله
أخرجه الترمذي من حديث أنس مع اختلاف وقال غريب //
وروى عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ بن جبل حدثني حديثا سمعته
من رسول الله صلى الله عليه و سلم قال فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت ثم سكت ثم
قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم قال لي يا معاذ قلت لبيك بأبي أنت وأمي يا
رسول الله قال إني محدثك حديثا إن أنت حفظته نفعك وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت
حجتك عند الله يوم القيامة يا معاذ إن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق
السموات والأرض ثم خلق السموات فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بوابا عليها قد جللها
عظما فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى له نور كنور الشمس حتى إذا
صعدت به إلى السماء الدنيا زكته فكثرته فيقول الملك للحفظة اضربوا بهذا العمل وجه
صاحبه أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري
قال ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد فتمر به فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به
إلى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضروا بهذا العمل وجه صاحبه
إنه أراد بعمله هذا عرض الدنيا أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان
يفتخر به على الناس في مجالسهم قال وتصعد الحفظة يعلم يبتهج نورا من صدقة وصيام
وصلاة قد أعجب الحفظة فيجاوزون به إلى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها
فقوا واضربوا بها العمل وجه صاحبه أنا ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني
إلى غيري إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم قال وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر
كما يزهر الكوكب الدري له دوي من تسبيح وصلاة وحج وعمرة حتى يجاوزوا به السماء
الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه اضربوا به
ظهره وبطنه أنا صاحب العجب أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان إذا
عمل عملا أدخل العجب في عمله قال وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى يجاوزوا به السماء
الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضروا
بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه أنا ملك الحسد إنه كان يحسد الناس من
يتعلم ويعمل بمثل عمله وكل من كان يأخذ فضلا من العبادة يحسدهم ويقع فيهم أمرني
ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري قال وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة
وحج وعمرة وصيام فيجاوزون بها إلى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا
واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان لا يرحم إنسانا قط من عباد الله أصابه بلاء
أو ضر أضر به بل كان يشمت به أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى
غيري قال وتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صوم وصلاة ونفقة وزكاة
واجتهاد وورع له دوي كدوي الرعد وضوء كضوء الشمس معه ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون به
إلى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها قفوا واضربوا بهذا العمل
وجه
صاحبه اضربوا به جوارحه اقفلوا به على قلبه إني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه
ربي إنه أراد بعمله غير الله تعالى إنه أراد رفعة عند الفقهاء وذكرا عند العلماء
وصيتا في المدائن أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري وكل عمل لم يكن لله
خالصا فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي قال وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة
وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر لله تعالى وتشيعه ملائكة السموات حتى
يقطعوا به الحجب كلها إلى الله عز و جل فيقفون بين يديه ويشهدون له بالعمل الصالح
المخلص لله قال فيقول الله لهم أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه إنه
لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي فتقول الملائكة كلهم عليه لعنتك
ولعنتنا وتقول السموات كلها عليه لعنة الله ولغتنا وتلعنه السموات السبع والأرض
ومن فيهن قال معاذ قلت يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معاذ قال اقتد بي وإن كان
في عملك نقص يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن واحمل
ذنوبك عليك ولا تحملها عليهم ولا تزك نفسك بذمهم ولا ترفع نفسك عليهم ولا تدخل عمل
الدنيا في عمل الآخرة ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك ولا تناج
رجلا وعندك آخر ولا تتعظم على الناس فينقطع عنك خير الدنيا ولا تمزق الناس فتمزقك
كلاب النار يوم القيامة في النار قال الله تعالى والناشطات نشطا أتدري من هن يا
معاذ قلت ما هن بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال كلاب في النار تنشط اللحم والعظم
قلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن يطيق هذه الخصال ومن ينجو منها قال يا معاذ
إنه ليسير على من يسره الله عليه // حديث معاذ الطويل إن الله تعالى خلق سبعة
أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض فجعل لكل سماء من السبعة ملكا بوابا عليها
الحديث بطوله في صعود الحفظة بعمل العبد ورد الملائكة له من كل سماء ورد الله
تعالى له بعد ذلك عزاء المصنف إلى رواية عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل عن
معاذ وهو كما قال رواه في الزهد وفي إسناده كما ذكر من لم يسم ورواه ابن الجوزي في
الموضوعات
قال فما رأيت أكثر تلاوة للقرآن من معاذ للحذر مما في هذا الحديث
وأما الآثار فيروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا يطأطئ رقبته فقال يا
صاحب الرقبة ارفع رقبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ورأى أبو
أمامة الباهلي رجلا في المسجد يبكي في سجوده فقال أنت أنت لو كان هذا في بيتك
وقال علي كرم الله وجهه للمرائي ثلاث علامات يكسل إذا كان وحده وينشط إذا كان في
الناس ويزيد في العمل إذا أثني عليAه
وينقص إذا ذم
وقال رجل لعبادة بن الصامت أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى
ومحمدة الناس قال لا شيء لك فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول لا شيء لك ثم قال في
الثالثة إن الله يقول أنا أغنى الأغنياء عن الشرك الحديث وسأل رجل سعيد بن المسيب
فقال إن أحدنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر فقال له أتحب أن تمقت قال لا قال
فإذا عملت لله عملا فأخلصه
وقال الضحاك
لا يقولن أحدكم هذا لوجه الله ولوجهك ولا يقولن هذا لله وللرحم فإن الله تعالى لا
شريك له
وضرب عمر رجلا بالدرة ثم قال له اقتص مني فقال لا بل أدعها لله ولك
فقال له عمر ما صنعت شيئا إما أن تدعها لي فأعرف ذلك أو تدعها لله وحده فقال
ودعتها لله وحده فقال فنعم إذن
وقال الحسن لقد صحبت أقواما إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت
أصحابه وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة وإن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى في الطريق
فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة ويقال إن المرائي ينادي يوم القيامة بأربعة
أسماء يا مرائي يا غادر يا خاسر يا فاجر اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك
عندنا
وقال الفضيل بن عياض كانوا يراءون بما يعملون وصاروا اليوم يراءون
بما
لا يعملون
وقال عكرمة إن الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء
فيها
وقال الحسن رضي الله عنه المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى وهو رجل سوء يريد أن
يقول الناس هو رجل صالح وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردياء فلا بد لقلوب
المؤمنين أن تعرفه
وقال قتادة إذا راءى العبد يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي يستهزئ بي
وقال مالك بن دينار الفراء ثلاثة قراء الرحمن وقراء الدنيا وقراء الملوك وأن محمد
بن واسع من قراء الرحمن
وقال الفضل من أراد أن ينظر إلى مراء فلينظر إلي
وقال محمد بن المبارك الصوري أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار لأن
السمت بالنهار للمخلوقين وسمت الليل لرب العالمين
وقال أبو سليمان التوقي عن العمل أشد من العمل
وقال ابن المبارك إن كان الرجل ليطوف بالبيت وهو بخراسان فقيل له وكيف ذاك قال يحب
أن لا يذكر أنه مجاور بمكة
وقال إبراهيم بن أدهم ما صدق الله من أراد أن يشتهر
بيان حقيقة الرياء وما يراءى به
اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية والسمعة مشتقة من السماع وإنما الرياء أصله طلب
المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب
بأعمال سوى العبادات وتطلب بالعبادات
واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها فحد
الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله فالمرائي هو العابد والمراءى هو الناس المطلوب
رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم والمراءى به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها
والرياء هو قصده إظهار ذلك والمراءى به كثير وتجمعه خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين
به العبد للناس وهو البدن والزي والقول والعمل والأتباع والأشياء الخارجة
وكذلك أهل الدنيا يراءون بهذه الأسباب الخمسة إلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال
ليست من جملة الطاعات أهون من الرياء بالطاعات
القسم الأول الرياء في الدين بالبدن وذلك بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة
الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة وليدل بالنحول على قلة الأكل
وبالصفار على سهر الليل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدين وكذلك يرائي بتشعيث
الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر
وهذه الأسباب مهما ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور فارتاحت النفس لمعرفتهم
فلذلك تدعوه النفس إلى إظهارها لنيل تلك الراحة
ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين ليستدل بذلك على أنه مواظب
على الصوم وأن وقار الشرع هو الذي خفض من صوته أو ضعف الجوع هو الذي ضعف من قوته
وعن هذا قال المسيح عليه السلام إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه
وكذلك روي عن أبي هريرة وذلك كله لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء ولذلك قال
ابن مسعود أصبحوا صياما مدهنين
فهذه مراءاة أهل الدين بالبدن
فأما أهل الدنيا فيراءون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه
ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها
الثاني الرياء بالهيئة والزي أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق
الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس
الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقا كل
ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه ومقتد فيه بعباد الله
الصالحين
ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبها بالصوفية مع
الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن
ومنه التقنع بالإزار فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ليرى به أنه قد انتهى
تقشفه إلى الحذر من غبار الطريق ولتنصرف إليه الأعين بسبب تميزه بتلك العلامة
ومنه الدراعة والطيلسان يلبسه من هو خال عن العلم ليوهم أنه من أهل العلم
والمراءون بالزي على طبقات فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح بإظهار الزهد
فيلبس الثياب المخرقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائي بغلظها ووسخها وقصرها وتخرقها
أنه غير مكترث بالدنيا ولو كلف أن يلبس ثوبا وسطا نظيفا مما كان السلف يلبسه لكان
عنده بمنزلة الذبح وذلك لخوفه أن يقول الناس قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك
الطريقة ورغب في الدنيا
وطبقة أخرى يطلبون القبول عند أهل الصلاح وعند أهل الدنيا من الملوك والوزراء
والتجار ولو لبسوا الثياب الفاخرة ردهم القراء ولو لبسوا الثياب المخرقة البذلة
أزدرتهم أعين الملوك والأغنياء فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا فلذلك
يطلبون الأصواف الدقيقة والأكسية الرقيقة والمرقعات المصبوغة والفوط الرفيعة
فيلبسونها ولعل قيمة ثوب أحد الأغنياء ولونه وهيأته لون ثياب الصلحاء فيلتمسون
القبول عند الفريقين وهؤلاء إن كلفوا لبس ثوب خشن أو وسخ لكان عندهم كالذبح خوفا
من السقوط من أعين الملوك والأغنياء ولو كلفوا لبس الديبقى والكتان الدقيق الأبيض
والمقصب المعلم وإن كانت قيمته دون قيمة ثيابهم لعظم ذلك عليهم خوفا من أن يقول
أهل الصلاح قد رغبوا في زي أهل الدنيا
وكل طبقة منهم رأى منزلته في زي مخصوص فيثقل عليه الانتقال إلى ما دونه أو إلى ما
فوقه وإن كان مباحا خيفة من المذمة
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع
والتجمل في الملبس والمسكن وأثاث البيت وفره الخيول وبالثياب المصبغة والطيالسة
النفيسة وذلك ظاهر بين الناس فإنهم يلبسون في بيوتهم الثياب الخشنة ويشتد عليهم لو
برزوا للناس على تلك الهيئة ما لم يبالغوا في الزينة
الثالث الرياء بالقول ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ
الأخبار والآثار لأجل الاستعمال في المحاورة وإظهارا لغزارة العلم ودلالة على شدة
العناية بأحوال السلف الصالحين وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الأسف على
مقارفة الناس للمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن ليدل
بذلك على الخوف والحزن وادعاء حفظ الحديث ولقاء الشيوخ والدق على من يروي الحديث
ببيان خلل في لفظه ليعرف أنه بصير بالأحاديث والمبادرة إلى أن الحديث صحيح أو غير
صحيح لإظهار الفضل فيه والمجادلة على قصد إفحام الخصم ليظهر للناس قوته علم الدين
والرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في العبارات
وحفظ النحو الغريب للأغراب على أهل الفضل وإظهار التودد إلى الناس لاستمالة القلوب
الرابع الرياء بالعمل كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر وطول السجود والركوع
وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين وكذلك
بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وبإطعام الطعام وبالإخبات في المشي عند اللقاء
كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام حتى إن المرائي قد يسرع في المشي
إلى حاجته فإذا اطلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفا من
أن
ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته فإذا رآه عاد إلى خشوعه
ولم يحضره ذكر الله حتى يكون يجدد الخشوع له بل هو لاطلاع إنسان عليه يخشى أن لا
يعتقد فيه أنه من العباد والصلحاء ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته
في الخلوة مشيته بمرأى من الناس فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه
الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظن أنه يتخلص به عن الرياء وقد تضاعف به رياؤه فإنه
صار في خلوته أيضا مرائيا فإنه إنما يحسن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملأ لا
لخوف من الله وحياء منه
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وتحريك اليدين وتقريب الخطا والأخذ
بأطراف الذيل وإرادة العطفين ليدلوا بذلك على الجاه والحشمة
الخامس المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين كالذي يتكلف أن يستزير عالما من
العلماء ليقال إن فلانا قد زار فلانا أو عابدا من العباد ليقال إن أهل الدين
يتبركون بزيارته ويترددون إليه أو ملكا من الملوك أو عاملا من عمال السلطان ليقال
إنهم يتبركون به لعظم رتبته في الدين
وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخا كثيرة واستفاد منهم فيباهي بشيوخه
ومباهاته ومراءاته تشرشح منه عند مخاصمته فيقول لغيره من لقيت من الشيوخ وأنا قد
لقيت فلانا وفلانا ودرت البلاد وخدمت الشيوخ وما يجري مجراه فهذه مجامع ما يرائي
به المراءون وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد
ومنهم من يقنع بحسن الاعتقادات فيه فكم من راهب انزوى إلى ديره سنين كثيرة وكم من
عابد اعتزل إلى قلة جبل مدة مديدة وإنما خبأته من حيث علمه بقيام جاهه في قلوب
الخلق ولو عرف أنهم نسبوه إلى جريمة في ديره أو صومعته لتشوش قلبه ولم يقنع بعلم
الله ببراءة ساحته بل يشتد لذلك غمه ويسعى بكل حيلة في إزالة ذلك من قلوبهم مع أنه
قد قطع طمعه من أموالهم ولكنه يحب مجرد الجاه فإنه لذيذ كما ذكرناه في أسبابه فإنه
نوع قدرة وكمال في الحال وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال ولكن أكثر
الناس جهال ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس من ذلك إطلاق اللسان
بالثناء والحمد
ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه
ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته وتنجز الحوائج على يده فيقوم له
بذلك جاه عند العامة ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من
الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام وهؤلاء شر طبقات المرائين الذين يراءون
بالأسباب التي ذكرناها
فهذه حقيقة الرياء وما به يقع الرياء
فإن قلت فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل فأقول فيه تفصيل فإن الرياء
هو طلب الجاه وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات فإن كان بغير العبادات
فهو كطلب المال فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد ولكن كما يمكن كسب
المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه وكما أن كسب قليل من المال هو ما يحتاج
إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الآفات أيضا محمود وهو
الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال إني حفيظ عليم وكما أن المال فيه سم ناقع
ودرياق نافع فكذلك الجاه وكما أن كثير المال يلهى ويطفى وينسى ذكر الله والدار
الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال وكما أنا نقول
تملك المال الكثير حرام فلا نقول أيضا تملك القلوب الكثيرة حرام إلا إذا حملته
كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز
نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال ولا يقدر
محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها وأما سعة
الجاه
من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه فلا جاه أوسع
من جاه ورسول الله صلى الله عليه و سلم وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء
الدين ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ولا يوصف بالتحريم فعلى هذا
نقول تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراءاة وهو ليس بحرام
لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا وقس على هذا كل ما تجمل للناس وتزين لهم
والدليل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم
أراد أن يخرج يوما إلى الصحابة فكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره فقالت أو
تفعل ذلك يا رسول الله قال نعم إن الله تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا
خرج إليهم // حديث عائشة أراد أن يخرج على أصحابه وكان ينظر في جب الماء ويسوي
عمامته وشعره الحديث أخرجه ابن عدي في الكامل وقد تقدم في الطهارة
نعم هذا كان من رسول الله صلى الله عليه و سلم عبادة لأنه كان مأمورا بدعوة الخلق
وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم ولو سقط من أعينهم لم يرغبوا في اتباعه فكان
يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم فإن أعين عوام الخلق تمتد
إلى الظواهر دون السرائر فكان ذلك قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولكن لو قصد
قاصد به أن يحسن نفسه في أعينهم حذرا من ذمهم ولومهم واسترواحا إلى توقيرهم
واحترامهم كان قد قصد أمرا مباحا إذ للإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة
الأنس بالإخوان
ومهما استثقلوه واستقذروه لم يأنس بهم
فإذن المراءاة بما ليس من العبادات قد تكون مباحة وقد تكون طاعة وقد تكون مذمومة
وذلك بحسب الغرض المطلوب بها
ولذلك نقول الرجل إذا أنفق ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة
ولكن ليعتقد الناس أنه سخي فهذا مراءاة وليس بحرام وكذلك أمثاله
أما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فللمرائي فيه حالتان
إحداهما أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر وهذا يبطل عبادته لأن
الأعمال بالنيات وهذا ليس بقصد العبادة لا يقتصر على إحباط عبادته حتى نقول صار
كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم كما دلت عليه الأخبار والآيات
والمعنى فيه أمران
أحدهما يتعلق بالعباد وهو التلبيس والمكر لأنه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله وأنه
من أهل الدين وليس كذلك والتلبيس في أمر الدنيا حرام أيضا حتى لو قضى دين جماعة
وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك
القلوب بالخداع والمكر
والثاني يتعلق بالله وهو أنه مهما قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ
بالله
ولذلك قال قتادة إذا راءى العبد قال الله لملائكته انظروا إليه كيف يستهزئ بي
ومثاله أن يتمثل بين يدي ملك من الملوك طول النهار كما جرت عادة الخدم وإنما وقوفه
لملاحظة جارية من جواري الملك أو غلام من غلمانه فإن هذا استهزاء بالملك إذ لم
يقصد التقريب إلى الملك بخدمته بل قصد بذلك عبدا من عبيده فأي استحقار يزيد على أن
يقصد العبد بطاعة الله تعالى مراءاة عبد ضعيف لا يملك له ضرا ولا نفعا وهل ذلك إلا
لأنه يظن أن ذلك العبد أقدر على تحصيل أغراضه من الله وأنه أولى بالتقريب إليه من
الله إذ آثره على ملك الملوك فجعله مقصود عبادته وأي استهزاء يزيد على رفع العبد
فوق المولى فهذا من كبائر المهلكات ولهذا
سماه
رسول الله صلى الله عليه و سلم الشرك الأصغر // حديث سمى الرياء الشرك الأصغر
أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد وقد تقدم ورواه الطبراني من رواية محمود بن لبيد
عن رافع بن خديج فجعله في مسند رافع وتقدم قريبا وللحاكم وصحح إسناده من حديث شداد
بن أوس كنا نعد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الرياء الشرك الأصغر
نعم بعض درجات الرياء أشد من بعض كما سيأتي بيانه في درجات الرياء إن شاء الله
تعالى ولا يخلو شيء منه عن إثم غليظ أو خفيف بحسب ما به المراءاة ولو لم يكن في
الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله لكان فيه كفاية فإنه وإن لم يقصد التقرب إلى
الله فقد قصد غير الله ولعمري لو عظم غير الله بالسجود لكفر كفرا جليا إلا أن
الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظم في قلبه الناس فاقتضت تلك العظمة أن يسجد
ويركع فكان الناس هم المعظمون بالسجود من وجه ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود
وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريبا من الشرك إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم
عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله فعن هذا كان شركا خفيا لا شركا جليا وذلك
غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من ضره
ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى فلذلك عدل بوجهه
عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم ولو وكله الله تعالى إليهم
في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه فإن العباد كلهم عاجزون عن
أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا فكيف في
يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا بل تقول الأنبياء فيه
نفسي نفسي فكيف يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ونيل القرب عند الله ما يرتقبه بطمعه
الكاذب في الدنيا من الناس فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله في سخط الله
من حيث النقل والقياس جميعا هذا إذا لم يقصد الأجر فأما إذا قصد الأجر والحمد
جميعا في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص
وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص ويدل على ما نقلناه من الآثار قول سعيد بن المسيب
وعبادة بن الصامت إنه لا أجر له فيه أصلا
بيان درجات الرياء
اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت
الدرجات فيه وأركانه ثلاثة المراءى به والمراءى لأجله ونفس قصد الرياء
الركن الأول نفس قصد الرياء وذلك لا يخلو إما أن يكون مجردا دون إرادة عبادة الله
تعالى والثواب وإما أن يكون مع إرادة الثواب فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون
إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات أربعا
الأولى وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلا كالذي يصلى بين أظهر الناس ولو
انفرد لكان لا يصلي بل ربما يصلي من غير طهارة مع الناس فهذا جرد قصده إلى الرياء
فهو الممقوت عند الله تعالى
وكذلك من يخرج الصدقة خوفا من مذمة الناس وهو ولا يقصد الثواب ولا خلا بنفسه لما
أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء
الثانية أن يكون له قصد الثواب أيضا ولكن قصدا ضعيفا بحيث لو كان في الخلوة لكان
لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله
على العمل فهذا قريب مما قبله
وما
فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم
الثالثة أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين بحيث لو كان كل واحد منهما
خاليا عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة أو كان كل واحد
منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم
رأسا برأس لا له ولا عليه أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر
الأخبار تدل على أنه لا يسلم وقد تكلمنا عليه في كتاب الإخلاص
الرابعة أن يكون إطلاع الناس مرجحا ومقويا لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة
ولو كان قصد الرياء وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط
أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد
الثواب وأما قوله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك
فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح
الركن الثاني المراءى به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى
الرياء بأوصافها
القسم الأول وهو الأغلظ الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات
الأولى الرياء بأصل الإيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار وهو الذي
يظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإسلام وهو الذي
ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع شتى كقوله عز و جل إذا جاءك المنافقون قالوا
نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون أي في
دلالتهم بقولهم على ضمائرهم وقال تعالى ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا
ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها
الآية وقال تعالى وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ
وقال تعالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك والآيات فيهم
كثيرة
وكان النفاق يكثر في ابتداء الإسلام ممن يدخل في ظاهر الإسلام ابتداء لغرض وذلك
مما يقل في زماننا ولكن يكثر نفاق من ينسل عن الدين باطنا فيجحد الجنة والنار
والدار الآخرة ميلا إلى قول الملحدة أو يعتقد على بساط الشرع والأحكام ميلا إلى
أهل الإباحة أو يعتقد كفرا أو بدعة وهو يظهر خلافه فهؤلاء من المنافقين والمرائين
المخلدين في النار وليس وراء هذا الرياء رياء وحال هؤلاء أشد حالا من الكفار
المجاهرين فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر
الثانية الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين وهذا أيضا عظيم عند الله
ولكنه دون الأول بكثير
ومثاله أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفا من ذمه والله يعلم
منه أنه لو كان في يده لما أخرجها أو يدخل وقت الصلاة وهو في جمع وعادته ترك
الصلاة في الخلوة وكذلك يصوم رمضان وهو يشتهي خلوة من الخلق ليفطر وكذلك يحضر
الجمعة ولولا خوف المذمة لكان لا يحضرها أو يصل رحمه أو يبر والديه لا عن رغبة
ولكن خوفا من الناس أو يغزو أو يحج كذلك
فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله يعتقد أنه لا معبود سواه ولو كلف أن يعبد غير
الله أو يسجد لغيره لم يفعل ولكنه يترك العبادات للكسل وينشط عند إطلاع الناس
فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق وخوفه من مذمة الناس أعظم
من خوفه من عقاب الله ورغبته في محمدتهم أشد مرغبته في ثواب الله وهذا غاية الجهل
وما أجدر صاحبه بالمقت وإن كان غير منسل عن أصل الإيمان من حيث الاعتقاد
الثالثة
أن لا يرائي بالإيمان ولا بالفرائض ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا
يعصي ولكنه يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإيثار لذة الكسل على ما
يرجى من الثواب ثم يبعثه الرياء على فعلها وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة
المريض واتباع الجنازة وغسل الميت وكالتهجد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم
الاثنين والخميس
فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفا من المذمة أو طلبا للمحمدة ويعلم الله تعالى منه
أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض
فهذا أيضا عظيم ولكنه دون ما قبله فإن الذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق
وهذا أيضا قد فعل ذلك واتقى ذم الخلق دون ذم الخالق فكان ذم الخلق أعظم عنده من
عقاب الله وأما هذا فلم يفعل ذلك لأنه لم يخف عقابا على ترك النافلة لو تركها
وكأنه على شطر من الأول وعقابه نصف عقابه
فهذا هو الرياء بأصول العبادات
القسم الثاني الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها وهو أيضا على ثلاثة درجات
الأولى أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود
ولا يطول القراءة فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود وترك الالتفات وتمم القعود
بين السجدتين وقد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز و جل أي
أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة ومن
جلس بين يدي إنسان متربعا أو متكئا فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه
تقديما للغلام على السيد واستهانة بالسيد لا محالة وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة
في الملأ دون الخلوة
وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة أو من الحب الرديء فإذا اطلع
عليه غيره أخرجها من الجيد خوفا من مذمته وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث
لأجل الخلق لا إكمالا لعبادة الصوم خوفا من المذمة فهذا أيضا من الرياء المحظور
لأن فيه تقديما للمخلوقين على الخالق ولكنه دون الرياء بأصول التطوعات
فإن قال المرائي إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة فإنهم إذا رأوا تخفيف
الركوع والسجود وكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة وإنما قصدت صيانتهم عن
هذه المعصية فيقال له هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس وليس الأمر كذلك فإن ضررك من
نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك فلو كان باعثك الدين
لكان شفقتك على نفسك أكثر وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه
فضلا وولاية يتقلدها فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ولا يبالي به
إذا كان الملك وحده وإذا كان عنده بعض غلمانه امتنع خوفا من مذمة غلمانه وذلك محال
بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر
نعم للمرائي فيه حالتان
إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس وذلك حرام قطعا
والثانية أن يقول ليس يحضرني في الإخلاص في تحسين الركوع والسجود ولو خففت كانت
صلاتي عندهم ناقصة وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم فأستقيد بتحسين الهيبة دفع مذمتهم
ولا أرجو عليه ثوابا فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفوت الثواب وتحصل المذمة
فهذا فيه أدنى نظر
والصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على
عادته في الخلوة فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله فإن ذلك استهزاء كما
سبق
الدرجة الثانية أن يرائي بفعل مالا نقصان في تركه ولكن فعله في حكم التكملة
والتتمة لعبادته كالتطويل في الركوع والسجود ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين
والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال
والزيادة
في القراءة على السور المعتادة وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت
وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة
وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدم عليه
الثالثة أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضا كحضوره الجماعة قبل القوم
وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإمام وما يجري مجراه
وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يحرم
بالصلاة فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به وبعضه أشد من بعض
والكل مذموم
الركن الثالث المرائي لأجله فإن للمرائي مقصودا لا محالة وإنما يرائي لإدراك مال
أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة وله أيضا ثلاث درجات
الأولى وهي أشدها وأعظمها أن يكون مقصوده التمكن من معصية كالذي يرائي بعبادته
ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يعرف
بالأمانة فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام فيأخذها أو يسلم إليه
تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها أو يودع الودائع فيأخذها
ويجحدها أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها أو
يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصده الفاسدة في المعاصي
وقد يظهر بعضهم زي التصوف وهيئة الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير
وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور وقد يحظرون مجالس العلم
والتذكيروحلق القرآن يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن وغرضهم ملاحظة النساء
والصبيان أو يخرج إلى الحج ومقصوده الظفر بمن في الرفقة من امرأة أو غلام
وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلما إلى معصيته
واتخذوها آلة ومتجرا وبضاعة لهم في فسقهم ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو
مقترف جريمة اتهم بها وهو مصر عليها ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه فيظهر التقوى
لنفي التهمة كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها فيتصدق بالمال ليقال إنه يتصدق بمال
نفسه فكيف يستحل مال غيره وكذلك من ينسب إلى فجور بامرأة أو غلام فيدفع التهمة عن
نفسه بالخشوع وإظهار التقوى
الثانية أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو
شريفة كالذي يظهر الحزن والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتبذل له الأموال ويرغب في
نكاحه النساء فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة وكالذي
يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته
فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول فإنه
المطلوب بهذا مباح في نفسه
الثالثة أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح ولكن يظهر عبادته خوفا من أن ينظر
إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي
مستعجلا فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو
والسهو لا من أهل الوقار وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا منه المزاح فيخاف أن ينظر
إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن ويقول ما
أعظم غفلة الآدمي عن نفسه والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه
ذلك وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير وكالذي يرى جماعة
يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن
ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام ولو خلا بنفسه لكان
لا
يفعل شيئا من ذلك وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فلا يشرب
خوفا من أن يعلم الناس أنه غير صائم فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله أو
يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم وقد لا يصرح بأني صائم ولكن يقول لي عذر وهو
جمع بين خبيثين فإنه يرى أنه صائم ثم يرى أنه مخلص ليس بمراء وأنه يحترز من أن
يذكر عبادته للناس فيكون مرائيا فيريد أن يقال إنه ساتر لعبادته ثم إن اضطر إلى
شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذرا تصريحا أو تعريضا بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط
العطش ويمنع من الصوم أو يقول أفطرت تطييبا لقلب فلان ثم قد لا يذكر ذلك متصلا
بشربه كي لا يظن به أن يعتذر رياء ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضا مثل
أن يقول إن فلانا محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه وقد ألح
علي اليوم ولم أجد بدا من تطييب قلبه
ومثل أن يقول إن أمي ضعيفة القلب مشفقة علي تظن أني لو صمت يوما مرضت فلا تدعني
أصوم فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى اللسان إلا لرسوخ عرق
الرياء في الباطن
أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه فإن لم يكن له رغبة في الصوم وقد علم
الله ذلك منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبسا وإن كان له
رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه غيره وقد يخطر له أن في
إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه وفيه مكيدة وغرور وسيأتي شرح ذلك
وشروطه
فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه وهو من أشد
المهلكات وإن من شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر يزل
فيه فحول العلماء فضلا عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم
بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل
اعلم أن الرياء جلي وخفي فالجلي هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه ولو قصد الثواب
وهو أجلاه وأخفى منه قليلا هو ما لا يحمل على العمل بمجرده إلا أنه يخفف العمل
الذي يريد به وجه الله كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف
تنشط له وخف عليه وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان
وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا بالتسهيل والتخفيف أيضا ولكنه مع ذلك مستبطن
في القلب ومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يمكن أن يعرف إلا بالعلامات وأجلى
علاماته أن يسر باطلاع الناس على طاعته فرب عبد يخلص في عمله ولا يعتقد الرياء بل
يكرهه ويرده ويتمم العمل كذلك ولكن إذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له وروح
ذلك عن قلبه شدة العبادة وهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور ولولا
التفات القلب إلى الناس لما ظهر سروره عند اطلاع الناس فلقد كان الرياء مستكنا في
القلب استكنان النار في الحجر فأظهر عنه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور ثم إذا
استشعر لذة السرور بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهية فيصير ذلك قوتا وغذاء للعرق
الخفي من الرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية فيتقاضى تقاضيا خفيا أن يتكلف سببا
يطلع عليه بالتعريض وإلقاء الكلام عرضا وإن كان لا يدعو إلى التصريح وقد يخفى فلا
يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضا وتصريحا ولكن بالشمائل كإظهار النحول والصفار وخفض
الصوت ويبس الشفتين وجفاف الريق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال على طول التهجد
وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع ولا يسر بظهور طاعته ولكنه مع ذلك إذا
رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه
وأن
ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان فإن
قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعادا في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام
مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما
كان يستبعد تقصير الناس في حقه ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق
بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ولم يكن خاليا عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب
النمل // حديث في الرياء شوائب أخفى من دبيب النمل أخرجه أحمد والطبراني من حديث
أبي موسى الأشعري اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ورواه ابن حبان في
الضعفاء من حديث أبي بكر الصديق وضعفه هو والدارقطني
وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال إن الله عز و جل يقول للقراء يوم القيامة
ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبتدءون بالسلام ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج
وفي الحديث لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم وقال عبد الله بن المبارك
روي عن وهب بن منبه أنه قال إن رجلا من السواح قال لأصحابه إنا إنما فارقنا
الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من
الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم
لمكان دينه وإن سأل حاجة أحب أن تقضى له لمكان دينه وإن اشترى شيئا أحب أن يرخص
عليه لمكان دينه فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ
بالناس فقال السائح ما هذا قيل هذا الملك قد أظللك فقال للغلام ائتي بطعام فأتاه
ببقل وزيت وقلوب الشجر فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلا عنيفا فقال الملك أين صاحبكم
فقالوا هذا قال كيف أنت قال كالناس وفي حديث آخر بخير فقال الملك ما عند هذا من
خير فانصرف عنه فقال السائح الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام فلم يزل المخلصون
خائفين من الرياء الخفي يجتهدون لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون
على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم
الصالحة فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلق إذ علموا أن الله لا
يقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأنه يوم لا
ينفع فيه مال ولا بنون ولا يجزي والد عن ولده ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل
واحد
نفسي نفسي فضلا عن غيرهم فكانوا كزوار بيت الله إذا توجهوا إلى مكة فإنهم يستصحبون
مع أنفسهم الذهب المغربي الخالص لعلمهم أن أرباب البوادي لا يروج عندهم الزائف
والبهرج والحاجة تشتد في البادية ولا وطن يفزع إليه ولا حميم يتمسك به فلا ينجي
إلى الخالص من النقد فكذا يشاهد أرباب القلوب يوم القيامة والزاد الذي يتزودونه له
من التقوى
فإذن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر ومهما أدرك من نفسه تفرقه بين أن يطلع على
عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء فإنه لما قطع طعمه عن البهائم لم يبال
حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا فلو كان
مخلصا قانعا بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم وعلم أن
العقلاء لا يقدرون له على رزق ولا أجل ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب كما لا يقدر
عليه البهائم والصبيان والمجانين فإذا لم يجد ذلك ففيه شوب خفي ولكن ليس كل شوب
محبطا للأجر مفسدا للعمل بل فيه تفضيل
فإن قلت فما نرى أحدا ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته فالسرور مذموم كله أو بعضه
محمود وبعضه مذموم فنقول
أولا كل سرور فليس بمذموم بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم
فأما المحمود فأربعة أقسام
الأول أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله ولكن لما اطلع عليه
الخلق
علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله فيستدل به على حسن صنع الله به ونظره
إليه وإلطافه به فإنه يستر الطاعة والمعصية ثم الله يستر عليه المعصية ويظهر
الطاعة ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل فيكون فرحه بجميل نظر الله له لا
بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم وقد قال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك
فليفرحوا فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به
الثاني أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليه في الدنيا أنه كذلك يفعل في
الآخرة إذ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما ستر الله على عبد ذنبا في الدنيا
إلا ستره عليه في الآخرة // حديث ما ستر الله على عبد ذنبا في الدنيا إلا ستره
عليه في الآخرة أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
فيكون الأول فرحا بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل وهذا التفات إلى
المستقبل
الثالث أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره فيكون
له أجر العلانية بما أظهر آخرا وأجر السر بما قصده أولا ومن اقتدى به في طاعة فله
مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن ينقص من أجورهم شيء وتوقع ذلك جدير بأن يكون
سبب السرور فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لا محالة
الرابع أن يحمده المطلعون على طاعته فيفرح بطاعتهم لله في مدحهم وبحبهم للمطيع
وبميل قلوبهم إلى الطاعة إذا من أهل الإيمان من يرى أهل الطاعة فيمقته ويحسده أو
يذمه ويهزأ به أو ينسبه إلى الرياء ولا يحمده عليه فهذا فرح بحسن إيمان عباد الله
وعلامة الإخلاص في هذا النوع أن يكون فرحه بحمده غيره مثل فرحه بحمدهم إياه
وأما المذموم وهو الخامس فهو أن يكون فرحه لقيام منزلته في قلوب الناس حتى يمدحوه
ويعظموه ويقوموا بقضاء حوائجه ويقابلوه بالإكرام في مصادره وموارده فهذا مكروه
والله تعالى أعلم
بيان ما يحبط العمل من الرياء الخفي والجلي وما لا يحبط
فنقول فيه إذا عقد العبد العبادة على الإخلاص ثم ورد عليه وارد الرياء فلا يخلو
إما أن يرد عليه بعد فراغه من العمل أو قبل الفراغ فإن ورد بعد الفراغ سرور مجرد
بالظهور من غير إظهار فهذا لا يفسد العمل إذ العمل قد تم على نعت الإخلاص سالما عن
الرياء فما يطرأ بعده فيرجو أن لا ينعطف عليه أثر لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره
والتحدث به ولم يتمن إظهاره وذكره ولكن اتفق ظهوره بإظهار الله ولم يكن منه إلا ما
دخل من السرور والارتياح على قلبه
نعم لو تم العمل على الإخلاص من غير عقد رياء ولكن ظهرت له بعده رغبة في الإظهار
فتحدث به فهذا مخوف
وفي الآثار والأخبار ما يدل على أنه يحبط فقد روي عن ابن مسعود أنه سمع رجلا يقول
قرأت البارحة البقرة فقال ذلك حظه منها
وروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال لرجل قال له صمت الدهر يا رسول
الله
فقال له ما صمت ولا أفطرت // حديث قال لرجل قال صمت الدهر قال ما صمت ولا أفطرت
أخرجه مسلم من حديث أبي قتادة قال عمر يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر قال لا صام
ولا أفطر وللطبراني من حديث أسماء بنت يزيد في أثناء حديث فيه فقال رجل إني صائم
قال بعض القوم إنه لا يفطر إنه يصوم كل يوم قال النبي صلى الله عليه و سلم لا صام
ولا أفطر من صام الأبد ولم أجده بلفظ الخطاب
فقال بعضهم إنما قال ذلك لأنه أظهره وقيل هو إشارة إلى كراهة صوم الدهر
وكيفما كان فيحتمل أن يكون ذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن ابن مسعود
استدلالا على أن قلبه عند العبادة لم يخل عن عقد الرياء وقصده له لما أن ظهر منه
التحدث به إذ يبعد أن يكون ما يطرأ بعد العمل مبطلا لثواب العمل بل الأقيس أن يقال
إنه مثاب على عمله الذي مضى ومعاقب على مراءاته بطاعة الله بعد الفراغ منها
بخلاف
ما لو تغير عقده إلى الرياء قبل الفراغ من الصلاة فإن ذلك قد يبطل الصلاة ويحبط
العمل
وأما إذا ورد وارد الرياء قبل الفراغ من الصلاة مثلا وكان قد عقد على الإخلاص ولكن
ورد في أثنائها وارد الرياء فلا يخلو إما أن يكون مجرد سرور لا يؤثر في العمل وإما
أن يكون رياء باعثا على العمل فإن كان باعثا على العمل وختم العبادة به حبط أجره
ومثاله أن يكون في تطوع فتجددت له نظارة أو حضر ملك من الملوك وهو يشتهي أن ينظر
إليه أو يذكر شيئا نسيه من ماله وهو يريد أن يطلبه ولولا الناس لقطع الصلاة
فاستتمها خوفا من مذمة الناس فقد حبط أجره وعليه الإعادة إن كان في فريضة وقد قال
صلى الله عليه و سلم العمل كالوعاء إذا طاب آخره طاب أوله // حديث العمل كالوعاء
إذا طاب آخره طالب أوله أخرجه ابن ماجه من حديث معاوية بن أبي سفيان بلفظ إذا طاب
أسفله طاب أعلاه وقد تقدم
أي النظر إلى خاتمته
وروي أنه من راءى بعمل ساعة حبط عمله الذي كان قبله // حديث من راءى بعمله ساعة
حبط عمله الذي كان قبله لم أجده بهذا اللفظ وللشيخين من حديث جندب من سمع سمع الله
به ومن راءى راءى الله به ورواه مسلم من حديث ابن عباس
وهذا منزل على الصلاة في هذه الصورة لا على الصدقة ولا على القراءة فإن كل جزء من
ذلك مفرد فما يطرأ يفسد الباقي دون الماضي والصوم والحج من قبيل الصلاة
وأما إذا كان وراد الرياء بحيث لا يمنعه من قصد الإتمام لأجل الثواب كما لو حضر
جماعة في أثناء الصلاة ففرح بحضورهم وعقد الرياء وقصد تحسين الصلاة لأجل نظرهم
وكان لولا حضورهم لكان يتمها أيضا فهذا رياء قد أثر في العمل وانتهض باعثا على
الحركات فإن غلب حتى انمحق معه الإحساس بقصد العبادة والثواب وصار قصد العبادة
مغمورا فهذا أيضا ينبغي أن يفسد العبادة مهما مضى ركن من أركانها على هذا الوجه
لأنا نكتفي بالنية السابقة عند الإحرام بشرط أن لا يطرأ عليها ما يغلبها ويغمرها
ويحتمل أن يقال لا يفسد العبادة نظرا إلى حالة العقد وإلى بقاء قصد أصل الثواب وإن
ضعف بهجوم قصد هو أغلب منه
ولقد ذهب الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى إلى الإحباط في أمر هو أهون من هذا وقال
إذا لم يرد إلا مجرد السرور باطلاع الناس يعني سرورا هو كحب المنزلة والجاه قال قد
اختلف الناس في هذا فصارت فرقة إلى أنه محبط لأنه نقض العزم الأول وركن إلى حمد
المخلوقين ولم يختم عمله بالإخلاص وإنما يتم العمل بخاتمته ثم قال ولا أقطع عليه
بالحبط وإن لم يتزيد في العمل ولا آمن عليه وقد كنت أقف فيه لاختلاف الناس والأغلب
على قلبي أنه يحبط إذا ختم عمله بالرياء ثم قال فإن قيل قد قال الحسن رحمه الله
تعالى إنهما حالتان فإذا كانت الأولى لم تضره الثانية
وقد روي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم يا رسول الله أسر العمل لا
أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني قال لك أجران أجر السر وأجر العلانية // حديث
أن رجلا قال أسر العمل لا أحب أن يطلع عليه فيطلع عليه فيسرني فقال لك أجران
الحديث أخرجه البيهقي في شعب الإيمان من رواية ذكوان عن ابن مسعود ورواه الترمذي
وابن حبان من رواية ذكوان عن أبي هريرة الرجل يعمل العمل فيسره فإذا اطلع عليه
أعجبه قال له أجر السر والعلانية قال الترمذي غريب وقال إنه روي عن أبي صالح وهو
ذكر أنه مرسل
ثم تكلم على الخبر والأثر فقال أما الحسن فإنه أراد بقوله لا يضره أي لا يدع العمل
ولا تضره الخطرة وهو يريد الله ولم يقل إذا عقد الرياء بعد عقد الإخلاص لم يضره
وأما الحديث فتكلم عليه بكلام طويل يرجع حاصله إلى ثلاثة أوجه
أحدها أنه يحتمل أنه أراد ظهور عمله بعد الفراغ وليس في الحديث أنه قبل الفراغ
الثاني أنه أراد أن يسر به للاقتداء به أو لسرور آخر محمود مما ذكرناه قبل لا سرورا
بسبب حب المحمدة والمنزلة بدليل أنه جعل له به أجرا ولا ذاهب من الأمة إلى أن
للسرور بالمحمدة أجرا وغايته أن يعفى عنه فكيف يكون للمخلص أجر وللمرائي أجران
والثالث أنه قال أكثر من يروي الحديث يرويه غير متصل إلى أبي هريرة بل أكثرهم
يوقفه على أبي صالح ومنهم من يرفعه فالحكم
بالعمومات
الواردة في الرياء أولى
هذا ما ذكره ولم يقطع به بل أظهر ميلا إلى الإحباط
والأقيس عندنا أن هذا القدر إذا لم يظهر أثره في العمل بل بقي العمل صادرا عن باعث
الدين وإنما انضاف إليه السرور بالاطلاع فلا يفسد العمل لأنه لم ينعدم به أصل نيته
وبقيت تلك النية باعثة على العمل وحاملة على الإتمام
وأما الأخبار التي وردت في الرياء فهي محمولة على ما إذا لم يرد به إلا الخلق وأما
ما ورد في الشركة فهو محمول على ما إذا كان قصد الرياء مساويا لقصد الثواب أو أغلب
منه أما إذا كان ضعيفا بالإضافة إليه فلا يحبط بالكلية ثواب الصدقة وسائر الأعمال
ولا ينبغي أن يفسد الصلاة ولا يبعد أن يقال إن الذي أوجب عليه صلاة خالصة لوجه
الله والخالص ما لا يشوبه شيء فلا يكون مؤديا للواجب مع هذا الشوب والعلم عند الله
فيه
وقد ذكرنا في كتاب الإخلاص كلاما أوفى مما أوردناه الآن فليرجع إليه فهذا حكم
الرياء الطارئ بعد عقد العبادة إما قبل الفراغ أو بعد الفراغ
القسم الثالث الذي يقارن حال العقد بأن يبتدئ الصلاة على قصد الرياء فإن استمر
عليه سلم فلا خلاف في أنه يقضي ولا يعتد بصلاته وإن ندم عليه في أثناء ذلك واستغفر
ورجع قبل التمام ففيما يلزمه ثلاثة أوجه
قالت فرقة لم تنعقد صلاته مع قصد الرياء فليستأنف
وقالت فرقة تلزمه إعادة الأفعال كالركوع والسجود وتفسد أفعاله دون تحريمة الصلاة
لأن التحريم عقد والرياء خاطر في قلبه لا يخرج التحريم عن كونه عقدا
وقالت فرقة لا يلزم إعادة شيء بل يستغفر الله بقلبه ويتم العبادة على الإخلاص
والنظر إلى خاتمة العبادة كما لو ابتدأ بالإخلاص وختم بالرياء لكان يفسد عمله
وشبهوا ذلك بثوب أبيض لطخ بنجاسة عارضة فإذا أزيل العارض عاد إلى الأصل فقالوا إن
الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلا لله ولو سجد لغير الله لكان كافرا ولكن اقترن
به عارض الرياء ثم زال بالندم والتوبة وصار إلى حالة لا يبالي بحمد الناس وذمهم
فتصح صلاته
ومذهب الفريقين الآخرين خارج عن قياس الفقه جدا خصوصا من قال يلزمه إعادة الركوع
والسجود دون الافتتاح لأن الركوع والسجود إن لم يصح صارت أفعالا زائدة في الصلاة
فتفسد الصلاة
وكذلك قول من يقول لو ختم بالإخلاص صح نظرا إلى الآخر فهو أيضا ضعيف لأن الرياء
يقدح في النية وأولى الأوقات بمراعاة أحكام النية حال الافتتاح فالذي يستقيم على
قياس الفقه هو أن يقال إن كان باعثه مجرد الرياء في ابتداء العقد دون طلب الثواب
وامتثال الأمر لم ينعقد افتتاحه ولم يصح ما بعده وذلك فيمن إذا خلا بنفسه لم يصل
ولما رأى الناس تحرم بالصلاة وكان بحيث لو كان ثوبه نجسا أيضا كان يصلي لأجل الناس
فهذه صلاة لا نية فيها إذ النية عبارة عن إجابة باعث الدين وههنا لا باعث ولا
إجابة
فأما إذا كان بحيث لولا الناس أيضا لكان يصلي إلا أنه ظهر له الرغبة في المحمدة
أيضا فاجتمع الباعثان فهذا إما أن يكون في صدقة وقراءة وما ليس فيه تحليل وتحريم
أو في عقد صلاة وحج فإن كان في صدقة فقد عصى بإجابة باعث الرياء وأطاع بإجابة باعث
الثواب فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فله ثواب بقدر
قصده الصحيح وعقاب بقدر قصده الفاسد ولا يحبط أحدهما الآخر
وإن كان في صلاة تقبل الفساد بتطرق خلل إلى النية فلا يخلو إما أن تكون فرضا أو
نفلا فإن كانت نفلا فحكمها أيضا حكم الصدقة فقد عصى من وجه وأطاع من وجه إذ اجتمع
في قلبه الباعثان ولا يمكن أن يقال صلاته فاسدة والاقتداء به باطل حتى إن من صلى
التراويح
وتبين من قرائن حاله أن يصده الرياء بإظهار حسن القراءة ولولا اجتماع الناس خلفه
وخلا في بيت وحده لما صلى لا يصح الاقتداء به فإن المصير إلى هذا بعيد جدا بل يظن
بالمسلم أنه يقصد الثواب أيضا بتطوعه فتصح باعتبار ذلك القصد صلاته ويصح الاقتداء
به وإن اقترن به قصد آخر وهو به عاص فأما إذا كان في فرض واجتمع الباعثان وكان كل
واحد لا يستقل وإنما يحصل الانبعاث بمجموعهما فهذا لا يسقط الواجب عنه لأن الإيجاب
لم ينتهض باعثا في حقه بمجرده واستقلاله وإن كان كل باعث مستقلا حتى لو لم يكن
باعث الرياء لأدى الفرائض ولو لم يكن باعث الفرض لأنشأ صلاة تطوعا لأجل الرياء
فهذا محل النظر وهو محتمل جدا فيحتمل أن يقال إن الواجب صلاة خالصة لوجه الله ولم
يؤد الواجب الخالص ويحتمل أن يقال الواجب امتثال الأمر بباعث مستقل بنفسه وقد وجد
فاقتران غيره به لا يمنع سقوط الفرض عنه كما لو صلى في دار مغصوبة فإنه وإن كان
عاصيا بإيقاع الصلاة في الدار المغصوبة فإنه مطيع بأصل الصلاة ومسقط للفرض عن نفسه
وتعارض الاحتمال في تعارض البواعث في أصل الصلاة أما إذا كان الرياء في المبادرة
مثلا دون أصل الصلاة مثل من بادر إلى الصلاة في أول الوقت لحضور جماعة ولو خلا
لأخر إلى وسط الوقت ولولا الفرض لكان لا يبتدئ صلاة لأجل الرياء فهذا مما يقطع
بصحة صلاته وسقوط الفرض به لأن باعث أصل الصلاة من حيث إنها صلاة لم يعارضه غيره
بل من حيث تعيين الوقت فهذا أبعد من القدح في النية هذا في رياء يكون باعثا على
العمل وحاملا عليه وأما مجرد السرور بإطلاع الناس عليه إذا لم يبلغ أثره إلى حيث
يؤثر في العمل فبعيد أن يفسد الصلاة
فهذا ما نراه لائقا بقانون الفقه والمسألة غامضة من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا لها
في فن الفقه والذين خاضوا فيها وتصرفوا لم يلاحظوا قوانين الفقه ومقتضى فتاوي
الفقهاء في صحة الصلاة وفسادها بل حملهم الحرص على تصفية القلوب وطلب الإخلاص على
إفساد العبادات بأن الخواطر وما ذكرناه هو الأقصد فيما نراه والعلم عند الله عز و
جل فيه وهو عالم الغيب والشهادة وهو الرحمن الرحيم
بيان دواء الرياء وطريق معالجة القلب فيه
قد عرفت مما سبق أن الرياء محبط للأعمال وسبب للمقت عند الله تعالى وأنه من كبائر
المهلكات وما هذا وصفه فجدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته ولو بالمجاهدة وتحمل
المشاق فلا شفاء إلا في شرب الأدوية المرة البشعة وهذه مجاهدة يضطر إليها العباد
كلهم إذ الصبي يخلق ضعيف العقل والتمييز ممتد العين إلى الخلق كثير الطمع فيهم
فيرى الناس يتصنع بعضهم لبعض فيغلب عليه حب التصنع بالضرورة ويرسخ ذلك في نفسه
وإنما يشعر بكونه مهلكا بعد كمال عقله وقد انغرس الرياء في قلبه وترسخ فيه فلا يقدر
على قمعه إلا بمجاهدة شديدة ومكابدة لقوة الشهوات
فلا ينفك أحد عن الحاجة إلى هذه المجاهدة ولكنها تشق أولا وتخف آخرا وفي علاجه
مقامان
أحدهما قلع عروقه وأصوله التي منها انشعابه
والثاني دفع ما يخطر منه في الحال
المقام الأول في قلع عروقه واستئصال أصوله وأصله حب المنزلة والجاه
وإذا فضل رجع إلى ثلاثة أصول وهي لذة المحمدة والفرار من ألم الذم والطمع فيما في
أيدي الناس
ويشهد للرياء بهذه الأسباب وأنها الباعثة للمرائي ما روى أبو موسى أن أعرابيا سأل
النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله الرجل يقاتل // حديث أبي موسى أن
أعرابيا قال يا رسول الله الرجل يقاتل حمية الحديث متفق عليه
حمية ومعناه أنه يأنف أن يقهر أو يذم بأنه مقهور مغلوب وقال والرجل يقاتل ليرى
مكانه وهذا هو طلب لذة الجاه والقدر
في
القلوب والرجل يقاتل للذكر وهذا هو الحمد باللسان فقال صلى الله عليه و سلم من
قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وقال ابن مسعود إذا التقى الصفان
نزلت الملائكة فكتبوا الناس على مراتبهم فلان يقاتل للذكر وفلان يقاتل للملك
والقتال للملك إشارة إلى الطمع في الدنيا
وقال عمر رضي الله عنه يقولون فلان شهيد ولعله يكون قد ملأ دفتي راحلته ورقا
وقال صلى الله عليه و سلم من غزا لا يبغي إلا عقالا فله ما نوى // حديث من غزا لا
يبغي إلا عقالا فله ما نوى أخرجه النسائي وقد تقدم
فهذا إشارة إلى الطمع
وقد لا يشتهي الحمد ولا يطمع فيه ولكن يحذر من ألم الذم كالبخيل بين الأسخياء وهم
يتصدقون بالمال الكثير فإنه يتصدق بالقليل كي لا يبخل وهو ليس يطمع في الحمد وقد
سبقه غيره وكالجبان بين الشجعان لا يفر من الزحف خوفا من الذم وهو لا يطمع في
الحمد وقد هجم غيره على صف القتال
ولكن إذا أيس من الحمد كره الذم وكالرجل بين قوم يصلون جميع الليل فيصلي ركعات
معدودة حتى لا يذم بالكسل وهو لا يطمع في الحمد
وقد يقدر الإنسان على الصبر عن لذة الحمد ولا يقدر على الصبر على ألم الذم ولذلك
قد يترك السؤال عن علم هو محتاج إليه خيفة من أن يذم بالجهل ويفتي بغير علم ويدعي
العلم بالحديث وهو به جاهل كل ذلك حذرا من الذم
فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك المرائي إلى الرياء وعلاجه ما ذكرناه في الشطر
الأول من الكتاب على الجملة
ولكنا نذكر الآن ما يخص الرياء وليس يخفى أن الإنسان إنما يقصد الشيء ويرغب فيه
لظنه أنه خير له ونافع ولذيذ إما في الحال وإما في المآل فإن علم إنه لذيذ في
الحال ولكنه ضار في المآل سهل عليه قطع الرغبة عنه كمن يعلم أن العسل لذيذ ولكن
إذا بان له أن فيه سما أعرض عنه فكذلك طريق قطع هذه الرغبة أن يعلم ما فيه من
المضرة
ومهما عرف العبد مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من
التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يتعرض له من العقاب العظيم والمقت
الشديد والخزي الظاهر
حيث ينادى على رؤوس الخلائق يا فاجر يا غادر يا مرائي أما استحييت إذا اشتريت
بطاعة الله عرض الدنيا وراقبت قلوب العباد واستهزأت بطاعة الله وتحببت إلى العباد
بالتبغض إلى الله وتزينت لهم بالشين عند الله وتقربت إليهم بالبعد من الله وتحمدت
إليهم بالتذمم عند الله وطلبت رضاهم بالتعرض لسخط الله أما كان أحد أهون عليك من
الله فمهما تفكر العبد في هذا الخزي وقابل ما يحصل له من العباد والتزين لهم في
الدنيا بما يفوته في الآخرة وبما يحبط من ثواب الأعمال مع أن العمل الواحد ربما
كان يترجح به ميزان حسناته لو خلص فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات فترجح به
ويهوي إلى النار فلو لم يكن في الرياء إلا إحباط عبادة واحدة لكان ذلك كافيا في
معرفة ضرره وإن كان مع ذلك سائر حسناته راجحة فقد كان ينال بهذه الحسنة علو الرتبة
عند الله في زمرة النبيين والصديقين وقد حط عنهم بسبب الرياء رد إلى صف النعال من
مراتب الأولياء هذا مع ما يتعرض له في الدنيا من تشتت الهم بسبب ملاحظة قلوب الخلق
فإن رضا الناس غاية لا تدرك فكل ما يرضي به فريق يسخط به فريق ورضا بعضهم في سخط
بعضهم ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضا عليه ثم أي غرض له في
مدحهم وإيثار ذم الله لأجل حمدهم ولا يزيده حمدهم رزقا ولا أجلا ولا ينفعه يوم
فقره وفاقته وهو يوم القيامة وأما الطمع فيما في أيديهم فبأن يعلم أن الله تعالى
هو المسخر للقلوب بالمنع والإعطاء وأن الخلق مضطرون فيه ولا رازق إلا الله ومن طمع
في الخلق لم يخل من الذل والخيبة وإن وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة
فكيف يترك ما عند الله برجاء
كاذب
ووهم فاسد قد يصيب وقد يخطئ وإذا أصاب فلا تفي لذته بألم منثه ومذلته وأما ذمهم
فلم يحذر منه ولا يزيده ذمهم شيئا ما لم يكتبه عليه الله ولا يعجل أجله ولا يؤخر
رزقه ولا يجعله من أهل النار إن كان من أهل الجنة ولا يبغضه إلى الله إن كان
محمودا عند الله ولا يزيده مقتا إن كان ممقوتا عند الله فالعباد كلهم عجزة لا
يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياتا ولا نشورا
فإذا قرر في قلبه آفة هذه الأسباب وضررها فترت رغبته وأقبل على الله قلبه فإن
العاقل لا يرغب فيما يكثر ضرره ويقل نفعه ويكفيه أن الناس لو علموا ما في باطنه من
قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إلى الناس ويعرفهم
أنه مراء وممقوت عند الله ولو أخلص لله لكشف الله لهم إخلاصه وحببه إليهم وسخرهم
له وأطلق ألسنتهم بالمدح والثناء عليه مع أنه لا كمال في مدحهم ولا نقصان في ذمهم
كما قال شاعر بني تميم إن مدحي زين وإن ذمي شين فقال له رسول الله صلى الله عليه و
سلم كذبت ذاك الله الذي لا إله إلا هو // حديث قال شاعر من بني تميم إن مدحي زين
وإن ذمي شين فقال كذبت ذاك الله أخرجه أحمد من حديث الأقرع بن حابس وهو قائل ذلك
دون قوله كذبت ورجاله ثقات إلا أني لا أعرف لأبي سلمة بن عبد الرحمن سماعا من
الأقرع ورواه الترمذي من حديث البراء وحسنه بلفظ فقال رجل إن حمدي
إذ لا زين إلا في مدحه ولا شين إلا في ذمه فأي خير لك في مدح الناس
وأنت عند الله مذموم ومن أهل النار وأي شر لك من ذم الناس وأنت عند الله محمود في
زمرة المقربين فمن أحضر في قلبه الآخرة ونعيمها المؤبد والمنازل الرفيعة عند الله
استحقر ما يتعلق بالخلق أيام الحياة مع ما فيه من الكدورات والمنغصات واجتمع همه
وانصرف إلى الله قلبه وتخلص من مذلة الرياء ومقاساة قلوب الخلق وانعطف من إخلاصه
أنوار على قلبه ينشرح بها صدره وينفتح بها له من لطائف المكاشفات ما يزيد به أنسه
بالله ووحشته من الخلق واستحقاره للدنيا واستعظامه للآخرة وسقط محل الخلق من قلبه
وانحل عنه داعية الرياء وتذلل له منهج الإخلاص
فهذا وما قدمنا في الشطر الأول هي الأدوية العلمية القالعة مغارس الرياء
