٢٣٤٥٦١=
ج٣.كتاب : تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ 700 -774 هـ ]
وذِكر
أبي طالب في هذا ، غريب جدا ، بل منكر ؛ لأن هذه الآية مدنية ، ثم إن هذه القصة
واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل ، إنما
كان ليلة الهجرة سواء ، وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا
منه واجترءوا عليه بعد موت عمه أبي طالب ، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه.
والدليل على صحة ما قلنا : ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يَسَار صاحب
"المغازي" عن عبد الله بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال :
وحدثني الكلبي ، عن باذان مولى أم هانئ ، عن ابن عباس ؛ أن نفرًا من قريش من أشراف
كل قبيلة ، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة ، فاعترضهم (1) إبليس في صورة شيخ جليل ،
فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد ، سمعت أنكم اجتمعتم ، فأردت أن
أحضركم ولن يعدمكم رأيي ونصحي. قالوا : أجل ، ادخل فدخل معهم فقال : انظروا في شأن
هذا الرجل ، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره. قال : فقال قائل منهم :
احبسوه في وثاق ، ثم تربصوا به ريب المنون ، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من
الشعراء : زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم ، قال : فصرخ عدو الله الشيخ النجدي
فقال : والله ما هذا لكم برأي ، والله ليخرجنه ربه من محبسه (2) إلى أصحابه ،
فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ، فيمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن
يخرجوكم من بلادكم. قال : فانظروا في غير هذا.
قال : فقال قائل منهم : أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لن
يضركم ما صنع وأين وقع ، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم ، وكان أمره في غيركم ، فقال
الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حلاوة [قوله] (3) وطلاوة لسانه ،
وأخذ القلوب ما تسمع (4) من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ، ثم استعرض العرب ، ليجتمعن
عليكم (5) ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم. قالوا : صدق والله
، فانظروا بابا غير هذا. قال : فقال أبو جهل ، لعنه الله : والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم تصرمونه (6)
بعد ، ما أرى غيره. قالوا : وما هو ؟ قال : نأخذ من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا
نهدًا ، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه
تفرق دمه في القبائل [كلها] (7) فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش
كلها. فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ، واسترحنا وقطعنا عنا أذاه.
قال : فقال الشيخ النجدي : هذا والله الرأي. القول ما قال الفتى لا رأي غيره ، قال
: فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له (8)
فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره ألا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه
، وأخبره بمكر القوم.
__________
(1) في د : "واعترضهم".
(2) في أ : "من حبسه".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "ما نشبع".
(5) في د ، ك ، م : "عليه".
(6) في أ : "بصرتموه"
(7) زيادة من د ، ك ، م ، أ.
(8) زيادة من د ، ك ، م.
(4/44)
فلم
يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة ، وأذن الله له عند ذلك
بالخروج ، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة "الأنفال" يذكر نعمه (1)
عليه وبلاءه عنده : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ
يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ
الْمَاكِرِينَ } وأنزل [الله] (2) في قولهم : "تربصوا به ريب المنون ، حتى
يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء" ، { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ
نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } [الطور : 30] وكان ذلك اليوم يسمى "يوم
الزحمة" (3) للذي اجتمعوا عليه من الرأي (4)
وعن السُّدِّيّ نحو هذا السياق ، وأنزل الله في إرادتهم إخراجه قوله تعالى : {
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا
يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 76].
وكذا روى العَوْفي ، عن ابن عباس. وروي عن مجاهد ، وعُرْوة بن الزبير ، وموسى بن
عُقْبَة ، وقتادة ، ومِقْسَم ، وغير واحد ، نحو ذلك.
وقال يونس بن بُكَيْر ، عن ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر
أمر الله ، حتى إذا اجتمعت قريش فمكرت به ، وأرادوا به ما أرادوا ، أتاه جبريل ،
عليه السلام ، فأمره ألا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه (5) فدعا رسول الله صلى
الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، فأمره أن يبيت على فراشه وأن يتسجى ببُرد له
أخضر ، ففعل. ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه ،
وخَرَج معه بحفنة من تراب ، فجعل يذرها على رؤوسهم ، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } إلى قوله : {
فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } [يس : 1 - 9].
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : روي عن عكرمة ما يؤكد هذا (6)
وقد روى [أبو حاتم] (7) ابن حِبَّان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد
الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : دخلت فاطمةُ
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي ، فقال : "ما يبكيك يا بُنَيَّة
؟" قالت : يا أبت ، [و] (8) ما لي لا أبكي ، وهؤلاء الملأ من قريش في الحجْر
يتعاقدون باللات والعُزَّى ومناة الثالثة الأخرى ، لو قد رأوك لقاموا إليك
فيقتلونك ، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك. فقال : "يا بنية ، ائتني
بوَضُوء". فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج إلى المسجد. فلما
رأوه قالوا : إنما هو ذا (9) فطأطؤوا رؤوسهم ، وسقطت أذقانهم بين أيديهم ، فلم
يرفعوا أبصارهم. فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها ،
وقال : "شاهت الوجوه". فما أصاب رجلا منهم حَصَاة من حصياته إلا قُتل
يوم بدر كافرا.
ثم قال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، ولا أعرف له علة (10)
__________
(1) في ك ، م : "نعمته".
(2) زيادة من د ، ك ، أ.
(3) في د ، ك ، م ، أ : "الرحمة".
(4) رواه الطبري في تفسيره (13/494) من طريق ابن إسحاق به.
(5) في د ، ك ، م : "به".
(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/469 ، 470).
(7) زيادة من ك ، م.
(8) زيادة من د.
(9) في د ، ك ، م : "ها هو ذا".
(10) صحيح ابن حبان برقم (1691) "موارد" والمستدرك (3/157).
(4/45)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، أخبرني عثمان الجَزَري ، عن
مِقْسَم مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ } قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم :
إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق - يريدون النبي صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم : بل
اقتلوه. وقال بعضهم : بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات علي رضي الله عنه
على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم ،
فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا عليًّا رَدَّ الله تعالى مكرهم ، فقالوا : أين
صاحبك هذا ؟ قال : لا أدري. فاقتصا (2) أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ،
فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخل
هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال (3)
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله :
{ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } أي : فمكرت
بهم بكيدي المتين ، حتى خلصتك منهم.
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ
لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) وَإِذْ
قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) }
يخبر تعالى عن كفر قريش وعُتُوِّهم وتمرُّدهم وعنادهم ، ودعواهم الباطل عند سماع
آياته حين تتلى عليهم أنهم يقولون : { قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا
مِثْلَ هَذَا } وهذا منهم قول لا فعل ، وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة
من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلا. وإنما هذا قول منهم يَغُرّون به أنفسهم ومن
اتبعهم على باطلهم.
وقد قيل : إن القائل لذلك هو النضر بن الحارث - لعنه الله - كما قد نص على ذلك
سعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّيّ ، وابن جُرَيج وغيرهم ؛ فإنه - لعنه الله - كان قد
ذهب إلى بلاد فارس ، وتعلم من أخبار ملوكهم رُسْتم واسفنديار ، ولما قدم وجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله ، وهو يتلو على الناس القرآن ، فكان إذا قام
صلى الله عليه وسلم (4) من مجلس ، جلس فيه النضر فيحدثهم من أخبار أولئك ، ثم يقول
: بالله أيهما أحسن قصصا ؟ أنا أو محمد ؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر
ووقع في الأسارى ، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه
، ففُعل ذلك ، ولله الحمد. وكان الذي أسره المقداد بن
__________
(1) في ك ، م : "النبي".
(2) في د ، ك ، م : "فاقتصوا".
(3) المسند (1/348) قال الهيثمي في المجمع (7/27) : "فيه عثمان بن عمرو
الجزري وثقه ابن حبان وضعفه غيره ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(4) في ك ، د : "عليه السلام".
(4/46)
الأسود
، رضي الله عنه ، كما قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن بشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبَة ، عن أبي بِشْر ، عن
سعيد بن جُبَيْر قال : قَتَل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا عُقْبَةَ بن
أبي مُعَيْط وطُعَيْمة بن عَدِي ، والنضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النضر ،
فلما أمر بقتله ، قال المقداد : يا رسول الله ، أسيري. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " إنه كان يقول في كتاب الله ، عز وجل ، ما يقول". فأمر
رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم بقتله ، فقال المقداد : يا رسول الله ، أسيري.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم اغن المقداد من فضلك". فقال
المقداد : هذا الذي أردت. قال : وفيه أنزلت هذه الآية : { وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا
إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } (2)
وكذا رواه هُشَيْم ، عن أبي بشر جعفر بن أبي وَحْشِيّة ، عن سعيد بن جُبَيْر ؛ أنه
قال : "المطعم بن عدي" "بدل طعيمة" (3) وهو غلط ؛ لأن المطعم
بن عدي لم يكن حيا يوم بدر ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ :
"لو كان المطعم (4) حيا ، ثم سألني (5) في هؤلاء النَّتْنَى (6) لوهبتهم
له" (7) - يعني : الأسارى - لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم رجع من الطائف.
ومعنى : { أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } وهو جمع أسطورة ، أي : كتبهم اقتبسها ، فهو
يتعلم منها ويتلوها على الناس. وهذا هو الكذب البحت ، كما أخبر الله عنهم في الآية
الأخرى : { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى
عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان : 5 ، 6].أي
: لمن تاب إليه وأناب ؛ فإنه يتقبل منه ويصفح عنه.
وقوله : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ } هذا من كثرة جهلهم وعُتُوِّهم وعنادهم وشدة تكذيبهم ، وهذا مما عِيبُوا
به ، وكان الأولى لهم أن يقولوا : "اللهم ، إن كان هذا هو الحق من عندك ،
فاهدنا له ، ووفقنا لاتباعه". ولكن استفتحوا على أنفسهم ، واستعجلوا العذاب ،
وتقديم العقوبة كما قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا
أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ } [العنكبوت : 53] ، { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا
قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ص : 16] ، { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ
لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ } [المعارج : 1
- 3] ، وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة ، كما قال قوم شعيب له : { فَأَسْقِطْ
عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [الشعراء :
187] ، وقال هؤلاء : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ
فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
}
__________
(1) في د ، ك ، م ، أ : "النبي".
(2) تفسير الطبري (13/504).
(3) تفسير الطبري (13/504).
(4) في د ، ك ، م ، أ : "المطعم بن عدي".
(5) في ك : "وسألني".
(6) في أ : "السبى".
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (3139) من حديث جبير بن مطعم ، رضي الله عنه.
(4/47)
قال
شُعْبَة ، عن عبد الحميد ، صاحب الزيّادي ، عن أنس بن مالك قال : هو أبو جهل بن
هشام قال : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّمِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ
عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فنزلت {
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الآية.
رواه البخاري عن أحمد ومحمد بن النضر ، كلاهما عن عُبَيد الله بن مُعَاذ ، عن أبيه
، عن شعبة ، به (1)
وأحمد هذا هو : أحمد بن النضر بن عبد الوهاب. قاله الحاكم أبو أحمد ، والحاكم أبو
عبد الله النيسابوري ، والله أعلم.
وقال الأعمش ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ قَالُوا
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } قال : هو النضر بن
الحارث بن كلدة ، قال : فأنزل الله : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعْ
لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِع } [المعارج : 1 - 2] وكذا قال مجاهد ، وعطاء ،
وسعيد بن جبير ، والسدي : إنه النضر بن الحارث - زاد عطاء : فقال الله تعالى : {
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِالْحِسَابِ } [ص : 16]
وقال { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }
[الأنعام : 94] وقال { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ
لَهُ دَافِعٌ } [المعارج : 1 ، 2] ، قال عطاء : ولقد أنزل فيه بضع عشرة آية من
كتاب الله ، عز وجل.
وقال ابن مُرْدُوَيْه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث ،
حدثنا أبو غسان حدثنا أبو تُمَيْلة ، حدثنا الحسين ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه
قال : رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أُحُد على فرس ، وهو يقول : اللهم ، إن كان ما
يقول محمد حقا ، فاخسف بي وبفرسي".
وقال قتادة في قوله : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ
مِنْ عِنْدِكَ } الآية ، قال : قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها (2) فعاد الله
بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها.
وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا
كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا
أبي ، حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، حدثنا عِكْرِمة بن عمار ، عن أبي زُمَيْل
سِمَاك الحنفي ، عن ابن عباس قال : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك
اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك (3) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : "قَدْ
قد"! ويقولون : لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. ويقولون :
غفرانك ، غفرانك ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ
فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال ابن عباس
: كان فيهم أمانان : النبي صلى الله عليه وسلم ، والاستغفار ، فذهب النبي صلى الله
عليه وسلم وبقي الاستغفار (4)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4648 ، 4649).
(2) في ك : "وجهلها".
(3) في أ : "لك لبيك".
(4) ورواه الطبري في تفسير (13/511) من طريق أبي حذيفة موسى بن مسعود به.
(4/48)
وقال
ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو مَعْشَر ، عن يزيد بن
رُومَان ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها لبعض : محمد أكرمه الله من بيننا : {
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فلما أمسوا ندموا
على ما قالوا ، فقالوا : غفرانك اللهم! فأنزل الله ، عز وجل : { وَمَا كَانَ
اللَّهُ [لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ] مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } (1) إلى قوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
} [الإنفال : 34].
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ
وَأَنْتَ فِيهِمْ } يقول : ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى
يخرجهم ، ثم قال : { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }
يقول : وفيهم من قد سبق له من الله الدخولُ في الإيمان ، وهو الاستغفار - يستغفرون
، يعني : يصلون - يعني بهذا أهل مكة.
وروي عن مُجاهد ، وعِكْرِمَة ، وعطية العَوْفي ، وسعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّيّ
نحو ذلك.
وقال الضحاك وأبو مالك : { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ } يعني : المؤمنين الذين كانوا بمكة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الغفار بن داود ، حدثنا النضر بن
عَرَبي [قال] (2) قال ابن عباس : إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون
معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين أظهرهم : فأمان قبضه الله إليه ،
وأمان بقي فيكم ، قوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ
وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }
قال (3) أبو صالح عبد الغفار : حدثني بعض أصحابنا ، أن النضر بن عربي حدثه هذا
الحديث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس.
وروى ابن مَرْدُوَيه وابن جرير ، عن أبي موسى الأشعري نحوًا من هذا (4) وكذا رُوي
عن قتادة وأبي العلاء النحوي المقرئ.
وقال الترمذي : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا ابن نُمَيْر ، عن إسماعيل بن
إبراهيم بن مهاجر ، عن عباد بن يوسف ، عن أبي بردة بن أبي موسى ، عن أبيه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنزل الله عليَّ أمانين لأمتي : { وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فإذا مضيت ، تركتُ فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة"
(5)
ويشهد لهذا (6) ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد
الله بن وهب : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دَرَاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من د ، ك ، م ، أ.
(3) في ك : "وقال".
(4) تفسير الطبري (13/513).
(5) سنن الترمذي برقم (3082) وقال الترمذي : "هذا حديث غريب ، وإسماعيل بن
مهاجر يضعف في الحديث.
(6) في أ : "لصحة هذا".
(4/49)
قال
: "إن الشيطان قال : وعزتك يا رب ، لا أبرح أغْوِي عبادك ما دامت أرواحهم في
أجسادهم. فقال الرب : وعزتي وجلالي ، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني".
ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا رِشْدِين - هو ابن سعد - حدثني
معاوية بن سعد التُّجيبي ، عمن حدثه ، عن فَضَالة بن عُبَيد ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال : "العبد آمن من عذاب الله ما استغفر الله ، عز وجل"
(2)
__________
(1) المسند (3/29) والمستدرك (4/261) وهذا سياق الحاكم. وأما سياق أحمد في المسند
من طريق ابن لهيعة عن دراج به.
(2) المسند (6/20).
(4/50)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
{
وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ
الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ (35) }
يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم ، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين أظهرهم ؛ ولهذا لما خرج من بين أظهرهم ، أوقع الله بهم بأسه
يوم بدر ، فقُتل صناديدهم وأسرت سُراتهم. وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب ،
التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد.
قال قتادة والسُّدِّي وغيرهما : لم يكن القوم يستغفرون ، ولو كانوا يستغفرون لما
عذبوا.
واختاره ابن جرير ، فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين
، لأوقع بهم البأس الذي لا يرد ، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك ، كما قال تعالى في يوم
الحديبية : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ
وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ
مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ
يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا } [الفتح : 25].