وأما الدواء العملي فهو أن يعود نفسه إخفاء العبادات وإغلاق الأبواب دونها كما
تغلق الأبواب دون الفواحش حتى يقنع قلبه بعلم الله أو إطلاعه على عباداته ولا
تنازعنه النفس إلى طلب علم غير الله به
وقد روي أن بعض أصحاب أبي حفص الحداد ذم الدنيا وأهلها فقال أظهرت ما كان سبيلك أن
تخفيه لا تجالسنا بعد هذا
فلم يرخص في إظهار هذا القدر لأن في ضمن ذم الدنيا دعوى الزهد فيها فلا دواء
للرياء مثل الإخفاء وذلك يشق في بداية المجاهدة وإذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه
ثقله وهان عليه ذلك بتواصل ألطاف الله وما يمد به عباده من حسن التوفيق والتأييد
والتسديد و إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فمن العبد المجاهدة ومن
الله الهداية ومن العبد قرع الباب ومن الله فتح الباب والله لا يضيع أجر المحسنين
وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما
المقام الثاني في دفع العارض منه في أثناء العبادة وذلك لا بد من تعلمه أيضا فإن
من جاهد نفسه وقلع مغارس الرياء من قلبه بالقناعة وقطع الطمع وإسقاط نفسه من أعين
المخلوقين واستحقار مدح المخلوقين وذمهم فالشيطان لا يتركه في أثناء العبادات بل
يعارضه بخطرات الرياء ولا تنقطع عنه نزعاته وهوى النفس وميلها لا ينمحي بالكلية
فلا بد وأن يتشمر لدفع ما يعرض من خاطر الرياء
وخواطر الرياء ثلاثة قد تخطر دفعة واحدة كالخاطر الواحد وقد تترادف على التدريج
فالأول العلم باطلاع الخلق ورجاء اطلاعهم
ثم يتلوه هيجان الرغبة
من
النفس في حمدهم وحصول المنزلة عندهم
ثم يتلوه هيجان الرغبة في قبول النفس له والركون إليه وعقد الضمير على تحقيقه
فالأول معرفة
والثاني حالة تسمى الشهوة والرغبة
والثالث فعل يسمى العزم وتصميم العقد
وإنما كمال القوة في دفع الخاطر الأول ورده قبل أن يتلوه الثاني فإذا خطر له معرفة
اطلاع الخلق أو رجاء اطلاعهم دفع ذلك بأن قال مالك وللخلق علموا أو لم يعلموا
والله عالم بحالك فأي فائدة في علم غيره فإن هاجت الرغبة إلى لذة الحمد يذكر ما
رسخ في قلبه من قبل من آفة الرياء وتعرضه للمقت عند الله في القيامة وخيبته في
أحوج أوقاته إلى أعماله فكما أن معرفة اطلاع الناس تثير شهوة ورغبة في الرياء
فمعرفة آفة الرياء تثير كراهة له تقابل تلك الشهوة إذ يتفكر في تعرضه لمقت الله
وعقابه الأليم والشهوة تدعوه إلى القبول والكراهة تدعوه إلى الإباء والنفس تطاوع
لا محالة أقواهما وأغلبهما
فإذن لا بد في رد الرياء من ثلاثة أمور
المعرفة والكراهة والإباء
وقد يشرع العبد في العبادة على عزم الإخلاص ثم يرد خاطر الرياء فيقبله ولا تحضره
المعرفة ولا الكراهة التي كان الضمير منطويا عليها وإنما سبب ذلك امتلاء القلب
بخوف الذم وحب الحمد واستيلاء الحرص عليه بحيث لا يبقى في القلب متسع لغيره فيعزب
عن القلب المعرفة السابقة بآفات الرياء وشؤم عاقبته إذ لم يبق موضع في القلب خال
عن شهوة الحمد أو خوف الذم وهو كالذي يحدث نفسه بالحلم وذم الغضب ويعزم على التحلم
عند جريان سبب الغضب ثم يجري من الأسباب ما يشتد به غضبه فينسى سابقة عزمه ويمتلئ
قلبه غيظا يمنع من تذكر آفة الغضب ويشغل قلبه عنه فكذلك حلاوة الشهوة تملأ القلب
وتدفع نور المعرفة مثل مرارة الغضب
وإليه أشار جابر بقوله بايعنا رسول الله صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة على أن لا
نفر ولم نبايعه على الموت فأنسيناها يوم حنين // حديث جابر بايعنا رسول الله صلى
الله عليه و سلم تحت الشجرة على أن لا نفر الحديث أخرجه مسلم مختصرا دون ذكر يوم
حنين فرواه مسلم من حديث العباس
حتى نودي يا أصحاب الشجرة فرجعوا
وذلك لأن القلوب امتلأت بالخوف فنسيت العهد السابق حتى ذكروا وأكثر الشهوات التي
تهجم فجأة هكذا تكون إذ ينسى معرفة مضرته الداخلة في عقد الإيمان
ومهما نسي المعرفة لم تظهر الكراهة فإن الكراهة ثمرة المعرفة
وقد يتذكر الإنسان فيعلم أن الخاطر الذي خطر له هو خاطر الرياء الذي يعرضه لسخط
الله ولكن يستمر عليه لشدة شهوته فيغلب هواه عقله ولا يقدر على ترك لذة الحال
فيسوف بالتوبة أو يتشاغل عن التفكر في ذلك لشدة الشهوة فكم من عالم يحضره كلام لا
يدعوه إلى فعله إلا رياء الخلق وهو يعلم ذلك ولكنه يستمر عليه فتكون الحجة عليه
أوكد إذ قبل داعي الرياء مع علمه بغائلته وكونه مذموما عند الله ولا تنفعه معرفته
إذا خلت المعرفة عن الكراهة
وقد تحضر المعرفة والكراهة ولكن مع ذلك يقبل داعي الرياء لكون الكراهة ضعيفة
بالإضافة إلى قوة الشهوة وهذا أيضا لا ينتفع بكراهته إذ الغرض من الكراهة أن تصرف
عن الفعل
فإذن لا فائدة إلا في اجتماع الثلاث وهي المعرفة والكراهة والإباء
فالإباء ثمرة الكراهة والكراهة ثمرة المعرفة وقوة المعرفة بحسب قوة الإيمان ونور
العلم وضعف المعرفة بحسب الغفلة وحب الدنيا ونسيان الآخرة وقلة التفكر فيما عند
الله وقلة التأمل في آفات الحياة الدنيا وعظيم نعيم الآخرة وبعض ذلك ينتج بعضا
ويثمره وأصل ذلك كله حب الدنيا وغلبة الشهوات فهو رأس كل خطيئة ومنبع كل ذنب لأن
حلاوة حب الجاه والمنزلة ونعيم الدنيا هي التي تغضب القلب وتسلبه وتحول بينه وبين
التفكر في العاقبة والاستضاءة بنور الكتاب وألسنة وأنوار العلوم
فإن
قلت فمن صادف من نفسه كراهة الرياء وحملته الكراهة على الإباء ولكنه مع ذلك غير
خال عن ميل الطبع إليه وحبه له ومنازعته إياه إلا أنه كاره لحبه ولميله إليه وغير
محبب إليه فهل يكون في زمرة المرائين فاعلم أن الله لم يكلف العباد إلا ما تطيق
وليس في طاقة العبد منع الشيطان عن نزغاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى الشهوات
ولا ينزع إليها وإنما غايته أن يقابل شهوته بكراهة استثمارها من معرفة العواقب
وعلم الدين وأصول الإيمان بالله واليوم الآخر فإذا فعل ذلك فهو الغاية في آداء ما
كلف به
ويدل على ذلك من الأخبار ما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم شكوا إليه
وقالوا تعرض لقلوبنا أشياء لأن تخر من السماء فتخطفنا الطير أو تهوي بنا الريح في
مكان سحيق أحب إلينا من أن نتكلم بها فقال صلى الله عليه و سلم أو قد وجدتموه
قالوا نعم قال ذلك صريح الإيمان // حديث شكوى الصحابة ما يعرض في قلوبهم وقوله ذلك
صريح الإيمان أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود مختصرا سئل النبي صلى الله عليه و سلم
عن الوسوسة فقال ذلك محض الإيمان والنسائي في اليوم الليلة وابن حبان في صحيحه
ورواه النسائي فيه من حديث عائشة
ولم يجدوا إلا الوسواس والكراهة له ولا يمكن أن يقال أراد بصريح الإيمان الوسوسة
فلم يبق إلا حمله على الكراهة المساوقة للوسوسة والرياء وإن كان عظيما فهو دون
الوسوسة في حق الله تعالى فإذا اندفع ضرر الأعظم بالكراهة فبأن يندفع بها ضرر
الأصغر أولى وكذلك يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم في حديث ابن عباس أنه قال
الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة // حديث ابن عباس الحمد لله الذي رد
كيد الشيطان إلى الوسوسة أخرجه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة بلفظ كيده
وقال أبو حازم ما كان من نفسك وكرهته نفسك لنفسك فلا يضرك ما هو من عدوك وما كان
من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه
فإذن وسوسة الشيطان ومنازعة النفس لا تضرك مهما رددت مرادهما بالإباء والكراهة
والخواطر التي هي العلوم والتذكرات والتخيلات للأسباب المهيجة للرياء هي من
الشيطان والرغبة والميل بعد تلك الخواطر من النفس والكراهة من الإيمان ومن آثار
العقل إلا أن للشيطان ههنا مكيدة وهي أنه إذا عجز عن حمله على قبول الرياء خيل
إليه أن صلاح قلبه في الاشتغال بمجادلة الشيطان ومطاولته في الرد والجدال حتى
يسلبه ثواب الإخلاص وحضور القلب لأن الاشتغال بمجادلة الشيطان ومدافعته انصراف عن
سر المناجاة مع الله فيوجب ذلك نقصانا في منزلته عند الله
والمتخلصون عن الرياء في دفع خواطر الرياء على أربع مراتب
الأولى أن يرده على الشيطان فيكذبه ولا يقتصر عليه بل يشتغل بمجادلته ويطيل الجدال
معه لظنه أن ذلك أسلم لقلبه وهو على التحقيق نقصان لأنه اشتغل عن مناجاة الله وعن
الخير الذي هو بصدده وانصرف إلى قتال قطاع الطريق والتعريج على قتال قطاع الطريق
نقصان في السلوك
الثانية أن يعرف أن الجدال والقتال نقصان في السلوك فيقتصر على تكذيبه ودفعه ولا
يشتغل بمجادلته
الثالثة أن لا يشتغل بتكذيبه أيضا لأن ذلك وقفة وإن قلت بل يكون قد قرر في عقد
ضميره كراهة الرياء وكذب الشيطان فيستمر على ما كان عليه مستصحبا للكراهة غير
مشتغل بالتكذيب ولا بالمخاصمة
الرابعة أن يكون قد علم أن الشيطان سيحسده عند جريان أسباب الرياء فيكون قد عزم
على أنه مهما نزع الشيطان زاد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله وإخفاء
الصدقة والعبادة غيظا للشيطان وذلك هو الذي يغيظ الشيطان ويقمعه ويوجب يأسه وقنوطه
حتى لا يرجع
يروي عن الفضيل بن غزوان أنه قيل له إن فلانا يذكرك فقال والله لأغيظن من أمره قيل
ومن أمره قال الشيطان اللهم اغفر له
أي لأغيظنه بأن
أطع
الله فيه
ومهما عرف الشيطان من عبد هذه العادة كف عنه خيفة من أن يزيد في حسناته
وقال إبراهيم التيمي إن الشيطان ليدعو العبد إلى الباب من الإثم فلا يطعه وليحدث
عند ذلك خيرا فإذا رآه كذلك تركه وقال أيضا إذا رآك الشيطان مترددا طمع فيك وإذا
رآك مداوما ملك وقلاك
وضرب الحارث المحاسبي رحمه الله لهذه الأربعة مثالا أحسن فيه فقال مثالهم كأربعة
قصدوا مجلسا من العلم والحديث لينالوا به فائدة وفضلا وهداية ورشدا فحسدهم على ذلك
ضال مبتدع وخاف أن يعرفوا الحق فتقدم إلى واحد فمنعه وصرفه عن ذلك ودعاه إلى مجلس
ضلال فأبى فلما عرف إباءه شغله بالمجادلة فاشتغل معه ليرد ضلاله وهو يظن أن ذلك
مصلحة له وهو غرض الضال ليفوت عليه بقدر تأخره
فلما مر الثاني عليه نهاه واستوقفه فوقف فدفع في نحر الضال ولم يشتغل بالقتال
واستعجل ففرح منه الضال بقدر توقفه للدفع فيه
ومر به الثالث فلم يلتفت إليه ولم يشتغل بدفعه ولا بقتاله بل استمر على ما كان
فخال منه رجاؤه بالكلية
فمر الرابع فلم يتوقف له وأراد أن يغيظه فزاد في عجلته وترك التأني في المشي فيوشك
إن عادوا ومروا عليه مرة أخرى أن يعاود الجميع إلا هذا الأخير فإنه لا يعاوده خيفة
من أن يزداد فائدة باستعجاله
فإن قلت فإذا كان الشيطان لا تؤمن نزغاته فهل يجب الترصد له قبل حضوره للحذر منه
انتظارا لوروده أم يجب التوكل على الله ليكون هو الدافع له أو يجب الاشتغال
بالعبادة والغفلة عنه قلنا اختلف الناس فيه على ثلاثة أوجه فذهبت فرقة من أهل
البصرة إلى أن الأقوياء قد استغنوا عن الحذر من الشيطان لأنهم انقطعوا إلى الله
واشتغلوا بحبه فاعتزلهم الشيطان وأيس منهم وخنس عنهم كما أيس من ضعفاء العباد في
الدعوة إلى الخمر والزنا فصارت ملاذ الدنيا عندهم وإن كانت مباحة كالخمر والخنزير
فارتحلوا من حبها بالكلية فلم يبق للشيطان إليهم سبيل فلا حاجة بهم إلى الحذر
وذهبت فرقة من أهل الشام إلى أن الترصد للحذر منه إنما يحتاج إليه من قل يقينه
ونقص توكله فمن أيقن بأن لا شريك لله في تدبيره فلا يحذر غيره ويعلم أن الشيطان
ذليل مخلوق ليس له أمر ولا يكون إلا ما أراده الله فهو الضار والنافع والعارف
يستحي منه أن يحذر غيره فاليقين بالوحدانية يغنيه عن الحذر
وقالت فرقة من أهل العلم لا بد من الحذر من الشيطان وما ذكره البصريون من أن
الأقوياء قد استغنوا عن الحذر وخلت قلوبهم عن حب الدنيا بالكلية فهو وسيلة الشيطان
يكاد يكون غرورا إذ الأنبياء عليهم السلام لم يتخلصوا من وسواس الشيطان ونزغاته
فكيف يتخلص غيرهم وليس كل وسواس الشيطان من الشهوات وحب الدنيا بل في صفات الله
تعالى وأسمائه وفي تحسين البدع والضلال وغير ذلك ولا ينجو أحد من الخطر فيه ولذلك
قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في
أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته وقال النبي صلى الله عليه و
سلم إنه ليغان على قلبي // ي حديث إنه ليغان على قلبي تقدم
مع أن شيطانه قد أسلم ولا يأمره إلا بخير // حديث إن شيطانه أسلم فلا يأمر إلا
بخير تقدم أيضا
فمن ظن أن اشتغاله بحب الله أكثر من اشتغال رسول الله صلى الله عليه و سلم وسائر
الأنبياء عليهم السلام فهو مغرور ولم يؤمنهم ذلك من كيد الشيطان ولذلك لم يسلم منه
آدم وحواء في الجنة التي هي دار الأمن والسرور بعد أن قال الله لهما إن هذا عدو لك
ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ
فيها ولا تضحى ومع أنه لم ينه إلى عن شجرة واحدة وأطلق له وراء ذلك ما أراد فإذا
لم يأمن من نبي من الأنبياء وهو في الجنة دار الأمن والسعادة من كيد الشيطان فكيف
يجوز لغيره أن يأمن في دار
والدنيا
وهي منبع المحن والفتن معدن الملاذ والشهوات المنهي عنها وقال موسى عليه السلام
فيما أخبر عنه تعالى هذا من عمل الشيطان ولذلك حذر الله منه جميع الخلق فقال الله
تعالى يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة وقال عز و جل إنه
يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم والقرآن من أوله إلى آخره تحذير من الشيطان فكيف
يدع الأمن منه وأخذ الحذر من حيث أمر الله به لا ينافي الاشتغال بحب الله فإن من
الحب له امتثال أمره وقد أمر بالحذر من العدو كما أمر بالحذر من الكفار فقال تعالى
وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم وقال تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
فإذا لزمك بأمر الله الحذر من العدو الكافر وأنت تراه فبأن يلزمك الحذر من عدو
يراك ولا تراه أولى
ولذلك قال ابن محيريز صيد تراه ولا يراك يوشك أن تظفر به وصيد يراك ولا تراه يوشك
أن يظفر بك
فأشار إلى الشيطان فكيف وليس في الغفلة عن عداوة الكافر إلا قتل هو شهادة وفي
إهمال الحذر من الشيطان التعرض للنار والعقاب الأليم فليس من الاشتغال بالله
الإعراض عما حذر الله
وبه يبطل مذهب الفرقة الثانية في ظنهم أن ذلك قادح في التوكل فإن أخذ الترس
والسلاح وجمع الجنود وحفر الخندق لم يقدح في توكل رسول الله صلى الله عليه و سلم
فكيف يقدح في التوكل الخوف مما خوف الله به والحذر مما أمر بالحذر منه وقد ذكرنا
في كتاب التوكل ما يبين غلط من زعم أن معنى التوكل النزوع عن الأسباب بالكلية
وقوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل لا يناقض امتثال التوكل
مهما اعتقد القلب أن الضار والنافع والمحيي والمميت هو الله تعالى فكذلك يحذر
الشيطان ويعتقد أن الهادي والمضل هو الله ويرى الأسباب وسائط مسخرة كما ذكرناه في
التوكل
وهذا ما اختاره الحارث المحاسبي رحمه الله وهو الصحيح الذي يشهد له نور العلم وما
قبله يشبه أن يكون من كلام العباد الذين لم يغزر علمهم ويظنون أن ما يهجم عليهم من
الأحوال في بعض الأوقات من الاستغراق بالله يستمر على الدوام وهو بعيد
ثم اختلفت هذه الفرقة على ثلاثة أوجه في كيفية الحذر فقال قوم
إذا حذرنا الله تعالى العدو فلا ينبغي أن يكون شيء أغلب في قلوبنا عن ذكره والحذر
منه والترصد له فإنا إن غفلنا عنه لحظة فيوشك أن يهلكنا
وقال قوم إن ذلك يؤدي إلى خلو القلب عن ذكر الله واشتغال الهم كله بالشيطان وذلك
مراد الشيطان منا بل نشتغل بالعبادة وبذكر الله تعالى ولا ننسى الشيطان وعداوته
والحاجة إلى الحذر منه فنجمع بين الأمرين فإنا إن نسينا ربما عرض من حيث لا نحتسب
وإن تجردنا لذكره كنا قد أهملنا ذكر الله فالجمع أولى
وقال العلماء المحققون غلط الفريقان أما الأول فقد تجرد لذكر الشيطان ونسي ذكر
الله فلا يخفى غلطه وإنما أمرنا بالحذر من الشيطان كيلا يصدنا عن الذكر فكيف نجعل
ذكره أغلب الأشياء على قلوبنا وهو منتهى ضرر العدو ثم يؤدي ذلك إلى خلو القلب عن
نور ذكر الله تعالى فإذا قصد الشيطان مثل هذا القلب وليس فيه نور ذكر الله تعالى
وقوة الاشتغال به فيوشك أن يظفر به ولا يقوى على دفعه فلم يأمرنا بانتظار الشيطان
ولا بإدمان ذكره وأما الفرقة الثانية فقد شاركت الأولى إذ جمعت في القلب بين ذكر
الله والشيطان وبقدر ما يشتغل القلب بذكر الشيطان ينقص من ذكر الله وقد أمر الله
الخلق بذكره ونسيان ما عداه إبليس وغيره فالحق أن يلزم العبد قلبه الحذر من
الشيطان ويقرر على نفسه عداوته فإذا اعتقد ذلك وصدق به وسكن الحذر فيه فيشتغل بذكر
الله ويكب عليه بكل الهمة ولا يخطر بباله أمر الشيطان فإنه إذا اشتغل بذلك بعد
معرفة عداوته ثم خطر الشيطان له تنبه له
وعند
التنبه يشتغل بدفعه والاشتغال بذكر الله لا يمنع من التيقظ عند نزغة الشيطان بل
الرجل ينام وهو خائف من أن يفوته مهم عند طلوع الصبح فيلزم نفسه الحذر وينام على
أن يتنبه في ذلك الوقت فيتنبه في الليل مرات قبل أوانه لما أسكن في قلبه من الحذر
مع أنه بالنوم غافل عنه فاشتغاله بذكر الله كيف يمنع تنبهه ومثل هذا القلب هو الذي
يقوى على دفع العدو إذا كان اشتغاله بمجرد ذكر الله تعالى قد أمات منه الهوى وأحيا
فيه نور العقل والعلم وأماط عنه ظلمة الشهوات فأهل البصيرة أشعروا قلوبهم عداوة
الشيطان وترصده وألزموها الحذر ثم لم يشتغلوا بذكره بل بذكر الله ودفعوا بالذكر شر
العدو واستضاءوا بنور الذكر حتى صرفوا خواطر العدو
فمثال القلب مثال بئر أريد تطهيرها من الماء القذر ليتفجر منها الماء الصافي
فالمشتغل بذكر الشيطان قد ترك فيها الماء القذر والذي جمع بين ذكر الشيطان وذكر
الله قد نزح الماء القذر من جانب ولكنه تركه جاريا إليها من جانب آخر فيطول تعبه
ولا تجف البئر من الماء القذر والبصير هو الذي جعل لمجرى الماء القذر سدا وملأها
بالماء الصافي فإذا جاء الماء القذر دفعه بالسكر والسد من غير كلفة ومؤنة وزيادة
تعب
بيان الرخصة في قصد إظهار الطاعات
اعلم أن في الأسرار للأعمال فائدة الإخلاص والنجاة من الرياء وفي الإظهار فائدة
والإقتداء وترغيب الناس في الخير ولكن فيه آفة الرياء قال الحسن قد علم المسلمون
أن السر أحرز العملين ولكن في الإظهار أيضا فائدة ولذلك أثنى الله تعالى على السر
والعلانية فقال إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم
والإظهار قسمان أحدهما في نفس العمل والآخر التحدث بما عمل
القسم الأول إظهار نفس العمل كالصدقة في الملأ لترغيب الناس فيها كما روي عن
الأنصاري الذي جاء بالصرة فتتابع الناس بالعطية لما رأوه فقال النبي صلى الله عليه
و سلم من سن سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه // حديث من سن سنة حسنة
فعمل بها كان له أجرها وأجر من اتبعه وفي أوله قصة مسلم من حديث جرير بن عبد الله
البيهقي
وتجري سائر الأعمال هذا المجرى من الصلاة والصيام والحج والغزو وغيرها ولكن
الاقتداء في الصدقة على الطباع أغلب
نعم الغازي إذا هم بالخروج فاستعد وشد الرحل قبل القوم تحريضا لهم على الحركة فذلك
أفضل له لأن الغزو في أصله من أعمال العلانية لا يمكن إسراره فالمبادرة إليه ليست
من الإعلان بل هو تحريض مجرد وكذلك الرجل قد يرفع صوته في الصلاة بالليل لينبه
جيرانه وأهله فيقتدى به
فكل عمل لا يمكن إسراره كالحج والجهاد والجمعة فالأفضل المبادرة إليه وإظهار
الرغبة فيه للتحريض بشرط أن لا يكون فيه شوائب الرياء وأما ما يمكن إسراره كالصدقة
والصلاة فإن كان إظهار الصدقة يؤذي المتصدق عليه ويرغب الناس في الصدقة فالسر أفضل
لأن الإيذاء حرام
فإن لم يكن فيه إيذاء فقد اختلف الناس في الأفضل فقال قوم السر أفضل من العلانية
وإن كان في العلانية قدوة وقال قوم السر أفضل من علانية لا قدوة فيها أما العلانية
للقدوة فأفضل من السر
ويدل على ذلك أن الله عز و جل أمر الأنبياء بإظهار العمل للاقتداء وخصهم بمنصب
النبوة ولا يجوز أن يظن بهم أنهم حرموا أفضل العملين
ويدل عليه قوله صلى الله عليه و سلم فله أجرها وأجر من عمل بها وقد روي في الحديث
إن
عمل السر يضاعف على عمل العلانية سبعين ضعفا ويضاعف عمل العلانية إذا استن بعامله
على عمل السر سبعين ضعفا // حديث إن عمل السر يضاعف على عمل العلانية بسبعين ضعفا
ويضاعف عمل العلانية إذا استن به على عمل السر سبعين ضعفا أخرجه البيهقي في الشعب
من حديث أبي الدرداء مقتصرا على الشطر الأول بنحوه وقال هذا من أفراد بقية عن
شيوخه المجهولين وقد تقدم قبل هذا بنحو ورقتين وله من حديث ابن عمر عمل السر أفضل
من عمل العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء وقال تفرد به بقية عن عبد الملك
بن مهران وله من حديث عائشة يفضل أو يضاعف الذكرالخفي الذي لا يسمعه الحفظة على
الذي تسمعه بسبعين ضعفا وقال تفرد به معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف
وهذا لا وجه للخلاف فيه فإنه مهما انفك القلب عن شوائب الرياء وتم الإخلاص على وجه
واحد في الحالتين فما يقتدى به أفضل لا محالة وإنما يخاف من ظهور الرياء ومهما
حصلت شائبة الرياء لم ينفعه اقتداء غيره وهلك به فلا خلاف في أن السر أفضل منه
ولكن على من يظهر العمل وظيفتان
إحداهما أن يظهره حيث يعلم أنه يقتدى به أو يظن ذلك ظنا ورب رجل يقتدي به أهله دون
جيرانه وربما يقتدي به جيرانه دون أهل السوق وربما يقتدي به أهل محلته وإنما
العالم المعروف هو الذي يقتدي به الناس كافة
فغير العالم إذا أظهر بعض الطاعات ربما نسب إلى الرياء والنفاق وذموه ولم يقتدوا
به فليس له الإظهار من غير فائدة وإنما يصح الإظهار بنية القدوة ممن هو في محل
القدوة على من هو في محل الاقتداء به
والثانية أن يراقب قلبه فإنه ربما يكون فيه حب الرياء الخفي فيدعوه الإظهار بعذر
الاقتداء وإنما شهوته التجمل بالعمل وبكونه يقتدى به وهذا حال كل من يظهر أعماله
إلا الأقوياء المخلصين وقليل ما هم
فلا ينبغي أن يخدع الضعيف نفسه بذلك فيهلك وهو لا يشعر فإن الضعيف مثاله مثال
الغريق الذي يحسن سباحة ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل عليهم حتى
تشبثوا به فهلكوا وهلك والغرق بالماء في الدنيا ألمه ساعة وليت كان الهلاك بالرياء
مثله لا بل عذابه دائم مدة مديدة وهذه مزلة أقدام العباد والعلماء فإنهم يتشبهون
بالأقوياء في الإظهار ولا تقوى قلوبهم على الإخلاص فتحبط أجورهم بالرياء والتفطن
لذلك غامض ومحك ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو قيل له أخف العمل حتى يقتدي الناس
بعابد آخر من أقرانك ويكون لك في السر مثل أجر الإعلان فإن مال قلبه إلى أن يكون
هو المقتدى به وهو المظهر للعمل فباعثه الرياء دون طلب الأجر واقتداء الناس به
ورغبتهم في الخير فإنهم قد رغبوا في الخير بالنظر إلى غيره وأجره قد توفر عليه مع
إسراره فما بال قلبه يميل إلى الإظهار لولا ملاحظته لأعين الخلق ومراءاتهم فليحذر
العبد خدع النفس فإن النفس خدوع والشيطان مترصد وحب الجاه على القلب غالب وقلما
تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات فلا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيئا والسلامة في
الإخفاء وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا فالحذر من الإظهار أولى
بنا وبجميع الضعفاء
القسم الثاني أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ وحكمه حكم إظهار العمل نفسه والخطر في
هذا أشد لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان وقد تجري في الحكاية زيادة ومبالغة
وللنفس لذة في إظهار الدعاوي عظيمة إلا أنه لو تطرق إليه الرياء لم يؤثر في إفساد
العبادة الماضية بعد الفراغ منها فهو من هذا الوجه أهون والحكم فيه أن من قوي قلبه
وتم إخلاصه وصغر الناس في عينه واستوى عنده مدحهم وذمهم وذكر ذلك عند من يرجو
الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه فهو جائز بل هو مندوب إليه إن صفت النية وسلمت
عن جميع الآفات لأنه ترغيب في الخير والترغيب في الخير خير وقد نقل مثل ذلك عن
جماعة من السلف الأقوياء
قال سعد بن معاذ
ما
صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسي بغيرها ولا تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي
قائلة وما هو مقول لها وما سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول قولا قط إلا علمت
أنه حق
وقال عمر رضي الله عنه ما أبالي أصبحت على عسر أو يسر لأني لا أدري أيهما خير لي
وقال ابن مسعود ما أصبحت على حال فتمنيت أن أكون على غيرها
وقال عثمان رضي الله عنه ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول
الله صلى الله عليه و سلم // حديث عثمان قوله ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري
بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه و سلم الحديث أخرجه أبو يعلى الموصلي في
معجمه بإسناد ضعيف من رواية أنس عنه في أثناء حديث وإن عثمان قال يا رسول الله
فذكره بلفظ منذ بايعتك قال هو ذاك يا عثمان
وقال شداد بن أوس
ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت حتى أزمها وأخطمها غير هذه وكان قد قال لغلامه ائتنا
بالسفرة لنبعث بها حتى ندرك الغداء
وقال أبو سفيان لأهله حين حضره الموت لا تبكوا علي فإني ما أحدثت ذنبا منذ أسلمت
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ما قضى الله في بقضاء قط فسرني أن يكون
قضى لي بغيره وما أصبح لي هوى إلا في مواقع قدر الله
فهذا كله إظهار لأحوال شريفة وفيها غاية المراءاة إذا صدرت ممن يرائي بها وفيها
غاية الترغيب إذا صدرت ممن يقتدى به
فذلك على قصد الاقتداء جائز للأقوياء بالشروط التي ذكرناها فلا ينبغي أن يسد باب
إظهار الأعمال والطباع مجبولة على حب التشبه والاقتداء بل إظهار المرائي للعبادة
إذا لم يعلم الناس أنه رياء فيه خير كثير للناس ولكنه شر للمرائي
فكم من مخلص كان سبب إخلاصه الاقتداء بمن هو مراء عند الله وقد روي أنه كان يجتاز
الإنسان في سكك البصرة عند الصبح فيسمع أصوات المصلين بالقرآن من البيوت فصنف
بعضهم كتابا في دقائق الرياء فتركوا ذلك وترك الناس الرغبة فيه فكانوا يقولون ليت
ذلك الكتاب لم يصنف فإظهار المرائي فيه خير كثير لغيره إذا لم يعرف رياؤه
وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم // حديث إن الله ليؤيد
هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاق لهم هما حديثان فالأول متفق عليه من حديث
أبي هريرة وقد تقدم في العلم والثاني رواه النسائي من حديث أنس بسند صحيح وتقدم
أيضا
كما ورد في الأخبار وبعض المرائين ممن يقتدى به منهم والله تعالى أعلم
بيان الرخصة في كتمان الذنوب وكراهة إطلاع الناس عليها وكراهة ذمهم
له
اعلم أن الأصل في الإخلاص استواء السريرة والعلانية كما قال عمر رضي الله عنه لرجل
عليك بعمل العلانية قال يا أمير المؤمنين وما عمل العلانية قال
ما إذا اطلع عليك لم تستحي منه
وقال أبو مسلم الخولاني ما عملت عملا أبالي أن يطلع الناس عليه إلا إتياني أهلي
والبول والغائط إلا أن هذه درجة عظيمة لا ينالها كل واحد
ولا يخلو الإنسان عن ذنوب بقلبه أو بجوارحه وهو يخفيها ويكره اطلاع الناس عليها لا
سيما ما تختلج به الخواطر في الشهوات والأماني والله مطلع على جميع ذلك فإرادة
العبد لإخفائها عن العبيد ربما يظن أنه رياء محظور وليس كذلك بل المحظور أنه يستر
ذلك ليرى الناس أنه ورع خائف من الله تعالى مع أنه ليس كذلك فهذا هو ستر المرائي
وأما الصادق الذي لا يرائي فله ستر المعاصي ويصح قصده فيه ويصح اغتمامه باطلاع
الناس عليه في ثمانية أوجه
الأول أن يفرح بستر الله عليه وإذا افتضح اغتم بهتك الله ستره وخاف أن يهتك ستره
في القيامة إذ ورد في الخبر أن من ستر الله عليه في الدنيا ذنبا ستره الله عليه في
الآخرة // حديث إن من ستر عليه في الدنيا يستر عليه في الآخرة تقدم قبل هذا بورقة
وهذا غم ينشأ من قوة الإيمان
الثاني
أنه قد علم أن الله تعالى يكره ظهور المعاصي ويحب سترها كما قال صلى الله عليه و
سلم من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله // حديث من ارتكب من هذه
القاذورات شيئا فليستتر بستر الله أخرجه الحاكم في المستدرك وقد تقدم
فهو وإن عصى الله بالذنب فلم يخل قلبه عن محبة ما أحبه الله
وهذا ينشأ من قوة الإيمان بكراهة الله لظهور المعاصي وأثر الصدق فيه أن يكره ظهور
الذنب من غيره أيضا ويغتم بسببه
الثالث أن يكره ذم الناس له به من حيث إن ذلك يغمه ويشغل قلبه وعقله عن طاعة الله
تعالى فإن الطبع يتأذى بالذم وينازع العقل ويشغل عن الطاعة وبهذه العلة أيضا ينبغي
أن يكره الحمد الذي يشغله عن ذكر الله تعالى ويستغرق قلبه ويصرفه عن الذكر
وهذا أيضا من قوة الإيمان إذ صدق الرغبة في فراغ القلب لأجل الطاعة من الإيمان
الرابع أن يكون ستره ورغبته فيه لكراهته لذم الناس من حيث يتأذى طبعه فإن الذم
مؤلم للقلب كما أن الضرب مؤلم للبدن وخوف تألم القلب بالذم ليس بحرام ولا الإنسان
به عاص وإنما يعصي إذا جزعت نفسه من ذم الناس ودعته إلى ما لا يجوز حذرا من ذمهم
وليس يجب على الإنسان أن لا يغتم بذم الخلق ولا يتألم به
نعم كمال الصدق في أن تزول عنه رؤيته للخلق فيستوي عنده ذامه ومادحه لعلمه أن
الضار والنافع هو الله وأن العباد كلهم عاجزون وذلك قليل جدا وأكثر الطباع تتألم
بالذم لما فيه من الشعور بالنقصان ورب تألم بالذم محمود إذا كان الذام من أهل
البصيرة في الدين فإنهم شهداء الله وذمهم يدل على ذم الله تعالى وعلى نقصان في
الدين فكيف لا يغتم به نعم الغم المذموم هو أن يغتم لفوات الحمد بالورع كأنه يحب
أن يحمد بالورع ولا يجوز أن يحب أن يحمد بطاعة الله فيكون قد طلب بطاعة الله ثوابا
من غيره فإن وجد ذلك في نفسه وجب عليه أن يقابله بالكراهة والرد
وأما كراهة الذم بالمعصية من حيث الطبع فليس بمذموم فله الستر حذرا من ذلك ويتصور
أن يكون العبد بحيث لا يحب الحمد ولكن يكره الذم
وإنما مراده أن يتركه الناس حمدا وذما فكم من صابر عن لذة الحمد لا يصبر على ألم
الذم إذ الحمد بطلب اللذة وعدم اللذة لا يؤلم وأما الذم فإنه مؤلم فحب الحمد على
الطاعة طلب ثواب على الطاعة في الحال وأما كراهة الذم على المعصية فلا محذور فيه
إلا أمر واحد وهو أن يشغله غمه باطلاع الناس على ذنبه عن اطلاع الله فإن ذلك غاية
النقصان في الدين بل ينبغي أن يكون غمه باطلاع الله وذمه له أكثر
الخامس أن يكره الذم من حيث إن الذام قد عصى الله تعالى به وهذا من الإيمان
وعلامته أن يكره ذمه لغيره أيضا فهذا التوجع لا يفرق بينه وبين غيره بخلاف التوجع
من جهة الطبع
السادس أن يستر ذلك كيلا يقصد بشر إذا عرف ذنبه وهذا وراء ألم الذم فإن الذم مؤلم
من حيث يشعر القلب بنقصانه وخسته وإن كان ممن يؤمن شره وقد يخاف شر من يطلع على
ذنبه بسبب من الأسباب فله أن يستر ذلك حذرا منه
السابع مجرد الحياء فإنه نوع ألم وراء ألم الذم والقصد بالشر وهو خلق كريم يحدث في
أول الصبا مهما أشرق عليه نور العقل فيستحي من القبائح إذا شوهدت وهو منه وصف
محمود إذ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الحياء خير كله // حديث الحياء خير
كله أخرجه مسلم من حديث عمران بن حصين وقد تقدم
وقالA الحياء شعبة من الإيمان // حديث الحياء شعبة من الإيمان متفق عليه
من حديث أبي هريرة وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم الحياء لا يأتي إلا بخير // حديث الحياء لا يأتي إلا
بخير متفق عليه من حديث عمران بن حصين وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم إن الله يحب الحيى الحليم // حديث إن الله يحب الحيى
الحليم أخرجه الطبراني من حديث فاطمة وللبزار من حديث أبي هريرة إن الله يحب الغني
الحليم المتعفف وفيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه
فالذي يفسق ولا يبالي أن يظهر فسقه
للناس
جمع إلى الفسق والتهتك والوقاحة وفقد الحياء فهو أشد حالا ممن يستتر ويستحيي إلا
أن الحياء ممتزج بالرياء ومشتبه به اشتباها عظيما قل من يتفطن له ويدعي كل مراء
أنه مستحي وأن سبب تحسينه العبادات هو الحياء من الناس وذلك كذب بل الحياء خلق
ينبعث من الطبع الكريم وتهيج عقبه داعية الرياء وداعية الإخلاص ويتصور أن يخلص معه
ويتصور أن يرائي معه
وبيانه أن الرجل يطلب من صديق له قرضا ونفسه لا تسخو بإقراضه إلا أنه يستحي من رده
وعلم أنه لو راسله على لسان غيره لكان لا يستحيي ولا يقرض رياء ولا لطلب الثواب
فله عند ذلك أحوال أحدها أن يشافه بالرد الصريح ولا يبالي فينسب إلى قلة الحياء
وهذا فعل من لا حياء له
فإن المستحيي إما أن يتعلل أو يقرض
فإن أعطى فيتصور له ثلاثة أحوال
أحدها
أن يمزج الرياء بالحياء بأن يهيج الحياء فيقبح عنده الرد فيهيج خاطر الرياء ويقول
ينبغي أن تعطي حتى يثنى عليك ويحمدك وينشر اسمك بالسخاء أو ينبغي أن تعطي حتى لا
يذمك ولا ينسبك إلى البخل
فإذا أعطى فقد أعطى بالرياء وكان المحرك للرياء هو هيجان الحياء
الثاني أن يتعذر عليه الرد بالحياء ويبقى في نفسه البخل فيتعذر الإعطاء فيهيج داعي
الإخلاص ويقول له إن الصدقة بواحدة والقرض بثمان عشرة ففيه أجر عظيم وإدخال سرور
على قلب صديق وذلك محمود عند الله تعالى فتسخو النفس بالإعطاء لذلك فهذا مخلص هيج
الحياء إخلاصه
الثالث أن لا يكون له رغبة في الثواب ولا خوف من مذمته ولا حب لمحمدته لأنه لو
طلبه مراسلة لكان لا يعطيه فأعطاه بمحض الحياء وهو ما يجده في قلبه من ألم الحياء
ولولا الحياء لرده ولو جاءه من لا يستحي منه من الأجانب أو الأراذل لكان يرده وإن
كثر الحمد والثواب فيه فهذا مجرد الحياء ولا يكون هذا إلا في القبائح كالبخل
ومقارفة الذنوب
والمرائي يستحي من المباحات أيضا حتى إنه يرى مستعجلا في المشي فيعود إلى الهدوء
أو ضاحكا فيرجع إلى الانقباض ويزعم أن ذلك حياء وهو عين الرياء
وقد قيل إن بعض الحياء ضعف وهو صحيح والمراد به الحياء مما ليس بقبيح كالحياء من
وعظ الناس وإمامة الناس في الصلاة وهو في الصبيان والنساء محمود وفي العقلاء غير
محمود
وقد تشاهد معصية من شيخ فتستحي من شيبته أن تنكر عليه لأن من إجلال الله إجلال ذي
الشيبة المسلم وهذا الحياء حسن وأحسن منه أن يستحي من الله فلا تضيع الأمر
بالمعروف فالقوي يؤثر الحياء من الله على الحياء من الناس والضعيف قد لا يقدر عليه
فهذه هي الأسباب التي يجوز لأجلها ستر القبائح والذنوب
الثامن أن يخاف من ظهور ذنبه أن يستجرئ عليه غيره ويقتدى به وهذا العلة الواحدة
فقط هي الجارية في إظهار الطاعة وهو القدوة ويختص ذلك بالأئمة أو بمن يقتدي به
وبهذه العلة ينبغي أيضا أن يخفي العاصي أيضا معصيته من أهله وولده لأنهم يتعلمون
منه
ففي ستر الذنوب هذه الأعذار الثمانية وليس في إظهار الطاعة عذر إلا هذا العذر
الواحد ومهما قصد بستر المعصية أن يخيل إلى الناس أنه ورع كان مرائيا كما إذا قصد
ذلك بإظهار الطاعة
فإن قلت فهل يجوز للعبد أن يحب حمد الناس له بالصلاح وحبهم إياه بسببه وقد قال رجل
للنبي صلى الله عليه و سلم
دلني
على ما يحبني الله عليه ويحبني الناس قال ازهد في الدنيا يحبك الله وانبذ إليهم
هذا الحطام يحبوك // حديث قال رجل دلني على ما يحبني الله عليه ويحبني الناس قال
ازهد في الدنيا يحبك الله الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث سهل بن سعد بلفظ وازهد
فيما في أيدي الناس وقد تقدم
فنقول حبك لحب الناس لك قد يكون مباحا وقد يكون محمودا وقد يكون مذموما
فالمحمود أن تحب ذلك لتعرف به حب الله لك فإنه تعالى إذا أحب عبدا حببه في قلوب
عباده
والمذموم أن تحب حبهم وحمدهم على حجك وغزوك وصلاتك على طاعة بعينها فإن ذلك طلب
عوض على طاعة الله عاجل سوى ثواب الله
والمباح أن تحب أن يحبوك لصفات محمودة سوى الطاعات المحمودة المعينة فحبك ذلك كحبك
المال لأن ملك القلوب وسيلة إلى الأغراض كملك الأموال فلا فرق بينهما
بيان ترك الطاعات خوفا من الرياء ودخول الآفات
اعلم أن من الناس من يترك العمل خوفا من أن يكون مرائيا به وذلك غلط وموافقة
للشيطان بل الحق فيما يترك من الأعمال وما لا يترك لخوف الآفات ما نذكره وهو أن
الطاعات تنقسم إلى
ما لا لذة في عينه كالصلاة والصوم والحج والغزو فإنها مقاساة ومجاهدات إنما تصير
لذيذة من حيث إنها توصل إلى حمد الناس وحمد الناس لذيذ وذلك عند اطلاع الناس عليه
وإلى ما هو لذيذ وهو أكثر مالا يقتصر على البدن بل يتعلق بالخلق كالخلافة والقضاء
والولايات والحسبة وإمامة الصلاة والتذكير والتدريس وإنفاق المال على الخلق وغير
ذلك مما تعظم الآفة فيه لتعلقه بالخلق ولما فيه من اللذة
القسم الأول الطاعات اللازمة للبدن التي لا تتعلق بالغير ولا لذة في عينها كالصوم
والصلاة والحج فخطرات الرياء فيها ثلاث
إحداها ما يدخل قبل العمل فيبعث على الابتداء لرؤية الناس وليس معه باعث الدين
فهذا مما ينبغي أن يترك لأنه معصية لا طاعة فيه فإنه تدرع بصورة الطاعة إلى طلب
المنزلة فإن قدر الإنسان على أن يدفع عن نفسه باعث الرياء ويقول لها ألا تستحيين
من مولاك لا تسخين بالعمل لأجله وتسخين بالعمل لأجل عباده حتى يندفع باعث الرياء
وتسخو النفس بالعمل لله عقوبة للنفس على خاطر الرياء وكفارة له فليشتغل بالعمل
الثانية أن ينبعث لأجل الله ولكن يعترض الرياء مع عقد العبادة وأولها فلا ينبغي أن
يترك العمل لأنه وجد باعثا دينيا فليشرع في العمل وليجاهد نفسه في دفع الرياء
وتحسين الإخلاص بالمعالجات التي ذكرناها من إلزام النفس كراهة الرياء والإباء عن
القبول
الثالثة أن يعقد على الإخلاص ثم يطرأ الرياء ودواعيه فينبغي أن يجاهد في الدفع ولا
يترك العمل لكي يرجع إلى عقد الإخلاص ويرد نفسه إليه قهرا حتى يتمم العمل لأن
الشيطان يدعوك أولا إلى ترك العمل فإذا لم تجب واشتغلت فيدعوك إلى الرياء فإذا لم
تجب ودفعت بقي يقول لك هذا العمل ليس بخالص وأنت مراء وتعبك ضائع فأي فائدة لك في
عمل لا إخلاص حتى يحملك بذلك على ترك العمل فإذا تركته فقد حصلت غرضه
ومثال من يترك العلم لخوفه أن يكون مرائيا كمن سلم إليه مولاه حنطة فيها زؤان وقال
خلصها من الزؤان ونقها منه تنقية بالغة فيترك أصل العمل يقول أخاف إن اشتغلت به لم
تخلص خلاصا صافيا نقيا
فترك العمل من أجله هو ترك الإخلاص مع أصل العمل فلا معنى له
ومن هذا القبيل أن يترك العمل خوفا على الناس أن يقولوا إنه مراء فيعصون الله به
فهذا من مكايد الشيطان لأنه أولا أساء الظن بالمسلمين وما كان من حقه أن يظن بهم
ذلك ثم إن كان فلا يضره قولهم ويفوته ثواب
العبادة
وترك العمل خوفا من قولهم إنه مراء هو عين الرياء فلولا حبه لمحمدتهم وخوفه من
ذمهم فماله ولقولهم قالوا إنه مراء أو قالوا إنه مخلص وأي فرق بين أن يترك العمل
خوفا من أن يقال إنه مراء وبين أن يحسن العمل خوفا من أن يقال إنه غافل مقصر بل
ترك العمل أشد من ذلك
فهذه كلها مكايد الشيطان على العباد الجهال ثم كيف يطمع في أن يتخلص من الشيطان
بأن يترك العمل والشيطان لا يخليه بل يقول له الآن يقول الناس إنك تركت العمل
ليقال إنه مخلص لا يشتهي الشهرة
فيضطرك بذلك إلى أن تهرب فإن هربت ودخلت سربا تحت الأرض ألقى في قلبك حلاوة معرفة
الناس لتزهدك وهربك منهم وتعظيمهم لك بقلوبهم على ذلك فكيف تتخلص منه بل لا نجاة
منه إلا بأن تلزم قلبك معرفة آفة الرياء وهو أنه ضرر في الآخرة ولا نفع فيه في
الدنيا ليلزم الكراهة والإباء قلبك وتستمر مع ذلك على العمل ولا تبالي وإن نزغ
العدو نازغ الطبع فإن ذلك لا ينقطع وترك العمل لأجل ذلك يجر إلى البطالة وترك
الخيرات
فما دمت تجد باعثا دينيا على العمل فلا تترك العمل وجاهد خاطر الرياء وألزم قلبك
الحياء من الله إذا دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمده حمد المخلوقين وهو مطلع على
قلبك ولو اطلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهم لمقتوك بل إن قدرت على أن تزيد في
العمل حياء من ربك وعقوبة لنفسك فافعل
فإن قال لك الشيطان أنت مراء فاعلم كذبه وخدعه بما تصادف في قلبك من كراهة الرياء
وإبائه وخوفك منه وحيائك من الله تعالى وإن لم تجد في قلبك له كراهية ومنه خوفا
ولم يبق باعث ديني بل تجرد باعث الرياء فاترك العمل عند ذلك وهو بعيد فمن شرع في
العمل لله فلا بد أن يبقى معه أصل قصد الثواب
فإن قلت فقد نقل عن أقوام ترك العمل مخافة الشهرة
روي أن إبراهيم النخعي دخل عليه إنسان وهو يقرأ فأطبق المصحف وترك القراءة وقال لا
يرى هذا أنا نقرأ كل ساعة
وقال إبراهيم التيمي إذا أعجبك الكلام فاسكت وإذا أعجبك السكوت فتكلم
وقال الحسن إن كان أحدهم ليمر بالأذى ما يمنعه من دفعه إلا كراهة الشهرة وكان
أحدهم يأتيه البكاء فيصرفه إلى الضحك مخافة الشهرة
وقد ورد في ذلك آثار كثيرة قلنا هذا يعارضه ما ورد من إظهار الطاعات ممن لا يحصى
وإظهار الحسن البصري هذا الكلام في معرض الوعظ أقرب إلى خوف الشهرة من البكاء
وإماطة الأذى عن الطريق ثم لم يتركه
وبالجملة ترك النوافل جائز والكلام في الأفضل
والأفضل إنما يقدر عليه الأقوياء دون الضعفاء فالأفضل أن يتمم العمل ويجتهد في
الإخلاص ولا يتركه وأرباب الأعمال قد يعالجون أنفسهم بخلاف الأفضل لشدة الخوف
فالاقتداء ينبغي أن يكون بالأقوياء
وأما إطباق إبراهيم النخعي المصحف فيمكن أن يكون لعلمه بأنه سيحتاج إلى ترك
القراءة عند دخوله واستئنافه بعد خروجه للاشتغال بمكالمته فرأى أن لا يراه في
القراءة أبعد عن الرياء وهو عازم على الترك للاشتغال به حتى يعود إليه بعد ذلك
وأما ترك دفع الأذى فذلك ممن يخاف على نفسه آفة الشهرة وإقبال الناس عليه وشغلهم
إياه عن عبادات هي أكبر من رفع خشبة من الطريق فيكون ترك ذلك للمحافظة على عبادات
هي أكبر منها لا بمجرد خوف الرياء
وأما قول التيمي إذا أعجبك الكلام فاسكت يجوز أن يكون قد أراد به مباحات الكلام
كالفصاحة في الحكايات وغيرها فإن ذلك يورث العجب وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور
فهو عدول عن مباح إلى مباح حذرا من العجب
فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه على أن الآفة مما تعظم في الكلام فهو
واقع في القسم الثاني وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن
العبد
مما لا يتعلق بالناس ولا تعظم فيه الآفات ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة
الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ولا
يدركون هذه الدقائق وإنما ذكره تخويفا للناس من آفة الشهرة وزجرا من طلبها
القسم الثاني ما يتعلق بالخلق وتعظم فيه الآفات والأخطار وأعظمها الخلافة ثم
القضاء ثم التذكير والتدريس والفتوى ثم إنفاق المال
أما الخلافة والإمارة فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص وقد قال
النبي صلى الله عليه و سلم ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما
// حديث ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما الحديث أخرجه
الطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس وقد تقدم
فأعظم بعبادة يوازي يوم منها عبادة ستين سنة وقال صلى الله عليه و سلم أول من يدخل
الجنة ثلاثة الإمام المقسط // حديث أول من يدخل الجنة ثلاثة الإمام المقسط الحديث
أخرجه مسلم من حديث عياض بن حماد أهل الجنة ثلاث ذو سلطان مقسط الحديث ولم أر فيه
ذكر الأولية
أحدهم
وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام
العادل // حديث أبي هريرة ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل تقدم
أحدهم
وقال صلى الله عليه و سلم أقرب الناس مني مجلسا يوم القيامة إمام عادل // حديث أبي
سعيد الخدري أقرب الناس مني مجلسا يوم القيامة إمام عادل أخرجه الأصبهاني في
الترغيب والترهيب من رواية عطية العوفي وهو ضعيف عنه وفيه أيضا إسحاق بن إبراهيم
الديباجي ضعيف أيضا رواه أبو سعيد الخدري
فالإمارة والخلافة من أعظم العبادات ولم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها
ويهربون من تقلدها وذلك لما فيه من عظم الخطر إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ويغلب
النفس حب الجاه ولذة الاستيلاء ونفاذ الأمر وهو أعظم ملاذ الدنيا فإذا صارت
الولاية محبوبة كان الوالي ساعيا في حظ نفسه ويوشك أن يتبع هواه فيمتنع من كل ما
يقدح في جاهه وولايته وإن كان حقا ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلا وعند
ذلك يهلك ويكون يوم من سلطان جائر شرا من فسق ستين سنة بمفهوم الحديث الذي ذكرناه
ولهذا الخطر العظيم كان عمر رضي الله عنه يقول من يأخذها بما فيها وكيف لا وقد قال
النبي صلى الله عليه و سلم ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى
عنقه أطلقه عدله أو أوبقه جوره // حديث ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة يده
مغلولة إلى عنقه لا يفكها إلا عدله أخرجه أحمد من حديث عبادة بن الصامت ورواه أحمد
والبزار من رواية رجل لم يسم عن سعد بن عبادة وفيهما يزيد بن أبي زياد متكلم فيه
ورواه أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة ورواه البزار
والطبراني من حديث أبي هريرة ورواه البزار والطبراني من حديث بريدة والطبراني في
الأوسط من حديث ابن عباس وثوبان وله من حديث أبي الدرداء ما من والي ثلاثة إلا لقي
الله مغلولة يمينه الحديث وقد عزى المصنف هذا الحديث لرواية معقل بن يسار والمعروف
من حديث معقل بن يسار ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يرح
رائحة الجنة متفق عليه
رواه معقل بن يسار وولاه عمر ولاية فقال يا أمير المؤمنين أشر علي قال اجلس واكتم
علي
وروى الحسن أن رجلا ولاه النبي صلى الله عليه و سلم فقال للنبي خر لي قال اجلس //
حديث الحسن أن رجلا ولاه النبي صلى الله عليه و سلم فقال للنبي خر لي قال اجلس
أخرجه الطبراني موصولا من حديث عصمة هو ابن مالك وفيه الفضل بن المختار وأحاديثه
منكرة يحدث بالأباطيل قاله أبو حاتم ورواه أيضا من حديث ابن عمر بلفظ الزم بيتك
وفيه الغراب بن أبي الغراب ضعفه ابن معين وابن عدي وقال أبو حاتم صدوق
وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة إذ قال له النبي صلى الله عليه و سلم يا عبد الرحمن
لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أوتيتها عن مسألة
وكلت إليها // حديث عبد الرحمن بن سمرة لا تسل الإمارة الحديث متفق عليه
وقال أبو بكر رضي الله عنه لرافع بن عمر لا تأمر
على
اثنين ثم ولي هو الخلافة فقام بها فقال له رافع ألم تقل لي لا تأمر على اثنين وأنت
قد وليت أمر أمة محمد صلى الله عليه و سلم فقال بلى وأنا أقول لك ذلك فمن لم يعدل
فيها فعليه بهلة الله يعني لعنة الله
ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضا
وليس كذلك بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد
الولايات وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا وأعني بالقوي الذي لا تميله
الدنيا ولا يستفزه الطمع ولا تأخذه في الله لومة لائم وهم الذين سقط الخلق عن
أعينهم وزهدوا في الدنيا وتبرموا بها وبمخالطة الخلق وقهروا أنفسهم وملكوها وقمعوا
الشيطان فأيس منهم فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق ولا يسكنهم إلا الحق ولو زهقت فيهم
أرواحهم فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم
عليه الخوض في الولايات ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير
الولايات ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقت لذة الولاية وأن تستحلي الجاه وتستلذ
نفاذ الأمر فتكره العزل فيداهن خيفة من العزل فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل
يلزمه الهرب من تقلد الولاية فقال قائلون لا يجب لأن هذا خوف أمر في المستقبل وهو
في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق وترك لذات النفس والصحيح أن عليه
الاحتراز لأن النفس خداعة مدعية للحق واعدة بالخير فلو وعدت بالخير جزما لكان يخاف
عليها أن تتغير عند الولاية فكيف إذا أظهرت التردد
والامتناع عن قبول الولاية أهون من العزل بعد الشروع فالعزل مؤلم وهو كما قيل
العزل طلاق الرجال فإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل وتميل نفسه إلى المداهنة وإهمال
الحق وتهوى به في قعر جهنم ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهرا وكان
فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية
ومهما مالت النفس إلى طلب الولاية وحملت على السؤال والطلب فهو أمارة الشر ولذلك
قال صلى الله عليه و سلم إنا لا نولي أمرنا من سألنا // حديث إنا لا نولي أمرنا من
سألنا متفق عليه من حديث أبي موسى
فإذا فهمت اختلاف حكم القوي والضعيف علمت أن نهي أبي بكر رافعا عن الولاية ثم
تقلده لها ليس بمتناقض
وأما القضاء فهو وإن كان دون الخلافة والإمارة فهو في معناهما فإن كل ذي ولاية
أمير أي له أمر نافذ والإمارة محبوبة بالطبع والثواب في القضاء عظيم مع اتباع الحق
والعقاب فيه أيضا عظيم مع العدول عن الحق وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم
القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة // حديث القضاة ثلاثة الحديث أخرجه
أصحاب السنن من حديث بريدة وتقدم في العلم وإسناده صحيح
وقال صلى الله عليه و سلم من استقضى فقد ذبح بغير سكين // حديث من استقضى فقد ذبح
بغير سكين أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة بلفظ من جعل قاضيا وفي رواية من
ولى القضاء وإسناده صحيح
فحكمه حكم الإمارة ينبغي أن يتركه الضعفاء وكل من للدنيا ولذاتها وزن في عينه
وليتقلده الأقوياء الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم
ومهما كان السلاطين ظلمة ولم يقدر القاضي على القضاء إلا بمداهنتهم وإهمال بعض
الحقوق لأجلهم ولأجل المتعلقين بهم إذ يعلم أنه لو حكم عليهم بالحق لعزلوه أو لم
يطيعوه فليس له أن يتقلد القضاء وإن تقلد فعليه أن يطالبهم بالحقوق ولا يكون خوف
العزل عذرا مرخصا له في الإهمال أصلا بل إذا عزل سقطت العهدة عنه فينبغي أن يفرح
بالعزل إن كان يقضي لله فإن لم تسمح نفسه بذلك فهو إذن يقضي لاتباع الهوى والشيطان
فكيف يرتقب عليه ثوابا وهو مع الظلمة في الدرك الأسفل من النار
وأما الوعظ والفتوى والتدريس ورواية الحديث وجمع الأسانيد العالية وكل ما يتسع
بسببه الجاه ويعظم به
القدر
فآفته أيضا عظيمة مثل آفة الولايات وقد كان الخائفون من السلف يتدافعون الفتوى ما
وجدوا إليه سبيلا وكانوا يقولون حدثنا باب من أبواب الدنيا ومن قال حدثنا فقد قال
أوسعوا لي
ودفن بشر كذا وكذا قمطرا من الحديث وقال يمنعني من الحديث أني أشتهي أن أحدث ولو
اشتهيت أن لا أحدث لحدثت
والواعظ يجد في وعظه وتأثر قلوب الناس به وتلاحق بكائهم وزعقاتهم وإقبالهم عليه
لذة لا توازيها لذة فإذا غلب ذلك على قلبه مال طبعه إلى كل كلام مزخرف يروج عند
العوام وإن كان باطلا ويفر عن كل كلام يستثقله العوام وإن كان حقا ويصير مصروف
الهمة بالكلية إلى ما يحرك قلوب العوام ويعظم منزلته في قلوبهم فلا يسمع حديثا وحكمة
إلا ويكون فرحه به من حيث إنه يصلح لأن يذكره على رأس المنبر وكان ينبغي أن يكون
فرحه به من حيث إنه عرف طريق السعادة وطريق سلوك سبيل الدين ليعمل به أولا ثم يقول
إذا أنعم الله بهذه النعمة ونفعني بهذه الحكمة فأقصها ليشاركني في نفعها إخواني
المسلمون
فهذا أيضا مما يعظم فيه الخوف والفتنة فحكمه حكم الولايات فمن لا باعث له إلا طلب
الجاه والمنزلة والأكل بالدين والتفاخر والتكاثر فينبغي أن يتركه ويخالف الهوى فيه
إلى أن ترتاض نفسه وتقوى في الدين همته ويأمن على نفسه الفتنة فعند ذلك يعود إليه
فإن قلت مهما حكم بذلك على أهل العلم تعطلت العلوم واندرست وعم الجهل كافة الخلق
فنقول قد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن طلب الإمارة وتوعد عليها // حديث
النهي عن طلب الإمارة هو حديث عبد الرحمن بن سمرة لا تسل الإمارة وقد تقدم قبله
بثلاثة أحاديث
حتى قال إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة وندامة يوم القيامة إلا من أخذها
بحقها // حديث إنكم تحرصون على الإمارة وإنها حسرة يوم القيامة وندامة إلا من
أخذها بحقها أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة دون قوله إلا من أخذها بحقها وزاد في
آخره فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة ودون قوله حسرة وهي في صحيح ابن حبان
وقال نعمت المرضعة وبئست الفاطمة // حديث نعمت المرضعة وبئست الفاطمة أخرجه
البخاري من حديث أبي هريرة وهو بقية الحديث الذي قبله ورواه ابن حبان بلفظ فبئست
المرضعة وبئست الفاطمة
ومعلوم أن السلطنة والإمارة لو تعطلت لبطل الدين والدنيا جميعا وثار القتال بين
الخلق وزال الأمن وخربت البلاد وتعطلت المعايش فلم نهي عنها مع ذلك وضرب عمر رضي
الله عنه أبي بن كعب رأى قوما يتبعونه وهو في ذلك يقول أبي سيد المسلمين وكان يقرأ
عليه القرآن فمنع من أن يتبعوه وقال ذلك فتنة على المتبوع ومذلة على التابع وعمر
كان بنفسه يخطب ويعظ ولا يمتنع منه واستأذن رجل عمر أن يعظ الناس إذا فرغ من صلاة
الصبح فمنعه فقال أتمنعني من نصح الناس فقال أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا إذ رأى
فيه مخايل الرغبة في جاه الوعظ وقبول الخلق
والقضاء والخلافة مما يحتاج الناس إليه في دينهم كالوعظ والتدريس والفتوى وفي كل
واحد منهما فتنة ولذة فلا فرق بينهما فأما قول القائل نهيك عن ذلك يؤدي إلى اندراس
العلم فهو غلط إذ نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن القضاء لم يؤد إلى تعطيل
القضاء // حديث النهي عن القضاء أخرجه مسلم من حديث أبي ذر لا تؤمرن على اثنين ولا
تلين مال يتيم
بل الرياسةوحبها يضطر الخلق إلى طلبها وكذلك حب الرياسة لا يترك العلوم تندرس بل
لو حبس الخلق وقيدوا بالسلاسل والأغلال من طلب العلوم التي فيها القبول والرياسة
لأفلتوا من الحبس وقطعوا السلاسل وطلبوها
وقد وعد الله أن يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فلا تشغل قلبك بأمر الناس فإن
الله لا يضيعهم وانظر لنفسك ثم إني أقول مع هذا إذا كان في البلد جماعة يقومون
بالوعظ مثلا فليس في النهي عنه إلا امتناع بعضهم وإلا فليعلم أن كلهم لا يمتنعون
ولا يتركون لذة الرياسة فإن لم يكن في البلد إلا واحد وكان وعظه نافعا للناس من
حيث حسن كلامه وحسن سمعته في الظاهر وتخييله إلى العوام أنه إنما
يريد
الله بوعظه وأنه تارك للدنيا ومعرض عنها فلا نمنعه منه ونقول له اشتغل وجاهد نفسك
فإن قال لست أقدر على نفسي فنقول اشتغل وجاهد لأنا نعلم أنه لو ترك ذلك لهلك الناس
كلهم إذ لا قائم به غيره ولو واظب وغرضه الجاه فهو الهالك وحده وسلامة دين الجميع
أحب عندنا من سلامة دينه وحده فنجعله فداء للقوم ونقول لعل هذا هو الذي قال فيه
رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم // حديث
إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم أخرجه النسائي وقد تقدم قريبا
ثم الواعظ هو الذي يرغب في الآخرة ويزهد في الدنيا بكلامه وبظاهر سيرته
فأما ما أحدثه الوعاظ في هذه الأعصار من الكلمات المزخرفة والألفاظ المسجعة
المقرونة بالأشعار مما ليس فيه تعظيم لأمر الدين وتخويف المسلمين بل فيه الترجية
والتجرئة على المعاصي بطيارات النكت فيجب إخلاء البلاد منهم فإنهم نواب الدجال
وخلفاء الشيطان وإنما كلامنا في واعظ حسن الوعظ جميل الظاهر يبطن في نفسه حب
القبول ولا يقصد غيره وفيما أوردناه في كتاب العلم من الوعيد الوارد في حق علماء
السوء ما يبين لزوم الحذر من فتن العلم وغوائله
ولهذا قال المسيح عليه السلام يا علماء السوء تصومون وتصلون وتتصدقون ولا تفعلون
ما تأمرون وتدرسون ما لا تعملون فيا سوء ما تحكمون تتوبون بالقول والأماني وتعملون
بالهوى وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة بحق أقول لكم لا تكونوا
كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويبقى فيه النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكم من
أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من
الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته بحق أقول لكم إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم
الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم أفسدتم آخرتكم بصلاح دنياكم
فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة فأي ناس أخس منكم لو تعلمون ويلكم حتى متى
تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محلة المتجبرين كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها
لكم مهلا مهلا ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش
مظلم كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة معطلة يا
عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم
فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم يدفعكم
العلم من خلفكم ثم يسلمكم إلى الملك الديان حفاة عراة فرادى فيوقفكم على سوآتكم ثم
يجزيكم بسوء أعمالكم
وقد روى الحارث المحاسبي هذا الحديث في بعض كتبه ثم قال هؤلاء علماء السوء شياطين
الإنس وفتنة على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة وأذلوا
الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين وفي الآخرة هم الخاسرون
فإن قلت فهذه الآفات ظاهرة ولكن ورد في العلم والوعظ رغائب كثيرة حتى قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من الدنيا وما فيها //
حديث لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها متفق عليه من حديث
سهل بن سعد بلفظ خير لك من حمر النعم وقد تقدم في العلم
وقال صلى الله عليه و سلم أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليه كان له أجره وأجر من
اتبعه // حديث أيما داع دعا إلى هدى واتبع عليه كان له أجره وأجر من اتبعه أخرجه
ابن ماجه من حديث أنس بزيادة في أوله ولمسلم من حديث أبي هريرة من دعا إلى هدى كان
له من الأجر مثل أجور من تبعه الحديث
إلى غير ذلك من فضائل العلم فينبغي أن يقال للعالم اشتغل بالعلم واترك مراءاة
الخلق كما يقال لمن خالجه الرياء في الصلاة لا تترك العمل ولكن أتمم العمل وجاهد
نفسك فاعلم أن فضل العلم كبير وخطره عظيم كفضل الخلافة والإمارة ولا نقول لأحد من
عباد الله اترك العلم إذ ليس في نفس العلم آفة وإنما الآفة في إظهاره بالتصدي
للوعظ والتدريس ورواية الحديث ولا نقول له أيضا اتركه ما دام يجد
في
نفسه باعثا دينيا ممزوجا بباعث الرياء أما إذا لم يحركه إلا الرياء فترك الإظهار
أنفع له وأسلم
وكذلك نوافل الصلوات إذا تجرد فيها باعث الرياء وجب تركها أما إذا خطر له وساوس
الرياء في أثناء الصلاة وهو لها كاره فلا يترك الصلاة لأن آفة الرياء في العبادات
ضعيفة وإنما تعظم في الولايات وفي التصدي للمناصب الكبيرة في العلم
وبالجملة فالمراتب ثلاث
الأولى الولايات والآفات فيها عظيمة وقد تركها جماعة من السلف خوفا من الآفة
الثانية الصوم الصلاة والحج والغزو وقد تعرض لها أقوياء السلف وضعفاؤهم ولم يؤثر
عنهم الترك لخوف الآفة
وذلك لضعف الآفات الداخلة فيها والقدرة على نفيها مع إتمام العمل لله بأدنى قوة
الثالثة وهي متوسطة بين الرتبتين وهو التصدي لمنصب الوعظ والفتوى والرواية
والتدريس والآفات فيها أقل مما في الولايات وأكثر مما في الصلاة فالصلاة ينبغي أن
لا يتركها الضعيف والقوي ولكن يدفع خاطر الرياء والولايات ينبغي أن يتركها الضعفاء
رأسا دون الأقوياء ومناصب العلم بينهما ومن جرب آفات منصب العلم علم أنه بالولاة
أشبه وأن الحذر منه في حق الضعيف أسلم والله أعلم
وهنا رتبة رابعة وهي جمع المال وأخذه للتفرقة على المستحقين فإن في الإنفاق وإظهار
السخاء استجلابا للثناء وفي إدخال السرور على قلوب الناس لذة للنفس والآفات فيها
أيضا كثيرة
ولذلك سئل الحسن عن رجل طلب القوت ثم أمسك وآخر طلب فوق قوته ثم تصدق به فقال
القاعد أفضل لما يعرفون من قلة السلامة في الدنيا وأن من الزهد تركها قربة إلى
الله تعالى
وقال أبو الدرداء ما يسرني أنني أقمت على درج مسجد دمشق أصيب كل يوم خمسين دينارا
أتصدق بها أما إني لا أحرم البيع والشراء ولكني أريد أن أكون من الذين لا تلهيهم
تجارة ولا بيع عن ذكر الله
وقد اختلف العلماء فقال قوم إذا طلب الدنيا من الحلال وسلم منها وتصدق بها فهو
أفضل من أن يشتغل بالعبادات والنوافل وقال قوم الجلوس في دوام ذكر الله أفضل
والأخذ والإعطاء يشغل عن الله وقد قال المسيح عليه السلام يا طالب الدنيا ليبر بها
تركك لها أبر وقال
أقل ما فيه أن يشغله إصلاحه عن ذكر الله وذكر الله أكبر وأفضل
وهذا فيمن سلم من الآفات فأما من يتعرض لآفة الرياء فتركه لها أبر والاشتغال
بالذكر لا خلاف في أنه أفضل
وبالجملة ما يتعلق بالخلق وللنفس فيه لذة فهو مثار الآفات والأحب أن يعمل ويدفع
الآفات فإن عجز فلينظر وليجتهد وليستفت قلبه وليزن ما فيه من الخير بما فيه من
الشر وليفعل ما يدل عليه نور العلم دون ما يميل إليه الطبع
وبالجملة ما يجده أخف على قلبه فهو في الأكثر أضر عليه لأن النفس لا تشير إلا
بالشر وقلما تستلذ الخير وتميل إليه وإن كان لا يبعد ذلك أيضا في بعض الأحوال وهذه
أمور لا يمكن الحكم على تفاصيلها بنفي وإثبات فهو موكول إلى اجتهاد القلب لينظر
فيه لدينه ويدع ما يريبه إلى مالا يريبه ثم قد يقع مما ذكرناه غرور للجاهل فيمسك
المال ولا ينفقه خيفة من الآفة وهو عين البخل
ولا خلاف في أن تفرقة المال في المباحات فضلا عن الصدقات أفضل من إمساكه وإنما
الخلاف فيمن يحتاج إلى الكسب أن الأفضل الكسب والإنفاق أو التجرد للذكر وذلك لما
في الكسب من الآفات فأما المال الحاصل من الحلال فتفرقته أفضل من إمساكه بكل حال
فإن
قلت فبأي علامة تعرف العالم والواعظ أنه صادق مخلص في وعظه غير مريد رياء الناس
فاعلم أن لذلك علامات
إحداها أنه لو ظهر من هو أحسن منه وعظا أو أغزر منه علما والناس له أشد قبولا فرح
به ولم يحسده نعم لا بأس بالغبطة وهو أن يتمنى لنفسه مثل علمه
والأخرى أن الأكابر إذا حضروا مجلسه لم يتغير كلامه بل بقي كما كان عليه فينظر إلى
الخلق بعين واحدة
والأخرى أن لا يحب اتباع الناس له في الطريق والمشي خلفه في الأسواق
ولذلك علامات كثيرة يطول إحصاؤها
وقد روي عن سعيد بن أبي مروان قال كنت جالسا إلى جنب الحسن إذ دخل علينا الحجاج من
بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو على برذون أصفر فدخل المسجد على برذونه فجعل
يلتفت في المسجد فلم يرى حلقة أحفل من خلقه الحسن فتوجه نحوها حتى بلغ قريبا منها
ثم ثنى وركه فنزل ومشى نحو الحسن فلما رآه الحسن متوجها إليه تجافى له عن ناحية
مجلسه قال سعيد وتجافيت له أيضا عن ناحية مجلسي حتى صار بيني وبين الحسن فرجة
ومجلس للحجاج فجاء الحجاج حتى جلس بيني وبينه والحسن يتكلم بكلام له يتكلم به في
كل يوم فما قطع الحسن كلامه قال سعيد فقلت في نفسي لأبلون الحسن اليوم ولأنظرن هل
يحمل الحسن جلوس الحجاج إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه أو يحمل الحسن هيبة
الحجاج أن ينقص من كلامه فتكلم الحسن كلاما واحدا نحوا مما كان يتكلم به في كل يوم
حتى انتهى إلى آخر كلامه فلما فرغ الحسن من كلامه وهو غير مكترث به رفع الحجاج يده
فضرب بها على منكب الحسن ثم قال صدق الشيخ وبر فعليكم بهذه المجالس وأشباهها
فاتخذوها حلقا وعادة فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن مجالس الذكر
رياض الجنة // حديث أن مجالس الذكر رياض الجنة تقدم في الأذكار والدعوات
ولولا ما حملناه من أمر الناس ما غلبتمونا على هذه المجالس لمعرفتنا بفضلها قال ثم
افتر الحجاج فتكلم حتى عجب الحسن ومن حضر من بلاغته فلما فرغ طفق فقام فجاء رجل من
أهل الشام إلى مجلس الحسن حين قام الحجاج فقال عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني
رجل شيخ كبير وأني أغزو فأكلف فرسا وبغلا وأكلف فسطاطا وأن لي ثلثمائة درهم من
العطاء وأن لي سبع بنات من العيال فشكا من حاله حتى رق الحسن له ولأصحابه والحسن
مكب فلما فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسه فقال ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد
الله خولا ومال الله دولا وقتلوا الناس على الدينار والدرهم فإذا غزا عدو الله غزا
في الفساطيط الهبابة وعلى البغال السباقة وإذا أغزى أخاه أغزاه طاويا راجلا فما
فتر الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده فقام رجل من أهل الشام كان جالسا إلى الحسن
فسعى به إلى الحجاج وحكى له كلامه فلم يلبث الحسن أن أتته رسل الحجاج فقالوا أجب
الأمير فقام الحسن وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به فلم يلبث الحسن أن رجع
إلى مجلسه وهو يبتسم وقلما رأيته فاغرا فاه يضحك إنما كان يتبسم فأقبل حتى قعد في
مجلسه فعظم الأمانة وقال إنما تجالسون بالأمانة كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا
في الدينار والدرهم إن الخيانة أشد الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم
ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار إني أتيت هذا الرجل فقال أقصر عليك من لسانك
وقولك إذا غزا عدو الله غزا كذا وكذا وإذا أغزى أخاه أغزاه كذا لا أبالك تحرض
علينا الناس أما إنا على ذلك لانتهم نصيحتك فأقصر عليك من لسانك قال فدفعه الله
عني
وركب الحسن حمارا يريد المنزل فبينما هو يسير إذا التفت فرأى قوما يتبعونه فوقف
فقال هل لكم من حاجة أو تسألون عن شيء وإلا فارجعوا فما يبقى هذا من قلب العبد
فبهذه
العلامات
وأمثالها تتبين سريرة الباطن
ومهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون ولا يتوانسون ولا يتعاونون فاعلم أنهم قد
اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم الخاسرون
اللهم ارحمنا بلطفك يا أرحم الراحمين
بيان ما يصح من نشاط العبد للعبادة بسبب رؤية الخلق وما لا يصح
اعلم أن الرجل قد يبيت مع القوم في موضع فيقومون للتهجد أو يقوم بعضهم فيصلون
الليل كله أو بعضه وهو ممن يقوم في بيته ساعة قريبة فإذا رآهم انبعث نشاطه
للموافقة حتى يزيد على ما كان يعتاده أو يصلي مع أنه كان لا يعتاد الصلاة بالليل
أصلا وكذلك قد يقع في موضع يصوم فيه أهل الموضع فينبعث له نشاط في الصوم ولولاهم
لما انبعث هذا النشاط فهذا ربما يظن أنه رياء وأن الواجب ترك الموافقة وليس كذلك
على الإطلاق بل له تفصيل لأن كل مؤمن راغب في عبادة الله تعالى وفي قيام الليل
وصيام النهار ولكن قد تعوقه العوائق ويمنعه الاشتغال ويغلبه التمكن من الشهوات أو
تستهويه الغفلة فربما تكون مشاهدة الغير سبب زوال الغفلة أو تندفع العوائق