قال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا يعقوب ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن ابن
أبزى قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } قال : فخرج النبي صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ } قال : وكان أولئك البقية من المؤمنين (1) الذين بقوا فيها
يستغفرون - يعني بمكة - فلما خرجوا ، أنزل الله : { وَمَا لَهُمْ أَلا
يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا
كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ } قال : فأذن الله في فتح مكة ، فهو العذاب الذي وعدهم.
ورُوي عن ابن عباس ، وأبي مالك والضحاك ، وغير واحد نحو هذا.
وقد قيل : إن هذه الآية ناسخة لقوله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ } على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم.
__________
(1) في د ، ك ، م : "المسلمين".
(4/50)
قال
ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن يزيد
النحوي ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في "الأنفال" : { وَمَا كَانَ
اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } فنسختها الآية التي تليها : { وَمَا لَهُمْ أَلا
يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ } إلى قوله : { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ } فقُوتلوا بمكة ، فأصابهم فيها الجوع والضر.
وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي (1) تُمَيْلة يحيى بن واضح (2)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن
جُرَيْج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ثم استثنى أهل الشرك فقال [تعالى] (3) {
وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ }
وقوله : { وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا
الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : وكيف لا يعذبهم الله
وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي ببكة ، يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن
الصلاة عنده والطواف به ؛ ولهذا قال : { وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ } أي : هم
ليسوا أهل المسجد الحرام ، وإنما أهله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كما قال
تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ
شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ
يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }
[التوبة : 17 ، 18] ، وقال تعالى : { وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
[وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ] } (4) الآية [البقرة : 217]..
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسير هذه الآية : حدثنا سليمان بن أحمد -
هو الطبراني - حدثنا جعفر بن إلياس بن صدقة المصري ، حدثنا نُعَيْم بن حماد ،
حدثنا نوح بن أبي مريم ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن أنس بن مالك ، رضي الله
عنه ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من آلك ؟ قال (5) كل تقي" ،
وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ }
(6)
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو بكر الشافعي ، حدثنا إسحاق بن الحسن ، حدثنا
أبو حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم (7) عن إسماعيل بن عبيد
بن رفاعة ، عن أبيه ، عن جده قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقال :
"هل فيكم من غيركم ؟ " قالوا : فينا ابن أختنا (8) وفينا حليفنا ، وفينا
مولانا. فقال : "حليفنا منا ، وابن أختنا منا ، ومولانا منا ، إن أوليائي
منكم المتقون".
ثم قال : هذا [حديث] (9) صحيح ، ولم يخرجاه (10)
__________
(1) في أ : "ابن".
(2) في ك : "وضاح".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "فقال".
(6) رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (5002) "مجمع البحرين" وقال :
"لم يروه عن يحيى إلا نوح تفرد به نعيم". وقال الهيثمي في المجمع
(10/269) : "فيه نوح بن أبي مريم وهو ضعيف".
(7) في أ : "خيثم".
(8) في د ، ك ، م : "أخينا".
(9) زيادة من أ.
(10) المستدرك (2/328).
(4/51)
وقال
عُرْوَة ، والسُّدِّي ، ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى : { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا
الْمُتَّقُونَ } قال : هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، رضي الله عنهم.
وقال مجاهد : هم المجاهدون ، من كانوا ، وحيث كانوا.
ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام ، وما كانوا يعاملونه به ، فقال
: { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } قال عبد
الله (1) بن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، وأبو رجاء
العطاردي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وحُجْر بن عَنْبَس ، ونُبَيْط بن شُرَيْط ،
وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو الصفير - وزاد مجاهد : وكانوا يدخلون
أصابعهم في أفواههم.
وقال السدي : المُكَاء : الصفير على نحو طير أبيض يقال له : "المُكَاء"
، ويكون بأرض الحجاز.
والتصدية : التصفيق.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو خَلاد سليمان بن خلاد ، حدثنا يونس بن محمد المؤدب ،
حدثنا يعقوب - يعني ابن عبد الله الأشعري - حدثنا جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا
مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } قال : كانت قريش تطوف بالكعبة (2) عراة تصفر وتصفق.
والمكاء : الصفير ، وإنما شبهوا بصفير الطير وتصدية التصفيق.
وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعَوْفي ، عن ابن عباس. وكذا روى عن ابن عمر ، ومجاهد
، ومحمد بن كعب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، والضحاك ، وقتادة ، وعطية العوفي ،
وحُجْر بن عَنْبَس ، وابن أبزَى نحو هذا.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا قُرَّة ، عن عطية ، عن
ابن عمر في قوله : { وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً
وَتَصْدِيَةً } قال : المكاء : الصفير. والتصدية : التصفيق. قال قرة : وحَكَى لنا
عطية فعل ابن عمر ، فصفر ابن عمر ، وأمال خده ، وصفق بيديه.
وعن ابن عمر أيضًا أنه قال : كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويُصَفِّقُون
ويُصَفِّرُون. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عنه.
وقال عكرمة : كانوا يطوفون بالبيت على الشمال.
قال مجاهد : وإنما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم
صلاته.
وقال الزهري : يستهزئون بالمؤمنين.
وعن سعيد بن جُبَيْر وعبد الرحمن بن زيد : { وَتَصْدِيَة } قال : صدُّهم الناس عن
سبيل الله ، عز وجل.
__________
(1) في أ : "عبد الرزاق".
(2) في ك : "البيت".
(4/52)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
قوله
: { فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } قال الضحاك ، وابن جُرَيْج
، ومحمد بن إسحاق : هو ما أصابهم يوم بَدْر من القتل والسَّبْي. واختاره ابن جرير
، ولم يحك غيره.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي
نَجِيح ، عن مجاهد قال : عذاب أهل الإقرار بالسيف ، وعذاب أهل التكذيب بالصيحة
والزلزلة.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ
فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
(37) }
قال محمد بن إسحاق : حدثني الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حِبَّان ، وعاصم بن عمر بن
قتادة ، والحُصَيْن بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ ، قالوا : لما أصيبت
قريش يوم بدر ، ورجع فَلُّهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بِعِيرِه ، مشى عبد الله بن
أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ، في رجال من قريش أصيب آباؤهم ،
وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك (1) العير
من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمدا قد وَتَرَكم وقتل خياركم ،
فأعينونا بهذا المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا! ففعلوا.
قال : ففيهم - كما ذكر عن ابن عباس - أنزل الله ، عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ] } (2) إلى
قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } (3)
وهكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، والحَكَم بن عتيبة ، وقتادة ، والسُّدِّي
، وابن أبزَى : أنها نزلت (4) في أبي سفيان ونفقته الأموال في أُحُد لقتال رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الضحاك : نزلت في أهل بدر.
وعلى كل تقدير ، فهي عامة. وإن كان سبب نزولها خاصا ، فقد أخبر تعالى أن الكفار
ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق ، فسيفعلون ذلك ، ثم تذهب أموالهم ، {
ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } أي : ندامة ؛ حيث لم تُجْدِ شيئًا ؛ لأنهم
أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق ، والله متم نوره ولو كره
الكافرون ، وناصر دينه ، ومُعْلِن كلمته ، ومظهر دينه على كل دين. فهذا الخزي لهم
في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار ، فمن عاش منهم ، رأى بعينه وسمع بأذنه ما
يسوءه ، ومن قُتِل منهم أو مات ، فإلى الخِزْي الأبدي والعذاب السَّرْمَدِيّ ؛
ولهذا قال : { فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ
يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ }
__________
(1) في م ، أ : "ذلك".
(2) زيادة من م.
(3) ورواه الطبري في تفسيره (13/532).
(4) في م : "أنزلت".
(4/53)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
وقوله
تعالى : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } قال علي بن أبي طلحة ،
عن ابن عباس في قوله : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } فيميز
أهل السعادة من أهل الشقاء (1) وقال السُّدِّي : يميز المؤمن من الكافر. وهذا
يحتمل أن يكون هذا التمييز في الآخرة ، كما قال تعالى : { ثُمَّ نَقُولُ
لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا
بَيْنَهُمْ } [يونس : 28] ، وقال تعالى { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ
يَتَفَرَّقُونَ } [الروم : 14] ، وقال في الآية الأخرى : { يَوْمَئِذٍ
يَصَّدَّعُونَ } [الروم43] ، وقال تعالى : { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا
الْمُجْرِمُونَ } [يس : 59].
ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا ، بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين ، وتكون
"اللام" معللة لما جعل الله للكفار من مال ينفقون في الصد عن سبيل الله
، أي : إنما أقدرناهم على ذلك ؛ { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ }
أي : من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين ، أو يعصيه بالنكول عن ذلك كما قال تعالى : {
وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ
الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا
قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا
لاتَّبَعْنَاكُمْ } الآية [آل عمران : 166 ، 167] ، وقال تعالى : { مَا كَانَ
اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ
الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ }
الآية [آل عمران : 179] ، وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ } [آل عمران : 142]ونظيرتها في براءة أيضا.
فمعنى الآية على هذا : إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم ، وأقدرناهم على إنفاق
الأموال وبذلها في ذلك ؛ ليتميز (2) الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث بعضه على بعض
، { فَيَرْكُمَهُ } أي : يجمعه كله ، وهو جمع الشيء بعضه على بعض ، كما قال تعالى
في السحاب : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا } [النور : 43]أي : متراكما متراكبا ، {
فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي : هؤلاء هم
الخاسرون في الدنيا والآخرة.
{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى
لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا
فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَنْتَهُوا } أي : عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام
والطاعة والإنابة ، يغفر لهم ما قد سَلَف ، أي : من كفرهم ، وذنوبهم وخطاياهم ،
كما جاء في الصحيح ، من حديث أبي وائل عن ابن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "من أحْسَن في الإسلام ، لم يُؤاخَذ بما عمل في الجاهلية ، ومن
أساء في الإسلام ، أخذ بالأول والآخر" (3)
__________
(1) في أ : "الشقاوة"
(2) في د ، م : "ليميز الله".
(3) صحيح البخاري برقم (6921) وصحيح مسلم برقم (120).
(4/54)
وفي
الصحيح أيضًا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الإسلام يَجُبُّ ما
قبله (1) والتوبة تجب ما كان قبلها".
وقوله : { وَإِنْ يَعُودُوا } أي : يستمروا على ما هم فيه ، { فَقَدْ مَضَتْ
سُنَّةُ الأوَّلِينَ } أي : فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على
عنادهم ، أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة.
وقوله : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } أي : في قريش يوم بدر وغيرها من
الأمم. وقال السدي ومحمد بن إسحاق : أي : يوم بدر.
وقوله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ
لِلَّهِ } قال البخاري : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا عبد الله بن يحيى ،
حدثنا حَيْوَة بن شُرَيْح ، عن بكر بن عمرو ، عن بُكَيْر ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛
أن رجلا جاءه فقال : يا أبا عبد الرحمن ، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : {
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } الآية [الحجرات : 9] ، فما
يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه ؟ فقال : يا ابن أخي ، أُعَيَّر بهذه الآية
ولا أقاتل ، أحب إلي من أن أُعَيَّر بالآية التي يقول الله ، عز وجل : : { وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا } إلى آخر (2) الآية [النساء : 93] ، قال : فإن
الله تعالى يقول : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ قال ابن عمر :
قد فعلنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يُفتن
في دينه : إما أن يقتلوه ، وإما أن يوثقوه ، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، فلما
رأى أنه لا يوافقه فيما يريد ، قال : فما قولك في علي وعثمان ؟ قال ابن عمر : ما
قولي في علي وعثمان ؟ أما عثمان فكان الله قد عفا عنه ، وكرهتم أن يعفو عنه ، وأما
علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَتَنُه - وأشار بيده - وهذه ابنته أو
: بنته - حيث ترون.
وحدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا بَيَان أن وَبَرة حدثه قال : حدثني
سعيد بن جُبَيْر قال : خرج علينا - أو : إلينا - ابن عمر ، رضي الله عنهما ، فقال
رجل : كيف ترى في قتال الفتنة ؟ فقال : وهل تدري ما الفتنة ؟ كان محمد صلى الله
عليه وسلم يقاتل المشركين ، وكان الدخول عليهم فتنة ، وليس بقتالكم على الملك.
هذا كله سياق البخاري ، رحمه الله (3)
وقال عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا
إن الناس قد صنعوا ما ترى ، وأنت ابن عمر بن الخطاب ، وأنت صاحب رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فما يمنعك أن تخرج ؟ قال : يمنعني أن الله حرم عليَّ دم أخي
المسلم. قالوا : أو لم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ؟
__________
(1) في ك ، م : "ما كان قبله".
(2) في ك ، م : "آخرها".
(3) صحيح البخاري برقم (4650 ، 4651).
(4/55)
قال
: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وكان الدين كله لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى
تكون فتنة ، ويكون الدين لغير الله.
وكذا رواه حمَّاد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أيوب بن عبد الله اللخمي قال : كنت
عند عبد الله بن عمر (1) رضي الله عنهما ، فأتاه رجل فقال : إن الله يقول : {
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ }
فقال (2) ابن عمر : قاتلت أنا وأصحابي حتى كان الدين كله لله ، وذهب الشرك ولم تكن
فتنة ، ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة ، ويكون الدين لغير الله. رواهما ابن
مَرْدُوَيه.
وقال أبو عَوَانة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التَّيْمِي ، عن أبيه قال : قال ذو
البطين - يعني أسامة بن زيد - لا أقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله أبدا. قال :
فقال سعد بن مالك : وأنا والله لا أقاتل رجلا يقول : لا إله إلا الله أبدا. فقال
رجل : ألم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ
الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } ؟ فقالا قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة ، وكان الدين كله
لله. رواه ابن مردويه.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } يعني
: [حتى] (3) لا يكون شرك ، وكذا قال أبو العالية ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ،
والربيع عن أنس ، والسدي ، ومُقاتِل بن حَيَّان ، وزيد بن أسلم.
وقال محمد بن إسحاق : بلغني عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير وغيره من علمائنا :
{ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ } حتى لا يفتن مسلم عن دينه.
وقوله : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } قال الضحاك ، عن ابن عباس في هذه
الآية ، قال : يخلص التوحيد لله.
وقال الحسن وقتادة ، وابن جُرَيْج : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } أن
يقال : لا إله إلا الله.
وقال محمد بن إسحاق : ويكون التوحيد خالصا لله ، ليس فيه شرك ، ويخلع ما دونه من
الأنداد. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ
} لا يكون مع دينكم كفر.
ويشهد له (4) ما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها ، عصموا
مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، عز وجل" (5) وفي
الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل
يقاتل شجاعة ويقاتل حَمِيَّة ، ويقاتل رِيَاءً ، أيُّ ذلك في سبيل الله ، عز وجل ؟
فقال : "من قاتل لتكون
__________
(1) في أ : "عمرو".
(2) في أ : "قال".
(3) زيادة من م.
(4) في أ : "لهذا"
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (25) ومسلم في صحيحه برقم (22) من حديث عبد الله
بن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما.
(4/56)
كلمة
الله هي العليا ، فهو في سبيل الله ، عز وجل" (1)
وقوله : { فَإِنِ انْتَهَوْا } أي : بقتالكم عما هم فيه من الكفر ، فكفوا عنه (2)
وإن لم تعلموا (3) بواطنهم ، { فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (4) كما
قال تعالى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التوبة : 5] ، وفي الآية
الأخرى : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } [التوبة : 11].
وقال : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ
فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ } [البقرة : 193].وفي
الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة - لما علا ذلك الرجل بالسيف ،
فقال : "لا إله إلا الله" ، فضربه فقتله ، فذكر ذلك لرسول الله - فقال
لأسامة : "أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله ؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله
يوم القيامة ؟" قال : يا رسول الله ، إنما قالها تعوذا. قال : "هلا
شَقَقْتَ عن قلبه ؟" ، وجعل يقول ويكرر عليه : "من لك بلا إله إلا الله
يوم القيامة ؟" قال أسامة : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا ذلك اليوم (5)
(6)
وقوله : { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ
الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } أي : وإن استمروا على خلافكم ومحاربتكم ، {
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ } سيدكم وناصركم على أعدائكم ، فنعم المولى
ونعم النصير.