والأشغال في بعض المواضع فينبعث له النشاط فقد يكون الرجل في منزله فتقطعه الأسباب
عن التهجد مثل تمكنه من النوم على فراش وثير أو تمكنه من التمتع بزوجته أو
المحادثة مع أهله وأقاربه أو الاشتغال بأولاده أو مطالعة حساب له مع معامليه فإذا
وقع في منزل غريب اندفعت عنه هذه الشواغل التي تفتد رغبته عن الخير وحصلت له أسباب
باعثة على الخير كمشاهدته إياهم وقد أقبلوا على الله وأعرضوا عن الدنيا فإنه ينظر
إليهم فينافسهم ويشق عليه أن يسبقوه بطاعة الله فتتحرك داعيته للدين لا للرياء أو
ربما يفارقه النوم لاستنكاره الموضع أو سبب آخر فيغتنم زوال النوم وفي منزله ربما
يغلبه النوم وربما ينضاف إليه أنه في منزله على الدوام والنفس لا تسمح بالتهجد
دائما وتسمح بالتهجد وقتا قليلا فيكون ذلك سبب هذا النشاط مع اندفاع سائر العوائق
وقد يعسر عليه الصوم في منزله ومعه أطايب الأطعمة ويشق عليه الصبر عنها فإذا
أعوزته تلك الأطعمة لم يشق عليه فتنبعث داعية الدين للصوم فإن الشهوات الحاضرة
عوائق ودوافع تغلب باعث الدين فإذا سلم منها قوي الباعث
فهذا وأمثاله من الأسباب يتصور وقوعه ويكون السبب فيه مشاهدة الناس وكونه معهم والشيطان
مع ذلك ربما يصد عن العمل ويقول لا تعمل فإنك تكون مرائيا إذا كنت لا تعمل في بيتك
ولا تزد على صلاتك المعتادة وقد تكون رغبته في الزيادة لأجل رؤيتهم وخوفا من ذمهم
ونسبتهم إياه إلى الكسل لا سيما إذا كانوا يظنون به أنه يقوم الليل فإن نفسه لا
تسمح بأن يسقط من أعينهم فيريد أن يحفظ منزلته وعند ذلك قد يقول الشيطان صل فإنك
مخلص ولست تصلي لأجلهم بل لله وإنما كنت لا تصلي كل ليلة لكثرة العوائق وإنما
داعيتك لزوال العوائق لا لاطلاعهم
وهذا أمر مشتبه إلا على ذوي البصائر فإذا عرف أن المحرك هو الرياء فلا ينبغي أن
يزيد على ما كان يعتاده ولا ركعة واحدة لأنه يعصي الله بطلب محمدة الناس بطاعة
الله وإن كان انبعاثه لدفع العوائق وتحرك الغبطة والمنافسة بسبب عبادتهم فليوافق
وعلامة ذلك أن يعرض على نفسه أنه لو رأى هؤلاء يصلون من حيث لا يرونه بل من وراء
حجاب وهو في ذلك الموضع بعينه هل كانت نفسه تسخو بالصلاة وهم لا يرونه فإن سخت
نفسه فليصل فإن باعثه الحق وإن كان ذلك يثقل على نفسه لو غاب عن أعينهم فليترك فإن
باعثه الرياء
وكذلك قد يحضر الإنسان يوم الجمعة في الجامع من نشاط الصلاة ما لا يحضره كل يوم
ويمكن أن يكون ذلك لحب حمدهم ويمكن أن يكون نشاطه بسبب نشاطهم وزوال غفلته بسبب
إقبالهم على الله تعالى وقد يتحرك بذلك باعث الدين ويقارنه نزوع النفس إلى حب
الحمد فمهما علم أن الغالب على قلبه إرادة الدين فلا
ينبغي
أن يترك العمل بما يجده من حب الحمد بل ينبغي أن يرد ذلك على نفسه بالكراهية
ويشتغل بالعبادة
وكذلك قد يبكي جماعة فينظر إليهم فيحضره البكاء خوفا من الله تعالى لا من الرياء
ولو سمع ذلك الكلام وحده لما بكى ولكن بكاء الناس يؤثر في ترقيق القلب وقد لا
يحضره البكاء فيتباكى تارة رياء وتارة مع الصدق إذ يخشى على قلبه قساوة القلب حين
يبكون ولا تدمع عينه فيتباكى تكلفا وذلك محمود
وعلامة الصدق فيه أن يعرض على نفسه أنه لو سمع بكاءهم من حيث لا يرونه هل كان يخاف
على نفسه القساوة فيتباكى أم لا فإن لم يجد ذلك عند تقدير الاختفاء عن أعينهم
فإنما خوفه من أن يقال إنه قاسي القلب فينبغي أن يترك التباكي
قال لقمان عليه السلام لابنه لا ترى الناس أنك تخشى ليكرموك وقلبك فاجر
وكذلك الصيحة والتنفس والأنين عند القرآن أو الذكر أو بعض مجاري الأحوال تارة تكون
من الصدق والحزن والخوف والندم والتأسف وتارة تكون لمشاهدته حزن غيره وقساوة قلبه
فيتكلف التنفس والأنين ويتحازن وذلك محمود وقد تقترن به الرغبة فيه لدلالته على
أنه كثير الحزن ليعرف بذلك فإن تجردت هذه الداعية فهي الرياء وإن اقترنت بداعية
الحزن فإن أباها ولم يقبلها وكرهها سلم بكاؤه وتباكيه وإن قبل ذلك وركن إليه بقلبه
حبط أجره وضاع سعيه وتعرض لسخط الله تعالى به وقد يكون أصل الأنين عن الحزن ولكن
يمده ويزيد في رفع الصوت فتلك الزيادة رياء وهو محظور لأنها في حكم الابتداء لمجرد
الرياء فقد يهيج من الخوف ما لا يملك العبد معه نفسه ولكن يسبقه خاطر الرياء
فيقبله فيدعو إلى زيادة تحزين للصوت أو رفع له أو حفظ الدمعة على الوجه حتى تبصر بعد
أن استرسلت لخشية الله ولكن يحفظ أثرها على الوجه لأجل الرياء
وكذلك قد يسمع الذكر فتضعف قواه من الخوف فيسقط ثم يستحي أن يقال له إنه سقط من
غير زوال عقل وحالة شديدة فيزعق ويتواجد تكلفا ليرى أنه سقط لكونه مغشيا عليه وقد
كان ابتداء السقطة عن صدق وقد يزول عقله فيسقط ولكن يفيق سريعا فتجزع نفسه أن يقال
حالته غير ثابتة وإنما هي كبرق خاطف فيستديم الزعقة والرقص ليرى دوام حاله وكذلك
قد يفيق بعد الضعف ولكن يزول ضعفه سريعا فيجزع أن يقال لم تكن غشيته صحيحة ولو كان
لدام ضعفه فيستديم إظهار الضعف والأنين فيتكئ على غيره يرى أنه يضعف عن القيام
ويتمايل في المشي ويقرب الخطا ليظهر أنه ضعيف عن سرعة المشي
فهذه كلها مكايد الشيطان ونزعات النفس
فإذا خطرت فعلاجها أن يتذكر أن الناس لو عرفوا نفاقه في الباطن واطلعوا على ضميره
لمقتوه وإن الله مطلع على ضميره وهو له أشد مقتا كما روي عن ذي النون رحمه الله
أنه قام وزعق فقام معه شيخ آخر رأى فيه أثر التكلف فقال يا شيخ الذي يراك حين تقوم
فجلس الشيخ
وكل ذلك من أعمال المنافقين
وقد جاء في الخبر تعوذوا بالله من خشوع النفاق // حديث تعوذوا بالله من خشوع
النفاق أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي بكر الصديق وفيه الحارث بن عبيد
الأيادي ضعفه أحمد وابن معين
وإنما خشوع النفاق أن تخشع الجوارح والقلب غير خاشع ومن ذلك الاستغفار والاستعاذة
بالله من عذابه وغضبه فإن ذلك قد يكون لخاطر خوف وتذكر ذنب وتندم عليه وقد يكون
للمراءاة
فهذه خواطر ترد على القلب متضادة مترادفة متقاربة وهي مع تقاربها متشابهة فراقب
قلبك في كل ما يخطر لك وانظر ما هو ومن أين هو فإن كان لله فامضه واحذر مع ذلك أن
يكون قد خفي عليكشيء من الرياء الذي هو كدبيب النمل وكن على وجل من عبادتك أهي
مقبولة أم لا لخوفك على الإخلاص فيها واحذر أن يتجدد لك خاطر الركون إلى حمدهم بعد
الشروع بالإخلاص فإن ذلك مما يكثر جدا
فإذا
خطر لك فتفكر في إطلاع الله عليك ومقته لك
وتذكر ما قاله أحد الثلاثة الذين حاجوا أيوب عليه السلام إذ قال يا أيوب أما علمت
أن العبد تضل عنه علانيته التي كان يخادع بها عن نفسه ويجزي بسريرته
وقول بعضهم أعوذ بك أن يرى الناس أني أخشاك وأنت لي ماقت
وكان من دعاء علي بن الحسين رضي الله عنهما اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لامعة
العيون علانيتي وتقبح لك فيما أخلو سريرتي محافظا على رياء الناس من نفسي مضيعا
لما أنت مطلع عليه مني أبدي للناس أحس أمري وأفضي إليك بأسوأ عملي تقربا إلى الناس
بحسناتي وفرارا منهم إليك بسيآتي فيحل بي مقتك ويجب علي غضبك أعذني من ذلك يا رب
العالمين
وقد قال أحد الثلاثة نفر لأيوب عليه السلام يا أيوب ألم تعلم أن الذين حفظوا
علانيتهم وأضاعوا سرائرهم عند طلب الحاجات إلى الرحمن تسود وجوههم فهذه جمل آفات
الرياء
فليراقب العبد قلبه ليقف عليها ففي الخبر إن للرياء سبعين بابا // حديث الرياء
سبعون بابا هكذا ذكر المصنف هذا الحديث هنا وكأنه تصحف عليه أو على من نقله من
كلامه أنه الرياء بالمثناة وإنما هو الربا بالموحدة والمرسوم كتابته بالواو
والحديث رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح
الرجل أمه وفي إسناد أبو معشر واسمه نجيح مختلف فيه وروى ابن ماجه أيضا من حديث
ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم قال الربا ثلاث وسبعون بابا وإسناده صحيح
هكذا ذكر ابن ماجه الحديثين في أبوب التجارات وقد روى البزار حديث ابن مسعود بلفظ
الربا بضع وسبعون بابا والشرك مثل ذلك وهذه الزيادة قد يستدل بها على أنه الرياء
بالمثناة لاقترائه مع الشرك والله أعلم
وقد عرفت أن بعضه أغمض من بعض حتى إن بعضه مثل دبيب النمل وبعضه أخفى من دبيب
النمل وكيف يدرك ما هو أخفى من دبيب النمل إلا بشدة التفقد والمراقبة وليته أدرك
بعد بذل المجهود فكيف يطمع في إدراكه من غير تفقد للقلب وامتحان للنفس وتفتيش عن
خدعها نسأل الله تعالى العافية بمنه وكرمه وإحسانه
بيان ما ينبغي للمريد أن يلزم نفسه قبل العمل وبعده وفيه
اعلم أن أولى ما يلزم المريد قلبه في سائر أوقاته القناعة بعلم الله في جميع
طاعاته ولا يقنع بعلم الله إلا من لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا الله فأما من خاف
غيره وارتجاه اشتهى إطلاعه على محاسن أحواله فإن كان في هذه الرتبة فليلزم قلبه
كراهة ذلك من جهة العقل والإيمان لما فيه من خطر التعرض للمقت وليراقب نفسه عند
الطاعات العظيمة الشاقة التي لا يقدر عليها غيره فإن النفس عند ذلك تكاد تغلي حرصا
على الإفشاء وتقول مثل هذا العمل العظيم أو الخوف العظيم أو البكاء العظيم لو عرفه
الخلق منك لسجدوا لك فما في الخلق من يقدر على مثله فكيف ترضى بإخفائه فيجهل الناس
محلك وينكرون قدرك ويحرمون الاقتداء بك ففي مثل هذا الأمر ينبغي أن يثبت قدمه
ويتذكر في مقابلة عظم عمله عظم ملك الآخرة ونعيم الجنة ودوامه أبد الآباد وعظم غضب
الله ومقته على من طلب بطاعته ثوابا من عباده ويعلم أن إظهاره لغيره محبب إليه
وسقوط عند الله وإحباط للعمل العظيم فيقول وكيف أتبع مثل هذا العمل بحمد الخلق وهم
عاجزون لا يقدرون لي على رزق ولا أجل فيلزم ذلك قلبه ولا ينبغي أن ييأس عنه فيقول
إنما يقدر على الإخلاص الأقوياء فأما المخلطون فليس ذلك من شأنهم فيترك المجاهدة
في الإخلاص لأن المخلط إلى ذلك أحوج من المتقي لأن المتقي إن فسدت نوافله بقيت
فرائضه كاملة تامة والمخلط لا تخلو فرائضه عن النقصان والحاجة إلى الجبران
بالنوافل فإن لم تسلم صار مأخذوا بالفرائض وهلك به فالمخلط إلى الإخلاص أحوج
وقد روى تميم الداري عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال يحاسب العبد يوم
القيامة فإن نقص فرضه قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكمل به فرضه وإن
لم يكن له تطوع أخذ
بطرفيه
فألقي في النار // حديث تميم الداري في إكمال فريضة الصلاة بالتطوع أخرجه أبو داود
وابن ماجه وتقدم في الصلاة
فيأتي المخلط يوم القيامة وفرضه ناقص وعليه ذنوب كثيرة فاجتهاده في جبر الفرائض
وتكفير السيئات ولا يمكن ذلك إلا بخلوص النوافل وأما المتقي فجهده في زيادة
الدرجات فإن حبط تطوعه بقي من حسناته ما يترجح على السيئات فيدخل الجنة
فإذن ينبغي أن يلزم قلبه خوف اطلاع غير الله عليه لتصح نوافله ثم يلزم قلبه ذلك
بعد الفراغ حتى لا يظهره ولا يتحدث به وإذا فعل جميع ذلك فينبغي أن يكون وجلا من
عمله خائفا أنه ربما داخله من الرياء الخفي ما لم يقف عليه فيكون شاكا في قبوله
ورده مجوزا أن يكون الله قد أحصى عليه من نيته الخفية ما مقته بها ورد عمله بسببها
ويكون هذا الشك والخوف في دام عمله وبعده إلا في ابتداء العقل بل ينبغي أن يكون
متيقنا في الابتداء أنه مخلص ما يريد بعمله إلا الله حتى يصح عمله فإذا شرع ومضت
لحظة يمكن فيها الغفلة والنسيان كان الخوف من الغفلة عن شائبة خفية أحبطت عمله من
رياء أو عجب أولى به ولكن يكون رجاؤه أغلب من خوفه لأنه استيقن أنه دخل بالإخلاص
وشك في أنه هل أفسده برياء فيكون رجاء القبول أغلب وبذلك تعظم لذته في المناجاة
والطاعات
فالإخلاص يقين والرياء شك
وخوفه لذلك الشك جدير بأن يكفر خاطر الرياء إن كان قد سبق وهو غافل عنه
والذي يتقرب إلى الله بالسعي في حوائج الناس وإفادة العلم ينبغي أن يلزم نفسه رجاء
الثواب على دخول السرور على قلب من قضى حاجته فقط ورجاء الثواب على عمل المتعلم
بعلمه فقط دون شكر ومكافأة وحمد وثناء من المتعلم والمنعم عليه فإن ذلك يحبط الأجر
فمهما توقع من المتعلم مساعدة في شغل وخدمة أو مرافقة في المشي في الطريق ليستكثر
باستتباعه أو ترددا منه في حاجة فقد أخذ أجره بلا ثواب له غيره
نعم إن لم يتوقع هو ولم يقصد إلا الثواب على عمله بعلمه ليكون له مثل أجره ولكن
خدمة التلميذ بنفسه فقبل خدمته فنرجو أن لا يحبط ذلك أجره إذا كان لا ينتظره ولا
يريده منه ولا يستبعده منه لو قطعه
ومع هذا فقد كان العلماء يحذرون هذا حتى إن بعضهم وقع في بئر فجاء قوم فأدلوا حبلا
ليرفعوه فحلف عليهم أن لا يقف معهم من قرأ عليه آية من القرآن أو سمع منه حديثا
خيفة أن يحبط أجره
وقال شقيق البلخي أهديت لسفيان الثوري ثوبا فرده علي فقلت له يا أبا عبد الله لست
أنا ممن يسمع الحديث حتى ترده علي قال علمت ذاك ولكن أخوك يسمع مني الحديث فأخاف
أن يلين قلبي لأخيك أكثر مما يلين لغيره
وجاء رجل إلى سفيان ببدرة أو بدرتين وكان أبوه صديقا لسفيان وكان سفيان يأتيه
كثيرا فقال له يا أبا عبد الله في نفسك من أبي شيء فقال يرحم الله أباك كان وكان
وأثنى عليه فقال يا أبا عبد الله قد عرفت كيف صار هذا المال إلي فأحب أن تأخذ هذه
تستعين بها على عيالك قال فقبل سفيان ذلك قال فلما خرج قال لولده يا مبارك ألحقه
فرده علي فرجع فقال أحب أن تأخذ مالك فلم يزل به حتى رده عليه
وكأنه كانت أخوته مع أبيه في الله تعالى فكره أن يأخذ ذلك
قال ولده فلما خرج لم أملك نفسي أن جئت إليه فقلت ويلك أي شيء قلبك هذا حجارة عد
أنه ليس لك عيال أما ترحمني أما ترحم إخوتك أما ترحم عيالنا فأكثرت عليه فقال لي
يا مبارك تأكلها أنت هنيئا مرئيا وأسأل عنها أنا
فإذن يجب على العالم أن يلزم قلبه طلب الثواب من الله في اهتداء الناس به فقط ويجب
على المتعلم أن يلزم قلبه حمد الله وطلب ثوابه ونيل المنزلة عنده لا عند المعلم
وعند الخلق 2
وربما يظن أن له أن يرائي بطاعته لينال عند المعلم رتبته فيتعلم منه وهو خطأ لأن
إرادته بطاعته غير الله خسران في الحال والعلم ربما يفيد وربما
لا
يفيد فيكف يخسر في الحال عملا نقدا على توهم علم وذلك غير جائز بل ينبغي أن يتعلم
لله ويعبد الله ويخدم المعلم لله لا ليكون له في قلبه منزلة إن كان يريد أن يكون
تعلمه طاعة فإن العباد أمروا أن لا يعبدوا إلا الله ولا يريدوا بطاعتهم غيره
وكذلك من يخدم أبويه لا ينبغي أن يخدمهما لطلب المنزلة عندهما إلا من حيث إن رضا
الله عنه في رضا الوالدين ولا يجوز له أن يرائي بطاعته لينال بها منزلة عند
الوالدين فإن ذلك معصية في الحال وسيكشف الله عن ريائه وتسقط منزلته من قلوب
الوالدين أيضا
وأما الزاهد المعتزل عن الناس فينبغي له أن يلزم قلبه ذكر الله والقناعة بعلمه ولا
يخطر بقلبه معرفة الناس زهده واستعظامهم محله فإن ذلك يغرس الرياء في صدره حتى
تتيسر عليه العبادات في خلوته به وإنما سكوته لمعرفة الله باعتزاله واستعظامهم
لمحله وهو لا يدري أنه المخفف للعمل عليه
قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعلمت المعرفة من راهب يقال له سمعان دخلت عليه في
صومعته فقلت يا سمعان منذ كم أنت في صومعتك قال منذ سبعين سنة قلت
فما طعامك قال يا حنيفي وما دعاك إلى هذا قلت أحببت أن أعلم قال في كل ليلة حمصة
قلت فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة قال ترى الدير الذي بحذائك قلت
نعم قال إنهم يأتوني في كل سنة يوما واحدا فيزينون صومعتي ويطوفون حولها ويعظموني
فكلما تثاقلت نفسي عن العبادة ذكرتها عز تلك الساعة فأنا احتمل جهد سنة لعز ساعة فاحتمل
يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد فوقر في قلبي المعرفة فقال حسبك أو أزيدك قلت بلى قال
أنزل عن الصومعة فنزلت فأدلى لي ركوة فيها عشرون حمصة فقال لي ادخل الدير فقد رأوا
ما أدليت إليك فلما دخلت الدير اجتمع علي النصارى فقالوا يا حنيفي ما الذي أدلى
إليك الشيخ قلت من قوته قالوا فما تصنع به ونحن أحق به ثم قالوا ساوم قلت عشرون
دينارا فأعطوني عشرين دينارا فرجعت إلى الشيخ فقال يا حنيفي ما الذي صنعت قلت بعته
منهم قال بكم قلت بعشرين دينارا قال أخطأت لو ساومتهم بعشرين ألف دينار لأعطوك هذا
عز من لا تعبده فانظر كيف يكون عز من تعبده يا حنيفي أقبل على ربك ودع الذهاب
والجيئة
والمقصود أن استشعار النفس عز العظمة في القلوب يكون باعثا في الخلوة وقد لا يشعر
العبد به فينبغي أن يلزم نفسه الحذر منه وعلامة سلامته أن يكون الخلق عنده
والبهائم بمثابة واحدة فلو تغيروا عن اعتقادهم له لم يجزع ولم يضق به ذرعا إلا
كراهة ضعيفة أن وجدها في قلبه فيردها في الحال بعقله وإيمانه فإنه لو كان في عبادة
واطلع الناس كلهم عليه لم يزده ذلك خشوعا ولم يداخله سرور بسبب اطلاعهم عليه فإن
دخل سرور يسير فهو دليل ضعفه ولكن إذا قدر على رده بكراهة العقل والإيمان وبادر
إلى ذلك ولم يقبل ذلك السرور بالركون إليه فيرجى له أن لا يخيب سعيه إلا أن يزيد
عند مشاهدتهم في الخشوع والانقباض كي لا ينبسطوا إليه فذلك لا بأس به ولكن فيه
غرور إذ النفس قد تكون شهوتها الخفية إظهار الخشوع وتتعلل بطلب الانقباض فيطالبها
في دعواها قصد الانقباض بموثق من الله غليظ وهو أنه لو علم أن انقباضهم عنه إنما
حصل بأن يعدوا كثيرا أو يضحك كثيرا أو يأكل كثيرا فتسمح نفسه بذلك فإذا لم تسمح
وسمحت بالعبادة فيشبه أن يكون مرادها المنزلة عندهم ولا ينجو من ذلك إلا من تقرر
في قلبه أنه ليس في الوجود أحد سوى الله فيعمل عمل من لو كان على وجه الأرض وحده
لكان يعمله فلا يلتفت قلبه إلى الخلق إلا خطرات ضعيفة لا يشق عليه إزالتها فإذا
كان كذلك لم يتغير بمشاهدة الخلق
ومن علامة الصدق فيه أنه لو كان له صاحبان أحدهما غني والآخر فقير فلا يجد عند
إقبال الغني زيادة هزة
في
نفسه لا كرامة إلا إذا كان في الغنى زيادة علم أو زيادة ورع فيكون مكرما له بذلك
الوصف لا بالغنى فمن كان استرواحه إلى مشاهدة الأغنياء أكثر فهو مراء أو طماع وإلا
فالنظر إلى الفقراء يزيد في الرغبة إلى الآخرة ويحبب إلى القلب المسكنة والنظر إلى
الأغنياء بخلافه فكيف استروح بالنظر إلى الغني أكثر مما يستروح إلى الفقير وقد حكي
أنه لم ير الأغنياء في مجلس أذل منهم فيه في مجلس سفيان الثوري كان يجلسهم وراء
الصف ويقدم الفقراء حتى كانوا يتمنون أنهم فقراء في مجلسه
نعم لك زيادة إكرام للغني إذا كان أقرب إليك أو كان بينك وبينه حق وصداقة سابقة
ولكن يكون بحث لو وجدت تلك العلاقة في فقير لكنت لا تقدم الغني عليه في إكرام
وتوقير البتة فإن الفقير أكرم على الله من الغني فإيثارك لا يكون إلا طمعا في غناه
ورياء له ثم إذا سويت بينهما في المجالسة فيخشى عليك أن تظهر الحكمة والخشوع للغني
أكثر مما تظهره للفقير وإنما ذلك رياء خفي أو طمع خفي كما قال ابن السماك لجارية
له مالي إذا أتيت بغداد فتحت لي الحكمة فقالت الطمع يشحذ لسانك وقد صدقت فإن
اللسان ينطق عند الغني بما لا ينطق به عند الفقير وكذلك يحضر من الخشوع عنده ما لا
يحضره عند الفقير
ومكايد النفس وخفاياها في هذا الفن لا تنحصر ولا ينجيك منها إلا أن تخرج ما سوى
الله من قلبك وتتجرد بالشفقة على نفسك بقية عمرك ولا ترضى لها بالنار بسبب شهوات
منغصة في أيام متقاربة وتكون في الدنيا كملك من ملوك الدنيا قد أمكنته الشهوات
وساعدته اللذات ولكن في بدنه سقم وهو يخاف الهلاك على نفسه في كل ساعة لو اتسع في
الشهوات وعلم أنه لو احتمى وجاهد شهوته عاش ودام ملكه فلما عرف ذلك جالس الأطباء
وحارف الصيادلة وعود نفسه شرب الأدوية المرة وصبر على بشاعتها وهجر جميع اللذات
وصبر على مفارقتها فبدنه كل يوم يزداد نحولا لقلة أكله ولكن سقمه يزداد كل يوم
نقصانا لشدة احتمائه فمهما نازعته نفسه إلى شهوة تفكر في توالي الأوجاع والآلام
عليه وأداه ذلك إلى الموت المفرق بينه وبين مملكته الموجب لشماتة الأعداء به ومهما
اشتد عليه شرب دواء تفكر فيما يستفيده منه من الشفاء الذي هو سبب التمتع بملكه
ونعيمه في عيش هنيء وبدن صحيح وقلب رخي وأمر نافذ فيخف عليه مهاجرة اللذات ومصابرة
المكروهات
فكذلك المؤمن المريد لملك الآخرة احتمى عن كل مهلك له في آخرته وهي لذات الدنيا
وزهرتها فاجتزى منها بالقليل واختار النحول والذبول والوحشة والحزن والخوف وترك
المؤانسة بالخلق خوفا من أن يحل عليه غضب من الله فيهلك ورجاء أن ينجو من عذابه
فخف ذلك كله عليه عند شدة يقينه وإيمانه بعاقبة أمره وبما أعد له من النعيم المقيم
في رضوان الله أبد الآباد ثم علم أن الله كريم رحيم لمن يزل لعباده المريدين
لمرضاته عونا وبهم رءوفا وعليهم عطوفا ولو شاء لأغنانهم عن التعب ولكن أراد أن
يبلوهم ويعرف صدق إرادتهم حكمة منه وعدلا ثم إذا تحمل التعب في بدايته أقبل الله
عليه بالمعونة والتيسير وحط عنه الأعباء وسهل عليه الصبر وحبب إليه الطاعة ورزقه
فيها من لذة المناجاة ما يلهيه عن سائر اللذات ويقويه على إماتة الشهوات ويتولى
سياسته وتقويته وأمده بمعونته فإن الكريم لا يضيع سعي الراجي ولا يخيب أمل المحب
وهو الذي يقول من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ويقول تعالى لقد طال شوق الأبرار
إلى لقائي وإني إلى لقائهم أشد شوقا فليظهر العبد في البداية جده وصدقه وإخلاصه
فلا يعوزه من الله تعالى على القرب ما هو اللائق بجوده وكرمه ورأفته ورحمته تم
كتاب ذم الجاه والرياء والحمد لله وحده
كتاب
ذم الكبر والعجب وهو الكتاب التاسع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الخالق البارئ المصور العزيز الجبار المتكبر العلي الذي لا يضعه عن مجده
واضع الجبار الذي كل جبار له ذليل خاضع وكل متكبر في جناب عزه مسكين متواضع فهو
القهار الذي لا يدفعه عن مراده دافع الغني الذي ليس له شريك ولا منازع القادر الذي
بهر أبصار الخلائق جلاله وبهاؤه وقهر العرش المجيد استواؤه واستعلاؤه واستيلاؤه
وحصر ألسن الأنبياء وصفه وثناؤه وارتفع عن حد قدرتهم إحصاؤه واستقصاؤه فاعترف
بالعجر عن وصف كنه جلاله ملائكته وأنبياؤه وكسر ظهور الأكاسرة عزه وعلاؤه وقصر
أيدي القياصرة عظمته وكبرياؤه فالعظمة إزاره والكبرياء رداؤه ومن نازعه فيهما قصمه
بداء الموت فأعجزه دواؤه جل جلاله وتقدست أسماؤه والصلاة على محمد الذي أنزل عليه
النور المنتشر ضياؤه حتى أشرقت بنوره أكناف العالم وأرجاؤه وعلى آله وأصحابه الذين
هم أحباء الله وأولياؤه وخيرته وأصفياؤه وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى الكبرياء ردائي
والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته // حديث قال الله تعالى الكبرياء ردائي
والعظمة إزاري فمن نازعني فيهما قصمته أخرجه الحاكم في المستدرك دون ذكر العظمة
وقال صحيح على شرط مسلم وتقدم في العلم وسيأتي بعد حديثين بلفظ آخر
وقال صلى الله عليه و سلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه //
حديث ثلاث مهلكات الحديث أخرجه البزار والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث أنس
بسند ضعيف وتقدم فيه أيضا
فالكبر والعجب داءان مهلكان والمتكبر والمعجب سقيمان مريضان وهما عند الله ممقوتات
بغيضان
وإذا كان القصد في هذا الربع من كتاب إحياء علوم الدين شرح المهلكات وجب إيضاح
الكبر والعجب فإنهما من قبائح المرديات
ونحن نستقضي بيانهما من الكتاب في شطرين شطر في الكبر وشطر في العجب
الشطر الأول من الكتاب في الكبر وفيه
بيان ذم الكبر
وبيان ذم الاختيال وبيان فضيلة التواضع وبيان حقيقة التكبر وآفته وبيان من يتكبر
عليه ودرجات التكبر وبيان ما به التكبر وبيان البواعث على التكبر وبيان أخلاق
المتواضعين وما فيه يظهر الكبر وبيان علاج الكبر
وبيان امتحان النفس في خلق الكبر وبيان المحمود من خلق التواضع والمذموم منه بيان
ذم الكبر
قد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه وذم كل جبار متكبر فقال تعالى سأصرف عن آياتي
الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وقال عز و جل كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر
جبار وقال تعالى واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد وقال تعالى إنه لا يحب المستكبرين
وقال تعالى لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا وقال تعالى إن الذين يستكبرون
عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وذم الكبر في القرآن كثير وقد
قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من
كبر ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان // حديث لا يدخل
الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ولا يدخل النار رجل في قلبه مثقال
حبة من خردل من إيمان أخرجه مسلم من حديث ابن مسعود
وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الله تعالى
الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنم ولا أبالي //
حديث أبي هريرة يقول الله تعالى الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا
منهما ألقيته في جهنم أخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجه واللفظ له وقال أبو داود
قذفته في النار وقال مسلم عذبته وقال رداؤه وإزاره بالغيبة وزاد مع أبي هريرة أبا
سعيد أيضا
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال التقى عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر على
الصفا فتواقفا فمضى ابن عمرو وأقام ابن عمر يبكي فقالوا ما يبكيك يا أبا عبد
الرحمن فقال هذا يعني عبد الله بن عمرو زعم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم
يقول من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أكبه الله في النار على وجهه //
حديث عبد الله بن عمرو من كان في قلبه مثقال حبة من كبر كبه الله في النار على
وجهه أخرجه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان من طريقه بإسناد صحيح
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في
الجبارين فيصيبه ما أصابهم من العذاب // حديث لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب
في الجبارين الحديث أخرجه الترمذي وحسنه من حديث سلمة بن الأكوع دون قوله من
العذاب
وقال سليمان بن داود عليهما السلام يوما للطير والإنس والجن والبهائم اخرجوا
فخرجوا في مائتي ألف من الإنس ومائتي ألف من الجن فرفع حتى سمع زجل الملائكة
بالتسبيح في السموات ثم خفض حتى مست أقدامه البحر فسمع صوتا لو كان في قلب صاحبكم
مثقال ذرة من كبر لخسفت به أبعد مما رفعته
وقال صلى الله عليه و سلم يخرج من النار عنق له أذنان تسمعان وعينان تبصران ولسان
ينطق يقول وكلت بثلاث بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين //
حديث يخرج من النار عنق له أذنان الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة وقال حسن
صحيح غريب
وقال صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة بخيل ولا جبار ولا سيء الملكة // حديث لا
يدخل الجنة جبار ولا بخيل ولا سيء الملكة تقدم في أسباب الكسب والمعاش والمعروف
خائن مكان جبار
وقال صلى الله عليه و سلم تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت بالمتكبرين
والمتجبرين وقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقاطهم وعجزتهم فقال الله
للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك
من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها // حديث تحاجت الجنة والنار فقالت النار أوثرت
بالمتكبرين والمتجبرين الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه و سلم بئس العبد عبد تجبر واعتدى ونسي الجبار الأعلى بئس العبد
عبد تجبر واختال ونسي الكبير المتعال بئس العبد عبد غفل وسها ونسي المقابر والبلى
بئس العبد عبد عتا وبغى ونسي المبدأ والمنتهى // حديث بئس العبد عبد تجبر واعتدى
الحديث أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت عميس بزيادة فيه مع تقديم وتأخير وقال
غريب وليس إسناد بالقوي ورواه الحاكم في المستدرك وصححه ورواه البيهقي في الشعب من
حديث نعيم بن عمار وضعفه
وعن ثابت أنه قال بلغنا أنه قيل يا رسول الله ما أعظم كبر فلان فقال أليس بعده
الموت // حديث ثابت بلغنا أنه قيل يا رسول الله ما أعظم كبر فلان فقال أليس بعده
الموت أخرجه البيهقي في الشعب هكذا مرسلا بلفظ تجبر
وقال عبد الله بن عمرو إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن نوحا عليه السلام
لما حضرته الوفاة دعا ابنيه وقال إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما
عن الشرك والكبر وآمركما بلا إله إلا الله
فإن السموات والأرضين وما فيهن لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله في
الكفة الأخرى كانت أرجح منهما ولو أن السموات والأرضين وما فيهن كانتا حلقة فوضعت
لا إله إلا الله عليها لقصمتها وآمركما بسبحان الله
وبحمده
فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء // حديث عبد الله بن عمرو إن نوحا لما حضرته
الوفاة دعا ابنيه وقال إني آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما عن الشرك
والكبر الحديث أخرجه أحمد والبخاري في كتاب الأدب والحاكم بزيادة في نقله قال صحيح
الإسناد
قال المسيح عليه السلام طوبى لمن علمه الله كتابه ثم لم يمت جبارا
وقال صلى الله عليه و سلم أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع وأهل الجنة
الضعفاء المقلون // حديث أهل النار كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع وهي الزيادة
عندهما من حديث حارثة بن وهب الخزاعي ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر
وقال صلى الله عليه و سلم إن أحبكم إلينا وأقربكم منا في الآخرة أحاسنكم أخلاقا
وإن أبغضكم إلينا وأبعدكم منا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون قالوا يا رسول الله
قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون المتكبرون // حديث إن أحبكم إلينا
وأقربكم منا في الآخرة أحاسنكم أخلاقا الحديث أخرجه أحمد من حديث أبي ثعلبة الخشني
بلفظ إلى ومني وفيه انقطاع ومكحول لم يسمع من أبي ثعلبة وقد تقدم في رياضة النفس
أول الحديث
وقال صلى الله عليه و سلم يحشر المتكبرون يوم القيامة في مثل صور الذر تطؤهم الناس
ذرا في مثل صور الرجال يعلوهم كل شيء من الغار ثم يساقون إلى سجن في جهنم يقال له
بولس يعلوهم نار الأنيار يسقون من طين الخبال عصارة أهل النار // حديث يحشر
المتكبرون يوم القيامة ذرا في صور الرجال الحديث أخرجه الترمذي من رواية عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده وقال غريب
وقال أبو هريرة قال النبي صلى الله عليه و سلم يحشر الجبارون والمتكبرون يوم
القيامة في صور الذر تطؤهم الناس نهواهم على الله تعالى // حديث أبي هريرة يحشر
الجبارون والمتكبرون يوم القيامة في صور الذر الحديث أخرجه البزار هكذا مختصرا دون
قوله الجبارون وإسناده حسن
وعن محمد بن واسع قال دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له يا بلال إن أباك حدثني عن
أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال إن في جهنم واديا يقال له هبهب حق على
الله أن يسكنه كل جبار فإياك يا بلال أن تكون ممن يسكنه // حديث أبي موسى إن في
جنهم واديا يقال له هبهب حق على الله أن يسكنه كل جبار أخرجه أبو يعلى والطبراني
والحاكم وقال صحيح الإسناد قلت فيه أزهر بن سنان ضعفه ابن معين وابن حبان وأورد له
في الضعفاء هذا الحديث
وقال صلى الله عليه و سلم إن في النار قصرا يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم //
حديث إن في النار قصرا يجعل فيه المتكبرون ويطبق عليهم أخرجه البيهقي في الشعب من
حديث أنس وقال توابيت مكان قصرا وقال فيقفل مكان يطبق وفيه أبان بن أبي عياش وهو
ضعيف
وقال صلى الله عليه و سلم اللهم إني أعوذ بك من نفخة الكبرياء // حديث اللهم إني
أعوذ بك من نفخة الكبرياء لم أره بهذا اللفظ وروى أبو داود وابن ماجه من حديث جبير
بن مطعم عن النبي صلى الله عليه و سلم في أثناء الحديث أعوذ بالله من الشيطان من
نفخة ونفثه وهمزه قال نفثه الشعر ونفحه الكبر وهمزه الموتة ولأصحاب السنن من حديث
أبي سعيد الخدري نحو تكلم فيه أبو داود وقال الترمذي هو أشهر حديث في هذا الباب
وقال من فارق روحه جسده وهو برئ من ثلاث دخل الجنة الكبر والدين والغلول // حديث
من فارق روحه جسده وهو برئ من ثلاثة دخل الجنة الكبر والدين والغلول أخرجه الترمذي
والنسائي وابن ماجه من حديث ثوبان وذكر المصنف لهذا الحديث هنا موافق للمشهور في
الرواية أنه الكبر بالموحدة والراء لكن ذكر ابن الجوزي في جامع المسانيد عن
الدارقطني قال إنما هو الكنز بالنون والزاي وكذلك أيضا ذكر ابن مردويه الحديث في
تفسير والذين يكنزون الذهب والفضة
الآثار قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لا يحقرن أحد أحدا من المسلمين فإن صغير
المسلمين عند الله كبير وقال وهب لما خلق الله جنة عدن نظر إليها فقال أنت حرام
على كل متكبر
وكان الأحنف بن قيس يجلس مع مصعب بن الزبير على سريره فجاء يوما ومصعب ماد رجليه
فلم يقبضهما وقعد الأحنف فزحمه بعض الزحمة فرأى أثر ذلك في وجهه فقال عجبا لابن
آدم يتكبر وقد خرج من مجرى البول مرتين
وقال الحسن العجب من ابن آدم يغسل الخرء بيده كل يوم مرة أو مرتين ثم يعارض جبار
السموات
وقد قيل في وفي أنفسكم أفلا تبصرون
هو
سبيل الغائط والبول
وقد قال محمد بن الحسين بن علي ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله
بقدر ما دخل من ذلك أو كثر
وسئل سليمان عن السيئة التي لا تنفع معها حسنة فقال الكبر وقال النعمان بن بشير
على المنبر إن للشيطان مصالي وفخوخا وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله
والفخر بإعطاء الله والكبر على عباد الله واتباع الهوى في غير ذات الله
نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه
بيان ذل الاختيال وإظهار آثار الكبر في المشي وجر الثياب
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ينظر الله إلى رجل يجر إزاره بطرا // حديث
لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا متفق عليه من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه و سلم بينما رجل يتبختر في بردته إذ أعجبته نفسه فخسف الله به
الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة // حديث بينما رجل يتبختر في برديه قد
أعجبته نفسه الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
وقال صلى الله عليه و سلم من جر ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة وقال
زيد بن أسلم دخلت على ابن عمر فمر به عبد الله ابن واقد وعليه ثوب جديد فسمعته
يقول أي بني ارفع إزارك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا ينظر
الله إلى من جر إزاره خيلاء // حديث ابن عمر لا ينظر الله إلى من جر إزاره خيلاء
رواه مسلم مقتصرا على المرفوع دون ذكر مرور عبد الله ابن واقد على ابن عمر وهو
رواية لمسلم أن المار رجل من بني ليث غير مسمى
وروي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بصق يوما على كفه ووضع أصبعه عليه وقال
يقول الله تعالى ابن آدم أتعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت
بين بردين وللأرض منك وئيد جمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان
الصدقة // حديث إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بصق يوما على كفه ووضع أصبعه
عليها وقال يقول الله ابن آدم أتعجزني وقد خلقت من مثل هذه الحديث أخرجه ابن ماجه
والحاكم وصحح إسناده من حديث بشر بن جحاش
وقال صلى الله عليه و سلم إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط الله
بعضهم على بعض // حديث إذا مشت أمتي المطيطاء الحديث أخرجه الترمذي وابن حبان في
صحيحه من حديث ابن عمر المطيطاء بضم الميم وفتح الطاءين المهملتين بينهما مثناة من
تحت مصغرا ولم يستعمل مكبرا
قال ابن الأعرابي هي مشية فيها اختيال
وقال صلى الله عليه و سلم من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه
غضبان // حديث من تعظم في نفسه واختال في مشيه لقي الله وهو عليه غضبان أخرجه أحمد
والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب من حديث ابن عمر
الآثار عن أبي بكر الهذلي قال بينما نحن مع الحسن إذ مر علينا ابن الأهتم يريد
المقصورة وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي
يتبختر إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال أف أف شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في
عطفيه أي حميق أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر
الله فيها ولا المؤدي حق الله منها والله أن يمشي أحد طبيعته يتخلج تخلق المجنون
في كل عضو من أعضائه لله نعمة وللشيطان به لفتة فسمع ابن الأهتم فرجع يعتذر إليه
فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك أما سمعت قول الله تعالى ولا تمش في الأرض مرحا إنك
لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ومر بالحسن شاب عليه بزة له حسنة فدعاه فقال
له ابن آدم معجب بشبابه محب لشمائله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك قد لاقيت عملك
ويحك داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم
وروي أن عمر
ابن
عبد العزيز حج قبل أن يستخلف فنظر إليه طاوس وهو يختال في مشيته فغمز جنبه بأصبعه
ثم قال ليست هذه مشية من في بطنه خراء فقال عمر كالمعتذر يا عم لقد ضرب كل عضو مني
على هذه المشية حتى تعلمتها ورأى محمد بن واسع ولده يختال فدعاه وقال أتدري من أنت
أما أمك فأشتريها بمائتي درهم وأما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين مثله ورأى ابن
عمر رجلا يجر إزاره فقال إن للشيطان إخوانا كررها مرتين أو ثلاثا ويروى أن مطرف بن
عبد الله بن الشخير رأى المهلب وهو يتبختر في جبة خز فقال يا عبدالله هذه مشية
يبغضها الله ورسوله فقال له المهلب أما تعرفني فقال بلى أعرفك أولك نطفة مذرة
وآخرتك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة فمضى المهلب وترك مشيته تلك
وقال مجاهد في قوله تعالى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي يتبختر وإذ قد ذكرنا ذم الكبر
والاختيال فلنذكر فضيلة التواضع والله تعالى أعلم
بيان فضيلة التواضع
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما زاد عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله
إلا رفعه الله // حديث ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا الحديث أخرجه مسلم من حديث
أبي هريرة وقد تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم ما من أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها فإن هو
رفع نفسه جبذاها ثم قالا اللهم ضعه وإن وضع نفسه قالا اللهم ارفعه // حديث ما من
أحد إلا ومعه ملكان وعليه حكمة يمسكانه بها الحديث أخرجه العقيلي في الضعفاء
والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة والبيهقي أيضا من حديث ابن عباس وكلاهما ضعيف
وقال صلى الله عليه و سلم طوبى لمن تواضع في غير مسكنة وأنفق مالا جمعه في غير
معصية ورحم أهل الذل والمسكنة وخالط أهل الفقه والحكمة // حديث طوبى لمن تواضع في
غير مسكنة الحديث أخرجه البغوي وابن قانع والطبراني من حديث ركب المصري والبزار من
حديث أنس وقد تقدم بعضه في العلم وبعضه في آفات اللسان
وعن أبي سلمة المديني عن أبيه عن جده قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عندنا
بقباء وكان صائما فأتيناه عند إفطاره بقدح من لبن وجعلنا فيه شيئا من عسل فلما
رفعه وذاقه وجد حلاوة العسل فقال ما هذا قلنا يا رسول الله جعلنا فيه شيئا من عسل
فوضعه وقال أما إني لا أحرمه ومن تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله ومن
اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله // حديث أبي
سلمة المديني عن أبيه عن جده قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم عندنا بقباء
وكان صائما الحديث وفيه من تواضع رفعه الله الحديث رواه البزار من رواية طلحة بن
طلحة بن عبيد الله عن أبيه عن جده طلحة فذكر نحوه دون قوله ومن أكثر من ذكر الله
أحبه الله ولم يقل بقباء وقال الذهبي في الميزان إنه خبر منكر وقد تقدم ورواه
الطبراني في الأوسط من حديث عائشة قالت أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم بقدح
فيه لبن وعسل الحديث وفيه أما إني لا أزعم أنه حرام الحديث وفيه من أكثر ذكر الموت
أحبه الله وروى المرفوع منه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد دون قوله ومن بذر
أفقره الله وذكر رفيه قوله ومن أكثر ذكر الله أحبه الله وتقدم في ذم الدنيا
وروي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان في نفر من أصحابه في بيته يأكلون فقام سائل
على الباب وبه زمانة يتكره منها فأذن له فلما دخل أجلسه رسول الله صلى الله عليه و
سلم على فخذه ثم قال له اطعم فكأن رجلا من قريش اشمأز منه وتكره فما مات ذلك الرجل
حتى كانت به زمانة مثلها // حديث السائل الذي كان به زمانة منكرة وأنه صلى الله
عليه و سلم أجلسه على فخذه ثم قال اطعم الحديث لم أجد له أصلا والموجود حديث أكله
مع مجذوم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر وقال الترمذي غريب
وقال صلى الله عليه و سلم خيرني ربي بين أمرين أن أكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا
فلم أدر أيهما أختار وكان صفي من الملائكة جبريل فرفعت رأسي إليه فقال تواضع لربك
فقلت عبدا رسولا // حديث خيرني ربي بين أمرين عبدا رسولا وملكا نبيا الحديث أخرجه
أبو يعلى من حديث عائشة والطبراني من حديث ابن عباس وكلا الحديثين ضعيف
وأوحى الله
تعالى
إلى موسى عليه السلام إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتعاظم على خلقي وألزم
قلبه خوفي وقطع نهاره بذكري وكف نفسه عن الشهوات من أجلي وقال صلى الله عليه و سلم
الكرم التقوى والشرف التواضع واليقين الغنى // حديث الكرم التقوى والشرف التواضع
واليقين الغنى أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين مرسلا وأسند الحاكم أوله من
رواية الحسن عن سمرة وقال صحيح الإسناد
وقال المسيح عليه السلام طوبى للمتواضعين في الدنيا هم أصحاب المنابر يوم القيامة
طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة طوبى
للمطهرة قلوبهم في الدنيا هم الذين ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة
وقال بعضهم بلغني أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا هدى الله عبدا للإسلام
وحسن صورته وجعله في موضع غير شائن له ورزقه مع ذلك تواضعا فذلك من صفوة الله //
حديث إذا هدى الله عبدا للإسلام وحسن صورته الحديث أخرجه الطبراني موقوفا على ابن
مسعود نحوه وفيه المسعودي مختلف فيه
وقال صلى الله عليه و سلم أربع لا يعطيهم الله إلا من أحب الصمت وهو أول العبادة
والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا // حديث أربع لا يعطيهن الله إلا من
يحب الصمت وهو أول العبادة والتوكل على الله والتواضع والزهد في الدنيا أخرجه
الطبراني والحاكم من حديث أنس أربع لا يصبن إلا بعجب الصمت وهو أول العبادة
والتواضع وذكر الله وقلة الشيء قال الحاكم صحيح الإسناد قلت فيه العوام بن جويرية
قال ابن حبان يروي الموضوعات ثم روى له هذا الحديث
وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا تواضع العبد رفعه الله إلى
السماء السابعة // حديث ابن عباس إذا تواضع العبد رفع الله رأسه إلى السماء
السابعة أخرجه البيهقي في الشعب نحوه وفيه زمعة بن صالح ضعفه الجمهور
وقال صلى الله عليه و سلم التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرحمكم الله //
حديث إن التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة الحديث أخرجه في الترغيب والترهيب من حديث
أنس وفيه بشر بن الحسين وهو ضعيف جدا ورواه ابن عدي من حديث ابن عمر وفيه الحسن بن
عبدالرحمن الاحتياصي وخارجة بن مصعب وكلاهما ضعيف
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يطعم فجاء رجل أسود به جدري قد تقشر
فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه و سلم إلى جنبه
// حديث كان يطعم فجاءه رجل أسود به جدري فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه
فأجلسه النبي صلى الله عليه و سلم إلى جنبه
لم أجده هكذا والمعروف أكله مع مجذوم رواه أبو داود والترمذي وقال غريب وابن ماجه
من حديث جابر كما تقدم
وقال صلى الله عليه و سلم إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده يكون مهنة لأهله
يدفع به الكبر عن نفسه // حديث إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده فيكون مهنة
لأهله يدفع به الكبر عن نفسه غريب
وقال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه يوما مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة
قالوا وما حلاوة العبادة قال التواضع // حديث مالي لا أرى عليكم حلاوة العبادة
قالوا وما حلاوة العبادة قال التواضع غريب أيضا
وقال صلى الله عليه و سلم إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم
المتكبرين فتكبروا عليهم فإن ذلك مذلة لهم وصغار // حديث إذا رأيتم المتواضعين من
أمتي فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم فإن ذلك لهم مذلة وصغار
غريب أيضا
الآثار قال عمر رضي الله عنه إن العبد إذا تواضع لله رفع الله حكمته وقال انتعش
رفعك الله وإذا تكبر وعدا طوره رهصه الله في الأرض وقال اخسأ خسأك الله فهو في
نفسه كبير وفي أعين الناس حقير حتى إنه لأحقر عندهم من الخنزير
وقال جرير بن عبد الله انتهيت مرة إلى شجرة تحتها رجل نائم قد استظل بنطع له وقد
جاوزت الشمس النطع فسويته عليه ثم إن الرجل استيقظ فإذا هو سلمان الفارسي فذكرت له
ما صنعت فقال لي يا جرير تواضع لله في الدنيا فإنه من تواضع لله في الدنيا رفعه
الله يوم القيامة يا جوير أتدري ما ظلمة النار يوم القيامة قلت لا قال إنه ظلم
الناس بعضهم في الدنيا
وقالت عائشة رضي الله عنها إنكم لتغفلون عن أفضل العبادات التواضع
وقال
يوسف بن أسباط يجزي قليل الورع من كثير العمل ويجزي قليل التواضع من كثير الاجتهاد
وقال الفضيل وقد سئل عن التواضع ما هو فقال أن تخضع للحق وتنقاد له ولو سمعته من
صبي قبلته ولو سمعته من أجهل الناس قبلته
وقال ابن المبارك رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه
أنه ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا حتى تعلمه أنه
ليس له بدنياه عليك فضل
وقال قتادة من أعطي مالا أو جمالا أو ثيابا أو علما ثم لم يتواضع فيه كان عليه
وبالا يوم القيامة
وقيل أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام إذا أنعمت عليك بنعمة فاستقبلها
بالاستكانة أتممها عليك
وقال كعب ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا
أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع بها درجة في الآخرة وما أنعم الله على عبد من
نعمة في الدنيا فلم يشرها ولم يتواضع بها لله إلا منعه الله نفعها في الدنيا وفتح
له طبقا من النار يعذبه إن شاء الله أو يتجاوز عنه
وقيل لعبد الملك بن مروان أي الرجال أفضل قال من تواضع عن قدرة وزهد عن رغبة وترك
النصرة عن قوة
ودخل ابن السماك على هارون فقال يا أمير المؤمنين إن تواضعك في شرفك أشرف لك من
شرفك فقال ما أحسن ما قلت فقال يا أمير المؤمنين إن امرأ آتاه الله جمالا في خلقته
وموضعا في حسبه وبسط له في ذات يده فعف في جماله وواسى من ماله وتوضع في حسبه كتب
في ديوان الله من خالص أولياء الله فدعا هارون بدواة وقرطاس وكتبه بيده
وكان سليمان بن داود عليهما السلام إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء
إلى المساكين فيقعد معهم ويقول مسكين مع مساكين
وقال بعضهم كما تكره أن يراك الأغنياء في الثياب الدون فكذلك فاكره أن يراك
الفقراء في الثياب المرتفعة
روي أنه خرج يونس وأيوب والحسن يتذاكرون التواضع فقال لهم الحسن أتدرون ما التواضع
التواضع أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلما إلا رأيت له عليك فضلا
وقال مجاهد
إن الله تعالى لما أغرق قوم نوح عليه السلام شمخت الجبال وتطاولت وتواضع الجودي
فرفعه الله فوق الجبال وجعل قرار السفينة عليه
وقال أبو سليمان إن الله عز و جل اطلع على قلوب الآدميين فلم يجد قلبا أشد تواضعا
من قلب موسى عليه السلام فخصه من بينهم بالكلام
وقال يونس بن عبيد وقد انصرف من عرفات لم أشك في الرحمة لولا أني كنت معهم إني
أخشى أنهم حرموا بسببي
ويقال أرفع ما يكون المؤمن عند الله أوضع ما يكون عند نفسه وأوضع ما يكون عند الله
أرفع ما يكون عند نفسه
وقال زياد النمري الزاهد بغير تواضع كالشجرة التي لا تثمر
وقال مالك بن دينار لو أن مناديا ينادي بباب المسجد ليخرج شركم رحلا والله ما كان
أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلا بفضل قوة أو سعي قال فلما بلغ ابن المبارك قوله قال
بهذا صار مالك مالكا
وقال الفضيل من أحب الرياسة لم يفلح أبدا
وقال موسى بن القاسم كانت عندنا زلزلة وريح حمراء فذهبت إلى محمد بن مقاتل فقلت يا
أبا عبد الله أنت إمامنا فادع الله عز و جل لنا فبكى ثم قال ليتني لم أكن سبب
هلاككم قال فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم في النوم فقال إن الله عز و جل رفع
عنكم بدعاء محمد ين مقاتل
وجاء رجل إلى الشبلي رحمه الله فقال له ما أنت وكان هذا دأبه وعادته فقال أنا
النقطة التي تحت الباء فقال له الشبلي أباد الله شاهدك أو تجعل لنفسك موضعا
وقال الشبلي في بعض كلامه ذلي عطل ذل اليهود
ويقال من يرى لنفسه قيمة فليس له من التواضع نصيب
وعن أبي الفتح بن شخرف قال رأيت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المنام فقلت له
يا أبا الحسن عظني فقال لي ما أحسن التواضع بالأغنياء في مجالس الفقراء رغبة منهم
في ثواب الله وأحسن من تيه الفقراء على الأغنياء ثقة منهم بالله عز و جل وقال أبو
سليمان لا يتواضع العبد حتى يعرف
نفسه
وقال أبو يزيد ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر فقيل له فمتى
يكون متواضعا قال إذا لم ير لنفسه مقاما ولا حالا وتواضع كل إنسان على قدر معرفته
بربه عز و جل ومعرفته بنفسه
وقال أبو سليمان لو اجتمع الخلق على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا عليه
وقال عروة بن الورد التواضع أحد مصايد الشرف وكل نعمة محسود عليها صاحبها إلا
التواضع
وقال يحيى بن خالد البرمكي الشريف إذا تنسك تواضع والسفيه إذا تنسك تعاظم
وقال يحيى بن معاذ
التكبر على ذي التكبر عليك بماله تواضع ويقال التواضع في الخلق كلهم حسن وفي
الأغنياء أحسن والتكبر في الخلق كلهم قبيح وفي الفقراء أقبح ويقال لا عز إلا لمن
تذلل لله عز و جل ولا رفعة إلا لمن تواضع لله عز و جل ولا أمن إلا لمن خاف الله عز
و جل ولا ربح إلا لمن ابتاع نفسه من الله عز و جل
وقال أبو علي الجوزجاني
النفس معجونة بالكبر والحرص والحسد فمن أراد الله تعالى هلاكه منع منه التواضع
والنصيحة والقناعة وإذا أراد الله تعالى به خيرا لطف به في ذلك فإذا هاجت في نفسه
نار الكبر أدركها التواضع من نصرة الله تعالى وإذا هاجت نار الحسد في نفسه أدركتها
النصيحة مع توفيق الله عز و جل وإذا هاجت في نفسه نار الحرص أدركتها القناعة مع
عون الله عز و جل
وعن الجنيد رحمه الله أنه كان يقول يوم الجمعة في مجلسه لولا أنه روي عن النبي صلى
الله عليه و سلم أنه قال يكون في آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم // حديث يكون في
آخر الزمان زعيم القوم أرذلهم أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة إذا اتخذ الفيء دولا
الحديث وفيه كان زعيم القوم أرذلهم الحديث وقال غريب وله من حديث علي بن أبي طالب
إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء فذكر منها وكان زعيم القوم أرذلهم
ولأبي نعيم في الحلية من حديث حذيفة من اقتراب الساعة اثنان وسبعون خصلة فذكرها
منها وفيهما فرج بن فضالة ضعيف
ما تكلمت عليكم وقال الجنيد أيضا التواضع عند أهل التوحيد تكبر ولعل مراده أن
التواضع يثبت نفسه ثم يضعها والموحد لا يثبت نفسه ولا يراها شيئا حتى يضعها أو
يرفعها
وعن عمرو بن شيبة قال كنت بمكة بين الصفا والمروة فرأيت رجلا راكبا بغلة وبين يديه
غلمان وإذا هم يعنفون الناس قال ثم عدت بعد حين فدخلت بغداد فكنت على الجسر فإذا
أنا برجل حاف حاسر طويل الشعر قال فجعلت أنظر إليه وأتأمله فقال لي مالك تنظر إلي
فقلت له شبهتك برجل رأيته بمكة ووصفت له الصفة فقال له أنا ذلك الرجل فقلت ما فعل
الله بك فقال إني ترفعت في موضع يتواضع فيه الناس فوضعني الله حيث يترفع الناس
وقال المغيرة كنا نهاب إبراهيم النخعي هيبة الأمير وكان يقول إن زمانا صرت فيه
فقيه الكوفة لزمان سوء
وكان عطاء السلمي إذا سمع صوت الرعد قام وقعد وأخذه بطنه كأنه امرأة ماخض وقال هذا
من أجلي يصيبكم لو مات عطاء لاستراح الناس
وكان بشر الحافي يقول سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم
ودعا رجل لعبد الله بن المبارك فقال أعطاك الله ما ترجوه فقال إن الرجاء يكون بعد
المعرفة فأين المعرفة وتفاخرت قريش عند سلمان الفارسي رضي الله عنه يوما فقال
سلمان لكنني خلقت من نطفة قذرة ثم أعود جيفة منتنة ثم آتي الميزان فإن ثقل فأنا
كريم وإن خف فأنا لئيم وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجدنا الكرم في التقوى
والغنى في اليقين والشرف في التواضع نسأل الله الكريم حسن التوفيق
بيان حقيقة الكبر وآفته
اعلم أن الكبر ينقسم إلى باطن وظاهر فالباطن هو خلق في النفس والظاهر هو أعمال
تصدر عن الجوارح
واسم الكبر بالخلق الباطن أحق وأما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق
وخلق الكبر موجب للأعمال ولذلك إذا
ظهر
على الجوارح يقال تكبر وإذا لم يظهر يقال في نفسه كبر
فالأصل هو الخلق الذي في النفس وهو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر
عليه فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به وبه ينفصل الكبر عن العجب كما سيأتي
فإن العجب لا يستدعي غير المعجب بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون
معجبا ولا يتصور أن يكون متكبرا إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير
في صفات الكمال فعند ذلك يكون متكبرا ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبرا فإنه
قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه فلا يتكبر عليه ولا يكفي
أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم
يتكبر بل ينبغي أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره
فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل فيه خلق الكبر لا أن هذه الرؤية تنفي الكبر بل
هذه الرؤية وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في قلبه اعتداد وهزة وفرح وركون إلى ما
اعتقده وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى العقيدة هو خلق الكبر
ولذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم أعوذ بك من نفخة الكبرياء // حديث أعوذ بك من
نفخة الكبرياء تقدم فيه
وكذلك قال عمر أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا للذي استأذنه أن يعظ بعد صلاة الصبح
فكأن الإنسان مهما رأى نفسه بهذه العين وهو الاستعظام كبر وانتفخ وتعزز
فالكبر عبارة عن الحالة الحاصلة في النفس من هذه الاعتقادات وتسمى أيضا عزة وتعظما
ولذلك قال ابن عباس في قوله تعالى إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه قال عظيمة
لم يبلغوها ففسر الكبر بتلك العظمة
ثم هذه العزة تقتضي أعمالا في الظاهر والباطن هي ثمرات ويسمى ذلك تكبرا فإنه مهما
عظم عنده قدره بالإضافة إلى غيره حقر من دونه وازدراه وأقصاه عن نفسه وأبعده وترفع
عن مجالسته ومؤاكلته ورأى أن حقه أن يقوم ماثلا بين يديه إن اشتد كبره فإن كان أشد
من ذلك استنكف عن استخدامه ولم يجعله أهلا للقيام بين يديه ولا بخدمة عتبته فإن
كان دون ذلك فأنف من مساواته وتقدم عليه في مضايق الطرق وارتفع عليه في المحافل
وانتظر أن يبدأه بالسلام واستبعد تقصيره في قضاء حوائجه وتعجب منه وإن حاج أو ناظر
أنف أن يرد عليه وإن وعظ استنكف من القبول وإن وعظ عنف في النصح وإن رد عليه شيء
من قوله غضب وإن علم لم يرفق بالمتعلمين واستذلهم وانتهرهم وامتن عليهم واستخدمهم
وينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالا لهم واستحقارا
والأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة وهي أكثر من أن تحصى فلا حاجة إلى تعدادها
فإنها مشهورة
فهذا هو الكبر وآفته عظيمة وغائلته هائلة وفيه يهلك الخواص من الخلق وقلما ينفك
عنه العباد والزهاد والعلماء فضلا عن عوام الخلق وكيف لا تعظم آفته وقد قال صلى
الله عليه و سلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر // حديث لا يدخل الجنة
من في قلبه مثقال ذرة من كبر تقدم فيه
وإنما صار حجابا دون الجنة لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها وتلك
الأخلاق هي أبواب الجنة والكبر وعزة النفس يغلق تلك الأبواب كلها لأنه لا يقدر على
أن يحب المؤمنين ما يحب لنفسه وفيه شيء من العز ولا يقدر على التواضع وهو رأس
أخلاق المتقين وفيه العز ولا يقدر على ترك الحقد وفيه العز ولا يقدر أن يدوم على
الصدق وفيه العز ولا يقدر على ترك الغضب وفيه العز ولا يقدر على كظم الغيظ وفيه
العز ولا يقدر على ترك الحسد وفيه العز ولا يقدر على النصح اللطيف وفيه العز ولا
يقدر على قبول النصح وفيه العز ولا يسلم من الازدراء بالناس ومن اغتيابهم وفيه
العز ولا معنى للتطويل فما من خلق
ذميم
إلا وصاحب العز والكبر مضطر إليه ليحفظ عزه وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه
خوفا من أن يفوته عزه فمن هذا لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة منه
والأخلاق الذميمة متلازمة والبعض منها داع إلى البعض لا محالة
وشر أنواع الكبر ما يمنع من استفادة العلم وقبول الحق والانقياد له وفيه وردت
الآيات التي فيها ذم الكبر والمتكبرين قال الله تعالى والملائكة باسطو أيديهم إلى
قوله وكنتم عن آياته تستكبرون ثم قال ادخلوا أبواب جنهنم خالدين فيها فبئس مثوى
المتكبرين ثم أخبر أن أشد أهل النار عذابا أشدهم عتيا على الله تعالى فقال ثم
لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا وقال تعالى فالذين لا يؤمنون بالآخرة
قلوبهم منكرة وهم مستكبرون وقال عز و جل يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا
أنتم لكنا مؤمنين وقال تعالى إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين
وقال تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق قيل في التفسير سأرفع
فهم القرآن عن قلوبهم وفي بعض التفاسير سأحجب قلوبهم عن الملكوت
وقال ابن جريج سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا بها
ولذلك قال المسيح عليه السلام إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت على الصفا كذلك
الحكمة تعمل في قلب المتواضع ولا تعمل في قلب المتكبر ألا ترون أن من شمخ برأسه
إلى السقف شجه ومن طأطأ أظله وأكنه
فهذا مثل ضربه للمتكبرين وأنهم كيف يحرمون الحكمة ولذلك ذكر رسول الله صلى الله
عليه و سلم جحود الحق في حد الكبر والكشف عن حقيقته وقال من سفه الحق وغمص الناس
// حديث الكبر من سفه الحق وغمص الناس أخرجه من حديث ابن مسعود في أثناء حديث وقال
بطر الحق وغمط الناس ورواه الترمذي فقال من بطر الحق وغمص الناس وقال حسن صحيح
ورواه أحمد من حديث عقبة عامر بلفظ المصنف ورواه البيهقي في الشعب من حديث أبي
ريحانة هكذا
بيان المتكبر عليه ودرجاته وأقسامه وثمرات الكبر فيه
اعلم أن المتكبر عليه هو الله تعالى أو رسله أو سائر خلقه وقد خلق الإنسان ظلوما
جهولا فتارة يتكبر على الخلق وتارة يتكبر على الخالق فإذن التكبر باعتبار المتكبر
عليه ثلاثة أقسام
الأول التكبر على الله وذلك هو أفحش أنواع الكبر ولا مثار له إلا الجهل المحض
والطغيان مثل ما كان من نمروذ فإنه كان يحدث نفسه بأن يقاتل رب السماء وكما يحكى
عن جماعة من الجهلة
بل ما يحكى عن كل من ادعى الربوبية مثل فرعون وغيره فإنه لتكبره قال أنا ربكم
الأعلى إذ استنكف أن يكون عبدا لله ولذلك قال تعالى إن الذين يستكبرون عن عبادتي
سيدخلون جهنم داخرين وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة
المقربون الآية وقال تعالى وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما
تأمرنا وزادهم نفورا
القسم الثاني التكبر على الرسل من حيث تعزز النفس وترفعها على الانقياد لبشر مثل
سائر الناس وذلك تارة يصرف عن الفكر والاستبصار فيبقى في ظلمة الجهل بكبره فيمتنع
عن الانقياد وهو ظان أنه محق فيه وتارة يمتنع مع المعرفة ولكن لا تطاوعه نفسه
للانقياد للحق والتواضع للرسل كما حكى الله قولهم أنؤمن لبشرين مثلنا وقولهم إن
أنتم إلا بشر مثلنا ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون وقال الذين لا يرجون
لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا
كبيرا وقالوا لولا أنزل عليه ملك
وقال
فرعون فيما أخبر الله عنه أو جاء معه الملائكة مقترنين وقال الله تعالى واستكبر هو
وجنوده في الأرض بغير الحق فتكبر هو على الله وعلى رسله جميعا
قال وهب قال له موسى عليه السلام آمن ولك ملكك قال حتى أشاور هامان فشاور هامان
فقال هامان بينما أنت رب يعبد إذ صرت عبد تعبد فاسنكف عن عبودية الله وعن اتباع
موسى عليه السلام
وقالت قريش فيما أخبر الله تعالى عنهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين
عظيم قال قتادة عظيم القريتين هو الوليد بن المغيرة وأبو مسعود الثقفي طلبوا من هو
أعظم رياسة من النبي صلى الله عليه و سلم إذ قالوا غلام يتيم كيف بعثه الله إلينا
فقال تعالى أهم يقسمون رحمة ربك وقال الله تعالى ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من
بيننا أي استحقارا لهم واستبعادا لتقدمهم
وقالت قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم كيف نجلس إليك وعندك هؤلاء وأشاروا إلى
فقراء المسلمين فازدروهم بأعينهم لفقرهم وتكبروا عن مجالستهم فأنزل الله تعالى ولا
تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي إلى قوله ما عليك من حسابهم وقال تعالى
واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم
تريد زينة الحياة الدنيا // حديث قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه و سلم كيف
نجلس إليك وعندك هؤلاء الحديث في نزول قوله تعالى ولا تطرد الذين يدعون ربهم أخرجه
مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص إلا أنه قال فقال المشركون وقال ابن ماجه قالت قريش
ثم أخبر الله تعالى عن تعجبهم حين دخلوا جهنم إذا لم يروا الذين ازدروهم فقالوا ما
لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار قيل يعنون عمارا وبلالا وصهيبا والمقداد
رضي الله عنهم ثم كان منهم من منعه الكبر عن الفكر والمعرفة فجهل كونه صلى الله
عليه و سلم محقا ومنهم من عرف ومنعه الكبر عن الاعتراف قال الله تعالى مخبرا عنهم
فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وقال وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وهذا
الكبر قريب من التكبر على الله عز و جل وإن كان دونه ولكنه تكبر على قبول أمر الله
والتواضع لرسوله
القسم الثالث التكبر على العباد وذلك بأن يستعظم نفسه ويستحقر غيره فتأبى نفسه عن
الانقياد لهم وتدعوه إلى الترفع عليهم فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم وهذا
وإن كان دون الأول والثاني فهو أيضا عظيم من وجهين أحدهما أن الكبر والعز والعظمة
والعلاء لا يليق إلا بالملك القادر فأما العبد المملوك الضعيف العاجز الذي لا يقدر
على شيء فمن أين يليق بحاله الكبر فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا
تليق إلا بجلاله ومثاله أن يأخذ الغلام قلنسوة الملك فيضعها على رأسه ويجلس على
سريره فما أعظم استحقاقه للمقت وما أعظم تهدفه للخزي والنكال وما أشد استجراءه على
مولاه وما أقبح ما تعاطاه وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى العظمة إزاري
والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته أي إنه خاص صفتي ولا يليق إلا بي والمنازع
فيه منازع في صفة من صفاتي وإذا كان الكبر على عباده لا يليق إلا به فمن تكبر على
عباده فقد جنى عليه إذ الذي يسترذل خواص غلمان الملك ويستخدمهم ويترفع عليهم
ويستأثر بما حق الملك أن يستأثر به منهم فهو منازع له في بعض أمره وإن لم يبلغ
درجته درجة من أراد الجلوس على سريره والاستبداد بملكه فالخلق كلهم عباد الله وله
العظمة الكبرياء عليهم فمن تكبر على عبد من عباد الله فقد نازع الله في حقه
نعم الفرق بين هذه المنازعة وبين منازعة نمروذ وفرعون هو الفرق بين منازعة الملك
في استصغار بعض عبيده واستخدامهم وبين منازعته في أصل الملك
الوجه
الثاني الذي تعظم به رذيلة الكبر أنه يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره لأن
المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عبادالله استنكف عن قبوله وتشمر لجحده ولذلك ترى
المناظرين في مسائل الدين يزعمون أنهم يتباحثون عن أسرار الدين ثم إنهم يتجاحدون
تجاحد المتكبرين ومهما اتضح الحق على لسان واحد منهم أنف الآخر من قبوله وتشمر
لجحده واحتال لدفعه بما يقدر عليه من التلبيس وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين
إذ وصفهم الله تعالى فقال وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه
لعلكم تغلبون فكل من يناظر للغلبة والإفحام لا ليغتنم الحق إذا ظفر به فقد شاركهم
في هذا الخلق وكذلك يحمل ذلك على الأنفة من قبول الوعظ كما قال تعالى وإذا قيل له
اتق الله أخذته العزة بالإثم وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قرأها فقال إنا لله
وإنا إليه راجعون قام رجل يأمر بالمعروف فقتل فقام آخر فقال يقتلون الذين يأمرون
بالقسط من الناس فقتل المتكبر الذي خالفه والذي أمره كبرا
وقال ابن مسعود كفى بالرجل إثما إذا قيل له اتق الله قال عليك نفسك وقال صلى الله