وقال محمد بن جرير : حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا أبان
العطار ، حدثنا هشام بن عروة ، عن عُرْوَة : أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله
عن أشياء ، فكتب إليه عروة : "سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله
إلا هو. أما بعد ، فإنك كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من
مكة ، وسأخبرك (7) به ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان من شأن مخرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم من مكة ، أن الله أعطاه النبوة ، فَنِعْم النَّبِيُّ ، ونعم السيد
، ونعم العشيرة ، فجزاه الله خيرًا ، وعرّفنا وجهه في الجنة ، وأحيانا على ملته ،
وأماتنا عليها ، وبعثنا عليه وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور
الذي أنزل عليه ، لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه ، وكادوا يسمعون منه ، حتى ذكر
طواغيتهم ، وقدم ناس من الطائف من قريش ، لهم أموال ، أنكر ذلك عليه الناس واشتدوا
عليه وكرهوا ما قال ، وأغروا به من أطاعهم ، فانصفق عنه عامة الناس ، فتركوه إلا
من حفظه الله منهم ، وهم قليل. فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث ، ثم ائتمرت رؤوسهم
بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم ، وقبائلهم ، فكانت فتنة
شديدة الزلزال ، فافتُتِن من افتتن ، وعصم الله من شاء منهم ، فلما فُعِل ذلك
بالمسلمين ، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2810) وصحيح مسلم برقم (1904).
(2) في ك ، م : "عنهم".
(3) في ك ، م : "إن كنتم لا تعلمون".
(4) في ك ، م : "تعملون".
(5) في ك ، م : "يومئذ".
(6) صحيح البخاري برقم (4269) وصحيح مسلم برقم (96).
(7) في م : "وسأحدثك".
(4/57)
بالحبشة
ملك صالح يقال له : "النجاشي" ، لا يظلم أحد بأرضه ، وكان يُثْنَى عليه
مع ذلك ، وكانت أرض الحبشة متجرا لقريش ، يتجرون فيها ، وكانت مَسْكَنًا لتجارهم ،
يجدون فيها رفاغا من الرزق وأمنا ومتجرا حسنا ، فأمرهم بها النبي صلى الله عليه
وسلم ، فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة ، وخاف (1) عليهم الفتن. ومكث هو فلم
يبرح. فمكث بذلك سنوات يشتدون على من أسلم منهم. ثم إنه فشا الإسلام فيها ، ودخل
فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم. فلما رأوا ذلك. استرخوا استرخاءة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم وعن أصحابه ، وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم قِبل أرض الحبشة مخافتها ، وفرارا مما كانوا فيه من الفتن
والزلزال ، فلما استرخى عنهم ودخل في الإسلام من دخل منهم ، تحدث باسترخائهم عنهم
، فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه : قد
استرخي عمن كان منهم بمكة ، وأنهم لا يفتنون ، فرجعوا إلى مكة ، وكادوا يأمنون بها
، وجعلوا يزدادون ويكثرون. وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير ، وفشا
بالمدينة الإسلام ، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ،
فلما رأت قريش ذلك ، تآمرت على أن يفتنوهم ويشتدوا ، فأخذوهم ، فحرصوا على أن
يفتنوهم ، فأصابهم جهد شديد ، فكانت (2) الفتنة الأخيرة ، فكانت فتنتان : فتنة
أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة ، حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها ،
وأذن لهم في الخروج إليها - وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم
إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبًا ، رؤوس الذين
أسلموا ، فوافوه بالحج ، فبايعوه بالعقبة ، وأعطوه عهودهم على أنا منك وأنت منا ،
وعلى أن (3) من جاء من أصحابك أو جئتنا ، فإنا (4) نمنعك مما نمنع منه أنفسنا ،
فاشتدت عليهم قريش عند ذلك ، فأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى
المدينة ، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه
، وخرج هو ، وهي التي أنزل الله ، عز وجل ، فيها : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا
تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ } (5)
ثم رواه عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّنَاد ،
عن أبيه ، عن عروة بن الزبير : أنه كتب إلى الوليد - يعني ابن عبد الملك بن مروان
- بهذا ، فذكر مثله (6) وهذا صحيح إلى عروة ، رحمه الله.
__________
(1) في أ : "وخافوا".
(2) في م ، أ : "وكانت".
(3) في ك ، م : "أنه".
(4) في أ : "فإنما".
(5) تفسير الطبري (13/539).
(6) تفسير الطبري (13/542).
(4/58)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
{
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ
السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (41) }
يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة ، من بين سائر الأمم المتقدمة
، من إحلال المغانم. و"الغنيمة" : هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف
الخيل والركاب. و"الفيء" : ما أخذ منهم بغير ذلك ، كالأموال التي
يصالحون عليها ، أو يتوفون عنها ولا وارث لهم ، والجزية والخراج ونحو ذلك. هذا
مذهب الإمام الشافعي في طائفة من علماء السلف (1) والخلف.
ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق (2) عليه الغنيمة ، والغنيمة على الفيء
أيضا ؛ ولهذا ذهب قتادة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية "الحشر" : { مَا
أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ } الآية [الحشر : 7] ، قال :
فنسخت آية "الأنفال" تلك ، وجعلت الغنائم : أربعة أخماسها (3) للمجاهدين
، وخمسًا منها لهؤلاء المذكورين. وهذا الذي قاله بعيد ؛ لأن هذه الآية نزلت بعد
وقعة بَدْر ، وتلك نزلت في بني النَّضِير ، ولا خلاف بين علماء السير والمغازي
قاطبة أن بني النضير بعد بدر ، هذا أمر لا يشك فيه ولا يرتاب ، فمن يفرق بين معنى
الفيء والغنيمة يقول : تلك نزلت في أموال الفيء وهذه في المغانم. ومن يجعل أمر
المغانم والفيء راجعا (4) إلى رأي الإمام يقول : لا منافاة بين آية الحشر وبين
التخميس إذا رآه الإمام ، والله أعلم.
وقوله (5) تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ } توكيد لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط (6) والمخيط ، قال الله تعالى :
{ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } [آل عمران : 161].
وقوله : { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } اختلف المفسرون هاهنا ، فقال
بعضهم : لله نصيب من الخمس يجعل في الكعبة.
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية الرِّيَاحي قال : كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة ، تكون أربعة أخماس لمن شهدها
، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه ، فيأخذ منه الذي قبض كفه ، فيجعله للكعبة (7) وهو
سهم الله. ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم ، فيكون سهم للرسول ، وسهم لذوي القربى ،
وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل (8)
وقال آخرون : ذكر الله هاهنا استفتاح كلام للتبرك ، وسهم (9) لرسوله عليه السلام
(10)
__________
(1) في أ : "علماء من السلف".
(2) في م : "ما يطلق".
(3) في د : "الأربعة الأخماس" ، وفي ك : "أربعة أخماس".
(4) في ك : "راجع".
(5) في ك : "ويقول" ، وفي م : "فقوله".
(6) في ك ، م : "الخياط".
(7) في د : "في الكعبة".
(8) رواه الطبري في تفسيره (13/550).
(9) في م : "وسهمه".
(10) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(4/59)
قال
الضحاك ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
بعث سَرِيَّة فغنموا ، خَمَّس الغنيمة ، فضرب ذلك الخمس في خمسة. ثم قرأ : {
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ } [قال : وقوله] (1) { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } مفتاح كلام ، لله
ما في السموات وما في الأرض ، فجعل سهم الله وسهم الرسول واحدًا.
وهكذا قال إبراهيم النَّخَعي ، والحسن بن محمد ابن الحنفية. والحسن البصري ،
والشعبي ، وعَطاء بن أبي رباح ، وعبد الله بن بريدة (2) وقتادة ، ومغيرة ، وغير
واحد : أن سهم الله ورسوله واحد.
ويؤيد هذا ما رواه الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناد صحيح ، عن عبد الله بن
شقيق ، عن رجل من بلقين قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القُرى
، وهو يعرض فرسًا ، فقلت : يا رسول الله ، ما تقول في الغنيمة ؟ فقال : "لله
خمسها ، وأربعة أخماس للجيش". قلت : فما أحد أولى به من أحد ؟ قال : "
لا ولا السهم تستخرجه من جنبك ، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم" (3)
وقال ابن جرير : حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أبان ، عن الحسن
قال : أوصى أبو بكر بالخمس (4) من ماله ، وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله
لنفسه (5)
ثم اختلف قائلو هذا القول ، فروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : كانت
الغنيمة تقسم (6) على خمسة أخماس ، فأربعة منها بين من قاتل عليها ، وخمس واحد
يقسم على أربعة (7) فربع لله وللرسول ولذي القربى - يعني : قرابة النبي صلى الله
عليه وسلم. فما كان لله وللرسول فهو لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم
يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا ، [والربع الثاني لليتامى ، والربع
الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل]. (8)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو مَعْمَر المِنْقَرِي ، حدثنا عبد
الوارث بن سعيد ، عن حسين المعلم ، عن عبد الله بن بُرَيْدَة في قوله : {
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
} قال : الذي لله فلنبيه ، والذي للرسول لأزواجه.
وقال عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح قال : خمس الله والرسول (9)
واحد ، يحمل منه ويصنع فيه ما شاء - يعني : النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) زيادة من تفسير الطبري.
(2) في ك ، م ، أ : "عبد الله بن أبي بريدة".
(3) السنن الكبرى (6/324).
(4) في جميع النسخ : "أوصى الحسن بالخمس" والمثبت من الطبري.
(5) تفسير الطبري (13/550).
(6) في د : "تخمس".
(7) في د ، ك ، م ، أ : "أربعة أخماس".
(8) ما بين المعقوفين عن تفسير الطبري.
(9) في د : "خمس الله وخمس الرسول".
(4/60)
وهذا
أعم وأشمل ، وهو أن الرسول (1) صلى الله عليه وسلم (2) يتصرف في الخمس الذي جعله
الله له بما شاء ، ويرده في أمته كيف شاء - ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد حيث
قال :
حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي
مريم ، عن أبي سلام الأعرج ، عن المقدام بن معد يكرب الكندي : أنه جلس مع عبادة بن
الصامت ، وأبي الدرداء ، والحارث بن معاوية الكندي ، رضي الله عنهم ، فتذاكروا
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو الدرداء لعبادة : يا عبادة ، كلمات
رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ؟ فقال عبادة : إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم ، فلما سلم قام
(3) رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وَبَرة بين أنملتيه فقال : "إن هذه
من غنائمكم ، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ،
فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر (4) من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا ، فإن الغلول نار وعار
على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله (5) القريب والبعيد ، ولا
تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر ، وجاهدوا في
[سبيل] (6) الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة [عظيم] (7) ينجي به الله من الهم
والغم" (8)
هذا حديث حسن عظيم ، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه. ولكن روى الإمام
أحمد أيضًا ، وأبو داود ، والنسائي ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده عن
عبد الله بن عمرو ، عن (9) رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه في قصة الخمس والنهي
عن الغلول (10)
وعن عمرو بن عَبَسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم ،
فلما سلم أخذ وبرة (11) من ذلك البعير ثم قال : "ولا يحل لي من غنائمكم مثل
هذه ، إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم". رواه أبو داود والنسائي (12)
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من المغانم (13) شيء يصطفيه لنفسه عبدًا أو أمة
أو فرسًا أو سيفًا أو نحو ذلك ، كما نص على ذلك محمد بن سيرين وعامر الشعبي ،
وتبعهما على ذلك أكثر العلماء.
وروى الإمام أحمد ، والترمذي - وحسنه - عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم تنفل سيفه ذا (14)
__________
(1) في د : "وهو أنه".
(2) في أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
(3) في أ : "قال".
(4) في أ : "وأكثر".
(5) في م : "في سبيل الله".
(6) زيادة من ك ، م ، أ ، ومسند أحمد.
(7) زيادة من ك ، م ، أ ، ومسند أحمد.
(8) المسند (5/316).
(9) في أ : "أن".
(10) المسند (2/184) وسنن أبي داود برقم (2694).
(11) في د : "أخذ منه وبرة".
(12) سنن أبي داود برقم (2755).
(13) في د ، ك ، م : "الغنيمة".
(14) في أ : "ذو".
(4/61)
الفَقَار
يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد (1)
وعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كانت صفية من الصّفي. رواه أبو داود في سننه
(2)
وروى أيضًا بإسناده ، والنسائي أيضًا عن يزيد بن عبد الله قال : كنا بالمِرْبَد إذ
دخل رجل معه قطعة أديم ، فقرأناها فإذا فيها : "من محمد رسول الله إلى بني
زهير بن أقيش ، إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وأقمتم
الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأديتم الخمس من المغنم ، وسهم النبي وسهم الصّفي ، أنتم
آمنون بأمان الله ورسوله". فقلنا : من كتب لك هذا ؟ فقال : رسول الله صلى
الله عليه وسلم (3)
فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرر هذا وثبوته ؛ ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له
صلوات الله وسلامه عليه.
وقال آخرون : إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين ، كما يتصرف في مال
الفيء.
وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية ، رحمه الله : وهذا قول مالك وأكثر السلف ،
وهو أصح الأقوال.
فإذا ثبت هذا وعلم ، فقد اختلف أيضا في الذي كان يناله عليه السلام (4) من الخمس ،
ماذا يُصنع به من بعده ؟ فقال قائلون : يكون لمن يلي الأمر من بعده. روى هذا عن
أبي بكر وعلي وقتادة جماعة ، وجاء فيه حديث مرفوع (5)
وقال آخرون : يصرف في مصالح المسلمين.
وقال آخرون : بل هو مردود على بقية الأصناف : ذوي القربى ، واليتامى ، والمساكين ،
وابن السبيل ، اختاره ابن جرير.
وقال آخرون : بل سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان على
اليتامى والمساكين وابن السبيل.
قال ابن جرير : وذلك قول جماعة من أهل العراق.
وقيل : إن الخمس جميعه لذوي القربى كما رواه ابن جرير.
__________
(1) المسند (1/271) وسنن الترمذي برقم (1561).
(2) سنن أبي داود برقم (2994).
(3) سنن أبي داود برقم (2994).
(4) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(5) رواه البيهقي في السنن الكبرى (6/303) من طريق الوليد بن جميع عن أبي الطفيل :
لما سألت فاطمة أبا بكر عن الخمس فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "إذا أطعم الله نبيا طعمة ثم قبضه كانت للذي يلي بعده" فلما وليت
رأيت أن أرده على المسلمين.
(4/62)
حدثنا
الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا عبد الغفار ، حدثنا المِنْهَال بن عمرو ، وسألت
عبد الله بن محمد بن علي ، وعلي بن الحسين ، عن الخمس فقالا هو لنا. فقلت لعلي :
فإن الله يقول : { وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } فقالا
يتامانا ومساكيننا.
وقال سفيان الثوري ، وأبو نُعَيْم ، وأبو أسامة ، عن قيس بن مسلم : سألت الحسن بن
محمد ابن الحنفية ، رحمه الله تعالى ، عن قول الله (1) تعالى : { وَاعْلَمُوا
أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } قال
(2) هذا مفتاح كلام ، لله (3) الدنيا والآخرة. ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال قائلون : سهم النبي صلى الله عليه وسلم
تسليما للخليفة من بعده. وقال قائلون : لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال
قائلون : سهم القرابة لقرابة الخليفة. فاجتمع قولهم (4) على أن يجعلوا هذين
السهمين في الخيل والعُدة في سبيل الله ، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر ،
رضي الله عنهما (5)
قال (6) الأعمش ، عن إبراهيم (7) كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه
وسلم في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم : ما كان علي يقول فيه ؟ قال : كان [علي]
(8) أشدهم فيه.
وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء ، رحمهم الله.
وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب ؛ لأن بني المطلب وازروا
بني هاشم في الجاهلية [وفي أول الإسلام] (9) ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم وحماية له : مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حَمِيَّة
للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله. وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل - وإن
كانوا أبناء عمهم - فلم يوافقوهم على ذلك ، بل حاربوهم ونابذوهم ، ومالئوا بطون
قريش على حرب الرسول ؛ ولهذا كان ذَمُّ أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من
غيرهم ، لشدة قربهم. ولهذا يقول في أثناء قصيدته (10) جَزَى الله عَنَّا عبدَ شمس
ونَوفلاعُقُوبة شرٍّ عاجل غير آجلِ
بميزان قسْط لا يَخيس شَعِيرةلهُ شَاهدٌ مِنْ نَفْسه غير عائلِ
لقد سَفُهت أحلامُ قوم تَبَدَّلوابني خَلَف قَيْضا بنا والغَيَاطِلِ
ونحنُ الصَّميم من ذؤابة هاشموآل قُصَى في الخُطُوب الأوائلِ (11)
__________
(1) في د : "عن قوله".
(2) في د : "فقال".
(3) في ك : "كلام الله".
(4) في ك ، م : "رأيهم".
(5) في ك : "رضي الله عنهما وأرضاهما".
(6) في م : "وقال".
(7) في م : "إبراهيم قال".
(8) زيادة من الطبري.
(9) زيادة من د ، ك ، م.
(10) في ك : "قصيدته اللامية".
(11) الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (1/277).