عليه و سلم لرجل كل بيمينك قال لا أستطيع فقال النبي صلى الله عليه و سلم ل استطيع
فقال النبي صلى الله عليه و سلملا فما منعه إلا كبره قال
فما رفعها بعد ذلك // حديث قال لرجل كل بيمينك قال لا أستطيع قال لا استطعت الحديث
أخرجه مسلم من حديث سلمة بن الأكوع
أي اعتلت يده
فإذن تكبره على الخلق عظيم لأنه سيدعوه إلى التكبر على أمر الله وإنما ضرب إبليس
مثلا لهذا وما حكاه من أحواله إلا ليعتبر به فإنه قال أنا خير منه وهذا الكبر
بالنسب لأنه قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين فحمله ذلك على أن يمتنع
من السجود الذي أمره الله تعالى به وكان مبدؤه الكبر على آدم والحسد له فجره ذلك
إلى التكبر على أمر الله تعالى فكان ذلك سبب هلاكه أبد الآباد فهذه آفة من آفات
الكبر على العباد عظيمة ولذلك شرح رسول الله صلى الله عليه و سلم الكبر بهاتين
الآفتين إذ سأله ثابت بن قيس بن شماس فقال يا رسول الله إني امرؤ قد حبب إلي من
الجمال ما ترى أفمن الكبر هو فقال صلى الله عليه و سلم لا ولكن الكبر من بطر الحق
وغمص الناس // حديث قول ثابت بن قيس بن شماس إني امرؤ قد حبب إلي من الجمال ما ترى
الحديث وفيه الكبر من بطر الحق وغمص الناس أخرجه مسلم والترمذي وقد تقدم قبله
بحديثين
وفي حديث آخر من سفه الحق // حديث الكبر من سفه الحق وغمص الناس تقدم معه
وقوله وغمص الناس أي ازدراهم واستحقرهم وهم عباد الله أمثاله أو خير منه
وهذه الآفة الأولى وسفه الحق هو رده وهي الآفة الثانية فكل من رأى أنه خير من أخيه
واحتقر أخاه وازدراه ونظر إليه بعين الاستصغار أو رد الحق وهو يعرفه فقد تكبر فيما
بينه وبين الخلق ومن أنف من أن يخضع لله تعالى ويتواضع لله بطاعته واتباع رسله فقد
تكبر فيما بينه وبين الله تعالى ورسله
بيان ما به التكبر
اعلم أنه لا يتكبر إلا متى استعظم نفسه ولا يستعظمها إلا وهو يعتقد لها صفة من
صفات الكمال
وجماع ذلك يرجع إلى كمال ديني أو دنيوي فالديني هو العلم والعمل والدنيوي هو النسب
والجمال والقوة والمال وكثرة الأنصار
فهذه سبعة أسباب
الأول العلم وما أسرع الكبر إلى العلماء ولذلك قال صلى الله عليه و سلم آفة العلم
الخيلاء // حديث آفة العلم الخيلاء قلت هكذا ذكره المصنف والمعروف آفة العلم
النسيان وآفة الجمال الخيلاء هكذا رواه القضاعي في مسند الشهاب من حديث علي بسند
ضعيف
وروى عنه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس آفة الجمال الخيلاء وفيه الحسن بن
الحميد الكوفي لا يدري من هو حدث عن أبيه بحديث موضوع قاله صاحب الميزان
فلا يلبث
العالم
أن يتعزز بعزة العلم يستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ويستعظم نفسه ويستحقر الناس
وينظر إليهم نظره إلى البهائم ويستجهلهم ويتوقع أن يبدءوه بالسلام فإن بدأه واحد
منهم بالسلام أو رد عليه ببشر أو قام له أو أجاب له دعوة رأى ذلك صنيعة عنده ويدا
عليه يلزمه شكرها واعتقد أنه أكرمهم وفعل بهم ما لا يستحقون من مثله وأنه ينبغي أن
يرقوا له ويخدموه شكرا له على صنيعه بل الغالب أنهم يبرونه فلا يبرهم ويزورونه فلا
يزورهم ويعودونه فلا يعودهم ويستخدم من خالطه منهم ويستسخره في حوائجه فإن قصر فيه
استنكره كأنهم عبيده أو أجراؤه وكأن تعليمه العلم صنيعة منه إليهم ومعروفلديهم
واستحقاق حق عليهم هذا فيما يتعلق بالدنيا
أما في أمر الآخرة فتكبره عليهم بأن يرى نفسه عند الله تعالى أعلى وأفضل منهم
فيخاف عليهم أكثر مما يخاف على نفسه ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو لهم وهذا بأن يسمى
جاهلا أولى من أن يسمى عالما بل العلم الحقيقي هو الذي يعرف الإنسان به نفسه وربه
وخطر الخاتمة وحجة الله على العلماء وعظم خطر العلم فيه كما سيأتي في طريق معالجة
الكبر بالعلم وهذا العلم يزيد خوفا وتواضعا وتخشعا ويقتضي أن يرى كل الناس خيرا
منه لعظم حجة الله عليه بالعلم وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم
ولهذا قال أبو الدرداء من ازداد علما ازداد وجعا وهو كما قال
فإن قلت فما بال بعض الناس يزداد بالعلم كبرا وأمنا
فأعلم أن لذلك سببين
أحدهما أن يكون اشتغاله بما يسمى علما وليس علما حقيقيا وإنما العلم الحقيقي ما
يعرف به العبد ربه ونفسه وخطر أمره في لقاء الله والحجاب منه وهذا يورث الخشية
والتواضع دون الكبر والأمن
قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فأما ما وراء ذلك كعلم الطب
والحساب واللغة والشعر والنحو وفصل الخصومات وطرق المجادلات فإذا تجرد الإنسان لها
حتى امتلأ منها امتلأ بها كبرا ونفاقا وهذه بأن تسمى صناعات أولى من أن تسمى علوما
بل العلم هو معرفة العبودية والربوبية وطريق العبادة وهذه تورث التواضع غالبا
السبب الثاني أن يخوض العبد في العلم وهو خبيث الدخلة رديء النفس سيء الأخلاق فإنه
لم يشتغل أولا بتهذيب نفسه وتزكية قلبه بأنواع المجاهدات ولم يرض نفسه في عبادة
ربه فبقي خبيث الجوهر فإذا خاض في العلم أي علم كان صادف العلم من قلبه منزلا
خبيثا فلم يطب ثمره ولم يظهر في الخير أثره
وقد ضرب وهب لهذا مثلا فقال العلم كالغيث ينزل من السماء حلوا صافيا فتشربه
الأشجار بعروقها فتحوله على قدر طعومها فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة فكذلك
العلم تحفظه الرجال فتحوله على قدر هممها وأهوائها فيزيد المتكبر كبرا والمتواضع
تواضعا وهذا لأن من كانت همته الكبر وهو جاهل فإذا حفظ العلم وجد ما يتكبر به
فازداد كبرا وإذا كان الرجل خائفا مع جهله فازداد علما علم أن الحجة قد تأكدت عليه
فيزداد خوفا وإشفاقا وذلا وتواضعا فالعلم من أعظم ما يتكبر به ولذلك قال تعالى
لنبيه صلى الله عليه و سلم واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وقال عز و جل ولو
كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ووصف أولياءه فقال أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين وكذلك قال صلى الله عليه و سلم فيما رواه العباس رضي الله عنه يكون قوم
يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا ومن أعلم منا
ثم التفت إلى أصحابه وقال أولئك منكم أيها الأمة أولئك هم
وقود
النار // حديث العباس يكون قوم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقولون قد قرأنا
القرآن فمن أقرأ منا الحديث أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق
ولذلك قال عمر رضي الله عنه لا تكونوا جبابرة العلماء فلا يفي علمكم بجهلكم
ولذلك أستأذن تميم الداري عمر رضي الله عنه في القصص فأبى أن يأذن له وقال إنه
الذبح واستأذنه رجل كان إمام قوم أنه إذا سلم من صلاته ذكرهم فقال إني أخاف أن
تنتفخ حتى تبلغ الثريا
وصلى حذيفة بقوم فلما سلم من صلاته قال لتلتمسن إماما غيري أو لتصلن وحدانا فإني
رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل مني
فإذا كان مثل حذيفة لا يسلم فكيف يسلم الضعفاء من متأخري هذه الأمة فما أعز على
بسيط الأرض عالما يستحق أن يقال له عالم ثم إنه لا يحركه عز العلم وخيلاؤه فإن وجد
ذلك فهو صديق زمانه فلا ينبغي أن يفارق بل يكون النظر إليه عبادة فضلا عن
الاستفادة من أنفاسه وأحواله لو عرفنا ذلك ولو في أقصى الصين لسعينا إليه رجاء أن
تشملنا بركته وتسري إلينا سيرته وسجيته وهيهات فأنى يسمح آخر الزمان بمثلهم فهم
أرباب الإقبال وأصحاب الدول قد انقرضوا في القرن الأول ومن يليهم بل يعز في زماننا
عالم يختلج في نفسه الأسف والحزن على فوات هذه الخصلة فذلك أيضا إما معدوم وإما
عزيز ولولا بشارة رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله سيأتي على الناس زمان من
تمسك فيه بعشر ما أنتم عليه نجا // حديث سيأتي على الناس زمان من تمسك بعشر ما
أنتم عليه نجا أخرجه أحمد من رواية رجل عن أبي ذر
لكان جديرا بنا أن نقتحم والعياذ بالله تعالى ورطة اليأس والقنوط مع ما نحن عليه
من سوء أعمالنا ومن لنا أيضا بالتمسك بعشر ما كانوا عليه وليتنا تمسكنا بعشر عشره
فنسأل الله تعالى أن يعاملنا بما هو أهله ويستر علينا قبائح أعمالنا كما يقتضيه
كرمه وفضله
الثاني العمل والعبادة وليس يخلو عن رذيلة العز والكبر واستمالة قلوب الناس الزهاد
والعباد ويترشح الكبر منهم في الدين والدنيا
أما في الدنيا فهو أنهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى منهم بزيارة غيرهم ويتوقعون قيام
الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى
وتقديمهم على سائر الناس في الحظوظ إلى جميع ما ذكرناه في حق العلماء وكأنهم يرون
عبادتهم منة على الخلق
وأما في الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجيا وهو الهالك تحقيقا مهما
رأى ذلك قال صلى الله عليه و سلم إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم //
حديث إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
وإنما قال ذلك لأن هذا القول منه يدل على أنه مزدر بخلق الله مغتر بالله آمن من
مكره غير خائف من سطوته وكيف لا يخاف ويكفيه شرا احتقاره لغيره
قال صلى الله عليه و سلم كفى بالمرء شرا أن يحقر أخاه المسلم // حديث كفى بالمرء
شرا أن يقر أخاه المسلم أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ امرؤ من الشر
وكم من الفرق بينه وبين من يحبه لله ويعظمه لعبادته ويستعظمه ويرجو له ما لا يرجوه
لنفسه فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه لله فهم يتقربون إلى الله تعالى بالدنو
منه وهو يتمقت إلى الله بالتنزه والتباعد منهم كأنه مترفع عن مجالستهم فما أجدرهم
إذ أحبوه لصلاحه أن ينقلهم الله إلى درجته في العمل وما أجدره إذ ازدراهم بعينه أن
ينقله الله إلى حد الإهمال كما روي أن رجلا في بني إسرائيل كان يقال له خليع بني
إسرائيل لكثرة فساده مر برجل آخر يقال له عابد بني إسرائيل وكان على رأس العابد
غمامة تظله فلما مر الخليع به فقال الخليع في نفسه أنا خليع بني إسرائيل وهذا عابد
بني إسرائيل
فلو
جلست إليه لعل الله يرحمني فجلس إليه فقال العابد أنا عابد بني إسرائيل وهذا خليع
بني إسرائيل فكيف يجلس إلي فأنف منه وقال له قم عني فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان
مرهما فليستأنفا العمل فقد غفرت للخليع وأحبطت عمل العابد
وفي رواية أخرى فتحولت الغمامة إلى رأس الخليع
وهذا يعرفك أن الله تعالى إنما يريد من العبيد قلوبهم فالجاهل العاصي إذا تواضع
هيبة لله وذل خوفا منه فقد أطاع الله بقلبه فهو أطوع لله من العالم المتكبر
والعابد المعجب
وكذلك روي أن رجلا في بني إسرائيل أتى عابدا من بني إسرائيل فوطئ على رقبته وهو
ساجد فقال ارفع فوالله لا يغفر الله لك // حديث الرجل من بني إسرائيل الذي وطئ على
رقبة عابد من بني إسرائيل وهو ساجد فقال ارفع فوالله لا يغفر الله لك الحديث أخرجه
أبو داود والحاكم من حديث أبي هريرة في قصة العابد الذي قال للعاصي والله لا يغفر
الله لك أبدا وهو بغير هذا السياق وإسناده حسن
فأوحى الله إليه أيها المتألي بل أنت لا يغفر الله لك وكذلك قال الحسن وحتى أن
صاحب الصوف أشد كبرا من صاحب المطرز الخز أي أن صاحب الخز يذل لصاحب الصوف ويرى
الفضل وصاحب الصوف يرى الفضل لنفسه وهذه الآفة أيضا قلما ينفك عنها كثير من العباد
وهو أنه لو استخف به مستخف أو آذاه مؤذ استبعد أن يغفر الله له ولا يشك في أنه صار
ممقوتا عند الله ولو آذى مسلما آخر لم يستنكر ذلك الاستنكار وذلك لعظم قدر نفسه
عنده وهو جهل وجمع بين الكبر والعجب واغترار بالله وقد ينتهي الحمق والغباوة
ببعضهم إلى أن يتحدى ويقول سترون ما يجري عليه وإذا أصيب بنكبة زعم أن ذلك من
كراماته وأن الله ما أراد به إلا شفاء غليله والانتقام له منه مع أنه يرى طبقات من
الكفار يسبون الله ورسوله وعرف جماعة آذوا الأنبياء صلوات الله عليهم فمنهم من
قتلهم ومنهم من ضربهم ثم إن الله أمهل أكثرهم ولم يعاقبهم في الدنيا بل ربما أسلم
بعضهم فلم يصبه مكروه في الدنيا ولا في الآخرة ثم الجاهل المغرور يطن أنه أكرم على
الله من أنبيائه وأنه قد انتقم له بما لا ينتقم لأنبيائه به
ولعله في مقت الله بإعجابه وكبره وهو غافل عن هلاك نفسه فهذه عقيدة المغترين
وأما الأكياس من العباد فيقولون ما كان يقوله عطاء السلمي حين كان تهب ريح أو تقع
صاعقة ما يصيب الناس ما يصيبهم إلا بسببي ولو مات عطاء لتخلصوا
وما قاله الآخر بعد انصرافه من عرفات كنت أرجو الرحمة لجميعهم لولا كوني فيهم
فانظر إلى الفرق بين الرجلين هذا يتقي الله ظاهرا وباطنا وهو وجل على نفسه مزدر
لعمله وسعيه وذاك ربما يضمر من الرياء والكبر والحسد والغل ما هو ضحكة للشيطان به
ثم إنه يمتن على الله بعمله
ومن اعتقد جزما أنه فوق أحد من عباد الله فقد أحبط بجهله جميع عمله فإن الجهل أفحش
المعاصي وأعظم شيء يبعد العبد عن الله وحكمه لنفسه بأنه خير من غيره جهل محض وأمن من
مكر الله ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ولذلك روي أن رجلا ذكر بخير للنبي
صلى الله عليه و سلم فأقبل ذات يوم فقالوا يا رسول الله هذا الذي ذكرناه لك فقال
إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان فسلم ووقف على النبي صلى الله عليه و سلم فقال له
النبي صلى الله عليه و سلم أسألك بالله حدثتك نفسك أن ليس في القوم أفضل منك قال
اللهم نعم // حديث أن رجلا ذكر بخير للنبي صلى الله عليه و سلم فأقبل ذات يوم
فقالوا يا رسول الله هذا الذي ذكرناه لك فقال إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان
الحديث أخرجه أحمد والبزار والدارقطني من حديث أنس
فرأى رسول الله صلى الله عليه و سلم بنور النبوة ما استكن في قلبه سفعة في وجهه
وهذه آفة لا ينفك عنها أحد من العباد إلا من عصمه الله
لكن العلماء والعباد في آفة الكبر على ثلاث درجات
الدرجة الأولى أن يكون الكبر مستقرا في قلبه يرى نفسه خيرا من غيره إلا أنه يجتهد
ويتواضع ويفعل
فعل
من يرى غيره خيرا من نفسه وهذا قد رسخ في قلبه شجرة الكبر ولكنه قطع أغصانها
بالكلية
الثانية أن يظهر ذلك على أفعاله بالترفع في المجالس والتقدم على الأقران وإظهار
الإنكار على من يقصر في حقه وأدنى ذلك في العالم أن يصعر خده للناس كأنه معرض عنهم
وفي العابد أن يعبس وجهه ويقطب جبينه كأنه منزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان
عليهم وليس يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى تقطب ولا في الوجه حتى يعبس
ولا في الخد حتى يصعر ولا في الرقبة حتى تطأطأ ولا في الذيل حتى يضم إنما الورع في
القلوب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم التقوى هاهنا وأشار إلى صدره // حديث
التقوى هاهنا وأشار إلى صدره أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وقد تقدم
فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أكرم الخلق وأتقاهم وكان أوسعهم خلقا
وأكثرهم بشرا وتبسما وانبساطا // حديث كان أكرم الخلق وأتقاهم الحديث تقدم في كتاب
أخلاق النبوة
ولذلك قال الحارث بن جزء الزبيدي صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم يعجبني من
القراء كل طليق مضحاك فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بعبوس يمن عليك بعلمه فلا أكثر
الله في المسلمين مثله
ولو كان الله سبحانه وتعالى يرضى ذلك لما قال لنبيه صلى الله عليه و سلم واخفض
جناحك لمن اتبعك من المؤمنين وهؤلاء الذين يظهر أثر الكبر على شمائلهم فأحوالهم
أخف حالا ممن هو في
الرتبة الثالثة وهو الذي يظهر الكبر على لسانه حتى يدعوه إلى الدعوى والمفاخرة
والمباهاة وتزكية النفس وحكايات الأحوال والمقامات والتشمر لغلبه الغير في العلم
والعمل
أما العابد فإنه يقول في معرض التفاخر لغيره من العباد
من هو وما عمله ومن أين زهده فيطول اللسان فيهم بالتنقص ثم يثني على نفسه ويقول
إني لم أفطر منذ كذا وكذا ولا أنام الليل وأختم القرآن في كل يوم وفلان ينام سحرا
ولا يكثر القراءة وما يجري مجراه وقد يزكي نفسه ضمنا فيقول قصدني فلان بسوء فهلك
ولده وأخذ ماله أو مرض أو ما يجره مجراه يدعي الكرامة لنفسه
وأما مباهاته فهو أنه لو وقع مع قوم يصلون بالليل قام وصلى أكثر مما كان يصلي وإن
كانوا يصبرون على الجوع فيكلف نفسه الصبر ليغلبهم ويظهر له قوته وعجزهم وكذلك يشتد
في العبادة خوفا من أن يقال غيره أعبد منه أو أقوى منه في دين الله
وأما العالم فإنه يتفاخر ويقول أنا متفنن في العلوم ومطلع على الحقائق ورأيت من
الشيوخ فلانا وفلانا ومن أنت وما فضلك ومن لقيت وما الذي سمعت من الحديث كل ذلك
ليصغره ويعظم نفسه
وأما مباهاته فهو أنه يجتهد في المناظرة أن يغلب ولا يغلب ويسهر طول الليل والنهار
في تحصيل علوم يتجمل بها في المحافل كالمناظرة والجدل وتحسين العبارة وتسجيع
الألفاظ وحفظ العلوم الغريبة ليغرب بها على الأقران ويتعظم عليهم ويحفظ الأحاديث
ألفاظها وأسانيدها حتى يرد على من أخطأ فيها فيظهر فضله ونقصان أقرانه ويفرح مهما
أخطأ واحد منهم ليرد عليه ويسوء إذا أصاب وأحسن خيفة من أن يرى أنه أعظم منه
فهذا كله أخلاق الكبر وآثاره التي يثمرها التعزز بالعلم والعمل وأين من يخلو عن
جميع ذلك أو عن بعضه فليت شعري من الذي عرف هذه الأخلاق من نفسه وسمع قول رسول
الله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر //
حديث لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر تقدم
كيف يستعظم نفسه ويتكبر على غيره ورسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إنه من أهل
النار وإنما العظيم من خلا عن هذا ومن خلا عنه لم يكن فيه تعظيم وتكبر والعالم هو
الذي فهم أن الله تعالى قال له إن لك عندنا قدرا ما لم تر لنفسك قدرا فإن رأيت لها
قدرا فلا قدر لك عندنا
ومن لم يعلم
هذا
من الدين فاسم العالم عليه كذب ومن علمه لزمه أن لا يتكبر ولا يرى لنفسه قدرا
فهذا هو التكبر بالعلم والعمل
الثالث التكبر بالحسب والنسب فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن
كان أرفع منه عملا وعلما وقد يتكبر بعضهم فيرى أن الناس له أموال وعبيد ويأنف من
مخالطتهم ومجالستهم وثمرته على اللسان التفاخر به فيقول لغيره يا نبطي يا هندي ويا
أرمني من أنت ومن أبوك فأنا فلان ابن فلان وأين لمثلك أن يكلمني أو ينظر إلي ومع
مثلي تتكلم وما يجري مجراه
وذلك عرق دفين في النفس لا ينفك عنه نسيب وإن كان صالحا وعاقلا إلا أنه قد لا
يترشح منه ذلك عند اعتدال الأحوال فإن غلبه غضب أطفأ ذلك نور بصيرته وترشح منه كما
روي عن أبي ذر أنه قال قاولت رجلا عند النبي صلى الله عليه و سلم فقلت له يا ابن
السوداء فقال النبي صلى الله عليه و سلم يا أبا ذر طف الصاع طف الصاع ليس لابن
البيضاء على ابن السوداء فضل // حديث أبي ذر قاولت رجلا عند النبي صلى الله عليه و
سلم فقلت له يا ابن السوداء الحديث أخرجه ابن المبارك في البر والصلة مع اختلاف
ولأحمد من حديثه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال له انظر فإنك لست بخير من أحمر
ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى
فقال أبو ذر رحمه الله فاضطجعت وقلت للرجل قم فطأ على خدي
فانظر كيف نبهه رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه رأى لنفسه فضلا بكونه ابن بيضاء
وأن ذلك خطأ وجهل وانظر كيف تاب وقلع من نفسه شجرة الكبر بأخمص قدم من تكبر عليه
إذ عرف أن العز لا يقمعه إلا الذل ومن ذلك ما روي أن رجلين تفاخرا عند النبي صلى
الله عليه و سلم فقال أحدهما للآخر أنا فلان بن فلان فمن أنت لا أم لك فقال النبي
صلى الله عليه و سلم افتخر رجلان عند موسى عليه السلام فقال أحدهما أنا فلان بن
فلان حتى عد تسعة فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل للذي افتخر بل التسعة
من أهل النار وأنت عاشرهم // حديث أن رجلين تفاخرا عند النبي صلى الله عليه و سلم
فقال أحدهما للآخر أنا فلان بن فلان فمن أنت لا أم لك الحديث أخرجه عبد الله بن
أحمد في زوائد المسند من حديث أبي بن كعب بإسناد صحيح ورواه أحمد موقوفا على معاذ
بقصة موسى فقط
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليدعن قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحما في
جهنم أو ليكون أهون على الله من الجعلان التي تذرف بآنافها القذر // حديث ليدعن
قوم الفخر بآبائهم وقد صاروا فحما في جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان من حديث أبي هريرة
الرابع التفاخر بالجمال وذلك أكثر ما يجري بين النساء ويدعو ذلك إلى التنقص والثلب
والغيبة وذكر عيوب الناس ومن ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت دخلت
امرأة على النبي صلى الله عليه و سلم فقلت بيدي هكذا أي أنها قصيرة فقال النبي صلى
الله عليه و سلم قد اغتبتها // حديث عائشة دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه و
سلم فقلت بيدي هكذا أي أنها قصيرة الحديث تقدم في آفات اللسان
وهذا منشؤه خفاء الكبر لأنها لو كانت أيضا قصيرة لما ذكرتها بالقصر فكأنها أعجبت
بقامتها واستقصرت المرأة في جنب نفسها فقالت ما قالت
الخامس الكبر بالمال وذلك يجري بين الملوك في خزائنهم وبين التجار في بضائعهم وبين
الدهاقين في أراضيهم وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم فيستحقر الغني
الفقير ويتكبر عليه ويقول له أنت مكد ومسكين وأنا لو أردت لاشتريت مثلك واستخدمت
من هو فوقك ومن أنت وما معك وأثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك وأنا أنفق في
اليوم ما لا تأكله في سنة وكل ذلك لاستعظامه للغنى واستحقاره للفقر وكل ذلك جهل
منه بفضيلة الفقر وآفة الغنى وإليه الإشارة بقوله تعالى فقال لصاحبه وهو يحاوره
أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا حتى أجابه فقال إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى
ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو
يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا وكان ذلك منه تكبرا بالمال والولد
ثم
بين الله عاقبة أمره بقوله يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ومن ذلك تكبر قارون إذ قال
تعالى إخبارا عن تكبره فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا
ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم
السادس الكبر بالقوة وشدة البطش والتكبر به على أهل الضعف
السابع التكبر بالأتباع والأنصار والتلامذة والغلمان وبالعشيرة والأقارب والبنين ويجري
ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود وبين العلماء في المكاثرة بالمستفيدين
وبالجملة فكل ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالا وإن لم يكن في نفسه كمالا أمكن أن
يتكبر به حتى إن المخنث ليتكبر على أقرانه بزيادة معرفتة وقدرته في صنعة المخنثين
لأنه يرى ذلك كمالا فيفتخر به وإن لم يكن فعله إلا نكالا وكذلك الفاسق قد يفتخر
بكثرة الشرب وكثرة الفجور بالنسوان والغلمان ويتكبر به لظنه أن ذلك كمالا وإن كان
مخطئا فيه
فهذه مجامع ما يتكبر به العباد بعضهم على بعض فيتكبر من يدلي بشيء منه على من لا
يدلي به أو على من يدلي بما هو دونه في اعتقاده
وربما كان مثله أو فوقه عند الله تعالى كالعالم الذي يتكبر بعلمه على من هو أعلم
منه لظنه أنه هو الأعلم ولحسن اعتقاده في نفسه
نسأل الله العون بلطفه ورحمته إنه على كل شيء قدير
بيان البواعث على التكبر وأسبابه المهيجة له
اعلم أن الكبر خلق باطن وأما ما يظهر من الأخلاق والأفعال فهي ثمرة ونتيجة وينبغي
أن تسمى تكبرا
ويخص اسم الكبر بالمعنى الباطن الذي هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير
وهذا الباطن له موجب واحد وهو العجب الذي يتعلق بالمتكبر كما سيأتي معناه فإنه إذا
أعجب بنفسه وبعلمه وبعمله أو بشيء من أسبابه استعظم وتكبر
وأما الكبر الظاهر فأسبابه ثلاثة سبب في المتكبر وسبب في المتكبر عليه وسبب فيما
يتعلق بغيرهما
أما السبب الذي في المتكبر فهو العجب والذي يتعلق بالمتكبر عليه هو الحقد والحسد
والذي يتعلق بغيرهما هو الرياء فتصير الأسباب بهذا الاعتبار أربعة العجب والحقد
والحسد والرياء
أما العجب فقد ذكرنا أنه يورث الكبر الباطن والكبر يثمر التكبر الظاهر في الأعمال
والأقوال والأحوال
وأما الحقد فإنه يحمل على التكبر من غير عجب كالذي يتكبر على من يرى أنه مثله أو
فوقه ولكن قد غضب عليه بسبب سبق منه فأورثه الغضب حقدا ورسخ في قلبه بغضه فهو لذلك
لا تطاوعه نفسه أن يتواضع له وإن كان عنده مستحقا للتواضع فكم من رذل لا تطاوعه
نفسه على التواضع لواحد من الأكابر لحقده عليه أو بغضه له ويحمله ذلك على رد الحق
إذا جاء من جهته وعلى الأنفة من قبول نصحه وعلى أن يجتهد في التقدم عليه وإن علم
أنه لا يستحق ذلك وعلى أن لا يستحله وإن ظلمه فلا يعتذر إليه وإن جنى عليه ولا
يسأله عما هو جاهل به
وأما الحسد فإنه أيضا يوجب البغض للمحسود وإن لم يكن من جهته إيذاء وسبب يقتضي
الغضب والحقد ويدعو الحسد أيضا إلى جحد الحق حتى يمنع من قبول النصيحة وتعلم العلم
فكم من جاهل يشتاق إلى العلم وقد بقي في رذيلة الجهل لاستنكافه أن يستفيد من واحد
من أهل بلده أو أقاربه حسدا وبغيا عليه فهو يعرض عنه ويتكبر عليه مع معرفته بأنه
يستحق التواضع بفضل علمه ولكن الحسد يبعثه على أن يعامله بأخلاق المتكبرين وإن كان
في باطنه ليس يرى نفسه فوقه
وأما الرياء فهو أيضا يدعو إلى أخلاق المتكبرين حتى إن الرجل ليناظر من يعلم أنه
أفضل منه وليس بينه
وبينه
معرفة ولا محاسدة ولا حقد ولكن يمتنع من قبول الحق منه ولا يتواضع له في الاستفادة
خيفة من أن يقول الناس إنه أفضل منه فيكون باعثه على التكبر عليه الرياء المجرد
ولو خلا معه بنفسه لكان لا يتكبر عليه
وأما الذي يتكبر بالعجب أو الحسد أو الحقد فإنه يتكبر أيضا عند الخلوة به مهما لم
يكن معهما ثالث وكذلك قد ينتمي إلى نسب شريف كاذبا وهو يعلم أنه كاذب ثم يتكبر به
على من ليس ينتسب إلى ذلك النسب ويترفع عليه في المجالس ويتقدم عليه في الطريق ولا
يرضى بمساواته في الكرامة والتوقير وهو عالم باطنا بأنه لا يستحق ذلك ولا كبر في
باطنه لمعرفته بأنه كاذب في دعوى النسب ولكن يحمله الرياء على أفعال المتكبرين
وكأن اسم المتكبر إنما يطلق في الأكثر على من يفعل هذه الأفعال عن كبر في الباطن
صادر عن العجب والنظر إلى الغير بعين الاحتقار وهو إن سمي متكبرا فلأجل التشبه
بأفعال الكبر
نسأل الله حسن التوفيق والله تعالى أعلم
بيان أخلاق المتواضعين ومجامع ما يظهر فيه أثر التواضع والتكبر
اعلم أن التكبر يظهر في شمائل الرجل كصعر في وجهه ونظره شزرا وإطراقه رأسه وجلوسه
متربعا أو متكئا وفي أقواله حتى في صوته ونغمته وصيغته في الإيراد ويظهر في مشيته
وتبختره وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته وفي تعاطيه لأفعاله وفي سائر تقلباته في
أحواله وأقواله وأعماله
فمن المتكبرين من يجمع ذلك كله ومنهم من يتكبر في بعض ويتواضع في بعض
فمنها التكبر بأن يحب قيام الناس له أو بين يديه
وقد قال علي كرم الله وجهه من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى رجل
قاعد وبين يديه قوم قيام
وقال أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانوا إذا رأوه
لم يقوموا له لما يعلمون من كراهته لذلك // حديث أنس لم يكن شخص أحب إليهم من رسول
الله صلى الله عليه و سلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له الحديث تقدم في آداب
الصحبة وفي أخلاق النبوة
ومنها أن لا يمشي إلا ومعه غيره يمشي خلفه
قال أبو الدرداء لا يزال العبد يزداد من الله بعدا ما مشى خلفه وكان عبدالرحمن بن
عوف لا يعرف من عبيده إذ كان لا يتميز عنهم في صورة ظاهرة
ومشى قوم خلف الحسن البصري فمنعهم وقال ما يبقى هذا من قلب العبد وكان رسول الله
صلى الله عليه و سلم في بعض الأوقات يمشي مع بعض الأصحاب فيأمرهم بالتقدم ويمشي في
غمارهم // حديث كان في بعض الأوقات يمشي مع أصحاب فيأمرهم بالتقدم أخرجه منصور
الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا أنه خرج يمشي إلى البقيع
فتبعه أصحابه فوقف فأمرهم أن يتقدموا ومشى خلفهم فسئل عن ذلك فقال إني سمعت خفق
نعالكم فأشفقت أن يقع في نفسي شيء من الكبر وهو منكر فيه جماعة ضعفاء
إما لتعليم غيره أو لينفي عن نفسه وساوس الشيطان بالكبر والعجب كما أخرج الثوب
الجديد في الصلاة وأبدله بالخليع لأحد هذين المعنيين // حديث إخراجه الثوب الجديد
في الصلاة وإبداله بالخليع قلت المعروف نزع الشراك الجديد ورد الشراك الخلق أو نزع
الخميصة وليس الأنبجانية وكلاهما تقدم في الصلاة
ومنها أن لا يزور غيره وإن كان يحصل من زيارته خير لغيره في الدين وهو ضد التواضع
روي أن سفيان الثوري قدم الرملة فبعث إليه إبراهيم بن أدهم أن تعال فحدثنا فجاء
سفيان فقيل له يا أبا إسحاق تبعث إليه بمثل هذا فقال أردت أن أنظر كيف تواضعه
ومنها أن يستنكف من جلوس غيره بالقرب منه إلا أن يجلس بين يديه والتواضع خلافه
قال ابن وهب جلست إلى عبد العزيز بن أبي رواد فمس فخذي فخذه فنحيت نفسي عنه فأخذ
ثيابي فجرني إلى نفسه وقال لي لم تفعلون بي
ما
تفعلون بالجبابرة وإني لا أعرف رجلا منكم شرا مني وقال أنس كانت الوليدة من ولائد
المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا ينزع يده منها حتى تذهب به
حيث تشاء // حديث أنس كانت الوليدة من ولائد المدينة تأخذ بيد رسول الله صلى الله
عليه و سلم الحديث تقدم في آداب المعيشة
ومنها أن يتوقى من مجالسة المرضى والمعلولين ويتحاشى عنهم وهو الكبر دخل رجل وعليه
جدري قد تقشر على رسول الله صلى الله عليه و سلم وعنده ناس من أصحابه يأكلون فما
جلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه و سلم إلى جنبه // حديث
الرجل الذي به جدري وإجلاسه إلى جنبه تقدم قريبا
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يحبس عن طعامه مجذوما ولا أبرص ولا مبتلى
إلا أقعدهم على مائدته
ومنها أن لا يتعاطى بيده شغلا في بيته والتواضع خلافه روي أن عمر بن عبدالعزيز
أتاه ليلة ضيف وكان يكتب فكاد السراج يطفأ فقال الضيف أقوم إلى المصباح فأصلحه
فقال ليس من كرم الرجل أن يستخدم ضيفه قال أفأنبه الغلام فقال هي أول نومة نامها
فقام وأخذ البطة وملأ المصباح زيتا فقال الضيف قمت أنت بنفسك يا أمير المؤمنين
فقال ذهبت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر ما نقص مني شيء وخير الناس من كان عند الله
متواضعا
ومنها أن لا يأخذ متاعه ويحمله إلى بيته وهو خلاف عادة المتواضعين كان رسول الله
صلى الله عليه و سلم يفعل ذلك // حديث حمله متاعه إلى بيته
أخرجه أبو يعلى من حديث أبي هريرة في شرائه للسراويل وحمله وتقدم
وقال علي كرم الله وجهه لا ينقص الرجل الكامل من كماله ما حمل من شيء إلى عياله
وكان أبو عبيدة ابن الجراح وهو أمير يحمل سطلا له من خشب إلى الحمام
وقال ثابت بن أبي مالك رأيت أبا هريرة أقبل من السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ
خليفة لمروان فقال أوسع الطريق للأمير يا ابن أبي مالك وعن الأصبغ بن نباتة قال
كأني أنظر إلى عمر رضي الله عنه معلقا لحما في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة
يدور في الأسواق حتى دخل رحله
وقال بعضهم رأيت عليا رضي الله عنه قد اشترى لحما بدرهم فحمله في ملحفته فقلت له
أحمل عنك يا أمير المؤمنين فقال لا أبو العيال أحق أن يحمل
ومنها اللباس إذ يظهر به التكبر والتواضع وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم
البذاذة من الإيمان // حديث البذاذة من الإيمان أخرجه أبو داود وابن ماجه حديث أبي
أمامة بن ثعلبة وقد تقدم
فقال هارون سألت معنا عن البذاذة فقال هو الدون من اللباس
وقال زيد بن وهب رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى السوق وبيده الدرة وعليه
إزار فيه أربع عشرة رقعة بعضها من أدم وعوتب علي كرم الله وجهه في إزار مرقوع فقال
يقتدي به المؤمن ويخشع له القلب
وقال عيسى عليه السلام جودة الثياب خيلاء في القلب وقال طاوس إني لأغسل ثوبي هذين
فأنكر قلبي ما داما نقيين
ويروى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان قبل أن يستخلف تشترى له الحلة بألف
دينار فيقول ما أجودها لولا خشونة فيها فلما استخلف كان يشترى له الثوب بخمسة
دراهم فيقول ما أجوده لولا لينه فقيل له أين لباسك ومركبك وعطرك يا أمير المؤمنين
فقال إن لي نفسا ذواقة وإنها لم تذق من الدنيا طبقة إلا تاقت إلى الطبقة التي
فوقها حتى إذا ذاقت الخلافة وهي أرفع الطباق تاقت إلى ما عند الله عز و جل
وقال سعيد بن سويد صلى بنا عمر بن عبد العزيز الجمعة ثم جلس وعليه قميص مرقوع
الجيب من بين يديه ومن خلفه فقال له رجل يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو
لبست فنكس
رأسه
مليا ثم رفع رأسه فقال إن أفضل القصد عند الجدة وإن أفضل العفو عند القدرة وقال
صلى الله عليه و سلم من ترك زينة لله ووضع ثيابا حسنة تواضعا لله وابتغاء لمرضاته
كان حقا على الله أن يدخر له عبقري الجنة // حديث من ترك زينة لله ووضع ثيابا حسنة
تواضعا لله الحديث أخرجه أبو سعيد الماليني في مسند الصوفية وأبو نعيم في الحلية
من حديث ابن عباس من ترك زينة لله الحديث وفي إسناده نظر
فإن قلت فقد قال عيسى عليه السلام جودة الثياب خيلاء القلب
وقد سئل نبينا صلى الله عليه و سلم عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر فقال لا
ولكن من سفه الحق وغمص الناس // حديث سئل عن الجمال في الثياب هل هو من الكبر فقال
لا الحديث تقدم غير مرة
فكيف طريق الجمع بينهما فاعلم أن الثوب الجديد ليس من ضرورته أن يكون من التكبر في
حق كل أحد في كل حال وهو الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو الذي
عرفه رسول الله صلى الله عليه و سلم من حال ثابت بن قيس إذ قال إني امرؤ حبب إلي
من الجمال ما ترى // حديث إن ثابت بن قيس قال للنبي صلى الله عليه و سلم إني امرؤ
حبب إلي الجمال الحديث هو الذي قبله سمي فيه السائل وقد تقدم
فعرف أن ميله إلى النظافة وجودة الثياب لا ليتكبر على غيره فإنه ليس من ضرورته أن
يكون من الكبر وقد يكون ذلك من الكبر كما أن الرضا بالثوب الدون قد يكون من
التواضع
وعلامة المتكبر أن يطلب التجمل إذا رآه الناس ولا يبالي إذا انفرد بنفسه كيف كان
وعلامة طالب الجمال أن يحب الجمال في كل شيء ولو في خلوته وحتى في سنور داره فذلك
ليس من التكبر
فإذا انقسمت الأحوال نزل قول عيسى عليه السلام على بعض الأحوال على أن قوله خيلاء
القلب يعني قد تورث خيلاء في القلب وقول نبينا صلى الله عليه و سلم إنه ليس من
الكبر يعني أن الكبر لا يوجبه ويجوز أن لا يوجبه الكبر ثم يكون هو مورثا للكبر
وبالجملة فالأحوال تختلف في مثل هذا المحبوب الوسط من اللباس الذي لا يوجب شهرة
بالجودة ولا بالرداءة
وقد قال صلى الله عليه و سلم كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة
// حديث كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة أخرجه النسائي وابن
ماجه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده // حديث إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على
عبده أخرجه الترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أيضا وقد جعلهما
المصنف حديثا واحدا
وقال بكر بن عبد الله المزني البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية وإنما
خاطب بهذا قوما يطلبون التكبر بثياب أهل الصلاح
وقد قال عيسى عليه السلام ما لكم تأتوني وعليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب
الضواري البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية
ومنها أن يتواضع بالاحتمال إذا سب وأوذي وأخذ حقه فذلك هو الأصل
وقد أوردنا ما نقل عن السلف من احتمال الأذى في كتاب الغضب والحسد
وبالجملة فمجامع حسن الأخلاق والتواضع سيرة النبي صلى الله عليه و سلم فيه فينبغي
أن يقتدى به ومنه ينبغي أن يتعلم
وقد قال أبو سلمة
قلت لأبي سعيد الخدري ما ترى فيما أحدث الناس من الملبس والمشرب والمركب والمطعم
فقال يا ابن أخي كل لله واشرب لله والبس لله وكل شيء من ذلك دخله زهو أو مباهاة أو
رياء أو سمعة فهو معصية وسرف وعالج في بيتك من الخدمة ما كان يعالج رسول الله صلى
الله عليه و سلم في بيته كان يعلف الناضح ويعقل البعير ويقم البيت ويحلب الشاة
ويخصف النعل ويرقع الثوب ويأكل مع خادمه ويطحن عنه إذا أعيا ويشتري الشيء من السوق
ولا يمنعه الحياء أن يلعقه بيده أو يجعله في طرف ثوبه وينقلب إلى أهله يصافح الغني
والفقير والكبير والصغير ويسلم مبتدئا على كل من استقبله من صغير أو كبير أسود أو
أحمر حر أو عبد من أهل الصلاة ليست له حلة لمدخله وحلة لمخرجه لا يستحي من أن يجيب
إذا دعي وإن كان أشعث أغبر ولا يحقر ما دعي إليه وإن لم يجد إلا حشف الدقل لا يرفع
غداء لعشاء ولا عشاء لغداء هين المؤنة
لين
الخلق كريم الطبيعة جميل المعاشرة طليق الوجه بسام من غير ضحك محزون من غير عبوس
شديد في غير عنف متواضع في غير مذلة جواد من غير سرف رحيم لكل ذي قربى ومسلم رقيق
القلب دائم الإطراق لم يبشم قط من شبع ولا يمد يده من طمع قال أبو سلمة فدخلت على
عائشة رضي الله عنها فحدثتها بما قال أبو سعيد في زهد رسول الله صلى الله عليه و
سلم فقالت ما أخطأ منه حرفا ولقد قصر إذ ما أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه و
سلم لم يمتلئ قط شبعا ولم يبث إلى أحد شكوى وإن كانت الفاقة لأحب إليه من اليسار
والغنى وإن كان ليظل جائعا يلتوي ليلته حتى يصبح فما يمنعه ذلك عن صيام يومه ولو
شاء أن يسأل ربه فيؤتى بكنوز الأرض وثمارها ورغد عيشها من مشارق الأرض ومغاربها
لفعل وربما بكيت رحمة له مما أوتي من الجوع فأمسح بطنه بيدي وأقول نفسي لك الفداء لو
تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك ويمنعك من الجوع فيقول يا عائشة إخواني من أولي
العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا فمضوا على حالهم وقدموا على ربهم
فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي دونهم
فأصبر أياما يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غدا في الآخرة وما من شيء أحب إلي من
اللحوق بإخواني وأخلائي قالت عائشة رضي الله عنها فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة
حتى قبضه الله عز و جل // حديث أبي سعيد الخدري وعائشة قال الخدري لأبي سلمة عالج
في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعالج في بيته كان يعلف
الناضح الحديث وفيه قال أبو سلمة فدخلت على عائشة فحدثتها بذلك عن أبي سعيد فقالت
ما أخطأ ولقد قصر أو ما أخبرك أنه لم يمتلئ قط شبعا الحديث بطوله لم أقف له على
إسناد
فما نقل من أحواله صلى الله عليه و سلم يجمع جملة أخلاق المتواضعين فمن طلب
التواضع فليقتد به ومن رأى نفسه فوق محله صلى الله عليه و سلم ولم يرض لنفسه بما
رضي هو به فما أشد جهله فلقد كان أعظم خلق الله منصبا في الدنيا والدين فلا عز ولا
رفعة إلا في الاقتداء به ولذلك قال عمر رضي الله عنه إنا قوم أعزنا الله بالإسلام
فلن نطلب العز في غيره لما عوتب في بذاذة هيئته عند دخوله الشام
وقال أبو الدرداء اعلم أن لله عبادا يقال لهم الأبدال خلف من الأنبياء هم أوتاد
الأرض فلما انقضت النبوة أبدل الله مكانهم قوما من أمة محمد صلى الله عليه و سلم
لم يفضلوا الناس بكثرة صوم ولا صلاة ولا حسن حلية ولكن بصدق الورع وحسن النية
وسلامة الصدر لجميع المسلمين والنصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله بصبر من غير تجبن
وتواضع في غير مذلة وهم قوم اصطفاهم الله واستخلصهم لنفسه وهم أربعون صديقا أو
ثلاثون رجلا قلوبهم على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام لا يموت الرجل
منهم حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه واعلم يا أخي أنهم لا يلعنون شيئا ولا يؤذونه
ولا يحقرونه ولا يتطاولون عليه ولا يحسدون أحدا ولا يحرصون على الدنيا هم أطيب
الناس خيرا وألينهم عريكة وأسخاهم نفسا علامتهم السخاء وسجيتهم البشاشة وصفتهم
السلامة ليسوا اليوم في خشية وغدا في غفلة ولكن مدامين على حالهم الظاهر وهم فيما
بينهم وبين ربهم لا تدركهم الرياح العواصف ولا الخيل المجراة قلوبهم تصعد ارتياحا
إلى الله واشتياقا إليه وقدما في استباق الخيرات أولئك حزب الله ألا إن حزب الله
هم المفلحون قال الراوي فقلت يا أبا الدرداء ما سمعت بصفة أشد علي من تلك الصفة
وكيف لي أن أبلغها فقال ما بينك وبين أن تكون في أوسعها إلا أن تكون تبغض الدنيا
فإنك إذا بغضت الدنيا أقبلت على حب الآخرة وبقدر حبك للآخرة تزهد في الدنيا وبقدر
ذلك تبصر ما ينفعك وإذا علم الله من عبد حسن الطلب أفرغ عليه السداد واكتنفه
بالعصمة واعلم يا ابن أخي أن ذلك في كتاب الله تعالى المنزل إن الله مع الذين
اتقوا والذين هم محسنون قال يحيى بن كثير فنظرنا
في
ذلك فما تلذذ المتلذذون بمثل حب الله وطلب مرضاته
اللهم اجعلنا من محبي المحبين لك يا رب العالمين فإنه لا يصلح لحبك إلا من ارتضيته
وA
بيان الطريق في معالجة الكبر واكتساب التواضع له
اعلم أن الكبر من المهلكات ولا يخلو أحد من الخلق عن شيء منه وإزالته فرض عين ولا
يزول بمجرد التمني بل بالمعالجة واستعمال الأدوية القامعة له
وفي معالجته مقامان
أحدهما استئصال أصله من سنخه وقلع شجرته من مغرسها في القلب
الثاني دفع العارض منه بالأسباب الخاصة التي بها يتكبر الإنسان على غيره
المقام الأول في استئصال أصله وعلاجه علمي وعملي ولا يتم الشفاء إلا بمجموعهما
أما العلمي فهو أن يعرف نفسه ويعرف ربه تعالى ويكفيه ذلك في إزالة الكبر فإنه مهما
عرف نفسه حق المعرفة علم أنه أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل وأنه لا يليق به إلا
التواضع والذلة والمهانة وإذا عرف ربه علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله
أما معرفته ربه وعظمته ومجده فالقول فيه يطول وهو منتهى علم المكاشفة وأما معرفته
نفسه فهو أيضا يطول ولكنا نذكر من ذلك ما ينفع في إثارة التواضع والمذلة ويكفيه أن
يعرف معنى آية واحدة في كتاب الله فإن في القرآن علم الأولين والآخرين لمن فتحت
بصيرته وقد قال تعالى قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم
السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره فقد أشارت الآية إلى أول خلق
الإنسان وإلى آخر أمره وإلى وسطه فلينظر الإنسان ذلك ليفهم معنى هذه الآية أما أول
الإنسان فهو أنه لم يكن شيئا مذكورا وقد كان في حيز العدم دهورا بل لم يكن لعدمه
أول وأي شيء أخس وأقل من المحو والعدم وقد كان كذلك في القدم ثم خلقه الله من أرذل
الأشياء ثم من أقذرها إذ قد خلقه من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم
جعله عظما ثم كسا العظم لحما فقد كان هذا بداية وجوده حيث كان شيئا مذكورا فما صار
شيئا مذكورا إلا وهو على أخس الأوصاف والنعوت إذ لم يخلق في ابتدائه كاملا بل خلقه
جمادا ميتا لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك ولا ينطق ولا يبطش ولا يدرك ولا
يعلم فبدأ بموته قبل حياته وبضعفه قبل قوته وبجهله قبل علمه وبعماه قبل بصره
وبصممه قبل سمعه وببكمه قبل نطقه وبضلالته قبل هداه وبفقره قبل غناه وبعجزه قبل
قدرته
فهذا معنى قوله من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ومعنى قوله هل أتى على الإنسان
حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه كذلك
خلقه أولا ثم أمتن عليه فقال ثم السبيل يسره وهذا إشارة إلى ما تيسر له في مدة
حياته إلى الموت وكذلك قال من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه
السبيل وإما شاكرا أو كفورا ومعناه أنه أحياه بعد أن كان جمادا ميتا ترابا أولا
ونطفة ثانيا وأسمعه بعد ما كان أصم وبصره بعد ما كان فاقدا للبصر وقواه بعد الضعف
وعلمه بعد الجهل وخلق له الأعضاء بما فيها من العجائب والآيات بعد الفقد لها وأغناه
بعد الفقر وأشبعه بعد الجوع وكساه بعد العرى وهداه بعد الضلال
فانظر كيف دبره وصوره وإلى السبيل كيف يسره وإلى طغيان الإنسان ما أكفره وإلى جهل
الإنسان كيف أظهره فقال أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون فانظر إلى نعمة الله كيف نقله
من تلك الذلة والقلة والخسة والقذارة إلى هذه الرفعة والكرامة فصار موجودا بعد
العدم وحيا بعد الموت وناطقا بعد البكم وبصيرا بعد العمى وقويا بعد الضعف وعالما
بعد الجهل ومهديا بعد
الضلال
وقادرا بعد العجز وغنيا بعد الفقر فكان في ذاته لا شيء وأي شيء أخس من لا شيء وأي
قلة أقل من العدم المحض ثم صار بالله شيئا
وإنما خلقه من التراب الذليل الذي يوطأ بالأقدام والنطفة القذرة بعد العدم المحض
أيضا ليعرفه خسة ذاته فيعرف به نفسه وإنما أكمل النعمة عليه ليعرف بها ربه ويعلم
بها عظمته وجلاله وأنه لا يليق الكبرياء إلا به جل وعلا
ولذلك امتن عليه فقال ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين وعرف خسته
أولا فقال ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة ثم ذكر منته عليه فقال فخلق فسوى
فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ليدوم وجوده بالتناسل كما حصل وجوده أولا
بالاختراع
فمن كان هذا بدؤه وهذه أحواله فمن أين له البطر والكبرياء والفخر والخيلاء وهو على
التحقيق أخس الأخساء وأضعف الضعفاء ولكن هذه عادة الخسيس إذا رفع من خسته شمخ
بأنفه وتعظم وذلك لدلالة خسة أوله ولا حول ولا قوة إلا بالله
نعم لو أكمله وفوض إليه أمره وأدام له الوجود باختياره لجاز أن يطغى وينسى المبدأ
والمنتهى ولكنه سلط عليه في دوام وجوده الأمراض الهائلة والأسقام العظيمة والآفات
المختلفة والطباع المتضادة من المرة والبلغم والريح والدم يهدم البعض من أجزائه
البعض شاء أم أبى رضي أم سخط فيجوع كرها ويعطش كرها ويمرض كرها ويموت كرها لا يملك
لنفسه نفعا ولا ضرا ولا خيرا ولا شرا يريد أن يعلم الشيء فيجهله ويريد أن يذكر
الشيء فينساه ويريد أن ينسى الشيء ويغفل عنه فلا يغفل عنه ويريد أن يصرف قلبه إلى
ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار فلا يملك قلبه قلبه ولا نفسه
نفسه ويشتهي الشيء وربما يكون هلاكه فيه ويكره الشيء وربما تكون حياته فيه يستلذ
الأطعمة وتهلكه وترديه ويستبشع الأدوية وهي تنفعه وتحييه ولا يأمن في لحظة من ليله
أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره وتفلج أعضاؤه ويختلس عقله ويختطف روحه ويسلب جميع ما
يهواه في دنياه فهو مضطر ذليل إن ترك بقي وإن اختطف فنى عبد مملوك لا يقدر على شيء
من نفسه ولا شيء من غيره فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه وأنى يليق الكبر به لولا
جهله فهذا أوسط أحواله فليتأمله
وأما آخره ومورده فهو الموت المشار إليه بقوله تعالى ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء
أنشره ومعناه أنه يسلب روحه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته وحسه وإدراكه وحركته فيعود
جمادا كما كان أول مرة لا يبقى إلا شكل أعضائه وصورته لا حس فيه ولا حركة ثم يوضع
في التراب فيصير جيفة منتنة قذرة كما كان في الأول نطفة مذرة ثم تبلى أعضاؤه وتتفتت
أجزاؤه وتنخر عظامه ويصير رميما رفاتا ويأكل الدود أجزاءه فيبتدئ بحدقتيه فيقلعهما
وبخديه فيقطعهما وبسائر أجزائه فيصير روثا في أجواف الديدان ويكون جيفة يهرب منه
الحيوان ويستقذره كل إنسان ويهرب منه لشدة الإنتان وأحسن أحواله أن يعود إلى ما
كان فيصير ترابا يعمل منه الكيزان ويعمل منه البنيان فيصير مفقودا بعد ما أن
موجودا
وصار كأن لم يغن بالأمس حصيدا كما كان في أول أمره أمدا مديدا وليته بقي كذلك فما
أحسنه لو ترك ترابا
لا بل يحييه بعد طول البلى ليقاسي شديد البلاء فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه
المتفرقة ويخرج إلى أهوال القيامة فينظر إلى قيامة قائمة وسماء مشققة ممزقة وأرض
مبدلة وجبال مسيرة ونجوم منكدرة وشمس منكسفة وأحوال مظلمة وملائكة غلاظ شداد وجهنم
تزفر وجنة ينظر إليها المجرم فيتحسر ويرى صحائف منشورة فيقال له اقرأ كتابك فيقول
وما هو فيقال كان قد وكل بك في حياتك التي كنت تفرح بها وتتكبر بنعيمها وتفتخر
بأسبابها ملكان رقيبان يكتبان عليك
ما
كنت تنطق به أو تعمله من قليل وكثير ونقير وقطمير وأكل وشرب وقيام وقعود قد نسيت
ذلك وأحصاه الله عليك فهلم إلى الحساب واستعد للجواب أو تساق إلى دار العذاب
فينقطع قلبه فزعا من هول هذا الخطاب قبل أن تنتشر الصحيفة ويشاهد ما فيها من
مخازيه فإذا شاهده قال يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
إحصاها فهذا آخر أمره وهو معنى قوله تعالى ثم إذا شاء أنشره فما لمن هذا حاله
والتكبر والتعظم بل ماله وللفرح في لحظة واحدة فضلا عن البطر والأشر فقد ظهر له
أول حاله ووسطه ولو ظهر آخره والعياذ بالله تعالى ربما اختار أن يكون كلبا أو
خنزيرا ليصير مع البهائم ترابا ولا يكون إنسانا يسمع خطابا أو يلقى عذابا وإن كان
عند الله مستحقا للنار فالخنزير أشرف منه وأطيب وأرفع إذ أوله التراب وآخره التراب
وهو بمعزل عن الحساب والعذاب والكلب والخنزير لا يهرب منه الخلق
ولو رأى أهل الدنيا العبد المذنب في النار لصعقوا من وحشة خلقته وقبح صورته ولو
وجدوا ريحه لماتوا من نتنه ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقى منه في بحار الدنيا
لصارت أنتن من الجيفة فمن هذا حاله في العاقبة إلا أن يعفو الله عنه وهو على شك من
العفو كيف يفرح ويبطر وكيف يتكبر ويتجبر وكيف يرى نفسه شيئا حتى يعتقد له فضلا وأي
عبد لم يذنب ذنبا استحق به العقوبة إلا أن يعفو الله الكريم بفضله ويجبر الكسر
بمنه والرجاء منه ذلك لكرمه وحسن الظن به ولا قوة إلا بالله
أرأيت من جنى على بعض الملوك فاستحق بجنايته ضرب ألف سوط فحبس إلى السجن وهو ينتظر
أن يخرج إلى العرض وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق وليس يدري أيعفى عنه أم لا
كيف يكون ذله في السجن أفترى أنه يتكبر على من في السجن وما من عبد مذنب إلا
والدنيا سجنه وقد استحق العقوبة من الله تعالى ولا يدري كيف يكون آخر أمره فيكفيه
ذلك حزنا وخوفا وإشفاقا ومهانة وذلا
فهذا هو العلاج العلمي القامع لأصل الكبر
وأما العلاج العملي فهو التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق
المتواضعين كما وصفناه وحكيناه من أحوال الصالحين ومن أحوال رسول الله صلى الله
عليه و سلم حتى إنه كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد //
حديث كان يأكل على الأرض ويقول إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد تقدم في آداب
المعيشة
وقيل لسلمان
لم لا تلبس ثوبا جديدا فقال إنما أنا عبد فإذا أعتقت يوما لبست جديدا أشار به إلى
العتق في الآخرة
ولا يتم التواضع بعد المعرفة إلا بالعمل ولذلك أمر العرب الذين تكبروا على الله
ورسوله بالإيمان وبالصلاة جميعا وقيل الصلاة عماد الدين وفي الصلاة أسرار لأجلها
كانت عمادا ومن جملتها ما فيها من التواضع بالمثول قائما وبالركوع والسجود وقد
كانت العرب قديما يأنفون من الإنحناء فكان يسقط من يد الواحد سوطه فلا ينحني لأخذه
وينقطع شراك نعله فلا ينكس رأسه لإصلاحه حتى قال حكيم بن حزام بايعت النبي صلى
الله عليه و سلم على أن لا أخر إلا قائما فبايعه النبي صلى الله عليه و سلم عليه
ثم فقه وكمل إيمانه بعد ذلك // حديث حكيم بن حزام بايعت رسول الله صلى الله عليه و
سلم على أن لا أخر إلا قائما الحديث رواه أحمد مقتصرا على هذا وفيه إرسال خفي
فلما كان السجود عندهم هو منتهى الذلة والضعة أمروا به لتنكسر بذلك خيلاؤهم ويزول
كبرهم ويستقر التواضع في قلوبهم وبه أمر سائر الخلق فإن الركوع والسجود والمثول
قائما هو العمل الذي يقتضيه التواضع فكذلك من عرف نفسه فلينظر كل ما يتقاضاه الكبر
من الأفعال فليواظب على نقيضه حتى يصير التواضع له خلقا فإن القلوب لا تتخلق
بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل جميعا وذلك لخفاء العلاقة بين القلوب
والجوارح وسر
الارتباط
الذي بين عالم الملك وعالم الملكوت والقلب من عالم الملكوت
المقام الثاني فيما يعرض من التكبر بالأسباب السبعة المذكورة وقد ذكرنا في كتاب ذم
الجاه أن الكمال الحقيقي هو العلم والعمل فأما ما عداه مما يفنى بالموت فكمال وهمي
فمن هذا يعسر على العالم أن لا يتكبر ولكنا نذكر طريق العلاج من العلم والعمل في
جميع الأسباب السبعة
الأول النسب فيمن يعتريه الكبر من جهة النسب فليداو قلبه بمعرفة أمرين
أحدهما أن هذا جهل من حيث إنه تعزز بكمال غيره ولذلك قيل
لئن فخرت بآباء ذوي شرف ... لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
فالمتكبر بالنسب إن كان خسيسا في صفات ذاته فمن أين يجبر خسته بكمال غيره بل لو
كان الذي ينسب إليه حيا لكان له أن يقول الفضل لي ومن أنت وإنما أنت دودة خلقت من
بولي أفترى أن الدودة التي خلقت من بول إنسان أشرف من الدودة التي من بول فرس
هيهات بل هما متساويان والشرف للإنسان لا للدودة
الثاني أن يعرف نسبه الحقيقي فيعرف أباه وجده فإن أباه القريب نطفة قذرة وجده
البعيد تراب ذليل وقد عرفه الله تعالى نسبه فقال الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق
الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين فمن أصله التراب المهين الذي
يداس بالأقدام ثم خمر طينة حتى صار حمأ مسنونا كيف يتكبر وأخس الأشياء ما إليه
انتسابه إذ يقال يا أذل من التراب ويا أنتن من الحمأة ويا أقذر من المضغة
فإن كان كونه من أبيه أقرب من كونه من التراب فنقول افتخر بالقريب دون البعيد
فالنطفة والمضغة أقرب إليه من الأب فليحقر نفسه بذلك ثم إن كان ذلك يوجب رفعة
لقربه فالأب الأعلى من التراب فمن أين رفعته وإذا لم يكن له رفعة فمن أين جاءت
الرفعة لولده فإذن أصله من التراب وفصله من النطفة فلا أصل له ولا فصل
وهذه غاية خسة النسب فالأصل يوطأ بالأقدام والفصل تغسل منه الأبدان
فهذا هو النسب الحقيقي للإنسان ومن عرفه لم يتكبر بالنسب ويكون مثله بعد هذه
المعرفة وانكشاف الغطاء له عن حقيقة أصله كرجل لم يزل عند نفسه من بني هاشم وقد
أخبره بذلك والداه فلم يزل فيه نخوة الشرف فبينما هو كذلك إذ أخبره عدول لا يشك في
قولهم أنه ابن هندي حجام يتعاطى القاذورات وكشفوا له وجه التلبيس عليه فلم يبق له
شك في صدقهم أفترى أن ذلك يبقي شيئا من كبره لا بل يصير عند نفسه أحقر الناس
وأذلهم فهو من استشعار الخزي لخسته في شغل عن أن يتكبر على غيره
فهذا حال البصير إذا تفكر في أصله وعلم أنه من النطفة والمضغة والتراب إذ لو كان
أبوه ممن يتعاطى نقل التراب أو يتعاطى الدم بالحجامة أو غيرها لكان يعلم به خسة
نفسه لمماسة أعضاء أبيه للتراب والدم فكيف إذا عرف أنه في نفسه من التراب والدم
والأشياء القذرة التي يتنزه عنها هو في نفسه
السبب الثاني التكبر بالجمال ودواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء ولا ينظر إلى
باطنه نظر البهائم
ومهما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدر عليه تعززه بالجمال فإنه وكل به
الأقذار في جميع أجزائه الرجيع في أمعائه والبول في مثانته والمخاط في أنفه
والبزاق في فيه والوسخ في أذنيه والدم في عروقه والصديد تحت بشرته والصنان تحت
إبطه يغسل الغائط بيده كل يوم دفعة أو دفعتين ويتردد كل يوم إلى الخلاء مرة أو
مرتين ليخرج من باطنه ما لو رآه بعينه لاستقذره فضلا عن أن يمسه أو يشمه كل ذلك
ليعرف قذارته وذله هذا في حال توسطه
وفي أول أمره خلق من الأقذار الشنيعة الصور من النطفة ودم الحيض وأخرج من مجرى
الأقذار
إذ خرج من الصلب ثم من الذكر مجرى البول ثم من الرحم مفيض دم الحيض ثم خرج من مجرى
القذر قال أنس رحمه الله كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يخطبنا فيقذر إلينا
أنفسنا ويقول خرج أحدكم من مجرى البول
مرتين
وكذلك قال طاوس لعمر بن عبد العزيز
ما هذه مشية من في بطنه خراء إذ رآه يتبختر وكان ذلك قبل خلافته وهذا أوله ووسطه
ولو ترك نفسه في حياته يوما لم يتعهدها بالتنظيف والغسل لثارت منه الأنتان
والأقذار وصار أنتن وأقذر من الدواب المهملة التي لا تتعهد نفسها قط
فإذا نظر أنه خلق من أقذار وأسكن في أقذار وسيموت فيصير جيفة أقذر من سائر الأقذار
لم يفتخر بجماله الذي هو كخضراء الدمن وكلون الأزهار في البوادي فبينما هو كذلك إذ
صار هشيما تذروه الرياح كيف ولو كان جماله باقيا وعن هذه القبائح خاليا لكان يجب
أن لا يتكبر به على القبيح إذ لم يكن قبح القبيح إليه فينفيه ولا كان جمال الجميل
إليه حتى يحمد عليه كيف ولا بقاء له بل هو في كل حين يتصور أن يزول بمرض أو جدري
أو قرحة أو سبب من الأسباب فكم من وجوه جميلة قد سمجت بهذه الأسباب فمعرفة هذه
الأمور تنزع من القلب داء الكبر بالجمال لمن أكثر تأملها
السبب الثالث التكبر بالقوة والأيدي ويمنعه من ذلك أن يعلم ما سلط عليه من العلل
والأمراض وأنه لو توجع عرق واحد في يده لصار أعجز من كل عاجز وأذل من كل ذليل وأنه
لو سلبه الذباب شيئا لم يستنقذه منه وأن بقة لو دخلت في أنفه أو نملة دخلت في أذنه
لقتلته وأن شوكة لو دخلت في رجله لأعجزته وأن حمى يوم تحلل من قوته مالا ينجبر في
مدة
فمن لا يطيق شوكة ولا يقاوم بقة ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه ذبابة فلا ينبغي أن
يفتخر بقوته ثم إن قوى الإنسان فلا يكون أقوى من حمار أو بقرة أو فيل أو جمل وأي
افتخار في صفة يسبقك فيها البهائم
السبب الرابع والخامس الغنى وكثرة المال وفي معناه كثرة الأتباع والأنصار والتكبر
بولاية السلاطين والتمكن من جهتهم وكل ذلك تكبر بمعنى خارج عن ذات الإنسان كالجمال
والقوة والعلم
وهذا أقبح أنواع الكبر فإن المتكبر بماله كأنه متكبر بفرسه وداره ولو مات فرسه
وانهدمت داره لعاد ذليلا والمتكبر بتمكين السلطان وولايته لا بصفة في نفسه بنى
أمره على قلب هو أشد غليانا من القدر فإن تغير عليه كان أذل الخلق وكل متكبر بأمر
خارج عن ذاته فهو ظاهر الجهل كيف والمتكبر بالغنى لو تأمل لرأى في اليهود من يزيد
عليه في الغنى والثروة والتجمل فأف لشرف يسبقك به اليهودي وأف لشرف يأخذه السارق
في لحظة واحدة فيعود صاحبه ذليلا مفلسا فهذه أسباب ليست في ذاته وما هو في ذاته
ليس إليه دوام وجوده وهو في الآخرة وبال ونكال فالتفاخر به غاية الجهل وكل ما ليس
إليك فليس لك وشيء من هذه الأمور ليس إليك بل إلى واهبه إن أبقاه لك وإن استرجعه
زال عنك وما أنت إلا عبد مملوك لا تقدر على شيء
ومن عرف ذلك لا بد وأن يزول كبره
ومثاله أن يفتخر الغافل بقوته وجماله وماله وحريته واستقلاله وسعة منازله وكثرة
خيوله وغلمانه إذ شهد عليه شاهدان عدلان عند حاكم منصف بأنه رقيق لفلان وأن أبويه
كانا مملوكين له فعلم ذلك وحكم به الحاكم فجاء مالكه فأخذه وأخذ جميع ما في يده
وهو مع ذلك يخشى أن يعاقبه وينكل به لتفريطه في أمواله وتقصيره في طلب مالكه ليعرف
أن له مالكا ثم نظر العبد فرأى نفسه محبوسا في منزل قد أحدقت به الحيات والعقارب
والهوام وهو في كل حال على وجل من كل واحدة منها وقد بقي لا يملك نفسه ولا ماله
ولا يعرف طريقا في الخلاص ألبتة أفترى من هذا حاله هل يفخر بقدرته وثروته وقوته
وكماله أم يذل نفسه ويخضع وهذا حال كل عاقل بصير فإنه
يرى
نفسه كذلك فلا يملك رقبته وبدنه وأعضاءه وماله وهو مع ذلك بين آفات وشهوات وأمراض
وأسقام هي كالعقارب والحيات يخاف منها الهلاك
فمن هذا حاله لا يتكبر بقوته وقدرته إذ يعلم أنه لا قدرة له ولا قوة
فهذا طريق علاج التكبر بالأسباب الخارجة وهو أهون من علاج التكبر بالعلم والعمل
فإنهما كمالان في النفس جديران بأن يفرح بهما ولكن التكبر بهما أيضا نوع من الجهل
خفي كما سنذكره
السبب السادس الكبر بالعلم وهو أعظم الآفات وأغلب الأدواء وأبعدها عن قبول العلاج
إلا بشدة شديدة وجهد جهيد وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله عظيم عند الناس وهو
أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما بل لا قدر لهما أصلا إلا إذا كان معهما علم
وعمل
ولذلك قال كعب الأحبار إن للعلم طغيانا كطغيان المال
وكذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه العالم إذا زل زل بزلته عالم فيعجز العالم عن أن
لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم
ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا بمعرفة أمرين
أحدهما أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل
عشره من العالم فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش إذ لم يقض حق
نعمة الله عليه في العلم ولذلك قال صلى الله عليه و سلم يؤتى بالعالم يوم القيامة
فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحا فيطيف به أهل
النار فيقولون مالك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه // حديث
يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه الحديث متفق عليه من حديث
أسامة بن زيد بلفظ يؤتى بالرجل وتقدم في العلم
وقد مثل الله سبحانه وتعالى من يعلم ولا يعمل بالحمار والكلب فقال عز و جل مثل
الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا أراد به علماء اليهود
وقال في بلعم بن باعوراء واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها حتى بلغ
فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث قال ابن عباس رضي الله عنهما
أوتي بلعم كتابا فأخلد إلى شهوات الأرض أي سكن حبه إليها فمثله بالكلب إن تحمل
عليه يلهث أو تتركه يلهث أي سواء آتيته الحكمة أو لم أوته لا يدع شهوته ويكفي
العالم هذا الخطر فأي عالم لم يتبع شهوته وأي عالم لم يأمر بالخير الذي لا يأتيه
فمهما خطر للعالم عظم قدره بالإضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو
بصدده فإن خطره أعظم من خطر غيره كما أن قدره أعظم من قدر غيره فهذا بذاك
وهو كالملك المخاطر بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون
قد كان فقيرا فكم من عالم يشتهي في الآخرة سلامة الجهال والعياذ بالله منه
فهذا الخطر يمنع من التكبر فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه فكيف يتكبر
من هذا حاله فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة رضوان الله عليهم
وقد كان بعضهم يقول يا ليتني لم تلدني أمي ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول يا
ليتني كنت هذه التبنة ويقول الآخر ليتني كنت طيرا أوكل ويقول الآخر ليتني لم أك
شيئا مذكورا كل ذلك خوفا من خطر العاقبة فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالا من الطير
ومن التراب
ومهما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره ورأى نفسه كأنه شر الخلق
ومثاله مثال عبد أمره سيده بأمور فشرع فيها فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها وشك
في بعضها أنه هل أداها على ما يرتضيه سيده أم لا فأخبره مخبر أن سيده أرسل إليه
رسولا يخرجه من كل ما هو فيه عريانا ذليلا ويلقيه على بابه في الحر والشمس زمانا
طويلا حتى إذا ضاق عليه الأمر وبلغ به المجهود أمر برفع حسابه
وفتش
عن جميع أعماله قليلها وكثيرها ثم أمر به إلى سجن ضيق وعذاب دائم لا يروح عنه ساعة
وقد علم أن سيده قد فعل بطوائف من عبيده مثل ذلك وعفا عن بعضهم وهو لا يدري من أي
الفريقين يكون فإذا تفكر في ذلك انكسرت نفسه وذل وبطل عزه وكبره وظهر حزنه وخوفه
ولم يتكبر على أحد من الخلق بل تواضع رجاء أن يكون هو من شفعائه عند نزول العذاب
فكذلك العالم إذا تفكر فيما ضيعه من أوامر ربه بجنايات على جوارحه وبذنوب في باطنه
من الرياء والحقد والحسد والعجب والنفاق وغيره وعلم بما هو بصدده من الخطر العظيم
فارقه كبره لا محالة
الأمر الثاني أن العالم يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز و جل وحده وأنه إذا
تكبر صار ممقوتا عند الله بغيضا وقد أحب الله منه أن يتواضع وقال له إن لك عندي
قدرا ما لم تر لنفسك قدرا فإن رأيت لنفسك قدرا فلا قدر لك عندي فلا بد وأن يكلف
نفسه ما يحبه مولاه منه
وهذا يزيل التكبر عن قلبه وإن كان يستيقن أنه لا ذنب له مثلا أو تصور ذلك
وبهذا زال التكبر عن الأنبياء عليهم السلام إذ علموا أن من نازع الله تعالى في رداء
الكبرياء قصمه وقد أمرهم الله بأن يصغروا أنفسهم حتى يعظم عند الله محلهم فهذا
أيضا مما يبعثه على التواضع لا محالة
فإن قلت فكيف يتواضع للفاسق المتظاهر بالفسق وللمبتدع وكيف يرى نفسه دونهم وهو
عالم عابد وكيف يجهل فضل العلم والعبادة عند الله تعالى وكيف يغنيه أن يخطر بباله
خطر العلم وهو يعلم أن خطر الفاسق والمبتدع أكثر فاعلم أن ذلك إنما يمكن بالتفكر
في خطر الخاتمة بل لو نظر إلى كافر لم يمكنه أن يتكبر عليه إذ يتصور أن يسلم
الكافر فيختم له بالإيمان ويضل هذا العالم فيختم له بالكفر والكبير من هو كبير عند
الله في الآخرة والكلب والخنزير أعلى رتبة ممن هو عند الله من أهل النار وهو لا
يدري ذلك فكم من مسلم نظر إلى عمر رضي الله عنه قبل إسلامه فاستحقره وازدراه لكفره
وقد رزقه الله الإسلام وفاق جميع المسلمين إلا أبا بكر وحده فالعواقب مطوية عن
العباد ولا ينظر العاقل إلا إلى العاقبة وجميع الفضائل في الدنيا تراد للعاقبة
فإذن من حق العبد أن لا يتكبر على أحد
بل إن نظر إلى جاهل قال هذا عصى الله بجهل وأنا عصيته بعلم فهو أعذر مني
وإن نظر إلى عالم قال هذا قد علم ما لم أعلم فكيف أكون مثله وإن نظر إلى كبير هو
أكبر منه سنا قال هذا قد أطاع الله قبلي فكيف أكون مثله وإن نظر إلى صغير قال إني
عصيت الله قبله فكيف أكون مثله وإن نظر إلى مبتدع أو كافر قال ما يدريني لعله يختم
له بالإسلام ويختم لي بما هو عليه الآن فليس دوام الهداية إلي كما لم يكن ابتداؤها
إلي فبملاحظة الخاتمة يقدر على أن ينفي الكبر عن نفسه وكل ذلك بأن يعلم أن الكمال
في سعادة الآخرة والقرب من الله لا فيما يظهر في الدنيا مما لا بقاء له ولعمري هذا
الخطر مشترك بين المتكبر والمتكبر عليه ولكن حق على كل واحد أن يكون مصروف الهمة
إلى نفسه مشغول القلب بخوفه لعاقبته لا أن يشتغل بخوف غيره فإن الشفيق بسوء الظن
مولع وشفقة كل إنسان على نفسه
فإذا حبس جماعة في جناية ووعدوا بأن تضرب رقابهم لم يتفرغوا لتكبر بعضهم على بعض