(4/63)
وقال
جبير بن مطعم بن عدي [بن نوفل] (1) مشيت أنا وعثمان بن عفان - يعني ابن أبي العاص
بن أمية بن عبد شمس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلنا : يا رسول الله ،
أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وَهُم منك بمنزلة واحدة ، فقال :
"إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد".
رواه مسلم (2) وفي بعض روايات هذا الحديث : "إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا
إسلام" (3)
وهذا قول جمهور العلماء أنهم بنو هاشم وبنو المطلب.
قال ابن جرير : وقال آخرون : هم بنو هاشم. ثم روى عن خُصَيْف ، عن مجاهد قال : علم
الله أن في بني هاشم فقراء ، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة.
وفي رواية عنه قال : هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم
الصدقة.
ثم روى عن علي بن الحسين نحو ذلك.
قال ابن جرير : وقال آخرون : بل هم قريش كلها.
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثني عبد الله بن نافع ، عن أبي مَعْشَر ، عن سعيد
المقْبُرِي قال : كتب نَجْدَة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن "ذي
القربى" ، فكتب إليه ابن عباس : كنا نقول : إنا هم فأبى ذلك علينا قومنا ،
وقالوا : قريش كلها ذوو قربى (4) (5)
وهذا الحديث في صحيح مسلم ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث سعيد المقبري
عن يزيد بن هرمُز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن ذوي القربى فذكره إلى قوله :
"فأبى ذلك علينا قومنا" (6) والزيادة من أفراد أبي معشر نَجِيح بن عبد
الرحمن المدني ، وفيه ضعف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي ، حدثنا المعتمر
بن سليمان ، عن أبيه ، عن حَنَش ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "رغبت لكم عن غُسَالة الأيدي ؛ لأن لكم من خُمْس الخمس
ما يغنيكم أو يكفيكم".
هذا حديث حسن الإسناد ، وإبراهيم بن مهدي هذا وَثَّقه أبو حاتم ، وقال يحيى بن
معين (7)
__________
(1) زيادة من د ، ك ، م.
(2) لم أجده في صحيح مسلم ولا عزاه المزي له في تحفة الأشراف ، ولم أجزم بوهم
الحافظ هنا ؛ لأن الزيلعي عزاه للصحيحين في تخريج الكشاف (2/30) ، ورواه البخاري
في صحيحه برقم (3140) من طريق سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم ، رضي الله عنه ،
بنحوه.
(3) الرواية في سنن النسائي (7/130).
(4) في أ : "قرابة".
(5) تفسير الطبري (13/555).
(6) صحيح مسلم برقم (1812) وسنن أبي داود برقم (2982) وسنن الترمذي برقم (1556)
وسنن النسائي (7/128) ، وهو عند أبي داود والنسائي من حديث الزهري عن يزيد.
(7) في د : "سعيد".
(4/64)
يأتي
بمناكير (1) والله أعلم.
وقوله : { وَالْيَتَامَى } أي : يتامى المسلمين. واختلف العلماء هل يختص بالأيتام
الفقراء ، أو يعم الأغنياء والفقراء ؟ على قولين.
و { الْمَسَاكِينِ } هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم.
{ وَابْنِ السَّبِيلِ } هو المسافر ، أو المريد للسفر ، إلى مسافة تقصر فيها
الصلاة ، وليس له ما ينفقه في سفره ذلك. وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة
"براءة" ، إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة ، وعليه التكلان.
وقوله : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا }
أي : امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم ، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر وما أنزل على رسوله ؛ ولهذا جاء في الصحيحين ، من حديث عبد الله بن عباس ،
في حديث وفد عبد القيس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : "وآمركم
بأربع وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان بالله ثم قال : هل تدرون ما الإيمان بالله
؟ شهادةُ أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
، وأن تؤدوا الخمس من المغنم.." الحديث بطوله (2) فجعل أداء الخمس من جملة
الإيمان ، وقد بوَّب البخاري على ذلك في "كتاب الإيمان" من صحيحه فقال :
(باب أداء الخمس من الإيمان) ، ثم أورد حديث ابن عباس هذا ، وقد بسطنا الكلام عليه
في "شرح البخاري" ولله الحمد والمنة (3)
وقال مقاتل بن حيان : { وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ } أي
: في القسمة ، وقوله : { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ } ينبه تعالى على نعمته (4) وإحسانه إلى خلقه بما فَرَق به بين
الحق والباطل ببدر ويسمى "الفرقان" ؛ لأن الله تعالى أعلى فيه كلمة
الإيمان على كلمة الباطل ، وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه.
قال علي بن أبي طالب والعَوْفِي ، عن ابن عباس : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } يوم بدر
، فَرَق الله فيه بين الحق والباطل. رواه الحاكم.
وكذا قال مجاهد ، ومِقْسَم وعبيد الله بن عبد الله ، والضحاك ، وقتادة ، ومُقَاتل
بن حيان ، وغير واحد : أنه يوم بدر.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله : {
يَوْمَ الْفُرْقَانِ } يوم
__________
(1) انظر : ميزان الاعتدال للذهبي (1/68).
(2) صحيح البخاري برقم (53) وصحيح مسلم برقم (17).
(3) وانظر كلام الحافظ ابن حجر في : فتح الباري (1/129 - 135).
(4) في أ : "نعمه".
(4/65)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
فرق
الله [فيه] (1) بين الحق والباطل ، وهو يوم بدر ، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة ، فالتقوا يوم الجمعة لتسعَ
عشرةَ - أو : سبع عشرة - مضت من رمضان ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يومئذ ثلثمائة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمائة.
فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على السبعين ، وأسر منهم مثل ذلك.
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن ابن
مسعود ، قال في ليلة القدر : تحروها لإحدى عشرة يبقين (2) فإن صبيحتها (3) يوم بدر.
وقال : على شرطهما (4)
وروي مثله عن عبد الله بن الزبير أيضًا ، من حديث جعفر بن بُرْقَان ، عن رجل ،
عنه.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا يحيى بن يعقوب أبو
طالب ، عن ابن عَوْن محمد بن عبيد الله الثقفي (5) عن أبي عبد الرحمن السلمي قال :
قال الحسن بن علي : كانت ليلة "الفرقان يوم التقى الجمعان" لسبع عشرة من
رمضان (6) إسناد جيد قوي.
ورواه ابن مَرْدُوَيه ، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن حبيب ، عن علي قال : كانت
ليلة الفرقان ، ليلة التقى الجمعان ، في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشر مضت من شهر
رمضان.
وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير.
وقال يزيد بن أبي حبيب إمام أهل الديار المصرية في زمانه : كان يوم بدر يوم
الاثنين ولم يتابع على هذا ، وقول الجمهور مقدم عليه ، والله أعلم.
{ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى
وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي
الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ
هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ
لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) }
يقول تعالى [مخبرًا] (7) عن يوم الفرقان : { إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ
الدُّنْيَا } أي : إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة ، {
وَهُمْ } أي : المشركون نزول { بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } أي : البعيدة التي من
ناحية مكة ، { والرَّكْبُ } أي : العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة {
أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أي : مما يلي سيف البحر { وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ } أي : أنتم
والمشركون إلى مكان { لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ }
__________
(1) زيادة من د ، ك.
(2) في ك : "بقين".
(3) في ك : "فإن في صبيحتها".
(4) المستدرك (3/20).
(5) في جميع النسخ : "عن ابن عون ، عن محمد بن عبد الله الثقفي" ،
والمثبت من الطبري.
(6) تفسير الطبري (13/562).
(7) زيادة من أ.
(4/66)
قال
محمد بن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه في هذه
الآية قال : ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ،
ما لقيتموهم ، { وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } أي :
ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله ، عن غير
ملأ منكم ، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه.
وفي حديث كعب بن مالك قال : إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون
يريدون عِيرَ قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد (1)
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثني ابن عُلَيَّة ، عن ابن عون ، عن عمير بن
إسحاق قال : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، لا يشعر هؤلاء بهؤلاء ، ولا هؤلاء
بهؤلاء ، حتى التقت السقاة ، ونهد الناس بعضهم لبعض (2)
وقال محمد بن إسحاق في السيرة : ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه ذلك
حتى إذا كان قريبًا من "الصفراء" بعث بَسْبَس بن عمرو ، وعدي بن أبي
الزَّغباء الجُهَنيين ، يلتمسان الخبر عن أبي سفيان ، فانطلقا حتى إذا وردا بدرًا
فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء ، فاستقيا في شَنٍّ لهما من الماء ، فسمعا
جاريتين يَختصمان ، تقول إحداهما لصاحبتها : اقضيني حقي. وتقول الأخرى : إنما تأتي
العير غدا أو بعد غد ، فأقضيك حقك. فَخَلَّص بينهما مَجْدي بن عمرو ، وقال : صَدقت
، فسمع ذلك (3) بَسْبَسُ وعَدِيّ ، فجلسا على بعيريهما ، حتى أتيا رسول الله صلى
الله عليه وسلم فأخبراه الخبر. وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حَذِر ، فتقدم أمام
عيره وقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست على هذا الماء من أحد تنكره ؟ فقال : لا والله
، إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ، فاستقيا في شَنّ لهما ، ثم انطلقا.