وإن عمهم الخطر إذ شغل كل واحد نفسه عن الالتفات إلى هم غيره حتى كأن كل واحد هو
وحده في مصيبته وخطره
فإن قلت فكيف أبغض المبتدع في الله وأبغض الفاسق وقد أمرت ببغضهما ثم مع ذلك
أتواضع لهما والجمع بينهما متناقض فاعلم أن هذا أمر مشتبه يلتبس على أكثر الخلق إذ
يمتزج غضبك لله في إنكار البدعة والفسق
بكبر
النفس والإدلال بالعلم والورع فكم من عابد جاهل وعالم مغرور إذا رأى فاسقا جلس
بجنبه أزعجه من عنده وتنزه عند بكبر باطن في نفسه وهو ظان أنه قد غضب لله كما وقع
لعابد بني إسرائيل مع خليعهم وذلك لأن الكبر على المطيع ظاهر كونه شرا والحذر منه
ممكن والكبر على الفاسق والمبتدع يشبه الغضب لله وهو خير فإن الغضبان أيضا يتكبر
على من غضب عليه والمتكبر يغضب وأحدهما يثمر الآخر ويوجبه وهما ممتزجان ملتبسان لا
يميز بينهما إلا الموفقون
والذي يخلصك من هذا أن يكون الحاضر على قلبك عند مشاهدة المبتدع أو الفاسق أو عند
أمرهما بالمعروف ونهيهما عن المنكر ثلاثة أمور
أحدهما التفاتك إلى ما سبق من ذنوبك وخطاياك ليصغر عند ذلك قدرك في عينك
والثاني أن تكون ملاحظتك لما أنت متميز به من العلم واعتقاد الحق والعمل الصالح من
حيث إنها نعمة من الله تعالى عليك فله المنة فيه لا لك فترى ذلك منه حتى لا تعجب
بنفسك وإذا لم تعجب لم تتكبر
والثالث ملاحظة إبهام عاقبتك وعاقبتك أنه ربما يختم لك بالسوء ويختم له بالحسنى
حتى يشغلك الخوف عن التكبر عليه
فإن قلت فكيف أغضب مع هذه الأحوال فأقول تغضب لمولاك وسيدك إذ أمرك أن تغضب له لا
لنفسك وأنت في غضبك لا ترى نفسك ناجيا وصاحبك هالكا بل يكون خوفك على نفسك بما علم
الله من خفايا ذنوبك أكثر من خوفك عليه مع الجهل بالخاتمة وأعرفك ذلك بمثال لتعلم
انه ليس من ضرورة الغضب لله أن تتكبر على المغضوب عليه وترى قدرك فوق قدره فأقول
إذا كان للملك غلام وولد هو قرة عينه وقد وكل الغلام بالولد ليراقبه وأمره أن
يضربه مهما أساء أدبه واشتغل بما لا يليق به ويغضب عليه
فإن كان الغلام محبا مطيعا لمولاه فلا يجد بدا أن يغضب مهما رأى ولده قد أساء
الأدب وإنما يغضب عليه لمولاه ولأنه أمره به ولأنه يريد التقرب بامتثال أمره إليه
ولأنه جرى من ولده ما يكره مولاه فيضرب ولده ويغضب عليه من غير تكبر عليه بل هو
متواضع له يرى قدره عند مولاه فوق قدر نفسه لأن الولد أعز لا محالة من الغلام
فإذن ليس من ضرورة الغضب التكبر وعدم التواضع فكذلك يمكنك أن تنظر إلى المبتدع
والفاسق وتظن أنه ربما كان قدرهما في الآخرة عند الله أعظم لما سبق لهما من الحسنى
في الأزل ولما سبق لك من سوء القضاء في الأزل وأنت غافل عنه ومع ذلك فتغضب بحكم
الأمر محبة لمولاك إذ جرى ما يكرهه مع التواضع لمن يجوز أن يكون عنده أقرب منك في
الآخرة
فهكذا يكون بعض العلماء الأكياس فينضم إليه الخوف والتواضع
وأما المغرور فإنه يتكبر ويرجو لنفسه أكثر مما يرجوه لغيره مع جهله بالعاقبة وذلك
غاية الغرور
فهذا سبيل التواضع لمن عصى الله أو اعتقد البدعة مع الغضب عليه ومجانبته بحكم
الأمر
السبب السابع التكبر بالورع والعبادة وذلك أيضا فتنة عظيمة على العباد وسبيله أن
يلزم قلبه التواضع لسائر العباد وهو أن يعلم أن من يتقدم عليه بالعلم لا ينبغي أن
يتكبر عليه كيفما كان لما عرفه من فضيلة العلم وقد قال تعالى هل يستوي الذين
يعلمون والذين لا يعلمون وقال صلى الله عليه و سلم فضل العالم على العابد كفضلي
على أدنى رجل من أصحابي // حديث فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من
أصحابي أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وتقدم في العلم
إلى غير ذلك مما ورد في فضل العلم
فإن
قال العابد ذلك لعالم عامل بعلمه وهذا عالم فاجر فيقال له أما عرفت أن الحسنات
يذهبن السيئات وكما أن العلم يمكن أن يكون حجة على العالم فكذلك يمكن أن يكون
وسيلة له وكفارة لذنوبه وكل واحد منهما ممكن وقد وردت الأخبار بما يشهد لذلك وإذا
كان هذا الأمر غائبا عنه لم يجز له أن يحتقر عالما بل يجب عليه التواضع له
فإن قلت فإن صح هذا فينبغي أن يكون للعالم أن يرى نفسه فوق العابد لقوله صلى الله
عليه و سلم فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي فاعلم أن ذلك كان
ممكنا لو علم العالم عاقبة أمره وخاتمة الأمر مشكوك فيها فيحتمل أن يموت بحيث يكون
حاله عند الله أشد من حال الجاهل الفاسق لذنب واحد كان يحسبه هينا وهو عند الله
عظيم وقد مقته به وإذا كان هذا ممكنا كان على نفسه خائفا فإذا كان كل واحد من
العابد والعالم خائفا على نفسه وقد كلف أمر نفسه لا أمر غيره فينبغي أن يكون
الغالب عليه في حق نفسه الخوف وفي حق غيره الرجاء وذلك يمنعه من التكبر بكل حال
فهذا العابد مع العالم فأما مع غير العالم فهم منقسمون في حقه إلى مستورين وإلى
مكشوفين فينبغي أن لا يتكبر على المستور فلعله أقل عنه ذنوبا وأكثر منه عبادة وأشد
منه حبا لله
وأما المكشوف حاله إن لم يظهر لك من الذنوب إلا ما تزيد عليه ذنوبك في طول عمرك
فلا ينبغي أن تتكبر عليه ولا يمكن أن تقول هو أكثر مني ذنبا لأن عدد ذنوبك في طول
عمرك وذنوب غيرك في طول العمر لا تقدر على إحصائها حتى تعلم الكثرة نعم يمكن أن
تعلم أن ذنوبه أشد كما لو رأيت منه القتل والشرب والرياء ومع ذلك فلا ينبغي أن
تتكبر عليه إذ ذنوب القلوب من الكبر والحسد والرياء والغل واعتقاد الباطل والوسوسة
في صفات الله تعالى وتخيل الخطأ في ذلك كل ذلك شديد عند الله فربما جرى عليك في
باطنك من خفايا الذنوب ما صرت به عند الله ممقوتا وقد جرى للفاسق الظاهر الفسق من
طاعات القلوب من حب الله وإخلاص وخوف وتعظيم ما أنت خال عنه وقد كفر الله بذلك عنه
سيئاته فينكشف الغطاء يوم القيامة فتراه فوق نفسك بدرجات فهذا ممكن والإمكان
البعيد فيما عليك ينبغي أن يكون قريبا عندك إن كنت مشفقا على نفسك فلا تتفكر فيما
هو ممكن لغيرك بل فيما هو مخوف في حقك فإنه لا تزر وازرة وزر أخرى وعذاب غيرك لا
يخفف شيئا من عذابك فإذا تفكرت في هذا الخطر كان عندك شغل شاغل عن التكبر وعن أن
ترى نفسك فوق غيرك
وقد قال وهب بن منبه ما تم عقل عبد حتى يكون فيه عشر خصال فعد تسعة حتى بلغ العاشر
فقال العاشرة وما العاشرة بها شاد مجده وبها علا ذكره أن يرى الناس كلهم خيرا منه
وإنما الناس عنده فرقتان
فرقة هي أفضل منه وأرفع وفرقة هي شر منه وأدنى
فهو يتواضع للفرقتين جميعا بقلبه إن رأى من هو خير منه سره ذلك وتمنى أن يلحق به
وإن رأى من هو شر منه قال لعل هذا ينجو وأهلك أنا فلا تراه إلا خائفا من العاقبة
ويقوم لعل بر هذا باطن فذلك خير له ولا أدري لعل فيه خلقا كريما بينه وبين الله فيC ويتوب عليه ويختم
له بأحسن الأعمال ويرى ظاهر فذلك شر لي
فلا يأمن فيما أظهره من الطاعة أن يكون دخلها الآفات فأحبطتها ثم قال فحينئذ كمل
عقله وساد أهل زمانه
فهذا كلامه
وبالجملة فمن جوز أن يكون عند الله شقيا وقد سبق القضاء في الأزل بشقوته فماله
سبيل إلى أن يتكبر بحال من الأحوال
نعم إذا غلب عليه الخوف رأى كل أحد خيرا من نفسه وذلك هو الفضيلة كما روى أن عابدا
آوى إلى جبل فقيل له في النوم ائت فلانا الإسكاف فسله أن يدعو لك
فأتاه فسأله عن عمله فأخبره أنه يصوم النهار ويكتسب
فيتصدق
ببعضه ويطعم عياله ببعضه فرجع وهو يقول إن هذا لحسن ولكن ليس هذا كالتفرغ لطاعة
الله فأتى في النوم ثانيا فقيل له ائت فلانا الإسكاف فقل له ما هذا الصفار الذي
بوجهك فأتاه فسأله فقال له ما رأيت أحدا من الناس إلا وقع لي أنه سينجو وأهلك أنا
فقال العابد بهذه
والذي يدل على فضيلة هذه الخصلة قوله تعالى يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى
ربهم راجعون أي أنهم يؤتون الطاعات وهم على وجل عظيم من قبولها وقال تعالى إن
الذين هم من خشية ربهم مشفقون وقال تعالى إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين وقد وصف
الله تعالى الملائكة عليهم السلام مع تقدسهم عن الذنوب ومواظبتهم على العبادات على
الدءوب بالإشفاق فقال تعالى مخبرا عنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم من
خشيته مشفقون فمتى زال الإشفاق والحذر مما سبق به القضاء في الأزل وينكشف عند
خاتمة الأجل غلب الأمن من مكر الله وذلك يوجب الكبر وهو سبب الهلاك
فالكبر دليل الأمن والأمن مهلك
والتواضع دليل الخوف وهو مسعد فإذن ما يفسده العابد بإضمار الكبر واحتقار الخلق
والنظر إليهم بعين الاستصغار أكثر مما يصلحه بظاهر الأعمال
فهذه معارف بها يزال داء الكبر عن القلب لا غير إلا أن النفس بعد هذه المعرفة قد
تضمر التواضع وتدعي البراءة من الكبر وهي كاذبة فإذا وقعت الواقعة عادت إلى طبعها
ونسيت وعدها فعلى هذا لا ينبغي أن يكتفي في المداواة بمجرد المعرفة بل ينبغي أن
تكمل بالعمل وتجرب بأفعال المتواضعين في مواقع هيجان الكبر في النفس
وبيانه أن يمتحن النفس بخمس امتحانان هي أدلة على استخراج ما في الباطن وإن كانت
الامتحانات كثيرة
الامتحان الأول أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه فإن ظهر شيء من الحق على لسان
صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والاعتراف به والشكر له على تنبيهه وتعريفه
وإخراجه الحق فذلك يدل على أن فيه كبرا دفينا فليتق الله فيه ويشتغل بعلاجه
أما من حيث العلم فبأن يذكر نفسه خسة نفسه وخطر عاقبته وأن الكبر لا يليق إلا بالله
تعالى
وأما العمل فبأن يكلف نفسه ما ثقل عليه من الاعتراف بالحق وأن يطلق اللسا6ن بالحمد
والثناء ويقر على نفسه بالعجز ويشكره على الاستفادة ويقول ما أحسن ما فطنت له وقد
كنت غافلا عنه فجزاك الله خيرا كما نبهتني له فالحكمة ضالة المؤمن فإذا وجدها
ينبغي أن يشكر من دله عليها
فإذا واظب على ذلك مرات متوالية صار ذلك له طبعا وسقط ثقل الحق عن قلبه وطاب له
قبوله ومهما ثقل عليه الثناء على أقرانه بما فيهم ففيه كبر فإن كان ذلك لا يثقل
عليه في الخلوة ويثقل عليه في الملأ فليس فيه كبر وإنما فيه رياء فليعالج الرياء
بما ذكرناه من قطع الطمع عن الناس ويذكر القلب بأن منفعته في كماله في ذاته وعند
الله لا عند الخلق إلى غير ذلك من أدوية الرياء
وإن ثقل عليه في الخلوة والملأ جميعا ففيه الكبر والرياء جميعا ولا ينفعه الخلاص
من أحدهما ما لم يتخلص من الثاني
فليعالج كلا الداءين فإنهما جميعا مهلكان
الامتحان الثاني أن يجتمع مع الأقران والأمثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ويمشي
خلفهم ويجلس في الصدور تحتهم فإن ثقل عليه ذلك فهو متكبر فليواظب عليه تكلفا حتى
يسقط عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر وههنا للشيطان مكيدة وهو أن يجلس في صف النعال
أو يجعل بينه وبين الأقران بعض الأرذال فيظن أن ذلك تواضع وهو عين الكبر فإن ذلك
يخف على صدور المتكبرين إذ يوهمون أنهم تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل فيكون قد
تكبر وتكبر بإظهار التواضع أيضا بل ينبغي أن يقدم أقرانه ويجلس بينهم بجنبهم ولا
ينحط عنهم إلى صف
النعال
فذلك هو الذي يخرج خبث الكبر من الباطن
الامتحان الثالث أن يجيب دعوة الفقير ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب فإن
ثقل ذلك عليه فهو كبر فإن هذه الأفعال من مكارم الأخلاق والثواب عليها جزيل فنفور
النفس عنها ليس إلا لخبث في الباطن فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع
ما ذكرناه من المعارف التي تزيل داء الكبر
الامتحان الرابع أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت فإن أبت
نفسه ذلك فهو كبر أو رياء فإن كان يثقل ذلك عليه مع خلو الطريق فهو كبر وإن كان لا
يثقل عليه إلا مع مشاهدة الناس فهو رياء وكل ذلك من أمراض القلب وعلله المهلكة له
إن لم تتدارك وقد أهمل الناس طب القلوب واشتغلوا بطب الأجساد مع أن الأجساد قد كتب
عليها الموت لا محالة والقلوب لا تدرك السعادة إلا بسلامتها إذ قال تعالى إلا من
أتى الله بقلب سليم ويروى عن عبد الله بن سلام أنه حمل حزمة حطب فقيل له يا أبا
يوسف قد كان في غلمانك وبنتك ما يكفيك قال أجل ولكن أردت أن أجرب نفسي هل تنكر ذلك
فلم يقنع منها بما أعطته من العزم على ترك الأنفة حتى جربها أهي صادقة أم كاذبة
وفي الخبر من حمل الفاكهة أو الشيء فقد برئ من الكبر // حديث من حمل الشيء والفاكهة
فقد برئ من الكبر أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة وضعفه بلفظ من حمل
بضاعته
الامتحان الخامس أن يلبس ثيابا بذلة فإن نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء وفي
الخلوة كبر
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه له مسح يلبسه بالليل وقد قال صلى الله عليه و
سلم من اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برئ من الكبر // حديث من اعتقل البعير ولبس
الصوف فقد برئ من الكبر أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة بزيادة فيه وفي
إسناده القاسم اليعمري ضعيف جدا
وقال صلى الله عليه و سلم إنما أنا عبد آكل بالأرض وألبس الصوف وأعقل البعير وألعق
أصابعي وأجيب دعوة المملوك فمن رغب عن سنتي فليس مني // حديث إنما أن عبد آكل
بالأرض وألبس الصوف الحديث تقدم بعضه ولم أجد بقيته
وروي أن أبا موسى الأشعري قيل له إن أقواما يتخلفون عن الجمعة بسبب ثيابهم فلبس
عباءة فصلى فيها بالناس
وهذه مواضع يجتمع فيها الرياء والكبر فما يختص بالملأ فهو الرياء وما يكون في
الخلوة فهو الكبر فاعرف فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ومن لا يدرك المرض لا يداويه
بيان غاية الرياضة في خلق التواضع
اعلم أن هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان وواسطة فطرفه الذي يميل إلى الزيادة
يسمى تكبرا وطرفه الذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسسا ومذلة والوسط يسمى تواضعا
والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس فإن كلا طرفي الأمور ذميم وأحب
الأمور إلى الله تعالى أوساطها
فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر ومن يتأخر عنهم فهو متواضع أي وضع شيئا من قدره
الذي يستحقه
والعالم إذا دخل عليه إسكاف فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ثم تقدم وسوى له نعله
وعدا إلى باب الدار خلفه فقد تخاسس وتذلل وهذا أيضا غير محمود بل المحمود عند الله
العدل وهو أن يعطي كل ذي حق حقه فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأقرانه ومن يقرب من
درجته فأما تواضعه للسوقي فبالقيام والبشر في الكلام والرفق في السؤال وإجابة
دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك وأن لا يرى نفسه خيرا منه بل يكون على نفسه أخوف
منه على غيره فلا يحتقره ولا يستصغره وهو لا يعرف خاتمة
أمره
فإذن سبيله في اكتساب التواضع أن يتواضع للأقران ولمن دونهم حتى يخف عليه التواضع
المحمود في محاسن العادات ليزول به الكبر عنه فإن خف عليه ذلك فقد حصل له خلق
التواضع وإن كان يثقل عليه وهو يفعل ذلك فهو متكلف لا متواضع بل الخلق ما يصدر عنه
الفعل بسهولة من غير ثقل ومن غير روية فإن خف ذلك وصار بحيث يثقل عليه رعاية قدره
حتى أحب التملق والتخاسس فقد خرج إلى طرف النقصان فليرفع نفسه إذ ليس للمؤمن أن
تذل نفسه إلى أن يعود إلى الوسط الذي هو الصراط المستقيم وذلك غامض في هذا الخلق
وفي سائر الأخلاق
والميل عن الوسط إلى طرف النقصان وهو التملق أهون من الميل إلى طرف الزيادة بالتكبر
كما أن الميل إلى طرف التبذير في المال أحمد عند الناس من الميل إلى طرف البخل
فنهاية التبذير ونهاية البخل مذمومان وأحدهما أفحش وكذلك نهاية التكبر ونهاية
التنقص والتذلل مذمومان وأحدهما أقبح من الآخر
والمحمود المطلق هو العدل ووضع الأمور مواضعها كما يجب وعلى ما يجب كما يعرف ذلك
بالشرع والعادة ولنقتصر على هذا القدر من بيان أخلاق الكبر والتواضع
الشطر الثاني من الكتاب في العجب وفيه
بيان ذم العجب وآفاته
وبيان حقيقة العجب والإدلال وحدهما وبيان علاج العجب على الجملة وبيان أقسام ما به
العجب وتفصيل علاجه بيان ذم العجب وآفاته
اعلم أن العجب مذموم في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم
قال الله تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ذكر ذلك في معرض
الإنكار وقال عز و جل وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فاتاهم الله من حيث لم
يحتسبوا فرد على الكفار في إعجابهم بحصونهم وشوكتهم وقال تعالى وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنعا وهذا أيضا يرجع إلى العجب بالعمل
وقد يعجب الإنسان بالعمل هو مخطئ فيه كما يعجب بعمل هو مصيب فيه
وقال صلى الله عليه و سلم ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه //
حديث ثلاث مهلكات الحديث تقدم غير مرة
وقال لأبي ثعلبة حيث ذكر آخر هذه الأمة فقال إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب
كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك // حديث أبي ثعلبة إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا
وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وقد
تقدم
وقال ابن مسعود الهالك في اثنتين القنوط والعجب
وإنما جمع بينهما لأن السعادة لا تنال إلا بالسعي والطلب والجد والتشمر والقانط لا
يسعى ولا يطلب والمعجب يعتقد أنه قد سعد وقد ظفر بمراده فلا يسعى
فالموجود لا يطلب والمحال لا يطلب والسعادة موجودة في اعتقاد المعجب حاصلة له
ومستحيلة في اعتقاد القانط فمن ههنا جمع بينهما
وقد قال تعالى فلا تزكوا أنفسكم قال ابن جريج معناه إذا عملت خيرا فلا تقل عملت
وقال زيد بن أسلم
لا تبروها أي لا تعتقدوا أنها بارة وهو معنى العجب
ووقى طلحة رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد بنفسه فأكب عليه حتى أصيبت كفه
فكأنه أعجبه فعله العظيم إذ فداه بروحه حتى جرح فتفرس ذلك عمر فيه فقال
مازال يعرف في طلحة فأو منذ أصيبت أصبعه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم // حديث
وقى طلحة رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه وأكب عليه حتى أصيبت كفه أخرجه
البخاري من وراية قيس بن أبي حازم قال رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله
عليه و سلم
والنأو هو العجب في اللغة إلا أنه لم ينقل فيه أنه أظهره واحتقر مسلما ولما كان
وقت الشورى قال له ابن عباس أين أنت من طلحة قال ذلك رجل فيه تحوة
فإذا كان لا يتخلص من العجب أمثالهم فكيف يتخلص من الضعفاء إن
لم
يأخذوا حذرهم وقال مطرف لأن أبيت نائما وأصبح نادما أحب إلي من أبيت قائما وأصبح
معجبا
وقال صلى الله عليه و سلم لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب
// حديث لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب أخرجه البزار
وابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث أنس وفيه سلام بن أبي الصهباء قال
البخاري منكر الحديث
وقال أحمد حسن الحديث ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي سعيد
بسند ضعيف جدا
فجعل العجب أكبر الذنوب
وكان بشر بن منصور من الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى والدار الآخرة لمواظبته على
العبادة فأطال الصلاة يوما ورجل خلفه ينظر ففطن له بشر فلما انصرف عن الصلاة قال
له لا يعجبنك ما رأيت مني فإن إبليس لعنه الله قد عبد الله تعالى مع الملائكة مدة
طويلة ثم صار إلى ما صار إليه
وقيل لعائشة رضي الله عنها متى يكون الرجل مسيئا قالت إذا ظن أنه محسن وقد قال
تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى والمن نتيجة استعظام الصدقة واستعظام العمل
هو العجب
فظهر بهذا أن العجب مذموم جدا
بيان آفة العجب
اعلم أن آفات العجب كثيرة فإن العجب يدعو إلى الكبر لأنه أحد أسبابه كما ذكرناه
فيتولد من العجب الكبر ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى هذا مع العباد وأما
مع الله تعالى فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها فبعض ذنوبه لا يذكرها ولا
يتفقدها لظنه أنه مستغن عن تفقدها فينساها وما يتذكره منها فيستصغره ولا يستعظمه
فلا يجتهد في تداركه وتلافيه بل يظن أنه يغفر له
وأما العبادات والأعمال فإنه يستعظمها ويتبجح بها ويمن على الله بفعلها وينسى نعمة
الله عليه بالتوفيق والتمكين منها ثم إذا عجب بها عمي عن آفاتها
ومن لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعا فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن
خالصة نقية عن الشوائب قلما تنفع وإنما يتفقد من يغلب عليه الإشفاق والخوف دون
العجب والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه ويظن أنه عند الله بمكان
وأن له عند الله منة وحقا بأعماله التي هي نعمة وعطية من عطاياه ويخرجه العجب إلى أن
يثني على نفسه ويحمدها ويزكيها وإن أعجب برأيه وعمله وعقله منع ذلك من الاستفادة
ومن الاستشارة والسؤال فيستبد بنفسه ورأيه ويستنكف من سؤال من هو أعلم منه وربما
يعجب بالرأي الخطأ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره ولا يفرح بخواطر غيره فيصر
عليه ولا يسمع نصح ولا وعظ واعظ بل ينظر إلى غيره بعين الاستجهال ويصر على خطئه
فإن كان رأيه في أمر دنيوي فيحقق فيه وإن كان في أمر ديني لا سيما فيما يتعلق
بأصول العقائد فيهلك به ولو اتهم نفسه ولم يثق برأيه واستضاء بنور القرآن واستعان
بعلماء الدين وواظب على مدارسة العلم وتابع سؤال أهل البصيرة لكان ذلك يوصله إلى
الحق
فهذا وأمثاله من آفات العجب فلذلك كان من المهلكات ومن أعظم آفاته أن يفتر في
السعي لظنه أنه قد فاز وأنه قد استغنى وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه
نسأل الله تعالى العظيم حسن التوفيق لطاعته
بيان حقيقة العجب والإدلال وحدهما
اعلم أن العجب إنما يكون بوصف هو كمال لا محالة وللعالم بكمال نفسه في علم وعمل
ومال وغيره حالتان
إحداهما أن يكون خائفا على زواله ومشفقا على تكدره أو سلبه من أصله فهذا ليس بمعجب
والأخرى أن لا يكون خائفا من زواله لكن يكون فرحا به من حيث إنه نعمة من الله
تعالى عليه لا من حيث إضافته إلى نفسه
وهذا
أيضا ليس بمعجب
وله حالة ثالثة هي العجب وهي أن يكون غير خائف عليه بل يكون فرحا به مطمئنا إليه
ويكون فرحه به من حيث إنه كمال ونعمة وخير ورفعة لا من حيث إنه عطية من الله تعالى
ونعمة منه فيكون فرحه من حيث إنه صفته ومنسوب إليه بأنه له لا من حيث إنه منسوب
إلى الله تعالى بأنه منه فمهما غلب على قلبه أنه نعمة من الله مهما شاء سلبها عنه
زال العجب بذلك عن نفسه
فإذن العجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم فإن
انضاف إلى ذلك أن غلب على نفسه أن له عند الله حقا وأنه منه بمكان حتى يتوقع بعمله
كرامة في الدنيا واستبعد أن يجري عليه مكروه استبعادا يزيد على استبعاده ما يجري
على الفساق سمي هذا إدلالا بالعمل فكأنه يرى لنفسه على الله دالة وكذلك قد يعطي
غيره شيئا فيستعظمه ويمن عليه فيكون معجبا فإن استخدمه أو اقترح عليه الاقتراحات
أو استبعد تخلفه عن قضاء حقوقه كان مدلا عليه
وقال قتادة في قوله تعالى ولا تمنن تستكثر أي لا تدل بعملك وفي الخبر إن صلاة
المدل لا ترفع فوق رأسه ولأن تضحك وأنت معترف بذنبك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك
// حديث إن صلاة المدل لا ترفع فوق رأسه الحديث لم أجد له أصلا
والإدلال وراء العجب فلا مدل إلا وهو معجب ورب معجب لا يدل إذ العجب يحصل
بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء عليه والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء
فإن توقع إجابة دعوته واستنكر ردها بباطنه وتعجب منه كان مدلا بعمله لأنه لا يتعجب
من رد دعاء الفاسق ويتعجب من رد دعاء نفسه لذلك
فهذا هو العجب والإدلال وهو من مقدمات الكبر وأسبابه والله تعالى أعلم
بيان علاج العجب على الجملة
اعلم أن علاج كل علة هو مقابلة سببها بضده وعلة العجب الجهل المحض فعلاجه المعرفة
المضادة لذلك الجهل فقط فلنفرض العجب بفعل داخل تحت اختيار العبد كالعبادة والصدقة
والغزو وسياسة الخلق وإصلاحهم فإن العجب بهذا أغلب من العجب بالجمال والقوة والنسب
وما لا يدخل تحت اختياره ولا يراه من نفسه
فنقول الورع والتقوى والعبادة والعمل الذي به يعجب إنما يعجب به من حيث إنه فيه
فهو محله ومجراه أو من حيث إنه منه وبسببه وبقدرته وقوته فإن كان يعجب به من حيث
إنه فيه وهو محله ومجراه يجري فيه وعليه من جهة غيره فهذا جهل لأن المحل مسخر
ومجرى لا مدخل له في الإيجاد والتحصيل فكيف يعجب بما ليس إليه وإن كان يعجب به من
حيث إنه هو منه وإليه وباختياره حصل وبقدرته تم فينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته
وأعضائه وسائر الأسباب التي بها يتم عمله أنها من أين كانت له فإن كان جميع ذلك
نعمة من الله عليه من غير حق سبق له ومن غير وسيلة يدلي بها فينبغي أن يكون إعحابه
بجود الله وكرمه وفضله إذ أفاض عليه ما لا يستحق وآثره به على غيره من غير سابقة
ووسيلة فمهما برز الملك لغلمانه ونظر إليهم وخلع من جملتهم على واحد منهم لا لصفة
فيه ولا لوسيلة ولا لجماله ولا لخدمة فينبغي أن يتعجب المنعم عليه من فضل الملك
وحكمه وإيثاره من غير استحقاق وإعجابه بنفسه من أين وما سببه ولا ينبغي أن يعجب بنفسه
نعم يجوز أن يعجب العبد فيقول الملك حكم عدل لا يظلم ولا يقدم ولا يؤخر إلا لسبب
فلولا أنه تفطن في صفة من الصفات المحمودة الباطنة لما اقتضى الإيثار بالخلعة ولما
آثرني بها فيقال وتلك الصفة أيضا هي من خلعة الملك وعطيته التي خصصك بها من غيرك
من غير وسيلة أو هي عطية غيره فإن كانت من عطية الملك أيضا لم يكن لك أن تعجب بها
بل كانوا كما لو أعطاك فرسا
فلم
تعجب به
فأعطاك علاما فصرت تعجب به وتقول إنما أعطاني غلاما لأني صاحب فرس فأما غيري فلا
فرس له فيقال وهو الذي أعطاك الفرس فلا فرق بين أن يعطيك الفرس والغلام معا أو
يعطيك أحدهما بعد الآخر فإذا كان الكل منه فينبغي أن يعجبك جوده وفضله لا نفسك
وأما إن كانت تلك الصفة من غيره فلا يبعد أن تعجب بتلك الصفة وهذا يتصور في حق
الملوك ولا يتصور في حق الجبار القاهر ملك الملوك المنفرد باختراع الجميع المنفرد
بإيجاد الموصوف والصفة فإنك إن أعجبت بعادتك وقلت وفقني للعبادة لحبي له فيقال ومن
خلق الحب في قلبك فتقول هو فيقال فالحب والعبادة كلاهما نعمتان من عنده ابتدأك
بهما من غير استحقاق من جهتك إذ لا وسيلة لك ولا علاقة فيكون الإعجاب بجوده إذ
أنعم بوجودك ووجود صفاتك وبوجود أعمالك وأسباب أعمالك فإذا لا معنى لعجب العابد
بعبادته وعجب العالم بعلمه وعجب الجميل بجماله وعجب الغني بغناه لأن كل ذلك من فضل
الله وإنما هو محل لفيضان فضل الله تعالى وجوده والمحل أيضا من فضله وجوده
فإن قلت لا يمكنني أن أجهل أعمالي وإني أنا عملتها فإني أنتظر عليها ثوابا ولولا
أنها عملي لما انتظرت ثوابا فإن كانت الأعمال مخلوقة لله على سبيل الاختراع فمن
أين لي الثواب وإن كانت الأعمال مني وبقدرته فكيف لا أعجب بها فاعلم أن جوابك من
وجهين
أحدهما هو صريح الحق
والآخر فيه مسامحة
أما صريح الحق فهو أنك وقدرتك وإرادتك وحركتك وجميع ذلك من خلق الله واختراعه فما
عملت إذ عملت وما صليت إذ صليت وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى فهذا هو الحق الذي
انكشف لأرباب القلوب بمشاهدة أوضح من إبصار العين بل خلقك وخلق أعضاءك وخلق فيها
القوة والقدرة والصحة وخلق لك العقل والعلم وخلق لك الإرادة ولو أردت أن تنفي شيئا
من هذا عن نفسك لم تقدر عليه ثم خلق الحركات في أعضائك مستبدا باختراعها من غير
مشاركة من جهتك معه في الاختراع إلا أنه خلقه على ترتيب فلم يخلق الحركة ما لم
يخلق في العضو قوة وفي القلب إرادة ولم يخلق إرادة ما لم يخلق علما بالمراد ولم
يخلق علما ما لم يخلق القلب الذي هو محل العلم فتدريجه في الخلق شيئا بعد شيء هو
الذي خيل لك أنك أوجدت عملك وقد غلطت
وإيضاح ذلك وكيفية الثواب على عمل هو من خلق الله سيأتي تقريره في كتاب الشكر فأنه
أليق به فارجع إليه
ونحن الآن نزيل إشكالك بالجواب الثاني الذي فيه مسامحة ما وهو أن تحسب أن العمل
حصل بقدرتك فمن أين قدرتك ولا يتصور العمل إلا بوجودك ووجود عملك وإرادتك وسائر
أسباب عملك وكل ذلك من الله تعالى لا منك فإن كان العمل بالقدرة فالقدرة مفتاحه
وهذا المفتاح بيد الله ومهما لم يعطك المفتاح فلا يمكنك العمل فالعبادات خزائن بها
يتوصل إلى السعادات ومفاتيحها القدرة والإرادة والعلم وهي بيد الله لا محالة
أرأيت لو رأيت خزائن الدنيا مجموعة في قلعة حصينة ومفتاحها بيد خازن ولو جلست على
بابها وحول حيطانها ألف سنة لم يمكنك أن تنظر إلى دينار مما فيها ولو أعطاك
المفتاح لأخذته من قريب بأن تبسط يدك إليه فتأخذه فقط فإذا أعطاك الخازن المفاتيح
وسلطك عليها ومكنك منها فمددت يدك وأخذتها كان إعجابك بإعطاء الخازن المفاتيح أو
بما إليك من مد اليد وأخذها فلا تشك في أنك ترى ذلك نعمة من الخازن لأن المؤنة في
تحريك اليد بأخذ المال قريبة وإنما الشأن كله في تسليم المفاتيح
فكذلك مهما خلقت القدرة وسلطت الإرادة الجازمة وحركت الدواعي والبواعث وصرف عنك
الموانع والصوارف حتى لم يبق صارف إلا دفع ولا باعث إلا وكل بك فالعمل هين عليك
وتحريك البواعث وصرف العوائق وتهيئة الأسباب كلها من الله ليس شيء منها إليك فمن
العجائب أن تعجب بنفسك
ولا
تعجب بمن إليه الأمر كله ولا تعجب بجوده وفضله وكرمه في إيثاره إياك على الفساق من
عباده إذ سلط دواعي الفساد على الفساق وصرفها عنك وسلط أخدان السوء ودعاة الشر
عليهم وصرفهم عنك ومكنك من أسباب الشهوات واللذات وزواها عنك وصرف عنهم بواعث
الخير ودواعيه وسلطها عليك حتى تيسر لك الخير وتيسر لهم الشر فعل ذلك كله بك من
غير وسيلة سابقة منك ولا جريمة سابقة من الفاسق العاصي بل آثرك وقدمك واصطفاك
بفضله وأبعد العاصي وأشقاه بعدله فما أعجب إعجابك بنفسك إذا عرفت ذلك فإذن لا
تنصرف قدرتك إلى المقدور إلا بتسليط الله عليك داعية لا تجد سبيلا إلى مخالفتها
فكأنه الذي اضطرك إلى الفعل إن كنت فاعلا تحقيقا فله الشكر والمنة لا لك وسيأتي في
كتاب التوحيد والتوكل من بيان تسلسل الأسباب والمسببات ما تستبين به أنه لا فاعل
إلا الله ولا خالق سواه والعجب ممن يتعجب إذا رزقه الله عقلا وأفقره فمن أفاض عليه
المال من غير علم فيقول كيف منعني قوت يومي وأنا العاقل الفاضل وأفاض على هذا نعيم
الدنيا وهو الغافل الجاهل حتى يكاد يرى هذا ظلما ولا يدري المغرور أنه لو جمع له
بين العقل والمال جميعا لكان ذلك بالظلم أشبه في ظاهر الحال إذ يقول الجاهل الفقير
يا رب لم جمعت له بين العقل والغنى وحرمتني منهما فهلا جمعتهما لي أو لا هلا
رزقتني أحدهما وإلى هذا أشار علي رضي الله عنه حيث قيل له ما بال العقلاء فقراء
فقال إن عقل الرجل محسوب عليه من رزقه
والعجب أن العاقل الفقير ربما يرى الجاهل الغني أحسن حالا من نفسه ولو قيل له هل
تؤثر جهله وغناه عوضا عن عقلك وفقرك لامتنع عنه فإذن ذلك يدل على أن نعمة الله
عليه أكبر فلم يتعجب من ذلك والمرأة الحسناء الفقيرة ترى الحلي والجواهر على
الدميمة القبيحة فتعجب وتقول كيف يحرم مثل هذا الجمال من الزينة ويخصص مثل ذلك
القبح ولا تدري المغرورة أن الجمال محسوب عليها من رزقها وأنها لو خيرت بين الجمال
وبين القبح مع الغنى لآثرت الجمال فإذن نعمة الله عليها أكبر
وقول الحكيم الفقير العاقل بقلبه يا رب لم حرمتني الدنيا وأعطيتها الجهال كقول من
أعطاه الملك فرسا فيقول أيها الملك لم لا تعطيني الغلام وأنا صاحب فرس فيقول كنت
لا تتعجب من هذا لو لم أعطك الفرس فهب أني ما أعطيتك فرسا أصارت نعمتي عليك وسيلة
لك وحجة تطلب بها نعمة أخرى فهذه أوهام لا تخلو الجهال عنها ومنشأ جميع ذلك الجهل
ويزال ذلك بالعلم المحقق بأن العبد وعمله وأوصافه كل ذلك من عند الله تعالى نعمة
ابتدأه به قبل الاستحقاق وهذا ينفي العجب والإدلال ويورث الخضوع والشكر والخوف من
زوال النعمة
ومن عرف هذا لم يتصور أن يعجب بعلمه وعمله إذ يعلم أن ذلك من الله تعالى ولذلك قال
داود عليه السلام يا رب ما تأتي ليلة إلا وإنسان من آل داود صائم وفي رواية ما تمر
ساعة من ليل أو نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك إما يصلي وإما يصوم وإما يذكرك
فأوحى الله تعالى إليه يا داود ومن أين لهم ذلك إن ذلك لم يكن إلا بي ولولا عوني
إياك ما قويت وسأكلك إلى نفسك قال ابن عباس إنما أصاب داود ما أصاب من الذنب بعجبه
بعمله إذ أضافه إلى آل داود مدلا به حتى وكل إلى نفسه فأذنب ذنبا أورثه الحزن
والندم
وقال داود يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب فقال إني ابتليتهم
فصبروا فقال يا رب وأنا إن ابتليتني صبرت فأدل بالعمل قبل وقته فقال الله تعالى
فإني لم أخبرهم بأي شيء أبتليهم ولا في أي شهر ولا في أي يوم وأنا مخبرك في سنتك
هذه وشهرك هذا أبتليك غدا بامرأة فاحذر نفسك فوقع فيما وقع فيه
وكذلك لما اتكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين على قوتهم وكثرتهم
ونسوا
فضل الله تعالى عليهم وقالوا لا نغلب اليوم من قلة // حديث قولهم يوم حنين لا نغلب
اليوم من قلة أخرجه البيهقي في دلائل النبوة من رواية الربيع بن أنس مرسلا أن رجلا
قال يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأنزل الله عز و جل ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ولابن مردويه في تفسيره من حديث
أنس لما التقوا يوم حنين أعجبتهم كثرتهم فقالوا اليوم نقاتل ففروا فيه الفرح بن
فضالة ضعفه الجمهور
وكلوا إلى أنفسهم فقال تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت
عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين
روى ابن عيينة أن أيوب عليه السلام قال إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء وما ورد على
أمر إلا آثرت هواك على هواي فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت
يا أيوب أنى لك ذلك أي من أين لك ذلك قال فأخذ رمادا ووضعه على رأسه وقال منك يا
رب منك يا رب فرجع من نسيانه إلى إضافة ذلك إلى الله تعالى
ولهذا قال الله تعالى ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وقال
النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه وهم خير الناس ما منكم من أحد ينجيه عمله قالوا
ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته // حديث ما منكم من
أحد ينجيه عمله الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة
ولقد كان أصحابه من بعده يتمنون أن يكونوا ترابا وتبنا وطيرا مع صفاء أعمالهم
وقلوبهم فكيف يكون لذي بصيرة أن يعجب بعمله أو يدل به ولا يخاف على نفسه فإذن هذا
هو العلاج القامع لمادة العجب من القلب
ومهما غلب ذلك على القلب شغله خوف سلب هذه النعمة عن الإعجاب بها بل هو ينظر إلى
الكفار والفساق وقد سلبوا نعمة الإيمان والطاعة بغير ذنب أذنبوه من قبل فيخاف من
ذلك فيقول إن من لا يبالي أن يحرم من غير جناية ويعطى من غير وسيلة لا يبالي أن
يعود ويسترجع ما وهب فكم من مؤمن قد ارتد ومطيع قد فسق وختم له بسوء وهذا لا يبقى
معه عجب بحال والله تعالى أعلم
بيان أقسام ما به العجب وتفصيل علاجه
اعلم أن العجب بالأسباب التي بها يتكبر كما ذكرناه وقد يعجب بما لا يتكبر به كعجبه
بالرأي الخطأ الذي يزين له بجهله
فما به العجب ثمانية أقسام
الأول أن يعجب ببدنه في جماله وهيئته وصحته وقوته وتناسب أشكاله وحسن صورته وحسن
صوته وبالجملة تفصيل خلقته فيلتفت إلى جمال نفسه وينسى أنه نعمة من الله تعالى وهو
بعرضة الزوال في كل حال وعلاجه ما ذكرناه في الكبر بالجمال وهو التفكر في أقذار
باطنه وفي أول أمره وفي آخره وفي الوجوه الجميلة والأبدان الناعمة أنها كيف تمزقت
في التراب وأنتنت في القبور حتى استقذرتها الطباع
الثاني البطش والقوة كما حكي عن قوم عاد حين قالوا فيما أخبر الله عنهم من أشد منا
قوة وكما اتكل عوج على قوته وأعجب بها فاقتلع جبلا ليطبقه على عسكر موسى عليه
السلام فثقب الله تعالى تلك القطعة من الجبل بنقر هدهد ضعيف المنقار حتى صارت في
عنقه وقد يتكل المؤمن أيضا على قوته كما روي عن سليمان عليه السلام أنه قال لأطوفن
الليلة على مائة امرأة ولم يقل إن شاء الله تعالى فحرم ما أراد من الولد // حديث
قال سليمان لأطوفن الليلة بمائة امرأة الحديث أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة
وكذلك قول داود عليه السلام إن ابتليتني صبرت وكان إعجابا منه بالقوة فلما ابتلي
بالمرأة لم يصبر
ويورث العجب بالقوة الهجوم في الحروب وإلقاء النفس في التهلكة والمبادرة إلى الضرب
والقتل لكل من قصده بالسوء وعلاجه ما ذكرناه وهو أن يعلم أن حمى يوم تضعف قوته
وأنه إذا أعجب بها ربما سلبها الله تعالى بأدنى آفة يسلطها عليه
الثالث
العجب بالعقل والكياسة والتفطن لدقائق الأمور من مصالح الدين والدنيا وثمرته
الاستبداد بالرأي وترك المشورة واستجهال الناس المخالفين له ولرأيه ويخرج إلى قلة
الإصغاء إلى أهل العلم إعراضا عنهم بالاستغناء بالرأي والعقل واستحقارا لهم وإهانة
وعلاجه أن يشكر الله تعالى على ما رزق من العقل ويتفكر أنه بأدنى مرض يصيب دماغه
كيف يوسوس ويجن بحيث يضحك منه فلا يأمن من أن يسلب عقله إن أعجب به ولم يقم بشكره
وليستقصر عقله وعلمه وليعلم أنه ما أوتي من العلم إلا قليلا وإن اتسع علمه وأن ما
جهله مما عرفه الناس أكثر مما عرفه فكيف بما لم يعرفه الناس من علم الله تعالى وأن
يتهم عقله وينظر إلى الحمقى كيف يعجبون بعقولهم ويضحك الناس منهم فيحذر أن يكون
منهم وهو لا يدري
فإن القاصر العقل قط لا يعلم قصور عقله فينبغي أن يعرف مقدار عقله من غيره لا من
نفسه ومن أعدائه لا من أصدقائه فإن من يداهنه يثني عليه فيزيده عجبا وهو لا يظن
بنفسه إلا الخير ولا يفطن لجهل نفسه فيزداد عجبا
الرابع العجب بالنسب الشريف كعجب الهاشمية حتى يظن بعضهم أنه ينجو بشرف نسبه ونجاة
آبائه وأنه مغفور له ويتخيل بعضهم أن جميع الخلق له موال وعبيد وعلاجه أن يعلم أنه
مهما خالف آباءه في أفعالهم وأخلاقهم وظن أنه ملحق بهم فقد جهل وإن اقتدى بآبائه
فما كان من أخلاقهم العجب بل الخوف والازدراء على النفس واستعظام الخلق ومذمة
النفس ولقد شرفوا بالطاعة والعلم والخصال الحميدة لا بالنسب فليتشرف بما شرفوا به
وقد ساواهم في النسب وشاركهم في القبائل من لم يؤمن بالله واليوم الآخر وكانوا عند
الله شرا من الكلاب وأخس من الخنازير ولذلك قال تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم
من ذكر وأنثى أي لا تفاوت في أنسابكم لاجتماعكم في أصل واحد ثم ذكر فائدة النسب
فقال وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ثم بين أن الشرف بالتقوى لا بالنسب فقال إن
أكرمكم عند الله أتقاكم ولما قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم من أكرم الناس من
أكيس الناس لم يقل من ينتمي إلى نسبي ولكن قال أكرمهم أكثرهم للموت ذكرا وأشدهم له
استعدادا // حديث لما قيل له من أكرم الناس من أكيس الناس قال أكثرهم للموت ذكرا
الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر دون قوله وأكرم الناس وهو بهذه الزيادة عند
ابن أبي الدنيا في ذكر الموت آخر الكتاب
وإنما نزلت هذه الآية حين أذن بلال يوم الفتح على الكعبة فقال الحرث بن هشام وسهيل
بن عمرو وخالد بن أسيد هذا العبد الأسود يؤذن على الكعبة فقال تعالى إن أكرمكم عند
الله أتقاكم وقال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية
أي كبيرها كلكم بنو آدم وآدم من تراب // حديث إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية
الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة ورواه الترمذي أيضا من
حديث ابن عمر وقال غريب
وقال النبي صلى الله عليه و سلم يا معشر قريش لا تأتي الناس بالأعمال يوم القيامة
وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون يا محمد يا محمد فأقول هكذا أي أعرض عنكم
// حديث يا معشر قريش لا يأتي الناس بالأعمال يوم القيامة وتأتون بالدنيا تحملونها
على رقابكم الحديث أخرجه الطبراني من حديث عمران بن حصين إلا أنه قال يا معشر بني
هاشم وسنده ضعيف
فبين أنهم إذا مالوا إلى الدنيا لم ينفعهم نسب قريش
ولما نزل قوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين ناداهم بطنا بعد بطن حتى قال يا فاطمة
بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم اعملا
لأنفسكما فإني لا أغني عنكما من الله شيئا // حديث لما نزل قوله تعالى وأنذر
عشيرتك الأقربين ناداهم بطنا بعد بطن حتى قال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد
المطلب الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة ورواه مسلم من حديث عائشة
فمن عرف هذه الأمور وعلم أن شرفه بقدر تقواه وقد كان من عادة آبائه التواضع اقتدى
بهم في التقوى
والتواضع
وإلا كان طاعنا في نسب نفسه بلسان حاله مهما انتمى إليهم ولم يشبههم في التواضع
والتقوى والخوف والإشفاق
فإن قلت فقد قال صلى الله عليه و سلم بعد قوله لفاطمة وصفية إني لا أغني عنكما من
الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها // حديث قوله بعد قوله المتقدم لفاطمة
وصفية ألا إن لكما رحما سأبلها ببلالها أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ غير أن
لكم رحما سأبلها ببلاها
وقد صلى الله عليه و سلم أترجو سليم شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب // حديث
أترجو سليم شفاعتي ولا ترجوها بنو عبد المطلب أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث
عبد الله بن جعفر وفيه أصيرم بن حوشب عن إسحاق بن واصل وكلاهما ضعيف جدا
فذلك يدل على أنه سيخصص قرابته بالشفاعة فاعلم أن كل مسلم فهو منتظر شفاعة رسول
الله صلى الله عليه و سلم والنسيب أيضا جدير بأن يرجوها لكن بشرط أن يتقي الله أن
يغضب عليه فإنه إن يغضب عليه فلا يأذن لأحد في شفاعته لأن الذنوب منقسمة إلى ما
يوجب المقت فلا يؤذن في الشفاعة له وإلى ما يعفى عنه بسبب الشفاعة كالذنوب عند
ملوك الدنيا فإن كل ذي مكانة عند الملك لا يقدر على الشفاعة فيما اشتد عليه غضب
الملك فمن الذنوب ما لا تنجي منه الشفاعة وعنه العبارة بقوله تعالى ولا يشفعون إلا
لمن ارتضى وبقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وبقوله ولا تنفع الشفاعة عنده
إلا لمن أذن له وبقوله فما تنفعهم شفاعة الشافعين وإذا انقسمت الذنوب إلا ما يشفع
فيه وإلا ما لا يشفع فيه وجب الخوف والإشفاق لا محالة ولو كان ذنب تقبل فيه
الشفاعة لما أمر قريشا بالطاعة ولما نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة رضي
الله عنها عن المعصية ولكان يأذن لها في اتباع الشهوات لتكمل لذاتها في الدنيا ثم
يشفع لها في الآخرة لتكمل لذاتها في الآخرة
فالانهماك في الذنوب وترك التقوى اتكالا على رجاء الشفاعة يضاهي انهماك المريض في
شهواته اعتمادا على طبيب حاذق قريب مشفق من أب أو أخ أو غيره وذلك جهل لأن سعي
الطبيب وهمته وحذقه تنفع في إزالة بعض الأمراض لا في كلها فلا يجوز ترك الحمية
مطلقا اعتمادا على مجرد الطب بل للطبيب أثر على الجملة ولكن في الأمراض الخفيفة
وعند غلبة اعتدال المزاج
فهكذا ينبغي أن تفهم عناية الشفعاء من الأنبياء والصلحاء للأقارب والأجانب فإنه
كذلك قطعا وذلك لا يزيل الخوف والحذر وكيف يزيل وخير الخلق بعد رسول الله صلى الله
عليه و سلم أصحابه وقد كانوا يتمنون أن يكونوا بهائم من خوف الآخرة مع كمال تقواهم
وحسن أعمالهم وصفاء قلوبهم وما سمعوه من وعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إياهم
بالجنة خاصة وسائر المسلمين بالشفاعة عامة ولم يتكلوا عليه ولم يفارق الخوف
والخشوع قلوبهم فكيف يعجب بنفسه ويتكل على الشفاعة من ليس له مثل صحبتهم وسابقتهم
الخامس العجب بنسب السلاطين الظلمة وأعوانهم دون نسب الدين والعلم
وهذا غاية الجهل وعلاجه أن يتفكر في مخازيهم وما جرى لهم من الظلم على عباد الله
والفساد في دين الله وأنهم الممقوتون عند الله تعالى ولو نظر إلى صورهم في النار
وأنتانهم وأقذارهم لاستنكف منهم ولتبرأ من الانتساب إليهم ولأنكر على من نسبه
إليهم استقذارا واستحقار لهم ولو انكشف له ذلهم في القيامة وقد تعلق الخصماء بهم
والملائكة آخذون بنواصيهم يجرونهم على وجوههم إلى جهنم في مظالم العباد لتبرأ إلى
الله منهم ولكان انتسابه إلى الكلب والخنزير أحب إليه من الانتساب إليهم فحق أولاد
الظلمة إن عصمهم الله من ظلمهم أن يشكروا الله تعال على سلامة دينهم ويستغفروا
لآبائهم إن كانوا مسلمين فأما العجب فجهل محض
السادس
العجب بكثرة العدد من الأولاد والخدم والغلمان والعشيرة والأقارب والأنصار
والأتباع كما قال الكفار نحن أكثر أموالا وأولادا وكما قال المؤمنون يوم حنين لا
نغلب اليوم من قلة وعلاجه ما ذكرناه في الكبر وهو أن يتفكر في ضعفه وضعفهم وأن
كلهم عبيد عجزة لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ثم كيف يعجب بهم وأنهم سيفترقون عنه إذا
مات فيدفن في قبره ذليلا مهينا وحده لا يرافقه أهل ولا ولد ولا قريب ولا حميم ولا
عشير فيسلمونه إلى البلى والحيات والعقارب والديدان ولا يغنون عنه شيئا وفي أحوج
أوقاته إليهم وكذلك يهربون منه يوم القيامة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه
وصاحبته وبنيه الآية
فأي خير فيمن يفارقك في أشد أحوالك ويهرب منك وكيف تعجب به ولا ينفعك في القبر
والقيامة وعلى الصراط إلا عملك وفضل الله تعالى فكيف تتكل على من لا ينفعك وتنسى
نعم من يملك نفعك وضرك وموتك وحياتك
السابع العجب بالمال كما قال تعالى إخبارا عن صاحب الجنتين إذ قال أنا أكثر منك
مالا وأعز نفرا ورأى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلا غنيا جلس بجنبه فقير
فانقبض عنه وجمع ثيابه فقال صلى الله عليه و سلم أخشيت أن يعدو إليك فقره // حديث
رأى النبي صلى الله عليه و سلم رجلا غنيا جلس لجنبه فقير فانقبض منه الحديث رواه
أحمد في الزهد
وذلك للعجب بالغنى وعلاجه أن يتفكر في آفات المال وكثرة حقوقه وعظيم غوائله وينظر
إلى فضيلة الفقراء وسبقهم إلى الجنة في القيامة وإلى أن المال غاد ورائح ولا أصل
له وإلى أن في اليهود من يزيد عليه في المال وإلى قوله صلى الله عليه و سلم بينما
رجل يتبختر في حلة له قد أعجبته نفسه إذا أمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها
إلى يوم القيامة // حديث بينما رجل في حلة قد أعجبته نفسه الحديث متفق عليه من
حديث أبي هريرة وقد تقدم
وأشار به إلى عقوبة إعجابه بماله ونفسه
وقال أبو ذر كنت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فدخل المسجد فقال لي يا أبا ذر
ارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا رجل عليه ثياب جياد ثم قال ارفع رأسك فرفعت رأسي فإذا
رجل عليه ثياب خلقة فقال لي يا أبا ذر هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا //
حديث أبي ذر كنت مع النبي صلى الله عليه و سلم فدخل المسجد فقال لي يا أبا ذر ارفع
رأسك فرفعت رأسي الحديث وفيه هذا عند الله خير من قراب الأرض مثل هذا أخرجه ابن
حبان في صحيحه
وجميع ما ذكرناه في كتاب الزهد وكتاب ذم الدنيا وكتاب ذم المال يبين حقارة
الأغنياء وشرف الفقراء عند الله تعالى فكيف يتصور من المؤمن أن يعجب بثروته بل لا
يخلو المؤمن عن خوف من تقصيره في القيام بحقوق المال في أخذه من حله ووضعه في حقه
ومن لا يفعل ذلك فمصيره إلى الخزي والبوار فكيف يعجب بماله
الثامن العجب بالرأي الخطأ
قال الله تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا وقال تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعا وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ذلك يغلب على آخر هذه الأمة //
حديث أنه يغلب على آخر هذه الأمة الإعجاب بالرأي هو حديث أبي ثعلبة المتقدم فإذا
رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك وهو عند أبي
داود والترمذي
وبذلك هلكت الأمم السالفة إذ افترقت فرقا فكل معجب برأيه وكل حزب بما لديهم فرحون
وجميع أهل البدع والضلال إنما أصروا عليها لعجبهم بآرائهم والعجب بالبدعة هو
استحسان ما يسوق إليه الهوى والشهوة مع ظن كونه حقا وعلاج هذا العجب أشد من علاج
غيره لأن صاحب الرأي الخطأ جاهل بخطئه ولو عرفه لتركه ولا يعالج الداء الذي لا
يعرف والجهل داء لا يعرف فتعسر مداواته جدا
لأن العارف يقدر على أن يبين للجاهل جهله ويزيله
عنه
إلا إذا كان معجبا برأيه وجهله فإنه لا يصغي إلى العارف ويتهمه فقد سلط الله عله
بلية تهلكه وهو يظنها نعمة فكيف يمكن علاجه وكيف يطلب الهرب مما هو سبب سعادته في
اعتقاده وإنما علاجه على الجملة أن يكون متهما لرأيه أبدا لا يغتر به إلا أن يشهد
له قاطع من كتاب أو سنة أو دليل عقلي صحيح جامع لشروط الأدلة ولن يعرف الإنسان
أدلة الشرع والعقل وشروطها ومكامن الغلط فيها إلا بقريحة تامة وعقل ثاقب وجد وتشمر
في الطلب وممارسة للكتاب والسنة ومجالسة لأهل العلم طول العمر ومدارسة للعلوم ومع
ذلك فلا يؤمن عليه الغلط في بعض الأمور والصواب لمن لم يتفرع لاستغراق عمره في
العلم أن لا يخوض في المذاهب ولا يصغي إليها ولا يسمعها ولكن يعتقد أن الله تعالى
واحد لا شريك له وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وأن رسوله صادق فيما أخبر
به ويتبع سنة السلف ويؤمن بجملة ما جاء به الكتاب والسنة من غير بحث وتنقير وسؤال
عن تفصيل بل يقول آمنا وصدقنا ويشتغل بالتقوى واجتناب المعاصي وأداء الطاعات
والشفقة على المسلمين وسائر الأعمال فإن خاض في المذاهب والبدع والتعصب في العقائد
هلك من حيث لا يشعر
هذا حق كل من عزم على أن يشتغل في عمره بشيء غير العلم فأما الذي عزم على التجرد
للعلم فأول مهم له معرفة الدليل وشروطه وذلك مما يطول الأمر فيه والوصول إلى
اليقين والمعرفة في أكبر المطالب شديد لا يقدر عليه إلا الأقوياء المؤيدون بنور
الله تعالى وهو عزيز الوجود جدا فنسأل الله تعالى العصمة من الضلال ونعوذ به من
الاغترار بخيالات الجهال
تم كتاب ذم الكبر والعجب والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة
إلا بالله العلي العظيم وA وعلى آله وصحبه وسلم
كتاب ذم الغرور وهو الكتاب العاشر من ربع المهلكات من كتاب إحياء
علوم الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بيده مقاليد الأمور وبقدرته مفاتيح الخيرات والشرور مخرج أوليائه
من الظلمات إلى النور ومورد أعدائه ورطات الغرور والصلاة على محمد مخرج الخلائق من
الديجور وعلى آله وأصحابه الذين لم تغرهم الحياة الدنيا ولم يغرهم بالله الغرور
صلاة تتوالى على ممر الدهور ومكر الساعات والشهور
أما بعد فمفتاح السعادة التيقظ والفطنة ومنبع الشقاوة الغرور والغفلة فلا نعمة لله
على عباده أعظم من الإيمان والمعرفة ولا وسيلة إليه سوى انشراح الصدر بنور البصيرة
ولا نقمة أعظم من الكفر والمعصية ولا داعي إليهما سوى عمى القلب بظلمة الجهالة
فالأكياس وأرباب البصائر قلوبهم كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها
كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غريبة يكاد زيتها يضيء ولو لم
تمسسه نار نور على نور والمغترون قلوبهم كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج
من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له
نورا فما له من نور فالأكياس هم الذين أراد الله أن يهديهم فشرح صدورهم للإسلام
والهدى والمغترون هم الذين أراد الله أن يضلهم فجعل صدرهم ضيقا حرجا كأنما يصعد في
السماء
والمغرور هو الذي لم تنفتح بصيرته ليكون بهداية نفسه كفيلا وبقي في العمى فاتخذ
الهوى قائدا والشيطان
دليلا
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا وإذا عرف أن الغرور 2هو أم
الشقاوات ومنبع المهلكات فلا بد من شرح مداخله ومجاريه وتفصيل ما يكثر من وقوع
الغرور فيه ليحذره المريد بعد معرفته فيتقيه فالموفق من العباد من عرف مداخل
الآفات والفساد فأخذ منها حذره وبنى على الحزم والبصيرة أمره
ونحن نشرح أجناس مجاري الغرور وأصناف المغترين من القضاة والعلماء والصالحين الذين
اغتروا بمبادئ الأمور الجميلة ظواهرها القبيحة سرائرها ونشير إلى وجه اغترارهم بها
وغفلتهم عنها فإن ذلك وإن كان أكثر مما يحصى ولكن يمكن التنبيه على أمثلة تغني عن
الاستقصاء وفرق المغترين كثيرة ولكن يجمعهم أربعة أصناف
الصنف الأول من العلماء
الصنف الثاني من العباد
الصنف الثالث من المتصوفة
الصنف الرابع من أرباب الأموال
المغتر من كل صنف فرق كثيرة وجهات غرورهم مختلفة فمنهم من رأى المنكر معروفا كالذي
يتخذ المسجد ويزخرفها من المال الحرام ومنهم من لم يميز بين ما يسعى فيه لنفسه
وبين ما يسعى فيه لله تعالى كالواعظ الذي غرضه القبول والجاه ومنهم من يترك الأهم
ويشتغل بغيره ومنهم من يترك الفرض ويشتغل بالنافلة ومنهم من يترك اللباب ويشتغل
بالقشر كالذي يكون همه في الصلاة مقصورا على تصحيح مخارج الحروف إلى غير ذلك من
مداخل لا تتضح إلا بتفصيل الفرق وضرب الأمثلة
ولنبدأ أولا بذكر غرور العلماء ولكن بعد بيان ذم الغرور وبيان حقيقته وحده
بيان ذم الغرور وحقيقته وأمثلته
اعلم أن قوله تعالى فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور وقوله تعالى
ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني الآية
كاف في ذم الغرور وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حبذا نوم الأكياس وفطرهم
كيف يغبنون سهر الحمقى واجتهادهم ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل من ملء
الأرض من المغترين // حديث حبذا نوم الأكياس وفطرهم الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا
في كتاب اليقين من قول أبي الدرداء بنحوه وفيه انقطاع وفي بعض الروايات أبي الورد
موضع أبي الدرداء ولم أجده مرفوعا
وقال صلى الله عليه و سلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع
نفسه هواها وتمنى على الله // حديث الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت الحديث
أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث شداد بن أوس
وكل ما ورد في فضل العلم وذم الجهل فهو دليل على ذم الغرور لأن الغرور عبارة عن
بعض أنواع الجهل إذ الجهل هو أن يعتقد الشيء ويراه على خلاف ما هو به والغرور هو
جهل إلا أن كل جهل ليس بغرور بل يستدعي الغرور مغرورا فيه مخصوصا ومغرورا به وهو
الذي يغره
فمهما كان المجهدل المعتقد شيئا يوافق الهوى وكان السبب الموجب للجهل شبهة ومخيلة
فاسدة يظن أنها دليل ولا تكون دليلا سمي الجهل الحاصل به غرورا
فالغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة وخدعة من
الشيطان فمن اعتقد أنه على خير إما في العاجل أو في الآجل عن شبهة فاسدة فهو مغرور
وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه فأكثر الناس إذا مغرورون وإن
اختلفت أصناف غرورهم واختلفت درجاتهم حتى كان غرور بعضهم أظهر وأشد من بعض وأظهرها
وأشدها غرور الكفار وغرور العصاة والفساق فنورد لهما أمثلة لحقيقة الغرور
المثال
الأول غرور الكفار فمنهم من غرته الحياة الدنيا ومنهم من غره بالله الغرور أما
الذين غرتهم الحياة الدنيا فهم الذين قالوا النقد خير من النسيئة والدنيا نقد
والآخرة نسيئة فهي إذن خير فلا بد من إيثارها وقالوا اليقين خير من الشك ولذات
الدنيا يقين ولذات الآخرة شك فلا نترك اليقين بالشك
وهذه أقيسة فاسدة تشبه قياس إبليس حيث قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من
طين وإلى هؤلاء الإشارة بقوله تعالى أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا
يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وعلاج هذا الغرور إما بتصديق الإيمان وإما
بالبرهان أما التصديق بمجرد الإيمان فهو أن يصدق الله تعالى في قوله ما عندكم ينفذ
وما عند الله باق وفي قوله عز و جل وما عند الله خير وقوله والآخرة خير وأبقى
وقوله وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور وقوله فلا تغرنكم الحياة الدنيا وقد أخبر
رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك طوائف من الكفار فقلدوه وصدقوه وآمنوا به ولم
يطالبوه بالبرهان // حديث تصديق بعض الكفار بما أخبر به رسول الله صلى الله عليه و
سلم وإيمانهم من غير مطالبة بالبرهان هو مشهور في السنن من ذلك قصة إسلام الأنصار
وبيعتهم وهي عند أحمد من حديث جابر وفيه حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه
وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه
الحديث وهي عند أحمد بإسناد جيد
ومنهم من قال نشدتك الله أبعثك الله رسولا فكان يقول نعم فيصدق // حديث قول من قال
له نشدتك الله أبعثك رسولا فيقول نعم فيصدق متفق عليه من حديث أنس في قصة ضمام ابن
ثعلبة وقوله للنبي صلى الله عليه و سلم أرسلك للناس كلهم فقال اللهم نعم وفي آخره
فقال الرجل آمنت بما جئت به وللطبراني من حديث ابن عباس في ضمام قال نشدتك به أهو
أرسلك بما أتتنا كتبك وأتتنا رسلك أن نشهد أن لا إله إلا الله وأن ندع اللات
والعزى قال نعم الحديث
وهذا إيمان العامة وهو يخرج من الغرور وينزل هذا منزلة تصديق الصبي والده في أن
حضور المكتب خير من حضور الملعب مع أنه لا يدري وجه كونه خيرا
وأما المعرفة بالبيان والبرهان فهو أن يعرف وجه فساد هذا القياس الذي نظمه في قلبه
الشيطان فإن كل مغرور فلغروره سبب وذلك السبب هو دليل وكل دليل فهو نوع قياس يقع
في النفس ويورث السكون إليه وإن كان صاحبه لا يشعر به ولا يقدر على نظمه بألفاظ
العلماء
فالقياس الذي نظمه الشيطان فيه أصلان
أحدهما أن الدنيا نقد والآخرة نسيئة وهذا صحيح
والآخر قوله إن النقد خير من النسيئة وهذا محل التلبيس فليس الأمر كذلك بل إن كان
النقد مثل النسيئة في المقدار والمقصود فهو خير وإن كان أقل منها فالنسيئة خير فإن
الكافر المغرور يبذل في تجارته درهما ليأخذ عشرة نسيئة ولا يقول النقد خير من
النسيئة فلا أتركه وإذا حذره الطبيب الفواكه ولذائذ الأطعمة ترك ذلك في الحال خوفا
من ألم المرض في المستقبل فقد ترك النقد ورضي بالنسيئة
والتجار كلهم يركبون البحار ويتعبون في الأسفار نقدا لأجل الراحة والربح نسيئة فإن
كل عشرة في ثاني الحال خيرا من واحد في الحال فأنسب لذة الدنيا من حيث مدتها إلى
مدة الآخرة فإن أقصى عمر الإنسان مائة سنة وليس هو عشر عشير من جزء من ألف ألف جزء
من الآخرة
فكأنه ترك واحدا ليأخذ ألف ألف بل ليأخذ ما لا نهاية له ولا حد وإن نظر من حيث
النوع رأى لذات الدنيا مكدرة مشوبة بأنواع المنغصات ولذات الآخرة صافية غير مكدرة
فإذن قد غلط في قوله النقد خير من النسيئة فهذا غرور منشؤه قبول لفظ عام مشهور
أطلق وأريد به خاص فغفل به المغرور عن خصوص معناه
فإن من قال النقد خير من النسيئة أراد به خيرا من نسيئة هي مثله وإن لم يصرح به
وعند هذا يفزع الشيطان إلى القياس الآخر وهو أن اليقين خير من الشك إذا الآخرة شك
وهذا القياس أكثر فسادا من الأول لأن كلا أصليه باطل إذ اليقين خير من الشك إذا
كان مثله وإلا فالتاجر في تعبه على يقين
وفي
ربحه على شك والمتفقه في جهاده على يقين وفي إدراكه رتبة العلم على شك والصياد في
تردده في المقتنص على يقين وفي الظفر بالصيد على شك وكذا الحزم دأب العقلاء بالاتفاق
وكل ذلك ترك اليقين بالشك ولكن التاجر يقول إن لم أتجر بقيت جائعا وعظم ضرري وإن
اتجرت كان تعبي قليلا وربحي كثيرا وكذلك المريض يشرب الدواء البشع الكريه وهو من
الشفاء على شك ومن مرارة الدواء على يقين ولكن يقول ضرر مرارة الدواء قليل
بالإضافة إلى ما أخافه من المرض والموت فكذلك من شك في الآخرة فواجب عليه بحكم
الحزم أن يقول أيام الصبر قلائل وهو منتهى العمر بالإضافة إلى ما يقال من أمر
الآخرة فإن كان ما قيل فيه كذبا فما يفوتني إلا التنعم أيام حياتي وقد كنت في
العدم من الأزل إلى الآن لا أتنعم فأحسب أني بقيت في العدم
وإن كان ما قيل صدقا فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق
ولهذا قال علي كرم الله وجهه لبعض الملحدين إن كان ما قلته حقا فقد تخلصت وتخلصنا
وإن كان ما قلناه حقا فقد تخلصنا وهلكت وما قال هذا عن شك منه في الآخرة ولكن كلم
الملحد على قدر عقله وبين له أنه وإن لم يكن متيقنا فهو مغرور
وأما الأصل الثاني من كلامه وهو أن الآخرة شك فهو أيضا خطأ بل ذلك يقين عند
المؤمنين وليقينه مدركان
أحدهما الإيمان والتصديق تقليدا للأنبياء والعلماء وذلك أيضا يزيل الغرور وهو مدرك
يقين العوام وأكثر الخواص ومثالهم مثال مريض لا يعرف دواء علته وقد اتفق الأطباء
وأهل الصناعة من عند آخرهم على أن دواءه النبت الفلاني فإنه يطمئن نفس المريض إلى
تصديقهم ولا يطالبهم بتصحيح ذلك بالبراهين الطبية بل يثق بقولهم ويعمل به ولو بقى
سوادى أو معتوه يكذبهم في ذلك وهو يعلم بالتواتر وقرائن الأحوال أنهم أكثر منه
عددا وأغزر منه فضلا وأعلم منه بالطب بل لا علم له بالطب فيعلم كذبه بقولهم ولا
يعتقد كذبهم بقوله ولا يغتر في علمهم بسببه ولو اعتمد قوله وترك قول الأطباء كان
معتوها مغرورا فكذلك من نظر إلى المقرين بالآخرة والمخبرين عنها والقائلين بأن
التقوى هو الدواء النافع في الوصول إلى سعادتها وجدهم خير خلق الله وأعلاهم رتبة
في البصيرة والمعرفة والعقل وهم الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء واتبعهم
عليه الخلق على أصنافهم وشذ منهم آحاد من البطالين غلبت عليهم الشهوة ومالت نفوسهم
إلى التمتع فعظم عليهم ترك الشهوات وعظم عليهم الاعتراف بأنهم من أهل النار فجحدوا
الآخرة وكذبوا الأنبياء فكما أن قول الصبي وقول السوادى لا يزيل طمأنينة القلب إلى
ما اتفق عليه الأطباء فكذلك قول هذا الغني الذي استرقته الشهوات لا يشكك في صحة
أقوال الأنبياء والأولياء والعلماء
وهذا القدر من الإيمان كاف لجمله الخلق وهو يقين جازم يستحث على العمل لا محالة
والغرور يزول به
وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة فهو الوحي للأنبياء والإلهام للأولياء ولا تظنن
أن معرفة النبي صلى الله عليه و سلم لأمر الآخرة ولأمور الدين تقليد لجبريل عليه
السلام بالسماع منه كما أن معرفتك تقليد للنبي صلى الله عليه و سلم حتى تكون
معرفتك مثل معرفته وإنما يختلف المقلد فقط وهيهات فإن التقليد ليس بمعرفة بل هو
اعتقاد صحيح والأنبياء عارفون ومعنى معرفتهم أنه كشف لهم حقيقة الأشياء كما هي
عليها فشاهدوها بالبصيرة الباطنة كما تشاهد أنت المحسوسات بالبصر الظاهر فيخبرون
عن مشاهدة لا عن سماع وتقليد
وذلك بأن يكشف لهم عن حقيقة الروح وأنه من أمر الله تعالى وليس المراد بكونه من
أمر الله الأمر الذي يقابل النهي لأن ذلك الأمر كلام والروح ليس بكلام وليس المراد
بالأمر الشأن حتى يكون المراد به أنه من خلق الله فقط لأن ذلك عام في جميع
المخلوقات
بل
العالم عالمان عالم الأمر وعالم الخلق ولله الخلق والأمر فالأجسام ذوات الكمية
والمقادير من عالم الأمر الخلق إذا الخلق عبارة عن التقدير في وضع اللسان وكل
موجود منزه عن الكمية والمقدار فإنه من عالم الأمر وشرح ذلك سر الروح ولا رخصة في
ذكره لاستضرار أكثر الخلق بسماعه كسر القدر الذي منع من إفشائه
فمن عرف سر الروح فقد عرف نفسه وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه وإذا عرف نفسه وربه عرف
أنه أمر رباني بطبعه وفطرته وأنه في العالم الجسماني غريب وأن هبوطه إليه لم يكن
بمقتضى طبعه في ذاته بل بأمر عارض غريب من ذاته وذلك العارض الغريب ورد على آدم
صلى الله عليه و سلم وعبر عنه بالمعصية وهي التي حطته عن الجنة التي هي أليق به
بمقتضى ذاته فإنها في جوار الرب تعالى وأنه أمر رباني وحنينه إلى جواب الرب تعالى
له طبعي ذاتي إلا أن يصرفه عن مقتضى طبعه عوارض العالم الغريب من ذاته فينسى عند
ذلك نفسه وربه
ومهما فعل ذلك فقد ظلم نفسه إذ قيل له ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم
أولئك هم الفاسقون أي الخارجون عن مقتضى طبعهم ومظنة استحقاقهم
يقال فسقت الرطبة عن كمامها إذا خرجت عن معدنها الفطري
وهذه إشارة إلى أسرار يهتز لاستنشاق روائحها العارفون وتشمئز من سماع ألفاظها
القاصرون فإنها تضر بهم كما تضر رياح الورد بالجعل وتبهر أعينهم الضعيفة كما تبهر
الشمس أبصار الخفافيش
وانفتاح هذا الباب من سر القلب إلى عالم الملكوت يسمى معرفة وولاية ويسمى صاحبه
وليا وعارفا وهي مبادي مقامات الأنبياء
وآخر مقامات الأولياء أول مقامات الأنبياء ولنرجع إلى الغرض المطلوب فالمقصود أن
غرور الشيطان بأن الآخرة شك يدفع إما بيقين تقليدي وإما ببصيرة ومشاهدة من جهة
الباطن والمؤمنين بألسنتهم وبعقائدهم إذا ضيعوا أوامر الله تعالى وهجروا الأعمال
الصالحة ولابسوا الشهوات والمعاصي فهم مشاركون للكفار في هذا الغرور لأنهم آثروا
الحياة الدنيا على الآخرة نعم أمرهم أخف لأن أصل الإيمان يعصمهم عن عقاب الأبد
فيخرجون من النار ولو بعد حين ولكنهم أيضا من المغرورين فإنهم اعترفوا بأن الآخرة
خير من الدنيا ولكنهم مالوا إلى الدنيا وآثروها ومجرد الإيمان لا يكفي للفوز قال
تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى وقال تعالى إن رحمت الله قريب
من المحسنين ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه //
حديث الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه متفق عليه من حديث ابن عمر وقد تقدم
وقال تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا
بالحق وتواصوا بالصبر فوعد المغفرة في جميع كتاب الله تعالى منوط بالإيمان والعمل
الصالح جميعا لا بالإيمان وحده فهؤلاء أيضا مغرورون أعني المطمئنين إلى الدنيا الفرحين
بها المترفين بنعيمها المحبين لها
الكارهين للموت خيفة فوات لذات الدنيا دون الكارهين له خيفة لما بعده فهذا مثال
الغرور بالدنيا من الكفار والمؤمنين جميعا
ولنذكر للغرور بالله مثالين من غرور الكافرين والعاصين
فأما غرور الكفار بالله فمثاله قول بعضهم في أنفسهم وبألسنتهم إنه لو كان لله من
معاد فنحن أحق به من غيرنا ونحن أوفر حظا فيه وأسعد حالا كما أخبر الله تعالى عنه
من قول الرجلين المتحاورين إذ قال وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن
خيرا منها منقلبا وجملة أمرهما كما نقل في التفسير أن الكافر منهما بنى قصرا بألف
دينار واشترى بستانا بألف دينار وخدما بألف دينار وتزوج امرأة على ألف دينار وفي
ذلك كله يعظه المؤمن ويقول اشتريت قصرا يفنى ويخرب ألا اشتريت قصرا في الجنة لا
يفنى واشتريت بستانا يخرب ويفنى ألا اشتريت بستانا في الجنة لا يفنى وخدما لا
يفنون ولا يموتون وزوجة من الحور العين لا تموت وفي كل ذلك يرد عليه الكافر ويقول
ما هناك شيء وما
قيل
من ذلك فهو أكاذيب وإن كان فليكونن لي في الجنة خير من هذا
وكذلك وصف الله تعالى قول العاص ابن وائل إذ يقول لأوتين مالا وولدا فقال الله
تعالى ردا عليه أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا وروى عن خباب بن الأرت أنه
قال كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه فلم يقض لي فقلت إني آخذه في
الآخرة فقال لي إذا صرت إلى الآخرة فإن لي هناك مالا وولدا أقضيك منه
فأنزل الله تعالى قوله أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا // حديث
خباب بن الأرت قال كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه الحديث في نزول قوله
تعالى أفرأيت الذي كفر بآياتنا الآية أخرجه البخاري ومسلم
وقال الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعض ضراء مسته ليقولون هذا لي وما أظن
الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى وهذا كله من الغرور بالله
وسببه قياس من أقيسة إبليس نعوذ بالله منه وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله
عليهم في الدنيا فيقيسون عليها نعمة الآخرة وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم
فيقيسون عليه عذاب الآخرة كما قال تعالى ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما
نقول فقال تعالى جوابا لقولهم حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ومرة ينظرون إلى
المؤمنين وهم فقراء شعث غبر فيزدرون بهم ويستحقرونهم فيقولون أهؤلاء من الله عليهم
من بيننا ويقولون لو كان خيرا ما سبقونا إليه وترتيب القياس الذي نظمهم في قلوبهم
أنهم يقولون قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا وكل محسن فهو محب وكل محب فإنه يحسن
أيضا في المستقبل كما قال الشاعر
لقد أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقى
وإنما يقيس المستقبل على الماضي بواسطة الكرامة والحب إذ يقول لولا أني كريم عند
الله ومحبوب لما أحسن إلي
والتلبيس تحت ظنه أن كل محسن محب لا بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان
فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عنده بدليل لا يدل على الكرامة بل عند ذوي البصائر
يدل على الهوان
ومثاله أن يكون للرجل عبدان صغيران يبغض أحدهما ويحب الآخر فالذي يحبه يمنعه من
اللعب ويلزمه المكتب ويحبسه فيه ليعلمه الأدب ويمنعه من الفواكه وملاذ الأطعمة
التي تضره ويسقيه الأدوية التي تنفعه
والذي يبغضه يهمله ليعيش كيف يريد فيلعب ولا يدخل المكتب ويأكل كل ما يشتهي فيظن
هذا العبد المهمل أنه عند سيده محبوب كريم لأنه مكنه من شهواته ولذاته وساعده على
جميع أغراضه فلا يمنعه ولم يحجر عليه وذلك محض الغرور وهكذا نعيم الدنيا ولذتها
فإنها مهلكات ومبعدات من الله فإن الله يحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما يحمي
أحدكم مريضه من الطعام والشراب وهو يحبه // حديث إن الله يحمي عبده من الدنيا وهو
يحبه الحديث أخرجه الترمذي وحسنه و الحاكم وصححه من حديث قتادة بن النعمان
هكذا ورد في الخبر عن سيد البشر
وكان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا ذنب عجلت عقوبته ورأوا
ذلك علامة المقت والإهمال وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا مرحبا بشعار الصالحين
والمغرور إذا أقبلت عليه الدنيا ظن أنها كرامة من الله وإذا صرفت عنه ظن أنها هوان
كما أخبر الله تعالى عنه إذ قال فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه
فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن فأجاب الله عن
ذلك كلا أي ليس كما قال إنما هو ابتلاء نعوذ بالله من شر البلاء ونسأل الله
التثبيت فبين أن ذلك غرور قال الحسن كذبهما جميعا بقوله كلا يقول ليس هذا بإكرامي
ولا هذا بهواني ولكن الكريم من أكرمته بطاعتي غنيا كان أو فقيرا والمهان من أهنته
بمعصيتي غنيا كان أو فقيرا
وهذا
الغرور علاجه معرفة دلائل الكرامة والهوان إما بالبصيرة أو بالتقليد
أما البصيرة فبأن يعرف وجه كون الالتفات إلى شهوات الدنيا مبعد عن الله ووجه كون
التباعد عنها مقربا إلى الله ويدرك ذلك بالإلهام في منازل العارفين والأولياء
وشرحه من جملة علوم المكاشفة ولا يليق بعلم المعاملة
وأما معرفته بطريق التقليد والتصديق فهو أن يؤمن بكتاب الله تعالى ويصدق رسوله وقد
قال تعالى أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون
وقال تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وقال تعالى فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى
إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون وفي تفسير قوله تعالى سنستدرجهم
من حيث لا يعلمون أنهم كلما أحدثوا ذنبا أحدثنا لهم نعمة ليزيد غرورهم وقال تعالى
إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقال تعالى ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون
إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار إلى غير ذلك مما ورد في كتاب الله تعالى وسنة
رسوله فمن آمن به تخلص من هذا الغرور فإن منشأ هذا الغرور الجهل بالله وبصفاته فإن
من عرفه لا يأمن مكره ولا يغتر بأمثال هذه الخيالات الفاسدة وينظر إلى فرعون
وهامان وقارون وإلى ملوك الأرض وما جرى لهم كيف أحسن الله إليهم ابتداء ثم دمرهم
تدميرا فقال تعالى هل تحس منهم من أحد الآية وقد حذر الله تعالى من مكره واستدراجه
فقال فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون وقال تعالى ومكروا مكرا ومكرنا مكرا
وهم لا يشعرون وقال عز و جل ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين وقال تعالى إنهم
يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا فكما لا يجوز للعبد المهمل أن
يستدل بإهمال السيد إياه وتمكينه من النعم على حب السيد بل ينبغي أن يحذر أن يكون
ذلك مكرا منه وكيدا مع أن السيد لم يحذره مكر نفسه فبأن يجب ذلك في حق الله تعالى
مع تحذيره استدراجه أولى فإذن من أمن مكر الله فهو مغتر ومنشأ هذا الغرور أنه
استدل بنعم الدنيا على أنه كريم عند ذلك المنعم واحتمل أن يكون ذلك دليل الهوان
ولكن ذلك الاحتمال لا يوافق الهوى فالشيطان بواسطة الهوى يميل بالقلب إلى ما
يوافقه وهو التصديق بدلالته على الكرامة وهذا هو حد الغرور
المثال الثاني غرور العصاة من المؤمنين بقولهم إن الله كريم وإنا نرجو عفوه
واتكالهم على ذلك وإهمالهم الأعمال وتحسين ذلك بتسمية تمنيهم واغترارهم رجاء وظنهم
أن الرجاء مقام محمود في الدين وأن نعمة الله واسعة ورحمته شاملة وكرمه عميم وأين
معاصي العباد في بحار رحمته وإنا موحدون ومؤمنون فنرجوه بوسيلة الإيمان وربما كان
مستند رجائهم التمسك بصلاح الأباء وعلو رتبتهم كاغترار العلوية بنسبهم ومخالفة
سيرة آبائهم في الخوف والتقوى والورع وظنهم أنهم أكرم على الله من آبائهم إذا
آباؤهم مع غاية الورع والتقوى كانوا خائفين وهم مع غاية الفسق والفجور آمنون
وذلك نهاية الاغترار بالله تعالى
فقياس الشيطان للعلوية
أن من أحب إنسانا أحب أولاده وأن الله قد أحب آباءكم فيحبكم فلا تحتاجون إلى
الطاعة وينسى المغرور أن نوحا عليه السلام أراد أن يستصحب ولده معه في السفينة فلم
يرد فكان من المغرقين فقال رب إن ابني من أهلي فقال تعالى يا نوح إنه ليس من أهلك
إنه عمل غير صالح وأن إبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه فلم ينفعه
وأن نبينا صلى الله عليه و سلم وعلى كل عبد مصطفى استأذن ربه في أن يزور قبر أمه
ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له في الاستغفار فجلس يبكي على قبر أمه
لرقته لها بسبب القرابة حتى أبكى من حوله // حديث أنه صلى الله عليه و سلم استأذن
أن يزور قبر أمه ويستغفر لها فأذن له في الزيارة ولم يؤذن له الاستغفار الحديث
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة
فهذا أيضا اغترار بالله تعالى وهذا لأن الله
تعالى
يحب المطيع ويبغض العاصي فكما أنه لا يبغض الأب المطيع ببغضه للولد العاصي فكذلك
لا يحب الولد العاصي بحبه للأب المطيع ولو كان الحب يسري من الأب إلى الولد لأوشك
أن يسري البغض أيضا بل الحق أن لا تزر وازرة وزر أخرى
ومن ظن أنه ينجو بتقوى أبيه كمن ظن أنه يشبع بأكل أبيه ويروى بشرب أبيه ويصير
عالما بتعلم أبيه ويصل إلى الكعبة ويراها بمشي أبيه
فالتقوى فرض عين فلا يجزى فيه والد عن ولده شيئا وكذا العكس وعند الله جزاء التقوى
يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه إلا على سبيل الشفاعة لمن لم يشتد غضب الله عليه
فيأذن في الشفاعة له كما سبق في كتاب الكبر والعجب
فإن قلت فأين الغلط في قول العصاة والفجار إن الله كريم وإنا نرجو رحمته ومغفرته
وقد قال أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا فما هذا إلا كلام صحيح مقبول الظاهر في
القلوب فاعلم أن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر مردود الباطن
ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب ولكن النبي صلى الله عليه و سلم كشف عن ذلك
فقال الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على
الله // حديث الكيس من دان نفسه تقدم قريبا
وهذا هو التمني على الله تعالى غير الشيطان اسمه فسماه رجاء حتى خدع به الجهال
وقد شرح الله الرجاء فقال إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله
أولئك يرجون رحمة الله يعني أن الرجاء بهم أليق وهذا لأنه ذكر أن ثواب الآخرة أجر
وجزاء على الأعمال قال الله تعالى جزاء بما كانوا يعملون وقال تعالى وإنما توفون
أجوركم يوم القيامة أفترى أن من استؤجر على إصلاح أوان وشرط له أجرة عليها وكان
الشارط كريما يفي بالوعد مهما وعد ولا يخلف بل يزيد فجاء الأجير وكسر الأواني
وأفسد جميعها ثم جلس ينتظر الأجر ويزعم أن المستأجر كريم أفيراه العقلاء في
انتظاره متمنيا مغرورا أو راجيا وهذا للجهل بالفرق بين الرجاء والغرة
قيل للحسن قوم يقولون نرجو الله ويضيعون العمل فقال هيهات هيهات تلك أمانيهم
يترجحون فيها من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه
وقال مسلم بن يسار لقد سجدت البارحة حتى سقطت ثنيتاي فقال له رجل إنا لنرجو الله
فقال مسلم هيهات هيهات من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه
وكما أن الذي يرجو في الدنيا ولدا وهو بعد لم ينكح أو نكح ولم يجامع أو جامع ولم
ينزل فهو معتوه فكذلك من رجا رحمة الله وهو لم يؤمن أو آمن ولم يعمل صالحا أو عمل
ولم يترك المعاصي فهو مغرور
فكما أنه إذا نكح ووطئ وأنزل بقي مترددا في الولد يخاف ويرجو فضل الله في خلق
الولد ودفع الآفات عن الرحم وعن الأم إلى أن يتم فهو كيس فكذلك إذا آمن وعمل
الصالحات وترك السيئات وبقي مترددا بين الخوف والرجاء يخاف أن لا يقبل منه وأن لا
يدوم عليه وأن يختم له بالسوء ويرجو من الله تعالى أن يثبته بالقول الثابت ويحفظ
دينه من صواعق سكرات الموت حتى يموت على التوحيد ويحرس قلبه عن الميل إلى الشهوات
بقية عمره حتى لا يميل إلى المعاصي فهو كيس ومن عدا هؤلاء فهم المغرورون بالله
وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ولتعلمن نبأه بعد حين وعند ذلك يقولون
كما أخبر الله عنهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون أي علمنا
أنه كما لا يولد إلا بوقاع ونكاح ولا ينبت زرع إلا بحراثة وبث بذر فكذلك لا يحصل
في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح فارجعنا نعمل صالحا فقد علمنا الآن صدقك في
قولك وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى كلما ألقي فيها فوج سألهم
خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير أي ألم نسمعكم سنة الله في عباده
وأنه
توفى
كل نفس ما كسبت وأن كل نفس بما كسبت رهينة فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم
وعقلتم قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا
لأصحاب السعير
فإن قلت فأين مظنة الرجاء وموضعه المحمود فاعلم أنه محمود في موضعين
أحدهما في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة فقال له الشيطان وأنى تقبل توبتك
فيقنطه من رحمة الله تعالى فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ويتذكر إن الله
يغفر الذنوب جميعا وأن الله كريم يقبل التوبة عن عباده وأن التوبة طاعة تكفر
الذنوب قال الله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم أمرهم
بالإنابة وقال تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى فإذا توقع
المغفرة مع التوبة فهو راج وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور كما أن من ضاق
عليه وقت الجمعة وهو في السوق فخطر له أن يسعى إلى الجمعة فقال له الشيطان إنك لا
تدرك الجمعة فأقم على موضعك فكذب الشيطان ومر يعدو وهو يرجو أن يدرك الجمعة فهو
راج وإن استمر على التجارة وأخذ يرجو تأخير الإمام للصلاة لأجله إلى وسط الوقت أو
لأجل غيره أو لسبب من الأسباب التي لا يعرفها فهو مغرور
الثاني أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال ويقتصر على الفرائض فيرجى نفسه نعيم الله
تعالى وما وعد به الصالحين حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل
ويتذكر قوله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون إلى قوله أولئك هم
الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون فالرجاء الأول يقمع القنوط المانع من
التوبة والرجاء الثاني يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر فكل توقع حث على توبة
أو على تشمر في العبادة فهو رجاء وكل رجاء أوجب فتورا في العبادة وركونا إلى
البطالة فهو غرة كما إذا خطر له أن يترك الذنب ويشتغل بالعمل فيقول له الشيطان
مالك ولإيذاء نفسك وتعذيبها ولك رب كريم غفور رحيم فيفتر بذلك عن التوبة والعبادة
فهو غرة وعند هذا واجب على العبد أن يستعمل الخوف فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم
عقابه ويقول إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب وإنه مع أنه كريم خلد
الكفار في النار أبد الآباد مع أنه لم يضره كفرهم بل سلط العذاب والمحن والأمراض
والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا وهو قادر على إزالتها فمن هذه
سنته في عباده وقد خوفني عقابه فكيف لا أخافه وكيف أغتر به
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل فما لا يبعث على العمل فهو
تمن وغرور
ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا وسبب إعراضهم عن الله
تعالى وإهمالهم السعي للآخرة فذلك غرور فقد أخبر صلى الله عليه و سلم وذكر أن
الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة // حديث إن الغرور يغلب على آخر هذه الأمة
تقدم في آخر ذم الكبر والعجب وهو حديث أبي ثعلبة في إعجاب كل ذي رأي برأيه
وقد كان ما وعد به صلى الله عليه و سلم فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون
على العبادات ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون يخافون على أنفسهم
وهم طول الليل والنهار في طاعة الله يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات
ويبكون على أنفسهم في الخلوات
وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي
وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى
وفضله راجون
لعفوه
ومغفرته كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة
والسلف الصالحون
فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينى فعلام إذن كان بكاء أولئك وخوفهم
وحزنهم وقد ذكرنا تحقيق هذه الأمور في كتاب الخوف والرجاء وقد قال رسول الله صلى
الله عليه و سلم فيما رواه معقل بن يسار يأتي على الناس زمان يخلق فيه القرآن في
قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان أمرهم كله يكون طمعا لا خوف معه إن أحسن
أحدهم قال يتقبل مني وإن أساء قال يغفر لي // حديث معقل بن يسار يأتي على الناس
زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس
من حديث ابن عباس نحوه بسند فيه جهالة ولم أره من حديث معقل
فأخبر أنهم يضعون الطمع موضع الخوف لجهلهم بتخويفات القرآن وما فيه
وبمثله أخبر عن النصارى إذ قال تعالى فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض
هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ومعناه أنهم ورثوا الكتاب أي هم علماء ويأخذون عرض
هذا الأدنى أي شهواتهم من الدنيا حراما كان أو حلالا
وقد قال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد والقرآن من
أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان
مؤمنا بما فيه
وترى الناس يهذونه هذا يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها
ونصبها وكأنهم يقرءون شعرا من أشعار العرب لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل
بما فيه وهل في العالم غرور يزيد على هذا فهذه أمثلة الغرور بالله وبيان الفرق بين
الرجاء والغرور ويقرب منه غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر وهم
يتوقعون المغفرة ويظنون أنهم تترجح كفة حسناتهم مع أن ما في كفة السيئات أكثر وهذا
غاية الجهل فترى الواحد يتصدق بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما يتناول من
أموال المسلمين والشبهات أضعافه ولعل ما تصدق به من أموال المسلمين وهو يتكل عليه
ويظن أن أكل ألف درهم حرام يقاومه التصدق بعشرة من الحرام أو الحلال وما هو إلا
كمن وضع عشرة دراهم في كفة ميزان وفي الكفة الأخرى ألفا وأراد أن يرفع الكفة
الثقيلة بالكفة الخفيفة وذلك غاية جهله
نعم ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد معاصيه
وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم
مائة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار من
غير حصر وعدد ويكون نظره إلى عدد سبحته أنه استغفر الله مائة مرة وغفل عن هذيانه
طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة أو ألف مرة وقد كتبه الكرام
الكاتبون وقد أوعده الله بالعقاب على كل كلمة فقال ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب
عتيد فهذا أبدأ يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من
عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين يظهرون من الكلام ما لا يضمرونه
إلى غير ذلك من آفات اللسان
وذلك محض الغرور
ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجرة النسخ لما يكتبونه من هذيانه الذي
زاد على تسبيحه لكان عند ذلك يكف لسانه حتى عن جملة من مهماته وما نطق به في
فتراته كان يعده ويحسبه ويوازنه بتسبيحاته حتى لا يفضل عليه أجرة نسخه فيا عجبا
لمن يحاسب نفسه ويحتاط خوفا على قيراط يفوته في الأجرة على النسخ ولا يحتاط خوفا
من فوت الفردوس الأعلى ونعيمه ما هذه إلا مصيبة عظيمة لمن تفكر فيها لقد دفعنا إلى
أمر إن شككنا فيه كنا من الكفرة الجاحدين وإن صدقنا به كنا من الحمقى المغرورين
فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل
الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين مع هذا البيان
وما
أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور على القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر
به اتكالا على أباطيل المنى وتعاليل الشيطان والهوى والله أعلم
بيان أصناف المغترين وأقسام فرق كل صنف وهم أربعة أصناف
الصنف الأول أهل العلم والمغترون منهم فرق
ففرقة أحكموا العلوم الشرعية والعقلية وتعمقوا فيها واشتغلوا بها وأهملوا تفقد
الجوارح وحفظها عن المعاصي وإلزامها الطاعات واغتروا بعلمهم وظنوا أنهم عند الله
بمكان وأنهم قد بلغوا من العلم مبلغا لا يعذب الله مثلهم بل يقبل في الخلق شفاعتهم
وأنه لا يطالبهم بذنوبهم وخطاياهم لكرامتهم على الله وهم مغرورون فإنهم لو نظروا
بعين البصيرة علموا أن العلم علمان علم معاملة وعلم مكاشفة وهو العلم بالله
وبصفاته المسمى بالعادة علم المعرفة
فأما العلم بالمعاملة كمعرفة الحلال والحرام ومعرفة أخلاق النفس المذمومة
والمحمودة وكيفية علاجها والفرار منها فهي علوم لا تراد إلا للعمل ولولا الحاجة
إلى العمل لم يكن لهذه العلوم قيمة وكل علم يراد للعمل فلا قيمة له دون العمل
فمثال هذا كمريض به علة لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة لا يعرفها إلا
حذاق الأطباء فيسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق
فعلمه الدواء وفصل له الأخلاط وأنواعها ومقاديرها ومعادنها التي منها تجتلب وعلمه
كيفية دق كل واحد منها وكيفية خلطه وعجنه فتعلم ذلك وكتب منه نسخة حسنة بخط حسن
ورجع إلى بيته وهو يكررها ويعلمها المرضى ولم يشتغل بشر بها واستعمالها أفترى أن
ذلك يغني عنه من مرضه شيئا هيهات هيهات لو كتب منه ألف نسخة وعلمه ألف مريض حتى
شفي جميعهم وكرره كل ليلة ألف مرة لم يغنه ذلك من مرضه شيئا إلا أن يزن الذهب
ويشتري الدواء ويخلطه كما تعلم ويشربه ويصبر على مرارته ويكون شربه في وقته وبعد
تقديم الاحتماء وجميع شروطه وإذا فعل جميع ذلك فهو على خطر من شفائه فكيف إذا لم
يشربه أصلا فمهما ظن أن ذلك يكفيه ويشفيه فقد ظهر غروره
وهكذا الفقيه الذي أحكم علم الطاعات ولم يعملها وأحكم علم المعاصي ولم يجتنبها
وأحكم علم الأخلاق المذمومة وما زكى نفسه منها وأحكم علم الأخلاق المحمودة ولم
يتصف بها فهو مغرور إذ قال تعالى قد أفلح من زكاها ولم يقل قد أفلح من تعلم كيفية
تزكيتها وكتب علم ذلك وعلمه الناس وعند هذا يقول له الشيطان لا يغرنك هذا المثال
فإن العلم بالدواء لا يزيل المرض وإنما مطلبك القرب من الله وثوابه والعلم يجلب
الثواب ويتلو عليه الأخبار الواردة في فضل العلم
فإن كان المسكين معتوها مغرورا وافق ذلك مراده وهواه فاطمأن إليه وأهمل العمل وإن
كان كيسا فيقول للشيطان أتذكرني فضائل العالم وتنسيني ما ورد في العالم الفاجر
الذي لا يعمل بعلمه كقوله تعالى فمثله كمثل الكلب وكقوله تعالى مثل الذين حملوا
التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا فأي خزي أعظم من التمثيل بالكلب
والحمار وقد قال صلى الله عليه و سلم من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من الله
إلا بعدا // حديث من ازداد علما ولم يزدد هدى الحديث تقدم في العلم
وقال أيضا يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار
في الرحى // حديث يلقى العالم في النار فتندلق أقتابه الحديث تقدم غير مرة
وكقوله صلى الله عليه و سلم شر الناس العلماء السوء // حديث شر الناس علماء السوء
تقدم في العلم
وقول أبي الدرداء ويل للذي لا يعلم مرة ولو شاء الله لعلمه وويل للذي يعلم ولا
يعمل سبع مرات أي أن العلم حجة عليه إذ يقال له ماذا عملت فيما علمت وكيف قضيت شكر
الله
وقال
صلى الله عليه و سلم أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه //
حديث أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله تعالى بعلمه تقدم فيه
فهذا وأمثاله مما أوردناه في كتاب العلم في باب علامة علماء الآخرة أكثر من أن
يحصى إلا أن هذا فيما لا يوافق هوى العالم الفاجر وما ورد في فضل العلم يوافقه
فيميل الشيطان قلبه إلى ما يهواه وذلك عين الغرور فإنه إن نظر بالبصيرة فمثاله ما
ذكرناه وإن نظر بعين الإيمان فالذي أخبره بفضيلة العلم هو الذي أخبره بذم العلماء
السوء وأن حالهم عند الله أشد من حال الجهال
فبعد ذلك اعتقاده أنه على خير مع تأكد حجة الله عليه غاية الغرور
وأما الذي يدعي علوم المكاشفة كالعلم بالله وبصفاته وأسمائه وهو مع ذلك يهمل العمل
ويضيع أمر الله وحدوده فغروره أشد ومثاله مثال من أراد خدمة ملك فعرف الملك وعرف
أخلاقه وأوصافه ولونه وشكله وطوله وعرضه وعادته ومجلسه ولم يتعرف ما يحبه ويكرهه
وما يغضب عليه وما يرضى به أو عرف ذلك إلا أنه قصد خدمته وهو ملابس لجميع ما يغضب
به عليه وعاطل عن جميع ما يحبه من زي وهيئة وكلام وحركة وسكون فورد على الملك وهو
يريد التقرب منه والاختصاص به متلطخا بجميع ما يكرهه الملك عاطلا عن جميع ما يحبه
متوسلا إليه بمعرفته له ولنسبه واسمه وبلده وصورته وشكله وعادته في سياسة غلمانه
ومعاملة رعيته
فهذا مغرور جدا إذ لو ترك جميع ما عرفه واشتغل بمعرفته فقط ومعرفة ما يكرهه ويحبه
لكان ذلك أقرب إلى نيله المراد من قربه والاختصاص به بل تقصيره في التقوى واتباعه
للشهوات يدل على أنه لم ينكشف له من معرفة الله إلا الأسامي دون المعاني إذ لو عرف
الله حق معرفته لخشيه واتقاه
فلا يتصور أن يعرف الأسد عاقل ثم لا يتقيه ولا يخافه وقد أوحى الله تعالى إلى داود
عليه السلام خفني كما تخاف السبع الضاري
نعم من يعرف من الأسد لونه وشكله واسمه قد لا يخافه وكأنه ما عرف الأسد فمن عرف
الله تعالى عرف من صفاته أنه يهلك العالمين ولا يبالي ويعلم أنه مسخر في قدرة من
لو أهلك مثله آلافا مؤلفة وأبد عليهم العذاب أبد الآباد لم يؤثر ذلك فيه أثرا ولم
تأخذه عليه رقة ولا اعتراه عليه جزع
ولذلك قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وفاتحة الزبور رأس الحكمة خشية
الله وقال ابن مسعود كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بالله جهلا
واستفتى الحسن عن مسألة فأجاب فقيل له إن فقهاءنا لا يقولون ذلك فقال وهل رأيت
فقيها قط الفقيه القائم ليلة الصائم نهاره الزاهد في الدنيا
وقال مرة الفقيه لا يداري ولا يماري ينشر حكمة الله فإن قبلت منه حمد الله وإن ردت
عليه حمد الله
فإذن الفقيه من فقه عن الله أمره ونهيه وعلم من صفاته ما أحبه وما كرهه وهو العالم
ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإذا لم يكن بهذه الصفة فهو من المغرورين
وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل فواظبوا على الطاعات الظاهرة وتركوا المعاصي إلا
أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء
وطلب الرياسة والعلاء وإرادة السوء للأقران والنظراء وطلب الشهرة في البلاء
والعباد وربما لم يعرف بعضهم أن ذلك مذموم فهو مكب عليها غير متحرز عنها ولا يلتفت
إلى قوله صلى الله عليه و سلم أدنى الرياء شرك // حديث أدنى الرياء شرك تقدم في ذم
الجاه والرياء
وإلى قوله صلى الله عليه و سلم لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر // حديث
لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر تقدم غير مرة
وإلى قوله صلى الله عليه و سلم الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب // حديث
الحسد يأكل الحسنات الحديث تقدم في العلم وغيره
وإلى قوله صلى الله عليه و سلم حب الشرف والمال ينبتان النفاق كما ينبت الماء
البقل // حديث حب الشرف والمال ينبتان النفاق في القلب الحديث تقدم
إلى
غير
ذلك من الأخبار التي أوردناها في جميع ربع المهلكات في الأخلاق المذمومة
فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم ونسوا قوله صلى الله عليه و سلم إن الله لا
ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم // حديث إن الله
لا ينظر إلى صوركم الحديث تقدم
فتعهدوا الأعمال وما تعهدوا القلوب والقلب هو الأصل إذ لا ينجو إلا من أتى الله
بقلب سليم
ومثال هؤلاء كبئر الحش ظاهرها جص وباطنها نتن أو كقبور الموتى ظاهرها مزين وباطنها
جيفة أو كبيت مظلم باطنه وضع سراج على سطحه فاستنار ظاهره وباطنه مظلم أو كرجل قصد
الملك ضيافته إلى داره فجصص باب داره وترك المزابل في صدر داره ولا يخفى أن ذلك
غرور بل أقرب مثال إليه رجل زرع زرعا فنبت ونبت معه حشيش يفسده فآمر بتنقية الزرع
عن الحشيش بقلعه من أصله فأخذ يجز رءوسه وأطرافه فلا تزال تقوى أصوله فتنبت لأن
مغارس المعاصي هي الأخلاق الذميمة في القلب فمن لا يطهر القلب منها لا تتم له
الطاعات الظاهرة إلا مع الآفات الكثيرة
بل هو كمريض ظهر به الجرب وقد أمر بالطلاء وشرب الدواء فالطلاء ليزيل ما على ظاهره
والدواء ليقطع مادته من باطنه فقنع بالطلاء وترك الدواء وبقي يتناول ما يزيد في
المادة فلا يزال يطلي الظاهر والجرب دائم به يتفجر من المادة التي في الباطن
وفرقة أخرى علموا أن هذه الأخلاق الباطنة مذمومة من جهة الشرع إلا أنهم لعجبهم
بأنفسهم يظنون أنهم منفكون عنها وأنهم أرفع عند الله من أن يبتليهم بذلك وإنما
يبتلي به العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم فأما هم فأعظم عند الله من أن يبتليهم
ثم إذا ظهر عليهم مخايل الكبر والرياسة وطلب العلو والشرف قالوا ما هذا كبر وإنما
هو طلب عز الدين وإظهار شرف العلم ونصرة دين الله وإرغام أنف المخالفين من
المبتدعين وإني لو لبست الدون من الثياب وجلست في الدون من المجالس لشمت بي أعداء
الدين وفرحوا بذلك وكان ذلي ذلا على الإسلام ونسى المغرور أن عدوه الذي حذره منه
مولاه هو الشيطان وأنه يفرح بما يفعله ويسخر به وينسى أن النبي صلى الله عليه و
سلم بماذا نصر الدين وبماذا أرغم الكافرين ونسى ما روي عن الصحابة من التواضع
والتبذل والقناعة بالفقر والمسكنة حتى عوتب عمر رضي الله عنه في بذاذة زيه عند
قدومه إلى الشام فقال إنا قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب العز في غيره ثم هذا
المغرور يطلب عز الدين بالثياب الرقيقة من القصب والديبقي والإبريسم المحرم
والخيول والمراكب ويزعم أنه يطلب به عز العلم وشرف الدين وكذلك مهما أطلق اللسان
بالحسد في أقرانه أو فيمن رد عليه شيئا من كلامه لم يظن بنفسه أن ذلك حسد ولكن قال
إنما هذا غضب للحق ورد على المبطل في عدوانه وظلمه ولم يظن بنفسه الحسد حتى يعتقد
أنه لو طعن في غيره من أهل العلم أو منع غيره من رياسة وزوحم فيها هل كان غضبه
وعداوته مثل غضبه الآن فيكون غضبه لله أم لا يغضب مهما طعن في عالم آخر ومنع بل
ربما يفرح به فيكون غضبه لنفسه وحسده لأقرانه من خبث باطنه وهكذا يرائي بأعماله
وعلومه وإذا خطر له خاطر الرياء قال هيهات إنما غرضي من إظهار العلم والعمل اقتداء
الخلق بي ليهتدوا إلى دين الله تعالى فيتخلصوا من عقاب الله تعالى ولا يتأمل
المغرور أنه ليس يفرح باقتداء الخلق بغيره كما يفرح باقتدائه به فلو كان غرضه صلاح
الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان كمن له عبيد مرضى يريد معالجتهم فإنه لا يفرق
بين أن يحصل شفاؤهم على يده أو على يد طبيب آخر وربما يذكر هذا له فلا يخليه
الشيطان أيضا ويقول إنما ذلك لأنهم إذا اهتدوا بي كان الأجر لي والثواب لي فإنما
فرحي بثواب الله لا بقبول الخلق قولي هذا ما يظنه
بنفسه
والله مطلع من ضميره على أنه لو أخبره نبي بأن ثوابه في الخمول وإخفاء العلم أكثر
من ثوابه في الإظهار وحبس مع ذلك في سجن وقيد بالسلاسل لاحتال في هدم السجن وحل
السلاسل حتى يرجع إلى موضعه الذي به تظهر رياسته من تدريس أو وعظ أو غيره وكذلك
يدخل على السلطان ويتودد إليه ويثني عليه ويتواضع له وإذا خطر له أن التواضع
للسلاطين الظلمة حرام قال له الشيطان هيهات إنما ذلك عند الطمع في مالهم فأما أنت
فغرضك أن تشفع للمسلمين وتدفع الضرر عنهم وتدفع شر أعدائك عن نفسك والله يعلم من
باطنه أنه لو ظهر لبعض أقرانه قبول عند ذلك السلطان فصار يشفعه في كل مسلم حتى دفع
الضرر عن جميع المسلمين ثقل ذلك عليه ولو قدر على أن يقبح حاله عند السلطان بالطعن
فيه والكذب عليه لفعل
وكذلك قد ينتهي غرور بعضهم إلى أن يأخذ من مالهم وإذا خطر له أنه حرام قال له
الشيطان هذا مال لا مالك له وهو لمصالح المسلمين وأنت إمام المسلمين وعالمهم وبك
قوام الدين أفلا يحل لك أن تأخذ قدر حاجتك
فيغتر بهذا التلبيس في ثلاثة أمور
أحدها في أنه مال لا مالك له فإنه يعرف أنه يأخذ الخراج من المسلمين وأهل السواد
والذين أخذ منهم أحياء وأولادهم وورثتهم أحياء وغاية الأمر وقوع الخلط في أموالهم
ومن غصب مائة دينار من عشرة أنفس وخالطها فلا خلاف في أنه مال حرام ولا يقال هو
مال لا مالك له ويجب أن يقسم بين العشرة ويرد إلى كل واحد عشرة وإن كان مال كل
واحد قد اختلط بالآخر
الثاني والثالث في قوله إنك من مصالح المسلمين وبك قوام الدين ولعل الذين فسد
دينهم واستحلوا أموال السلاطين ورغبوا في طلب الدنيا والإقبال على الرياسة
والإعراض عن الآخرة بسببه أكثر من الذين زهدوا في الدنيا ورفضوها وأقبلوا على الله
فهو على التحقيق دجال الدين وقوام مذهب الشياطين لا إمام الدين
إذ الإمام هو الذي يقتدى به في الإعراض عن الدنيا والإقبال على الله كالأنبياء
عليهم السلام والصحابة وعلماء السلف
والدجال هو الذي يقتدى به في الإعراض عن الله والإقبال على الدنيا
فلعل موت هذا أنفع للمسلمين من حياته وهو يزعم أنه قوام الدين
ومثله كما قال المسيح عليه السلام للعالم السوء إنه كصخرة وقعت في فم الوادي فلا
هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع
وأصناف غرور أهل العلم في هذه الأعصار المتأخرة خارجة عن الحصر وفيما ذكرناه تنبيه
بالقليل على الكثير
وفرقة أخرى أحكموا العلم وطهروا الجوارح وزينوها بالطاعات واجتنبوا ظواهر المعاصي
وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء والحسد والحقد والكبر وطلب العلو
وجاهدوا أنفسهم في التبري منها وقلعوا من القلوب منابتها الجلية القوية ولكنهم بعد
مغرورون إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان وخبايا خداع النفس ما دق
وغمض مدركه فلم يفطنوا لها وأهملوها وإنما مثاله من يريد تنقية الزرع من الحشيش
فدار عليه وفتش عن كل حشيش رآه فقلعه إلا أنه لم يفتش على ما لم يخرج رأسه بعد من
تحت الأرض وظن أن الكل قد ظهر وبرز وكان قد نبت من أصول الحشيش شعب لطاف فانبسطت
تحت التراب فأهملها وهو يظن أنه قد اقتلعها فإذا هو بها في غفلته وقد نبتت وقويت
وأفسدت أصول الزرع من حيث لا يدري
فكذلك العالم قد يفعل جميع ذلك ويذهل عن المراقبة للخفايا والتفقد للدفائن فتراه
يسهر ليله ونهاره في جمع العلوم وترتيبها وتحسين ألفاظها وجمع التصانيف فيها وهو
يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ونشر شريعته
ولعل باعثه الخفي هو طلب الذكر وانتشار الصيت في الأطراف وكثرة الرحلة إليه من
الآفاق وانطلاق الألسنة عليه
بالثناء
والمدح بالزهد والورع والعلم والتقديم له في المهمات وإيثاره في الأغراض والاجتماع
حوله للاستفادة والتلذذ بحسن الإصغاء عند حسن اللفظ والإيراد والتمتع بتحريك
الرءوس إلى كلامه والبكاء عليه والتعجب منه والفرح بكثرة الأصحاب والأتباع
والمستفيدين والسرور بالتخصص بهذه الخاصية من بين سائر الأقران والأشكال للجمع بين
العلم والورع وظاهر الزهد والتمكن به من إطلاق لسان الطعن في الكافة المقبلين على
الدنيا لا عن تفجع بمصيبة الدين ولكن عن إدلال بالتمييز واعتداد بالتخصيص
ولعل هذا المسكين المغرور حياته في الباطن بما انتظم له من أمر وإمارة وعز وانقياد
وتوقير وحسن ثناء فلو تغيرت عليه القلوب واعتقدوا فيه خلاف الزهد بما يظهر من
أعماله فعساه يتشوس عليه قلبه وتختلط أوراده ووظائفه
وعساه يعتذر بكل حيلة لنفسه وربما يحتاج إلى أن يكذب في تغطية عيبه
وعساه يؤثر بالكرامة والمراعاة من اعتقد فيه الزهد والورع وإن كان قد اعتقد فيه
فوق قدره وينبو قلبه عمن عرف حد فضله وورعه وإن كان ذلك على وفق حاله وعساه يؤثر
بعض أصحابه على بعض وهو يرى أنه يؤثره لتقدمه في الفضل والورع وإنما ذلك لأنه أطوع
له وأتبع لمراده وأكثر ثناء عليه وأشد إصغاء إليه وأحرص على خدمته ولعلهم يستفيدون
منه ويرغبون في العلم وهو يظن أن قبوهم له لإخلاصه وصدقه وقيامه بحق علمه فيحمد
الله تعالى على ما يسر على لسانه من منافع خلقه ويرى أن ذلك مكفر لذنوبه ولم يتفقد
مع نفسه تصحيح النية فيه
وعساه لو وعد بمثل ذلك الثواب في إيثاره الخمول والعزلة وإخفاء العلم لم يرغب فيه
لفقده في العزلة ولاختفاء لذة القبول وعزة الرياسة ولعل مثل هذا هو المراد بقول
الشيطان من زعم من بني آدم أنه بعلمه امتنع مني فبجهله وقع في حبائلي
وعساه يصنف ويجتهد فيه ظانا أنه يجمع علم الله لينتفع به وإنما يريد به استطارة
اسمه بحسن التصنيف فلو ادعى مدع تصنيفه ومحا عنه اسمه ونسبه إلى نفسه ثقل عليه ذلك
مع علمه بأن ثواب الاستفادة من التصنيف إنما يرجع إلى المصنف والله يعلم بأنه هو
المصنف لا من ادعاه ولعله في تصنيفه لا يخلو من الثناء على نفسه إما صريحا
بالدعاوي الطويلة العريضة وإما ضمنا بالطعن في غيره ليستبين من طعنه في غيره أنه
أفضل ممن طعن فيه وأعظم منه علما ولقد كان في غنية عن الطعن فيه ولعله يحكي من
الكلام المزيف ما يزيد تزييفه فيعزيه إلى قائله وما يستحسنه فلعله لا يعزيه إليه
ليظن أنه من كلامه فينقله بعينه كالسارق له أو يغيره أدنى تغيير كالذى يسرق قميصا
فيتخذه قباء حتى لا يعرف أنه مسروق ولعله يجتهد في تزيين ألفاظه وتسجيعه وتحسين
نظمه كيلا ينسب إلى الركاكة ويرى أن غرضه ترويج الحكمة وتحسينها وتزيينها ليكون
أقرب إلى نفع الناس
وعساه غافلا عما روى أن بعض الحكماء وضع ثلثمائة مصحف في الحكمة فأوحى الله إلى
نبي زمانه قل له قد ملأت الأرض نفاقا وإني لا أقبل من نفاقك شيئا
ولعل جماعة من هذا الصنف من المغترين إذا اجتمعوا ظن كل واحد بنفسه السلامة عن
عيوب القلب وخفاياه فلو افترقوا واتبع كل واحد منهم فرقة من أصحابه نظر كل واحد
إلى كثرة من يتبعه وأنه أكثر تبعا أو غيره فيفرح إن كان أتباعه أكثر وإن علم أن
غيره أحق بكثرة الأتباع منه ثم إذا تفرقوا واشتغلوا بالإفادة تغايروا وتحاسدوا
ولعل من يختلف إلى واحد منهم إذا انقطع عنه إلى غيره ثقل على قلبه ووجد في نفسه
نفرة منه فبعد ذلك لا يهتز باطنه لإكرامه ولا يتشمر لقضاء حوائجه كما كان يتشمر من
قبل ولا يحرص على الثناء عليه كما أثنى مع علمه بأنه مشغول بالاستفادة ولعل التحيز
منه إلى فئة أخرى كان أنفع له في دينه لآفة من الآفات كانت تلحقه في هذه الفئة
وسلامته عنها في تلك الفئة ومع ذلك لا تزول النفرة عن قلبه ولعل واحدا منهم إذا
تحركت فيه مبادئ الحسد لم يقدر على إظهاره فيتعلل بالطعن في دينه وفي ورعه ليحمل غضبه
على ذلك ويقول إنما غضبت لدين الله لا لنفسي
ومهما
ذكرت
عيوبه بين يديه ربما فرح له وإن أثنى عليه ربما ساءه وكرهه وربما قطب وجهه إذا
ذكرت عيوبه يظهر أنه كاره لغيبة المسلمين وسر قلبه راض به ومريد له والله مطلع
عليه في ذلك
فهذا وأمثاله من خفايا القلوب لا يفطن له إلا الأكياس ولا يتنزه عنه إلا الأقوياء
ولا مطمع فيه لأمثالنا من الضعفاء إلا أن أقل الدرجات أن يعرف الإنسان عيوب نفسه
ويسوءه ذلك ويكرهه ويحرص على إصلاحه فإذا أراد الله بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه ومن
سرته حسنته وساءته سيئته فهو مرجو الحال وأمره أقرب من المغرور المزكي لنفسه
الممتن على الله بعمله وعلمه الظان أنه من خيار خلقه فنعوذ بالله من الغفلة
والاغترار ومن المعرفة بخفايا العيوب مع الإهمال
هذا غرور الذين حصلوا العلوم المهمة ولكن قصروا في العمل بالعلم
ولنذكر الآن غرور الذين قنعوا من العلوم بما لا يهمهم وتركوا المهم وهم به مغترون
إما لاستغنائهم عن أصل ذلك العلم وإما لاقتصارهم عليه
فمنهم فرقة اقتصروا على علم الفتاوي في الحكومات والخصومات وتفاصيل المعاملات
الدنيوية الجارية بين الخلق لمصالح العباد وخصصوا اسم الفقه بها وسموه الفقه وعلم
المذاهب وربما ضيعوا مع ذلك الأعمال الظاهرة والباطنة فلم يتفقدوا الجوارح ولم
يخرسوا اللسان عن الغيبة ولا البطن عن الحرام ولا الرجل عن المشي إلى السلاطين
وكذا سائر الجوارح ولم يحرسوا قلوبهم عن الكبر والحسد والرياء وسائر المهلكات
فهؤلاء مغرورون من وجهين
أحدهما من حيث العمل
والآخر من حيث العلم
أما العمل فقد ذكرنا وجه الغرور فيه وأن مثالهم مثال المريض إذا تعلم نسحة الدواء
واشتغل بتكراره وتعليمه لا بل مثالهم مثال من به علة البواسير والبرسام وهو مشرف
على الهلاك ومحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله فاشتغل بتعلم أدواء الاستحاضة وبتكرار
ذلك ليلا ونهارا مع علمه بأنه رجل لا يحيض ولا يستحاض ولكن يقول ربما تقع علة
الاستحاضة لامرأة وتسألني عن ذلك وذلك غاية الغرور
فكذلك المتفقه المسكين قد يسلط عليه حب الدنيا واتباع الشهوات والحسد والكبر
والرياء وسائر المهلكات الباطنة وربما يخطفه الموت قبل التوبة والتلافي فيلقى الله
وهو عليه غضبان فترك ذلك كله واشتغل بعلم السلم والإجارة والظهار واللعان
والجراحات والديات والدعاوى والبينات وبكتاب الحيض وهو لا يحتاج إلى شيء من ذلك قط
في عمره لنفسه وإذا احتاج غيره كان في المفتين كثرة فيشتغل بذلك ويحرص عليه لما فيه
من الجاه والرياسة والمال وقد دهاه الشيطان وما يشعر إذ يظن المغرور بنفسه أنه
مشغول بفرض دينه وليس يدري أن الاشتغال بفرض الكفاية قبل الفراغ من فرض العين
معصية
هذا لو كانت نيته صحيحة كما قال وقد كان قصد بالفقه وجه الله تعالى فإنه وإن قصد
وجه الله فهو باشتغاله به معرض عن فرض عينه في جوارحه وقلبه فهذا غروره من حيث
العمل
وأما غروره من حيث العلم فحيث اقتصر على علم الفتاوي وظن أنه علم الدين وترك كتاب
الله وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وربما طعن في المحدثين وقال إنهم نقلة
أخبار وحملة أسفار لا يفقهون وترك أيضا علم تهذيب الأخلاق وترك الفقه عن الله
تعالى بإدراك جلاله وعظمته وهو العلم الذي يورث الخوف والهيبة والخشوع ويحمل على
التقوى فتراه آمنا من الله مغترا به متكلا على أنه لا بد وأن يرحمه فإنه قوم دينه
وأنه لو لم يشتغل بالفتاوي لتعطل الحلال والحرام فقد ترك العلوم التي هي أهم وهو
غافل مغرور وسبب غروره ما سمع في الشرع من تعظيم الفقه ولم يدر أن ذلك الفقه هو
الفقه عن الله ومعرفة صفاته المخوفة والمرجوة ليستشعر القلب الخوف ويلازم التقوى
إذ قال تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا
رجعوا
إليهم
لعلهم يحذرون والذي يحصل به الإنذار غير هذا العلم فإن مقصود هذا العلم حفظ
الأموال بشروط المعاملات وحفظ الأبدان بالأموال وبدفع القتل والجراحات والمال في
طريق الله آلة والبدن مركب
وإنما العلم المهم هو معرفة سلوك الطريق وقطع عقبات القلب التي هي الصفات المذمومة
فهي الحجاب بين العبد وبين الله تعالى وإذا مات ملوثا بتلك الصفات كان محجوبا عن
الله
فمثاله في الاقتصار على علم الفقه مثال من اقتصر من سلوك طريق الحج على علم خرز
الرواية والخف ولا شك في أنه لو لم يكن لتعطل الحج ولكن المقتصر عليه ليس من الحج في
شيء ولا بسبيله وقد ذكرنا شرح ذلك في كتاب العلم ومن هؤلاء من اقتصر من علم الفقه
على الخلافيات ولم يهمه إلا تعلم طريق المجادلة والإلزام وإفحام الخصوم ودفع الحق
لأجل الغلبة والمباهاة فهو طول الليل والنهار في التفتيش عن مناقضات أرباب المذاهب
والتفقد لعيوب الأقران والتلقف لأنواع التسبيبات المؤذية وهؤلاء هم سباع الإنس
طبعهم الإيذاء وهمهم السفه ولا يقصدون العلم إلا لضرورة ما يلزمهم لمباهاة الأقران
فكل علم لا يحتاجون إليه في المباهاة كعلم القلب وعلم سلوك الطريق إلى الله تعالى
بمحو الصفات المذمومة وتبديلها بالمحمودة فإنهم يستحقرونه ويسمونه التزويق وكلام
الوعاظ وإنما التحقيق عندهم معرفة تفاصيل العربدة التي تجري بين المتصارعين في
الجدل
وهؤلاء قد جمعوا ما جمعه الذين من قبلهم في علم الفتاوي لكن زادوا إذ اشتغلوا بما
ليس من فروض الكفايات أيضا بل جميع دقائق الجدل في الفقه بدعة لم يعرفها السلف
وأما أدلة الأحكام فيشتمل عليها علم المذهب وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله
عليه و سلم وفهم معانيهما
وأما حيل الجدل من الكسر والقلب وفساد الوضع والتركيب والتعدية فإنما أبدعت لإظهار
الغلبة والإفحام وإقامة سوق الجدل بها فغرور هؤلاء أشد كثيرا وأقبح من غرور من
قبلهم
وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم الكلام والمجادلة في الأهواء والرد على المخالفين وتتبع
مناقضاتهم واستكثروا من معرفة المقالات المختلفة واشتغلوا بتعلم الطرق في مناظرة
أولئك وإفحامهم وافترقوا في ذلك فرقا كثيرة واعتقدوا أنه لا يكون لعبد عمل إلا
بإيمان ولا يصح إيمان إلا بأن يتعلم جدلهم وما سموه أدلة عقائدهم وظنوا أنه لا أحد
أعرف بالله وبصفاته منهم وأنه لا إيمان لمن لم يعتقد مذهبهم ولم يتعلم علمهم ودعت
كل فرقة منهم إلى نفسها
ثم هم فرقتان ضالة ومحقة فالضالة هي التي تدعو إلى غير السنة والمحقة هي التي تدعو
إلى السنة والغرور شامل لجميعهم
أما الضالة فلغفلتها عن ضلالها وظنها بنفسها النجاة وهم فرق كثيرة يكفر بعضهم بعضا
وإنما أتيت من حيث إنها لم تتهم رأيها ولم تحكم أولا شروط الأدلة ومنهاجها فرأى
أحدهم الشبهة دليلا والدليل شبهة
وأما الفرقة المحقة فإنما اغترارها من حيث إنها ظنت بالجدل أنه أهم الأمور وأفضل
القربات في دين الله وزعمت أنه لا يتم لأحد دينه ما لم يفحص ويبحث وأن من صدق الله
ورسوله من غير بحث وتحرير دليل فليس بمؤمن أو ليس كامل الإيمان ولا مقرب عند الله
فلهذا الظن الفاسد قطعت أعمارها في تعلم الجدل والبحث عن المقالات وهذيانات
المبتدعة ومناقضاتهم وأهملوا أنفسهم وقلوبهم حتى عميت عليهم ذنوبهم وخطاياهم
الظاهرة والباطنة وأحدهم يظن أن اشتغاله بالجدل أولى وأقرب عند الله وأفضل ولكنه
لالتذاذه بالغلبة والإفحام ولذة الرياسة وعز الانتماء إلى الذب عن دين الله تعالى
عميت بصيرته فلم يلتفت إلى القرن الأول فإن النبي صلى الله عليه و سلم شهد لهم
بأنهم خير الخلق وأنهم قد
أدركوا
كثيرا من أهل البدع والهوى فما جعلوا أعمارهم ودينهم غرضا للخصومات والمجادلات وما
اشتغلوا بذلك عن تفقد قلوبهم وجوارحهم وأحوالهم بل لم يتكلموا فيه إلا من حيث رأوا
حاجة وتوسموا مخايل قبول فذكروا بقدر الحاجة ما يدل الضال على ضلالته وإذا رأوا
مصرا على ضلالة هجروه وأعرضوا عنه وأبغضوه في الله ولم يلزموا الملاحاة معه طول
العمر بل قالوا إن الحق هو الدعوة إلى السنة ومن السنة ترك الجدل في الدعوة إلى
السنة
إذ روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال ما ضل قوم قط بعد
هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل // حديث ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا
الجدل تقدم في العلم وفي آفات اللسان
وخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما على أصحابه وهم يتجادلون ويختصمون فغضب
عليهم حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان // حديث خرج يوما على أصحابه وهم يجادلون
ويختصمون فغضب حتى كأنه فقئ في وجهه حب الرمان الحديث تقدم
حمرة من الغضب فقال ألهذا بعثتم أبهذا أمرتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض انظروا
إلى ما أمرتم به فاعملوا وما نهيتم عنه فانتهوا فقد زجرهم عن ذلك وكانوا أولى خلق
الله بالحجاج والجدال
ثم إنهم رأوا رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد بعث إلى كافة أهل الملل فلم يقعد
معهم في مجلس مجادلة لإلزام وإفحام وتحقيق حجة ودفع سؤال وإيراد إلزام فما جادلهم
إلا بتلاوة القرآن المنزل عليهم ولم يزد في المجادلة عليه لأن ذلك يشوش القلوب
ويستخرج منها الإشكالات والشبه ثم لا يقدر على محوها من قلوبهم وما كان يعجز عن
مجادلتهم بالتقسيمات ودقائق الأقيسة وأن يعلم أصحابه كيفية الجدل والإلزام ولكن
الأكياس وأهل الحزم لم يغتروا بهذا وقالوا لو نجا أهل الأرض وهلكنا لم تنفعنا
نجاتهم ولو نجونا وهلكوا لم يضرنا هلاكهم وليس علينا في المجادلة أكثر مما كان على
الصحابة مع اليهود والنصارى وأهل الملل وما ضيعوا العمر بتحرير مجادلاتهم فما لنا
نضيع العمر ولا نصرفه إلى ما ينفعنا في يوم فقرنا وفاقتنا ولم نخوض فيما لا نأمن
على أنفسنا الخطأ في تفاصيله ثم نرى أن المبتدع ليس يترك بدعته بجداله بل يزيده
التعصب والخصومة تشددا في بدعته فاشتغالي بمخاصمة نفسي ومجادلتها ومجاهدتها لتترك
الدنيا للآخرة أولى هذا لو كنت لم أنه عن الجدل والخصومة فكيف وقد نهيت عنه وكيف أدعو
إلى السنة بترك السنة فالأولى أتفقد نفسي وأنظر من صفاتها ما يبغضه الله تعالى وما
يحبه لأتنزه عما يبغضه وأتمسك بما يحبه
وفرقة أخرى اشتغلوا بالوعظ والتذكير وأعلاهم رتبة من يتكلم في أخلاق النفس وصفات
القلب من الخوف والرجاء والصبر والشكر والتوكل والزهد واليقين والإخلاص والصدق
ونظائره وهم مغرورون يظنون بأنفسهم أنهم إذا تكلموا بهذه الصفات ودعوا الخلق إليها
فقد صاروا موصوفين بهذه الصفات وهم منفكون عنها عند الله إلا عن قدر يسير لا ينفك
عنه عوام المسلمين وغرور هؤلاء أشد الغرور لأنهم يعجبون بأنفسهم غاية الإعجاب ويظنون
أنهم ما تبحروا في علم المحبة إلا وهم محبون لله وما قدروا على تحقيق دقائق
الإخلاص إلا وهم مخلصون وما وقعوا على خفايا عيوب النفس إلا وهم عنها منزهون ولولا
أنه مقرب عند الله لا عرفه معنى القرب والبعد وعلم السلوك إلى الله وكيفية قطع
المنازل في طريق الله فالمسكين بهذه الظنون يرى أنه من الخائفين وهو أمن من الله
تعالى ويرى أنه من الراجين وهو من المغترين المضيعين ويرى أنه من الراضين بقضاء
الله وهو من الساخطين ويرى أنه من المتوكلين على الله وهو من المتكلين على العز
والجاه والمال والأسباب ويرى أنه من المخلصين وهو من المرائين
بل يصف الإخلاص فيترك الإخلاص في الوصف ويصف الرياء ويذكره وهو يرائي بذكره ليعتقد
فيه أنه لولا أنه مخلص لما اهتدى إلى دقائق الرياء ويصف الزهد في الدنيا لشدة حرصه
على الدنيا وقوة رغبته فيها
فهو
يظهر الدعاء إلى الله وهو منه فار ويخوف بالله تعالى وهو منه آمن
ويذكر بالله تعالى وهو له ناس ويقرب إلى الله وهو منه متباعد ويحث على الإخلاص وهو
غير مخلص ويذم الصفات المذمومة وهو بها متصف ويصرف الناس عن الخلق وهو على الخلق
أشد حرصا لو منع عن مجلسه الذي يدعو الناس فيه إلى الله لضاقت عليه الأرض بما رحبت
ويزعم أن غرضه إصلاح الخلق ولو ظهر من أقرانه من أقبل الخلق عليه وصلحوا على يديه
لمات غما وحسدا ولو أثنى أحد من المترددين إليه على بعض أقرانه لكان أبغض خلق الله
إليه
فهؤلاء أعظم الناس غرة وأبعدهم عن التنبه والرجوع إلى السداد لأن المرغب في
الأخلاق المحمودة والمنفر عن المذمومة هو العلم بغوائلها وفوائدها وهذا قد علم ذلك
ولم ينفعه وشغله حب دعوة الخلق عن العمل به
فبعد ذلك بماذا يعالج وكيف سبيل تخويفه وإنما المخوف ما يتلوه على عباد الله
فيخافون وهو ليس بخائف نعم إن ظن نفسه أنه موصوف بهذه الصفات المحمودة يمكن أن يدل
على طريق الامتحان والتجربة وهو أن يدعي مثلا حب الله فما الذي تركه من محاب نفسه
لأجله ويدعي الخوف فما الذي امتنع منه بالخوف ويدعي الزهد فما الذي تركه مع القدرة
عليه لوجه الله تعالى ويدعي الأنس بالله فمتى طابت له الخلوة ومتى استوحش من
مشاهدة الخلق لا بل يرى قلبه يمتلئ بالحلاوة إذا أحدق به المريدون وتراه يستوحش
إذا خلا بالله تعالى فهل رأيت محبا يستوحش من محبوبه ويستروح منه إلى غيره
فالأكياس يمتحنون أنفسهم بهذه الصفات ويطالبونها بالحقيقة ولا يقنعون منها
بالتزويق بل بموثق من الله غليظ والمغترون يحسنون بأنفسهم الظنون وإذا كشف الغطاء
عنهم في الآخرة يفتضحون بل يطرحون في النار فتندلق أقتابهم فيدور بها أحدهم كما
يدور الحمار بالرحى كما ورد به الخبر لأنهم يأمرون بالخير ولا يأتونه وينهون عن
الشر ويأتونه وإنما وقع الغرور لهؤلاء من حيث إنهم يصادفون في قلوبهم شيئا ضعيفا
من أصول هذه المعانيوهو حب الله والخوف منه والرضا بفعله ثم قدروا مع ذلك على وصف
المنازل العالية في هذه المعانى فظنوا أنهم ما قدروا على وصف ذلك وما رزقهم الله
علمه وما نفع الناس بكلامهم فيها إلا لاتصفاهم بها وذهب عليهم أن القبول للكلام
والكلام للمعرفة وجريان اللسان والمعرفة للعلم وأن كل ذلك غير الاتصاف بالصفة فلم
يفارق آحاد المسلمين في الاتصاف بصفة الحب والخوف بل في القدرة على الوصف بل ربما
زاد أمنه وقل خوفه وظهر إلى الخلق ميله وضعف في قلبه حب الله تعالى وإنما مثاله
مثال مريض يصف المرض ويصف دواءه بفصاحته ويصف الصحة والشفاء وغيره من المرضى لا
يقدر على وصف الصحة والشفاء وأسبابه ودرجاته وأصنافه فهو لا يفارقهم في صفة المرض
والاتصاف به وإنما يفارقهم في الوصف والعلم بالطب فظنه عند علمه بحقيقة الصحة أنه
صحيح غاية الجهل فكذلك العلم بالخوف والحب والتوكل والزهد وسائر هذه الصفات غير
الاتصاف بحقائقها
ومن التبس عليه وصف الحقائق بالاتصاف بالحقائق فهو مغرور
فهذه حالة الوعاظ الذين لا عيب في كلامهم بل منهاج وعظهم منهاج وعظ القرآن
والأخبار ووعظ الحسن البصري وأمثاله رحمة الله عليهم
وفرقة أخرى منهم عدلوا عن المنهاج الواجب في الوعظ وهم وعاظ أهل هذا الزمان كافة
إلا من عصمه الله على الندور في بعض أطراف البلاد إن كان ولسنا نعرفه فاشتغلوا
بالطامات والشطح وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل طلبا للإغراب
وطائفة شغفوا بطيارات النكت وتسجيع الألفاظ وتلفيقها فأكثر هممهم بالأسجاع
والاستشهاد بأشعار الوصال والفراق وغرضهم أن تكثر في مجالستهم الزعقات والتواجد
ولو على أغراض فاسدة فهؤلاء شياطين الإنس ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل فإن الأولين
وإن لم يصلحوا أنفسهم فقد
أصلحوا
غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم
وأما هؤلاء فإنهم يصدون عن سبيل الله ويجرون الخلق إلى الغرور بالله بلفظ الرجاء
فيزيدهم كلامهم جراءة على المعاصي ورغبة في الدنيا لا سيما إذا كان الواعظ متزينا
بالثياب والخيل والمراكب فإنه تشهد هيئته من فرقه إلى قدمه بشدة حرصه على الدنيا
فما يفسده هذا المغرور أكثر مما يصلحه بل لا يصلح أصلا ويضل خلقا كثيرا ولا يخفى
وجه كونه مغرورا
وفرقة أخرى منهم قنعوا بحفظ كلام الزهاد وأحاديثهم في ذم الدنيا فهم يحفظون
الكلمات على وجهها ويؤدونها من غير إحاطة بمعانيها فبعضهم يفعل ذلك على المنابر
وبعضهم في المحاريب وبعضهم في الأسواق مع الجلساء وكل منهم يظن أنه إذا تميز هذا القدر
عن السوقة والجندية إذ حفظ كلام الزهاد وأهل الدين دونهم فقد أفلح ونال الغرض وصار
مغفورا له وأمن عقاب الله من غير أن يحفظ ظاهره وباطنه عن الآثام ولكنه يظن أن
حفظه لكلام أهل الدين يكفيه
وغرور هؤلاء أظهر من غرور من قبلهم
وفرقة أخرى استغرقوا أوقاتهم في علم الحديث أعني في سماعه وجمع الروايات الكثيرة
منه وطلب الأسانيد الغريبة العالية فهمة أحدهم أن يدور في البلاد ويرى الشيوخ
ليقول أنا أروي عن فلان ولقد رأيت فلانا ومعي من الإسناد ما ليس مع غيري
وغرورهم من وجوه منها أنهم كحملة الأسفار فإنهم لا يصرفون العناية إلى فهم معاني
السنة فعلمهم قاصر وليس معهم إلا النقل ويظنون أن ذلك يكفيهم ومنها أنهم إذا لم
يفهموا معانيها ولا يعملون بها وقد يفهمون بعضها أيضا ولا يعملون به
ومنها أنهم يتركون العلم الذي هو فرض عين وهو معرفة علاج القلب ويشتغلون بتكثير
الأسانيد وطلب العالي منها ولا حاجة بهم إلى شيء من ذلك ومنها وهو الذي أكب عليه
أهل الزمان أنهم أيضا لا يقيمون بشرط السماع فإن السماع بمجرده وإن لم تكن له
فائدة ولكنه مهم في نفسه للوصول إلا إثبات الحديث إذ التفهم بعد الإثبات والعمل
بعد التفهم فالأول السماع ثم التفهم ثم الحفظ ثم العمل ثم النشر وهؤلاء اقتصروا من
الجملة على السماع ثم تركوا حقيقة السماع فترى الصبي يحضر في مجلس الشيح والحديث
يقرأ والشيخ ينام والصبي يلعب ثم يكتب اسم الصبي في السماع فإذا كبر تصدى ليسمع
منه والبالغ الذي يحضر ربما يغفل ولا يسمع ولا يصغي ولا يضبط وربما يشتغل بحديث أو
نسخ والشيخ الذي يقرأ عليه لو صحف وغير ما يقرأ عليه لم يشعر به ولم يعرفه وكل ذلك
جهل وغرور
إذ الأصل في الحديث أن يسمعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم فيحفظه كما سمعه
ويرويه كما حفظه فتكون الرواية عن الحفظ والحفظ عن السماع
فإن عجزت عن سماعه من رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعته من الصحابة أو التابعين
وصار سماعك عن الراوي كسماع من سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو أن تصفي
لتسمع فتحفظ وتروي كما حفظت وتحفظ كما سمعت بحيث لا تغير منه حرفا ولو غير غيرك
منه حرفا أو أخطأ علمت خطأه
ولحفظك طريقان
أحدهما أن تحفظ بالقلب وتستديمه بالذكر والتكرار كما تحفظ ما جرى على سمعك في
مجاري الأحوال
والثاني أن تكتب كما تسمع وتصحح المكتوب وتحفظه حتى لا تصل إليه يد من يغيره ويكون
حفظك للكتاب معك وفي خزانتك فإنه لو امتدت إليه يد غيرك ربما غيره فإذا لم تحفظه
لم تشعر بتغييره فيكون محفوظا بقلبك أو بكتابك فيكون كتابك مذكرا لما سمعته وتأمن
فيه من التغيير والتحريف
فإذا لم تحفظ لا بالقلب ولا بالكتاب وجرى على سمعك صوت غفل وفارقت المجلس ثم رأيت
نسخة لذلك الشيخ وجوزت أن يكون ما فيه مغيرا أو يفارق حرف منه للنسخة التي سمعتها
لم يجز لك أن تقول سمعت هذا الكتاب فإنك لا تدري لعلك لم تسمع ما فيه بل سمعت شيئا
يخالف ما فيه ولو في كلمة
فإذا لم يكن معك حفظ
بقلبك
ولا نسخة صحيحة استوثقت عليها لتقابل بها فمن أين تعلم أنك سمعت ذلك وقد قال الله
تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقول الشيوخ كلهم في هذا الزمان إنا سمعنا ما في
هذا الكتاب إذا لم يوجد الشرط الذي ذكرناه فهو كذب صريح
وأقل شروط السماع أن يجري الجميع على السمع مع نوع من الحفظ يشعر معه بالتغيير ولو
جاز أن يكتب سماع الصبي والغافل والنائم والذي ينسخ لجاز أن يكتب سماع المجنون
والصبي في المهد ثم إذا بلغ الصبي وأفاق المجنون يسمع عليه ولا خلاف في عدم جوازه
ولو جاز ذلك لجاز أن يكتب سماع الجنين في البطن فإنكان لا يكتب سماع الصبى في
المهد لأنه لا يفهم ولا يحفظ فالصبى الذى لا يلعب والغافل والمشغول بالنسخ عن
السماع ليس بينهم ولا يحفظ وإن استجرأ جاهل فقال يكتب سماع الصبي في المهد فليكتب
سماع الجنين في البطن فإن فرق بينهما بأن الجنين لا يسمع الصوت وهذا يسمع الصوت
فما ينفع هذا وهو إنما ينقل الحديث دون الصوت فليقتصر إذا صار شيخا على أن يقول
سمعت بعد بلوغي أني في صباي حضرت مجلسا يروى فيه حديث كان يقرع سمعي صوته ولا أدري
ما هو فلا خلاف في أن الرواية كذلك لا تصح وما زاد عليه فهو كذب صريح ولو جاز
إثبات سماع التركي الذي لا يفهم العربية لأنه سمع صوتا غفلا لجاز إثبات سماع صبي
في المهد وذلك غاية الجهل
ومن أين يأخذ هذا وهل للسماع مستند إلا قول رسول الله صلى الله عليه و سلم نضر
الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها // حديث نضر الله امرأ سمع مقالتي
فوعاها الحديث أخرجه أصحاب السنن وابن حبان من حديث زيد بن ثابت والترمذي وابن
ماجه من حديث ابن مسعود وقال الترمذي حديث حسن صحيح وابن ماجه فقط من حديث جبير بن
مطعم وأنس
وكيف يؤدي كما سمع من لا يدري ما سمع فهذا أفحش أنواع الغرور
وقد بلي بهذا أهل الزمان ولو اختلط أهل الزمان لم يجدوا شيوخا إلا الذين سمعوه في
الصبا على هذا الوجه مع الغفلة إلا أن للمحدثين في ذلك جاها وقبولا فخاف المساكين
أن يشترطوا ذلك فيقل من يجتمع لذلك في حلقهم فينقص جاههم وتقل أيضا أحاديثهم التي
قد سمعوها بهذا الشرط بل ربما عدموا ذلك وافتضحوا فاصطلحوا على أنه ليس يشترط إلا
أن يقرع سمعه دمدمة وإن كان لا يدري ما يجري وصحة السماع لا تعرف من قول المحدثين
لأنه ليس من علمهم بل من علم علماء الأصول بالفقه وما ذكرناه مقطوع به في قوانين
أصول الفقه فهذا غرور هؤلاء ولو سمعوا على الشرط لكانوا أيضا مغرورين في اقتصارهم
على النقل وإفناء أعمارهم في جمع الروايات والأسانيد وإعراضهم عن مهمات الدين
ومعرفة معاني الأخبار بل الذي يقصد من الحديث سلوك طريق الآخرة وسالك طريقها ربما
يكفيه الحديث الواحد عمره كما روي عن بعض الشيوخ أنه حضر مجلس السماع فكان أول
حديث روى قوله صلى الله عليه و سلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه // حديث
من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه أخرجه الترمذي وقال غريب وابن ماجه من حديث
أبي هريرة وهو عند مالك من رواية علي بن الحسين مرسلا وقد تقدم
فقام وقال يكفيني هذا حتى أفرغ منه ثم أسمع غيره
فهكذا يكون سماع الأكياس الذين يحذرون الغرور
وفرقة أخرى اشتغلوا بعلم النحو واللغة والشعر وغريب اللغة واغتروا به وزعموا أنهم
قد غفر لهم وأنهم من عماد الأمة إذ قوام الدين بالكتاب والسنة وقوام الكتاب والسنة
بعلم اللغة والنحو فأفنى هؤلاء أعمارهم في دقائق النحو وفي صناعة الشعر وفي غريب
اللغة ومثالهم كمن يفني جميع العمر في تعلم الخط وتصحيح الحروف وتحسينها ويزعم أن
العلوم لا يمكن حفظها إلا بالكتابة فلا بد من تعلمها وتصحيحها ولو عقل لعلم أنه
يكفيه أن يتعلم أصل الخط بحيث يمكن أن يقرأ كيفما كان والباقي زيادة على الكفاية
وكذلك الأديب لو عقل لعرف أن لغة العرب كلغة الترك والمضيع عمره في معرفة لغة
العرب كالمضيع له في معرفة لغة الترك والهند وإنما فارقتها لغة
العرب
لأجل ورود الشريعة بها فيكفي من اللغة علم الغريبين في الأحاديث والكتاب ومن النحو
ما يتعلق بالحديث والكتاب فأما التعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فهو فضول مستغنى
عنه ثم لو اقتصر عليه وأعرض عن معرفة معاني الشريعة والعمل بها فهذا أيضا مغرور بل
مثاله مثاله مثال من ضيع عمره في تصحيح مخارج الحروف في القرآن واقتصر عليه وهو
غرور إذ المقصود من الحروف المعاني وإنما الحروف ظروف وأدوات ومن احتاج إلى أن
يشرب السكنجبين ليزول ما به من الصفراء وضيع أوقاته في تحسين القدح الذي يشرب فيه
السكنجبين فهو من الجهال المغرورين فذلك غرور أهل النحو واللغة والأدب والقراءات
والتدقيق في مخارج الحروف مهما تعمقوا فيها وتجردوا لها وعرجوا عليها أكثر مما
يحتاج إليه في تعلم العلوم التي هي فرض عين فاللب الأقصى هو العمل والذي فوقه هو
معرفة العمل وهو كالقشر للعمل وكاللب بالإضافة إلى ما فوقه وما فوقه هو سماع
الألفاظ وحفظها بطريق الرواية وهو قشر بطريق الإضافة إلى المعرفة ولب بالإضافة إلى
ما فوقه وما فوقه هو العلم باللغة والنحو وفوق ذلك وهو القشر الأعلى العلم بمخارج
الحروف والقانعون بهذه الدرجات كلهم مغترون إلا من اتخذ هذه الدرجات منازل فلم
يعرج عليها إلا بقدر حاجته فتجاوز إلى ما وراء ذلك حتى وصل إلى لباب العمل فطالب
بحقيقة العمل قلبه وجوارحه ورجى عمره في حمل النفس عليه وتصحيح الأعمال وتصفيتها
عن الشوائب والآفات
فهذا هو المقصود المخدوم من جملة علوم الشرع وسائر العلوم خدم له ووسائل إليه
وقشور له ومنازل بالإضافة إليه وكل من لم يبلغ المقصد فقد خاب سواء كان في المنزل
القريب أو في المنزل البعيد
وهذه العلوم لما كانت متعلقة بعلوم الشرع اغتر بها أربابها
فأما علم الطب والحساب والصناعات وما يعلم أنه ليس من علوم الشرع فلا يعتقد
أصحابها أنهم ينالون المغفرة بها من حيث إنها علوم فكان الغرور بها أقل من الغرور
بعلوم الشرع لأن العلوم الشرعية مشتركة في أنها محمودة كما يشارك القشر اللب في
كونه محمودا ولكن المحمود منه لعينه هو المنتهى
والثاني محمود للوصول به إلى المقصود الأقصى فمن اتخذ القشر مقصودا وعرج عليه فقد
اغتر به
وفرقة أخرى عظم غرورهم في فن الفقه فظنوا أن حكم العبد بينه وبين الله يتبع حكمه
في مجلس القضاء فوضعوا الحيل في دفع الحقوق وأساءوا تأويل الألفاظ المبهمة واغتروا
بالظواهر وأخطئوا فيها
وهذا من قبيل الخطأ في الفتوى والغرور فيه والخطأ في الفتاوي مما يكثر
ولكن هذا نوع عم الكافة إلا الأكياس منهم فنشير إلى أمثلة فمن ذلك فتواهم بأن
المرأة متى أبرأت من الصدق برئ الزوج بينه وبين الله تعالى وذلك خطأ بل الزوج قد
يسيء إلى الزوجة بحيث يضيق عليها الأمور بسوء الخلق فتضطر إلى طلب الخلاص فتبرئ
الزوج لتتخلص منه فهو إبراء لا على طيبة نفس وقد قال تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه
نفسا فكلوه هنيئا مريئا وطيبة النفس غير طيبة القلب فقد يريد الإنسان بقلبه ما لا
تطيب به نفسه فإنه يريد الحجامة بقلبه ولكن تكرهها نفسه وإنما طيبة النفس أن تسمح
نفسها بالإبراء لا عن ضرورة تقابله حتى إذا رددت بين ضررين اختارت أهونهما فهذه
مصادرة على التحقيق بإكراه الباطن
نعم القاضي في الدنيا لا يطلع على القلوب والأغراض فينظر إلى الأبراء الظاهر وأنها
لم تكره بسبب ظاهر والإكراه الباطن ليس يطلع الخلق عليه ولكن مهما تصدى القاضي
الأكبر في صعيد القيامة للقضاء لم يكن هذا محسوبا ولا مقيدا في تحصيل الإبراء
ولذلك لا يحل أن يؤخذ مال إنسان إلا بطيب نفس منه فلو طلب من الإنسان ما لالا على
ملأ من الناس فاستحيا من الناس أن لا يعطيه وكان يود أن يكون سؤاله في خلوة حتى لا
يعطيه ولكن خاف ألم مذمة الناس وخاف ألم تسليم المال وردد نفسه بينهما
فاختار
أهون الألمين وهو ألم التسليم فسلمه فلا فرق بين هذا وبين المصادرة إذ معنى
المصادرة إيلام البدن بالسوط حتى يصير ذلك أقوى من ألم القلب ببذل المال فيختار
أهون الألمين والسؤال في مظنة الحياء والرياء ضرب للقلب بالسوط ولا فرق بين ضرب
الباطن وضرب الظاهر عند الله تعالى فإن الباطن عند الله تعالى ظاهر وإنما حاكم
الدنيا هو الذي يحكم بالملك بظاهر قوله وهبت لأنه لا يمكنه الوقوف على ما في القلب
وكذلك من يعطي اتقاء لشر لسانه أو لشر سعايته فهو حرام عليه وكذلك كل مال يؤخذ على
هذا الوجه فهو حرام
ألا ترى ما جاء في قصة داود عليه السلام حيث قال بعد أن غفر له يا رب كيف لي بخصمي
فأمر بالاستحلال منه وكان ميتا فأمر بندائه في صخرة بيت المقدس فنادى يا أوريا
فأجابه لبيك يا نبي الله أخرجتني من الجنة فماذا تريد فقال إني أسأت إليك في أمر
فهبه لي قال قد فعلت ذلك يا نبي الله فانصرف وقد ركن إلى ذلك فقال له جبريل عليه
السلام هل ذكرت له ما فعلت قال لا قال فارجع فبين له فرجع فناداه فقال لبيك يا نبي
الله فقال إني أذنبت إليك ذنبا قال ألم أهبه لك قال ألا تسألني ما ذلك الذنب قال
ما هو يا نبي الله قال كذا وكذا وذكر شأن المرأة فانقطع الجواب فقال يا أوريا ألا
تجيبني قال يا نبي الله ما هكذا يفعل الأنبياء حتى أقف معك بين يدي الله فاستقبل
داود البكاء والصراخ من الرأس حتى وعده الله أن يستوهبه منه في الآخرة
فهكذا ينبهك أن الهبة من غير طيبة قلب لا تفيد وأن طيبة القلب لا تحصل إلا
بالمعرفة فكذلك طيبة القلب لا تكون في الإبراء والهبة وغيرهما إلا إذا خلى الإنسان
واختياره حتى تنبعث الدواعي من ذات نفسه لا أن تضطر بواعثه إلى الحركة بالحيل
والإلزام
ومن ذلك هبة الرجل مال الزكاة في آخر الحول من زوجته واتهابه مالها لإسقاط الزكاة
فالفقيه يقول سقطت الزكاة فإن أراد به أن مطالبة السلطان والساعي سقطت عنه فقد صدق
فإن مطمح نظرهم ظاهر الملك وقد زال وإن ظن أنه يسلم في القيامة ويكون كمن لم يملك
المال أو كمن باع لحاجته إلى المبيع لا على هذا القصد فما أعظم جهله بفقه الدين
وسر الزكاة فإن سر الزكاة تطهير القلب عن رذيلة البخل فإن البخل مهلك قال صلى الله
عليه و سلم ثلاث مهلكات شحه مطاع // حديث ثلاث مهلكات الحديث تقدم غير مرة
وإنما صار شح مطاعا بما فعله وقبله لم يكن مطاعا
فقد تم هلاكه بما يظن أن فيه خلاصه فإن الله مطلع على قلبه وحبه المال وحرصه عليه
وأنه بلغ من حرصه على المال أن استنبط الحيل حتى يسد على نفسه طريق الخلاص من
البخل بالجهل والغرور ومن ذلك إباحة الله مال المصالح للفقيه وغيره بقدر الحاجة
والفقهاء المغرورون لا يميزون بين الأماني والفضول والشهوات وبين الحاجات بل كل
مالا تتم رعونتهم إلا به يرونه حاجة وهو محض الغرور بل الدنيا خلقت لحاجة العباد
إليها في العبادة وسلوك طريق الآخرة فكل ما تناوله العبد للاستعانة به على الدين
والعبادة فهو حاجته وما عدا ذلك فهو فضوله وشهوته ولو ذهبنا نصف غرور الفقهاء في
أمثال هذا لملأنا فيه مجلدات والغرض من ذلك التنبيه على أمثلة تعرف الأجناس دون
الاستيعاب فإن ذلك يطول
الصنف الثاني أرباب العبادة والعمل والمغرورون منهم فرق كثيرة فمنهم من غروره في
الصلاة
ومنهم من غروره في تلاوة القرآن
ومنهم في الحج
ومنهم في الغزو
ومنهم في الزهد وكذلك كل مشغول بمنهج من مناهج العمل فليس خاليا عن غرور إلا
الأكياس وقليل ما هم
فمنهم فرقة أهملوا الفرائض واشتغلوا بالفضائل والنوافل وربما تعمقوا في الفضائل
حتى خرجوا إلى العدوان
والسرف
كالذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء فيبالغ فيه ولا يرضى الماء المحكوم بطهارته في
فتوى الشرع ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة في النجاسة وإذا آل الأمر إلى أكل
الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة وربما أكل الحرام المحض ولو انقلب هذا
الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أشبه بسيرة الصحابة إذ توضأ عمر رضي الله عنه
بماء في جرة نصرانية مع ظهور احتمال النجاسة وكان مع هذا يدع أبوابا من الحلال
مخافة من الوقوع في الحرام
ثم من هؤلاء من يخرج إلى الإسراف في صب الماء وذلك منهي عنه // حديث النهي من
الإسراف في الوضوء أخرجه الترمذي وضعه وابن ماجه من حديث أبي بن كعب إن للوضوء
شيطانا يقال له الولهان الحديث وتقدم في عجائب القلب
وقد يطول الأمر حتى يضيع الصلاة ويخرجها عن وقتها وإن لم يخرجها أيضا عن وقتها فهو
مغرور لما فاته من فضيلة أول الوقت وإن لم يفته فهو مغرور لإسرافه في الماء وإن لم
يسرف فهو مغرور لتضييعه العمر الذي هو أعز الأشياء فيما له مندوحة عنه إلا أن
الشيطان يصد الخلق عن الله بطريق سني ولا يقدر على صد العباد إلا بما يخيل إليهم
أنه عبادة فيبعدهم عن الله بمثل ذلك
وفرقة أخرى غلب عليها الوسوسة في نية الصلاة فلا يدعه الشيطان حتى يعقد نية صحيحة
بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة ويخرج الصلاة عن الوقت وإن تم تكبيره فيكون في
قلبه بعد تردد في صحة نيته وقد يوسوسون في التكبير حتى قد يغيرون صيغة التكبير
لشدة الاحتياط فيه يفعلون ذلك في أول الصلاة ثم يغفلون في جميع الصلاة فلا يحضرون
قلوبهم ويغترون بذلك ويظنون أنهم إذا أتعبوا أنفسهم في تصحيح النية في أول الصلاة
وتميزوا عن العامة بهذا الجهد والاحتياط فهم على خير عند ربهم
وفرقة أخرى تغلب عليهم الوسوسة في إخراج حروف الفاتحة وسائر الأذكار من مخارجها
فلا يزال يحتاط في التشديدات والفرق بين الضاد والظاء وتصحيح مخارج الحروف في جميع
صلاته لا يهمه غيره ولا يتفكر فيما سواه ذاهلا عن معنى القرآن والاتعاظ به وصرف
الفهم إلى أسراره
وهذا من أقبح أنواع الغرور فإنه لم يكلف الخلق في تلاوة القرآن من تحقيق مخارج
الحروف إلا بما جرت به عادتهم في الكلام
ومثال هؤلاء مثال من حمل رسالة إلى مجلس سلطان وأمر أن يؤديها على وجهها فأخذ يؤدي
الرسالة ويتأنق في مخارج الحروف ويكررها ويعيدها مرة بعد أخرى وهو في ذلك غافل عن
مقصود الرسالة ومراعاة حرمة المجلس فما أحراه بأن تقام عليه السياسة ويرد إلى دار
المجانين ويحكم عليه بفقد العقل
وفرقة أخرى اغتروا بقراءة القرآن فيهذونه هذا وربما يختمونه في اليوم والليل مرة
ولسان أحدهم يجري به وقلبه يتردد في أودية الأماني إذ لا يتفكر في معاني القرآن
لينزجر بزواجره ويتعظ بمواعظه ويقف عند أوامره ونواهيه ويعتبر بمواضع الاعتبار فيه
إلى غير ذلك مما ذكرناه في كتاب تلاوة القرآن من مقاصد التلاوة فهو مغرور يظن أن
المقصود من إنزال القرآن الهمهمة به مع الغفلة عنه
ومثاله مثال عبد كتب إليه مولاه ومالكه كتابا وأشار عليه فيه بالأوامر والنواهي
فلم يصرف عنايته إلى فهمه والعمل به ولكن اقتصر على حفظه فهو مستمر على خلاف ما
أمره به مولاه إلا أنه يكرر الكتاب بصوته ونغمته كل يوم مائة مرة فهو مستحق
للعقوبة ومهما ظن أن ذلك هو المراد منه فهو مغرور
نعم تلاوته إنما تراد لكيلا ينسى بعد لحفظه وحفظه يراد لمعناه ومعناه يراد للعمل
به والانتفاع بمعانيه وقد يكون له صوت طيب فهو يقرؤه ويلتذ به ويغتر باستلذاذه
ويظن أن ذلك لذة مناجاة الله تعالى وسماع كلامه وإنما هي لذته في صوته
ولو
ردد ألحانه بشعر أو كلام آخر لالتذ به ذلك الالتذاذ فهو مغرور إذ لم يتفقد قلبه
فيعرفه أن لذته بكلام الله تعالى من حيث حسن نظمه ومعانيه أو بصوته
وفرقة أخرى اغتروا بالصوم وربما صاموا الدهر أو صاموا الأيام الشريفة وهم فيها لا
يحفظون ألسنتهم عن الغيبة وخواطرهم عن الرياء وبطونهم عن الحرام عند الإفطار
وألسنتهم عن الهذيان بأنواع الفضول طول النهار وهو مع ذلك يظن بنفسه الخير فيهمل
الفرائض ويطلب النفل ثم لا يقوم بحقه وذلك غاية الغرور
وفرقة أخرى اغتروا بالحج فيخرجون إلى الحج من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون
واسترضاء الوالدين وطلب الزاد الحلال وقد يفعلون ذلك بعد سقوط حجة الإسلام ويضيعون
في الطريق الصلاة والفرائض ويعجزون عن طهارة الثوب والبدن ويتعرضون لمكس الظلمة
حتى يؤخذ منهم ولا يحذرون في الطريق من الرفث والخصام وربما جمع بعضهم الحرام
وأنفقه على الرفقاء في الطريق وهو يطلب به السمعة والرياء فيعصي الله تعالى في كسب
الحرام أولا وفي إنفاقه بالرياء ثانيا فلا هو أخذه من حله ولا هو وضعه في حقه ثم
يحضر البيت بقلب ملوث برذائل الأخلاق وذميم الصفات لم يقدم تطهيره على حضوره وهو
مع ذلك يظن أنه على خير من ربه فهو مغرور
وفرقة أخرى أخذت في طريق الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينكر على الناس
ويأمرهم بالخير وينسى نفسه وإذا أمرهم بالخير عنف وطلب الرياسة والعزة وإذا باشر
منكرا ورد عليه غضب وقال أنا المحتسب فكيف تنكر علي وقد يجمع الناس إلى مسجده ومن
تأخر عنه أغلظ القول عليه وإنما غرضه الرياء والرياسة ولو قام بتعهد المسجد غيره لحرد
عليه بل منهم من يؤذن ويظن أنه يؤذن لله ولو جاء غيره وأذن في وقت غيبته قامت عليه
القيامة وقال لم آخذ حقي وزوحمت على مرتبتي وكذلك قد يتقلد إمامة مسجد ويظن أنه
على خير وإنما غرضه أن يقال إنه إمام مسجد فلو تقدم غيره وإن كان أورع وأعلم منه
ثقل عليه
وفرقة أخرى جاوروا بمكة أو المدينة واغتروا بمكة ولم يراقبوا قلوبهم ولم يطهروا
ظاهرهم وباطنهم فقلوبهم معلقة ببلادهم ملتفتة إلى قول من يعرفه أن فلانا مجاور
بذلك وتراه يتحدى ويقول قد جاورت بمكة كذا كذا سنة وإذا سمع أن ذلك قبيح ترك صريح
التحدي وأحب أن يعرفه الناس بذلك ثم إنه قد يجاور ويمد عين طمعه إلى أوساخ أموال
الناس وإذا جمع من ذلك شيئا شح به وأمسكه لم تسمح نفسه بلقمة يتصدق بها على فقير
فيظهر فيه الرياء والبخل والطمع وجملة من المهلكات كان عنها بمعزل لو ترك المجاورة
ولكن حب المحمدة وأن يقال إنه من المجاورين ألزمه المجاورة مع التضمخ بهذه الرذائل
فهو أيضا مغرور وما من عمل من الأعمال وعبادة من العبادات إلا وفيها آفات فمن لم
يعرف مداخل آفاتها واعتمد عليها فهو مغرور ولا يعرف شرح ذلك إلا من جملة كتب إحياء
علوم الدين فيعرف مداخل الغرور في الصلاة من كتاب الصلاة وفي الحج من كتاب الحج
والزكاة والتلاوة وسائر القربات من الكتب التي رتبناها فيها وإنما الغرض الآن
الإشارة إلى مجامع ما سبق في الكتب
وفرقة أخرى زهدت في المال وقنعت من اللباس والطعام بالدون ومن المسكن بالمساجد
وظنت أنها أدركت رتبة الزهاد وهو مع ذلك راغب في الرياسة والجاه إما بالعلم أو
بالوعظ أو بمجرد الزهد فقد ترك أهون الأمرين وباء بأعظم المهلكين فإن الجاه أعظم
من المال ولو ترك الجاه وأخذ المال كان إلى السلامة أقرب فهذا
مغرور
إذا الظن أنه من الزهاد في الدنيا وهو لم يفهم معنى الدنيا ولم يدر أن منتهى
لذاتها لرياسة وأن الراغب فيها لا بد وأن يكون منافقا وحسودا ومتكبرا ومرائيا
ومتصفا بجميع خبائث الأخلاق
نعم وقد يترك الرياسة ويؤثر الخلوة والعزلة وهو مع ذلك مغرور إذ يتطول بذلك على
الأغنياء ويخشن معهم الكلام وينظر إليهم بعين الاستحقار ويرجو لنفسه أكثر مما يرجو
لهم ويعجب بعمله ويتصف بجملة من خبائث القلوب وهو لا يدري وربما يعطى المال فلا
يأخذه خيفة من أن يقال بطل زهده ولو قيل له إنه حلال فخذه في الظاهر ورده في
الخفية لم تسمح به نفسه خوفا من ذم الناس فهو راغب في حمد الناس وهو من ألذ أبواب
الدنيا ويرى نفسه أنه زاهد في الدنيا وهو مغرور ومع ذلك فربما لا يخلو من توقير
الأغنياء وتقديمهم على الفقراء والميل إلى المريدين له والمثنين عليه والنفرة عن
الماثلين إلى غيره من الزهاد وكل ذلك خدعة وغرور من الشيطان نعوذ بالله منه
وفي العباد من يشدد على نفسه في أعمال الجوارح حتى ربما يصلي في اليوم والليلة
مثلا ألف ركعة ويختم القرآن وهو في جميع ذلك لا يخطر له مراعاة القلب وتفقده
وتطهيره من الرياء والكبر والعجب وسائر المهلكات فلا يدري أن ذلك مهلك وإن علم ذلك
فلا يظن بنفسه ذلك وإن ظن بنفسه ذلك توهم أنه مغفور له لعمله الظاهر وأنه غير
مؤاخذ بأحوال القلب وإن توهم فيظن أن العبادات الظاهرة تترجح بها كفة حسناته
وهيهات وذرة من ذي تقوى وخلق واحد من أخلاق الأكياس أفضل من أمثال الجبال عملا
بالجوارح ثم لا يخلو هذا المغرور مع سوء خلقه مع الناس وخشونته وتلوث باطنه عن
الرياء وحب الثناء فإذا قيل له أنت من أوتاد الأرض وأولياء الله وأحبابه فرح
المغرور بذلك وصدق به وزاده ذلك غرورا وظن أن تزكية الناس له دليل على كونه مرضيا
عند الله ولا يدري أن ذلك لجهل الناس بخبائث باطنه
وفرقة أخرى حرصت على النوافل ولم يعظم اعتدادها بالفرائض ترى أحدهم يفرح بصلاة
الضحى وبصلاة الليل وأمثال هذه النوافل ولا يجد للفريضة لذة ولا يشتد حرصه على
المبادرة بها في أول الوقت وينسى قوله صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عن ربه ما
تقرب المتقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم // حديث ما تقرب المتقربون إلي بمثل
أداء ما افترضت عليهم أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة بلفظ ما تقرب إلي عبدي
وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور
بل قد يتعين في الإنسان فرضان أحدهما يفوت والآخر لا يفوت أو فضلان أحدهما يضيق
وقته والآخر يتسع وقته
فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغرورا
ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى فإن المعصية ظاهرة والطاعة ظاهرة وإنما الغامض تقديم
بعض الطاعات على بعض كتقديم الفرائض كلها على النوافل وتقديم فروض الأعيان على
فروض الكفاية وتقديم فرض كفاية لا قائم به على ما قام به غيره وتقديم الأهم من
فروض الأعيان على ما دونه وتقديم ما يفوت على مالا يفوت وهذا كما يجب تقديم حاجة
الوالدة على حاجة الوالد إذ سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل له من أبر يا
رسول الله قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أباك قال ثم
من قال أدناك فأدناك // حديث من أبر قال أمك الحديث أخرجه الترمذي والحاكم وصححه
من حديث زيد بن حكيم عن أبيه عن جده وقد تقدم في آداب الصحة
فينبغي أن يبدأ في الصلة بالأقرب فإن استويا فبالأحوج فإن استويا فبالأتقى والأورع
وكذلك من لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج فربما يحج وهو مغرور بل ينبغي أن يقدم
حقهما على الحج وهذا من تقديم فرض أهم من فرض هو دونه
وكذلك إذا كان على العبد ميعاد ودخل وقت الجمعة فالجمعة تفوت والاشتغال
بالوفاء
بالوعد معصية وإن كان هو طاعة في نفسه
وكذلك قد تصيب ثوبه النجاسة فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك فالنجاسة محذورة
وإيذاؤهما محذور والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة
وأمثلة تقابل المحذورات والطاعات لا تنحصر
ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور
وهذا غرور في غاية الغموض لأن المغرور فيه في طاعة إلا أنه لا يفطن لصيرورة الطاعة
معصية حيث ترك بها طاعة واجبة هي أهم منها
ومن جملته الاشتغال بالمذهب والخلاف من الفقه في حق من بقي عليه شغل من الطاعات
والمعاصي الظاهرة والباطنة المتعلقة بالجوارح والمتعلقة بالقلب لأن مقصود الفقه
معرفة ما يحتاج إليه غيره في حوائجه
فمعرفة ما يحتاج هو إليه في قلبه أولى به إلا أن حب الرياسة والجاه ولذة المباهاة
وقهر الأقران والتقدم عليهم يعمي عليه حتى يغتر به مع نفسه ويظن أنه مشغول بهم
دينه
الصنف الثالث المتصوفة وما أغلب الغرور عليهم والمغترون منهم فرق كثيرة
ففرقة منهم وهم متصوفة أهل الزمان إلا من عصمه الله اغتروا بالزي والهيئة والمنطق
فساعدوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم وفي ألفاظهم وفي آدابهم ومراسمهم
واصطلاحاتهم وفي أحوالهم الظاهرة في السماع والرقص والطهارة والصلاة والجلوس على
السجادات مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب كالمتفكر وفي تنفس الصعداء وفي خفض
الصوت في الحديث إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات فلما تكلفوا هذه الأمور وتشبهوا
بهم فيها ظنوا أنهم أيضا صوفية ولم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة
القلب وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية وكل ذلك من أوائل منازل
التصوف ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم في الصوفية كيف ولم
يحوموا قط حولها ولم يسوموا أنفسهم شيئا منها بل يتكالبون على الحرام والشبهات
وأموال السلاطين ويتنافسون في الرغيف والفلس والحبة ويتحاسدون على النقير والقطمير
ويمزق بضعهم أعراض بعض مهما خالفه في شيء من غرضه
وهؤلاء غرورهم ظاهر ومثالهم مثال امرأة عجوز سمعت أن الشجعان والأبطال من
المقاتلين ثبت أسماؤهم في الديوان ويقطع لكل واحد منهم قطر من أقطار المملكة فتاقت
نفسها إلى أن يقطع لها مملكة فلبست درعا ووضعت على رأسها مغفرا وتعلمت من رجز
الأبطال أبياتا وتعودت إيراد تلك الأبيات بنغماتهم حتى تيسرت عليها وتعلمت كيفية
تبخترهم في الميدان وكيف تحريلم بالأيدي وتلقفت جميع شمائلهم في الزي والمنطق
والحركات والسكنات ثم توجهت إلى المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشجعان فلما وصلت
إلى المعسكر أنفذت إلى ديوان العرض وأمر بأن تجرد عن المغفر والدرع وينظر ما تحته
وتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر عنائها في الشجاعة فلما جردت عن المغفر
والدرع فإذا هي عجوز ضعيفة زمنة لا تطيق حمل الدرع والمغفر فقيل لها أجئت
للاستهزاء بالملك وللاستخفاف بأهل حضرته والتلبيس عليهم خذوها فألقوها قدام الفيل
لسخفها فألقيت إلى الفيل
فكهذا يكون حال المدعين للتصوف في القيامة إذا كشف عنهم الغطاء وعرضوا على القاضي
إلا كبر الذي لا ينظر إلى الزي والمرقع بل إلى القلب
وفرقة أخرى زادت على هؤلاء في الغرور إذ شق عليها الاقتداء بهم في بذاذة الثياب
والرضا بالدون فأرادت أن تتظاهر بالتصوف ولم تجد بدا من التزين بزيهم فتركوا
الحرير والإبريسم وطلبوا المرقعات النفيسة والفوط الرقيقة والسجادات المصبغة
ولبسوا من الثياب ما هو أرفع من الحرير والإبريسم وظن أحدهم مع ذلك أنه متصوف
بمجرد لون الثوب وكونه مرقعا ونسي أنهم إنما لونوا الثياب لئلا يطول عليهم غسلها
كل ساعة
لإزالة
الوسخ وإنما لبسوا المرقعات إذ كانت ثيابهم مخرقة فكانوا يرقعونها ولا يلبسون
الجديد فأما تقطيع الفوط الرقيقة قطعة قطعة وخياطة المرقعات منها فمن أي يشبه ما
اعتادوه فهؤلاء أظهر حماقة من كافة المغرورين فإنهم يتنعمون بنفيس الثياب ولذيذ
الأطعمة ويطلبون رغد العيش ويأكلون أموال السلاطين ولا يجتنبون المعاصي الظاهرة
فضلا عن الباطنة وهم مع ذلك يظنون بأنفسهم الخير وشر هؤلاء مما يتعدى إلى الخلق إذ
يهلك من يقتدي بهم ومن لا يقتدي بهم تفسد عقيدته في أهل التصوف كافة ويظن أن
جميعهم كانوا من جنسه فيطول اللسان في الصادقين منهم وكل ذلك من شؤم المتشبهين
وشرهم
وفرقة أخرى ادعت علم المعرفة ومشاهدة الحق ومجاوزة المقامات والأحوال والملازمة في
عين الشهود والوصول إلى القرب ولا يعرف هذه الأمور إلا بالأسامي والألفاظ لأنه
تلقف من ألفاظ الطامات كلمات فهو يرددها ويظن أن ذلك أعلى من علم الأولين والآخرين
فهو ينظر إلى الفقهاء والمفسرين والمحدثين وأصناف العلماء بعين الإزراء فضلا عن
العوام حتى إن الفلاح ليترك فلاحته والحائك يترك حياكته ويلازمهم أياما معدودة
ويتلقف منهم تلك الكلمات المزيفة فيرددها كأنه يتكلم عن الوحي ويخبر عن سر الأسرار
ويستحقر بذلك جميع العباد والعلماء فيقول في العباد إنهم أجراء متعبون ويقول في
العلماء إنهم بالحديث عن الله محجوبون ويدعي لنفسه أنه الواصل إلى الحق وأنه من
المقربين وهو عند الله من الفجار المنافقين وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين
لم يحكم قط علما ولم يهذب خلقا ولم يرتب عملا ولم يراقب قلبا سوى اتباع الهوى
وتلقف الهذيان وحفظه
وفرقة أخرى وقعت في الإباحة وطووا بساط الشرع ورفضوا الأحكام وسووا بين الحلال
والحرام فبعضهم يزعم أن الله مستغن عن عملي فلم أتعب نفسي وبعضهم يقول قد كلف
الناس تطهير القلوب عن الشهوات وعن حب الدنيا وذلك محال فقد كلفوا ما لا يمكن
وإنما يغتر به من لم يجرب وأما نحن فقد جربنا وأدركنا أن ذلك محال
ولا يعلم الأحمق أن الناس لم يكلفوا قلع الشهوة والغضب من أصلهما بل إنما كلفوا
قلع مادتهما بحيث ينقاد كل واحد منهما لحكم العقل والشرع
وبعضهم يقول الأعمال بالجوارح لا وزن لها وإنما النظر إلى القلوب وقلوبنا والهة
بحب الله وواصلة إلى معرفة الله وإنما نخوض في الدنيا بأبداننا وقلوبنا عاكفة في
حضرة الربوبية فنحن مع الشهوات بالظواهر لا بالقلوب ويزعمون إنهم قد ترقوا عن رتبة
العوام واستغنوا عن تهذيب النفس بالأعمال البدنية وأن الشهوات لا تصدهم عن طريق
الله لقوتهم فيها ويرفعون درجة أنفسهم على درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ
كانت تصدهم عن طريق الله خطيئة واحدة حتى كانوا يبكون عليها وينوحون سنين متوالية
وأصناف غرور أهل الإباحة من المتشبهين بالصوفية لا تحصى وكل ذلك بناء على أغاليط
ووساوس يخدعهم الشيطان بها لاشتغالهم بالمجاهدة قبل إحكام العلم ومن غير اقتداء
بشيخ متقن في الدين والعلم صالح للاقتداء به وإحصاء أصنافهم يطول
وفرقة أخرى جاوزت حد هؤلاء واجتنبت الأعمال وطلقت الحلال واشتغلت بتفقد القلب وصار
أحدهم يدعي المقامات من الزهد والتوكل والرضا والحب من غير وقوف على حقيقة هذه
المقامات وشروطها وعلاماتها وآفاتها فمنهم من يدعي الوجد والحب لله تعالى ويزعم
أنه واله بالله ولعله قد تخيل في الله خيالات هي بدعة أو كفر فيدعي حب الله قبل
معرفته ثم إنه لا يخلوا عن مقارفة ما يكره الله عز و جل وعن إيثار هوى نفسه على
أمر الله وعن ترك بعض الأمور حياءا من الخلق ولو خلا لما تركه حياءا من الله تعالى
وليس يدري أكل ذلك يناقض
الحب
وبعضهم ربما يميل إلى القناعة والتوكل فيخوض البوادي من غير زاد ليصحح دعوى التوكل
وليس يدري أن ذلك بدعة لم تنقل عن السلف والصحابة وقد كانوا أعرف بالتوكل منه فما
فهموا أن التوكل المخاطرة بالروح وترك الزاد بل كانوا يأخذون الزاد وهم متوكلون
على الله تعالى لا على الزاد وهذا ربما يترك الزاد وهو متوكل على سبب من الأسباب
واثق به وما من مقام من المقامات المنجيات إلا وفيه غرور وقد اغتر به قوم وقد
ذكرنا مداخل الآفات في ربع المنجيات من الكتاب فلا يمكن إعادتها
وفرقة أخرى ضيقت على نفسها في أمر القوت حتى طلبت منه الحلال الخالص وأهملوا تفقد
القلب والجوارح في غير هذه الخصلة الواحدة ومنهم من أهمل الحلال في مطعمه وملبسه
ومسكنه وأخذ يتعمق في غير ذلك وليس يدري المسكين أن الله تعالى لم يرض من عبد بطلب
الحلال فقط ولا يرضى بسائر الأعمال دون طلب الحلال بل لا يرضيه إلا تفقد جميع
الطاعات والمعاصي
فمن ظن أن بعض هذه الأمور يكفيه وينجيه فهو مغرور
وفرقة أخرى ادعوا حسن الخلق والتواضع والسماحة فتصدوا لخدمة الصوفية فجمعوا قوما
وتكلفوا بخدمتهم واتخذوا ذلك للرياسة وجمع المال وإنما غرضهم التكبر وهم يظهرون
الخدمة والتواضع وغرضهم الارتفاع وهم يظهرون أن غرضهم الإرفاق وغرضهم الاستتباع
وهم يظهرون أن غرضهم الخدمة والتبعية ثم إنهم يجمعون من الحرام والشبهات وينفقون
عليهم لتكثر أتباعهم وينشر بالخدمة اسمهم وبعضهم يأخذ أموال السلاطين ينفق عليهم
وبعضهم يأخذها لينفق في طريق الحج على الصوفية ويزعم أن غرضه البر والإنفاق وباعث
جميعهم الرياء والسمعة وآية ذلك إهمالهم لجميع أوامر الله تعالى عليهم ظاهرا
وباطنا ورضاهم بأخذ الحرام والإنفاق منه
ومثال من ينفق الحرام في طريق الحج لإرادة الخير كمن يعمر مساجد الله فيطينها
بالعذرة ويزعم أن قصده العمارة
وفرقة أخرى اشتغلوا بالمجاهدة وتهذيب الأخلاق وتطهير النفس من عيوبها وصاروا
يتعمقون فيها فاتخذوا البحث عن عيوب النفس ومعرفة خدعها علما وحرفة فهم في جميع
أحوالهم مشغولون بالفحص عن عيوب النفس واستنباط دقيق الكلام في آفاتها فيقولون هذا
في النفس عيب والغفلة عن كونه عيبا عيب والالتفات إلى كونه عيبا عيب ويشغفون فيه
بكلمات مسلسلة تضيع الأوقات في تلفيقها ومن جعل طول عمره في التفتيش عن عيوب النفس
وتحرير علم علاجها كان كمن اشتغل بالتفتيش عن عوائق الحج وآفاته ولم يسلك طريق
الحج فذلك لا يغنيه
وفرقة أخرى جاوزوا هذه الرتبة وابتدءوا سلوك الطريق وانفتح لهم أبواب المعرفة
فكلما تشمموا من مبادئ المعرفة رائحة تعجبوا منها وفرحوا بها وأعجبتهم غرابتها
فتقيدت قلوبهم بالالتفات إليها والتفكر فيها وفي كيفية انفتاح بابها عليهم وانسداده
على غيرهم وكل ذلك غرور لأن عجائب طريق الله ليس لها نهاية فلو وقف مع كل أعجوبة
وتقيد بها قصرت خطاه وحرم الوصول إلى المقصد وكان مثاله مثال من قصد ملكا فرأى على
باب ميدانه روضة فيها أزهار وأنوار لم يكن قد رأى قبل ذلك مثلها فوقف ينظر إليها
ويتعجب حتى فاته الوقت الذي يمكن فيه لقاء الملك
وفرقة أخرى جاوزوا هؤلاء ولم يلتفتوا إلى ما يفيض عليهم من الأنوار في الطريق ولا
إلى ما تيسر لهم من العطايا الجزيلة ولم يعرجوا على الفرح بها والالتفات إليها
جادين في السير حتى قاربوا فوصلوا إلى حد القربة إلى الله تعالى فظنوا أنهم قد
وصلوا إلى الله فوقفوا وغلطوا فإن لله تعالى سبعين حجابا من نور لا يصل السالك إلى
حجاب من تلك الحجب في الطريق إلا ويظن أنه قد وصل
وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام إذ قال الله تعالى
إخبارا
عنه فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي وليس المعنى به هذه الأجسام المضيئة
فإنه كان يراها في الصغر ويعلم أنها ليست آلهة وهي كثيرة وليست واحدا والجهال
يعلمون أن الكوكب ليس بإله فمثل إبراهيم عليه السلام لا يغره الكوكب الذي لا يغر
السوادية
ولكن المراد به أنه نور من الأنوار التي هي من حجب الله عز و جل وهي على طريق
السالكين ولا يتصور الوصول إلى الله تعالى إلا بالوصول إلى هذه الحجب وهي حجب من
نور بعضها أكبر من بعض وأصغر النيرات الكوكب فاستعير له لفظه وأعظمها الشمس
وبينهما رتبة القمر فلم يزل إبراهيم عليه السلام لما رأى ملكوت السموات حيث قال
تعالى وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض يصل إلى نور بعد نور ويتخيل إليه في
أول ما كان يلقاه أنه قد وصل ثم كان يكشف له أن وراءه أمرا فيترقى إليه ويقول قد
وصلت فيكشف له ما وراءه حتى وصل إلى الحجاب الأقرب الذي لا وصول إلا بعده فقال هذا
أكبر فلما ظهر له أنه مع عظمه غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة
الكمال قال لا أحب الآفلين إلى أن قال إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض
وسالك هذه الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب وقد يغتر بالحجاب الأول
وأول الحجب بين الله وبين العبد هو نفسه فإنه أيضا أمر رباني وهو نور من أنوار
الله تعالى أعني سر القلب الذي تتجلى فيه حقيقة الحق كله حتى إنه ليتسع لجملة
العالم ويحيط به وتتجلى فيه صورة الكل وعند ذلك يشرق نوره إشراقا عظيما إذ يظهر
فيه الوجود كله على ما هو عليه وهو في أول الأمر محجوب بمشكاة هي كالساتر له فإذا
تجلى نوره وانكشف جمال القلب بعد إشراق نور الله عليه ربما التفت صاحب القلب إلى
القلب فيرى من جماله الفائق ما يدهشه وربما يسبق لسانه في هذه الدهشة فيقول أنا
الحق فإنه لم يتضح له ما وراء ذلك اغتر به ووقف عليه وهلك وكان قد اغتر بكوكب صغير
من أنوار الحضرة الإلهية ولم يصل بعد إلى القمر فضلا عن الشمس فهو مغرور وهذا محل
الالتباس إذا المتجلى يلتبس بالمتجلى فيه كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة
بالمرآة فيظن أنه لون المرآة وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج كما قيل
رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح فرأوا إشراق نور الله قد تلألأ فيه فغلطوا فيه
كمن يرى كوكبا في مرآة أو في ماء فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء فيمد يده
إليه ليأخذه وهو مغرور وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله تعالى لا تحصى في مجلدات
ولا تستقصى إلا بعد شرح جميع علوم المكاشفة وذلك مما لا رخصة في ذكره ولعل القدر
الذي ذكرناه أيضا كان الأولى تركه إذ السالك لهذا الطريق لا يحتاج إلى أن يسمعه من
غيره والذي لم يسلكه لا ينتفع بسماعه بل ربما يستضر به إذ يورثه ذلك دهشة من حيث
يسمع ما لا يفهم ولكن فيه فائدة وهو إخراجه من الغرور الذي هو فيه بل ربما يصدق
بأن الأمر أعظم مما يظنه ومما يتخيله بذهنه المختصر وخياله القاصر وجدله المزخرف
ويصدق أيضا بما يحكى له من المكاشفات التي أخبر عنها أولياء الله ومن عظم غروره
ربما أصر مكذبا بما يسمعه الآن كما يكذب بما سمعه من قبل
الصنف الرابع أرباب الأموال والمغترون منهم فرق
ففرقة منهم يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس
كافة ويكتبون أساميهم بالآجر عليها ليتخلد ذكرهم ويبقى بعد الموت أثرهم وهم يظنون
أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك
وقد اغتروا فيه من وجهين
أحدهما
أنهم يبنونها من أموال اكتسبوها من الظلم والنهب والرشا والجهات المحظورة فهم قد
تعرضوا لسخط الله في كسبها وتعرضوا لسخطه في إنفاقها وكان الواجب عليهم الامتناع
عن كسبها فإذن قد عصوا الله بكسبها فالواجب عليهم التوبة والرجوع إلى الله وردها
إلى ملاكها إما بأعيانها وإما برد بدلها عند العجز فإن عجزوا عن الملاك كان الواجب
ردها إلى الورثة فإن لم يبق للمظلوم وارث فالواجب صرفها إلى أهم المصالح وربما
يكون الأهم التفرقة على المساكين وهم لا يفعلون ذلك خيفة من أن لا يظهر ذلك للناس
فيبنون الأبنية بالآجر وغرضهم من بنائها الرياء وجلب الثناء وحرصهم على بقائها
لبقاء أسمائهم المكتوبة فيها لا لبقاء الخير
والوجه الثاني أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير في الإنفاق على الأبنية ولو
كلف واحد منهم أن ينفق دينارا ولا يكتب اسمه على الموضع الذي أنفق عليه لشق عليه
ذلك ولم تسمح به نفسه والله مطلع عليه كتب اسمه أو لم يكتب ولولا أنه يريد به وجه
الناس لا وجه الله لما افتقر إلى ذلك
وفرقة أخرى ربما اكتسبت المال من الحلال وأنفقت على المساجد وهي أيضا مغرورة من
وجهين
أحدهما
الرياء وطلب الثناء فإنه ربما يكون في جواره أو بلده فقراء وصرف المال إليهم أهم
وأفضل وأولى من الصرف إلى بناء المساجد وزينتها وإنما يخف عليهم الصرف إلى المساجد
ليظهر ذلك بين الناس
والثاني أنه يصرف إلى زخرفة المسجد وتزيينه بالنقوش التي هي منهي عنها وشاغلة قلوب
المصلين ومختطفة أبصارهم // حديث النهي عن زخرفة المساجد وتزيينها بالنقوش أخرجه
البخاري من قول عمر بن الخطاب أكن الناس ولا تحمر ولا تصفر
والمقصود من الصلاة الخشوع وحضور القلب وذلك يفسد قلوب المصلين ويحبط ثوابهم بذلك
ووبال ذلك كله يرجع إليه وهو مع ذلك يغتر به ويرى أنه من الخيرات ويعد ذلك وسيلة إلى
الله تعالى وهو مع ذلك قد تعرض لسخط الله تعالى وهو يظن أنه مطيع له وممتثل لأمره
وقد شوش قلوب عباد الله بما زخرفه من المسجد وربما شوقهم به إلى زخارف الدنيا
فيشتهون مثل ذلك في بيوتهم ويشتغلون بطلبه ووبال ذلك كله في رقبته إذ المسجد
للتواضع ولحضور القلب مع الله تعالى
قال مالك بن دينار أتى رجلان مسجدا فوقف أحدهما على الباب وقال مثلي لا يدخل بيت
الله فكتبه الملكان عند الله صديقا
فهكذا ينبغي أن تعظم المساجد وهو أن يرى تلويث المسجد بدخوله فيه بنفسه جناية على
المسجد لا أن يرى تلويث المسجد بالحرام أو بزخرف الدنيا منة على الله تعالى
وقال الحواريون للمسيح عليه السلام انظر إلى هذا المسجد ما أحسنه فقال أمتي أمتي
بحق أقول لكم لا يترك الله من هذا المسجد حجرا قائما على حجر إلا أهلكه بذنوب أهله
إن الله لا يعبأ بالذهب والفضة ولا بهذه الحجارة التي تعجبكم شيئا وإن أحب الأشياء
إلى الله تعالى القلوب الصالحة بها يعمر الله الأرض وبها يخرب إذا كانت على غير
ذلك وقال أبو الدرداء قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا زخرفتم مساجدكم
وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم // حديث إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار
عليكم أخرجه ابن المبارك في الزهد وأبو بكر ابن أبي داود في كتاب المصاحف موقوفا
على أبي الدرداء
وقال الحسن إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما أراد أن يبني مسجد المدينة أتاه
جبريل عليه السلام فقال له ابنه سبعة أذرع طولا في السماء لا تزخرفه ولا تنقشه //
حديث الحسن مرسلا لما أراد أن يبني مسجد المدينة أتاه جبريل فقال ابنه سبعة أذرع
طولا في السماء ولا تزخرفه ولا تنقشه لم أجده
فغرور هذا من حيث أنه رأى المنكر واتكل عليه
وفرقة أخرى ينفقون الأموال في الصدقات على الفقراء والمساكين ويطلبون به المحافل
الجامعة ومن
الفقراء
من عادته الشكر والإفشاء للمعروف ويكرهون التصدق في السر ويرون إخفاء الفقير لما
يأخذ منهم جناية عليهم وكفرانا وربما يحرصون على إنفاق المال في الحج فيحجون مرة
بعد أخرى وربما تركوا جيرانهم جياعا ولذلك قال ابن مسعود في آخر الزمان يكثر الحاج
بلا سبب يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الزرق ويرجعون محرومين مسلوبين يهوي بأحدهم
بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور إلى جنبه لا يواسيه
وقال أبو نصر التمار إن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث وقال قد عزمت على الحج
فتأمرني بشيء فقال له كم أعددت للنفقة فقال ألفي درهم
قال بشر فأي شئ تبتغي بحجك تزهدا أو اشتياقا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله قال
ابتغاء مرضاة الله قال فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم
وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك قال نعم قال اذهب فأعطها عشرة أنفس
مديون يقضي دينه وفقير يرم شعثه ومعيل يغني عياله ومربي يتيم يفرحه وإن قوي قلبك
تعطيها واحدا فافعل فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر
وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل
لنا ما في قلبك فقال يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه
وقال له المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرا
فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين
وفرقة أخرى من أرباب الأموال اشتغلوا بها يحفظون الأموال ويمسكونها بحكم البخل ثم
يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة كصيام النهار وقيام الليل
وختم القرآن وهم مغرورون لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم فهو يحتاج إلى
قمعه بإخراج المال فقد اشتغل بطلب فضائل هو مستغن عنها ومثاله مثال من دخل في ثوبه
حية وقد أشرف على الهلاك وهو مشغول بطبخ السكنجبين ليسكن به الصفراء ومن قتلته
الحية متى يحتاج إلى السكنجبين ولذلك قيل لبشر إن فلانا الغني كثير الصوم والصلاة
فقال المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياع
والإنفاق على المساكين فهذا أفضل له من تجويعه نفسه ومن صلاته لنفسه من جمعه
للدنيا ومنعه للفقراء
وفرقة أخرى غلبهم البخل فلا تسمح نفوسهم إلا بأداء الزكاة فقط ثم إنهم يخرجون من
المال الخبيث الرديء الذي يرغبون عنه ويطلبون من الفقراء من يخدمهم ويتردد في
حاجاتهم ومن يحتاجون إليه في المستقبل للاستسخار في خدمة أو من لهم فيه على الجملة
غرض أو يسلمون ذلك إلى من يعينه واحد من الأكابر ممن يستظهر بحشمه لينال بذلك عنده
منزلة فيقوم بحاجاته
وكل ذلك مفسدات للنية ومحبطات للعمل وصاحبه مغرور ويظن أنه مطيع لله تعالى وهو
فاجر إذ طلب بعبادة الله عوضا من غيره فهذا وأمثاله من غرور أصحاب الأموال أيضا لا
يحصى وإنما ذكرنا هذا القدر للتنبيه على أجناس الغرور
وفرقة أخرى من عوام الخلق وأرباب الأموال والفقراء اغتروا بحضور مجالس الذكر
واعتقدوا أن ذلك يغنيهم ويكفيهم واتخذوا ذلك عادة ويظنون أن لهم على مجرد سماع
الوعظ دون العمل ودون الاتعاظ أجرا وهم مغرورون لأن فضل مجلس الذكر لكونه مرغبا في
الخير فإن لم يهيج الرغبة فلا خير فيه والرغبة محمودة لأنها تبعث على العمل فإن
ضعفت عن الحمل على العمل فلا خير فيها وما يراد لغيره فإذا قصر عن الأداء إلى ذلك
الغير فلا قيمة له وربما يغتر بما يسمعه من الواعظ من فضل حضور المجلس وفضل البكاء
وربما تدخله رقة كرقة
النساء
فيبكي ولا عزم وربما يسمع كلاما مخوفا فلا يزيد على أن يصفق بيديه ويقول يا سلام
سلم أو نعوذ بالله أو سبحان الله ويظن أنه قد أتى بالخير كله وهو مغرور
وإنما مثاله مثال المريض الذي يحضر مجالس الأطباء فيسمع ما يجري أو الجائع الذي
يحضر عنده من يصف له الأطعمة اللذيذة الشهية ثم ينصرف وذلك لا يغني عنه من مرضه
وجوعه شيئا
فكذلك سماع وصف الطاعات دون العمل بها لا يغني من الله شيئا
فكل وعظ لم يغير منك صفة تغييرا يغير أفعالك حتى تقبل على الله إقبالا قويا أو
ضعيفا وتعرض عن الدنيا فذلك الوعظ زيادة حجة عليك فإذا رأيته وسيلة لك كنت مغرورا
فإن قلت فما ذكرته من مداخل الغرور أمر لا يتخلص منه أحد ولا يمكن الاحتراز منه
وهذا يوجب اليأس إذ لا يقوى أحد من البشر على الحذر من خفايا هذه الآفات فأقول
الإنسان إذا افترقت همته في شيء أظهر اليأس منه واستعظم الأمر واستوعر الطريق وإذا
صح منه الهوى اهتدى إلى الحيل واستنبط بدقيق النظر خفايا الطرق في الوصول إلى
الغرض حتى إن الإنسان إذا أراد أن يستنزل الطير المحلق في جو السماء مع بعده منه
استنزله وإذا أراد أن يخرج الحوت من أعماق البحر استخرجه وإذا أراد أن يستخرج
الذهب أو الفضة من تحت الجبال استخرجه وإذا أراد أن يقنص الوحوش المطلقة في
البراري والصحاري اقتنصها وإذا أراد أن يستسخر السباع والفيلة وعظيم الحيوانات
استسخرها وإذا أراد أن يأخذ الحيات والأفاعي ويعبث بها أخذها واستخرج الدرياق من
أجوافها وإذا أراد أن يتخذ الديباج الملون المنقش من ورق التوت اتخذه وإذا أراد أن
يعرف مقادير الكواكب وطولها وعرضها استخراج بدقيق الهندسة ذلك وهو مستقر على الأرض
وكل ذلك باستنباط الحيل وإعداد الآلات فسخر الفرس للركوب والكلب للصيد وسخر البازي
لاقتناص الطيور وهيأ الشبكة لاصطياد السمك إلى غير ذلك من دقائق حيل الآدمي
كل ذلك لأن همه أمر دنياه وذلك معين له على دنياه فلو همه أمر آخرته فليس عليه إلا
شغل واحد وهو تقويم قلبه فعجز عن تقويم قلبه وتخاذل وقال هذا محال ومن الذي يقدر
عليه وليس ذلك بمحال لو أصبح وهمه هذا الهم الواحد بل هو كما يقال لو صح منك الهوى
أرشدت للحيل فهذا شيء لم يعجز عنه السلف الصالحون ومن اتبعهم بإحسان
فلا يعجز عنه أيضا من صدقت إرادته وقويت همته بل لا يحتاج إلى عشر تعب الخلق في
استنباط حيل الدنيا ونظم أسبابها
فإن قلت قد قربت الأمر فيه مع أنك أكثرت في ذكر مداخل الغرور فبم ينجو العبد من
الغرور فاعلم أنه ينجو منه بثلاثة أمور بالفعل والعلم والمعرفة
فهذه ثلاثة أمور لا بد منها
أما العقل فأعني به الفطرة الغريزية والنور الأصلي الذي به يدرك الإنسان حقائق
الأشياء فالفطنة والكيس فطرة والحمق والبلادة فطرة والبليد لا يقدر على التحفظ عن
الغرور فصفاء العقل وذكاء الفهم لا بد منه في أصل الفطرة فهذا إن لم يفطر عليه
الإنسان فاكتسابه غير ممكن
نعم إذا حصل أصله أمكن تقويته بالممارسة فأساس السعادات كلها العقل والكياسة قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم تبارك الله الذي قسم العقل بين عباده أشتاتا //
حديث تبارك الذي قسم العقل بين عباده الحديث أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول
من رواية طاوس مرسلا وفي أوله قصة وإسناده ضعيف ورواه بنحوه من حديث أبي حميد وهو
ضعيف أيضا
إن الرجلان ليستوي عملهما وبرهما وصومهما وصلاتهما ولكنهما يتفاوتان في العقل
كالذرة في جنب أحد وما قسم الله لخلقه حظا أفضل من العقل واليقين
وعن أبي الدرداء أنه قيل يا رسول الله أرأيت الرجل يصوم النهار ويقوم الليل ويحج
ويعتمر ويتصدق
ويغزو
في سبيل الله ويعود المريض ويشيع الجنائز ويعين الضعيف ولا يعلم منزلته عند الله
يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما يجزى على قدر عقله // حديث
أبي الدرداء أرأيت الرجل يصوم النهار ويقوم الليل الحديث وفيه إنما يجزى على قدر
عقله أخرجه الخطيب في التاريخ وفي أسماء من روى عن مالك من حديث ابن عمر وضعفه ولم
أره من حديث أبي الدرداء
وقال أنس أثني على رجل عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا خيرا فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم كيف عقله قالوا يا رسول الله نقول من عبادته وفضله وخلقه
فقال كيف عقله فإن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر
وإنما يقرب الناس يوم القيامة على قدر عقولهم // حديث أنس أثني على رجل عند النبي
صلى الله عليه و سلم فقال كيف عقله الحديث أخرجه داود بن المحبر في كتاب العقل وهو
ضعيف وتقدم في العلم
وقال أبو الدرداء كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا بلغه عن رجل شدة عبادة
سأل عن عقله فإذا قالوا حسن قال أرجوه وإن قالوا كان غير ذلك قال لن يبلغ // حديث
أبي الدرداء كان إذا بلغه عن رجل شدة عبادة سأل عن عقله الحديث أخرجه الترمذي
الحكيم في النوادر وابن عدي ومن طريقه البيهقي في الشعب وضعفه
وذكر له شدة عبادة رجل فقال كيف عقله قالوا ليس بشيء قال لن يبلغ صاحبكم حيث تظنون
فالذكاء صحيح وغريزة العقل نعمة من الله تعالى في أصل الفطرة فإن فاتت ببلادة
وحماقة فلا تدارك لها
الثاني المعرفة وأعني بالمعرفة أن يعرف أربعة أمور يعرف نفسه ويعرف ربه ويعرف
الدنيا ويعرف الآخرة فيعرف نفسه بالعبودية والذل وبكونه غريبا في هذا العالم
وأجنبيا من هذه الشهوات البهيمية وإنما الموافق له طبعا هو معرفة الله تعالى
والنظر إلى وجهه فقط فلا يتصور أن يعرف هذا ما لم يعرف نفسه ولم يعرف ربه فليستعن
على هذا بما ذكرناه في كتاب المحبة وفي كتاب شرح عجائب القلب وكتاب التفكر وكتاب
الشكر إذ فيها إشارات إلى وصف النفس وإلى وصف جلال الله ويحصل به التنبه على
الجملة وكمال المعرفة وراءه فإن هذا من علوم المكاشفة ولم نطنب في هذا الكتاب إلا
في علوم المعاملة
وأما معرفة الدنيا والآخرة فيستعين عليها بما ذكرنا في كتاب ذم الدنيا وكتاب ذكر
الموت ليتبين له أن لا نسبة للدنيا إلى الآخرة فإذا عرف نفسه وربه وعرف الدنيا
والآخرة ثار من قلبه بمعرفة الله حب الله وبمعرفة الآخرة شدة الرغبة فيها وبمعرفة
الدنيا الرغبة عنها ويصير أهم أموره ما يوصله إلى الله تعالى وينفعه في الآخرة
وإذا غلبت هذه الإرادة على قلبه صحت نيته في الأمور كلها فإن أكل مثلا أو اشتغل
بقضاء الحاجة كان قصده منه الاستعانة على سلوك طريق الآخرة
وصحت نيته واندفع عنه كل غرور منشؤه تجاذب الأغراض والنزوع إلى الدنيا والجاه
والمال فإن ذلك هو المفسد للنية
وما دامت الدنيا أحب إليه من الآخرة وهوى نفسه أحب إليه من رضا الله تعالى فلا
يمكنه الخلاص من الغرور
فإذا غلب حب الله على قلبه بمعرفته بالله وبنفسه الصادرة عن كمال عقله فيحتاج إلى
المعنى الثالث وهو العلم أعني العلم بمعرفة كيفية سلوك الطريق إلى الله والعلم بما
يقربه من الله وما يبعده عنه والعلم بآفات الطريق وعقباته وغوائله وجميع ذلك قد
أودعناه كتب إحياء علوم الدين فيعرف من ربع العبادات شروطها فيراعيها وآفاتها
فيتقيها ومن ربع العادات أسرار المعايش وما هو مضطر إليه فيأخذه بأدب الشرع وما هو
مستغن عنه فيعرض عنه ومن ربع المهلكات يعلم جميع العقبات المانعة في طريق الله فإن
المانع من الله الصفات المذمومة في الخلق فيعلم المذموم ويعلم طريق علاجه ويعرف من
ربع المنجيات الصفات المحمودة التي لا بد وأن توضع خلفا عن المذمومة بعد محوها
فإذا أحاط بجميع ذلك أمكنه الحذر من الأنواع التي أشرنا إليها من الغرور وأصل ذلك
كله أن يغلب
حب
الله على القلب ويسقط حب الدنيا منه حتى تقوى به الإرادة وتصح به النية ولا يحصل
ذلك إلا بالمعرفة التي ذكرناها
فإن قلت فإذا فعل جميع ذلك فما الذي يخاف عليه فأقول يخاف عليه أن يخدعه الشيطان
ويدعوه إلى نصح الخلق ونشر العلم ودعوته الناس إلى ما عرفه من دين الله فإن المريد
المخلص إذا فرغ من تهذيب نفسه وأخلاقه وراقب القلب حتى صفاه من جميع المكدرات
واستوى على الصراط المستقيم وصغرت الدنيا في عينه فتركها وانقطع طمعه عن الخلق فلم
يلتفت إليهم ولم يبق إلا هم واحد وهو الله تعالى والتلذذ بذكره ومناجاته والشوق
إلى لقائه وقد عجز الشيطان عن إغرائه إذ يأتيه من جهة الدنيا وشهوات النفس فلا
يطيعه فيأتيه من جهة الدين ويدعوه إلى الرحمة على خلق الله والشفقة على دينهم
والنصح لهم والدعاء إلى الله فينظر العبد برحمته إلى العبيد فيراهم حيارى في أمرهم
سكارى في دينهم صما عميا قد استولى عليهم المرض وهم لا يشعرون وفقدوا الطبيب وأشرفوا
على العطب فغلب على قلبه الرحمة لهم وقد كان عنده حقيقة المعرفة بما يهديهم ويبين
لهم ضلالهم ويرشدهم إلى سعادتهم وهو يقدر على ذكرها من غير تعب ومؤنة ولزوم غرامة
فكان مثله كمثل رجل كان به داء عظيم لا يطاق ألمه وقد كان لذلك يسهر ليله ويقلق
نهاره لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ولا يتصرف لشدة ضربان الألم فوجد له دواء عفوا
صفوا من غير ثمن ولا تعب ولا مرارة في تناوله فاستعمله فبرئ وصح فطاب نومه بالليل
بعد طول سهره وهدأ بالنهار بعد شدة القلق وطاب عيشه بعد نهاية الكدر وأصاب لذة
العافية بعد طول السقام ثم نظر إلى عدد كثير من المسلمين وإذا بهم تلك العلة
بعينها وقد طال سهرهم واشتد قلقهم وارتفع إلى السماء أنينهم فتذكر أن دواءهم هو
الذي يعرفه ويقدر على شفائهم بأسهل ما يكون وفي أرجى زمان فأخذته الرحمة والرأفة
ولم يجد فسحة من نفسه في التراخي عن الاشتغال بعلاجهم فكذلك العبد المخلص بعد أن
اهتدى إلى الطريق وشفي من أمراض القلوب شاهد الخلق وقد مرضت قلوبهم وأعضل داؤهم
وقرب هلاكهم وإشفاؤهم وسهل عليه دواؤهم فانبعث من ذات نفسه عزم جازم في الاشتغال
بنصحهم وحرضه الشيطان على ذلك رجاء أن يجد مجالا للفتنة فلما اشتغل بذلك وجد
الشيطان مجالا للفتنة فدعاه إلى الرياسة دعاء خفيا أخفى من دبيب النمل لا يشعر به
المريد فلم يزل ذلك الدبيب في قلبه حتى دعاه إلى التصنع والتزين للخلق بتحسين
الألفاظ والنغمات والحركات والتصنع في الزي والهيئة فأقبل الناس إليه يعظمونه
ويبجلونه ويوقرونه توقيرا يزيد على توقير الملوك إذا رأوه شافيا لأدوائهم بمحض
الشفقة والرحمة من غير طمع فصار أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم وأقاربهم فآثروه
بأبدانهم وأموالهم وصاروا له خولا كالعبيد والخدم فخدموه وقدموه في المحافل وحكموه
على الملوك والسلاطين فعند ذلك انتشر الطبع وارتاحت النفس وذاقت لذة يا لها من لذة
أصابت من الدنيا شهوة يستحقر معها كل شهوة فكان قد ترك الدنيا فوقع في أعظم لذاتها
فعند ذلك وجد الشيطان فرصة وامتدت إلى قلبه يده فهو يستعمله في كل ما يحفظ عليه
تلك اللذة
وأمارة انتشار الطبع وركون النفس إلى الشيطان أنه لو أخطأ فرد عليه بين يدي الخلق
غضب فإذا أنكر على نفسه ما وجده من الغضب بادر الشيطان فخيل إليه أن ذلك غضب لله
لأنه إذا لم يحسن اعتقاد المريدين فيه انقطعوا عن طريق الله فوقع في الغرور فربما
أخرجه ذلك إلى الوقيعة فيمن رد عليه فوقع في الغيبة المحظورة بعد تركه الحلال
المتسع ووقع في الكبر الذي هو تمرد عن قبول الحق والشكر عليه بعد أن يحذر من طوارق
الخطرات وكذلك إذا سبقه الضحك أو فتر عن بعض الأوراد جزعت النفس أن يطلع عليه
فيسقط قبوله فأتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء
وربما
زاد في الأعمال والأوراد لأجل ذلك والشيطان يخيل إليه إنك إنما تفعل ذلك كيلا يفتر
رأيهم عن طريق الله فيتركون الطريق بتركه وإنما ذلك خدعة وغرور بل هو جزع من النفس
خيفة فوت الرياسة ولذلك لا تجزع نفسه من اطلاع الناس على مثل ذلك من أقرانه بل
ربما يحب ذلك ويستبشر به ولو ظهر من أقرانه من مالت القلوب إلى قبوله وزاد أثر
كلامه في القبول على كلامه شق ذلك عليه ولولا أن النفس قد استبشرت واستلذت الرياسة
لكان يغتنم ذلك إذ مثاله أن يرى الرجل جماعة من إخوانه قد وقعوا في بئر وتغطى
رأس البئر بحجر كبير فعجزوا عن الرقي من البئر بسببه فرق قلبه لإخوانه فجاء ليرفع
الحجر من رأس البئر فشق عليه فجاءه من أعانه على ذلك حتى تيسر عليه أو كفاه ذلك
ونحاه بنفسه فيعظم بذلك فرحه لا محالة إذ غرضه خلاص إخوانه من البئر فإن كان غرض
الناصح خلاص إخوانه المسلمين من النار فإذا ظهر من أعانه أو كفاه ذلك لم يثقل عليه
أرأيت لو اهتدوا جميعهم من أنفسهم أكان ينبغي أنه يثقل ذلك عليه إن كان غرضه
هدايتهم فإذا اهتدوا بغيره فلم يثقل عليه ومهما وجد ذلك في نفسه دعاه الشيطان إلى
جميع كبائر القلوب وفواحش الجوارح وأهلكه فنعوذ بالله من زيغ القلوب بعد الهدى ومن
اعوجاج النفس بعد الاستواء
فإن قلت فمتى يصح له أن يشتغل بنصح الناس فأقول إذا لم يكن له قصد إلا هدايتهم لله
تعالى وكان يود لو وجد من يعينه أو لو اهتدوا بأنفسهم وانقطع بالكلية طمعه عن
ثنائهم وعن أموالهم فاستوى عنده حمدهم وذمهم فلم يبال بذمهم إذا كان الله يحمده
ولم يفرح بحمدهم إذ لم يقترن به حمد الله تعالى ونظر إليهم كما ينظر إلى السادات
وإلى البهائم
أما إلى السادات فمن حيث إنه لا يتكبر عليهم ويرى كلهم خيرا منه لجهله بالخاتمة
وأما إلى البهائم فمن حيث انقطاع طمعه عن طلب المنزلة في قلوبهم فإنه لا يبالي كيف
تراه البهائم فلا يتزين لها ولا يتصنع بل راعي الماشية إنما غرضه رعاية الماشية
ودفع الذئب عنها دون نظر الماشية إليه
فما لم ير سائر الناس كالماشية التي لا يلتفت إلى نظرها ولا يبالي بها لا يسلم من
الاشتغال بإصلاحهم
نعم ربما يصلحهم ولكن يفسد نفسه بإصلاحهم فيكون كالسراج يضيء لغيره ويحترق في نفسه
فإن قلت فلو ترك الوعاظ الوعظ إلا عند نيل هذه الدرجة لخلت الدنيا عن الوعظ وخربت
القلوب فأقول قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حب الدنيا رأس كل خطيئة //
حديث حب الدنيا رأس كل خطيئة أخرجه البيهقي في الشعب من حديث الحسن مرسلا وقد تقدم
في كتاب ذم الدنيا
ولو لم يحب الناس الدنيا لهلك العالم وبطلت المعايش وهلكت القلوب والأبدان جميعا
إلا أنه صلى الله عليه و سلم علم أن حب الدنيا مهلك وأن ذكر كونه مهلكا لا ينزع
الحب من قلوب الأكثرين لا الأقلين الذين لا تخرب الدنيا بتركهم فلم يترك النصح
وذكر ما في حب الدنيا من الخطر ولم يترك ذكره خوفا من أن يترك نفسه بالشهوات
المهلكة التي سلطها الله على عباده ليسوقهم بها إلى جهنم تصديقا لقوله تعالى ولكن
حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فكذلك لا تزال ألسنة الوعاظ
مطلقة لحب الرياسة ولا يدعونها بقول من يقول إن الوعظ لحب الرياسة حرام كما لا يدع
الخلق الشرب والزنا والسرقة والرياء والظلم وسائر المعاصي يقول الله تعالى ورسوله
إن ذلك حرام فانظر لنفسك وكن فارغ القلب من حديث الناس فإن الله تعالى يصلح خلقا
كثيرا بإفساد شخص واحد وأشخاص ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض وإن
الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم
فإنما
يخشى أن يفسد طريق الاتعاظ فأما أن تخرص ألسنة الوعاظ ووراءهم باعث الرياسة وحب
الدنيا فلا يكون ذلك أبدا
فإن قلت فإن علم المريد هذه المكيدة من الشيطان فاشتغل بنفسه وترك النصح أو نصح
وراعى شرط الصدق والإخلاص فيه فما الذي يخاف عليه وما الذي بقي بين يديه من
الأخطار وحبائل الاغترار فاعلم أنه بقي عليه أعظمه وهو أن الشيطان يقول له قد
أعجزتني وأفلت مني بذكائك وكمال عقلك وقد قدرت على جملة من الأولياء والكبراء وما
قدرت عليك فما أصبرك وما أعظم عند الله قدرك ومحلك إذ قواك على قهري ومكنك من
التفطن لجميع مداخل غروري فيصغي إليه ويصدقه ويعجب بنفسه من فراره في الغرور كله
فيكون إعجابه بنفسه غاية الغرور وهو المهلك الأكبر فالعجب أعظم من كل ذنب ولذلك
قال الشيطان يا ابن آدم إذا ظننت أنك بعلمك تخلصت مني فبجهلك قد وقعت في حبائلي
فإن قلت فلو لم يعجب بنفسه إذ علم أن ذلك من الله تعالى لا منه وإن مثله لا يقوى
على دفع الشيطان إلا بتوفيق الله ومعونته ومن عرف ضعف نفسه وعجزه عن أقل القليل
فإذا قدر على مثل هذا الأمر العظيم علم أنه لم يقو عليه بنفسه بل بالله تعالى فما
الذي يخاف عليه بعد نفي العجب فأقول يخاف عليه الغرور بفضل الله والثقة بكرمه
والأمن من مكره حتى يظن أنه يبقى على هذه الوتيرة في المستقبل ولا يخاف من الفترة
والانقلاب فيكون حاله الاتكال على فضل الله فقط دون أن يقارنه الخوف من مكره ومن
أمن مكر الله فهو خاسر جدا بل سبيله أن يكون مشاهدا جملة ذلك من فضل الله ثم خائفا
على نفسه أن يكون قد سدت عليه صفة من صفات قلبه من حب دنيا ورياء وسوء خلق والتفات
إلى عز وهو غافل عنه ويكون خائفا أن يسلب حاله في كل طرفة عين غير آمن من مكر الله
ولا غافل عن خطر الخاتمة
وهذا خطر لا محيص عنه وخوف لا نجاة منه إلا بعد مجاوزة الصراط
ولذلك لما ظهر الشيطان لبعض الأولياء في وقت النزع وكان قد بقي له نفس فقال أفلت
مني يا فلان فقال لا بعد
ولذلك قيل الناس كلهم هلكى إلى العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون
والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم
فإذن المغرور هالك والمخلص الفار من الغرور على خطر فلذلك لا يفارق الخوف والحذر
قلوب أولياء الله أبدا
فنسأل الله تعالى العون والتوفيق وحسن الخاتمة فإن الأمور بخواتيمها
تم كتاب ذم الغرور وبه تم ربع المهلكات ويتلوه في أول ربع المنجيات كتاب التوبة
والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده وهو حسبي ونعم الوكيل
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
تم الجزء الثالث من كتاب إحياء علوم الدين ويليه الجزء الرابع وأوله كتاب التوبة
T
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب التوبة وهو الكتاب الأول من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم
الدين بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بتحميده يستفتح كل كتاب وبذكره يصدر كل خطاب وبحمده يتنعم أهل
النعيم في دار الثواب وباسمه يتسلى الأشقياء وإن أرخى دونهم الحجاب وضرب بينهم
وبين السعداء بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ونتوب إليه توبة
من يوقن أنه رب الأرباب ومسبب الأسباب ونرجوه رجاء من يعلم أنه الملك الرحيم
الغفور التواب ونمزج الخوف برجائنا مزج من لا يرتاب أنه مع كونه غافر الذنب وقابل
التوب شديد العقاب
ونصلى على نبيه محمد صلى الله عليه و سلم وعلى آله وصحبه صلاة تنقذنا من هول
المطلع يوم العرض والحساب وتمهد لنا عند الله زلفى وحسن مآب
أما بعد فإن التوبة عن الذنوب بالرجوع إلى ستار العيوب وعلام الغيوب مبدأ طريق
السالكين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المريدين ومفتاح استقامة المائلين ومطلع
الاصطفاء والاجتباء للمقربين ولأبينا آدم عليه الصلاة و السلام وعلى سائر الأنبياء
أجمعين وما أجدر بالأولاد الاقتداء بالآباء والأجداد فلا غرو إن أذنب الآدمى
واجترم فهى شنشنة نعرفها من أخزم ومن أشبه أباه فما ظلم ولكن الأب إذا جبر بعد ما
كسر وعمر بعد أن هدم فليكن النزوع إليه في كلا طرفى النفى والإثبات والوجود والعدم
ولقد قرع آدم سن الندم وتندم على ما سبق منه وتقدم فمن اتخذه قدوة في الذنب دون
التوبة فقد زلت به القدم بل التجرد لمحض الخير دأب الملائكة المقربين والتجرد للشر
دون التلافى سجية الشياطين والرجوع إلى الخير بعد الوقوع في الشر ضرورة الآدميين
فالمتجرد للخير ملك مقرب عند الملك الديان والمتجرد للشر شيطان والمتلافى للشر
بالرجوع إلى الخير بالحقيقة إنسان فقد ازدوج في طينة الإنسان شائبتان واصطحب فيه
سجيتان وكل عبد مصحح نسبه إما إلى الملك أو إلى آدم أو إلى الشيطان فالتائب قد
أقام البرهان على صحة نسبه إلى آدم بملازمة حد الإنسان والمصر على الطغيان مسجل
على نفسه بنسب الشيطان فإما تصحيح النسب إلى الملائكة بالتجرد
لمحض
الخير فخارج عن حيز الإمكان فإن الشر معجون مع الخير في طينة آدم عجنا محكما لا
يخلصه إلا إحدى النارين نار الندم أو نار جهنم فالإحراق بالنار ضرورى في تخليص
جوهر الإنسان من خبائث الشيطان وإليك الآن اختيار أهون النارين والمبادرة إلى أخف
الشرين قبل أن يطوى بساط الاختيار ويساق إلى دار الاضطرار إما إلى الجنة وإما إلى
النار وإذا كانت التوبة موقعها من الدين هذا الموقع وجب تقديمها فى صدر ربع
المنجيات بشرح حقيقتها وشروطها وسببها وعلامتها وثمرتها والآفات المانعة منها
والأدوية الميسرة لها ويتضح ذلك بذكر أربعة أركان
الركن الأول في نفس التوبة وبيان حدها وحقيقتها وأنها واجبة على الفور وعلى جميع
الأشخاص وفي جميع الأحوال وأنها إذا صحت كانت مقبولة
الركن الثاني فيما عنه التوبة وهو الذنوب وبيان انقسامها إلى صغائر وكبائر وما
يتعلق بالعباد وما يتعلق بحق الله تعالى وبيان كيفية توزع الدرجات والدركات على
الحسنات والسيئات وبيان الأسباب التى بها تعظم الصغائر
الركن الثالث في بيان شروط التوبة ودوامها وكيفية تدارك ما مضى من المظالم وكيفية
تكفير الذنوب وبيان أقسام التائبين في دوام التوبة الركن الرابع في المسبب الباعث
على التوبة وكيفية العلاج في حل عقدة الإصرار من المذنبين
ويتم المقصود بهذه الأركان الأربعة إن شاء الله عز و جل الركن الأول في نفس التوبة
بيان حقيقة التوبة وحدها
اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتثم من ثلاثة أمور مرتبة علم وحال وفعل
فالعلم الأول والحال الثانى والفعل الثالث والأول موجب للثانى والثانى موجب للثالث
إيجابا اقتضاه إطراد سنة الله فى الملك والملكوت أما العلم فهو معرفة عظم ضرر
الذنوب وكونها حجابا بين العبد وبين كل محبوب فإذا عرف ذلك معرفة محققة بيقين غالب
على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب فإن القلب مهما شعر
بفوات محبوبه تألم فإن كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت فيسمى تألمه بسبب
فعله المفوت لمحبوبه ندما فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى وانبعث من هذا
الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصدا إلى فعل له تعلق بالحال والماضى
وبالاستقبال أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذى كان ملابسا وأما بالاستقبال
فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر وأما بالماضى فبتلافى ما فات
بالجبر والقضاء إن كان قابلا للجبر فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات وأعنى
بهذا العلم الإيمان واليقين فإن الإيمان عبارة عن التصديق بأن الذنوب سموم مهلكة
واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب فيثمر
نور هذا الإيمان مهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم بها القلب حيث يبصر بإشراق
نور الإيمان أنه صار محجوبا عن محبوبه كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان فى ظلمة
فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب فرأى محبوبه وقد أشرف على الهلاك
فتشعل نيران الحب في قلبه وتنبعث تلك النيران بإرادته للانتهاض للتدارك فالعلم
والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافى للماضى ثلاثة معان
مرتبة في الحصول فيطلق اسم التوبة على مجموعها وكثيرا ما يطلق اسم التوبة على معنى
الندم وحده ويجعل العلم كالسابق والمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر وبهذا
الاعتبار قال صلى الله عليه و سلم الندم توبة
حديث الندم توبة أخرجه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحح إسناده من حديث ابن مسعود
ورواه ابن حبان والحاكم من حديث أنس وقال صحيح على شرط الشيخين // إذ لا يخلو
الندم عن علم
أوجبه
وأثمره وعن عزم يتبعه ويتلوه فيكون الندم محفوفا بطرفيه فيه أعنى ثمرته ومثمره
وبهذا الاعتبار قيل فى حد التوبة إنه ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ فإن هذا يعرض
لمجرد الألم ولذلك قيل هو نار في القلب تلتهب وصدع في الكبد لا ينشعب وباعتبار
معنى الترك قيل في حد التوبة إنه خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء وقال سهل ابن
عبد الله التسترى التوبة تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة ولا يتم ذلك
إلا بالخلوة والصمت وأكل الحلال وكأنه أشار إلى المعنى الثالث من التوبة والأقاويل
في حدود التوبة لا تنحصر وإذا فهمت هذه المعانى الثلاثة وتلازمها وترتيبها عرفت أن
جميع ما قيل فى حدودها قاصر عن الإحاطة بجميع معانيها وطلب العلم بحقائق الأمور
أهم من طلب الألفاظ المجردة
بيان وجوب التوبة وفضلها
اعلم أن وجوب التوبة ظاهر بالأخبار // الأخبار الدالة على وجوب التوبة أخرج مسلم
من حديث الأغر المزنى يا أيها الناس توبوا إلى الله الحديث ولابن ماجه من حديث
جابر يا أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا الحديث وسنده ضعيف // والآيات
وهو واضح بنور البصيرة عند من انفتحت بصيرته وشرح الله بنور الإيمان صدره حتى
اقتدرت على أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلمات الجهل مستغنيا عن قائد يقوده في
كل خطوة فالسالك إما أعمى لا يستغنى عن القائد في خطوه وإما بصير يهدى إلى أول
الطريق ثم يهتدى بنفسه وكذلك الناس في طريق الدين ينقسمون هذا الانقسام فمن قاصر
لا يقدر على مجاوزة التقليد في خطوه فيفتقر إلى أن يسمع في كل قدم نصا من كتاب
الله أو سنة رسوله وربما يعوزه ذلك فيتحير فسير هذا وإن طال عمره وعظم جده مختصر
وخطاه قاصرة ومن سعيد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فيتنبه بأدنى
إشارة لسلوك طريق معوصة وقطع عقبات متعبة ويشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان
وهو لشدة نور باطنه يجتزىء بأدنى بيان فكأنه يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار فإذا
مسته نار فهو نور على نور يهدى الله لنوره من يشاء وهذا لا يحتاج إلى نص منقول في
كل واقعة فمن هذا حاله إذا أراد أن يعرف وجوب التوبة فينظر أولا بنور البصيرة إلى
التوبة ما هى ثم إلى الوجوب ما معناه ثم يجمع بين معنى الوجوب والتوبة فلا يشك في
ثبوته لها وذلك بأن يعلم بأن معنى الواجب ما هو واجب في الوصول إلى سعادة الأبد
والنجاة من هلاك الأبد فإنه لولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشىء وتركه لم يكن
لوصفه بكونه واجبا معنى وقول القائل صار واجبا بالإيجاب حديث محض فإن مالا غرض لنا
آجلا وعاجلا في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه
فإذا عرف معنى الوجوب وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد وعلم أن لا سعادة في دار
البقاء إلا في لقاء الله تعالى وأن كل محجوب عنه يشقى لا محاله محول بينه وبين ما
يشتهى محترق بنار الفراق ونار الجحيم وعلم أنه لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع
الشهوات والأنس بهذا العالم الفانى والإكباب على حب ما لا بد من فراقه قطعا وعلم
أنه لا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم والإقبال
بالكلية على الله طلبا للأنس به بدوام ذكره وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على
قدر طاقته وعلم أن الذنوب التى هى إعراض عن الله واتباع لمحاب الشياطين أعداء الله
المبعدين عن حضرته سبب كونه محجوبا مبعدا عن الله تعالى فلا يشك في أن الانصراف عن
طريق البعد واجب للوصول إلى القرب وإنما يتم الانصراف بالعلم والندم والعزم فإنه
ما لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في
طريق البعد وما لم يتوجع فلا يرجع ومعنى الرجوع الترك والعزم فلا يشك فى أن
المعاني الثلاثة ضرورية في الوصول
إلى
المحبوب وهكذا يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة وأما من لم يترشح لمثل هذا
المقام المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق ففى التقليد والاتباع له مجال رحب يتوصل
به إلى النجاة من الهلاك فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله وقول السلف الصالحين فقد
قال الله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون وهذا أمر على
العموم وقال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا الآية
ومعنى النصوح الخالص لله تعالى خاليا عن الشوائب مأخوذ من النصح ويدل على فضل
التوبة قوله تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال صلى الله عليه و سلم
التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له // حديث التائب حبيب الله والتائب
من الذنب كمن لا ذنب له أخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بالشطر الثاني دون الأول
وأما الشطر الأول فروى ابن أبي الدنيا في التوبة وأبو الشيخ في كتاب الثواب من
حديث أنس بسند ضعيف إن الله يحب الشاب التائب ولعبد الله بن أحمد في زوائد المسند
وأبى يعلىبسند ضعيف من حديث على أن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب // وقال
رسول الله صلى الله عليه و سلم الله أفرح بتوبة العبد المؤمن من رجل نزل في أرض
دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومه فاستيقظ وقد ذهبت
راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكانى
الذى كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده
عليها زاده وشرابه فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته //
حديث لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض فلاة دوية مهلكة الحديث متفق
عليه من حديث ابن مسعود وأنس زاد مسلم في حديث أنس ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت
عبدى وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح ورواه مسلم بهذه الزيادة من حديث النعمان بن بشير
ومن حديث أبى هريرة مختصرا // وفى بعض الألفاظ قال من شدة فرحه إذ أراد شكر الله
أنا ربك وأنت عبدى ويروى عن الحسن قال لما تاب الله عز و جل على آدم عليه السلام
هنأته الملائكة وهبط عليه جبريل وميكائيل عليهما السلام فقالا يا آدم قرت عينك
بتوبة الله عليك فقال آدم عليه السلام يا جبريل فإن كان بعد هذه التوبة سؤال فأين
مقامى فأوحى الله إليه يا آدم ورثت ذويك التعب والنصب وورثتهم التوبة فمن دعانى
منهم لبيته كما لبيتك ومن سألنى المغفرة لم أبخل عليه لأنى قريب مجيب يا آدم وأحشر
التائبين من القبور مستبشرينضاحكين ودعاؤهم مستجاب والأخبار والآثار في ذلك لا
تحصى والإجماع منعقد من الأمة على وجوبها إذ معناه العلم بأن الذنوب والمعاصى
مهلكات ومبعدات من الله تعالى وهذا داخل في وجوب الإيمان ولكن قد تدهش الغفلة عنه
فمعنى هذا العلم إزالة هذه الغفلة ولا خلاف في وجوبها ومن معانيها ترك المعاصى في
الحال والعزم على تركها في الاستقبال وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الاحوال وذلك
لا يشك في وجوبه وأما التندم على ما سبق والتحزن عليه فواجب وهو روح التوبة وبه
تمام التلافى فكيف لا يكون واجبا بل هو نوع ألم يحصل لا محالة عقيب حقيقة المعرفة
بما فات من العمر وضاع في سخط الله
فإن قلت تألم القلب أمر ضرورى لا يدخل تحت الاختيار فكيف يوصف بالوجوب فاعلم أن
سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب وله سبيل إلى تحصيل سببه وبمثل هذا المعنى دخل
العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلم يخلقه العبد ويحدثه في نفسه فإن ذلك محال بل
العلم والندم والفعل والإرادة والقدرة والقادر الكل من خلق الله وفعله والله خلقكم
وما تعملون هذا هو الحق عند ذوى الأبصار وما سوى هذا ضلال
فإن قلت أفليس للعبد اختيار في الفعل والترك قلنا نعم وذلك لا يناقض قولنا إن الكل
من خلق الله تعالى بل الاختيار أيضا من خلق الله والعبد مضطر في الاختيار الذي له
فإن الله إذا خلق اليد الصحيحة
وخلق الطعام اللذيذ وخلق الشهوة للطعام في المعدة وخلق العلم في القلب بأن هذا الطعام يسكن الشهوة وخلق الخواطر المتعارضة في أن هذا الطعام هل فيه مضرة مع أنه يسكن الشهوة وهل دون تناوله مانع يتعذر معه تناوله أم لا ثم خلق العلم بأنه لا مانع ثم عند اجتماع هذه الأسباب تنجزم الارادة الباعثة على التناول فانجزام الإرادة بعد تردد الخواطر المتعارضة وبعد وقوع الشهوة للطعام يسمى اختيارا ولا بد من حصوله عند تمام أسبابه فإذا حصل انجزام الإرادة بخلق الله تعالى إياها تحركت اليد الصحيحة إلى جهة الطعام لا محالة إذ بعد تمام الإرادة والقدرة يكون حصول الفعل ضروريا فتحصل الحركة فتكون الحركة بخلق الله بعد حصول القدرة وانجزام الإرادة وهما أيضا من خلق الله وانجزام الإرادة يحصل بعد صدق الشهوة والعلم بعدم الموانع وهما أيضا من خلق الله تعالى ولكن بعض هذه المخلوقات يترتب على البعض ترتيبا جرت به سنة الله تعالى في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا فلا يخلق الله حركة اليد بكتابة منظومة ما لم يخلق فيها صفة تسمى قدرة وما لم يخلق فيها حياة وما لم يخلق إرادة مجزومة ولا يخلق الإرادة المجزومة ما لم يخلق شهوة وميلا في النفس ولا ينبعث هذا الميل انبعاثا تاما ما لم يخلق علما بأنه موافق للنفس إما في الحال أو في المآل ولا يخلق العلم أيضا إلا بأسباب أخر ترجع إلى حركة وإرادة وعلم فالعلم والميل الطبيعي أبدا يستتبع الإرادة الجازمة والقدرة والإرادة أبدا تستردف الحركة وهكذا الترتيب في كل فعل والكل من اختراع الله تعالى ولكن بعض مخلوقاته شرط لبعض فلذلك يجب تقدم البعض وتأخر البعض كما لا تخلق الإرادة إلا بعد العلم ولا يخلق العلم إلا بعد الحياة ولا تخلق الحياة إلا بعد الجسم فيكون خلق الجسم شرطا لحدوث الحياة لا أن الحياة تتولد من الجسم ويكون خلق الحياة شرطا لخلق العلم لا أن العلم يتولد من الحياة ولكن لا يستعد المحل لقبول العلم إلا إذا كان حيا ويكون خلق العلم شرطا لجزم الإرادة لا أن العلم يولد الإرادة ولكن لا يقبل الإرادة إلا جسم حى عالم ولا يدخل في الوجود إلا ممكن والإمكان ترتيب لا يقبل التغيير لأن تغييره محال فمهما وجد شرط الوصف استعد المحل به لقبول الوصف فحصل ذلك الوصف من الجود الإلهي والقدرة الأزلية عند حصول الاستعداد ولما كان للاستعداد بسبب الشروط ترتيب كان لحصول الحوادث بفعل الله تعالى ترتيب والعبد مجرى هذه الحوادث المرتبة وهى مرتبة في قضاء الله تعالى الذي هو واحد كلمح البصر ترتيبا كليا لا يتغير وظهورها بالتفصيل مقدر بقدر لا يتعداها وعنه العبارة بقوله تعالى إنا كل شىء خلقناه بقدر وعن القضاء الكلى الأزلى العبارة بقوله تعالى وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر وأما العباد فإنهم مسخرون تحت مجارى القضاء والقدر ومن جملة القدر خلق حركة في يد الكاتب بعد خلق صفة مخصوصة في يده تسمى القدرة وبعد خلق ميل قوي جازم في نفسه يسمى القصد وبعد علم بما إليه ميله يسمى الإدراك والمعرفة فإذا ظهرت من باطن الملكوت هذه الأمور الأربعة على جسم عبد مسخر تحت قهر التقدير سبق أهل عالم الملك والشهادة المحجوبون عن عالم الغيب والملكوت وقالوا يا أيها الرجل قد تحركت ورميت وكتبت ونودى من وراء حجاب الغيب وسرادقات الملكوت وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وما قتلت إذ قتلت ولكن قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وعند هذا تتحير عقول القاعدين في بحبوحة عالم الشهادة فمن قائل إنه جبر محض ومن قائل إنه اختراع صرف ومن متوسط مائل إلى أنه كسب ولو فتح لهم أبواب السماء فنظروا إلى عالم الغيب والملكوت لظهر لهم أن كل واحد صادق من وجه وأن القصور شامل لجميعهم فلم يدرك واحد منهم كنه هذا الأمر ولم يحط علمه بجوانبه وتمام علمه ينال بإشراق النور من كوة نافذة إلى عالم الغيب وأنه تعالى عالم الغيب والشهادة لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول وقد يطلع على الشهادة
من
لم يدخل في حيز الارتضاء ومن حرك سلسلة الأسباب والمسببات وعلم كيفية تسلسلها ووجه
ارتباط مناط سلسلتها بمسبب الأسباب انكشف له سر القدر وعلم علما يقينا أن لا خالق
إلا الله ولا مبدع سواه
فإن قلت قد قضيت على كل واحد من القائلين بالجبر والاختراع والكسب أنه صادق من وجه
وهو مع صدقه قاصر وهذا تناقض فكيف يمكن فهم ذلك وهل يمكن إيصال ذلك إلى الأفهام
بمثال فاعلم أن جماعة من العميان قد سمعوا أنه حمل إلى البلدة حيوان عجيب يسمى
الفيل وما كانوا قط شاهدوا صورته ولا سمعوا اسمه فقالوا لا بد لنا من مشاهدته
ومعرفته باللمس الذي نقدر عليه فطلبوه فلما وصلوا إليه لمسوه فوقع يد بعض العميان
على رجليه ووقع يد بعضهم على نابه ووقع يد بعضهم على أذنه فقالوا قد عرفنا انصرفوا
سألهم بقية العميان فاختلفت أجوبتهم فقال الذي لمس الرجل إن الفيل ما هو إلا مثل
أسطوانة خشنة الظاهر إلا أنه ألين منها وقال الذي لمس الناب ليس كما يقول بل هو
صلب لا لين فيه وأملس لا خشونة فيه وليس في غلظ الأسطوانة أصلا بل هو مثل عمود
وقال الذي لمس الأذن لعمري هو لين وفيه خشونة فصدق أحدهما فيه ولكن قال ما هو مثل
عمود ولا هو مثل اسطوانة وإنما هو مثل جلد عريض غليظ فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه
إذ أخبر كل واحد عما أصابه من معرفة الفيل ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل
ولكنهم بحملتهم قصروا عن الإحاطة بكنه صورة الفيل فاستبصر بهذا المثال واعتبر به
فإنه مثال أكثر ما اختلف الناس فيه وإن كان هذا كلاما يناطح علوم المكاشفة ويحرك
أمواجها وليس ذلك من غرضنا فلنرجع إلى ما كنا بصدده وهو بيان أن التوبة واجبة
بجميع أجزائها الثلاثة العلم والندم والترك وأن الندم داخل في الوجوب لكونه واقعا
في جملة أفعال الله المحصورة بين علم العبد وإرادته وقدرته المتخللة بينها وما هذا
وصفه فاسم الوجوب يشمله
بيان أن وجوب التوبة على الفور
أما وجوبها على الفور فلا يستراب فيه إذ معرفة كون المعاصى مهلكات من نفس الإيمان
وهو واجب على الفور المتقصى عن وجوبه هو الذي عرفه معرفة زجره ذلك عن الفعل
المكروه فإن هذه المعرفة ليست من علوم المكاشفات التى لا تتعلق بعمل بل هى من علوم
المعاملة وكل علم يراد ليكون باعثا على عمل فلا يقع التقصى عن عهدته ما لم يصر
باعثا عليه فالعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثا لتركها فمن لم يتركها فهو
فاقد لهذا الجزء من الإيمان وهو المراد بقوله صلى الله عليه و سلم لا يزنى الزانى
حين يزنى وهو مؤمن // حديث لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن متفق عليه من حديث
أبي هريرة // وما أراد به نفى الإيمان الذي يرجع إلى علوم المكاشفة كالعلم بالله
ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله فإن ذلك لا ينفيه الزنا والمعاصى وإنما أراد به نفى
الإيمان لكون الزنا مبعدا عن الله تعالى موجبا للمقت كما إذا قال الطبيب هذا سم
فلا تتناوله فإذا تناوله يقال تناول وهو غير مؤمن لا بمعنى أنه غير مؤمن بوجود
الطبيب وكونه طبيبا وغير مصدق به بل المراد أنه غير مصدق بقوله إنه سم مهلك فإن
العالم بالسم لا يتناوله أصلا فالعاصى بالضرورة ناقص الإيمان وليس الإيمان بابا
واحدا بل هو نيف وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى
عن الطريق ومثاله قول القائل ليس الإنسان موجودا واحدا بل هو نيف وسبعون موجودا
أعلاها القلب والروح وأدناها إماطة الأذى عن البشرة بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم
الأضافر نقى البشرة عن
الخبث
حتى يتميز عن البهائم المرسلة الملوثة بأرواثها المستكرهة الصور بطول مخالبها
وأظلافها وهذا مثال مطابق فالإيمان كالإنسان وفقد شهادة التوحيد يوجد البطلان
بالكلية كفقد الروح والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة هو كإنسان مقطوع
الأطراف مفقوع العينين فاقد لجميع أعضائه الباطنة والظاهرة لا أصل الروح وكما أن
من هذا حاله قريب من أن يموت فتزايله الروح الضعيفة المنفردة التى تخلف عنها
الأعضاء التى تمدها وتقويها فكذلك من ليس له إلا أصل الإيمان وهو مقصر في الأعمال
قريب من أن تقتلع شجرة إيمانه إذا صدمتها الرياح العاصفة المحركة للإيمان في مقدمة
قدوم ملك الموت ووروده فكل إيمان لم يثبت في اليقين أصله ولم تنتشر فى الأعمال
فروعه لم يثبت على عواصف الأهوال عند ظهور ناصية ملك الموت وخيف عليه سوء الخاتمة
لا ما يسقى بالطاعات على توالى الأيام والساعات حتى رسخ وثبت وقول العاصى للمطيع
إنى مؤمن كما أنك مؤمن كقول شجرة القرع لشجرة الصنوبر أنا شجرة وأنت شجرة وما أحسن
جواب شجرة الصنوبر إذ قالت ستعرفين اغترارك بشمول الاسم إذا عصفت رياح الخريف فعند
ذلك تنقطع أصولك وتتناثر أوراقك وينكشف غرورك بالمشاركة في اسم الشجرة مع الغفلة
عن أسباب ثبوت الأشجار
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار
وهذا أمر يظهر عند الخاتمة وإنما انقطع نياط العارفين خوفا من دواعى الموت ومقدماته
الهائلة التى لا يثبت عليها إلا الأقلون فالعاصى إذا كان لا يخاف الخلود في النار
بسبب معصيته كالصحيح المنهمك في الشهوات المضرة إذا كان لا يخاف الموت بسبب صحته
وأن الموت غالبا لا يقع فجأة فيقال له الصحيح يخاف المرض ثم إذا مرض خاف الموت
وكذلك العاصى يخاف سوء الخاتمة ثم إذا ختم له بالسوء والعياذ بالله وجب الخلود في
النار فالعاصى للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان فلا تزال تجتمع في الباطن حتى
تغير مزاج الأخلاط وهو لا يشعر بها إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة ثم يموت دفعة
فكذلك المعاصى فإذا كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك
السموم وما يضره من المأكولات في كل حال وعلى الفور فالخائف من هلاك الأبد أولى
بأن يجب عليه ذلك وإذا كان متناول السم إذا ندم يجب عليه أن يتقيأ ويرجع عن تناوله
بإبطاله وإخراجه عن المعدة على سبيل الفور والمبادرة تلافيا لبدنه المشرف على هلاك
لا يفوت عليه إلا هذه الدنيا الفانية فمتناول سموم الدين وهى الذنوب أولى بأن يجب
عليه الرجوع عنها بالتدارك الممكن ما دام يبقى للتدارك مهلة وهو العمر فإن المخوف
من هذا السم فوات الآخرة الباقية التى فيها النعيم المقيم والملك العظيم وفى
فواتها نار الجحيم والعذاب المقيم الذى تتصرم أضعاف أعمار الدنيا دون عشر عشير
مدته إذ ليس لمدته آخر البتة فالبدار البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب
بروح الإيمان عملا يجاوز الأمر فيه الأطباء واختيارهم ولا ينفع بعده الاحتماء فلا
ينجح بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين وتحق الكلمة عليه بأنه من الهالكين ويدخل
تحت عموم قوله تعالى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهى إلى الأذقان فهم مقمحون
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون وسواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ولا يغرنك لفظ الإيمان فنقول المراد بالآية
الكافر إذ بين لك أن الإيمان بضع وسبعون بابا وأن الزانى لا يزنى حين يزنى وهو
مؤمن فالمحجوب عن الإيمان الذى هو شعب وفروع سيحجب في الخاتمة عن الإيمان الذى هو
أصل كما أن الشخص الفاقد لجميع الأطراف التى هى حروف وفروع سيساق إلى الموت المعدم
للروح التى هى أصل فلا بقاء للأصل دون الفرع
ولا
وجود للفرع دون الأصل ولا فرق بين الأصل والفرع إلا في شيء واحد وهو أن وجود الفرع
وبقاءه جميعا يستدعى وجود الأصل وأما وجود الأصل فلا يستدعى وجود الفرع فبقاء
الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل فعلوم المكاشفة وعلوم المعاملة متلازمة كتلازم
الفرع والأصل فلا يستغنى أحدهما عن الآخر وإن كان أحدهما في رتبة الأصل والآخر في
رتبة التابع وعلوم المعاملة إذا لم تكن باعثه على العمل فعدمها خير من وجودها فإن
هى لم تعمل عملها الذي تراد له قامت مؤيدة للحجة على صاحبها ولذلك يزاد في عذاب العالم
الفاجر على عذاب الجاهل الفاجر كما أوردنا من الأخبار في كتاب العلم
بيان أن وجوب التوبة عام في الأشخاص والأحوال فلا ينفك عنه أحد ألبتة
اعلم أن ظاهر الكتاب قد دل على هذا إذ قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيه
المؤمنون لعلكم تفلحون فعمم الخطاب ونور البصيرة أيضا يرشد إليه إذ معنى التوبة
الرجوع عن الطريق المبعد عن الله المقرب إلى الشيطان ولا يتصور ذلك إلا من عاقل
ولا تكمل غريزة العقل إلا بعد كمال غريزة الشهوة والغضب وسائر الصفات المذمومة
التى هى وسائل الشيطان إلى إغواء الإنسان إذ كمال العقل إنما يكون عند مقاربة
الأربعين وأصله إنما يتم عند مراهقة البلوغ ومباديه تظهر بعد سبع سنين والشهوات
جنود الشيطان والعقول جنود الملائكة فإذا اجتمعا قام القتال بينهما بالضرورة إذ لا
يثبت أحدهما للآخر لأنهما ضدان فالتطارد بينهما كالتطارد بين الليل والنهار والنور
والظلمة ومهما غلب أحدهما أزعج الآخر بالضرورة وإذا كانت الشهوات تكمل في الصبا
والشباب قبل كمال العقل فقد سبق جند الشيطان واستولى على المكان ووقع للقلب به أنس
وإلف لا محالة مقتضيات الشهوات بالعادة وغلب ذلك عليه ويعسر عليه النزوع عنه ثم
يلوح العقل الذي هو حزب الله وجنده ومنقذ أوليائه من أيدي أعدائه شيئا فشيئا على
التدريج فإن لم يقو ولم يكمل سلمت مملكة القلب للشيطان وأنجز اللعين موعده حيث قال
لأحتنكن ذريته إلا قليلا وإن كمل العقل وقوى كان أول شغله قمع حنود الشيطان بكسر
الشهوات ومفارقة العادات ورد الطبع على سبيل القهر إلى العبادات ولا معنى للتوبة
إلا هذا وهو الرجوع عن طريق دليله الشهوة وخفيره الشيطان إلى طريق الله تعالى وليس
في الوجود آدمي إلا وشهوته سابقة على عقله وغريزته التى هى عدة الشيطان متقدمة على
غريزته التى هى عدة الملائكة فكان الرجوع عما سبق إليه على مساعدة الشهوات ضروريا
في حق كل إنسان نبيا كان أو غبيا فلا تظنن أن هذه الضرورة اختصت بآدم عليه السلام
وقد قيل
فلا تحسبن هندا لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانيةهند
بل هو حكم أزلى مكتوب على جنس الإنس لا يمكن فرض خلافه ما لم تتبدل السنة الإلهية
التى لا مطمع في تبديلها فإذن كل من بلغ كافرا جاهلا فعليه التوبة من جهله وكفره
فإذا بلغ مسلما تبعا لأبويه غافلا عن حقيقة إسلامه فعليه التوبة من غفلته بتفهم
معنى الإسلام فإنه لا يغنى عنه إسلام أبويه شيئا ما لم يسلم بنفسه فإن فهم ذلك
فعليه الرجوع عن عادته وإلفه للاسترسال وراء الشهوات من غير صارف بالرجوع إلى قالب
حدود الله فى المنع والإطلاق والانفكاك والاسترسال وهو من أشق أبواب التوبة وفيه
هلك الأكثرون إذ عجزوا عنه وكل هذا رجوع وتوبة فدل على أن التوبة فرض عين في حق كل
شخص يتصور أن يستغنى عنها أحد من البشر كما لم يستغن آدم فخلقه الولد لا تتسع لما
لم يتسع له خلقة الوالد أصلا وأما بيان وجوبها على الدوام وفي كل حال فهو
أن
كل بشر فلا يخلو عن معصية بجوارحه إذ لم يخل عنه الأنبياء كما ورد في القرآن
والأخبار من خطايا الأنبياء وتوبتهم وبكائهم على خطاياهم فإن خلا في بعض الأحوال
عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب فإن خلا في بعض الأحوال عن الهم
فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله فإن خلا
عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله وكل ذلك نقص وله أسباب
وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده والمراد بالتوبة الرجوع ولا
يتصور الخلو في حق الآدمى عن هذا النقص وإنما يتفاوتون في المقادير فأما الأصل فلا
بد منه ولهذا قال عليه السلام إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم
والليلة سبعين مرة // حديث أنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة
سبعين مرة أخرجه مسلم من حديث الأغر المزنى إلا أنه قال فى اليوم مائة مرة وكذا
عند أبي داود وللبخاري من حديث أبي هريرة إنى لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين
مرة وفي رواية البيهقي في الشعب سبعين لم يقل أكثر وتقدم فى الأذكار والدعوات //
الحديث ولذلك أكرمه الله تعالى بأن قال ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
وإذا كان هذا حاله فكيف حال غيره
فإن قلت لا يخفى أن ما يطرأ على القلب من الهموم والخواطر نقص وأن الكمال في الخلو
عنه وأن القصور عن معرفة كنه جلال الله نقص وأنه كلما ازدادت المعرفة زاد الكمال
وأن الانتقال إلى الكمال من أسباب النقصان رجوع والرجوع توبة ولكن هذه فضائل لا
فرائض وقد أطلقت القول بوجوب التوبة في كل حال والتوبة عن هذه الأمور ليست بواجبة
إذ إدراك الكمال غير واجب في الشرع فما المراد بقولك التوبة واجبة فى كل حال فاعلم
أنه قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدإ خلقته من اتباع الشهوات أصلا وليس معنى
التوبة تركها فقط بل تمام التوبة بتدارك ما مضى وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفع
منها ظلمة إلى قلبه كما يرتفع عن نفس الإنسان ظلمه إلى وجه المرآة الصقيلة فإن
تراكمت ظلمة الشهوات صار رينا كما يصير بخار النفس في وجهه المرآة عند تراكمه خبثا
كما قال تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون فإذا تراكم الرين صار طبعا
فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرأة إذا تراكم وطال زمانه غاص فى جرم الحديد
وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده وصار كالمطبوع من الخبث ولا يكفى في تدارك اتباع
الشهوات تركها في المستقبل بل لا بد من محو تلك الأريان التى انطبعت في القلب كما
لا يكفى في ظهور الصور في المرآة قطع الانفاس والبخارت المسودة لوجهها في المستقبل
ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الأريان وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصى
والشهوات فيرتفع إليه نور من الطاعات وترك الشهوات فتنمحى ظلمة المعصية بنور
الطاعة وإليه الإشارة بقوله عليه السلام أتبع السيئة الحسنة تمحها // حديث اتبع
السيئة الحسنة تمحها أخرجه الترمذي من حديث ابي ذر بزيادة في أوله وآخره وقال حسن
صحيح وقد تقدم في رياضة النفس // فإذن لا يستغنى العبد في حال من أحواله عن محو
آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضاد آثارها آثار تلك السيئات هذا في قلب حصل
أولا صفاؤه وجلاؤه ثم أظلم بأسباب عارضة فأما التصقيل الأول ففيه يطول الصقل إذ
ليس شغل الصقل في إزالة الصدإ عن المرآة كشغله في عمل أصل المرآة فهذه أشغال طويلة
لا تنقطع أصلا وكل ذلك يرجع إلى التوبة فأما قولك إن هذا لا يسمى واجبا بل هو فضل
وطلب كمال فاعلم أن الواجب له معنيان أحدهما ما يدخل في فتوى الشرع ويشترك فيه
كافة الخلق وهو القدر الذي لو اشتغل به كافة الخلق لم يخرب العالم فلو كلف الناس
كلهم أن يتقوا الله حق تقاته لتركوا المعايش ورفضوا الدنيا بالكلية ثم يؤدى ذلك
إلى بطلان التقوى بالكلية فإنه مهما فسدت المعايش لم يتفرغ أحد للتقوى بل شغل
الحياكة
والحراثة والخبز يستغرق جميع العمر من كل واحد فيما يحتاج إليه فجميع هذه الدرجات ليست بواجبة بهذا الاعتبار والواجب الثاني هو الذي لا بد منه للوصول به إلى القرب المطلوب من رب العالمين والمقام المحمود بين الصديقين والتوبة عن جميع ما ذكرناه واجبه في الوصول إليه كما يقال الطهارة واجبة في الصلاة للتطوع أى لمن يريدها فإنه لا يتوصل إليه إلا بها فأما من رضى بالنقصان والحرمان عن فضل صلاة التطوع فالطهارة ليست واجبه عليه لأجلها كما يقال العين والأذن واليد والرجل شرط في وجود الإنسان يعنى أنه شرط لمن يريد أن يكون إنسانا كاملا ينتفع بإنسانيته ويتوصل بها إلى درجات العلا في الدنيا فأما من قنع بأصل الحياة ورضى أن يكون كلحم على وضم وكخرقة مطروحة فليس يشترط لمثل هذه الحياة عين ويد ورجل فأصل الواجبات الداخلة في فتوى العامة لا يوصل إلا إلى أصل النجاة وأصل النجاة كأصل الحياة وما وراء أصل النجاة من السعادات التى بها تنتهى الحياة يجرى مجرى الاعضاء والآلات التى بها تتهيأ الحياة وفيه سعى الأنبياء والأولياء والعلماء والأمثل فالأمثل وعليه كان حرصهم وحواليه كان تطوافهم ولأجله كان رفضهم لملاذ الدنيا بالكلية حتى انتهى عيسى عليه السلام إلى أن توسد حجرا في منامه فجاء إليه الشيطان وقال أما كنت تركت الدنيا للآخرة فقال نعم وما الذى حدث فقال توسدك لهذا الحجر تنعم في الدنيا فلم لا تضع رأسك على الأرض فرمى عيسى عليه السلام بالحجر ووضع رأسه على الأرض وكان رميه للحجر توبة عن ذلك التنعم أفترى أن عيسى عليه السلام لم يعلم أن وضع الرأس على الأرض لا يسمى واجبا في فتاوى العامة أفترى أن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم لما شغله الثوب الذي كان عليه علم فى صلاته حتى نزعه // حديث نزعه صلى الله عليه و سلم الثوب الذي كان عليه في الصلاة تقدم في الصلاة أيضا // وشغله شراك نعله الذي جدده حتى أعاد الشراك الخلق // حديث نزعه الشراك الجديد وإعادة الشراك الخلق تقدم في الصلاة أيضا // لم يعلم أن ذلك ليس واجبا في شرعة الذى شرعه لكافة عباده فإذا علم ذلك فلم تاب عنه بتركه وهل كان ذلك إلا لأنه رآه مؤثرا في قلبه أثرا يمنعه عن بلوغ المقام المحمود الذي قد وعد به أفترى أن الصديق رضى الله عنه بعد أن شرب اللبن وعلم أنه على غير وجه أدخل أصبعه في حلقه ليخرجه حتى كاد يخرج معه روحه ما علم من الفقه هذا القدر وهو أن ما أكله عن جهل فهو غير آثم به ولا يجب في فتوى الفقه إخراجه فلم تاب عن شرابه بالتدارك على حسب إمكانه بتخليه المعدة عنه وهل كان ذلك إلا لسر وقر في صدره عرفه ذلك السر أن فتوى العامة حديث آخر وأن خطر طريق الآخرة لا يعرفه إلا الصديقون فتأمل أحوال هؤلاء الذين هم أعرف خلق الله بالله وبطريق الله وبمكر الله وبمكامن الغرور بالله وإياك مرة واحدة أن تغرك الحياة الدنيا وإياك ثم إياك ألف ألف مرة أن يغرك بالله الغرور فهذه أسرار من استنشق مبادىء روائحها علم أن لزوم التوبة النصوح ملازم للعبد السالك في طريق الله تعالى في كل نفس من أنفاسه ولو عمر عمر نوح وأن ذلك واجب على الفور من غير مهلة ولقد صدق أبو سليمان الدارانى حيث قال لو لم يبك العاقل فيما بقى من عمره إلا على تفويت ما مضى منه فى غير الطاعة لكان خليقا أن يحزنه ذلك إلى الممات فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله وإنما قال هذا لأن العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة وضاعت منه بغير فائدة بكى عليها لا محالة وإن ضاعت منه وصار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه منها أشد وكل ساعة من العمر بل كل نفس جوهرة نفيسة لا خلف لها ولا بدل منها فإنها صالحة لأن توصلك إلى سعادة الأبد وتنقذك من شقاوة الأبد وأى جواهر أنفس من هذا فإذا ضيعتها في الغفلة فقد خسرت خسرانا مبينا وإن صرفتها إلى معصية
فقد
هلكت هلاكا فاحشا فإن كنت لا تبكى على هذه المعصية فذلك لجهلك ومصيبتك بجهلك أعظم
من كل مصيبة لكن الجهل مصيبة لا يعرف المصاب بها أنه صاحب مصيبة فإن نوم الغفلة
يحول بينه وبين معرفته والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فعند ذلك ينكشف لكل مفلس
إفلاسه ولكل مصاب مصيبته وقد رفع الناس عن التدارك
قال بعض العارفين إن ملك الموت عليه السلام إذا ظهر للعبد أعلمه أنه بقى من عمرك
ساعة وإنك لا تستأخر عنها طرفة عين فيبدو للعبد من الأسف والحسرة ما لو كانت له
الدنيا بحذافيرها لخرج منها على أن يضم إلى تلك الساعة ساعة أخرى ليستعتب فيها
ويتدارك تفريطه فلا يجد إليه سبيلا وهو أول ما يظهر من معانى قوله تعالى وحيل
بينهم وبين ما يشتهون وإليه الإشارة بقوله تعالى من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول
رب لو لا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء
أجلها فقيل الأجل القريب الذي يطلبه معناه أنه يقول عند كشف الغطاء للعبد يا ملك
الموت أخرنى يوما أعتذر فيه إلى ربى وأتوب وأتزود صالحا لنفسى فيقول فنيت الأيام
فلا يوم فيقول فأخرنى ساعة فيقول فنيت الساعات فلا ساعة فيغلق عليه باب التوبة
فيتغرغر بروحه وتتردد أنفاسه في شراسفه ويتجرع غصة اليأس عن التدارك وحسرة الندامة
على تضييع العمر فيضطرب أصل إيمانه في صدمات تلك الأحوال فإذا زهقت نفسه فإن كان
سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد فذلك حسن الخاتمة وإن سبق له القضاء
بالشقوة والعياذ بالله خرجت روحه على الشك والاضطراب وذلك سوء الخاتمة ولمثل هذا
يقال وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الآن
وقوله إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ومعناه
عن قرب عهد بالخطيئة بأن يتندم عليها ويمحو أثرها بحسنة يردفها بها قبل أن يتراكم
الرين على القلب فلا يقبل المحو ولذلك قال صلى الله عليه و سلم أتبع السيئة الحسنة
تمحها ولذلك قال لقمان لابنه يا بنى لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتى بغته ومن ترك
المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين أحدهما أن تتراكم الظلمة على
قلبه من المعاصى حتى يصير رينا وطبعا فلا يقبل المحو الثاني أن يعاجله المرض أو
الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو ولذلك ورد في الخبر أن أكثر صياح أهل النار من
التسويف // حديث إن أكثر صياح أهل النار من التسويف لم أجد له أصلا // فما هلك من
هلك إلا بالتسويف فيكون تسويده القلب نقدا وجلاؤه بالطاعة نسيئة إلى أن يختطفه
الموت فيأتى الله بقلب غير سليم ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم فالقلب أمانة
الله تعالى عند عبده والعمر أمانة الله عنده وكذا سائر أسباب الطاعة فمن خان في
الأمانة ولم يتدارك خيانته فأمره مخطر
قال بعض العارفين إن لله تعالى إلى عبده سرين يسرهما إليه على سبيل الإلهام أحدهما
إذا خرج من بطن أمه يقول له عبدي قد أخرجتك إلى الدنيا طاهرا نظيفا واستودعتك عمرك
وائتمنتك عليه فانظر كيف تحفظ الأمانة وانظر إلى كيف تلقانى والثانى عند خروج روحه
يقول عبدى ماذا صنعت في أمانتى عندك هل حفظتها حتى تلقانى على العهد فألقاك على
الوفاء أو أضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب وإليه الإشارة بقوله تعالى أوفوا بعهدى
أوف بعهدكم وبقوله تعالى والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون
بيان
أن التوبة إذا استجمعت شرائطها فهى مقبولة لا محالة
اعلم أنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في ان كل توبة صحيحة فهى مقبولة فالناظرون
بنور البصائر المستمدون من أنوار القرآن علموا أن كل قلب سليم مقبول عند الله
ومتنعم في الآخرة في جوار الله تعالى ومستعد لأن ينظر بعينه الباقية إلى وجه الله
تعالى وعلموا أن القلب خلق سليما في الأصل وكل مولود يولد على الفطرة وإنما تفوته
السلامة بكدورة ترهق وجهه من غبرة الذنوب وظلمتها وعلموا أن نار الندم تحرق تلك
الغبرة وأن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة وأنه لا طاقة لظلام المعاصى
مع نور الحسنات كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار بل كما لا طاقة لكدورة
الوسخ مع بياض الصابون وكما أن الثوب الوسخ لا يقبله الملك لأن يكون لباسه فالقلب
المظلم لا يقبله الله تعالى لأن يكون في جواره وكما أن استعمال الثوب فى الأعمال
الخسيسة يوسخ الثوب وغسله بالصابون والماء الحار ينظفه لا محالة فاستعمال القلب في
الشهوات يوسخ القلب وغسله بماء الدموع وحرقة الندم ينظفه ويطهره ويزكيه وكل قلب
زكى طاهر فهو مقبول كما أن كل ثوب نظيف فهو مقبول فإنما عليك التزكية والتطهير
وأما القبول فمبذول قد سبق به القضاء الأزلى الذي لا مرد له وهو المسمى فلاحا في
قوله قد أفلح من زكاها ومن لم يعرف على سبيل التحقيق معرفة أقوى وأجلى من المشاهدة
بالبصر أن القلب يتأثر بالمعاصى والطاعات تأثرا متضادا يستعار لأحدهما لفظ الظلمة
كما يستعار للجهل ويستعار للآخر لفظ النور كما يستعار للعلم وأن بين النور والظلمة
تضادا ضروريا لا يتصور الجمع بينهما فكأنه لم يتلق من الدين إلا قشوره ولم يعلق به
إلا أسماؤه وقلبه في غطاء كثيف عن حقيقة الدين بل عن حقيقة نفسه وصفات نفسه ومن
جهل نفسه فهو بغيره أجهل وأعنى به قلبه إذ بقلبه يعرف غير قلبه فكيف يعرف غيره وهو
لا يعرف قلبه فمن يتوهم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام
لا يزول والثوب يغسل بالصابون والوسخ لا يزول إلا أن يغوص الوسخ لطول تراكمه في
تجاويف الثوب وخلله فلا يقوى الصابون على قلعه فمثال ذلك أن تتراكم الذنوب حتى
تصير طبعا ورينا على القلب فمثل هذا القلب لا يرجع ولا يتوب نعم قد يقول باللسان
تبت فيكون ذلك كقول القصار بلسانه قد غسلت الثوب وذلك لا ينظف الثوب أصلا ما لم
يغير صفة الثوب باستعمال ما يضاد الوصف المتمكن به فهذا حال امتناع أصل التوبة وهو
غير بعيد بل هو الغالب على كافة الخلق المقبلين على الدنيا المعرضين عن الله
بالكلية فهذا البيان كاف عند ذوى البصائر في قبول التوبة ولكنا نعضد جناحه بنقل
الآيات والأخبار والآثار فكل استبصار لا يشهد له الكتاب والسنة لا يوثق به وقد قال
تعالى وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات وقال تعالى غافر الذنب
وقابل التوب إلى غير ذلك من الايات وقال صلى الله عليه و سلملله أفرح بتوبة أحدكم
الحديث والفرح وراء القبول فهو دليل على القبول وزيادة وقال صلى الله عليه و سلمإن
الله عز و جل يبسط يده بالتوبة لمسىء الليل إلى النهار ولمسىء النهار إلى الليل
حتى تطلع الشمس من مغربها // حديث إن الله يبسط يده بالتوبة لمسىء الليل إلى
النهار الحديث رواه مسلم من حديث أبي موسى بلفظ يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار
الحديث وفي رواية للطبراني لمسىء الليل أن يتوب بالنهار الحديث // وبسط اليد كناية
عن طلب التوبة والطالب وراء القابل فرب قابل ليس بطالب ولا طالب إلا وهو قابل وقال
صلى الله عليه و سلملو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب الله عليكم //
حديث لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم لتاب عليكم أخرجه ابن ماجه من
حديث أبي هريرة وإسناده حسن بلفظ لو أخطأتم وقال ثم تبتم // وقال أيضا إن العبد
ليذنب
الذنب
فيدخل به الجنة فقيل كيف ذلك يا رسول الله قال يكون نصب عينه تائبا منه فارا حتى
يدخل الجنة // حديث إن العبد ليذنب الذنب فيدخل به الجنة الحديث أخرجه ابن المبارك
في الزهد عن المبارك بن فضالة عن الحسن مرسلا ولأبى نعيم في الحلية من حديث أبى
هريرة إن العبد ليذنب الذنب فإذا ذكره أحزنه فإذا نظر الله إليه أنه أحزنه غفر له
الحديث وفيه صالح المرى وهو رجل صالح لكنه مضعف في الحديث ولابن أبى الدنيا في
التوبة عن ابن عمر إن الله لينفع العبد بالذنب يذنبه والحديث غير محفوظ قاله
العقيلى // وقال صلى الله عليه و سلمكفارة الذنب الندامة // حديث كفارة الذنب
الندامة أخرجه أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب من حديث ابن عباس وفيه يحيى بن
عمرو بن مالك اليشكرى ضعيف // وقال صلى الله عليه و سلمالتائب من الذنب كمن لا ذنب
له
ويروى أن حبشيا قال يا رسول الله إنى كنت أعمل الفواحش فهل لى من توبة قال نعم
فولى ثم رجع فقال يا رسول الله أكان يرانى وأنا أعملها قال نعم فصاح الحبشى صيحة
خرجت فيها روحه // حديث أن حبشيا قال يا رسول الله إني كنت أعمل الفواحش فهل لى من
توبة قال نعم الحديث لم أجد له أصلا //
ويروى أن الله عز و جل لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم القيامة فقال
وعزتك لا خرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح فقال الله تعالى وعزتى وجلالى لا
حجبت عنه التوبة ما دام الروح فيه // حديث إن الله لما لعن ابليس سأله النظرة
فأنظره الى يوم القيامة فقال وعزتك لاخرجت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح الحديث
أخرجه أحمد وابو يعلى والحاكم وصححه من حديث أبى سعيد ان الشيطان قال وعزتك يا رب
لا أزال أغوى عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال وعزتى وجلالى لا أزال أغفر
لهم ما استغفرونى أورده المصنف بصيغة ويروى كذا ولم يعزه الى النبي صلى الله عليه
و سلم فذكرته احتياطا //
وقال صلى الله عليه و سلمإن الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ // حديث
ان الحسنات يذهبن السيئات كما يذهب الماء الوسخ لم أجده بهذا اللفظ وهو صحيح
المعنى وهو بمعنى أتبع السيئة الحسنة تمحها رواه الترمذي وتقدم قريبا // والأخبار
في هذا لا تحصى
واما الآثار فقد قال سعيد بن المسيب أنزل قوله تعالى إنه كان للأوابين غفورا في
الرجل يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب
وقال الفضيل قال الله تعالى بشر المذنبين بأنهم إن تابوا قبلت منهم وحذر الصديقين
أنى إن وضعت عليهم عدلى عذبتهم
وقال طلق بن حبيب إن حقوق الله أعظم من أن يقوم بها العبد ولكن أصبحوا تائبين
وأمسوا تائبين
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من ذكر خطيئة ألم بها فوجل منها قلبه محيت
عنه في أم الكتاب
ويروى أن نبينا من أنبياء بنى إسرائيل أذنب فأوحى الله تعالى إليه وعزتى لئن عدت
لأعذبنك فقال يا رب أنت أنت وأنا أنا وعزتك إن لم تعصمني لأعودن فعصمة الله تعالى
وقال بعضهم إن العبد ليذنب الذنب فلا يزال نادما حتى يدخل الجنة فيقول إبليس ليتني
لم أوقعه في الذنب
وقال حبيب بن ثابت تعرض على الرجل ذنوبه يوم القيامة فيمر بالذنب فيقول أما إني قد
كنت مشفقا منه فيغفر له
ويروى أن رجلا سأل ابن مسعود عن ذنب ألم به هل له من توبة فأعرض عنه ابن مسعود ثم
التفت إليه فرأى عينيه تذرفان فقال له إن للجنة ثمانية أبواب كلها تفتح وتغلق إلا
باب التوبة فإن عليه ملكا موكلا به لا يغلق فاعمل ولا تيأس
وقال عبد الرحمن بن أبي القاسم تذاكرنا مع عبد الرحيم توبة الكافر وقول الله تعالى
إن ينتهوا
يغفر
لهم ما قد سلف فقال إنى لأرجو أن يكون المسلم عند الله أحسن حالا ولقد بلغني أن
توبة المسلم كإسلام بعد إسلام
وقال عبد الله بن سلام لا أحدثكم إلا عن نبي مرسل أو كتاب منزل إن العبد إذا عمل
ذنبا ثم ندم عليه طرفة عين سقط عنه أسرع من طرفة عين
قال عمر رضي الله عنه اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة
وقال بعضهم أنا أعلم متى يغفر الله لي قيل ومتى قال إذا تاب على
وقال آخر أنا من أن أحرم التوبة أخوف من أن أحرم المغفرة أي المغفرة من لوازم
التوبة وتوابعها لا محالة
ويروى أنه كان في بنى إسرائيل شاب عبد الله تعالى عشرين سنة ثم عصاه عشرين سنة ثم
نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته فساءه ذلك فقال إلهى أطعتك عشرين سنة ثم عصيتك
عشرين سنة فإن رجعت إليك أتقبلنى فسمع قائلا يقول ولا يرى شخصا أحببتنا فأحببناك
وتركتنا فتركناك وعصيتنا فأمهلناك وإن رجعت إلينا قبلناك
وقال ذو النون المصرى رحمه الله تعالى إن لله عبادا نصبوا أشجار الخطايا نصب روامق
القلوب وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندما وحزنا فجنوا من غير جنون وتبلدوا من غير عى
ولا بكم وإنهم هم البلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله ثم شربوا بكأس الصفاء
فورثوا الصبر على طول البلاء ثم تولهت قلوبهم في الملكوت وجالت أفكارهم بين سرايا
حجب الجبروت واستظلوا تحت رواق الندم وقرءوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع
حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا واستلانوا خشونة
المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة وسرحت أرواحهم في العلا حتى أناخوا في
رياض النعيم وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا
بفناء العلم واستقوا من غدير الحكمة وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في
بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة ومعدن العز والكرامة فهذا القدر كاف في
بيان أن كل توبة صحيحة مقبولة لا محالة
فإن قلت أفتقول ما قالته المعتزلة من أن قبول التوبة واجب على الله فأقول لا أعنى
بما ذكرته من وجوب قبول التوبة على الله إلا ما يريده القائل بقوله إن الثوب إذا
غسل بالصابون وجب زوال الوسخ وإن العطشان إذا شرب الماء وجب زوال العطش وأنه إذا
منع الماء مدة وجب العطش وأنه إذا دام العطش وجب الموت وليس في شىء من ذلك ما
يريده المعتزلة بالإيجاب على الله تعالى بل أقول خلق الله تعالى الطاعة مكفرة
للمعصية والحسنة ماحية للسيئة كما خلق الماء مزيلا للعطش والقدرة متسعة بخلافه لو
سبقت به المشيئة فلا واجب على الله تعالى ولكن ما سبقت به إرادته الأزلية فواجب
كونه لا محالة
فإن قلت فما من تائب إلا وهو شاك في قبول توبته والشارب للماء لا يشك في زوال عطشه
فلم يشك فيه فأقول شكه فى القبول كشكه فى وجود شرائط الصحة فإن للتوبة أركانا
وشروطا دقيقة كما سيأتى وليس يتحقق وجود جميع شروطها كالذي يشك في دواء شربه
للإسهال فإنه هل يسهل وذلك لشكه في حصول شروط الإسهال في الدواء باعتبار الحال
والوقت وكيفية خلط الدواء وطبخه وجودة عقاقيره وأدويته فهذا وأمثاله موجب للخوف
بعد التوبة وموجب للشك في قبولها لا محالة على ما سيأتى في شروطها إن شاء الله
تعالى
الركن
الثاني فيما عنه التوبة وهى الذنوب صغائرها وكبائرها
اعلم أن التوبة ترك الذنب ولا يمكن ترك الشىء إلا بعد معرفته وإذا كانت التوبة
واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجبا فمعرفة الذنوب إذن واجبة والذنب عبارة
عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل وتفصيل ذلك يستدعى شرح التكليفات
من أولها إلى آخرها وليس ذلك من غرضنا ولكنا نشير إلى مجامعها وروابط أقسامها
والله الموفق للصواب برحمته
بيان أقسام الذنوب بالإضافة إلى صفات العبد
اعلم أن للإنسان أوصافا وأخلاقا كثيرة على ما عرف شرحه في كتاب عجائب القلب
وغوائله ولكن تنحصر مثارات الذنوب في أربع صفات صفات ربوبية وصفات شيطانية وصفات
بهيمية وصفات سبعية وذلك لأن طينة الإنسان عجنت من أخلاط مختلفة فاقتضى كل واحد من
الأخلاط في المعجون منه أثرا من الآثار كما يقتضى السكر والخل والزعفران في
السكنجبين آثارا مختلفة فأما ما يقتضى النزوع إلى الصفات الربوبية فمثل الكبر
والفخر والجبرية وحب المدح والثناء والغنى وحب دوام البقاء وطلب الاستعلاء على
الكافة حتى كأنه يريد أن يقول أنا ربكم الأعلى وهذا يتشعب منه جملة من كبائر
الذنوب غفل عنها الخلق ولم يعدوها ذنوبا وهى المهلكات العظيمة التى هى كالأمهات
لأكثر المعاصي كما استقصيناه في ربع المهلكات الثانية هى الصفة الشيطانية التى
منها يتشعب الحسد والبغى والحيلة والخداع والأمر بالفساد والمكر وفيه يدخل الغش
والنفاق والدعوة إلى البدع والضلال الثالثة الصفة البهيمية ومنها يتشعب الشره
والكلب والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج ومنه يتشعب الزنا واللوط والسرقة وأكل
مال الأيتام وجمع الحطام لأجل الشهوات الرابعة الصفة السبعية ومنها يتشعب الغضب
والحقد والتهجم على الناس بالضرب والشتم والقتل واستهلاك الأموال ويتفرع عنها جمل
من الذنوب وهذه الصفات لها تدريج في الفطرة فالصفة البهيمية هى التى تغلب أولا ثم
تتلوها الصفة السبعية ثانيا ثم إذا اجتمعا استعملا العقل في الخداع والمكر والحيلة
وهى الصفة الشيطانية ثم بالآخرة تغلب الصفات الربوبية وهى الفخر والعز والعلو وطلب
الكبرياء وقصد الاستيلاء على جميع الخلق فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ثم تنفجر
الذنوب من هذه المنابع على الجوارح فبعضها في القلب خاصة كالكفر والبدعة والنفاق
وإضمار السوء للناس وبعضها على العين والسمع وبعضها على اللسان وبعضها على البطن
والفرج وبعضها على اليدين والرجلين وبعضها على جميع البدن ولا حاجة إلى بيان تفصيل
ذلك فإنه واضح
قسمة ثانية أعلم أن الذنوب تقسم إلى ما بين العبد وبين الله تعالى وإلى ما يتعلق
بحقوق العباد فما يتعلق بالعبد خاصة كترك الصلاة والصوم والواجبات الخاصة به وما
يتعلق بحقوق العباد كتركه الزكاة وقتله النفس وغصبه الأموال وشتمه الأعراض وكل
متناول من حق الغير فإما نفس أو طرف أو مال أو عرض أو دين أو جاه وتناول الدين
بالإغواء والدعاء إلى البدعة والترغيب في المعاصى وتهييج أسباب الجراءة على الله
تعالى كما يفعله بعض الوعاظ بتغليب جانب الرجاء على جانب الخوف وما يتعلق بالعباد
فالأمر فيه أغلظ وما بين العبد وبين الله تعالى إذا لم يكن شركا فالعفو فيه أرجى
وأقرب وقد جاء فى الخبر الدواوين ثلاثة ديوان يغفر وديوان لا يغفر وديوان لا يترك
فالديوان الذي يغفر ذنوب العباد بينهم وبين الله تعالى وأما الديوان الذي لا يغفر
فالشرك
بالله
تعالى وأما الديوان الذي لا يترك فمظالم العباد // حديث الدواوين ثلاثة ديوان يغفر
الحديث أخرجه أحمد والحاكم وصححه من حديث عائشة وفيه صدقه بن موسى الدقيقىضعفه ابن
معين وغيره وله شاهد من حديث سلمان رواه الطبراني // أي لا بد وأن يطالب بها حتى
يعفى عنها
قسمة ثالثة أعلم أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر وقد كثر اختلاف الناس فيها فقال
قائلون لا صغيرة ولا كبيرة بل كل مخالفة لله فهى كبيرة وهذا // ضعيف // إذ قال
تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما وقال
تعالى الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم وقال صلى الله عليه و سلم
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة يكفرن ما بينهن إن اجتنبت الكبائر // حديث
الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة تكفر ما بينهن ان اجتنبت الكبائر رواه مسلم من
حديث أبى هريرة // وفى لفظ آخر كفارات لما بينهن إلا الكبائر وقد قال صلى الله
عليه و سلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص الكبائر الإشراك بالله وعقوق
الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس // حديث عبد الله بن عمرو الكبائر الإشراك
بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمن الغموس رواه البخاري // واختلف الصحابة
والتابعون في عدد الكبائر من أربع إلى سبع إلى تسع إلى إحدى عشرة فما فوق ذلك فقال
ابن مسعود هن أربع وقال ابن عمر هن سبع وقال عبد الله بن عمرو هن تسع وكان ابن
عباس إذا بلغه قول ابن عمر الكبائر سبع يقول هن إلى سبعين أقرب منها إلى سبع وقال
مرة كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة وقال غيره كل ما أوعد الله عليه بالنار فهو من
الكبائر وقال بعض السلف كل ما أوجب عليه الحد فى الدنيا فهو كبيرة وقيل إنها مبهمة
لا يعرف عددها كليلة القدر وساعة يوم الجمعة وقال ابن مسعود لما سئل عنها اقرأ من
أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية منها عند قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
فكل ما نهى الله عنه فى هذه السورة إلى هنا فهو كبيرة وقال أبو طالب المكى الكبائر
سبع عشر جمعتها من جملة الأخبار // الأخبار الواردة في الكبائر حكى المصنف عن أبي
طالب المكى أنه قال الكبائر سبع عشرة جميعها من جملة الأخبار وجملة ما اجتمع من
قول ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وغيرهم الشرك بالله والإصرار على معصيته والقنوط
من رحمته والأمن من مكره وشهادة الزور وقذف المحصن واليمين الغموس والسحر وشرب
الخمر والمسكر وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا والزنا واللواط والقتل والسرقة
والفرار من الزحف وعقوق الوالدين انتهى وسأذكر ما ورد منها مرفوعا وقد تقدم أربعة
منها في حديث عبد الله بن عمرو وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة اجتنبوا السبع
الموبقات قالوا يا رسول الله وما هى قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التى حرم
الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولى يوم الزحف وقذف المحصنات
المؤمنات ولهما من حديث أبى بكرة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال الشرك بالله وعقوق
الوالدين وشهادة الزور أو قال قول الزور ولهما من حديث أنس سئل عن الكبائر قال
الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قال قول
الزور أو قال شهادة الزور ولهما من حديث ابن مسعود سألت رسول الله صلى الله عليه و
سلم أى الذنب أعظم قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أى قال أن تقتل ولدك مخافة
أن يطعم معك قلت ثم أى قال أن تزانى حليلة جارك وللطبرانى من حديث سلمة بن قيس
إنما هى أربع لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التى حرم الله إلا بالحق ولا
تزنوا ولا تسرقوا وفى الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت بايعونى على أن لا تشركوا
بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا وفى الأوسط للطبرانى من حديث ابن عباس الخمر أم
الفواحش وأكبر الكبائر وفيه موقوفا على عبد الله بن عمرو أعظم الكبائر شرب الخمر
وكلاهما ضعيف وللبزار من حديث ابن عباس بإسناد حسن أن رجلا قال يا رسول الله ما
الكبائر قال الشرك بالله والإياس من روح الله والقنوط من رحمة الله وله من حديث
بريدة أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضل الماء ومنع الفحل وفيه
صالح ابن حبان ضعفه ابن معين والنسائى وغيرهما وله من حديث أبى هريرة الكبائر
أولهن الاشراك بالله وفيه والانتقال إلى الأعراب بعد هجرته وفيه خالد بن يوسف
السمين ضعيف وللطبراني في الكبير من حديث سهل بن أبى حثمة في الكبائر والتعرب بعد
الهجرة وفيه ابن لهيعة وله في الأوسط من حديث أبى سعيد الخدري الكبائر سبع وفيه
والرجوع إلى الأعرابية بعد الهجرة وفيه أبو بلال الأشجرى ضعفه الدارقطنى وللحاكم
من حديث عبيد بن عمير عن أبيه الكبائر تسع فذكر منها // وجملة ما اجتمع من قول ابن
عباس وابن مسعود وابن عمر
واستحلال البيت الحرام وللطبرانى من حديث واثلة إن من أكبر الكبائر أن يقول الرجل على ما لم أقل وله أيضا من حديثه إن من أكبر الكبائر أن ينتفى الرجل من ولده ولمسلم من حديث جابر بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة ولمسلم من حديث عبد الله بن عمرو من الكبائر شتم الرجل والديه ولأبى داود من حديث سعيد بن زيد من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه و سلم مر على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير وإنه الكبير أما أحدهما فكان يمشى بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بول الحديث ولأحمد في هذه القصة من حديث أبي بكرة أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس الحديث ولأبى داود والترمذي من حديث أنس عرضت على ذنوب أمتى فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها سكت عليه أبو داود واستغر به البخاري والترمذي وروى ابن أبى شيبة في التوبة من حديث ابن عباس لا صغيرة مع إصرار وفيه أبو شيبة الخراسانى والحديث منكر يعرف به وأما الموقوفات فروى الطبرانى والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمه الله واليأس من روح الله وروى البيهقي فيه عن ابن عباس قال الكبائر الإشراك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وعقوق الوالدين وقتل النفس التى حرم الله وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف وأكل الربا والسحر والزنا واليمين الغموس الفاجرة والغلول ومنع الزكاة وشهادة الزور وكتمان الشهادة وشرب الخمر وترك الصلاة متعمدا وأشياء مما فرضها الله ونقض العهد وقطيعة الرحم وروى ابن أبى الدنيا في التوبة عن ابن عباس كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة وفيه الربيع بن صبيح مختلف فيه وروى أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس عن أنس قوله لا صغيرة مع الإصرار وإسناده جيد فقد اجتمع من المرفوعات والموقوفات ثلاثة وثلاثون أو اثنان وثلاثون إلا أن بعضها لا يصح إسناده كما تقدم وإنما ذكرت الموقوفات حتى يعلم ما ورد في المرفوع وما ورد في الموقوف وللبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه قيل له الكبائر سبع فقال هى إلى السبعين أقرب وروى البيهقي أيضا فيه عن ابن عباس قال كل ما نهى الله عنه كبيرة والله اعلم // وغيرهم أربعة في القلب وهى الشرك بالله والإصرار على معصيته والقنوط من رحمته والأمن من مكره وأربع في اللسان وهى شهادة الزور وقذف المحصن واليمين الغموس وهى التى يحق بها باطلا أو يبطل بها حقا وقيل هى التى يقتطع بها مال أمرىء مسلم باطلا ولو سواكا من أراك وسميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في النار والسحر وهو كل كلام يغير الإنسان وسائر الأجسام عن موضوعات الخلقة وثلاث في البطن وهى شرب الخمر والسكر من كل شراب وأكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا وهو يعلم واثنتان في الفرج وهما الزنا واللواط واثنتان في اليدين وهما القتل والسرقة وواحدة في الرجلين وهى الفرار من الزحف الواحد من اثنتين والعشرة من العشرين وواحدة في جميع الجسد وهى عقوق الوالدين قال وجملة عقوقهما أن يقسما عليه في حق فلا يبر قسمهما وإن سألاه حاجة فلا يعطيهما وأن يسباه فيضربهما ويجوعان فلا يطعمهما هذا ما قاله وهو قريب ولكن ليس يحصل به تمام الشفاء إذ يمكن الزيادة عليه والنقصان منه فإنه جعل أكل الربا ومال اليتيم من الكبائر وهى جناية على الأموال ولم يذكر في كبائر النفوس إلا القتل فأما فقء العين وقطع اليدين وغير ذلك من تعذيب المسلمين بالضرب وأنواع العذاب فلم يتعرض له وضرب اليتيم وتعذيبه وقطع أطرافه لا شك في أنه أكبر من أكل ماله كيف وفي الخبر من الكبائر السبتان بالسبة ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم // حديث من الكبائر السبتان بالسبة ومن الكبائر استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم عزاه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس لأحمد وأبى داود من حديث سعيد بن زيد والذي عندهما من حديثه من أربى الربا استطالة الرجل في عرض المسلم بغير حق كما تقدم // وهذا زائد على قذف المحصن وقال أبو سعيد الخدري وغيره من الصحابة إنكم لتعملون أعمالا هى أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من الكبائر // حديث أبى سعيد الخدري وغيره من الصحابة إنكم تعملون أعمالا هى أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم من الكبائر أخرجه أحمد والبزار بسند صحيح وقال من الموبقات بدل الكبائر ورواه البخاري من حديث أنس وأحمد والحاكم من حديث عبادة بن قرص وقال صحيح الاسناد // وقالت طائفة كل عمد كبيرة وكل ما نهى عنه فهو كبيرة وكشف الغطاء عن هذا أن نظر الناظر في السرقة أهى كبيرة
أم لا لا يصح ما لم يفهم معنى الكبيرة والمراد بها كقول القائل السرقة حرام أم لا ولا مطمع في تعريفه إلا بعد تقرير معنى الحرام أولا ثم البحث عن وجوده في السرقة فالكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع وذلك لأن الكبير والصغير من المضافات وما من ذنب إلا وهو كبير بالإضافة إلى ما دونه وصغير بالإضافة إلى ما فوقه فالمضاجعة مع الأجنبية بالاضافة إلى النظرة صغيرة بالإضافة إلى الزنا وقطع يد المسلم كبيرة إلى ضربة صغيرة بالاضافة إلى قتله نعم للإنسان أن يطلق على ما توعد بالنار على فعله خاصة اسم الكبيرة ونعنى بوصفه بالكبيرة أن العقوبة بالنار عظيمة وله أن يطلق على ما أوجب الحد عليه مصيرا إلى أن ما عجل عليه في الدنيا عقوبه واجبة عظيم وله أن يطلق على ما ورد في نص الكتاب النهى عنه فيقول تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه ثم يكون عظيما وكبيرة لا محالة بالاضافة إذ منصوصات القرآن أيضا تتفاوت درجاتها فهذه الإطلاقات لا حرج فيها وما نقل من ألفاظ الصحابه يتردد بين هذه الجهات ولا يبعد تنزيلها على شىء من هذه الاحتمالات نعم من المهمات أن تعلم معنى قول الله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقول رسول اللهA الصلوات كفارات لما بينهن إلا الكبائر فإن هذا إثبات حكم الكبائر والحق في ذلك أن الذنوب منقسمة في نظر الشرع إلى ما يعلم استعظامه إياها وإلى ما يعلم إنها معدودة في الصغائر وإلى ما يشك فيه فلا يدرى حكمه فالطمع في معرفة حد حاصر أو عدد جامع مانع طلب لما لم يمكن فإن ذلك لا يمكن إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن يقول إني أردت بالكبائر عشرا أو خمسا ويفصلها فإن لم يرد هذا بل ورد في بعض الألفاظ ثلاث من الكبائر // حديث ثلاث من الكبائر أخرجه الشيخان من حديث أبى بكرة ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاث الحديث وقد تقدم // وفي بعضها سبع من الكبائر // حديث سبع من الكبائر رواه الطبرانى في الأوسط من حديث أبى سعيد الكبائر سبع وقد تقدم وله في الكبير من حديث عبد الله بن عمر من صلى الصلوات الخمس واجتنب الكبائر الحديث ثم عدهن سبعا وتقدم عن الصحيحين حديث أبى هريرة اجتنبوا السبع الموبقات // ثم ورد أن السبتين بالسبة الواحدة من الكبائر وهو خارج عن السبع والثلاث علم أنه لم يقصد به العدد بما يحصر فكيف يطمع في عدد ما لم يعده الشرع وربما قصد الشرع ابهامه ليكون العباد منه على وجل كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها نعم لنا سبيل كلى يمكننا ان نعرف به أجناس الكبائر وأنواعها بالتحقيق وأما أعيانها فنعرفها بالظن والتقريب ونعرف أيضا أكبر الكبائر فأما أصغر الصغائر فلا سبيل إلى معرفته وبيانه أنا نعلم بشواهد الشرع وأنوار البصائر جميعا أن مقصد الشرائع كلها سياق الخلق إلى جوار الله تعالى وسعادة لقائه وأنه لا وصول لهم إلى ذلك إلا بمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وكتبه ورسله وإليه الإشارة بقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون أي ليكونوا عبيد لى ولا يكون العبد عبدا ما لم يعرف ربه بالربوبية ونفسه بالعبودية ولا بد أن يعرف نفسه وربه فهذا هو المقصود الأقصى ببعثة الأنبياء ولكن لا يتم هذا إلا في الحياة الدنيا وهو المعنى بقوله عليه الصلاة و السلام الدنيا مزرعة الآخرة // حديث الدنيا مزرعة الآخرة لم أجده بهذا اللفظ مرفوعا وروى العقيلي في الضعفاء وأبو بكر بن لال في مكارم الأخلاق من حديث طارق بن أشيم نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته الحديث وإسناده ضعيف // فصار حفظ الدنيا أيضا مقصودا تابعا للدين لأنه وسيلة إليه والمتعلق من الدنيا بالآخرة شيئان النفوس والأموال فكل ما يسد باب معرفة الله تعالى فهو أكبر الكبائر ويليه ما يسد باب حياة النفوس ويليه باب ما يسد المعايش التى بها حياة الناس فهذه ثلاث مراتب فحفظ
المعرفة على القلوب والحياة على الأبدان والأموال على الأشخاص ضروري في مقصود الشرائع كلها وهذه ثلاثة أمور لا يتصور أن تختلف فيها الملل فلا يجوز أن الله تعالى يبعث نبيا يريد ببعثه إصلاح الخلق في دينهم ودنياهم ثم يأمرهم بما يمنعهم عن معرفته ومعرفة رسله أو يأمرهم بإهلاك النفوس وإهلاك الأموال فحصل من هذا أن الكبائر على ثلاث مراتب الأولى ما يمنع من معرفة الله تعالى ومعرفة رسله وهو الكفر فلا كبيرة فوق الكفر إذ الحجاب بين الله وبين العبد هو الجهل والوسيلة المقربة له إليه هو العلم والمعرفة وقربة بقدر معرفته وبعده بقدر جهله ويتلو الجهل الذي يسمى كفرا الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته فإن هذا أيضا عين الجهل فمن عرف الله لم يتصور أن يكون آمنا ولا أن يكون آيسا ويتلو هذه الرتبة البدع كلها المتعلقة بذات الله وصفاته وأفعاله وبعضها أشد من بعض وتفاوتها على حسب تفاوت الجهل بها وعلى حسب تعلقها بذات الله سبحانه بأفعاله وشرائعه وبأوامره ونواهيه ومراتب ذلك لاتنحصر وهى تنقسم إلى ما يعلم أنها داخلة تحت ذكر الكبائر المذكورة في القرآن وإلى ما يعلم أنه لا يدخل وإلى ما يشك فيه وطلب دفع الشك في القسم المتوسط طمع في غير مطمع المرتبة الثانية النفوس إذ ببقائها وحفظها تدوم الحياة وتحصل المعرفة بالله فقتل النفس لا محالة من الكبائر وإن كان دون الكفر لأن ذلك يصدم عين المقصود وهذا يصدم وسيلة المقصود إذ حياة الدنيا لا تراد إلا للآخرة والتوصل إليها بمعرفة الله تعالى ويتلو هذه الكبيرة قطع الأطراف وكل ما يفضى إلى الهلاك حتى الضرب وبعضها أكبر من بعض ويقع في هذه الرتبة تحريم الزنا واللواط لأنه لو اجتمع الناس على الاكتفاء بالذكور في قضاء الشهوات انقطع النسل ودفع الموجود قريب من قطع الوجود وأما الزنا فإنه لا يفوت أصل الوجود ولكن يشوش الأنساب ويبطل التوارث والتناصر وجملة من الأمور التى لا ينتظم العيش إلا بها بل كيف يتم النظام مع إباحة الزنا ولا ينتظم أمور البهائم ما لم يتميز الفحل منها بإناث يختص بها عن سائر الفحول ولذلك لا يتصور أن يكون الزنا مباحا في أصل شرع قصد به الإصلاح وينبغى أن يكون الزنا فى الرتبة دون القتل لأنه ليس يفوت دوام الوجود ولا يمنع أصله ولكنه يفوت تمييز الأنساب ويحرك من الأسباب ما يكاد يفضى إلى التقاتل وينبغى أن يكون أشد من اللواط لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم أثر الضرر بكثرته المرتبة الثالثة الأموال فإنها معايش الخلق فلا يجوز تسلط الناس على تناولها كيف شاءوا حتى بالاستيلاء والسرقة وغيرهما بل ينبغى أن تحفظ لتبقى ببقائها النفوس إلا أن الأموال إذا أخذت أمكن استردادها وإن أكلت أمكن تغريمها فليس يعظم الأمر فيها نعم إذا جرى تناولها بطريق يعسر التدارك له فينبغى أن يكون ذلك من الكبائر وذلك بأربع طرق أحدها الخفية وهى السرقة فإنه إذا لم يطلع عليه غالبا كيف يتدارك الثانى أكل مال اليتيم وهذا أيضا من الخفية وأعنى به في حق الولى والقيم فإنه مؤتمن فيه وليس له خصم سوى اليتيم وهو صغير لا يعرفه فتعظيم الأمر فيه واجب بخلاف الغصب فإنه ظاهر يعرف وبخلاف الخيانة في الوديعة فإن المودع خصم فيه ينتصف لنفسه الثالث تفويتها بشهادة الزور الرابع أخذ الوديعة وغيرها باليمين الغموس فإن هذه طريق لا يمكن فيها التدارك ولا يجوز أن تختلف الشرائع في تحريمها أصلا وبعضها أشد من بعض وكلها دون الرتبة الثانية المتعلقة بالنفوس وهذه الأربعة جديرة بأن تكون مرادة بالكبائر وإن لم يوجب الشرع الحد في بعضها ولكن أكثر الوعيد عليها وعظم في مصالح الدنيا تأثيرها وأما أكل الربا فليس إلا أكل مال الغير بالتراضى مع الإخلال بشرط وضعه الشرع ولا يبعد أن تختلف الشرائع
في
مثله وإذا لم يجعل الغضب الذى هو أكل مال الغير بغيره رضاه وبغير رضا الشرع من
الكبائر فأكل الربا أكل برضا المالك ولكن دون رضا الشرع وإن عظم الشرع الزنا
بالزجر عنه فقد عظم أيضا الظلم بالغصب وغيره وعظم الخيانة والمصير إلى أن أكل دانق
بالخيانة أو الغصب من الكبائر فيه نظر وذلك واقع في مظنة الشك وأكثر ميل الظن إلى
انه غير داخل تحت الكبائر بل ينبغى أن تختص الكبيرة بما لا يجوز اختلاف الشرع فيه
ليكون ضروريا في الدين فيبقى مما ذكره أبو طالب المكي القذف والشرب والسحر والفرار
من الزحف وحقوق الوالدين أما الشرب لما يزيل العقل فهو جدير بأن يكون من الكبائر
وقد دل عليه تشديدات الشرع وطريق النظر أيضا لأن العقل محفوظ كما أن النفس محفوظة
بل لا خير في النفس دون العقل فإزالة العقل من الكبائر ولكن هذا لا يجرى في قطرة
من الخمر فلا شك في أنه لو شرب ماء فيه قطرة من الخمر لم يكن ذلك كبيرة وإنما هو
شرب ماء نجس والقطرة وحدها في محل الشك وإيجاب الشرع الحد به يدل على تعظيم أمره
فيعد ذلك من الكبائر بالشرع وليس في قوة البشرية الوقوف على جميع أسرار الشرع فإن
ثبت إجماع في أنه كبيرة وجب الاتباع ولا فللتوقف فيه مجال وأما القذف فليس فيه إلا
تناول الأعراض والأعراض دون الأموال في الريبة ولتناولها مراتب وأعظمها التناول
بالقذف بالإضافة إلى فاحشة الزنا وقد عظم الشرع أمره وأظن ظنا غالبا أن الصحابة
كانوا يعدون كل ما يجب به الحد كبيرة فهو بهذا الاعتبار لا تكفره الصلوات الخمس
وهو الذي نريده بالكبيرة الآن ولكن من حيث إنه يجوز أن تختلف فيه الشرائع فالقياس
بمجرده لا يدل على كبره وعظمته بل كان يجوز أن يرد الشرع بأن العدل الواحد إذا رأى
إنسانا يزنى فله أن يشهد ويجلد المشهود عليه بمجرد شهادته فإن لم تقبل شهادته فحده
ليس ضروريا في مصالح الدنيا وإن كان على الجملة من المصالح الظاهرة الواقعة في
رتبة الحاجات فإذن هذا أيضا يلحق بالكبائر في حق من عرف حكم الشرع فأما من ظن أن
له أن يشهد وحده أو ظن أنه يساعده على شهادة غيره فلا ينبغى أن يجعل في حقه من
الكبائر وأما السحر فإن كان فيه كفر فكبيرة وإلا فعظمته بحسب الضرر الذي يتولد منه
من هلاك نفس أو مرض أو غيره وأما الفرار من الزحف وعقوق الوالدين فهذا أيضا ينبغى
أن يكون من حيث القياس في محل التوقف وإذا قطع بأن سب الناس بكل شىء سوى الزنا
وضربهم والظلم لهم بغصب اموالهم وإخراجهم من مساكنهم وبلادهم وإجلائهم من أوطانهم
ليس من الكبائر إذ لم ينقل ذلك في السبع عشرة كبيرة وهو أكبر ما قيل فيه فالتوقف
في هذا أيضا غير بعيد ولكن الحديث يدل على تسميته كبيرة فليحلق بالكبائر فإذا رجع
حاصل الأمر إلى أنا نعنى بالكبيرة ما لا تكفره الصلوات بحكم الشرع وذلك مما انقسم
إلى ما علم أنه لا تكفره قطعا وإلى ما ينبغى أن تكفره وإلى ما يتوقف فيه والمتوقف
فيه بعضه مظنون للنفى والإثبات وبعضه مشكوك فيه وهو شك لا يزيله إلا نص كتاب أو
سنة وإذن لا مطمع فيه فطلب رفع الشك فيه محال
فإن قلت فهذا إقامة برهان على استحالة معرفة حدها فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة
حده فاعلم أن كل ما لا يتعلق به حكم في الدنيا فيجوز أن يتطرق إليه الإبهام لأن
دار التكليف هى دار الدنيا والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث إنها
كبيرة بل كل موجبات الحدود معلومة بأسمائها كالسرقة والزنا وغيرهما وإنما حكم
الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وهذا أمر يتعلق بالآخرة والإبهام أليق به حتى
يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرءون على الصغائر اعتمادا على الصلوات الخمس وكذلك
اجتناب الكبائر
يكفر
الصغائر بموجب قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ولكن
اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من
امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه
بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا
معنى تكفيره فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا
ولكن امتنع لخوف أمر آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا وكل من يشتهى الخمر بطبعه ولو
أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التى هى مقدماته كسماع الملاهى
والأوتار نعم من يشتهى الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها
في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التى ارتفعت إليه من
معصية السماع فكل هذه أحكام أخروية ويجوز أن يبقى بعضها في محل الشك وتكون من
المتشابهات فلا يعرف تفصيلها إلا بالنص ولم يرد النص بعد ولا حد جامع بل ورد
بألفاظ مختلفات فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال قال رسول اللهA الصلاة إلى الصلاة
كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله وترك السنة ونكث الصفقة //
حديث الصلاة إلى الصلاة كفارة ورمضان إلى رمضان كفارة إلا من ثلاث إشراك بالله
وترك السنة ونكث الصفقة الحديث أخرجه الحاكم من حديث أبى هريرة نحوه وقال صحيح
الإسناد // قيل ما ترك السنة قيل الخروج عن الجماعة ونكث الصفقة أن يبايع رجلا ثم
يخرج عليه بالسيف يقاتله فهذا وأمثاله من الألفاظ لا يحيط بالعدد كله ولا يدل على
حد جامع فيبقى لا محالة مبهما
فإن قلت الشهادة لا تقبل إلا ممن يجتنب الكبائر والورع عن الصغائر ليس شرطا في
قبول الشهادة وهذا من أحكام الدنيا فاعلم أنا لا نخصص رد الشهادة بالكبائر فلا
خلاف في أن من يسمع الملاهى ويلبس الديباج ويتختم بخاتم الذهب ويشرب في أوانى
الذهب والفضة لا تقبل شهادته ولم يذهب أحد إلى أن هذه الأمور من الكبائر وقال
الشافعى رضي الله عنه إذا شرب الحنفى النبيذ حددته ولم أرد شهادته فقد جعله كبيرة
بإيجاب الحد ولم يرد به الشهادة فدل على أن الشهادة نفيا وإثباتا لا تدور على
الصغائر والكبائر بل كل الذنوب تقدح في العدالة إلا ما لا يخلو الإنسان عنه غالبا
بضرورة مجارى العادات كالغيبة والتجسس وسوء الظن والكذب فى بعض الأقوال وسماع
الغيبة وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأكل الشبهات وسب الولد والغلام
وضربهما بحكم الغضب زائدا على المصلحة وإكرام السلاطين الظلمة ومصادقة الفجار
والتكاسل عن تعليم الأهل والولد جميع ما يحتاجون إليه من أمر الدين فهذه ذنوب لا
يتصور أن ينفك الشاهد عن قليلها أو كثيرها إلا بأن يعتزل الناس ويتجرد لأمور
الآخرة ويجاهد نفسه مدة بحيث يبقى على سمعته مع المخالفة بعد ذلك ولو لم يقبل إلا
قول مثله لعز وجوده وبطلت الأحكام والشهادات وليس لبس الحرير وسماع الملاهى واللعب
بالنرد ومجالسة أهل الشرب في وقت الشرب والخلوة بالأجنبيات وأمثال هذه الصغائر من
هذا القبيل فإلى مثل هذا المنهاج ينبغى أن ينظر في قبول الشهادة وردها لا إلى
الكبيرة والصغيرة ثم آحاد هذه الصغائر التى لا ترد الشهادة بها لو واظب عليها لأثر
في رد الشهادة كمن اتخذ الغيبة وثلب الناس عادة وكذلك مجالسة الفجار ومصادقتهم
والصغيرة تكبر بالموا