فجاء أبو سفيان إلى مُناخ بعيريهما ، فأخذ من أبعارهما ، فَفَتَّه ، فإذا فيه
النوى ، فقال : هذه والله علائف يثرب. ثم رجع سريعًا فضرب وجه عيره ، فانطلق بها
فَسَاحَل حتى إذا رأى أن قد أحرز عيره بعث إلى قريش فقال : إن الله قد نجى عيرَكم
وأموالكم ورجالكم ، فارجعوا.
فقال أبو جهل : والله (4) لا نرجع حتى نأتي بدرا - وكانت بدرُ سوقًا من أسواق
العرب - فنقيم بها ثلاثا ، فَنُطْعمُ بها الطعام ، وننحَرُ بها الجُزُر (5)
ونُسْقَى بها الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبسيرنا ، فلا يزالون
يهابوننا بعدها أبدا.
فقال الأخنس بن شُرَيْق : يا معشر بني زُهَرة ، إن الله قد نَجَّى أموالكم ،
ونَجَّى صاحبكم ، فارجعوا. فأطاعوه ، فرجعت بنو زهرة ، فلم يشهدوها ولا بنو عدي
(6)
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (3951).
(2) تفسير الطبري (13/567).
(3) في م : "بذلك"
(4) في م : "لا والله".
(5) في أ : "الجزور".
(6) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/617).
(4/67)
قال
محمد بن إسحاق : وحدثني يزيد بن رُوَمان ، عن عروة بن الزبير قال : وبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم - حين دنا من بدر - عليَّ بن أبي طالب ، وسعدَ بن أبي وقاص ،
والزبير بن العوام ، في نفر من أصحابه ، يتجسسون له الخبر فأصابوا سُقَاةً لقريش :
غلاما لبني (1) سعيد بن العاص ، وغلاما لبني الحجاج ، فأتوا بهما رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فوجدوه يصلي ، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسألونهما : لمن أنتما ؟ (2) فيقولان : نحن سُقاة لقريش ، بعثونا نسقيهم من الماء.
فكره القوم خبرهما ، ورجَوا أن يكونا لأبي سفيان ، فضربوهما فلما ذلقوهما قالا نحن
لأبي سفيان. فتركوهما ، وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتين ، ثم سلم
وقال : "إذا صدَقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما. صدقا ، والله إنهما
لقريش ، أخبراني عن قريش". قالا هم وراء هذا الكَثيب الذي ترى بالعدوة القصوى
- والكثيب : العَقَنْقَل - فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كم
القوم ؟ " قالا كثير. قال : "ما عدَّتهم ؟ " قالا ما ندري. قال :
"كم ينحَرُون كل يوم ؟ " قالا يوما تسعًا ، ويوما عشرًا ، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "القوم ما بين التسعمائة إلى الألف". ثم قال لهما
: "فمن فيهم من أشراف قريش ؟ " قالا عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ،
وأبو البخْتري بن هشام ، وحكيم بن حِزَام ، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن
نوفل ، وطُعَيمة بن عدي بن [نوفل ، والنضر بن الحارث ، وزَمَعَة بن الأسود ، وأبو
جهل بن هشام ، وأمية] (3) بن خلف ، ونُبَيْه ومُنَبِّه ابنا الحجاج ، وسهيل بن
عمرو ، وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال :
"هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" (4)
قال محمد بن إسحاق ، رحمه الله تعالى : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم : أن
سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما التقى الناس يوم بدر : يا
رسول الله ، ألا نبني لك عريشًا تكون فيه ، ونُنِيخ إليك ركائبك ، ونلقى عدونا ،
فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب ، فقال : وإن تكن الأخرى فتَجلسَ على
ركائبك ، وتلحق بمن وراءنا من قومنا ، فقد - والله - تخلف عنك أقوام ما نحن بأشدَّ
لك حبا منهم ، لو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، ويوادونك وينصرونك. فأثنى
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرًا ، ودعا له به. فبُنِيَ له عريش ، فكان
فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، ما معهما غيرهما (5)
قال ابن إسحاق : وارتحلت قريش حين أصبحت ، فلما أقبلت ورآها رسول الله صلى الله
عليه وسلم تُصَوِّب من العَقَنْقَل - وهو الكثيب - الذي جاءوا منه إلى الوادي قال
: "اللهم هذه (6) قريش قد أقبلت بفخرها وخيلائها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم
أحنهم الغداة" (7)
وقوله : { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ } قال محمد بن إسحاق : أي ليكفر من
__________
(1) في أ : "لأبي".
(2) في د ، ك ، م : "أنتم".
(3) زيادة من د ، ك ، م ، أ ، وابن هشام.
(4) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/616).
(5) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/620).
(6) في أ : "اللهم إن هذه".
(7) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/621).
(4/68)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
كفر
بعد الحجة ، لما رأى من الآية والعبرة ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك.
وهذا تفسير جيد. وبَسْطُ ذلك أنه (1) تعالى يقول : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان
واحد على غير ميعاد ، لينصركم عليهم ، ويرفع كلمة الحق على الباطل ، ليصير الأمر
ظاهرًا ، والحجة قاطعة ، والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، فحينئذ {
يَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ } أي : يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه
مبطل ، لقيام الحجة عليه ، { وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ } أي : يؤمن من آمن { عَنْ
بَيِّنَةٍ } أي : حجة وبصيرة. والإيمان هو حياة القلوب ، قال الله تعالى : {
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي
النَّاسِ } [الأنعام : 122] ، وقالت عائشة في قصة الإفك : فيَّ هلك من هلك أي :
قال فيها ما قال من الكذب والبهتان والإفك.
وقوله : { وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ } أي : لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به {
عَلِيمٌ } أي : بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين.
{ إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا
لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي
أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ
أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) }
قال مجاهد : أراه الله إياهم في منامه (2) قليلا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه بذلك ، فكان تثبيتا لهم.
وكذا قال ابن إسحاق وغير واحد. وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه رآهم بعينه التي ينام
بها.
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يوسف بن موسى المدبر ، حدثنا أبو قتيبة
، عن سهل السراج ، عن الحسن في قوله : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ
قَلِيلا } قال : بعينك.
وهذا القول غريب ، وقد صرح بالمنام هاهنا ، فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل
عليه (3)
وقوله : { وَلَوْأَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ } أي : لجبنتم عنهم واختلفتم
فيما بينكم ، { وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ } أي : من ذلك : بأن أراكهم قليلا {
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي : بما تجنه الضمائر ، وتنطوي عليه
الأحشاء ، فيعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقوله : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا }
وهذا أيضًا من لطفه تعالى بهم ، إذ أراهم إياهم قليلا في رأي العين ، فيجرؤهم
عليهم ، ويطمعهم فيهم.
__________
(1) في أ : "أن الله".
(2) في جميع النسخ : "أراهم الله في منامه" والمثبت من الطبري.
(3) في أ : "له".
(4/69)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
قال
أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال
: لقد قُلِّلُوا في أعيننا يوم بدر ، حتى قلت لرجل إلى جانبي : تراهم سبعين ؟ قال
: لا بل [هم] (1) مائة ، حتى أخذنا رجلا منهم فسألناه ، قال (2) كنا ألفا. رواه
ابن أبي حاتم ، وابن جرير (3)
وقوله : { وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا سليمان بن
حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن الزبير بن الخرِّيت (4) عن (5) عكرمة : { وَإِذْ
يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي
أَعْيُنِهِمْ } قال : حضض بعضهم على بعض.
إسناد صحيح.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه في قوله
تعالى : { لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا } أي : ليلقي بينهم الحرب ،
للنقمة ممن أراد الانتقام منه ، والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل
ولايته.
ومعنى هذا أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالآخر ، وقلَّله في عينه ليطمع فيه ،
وذلك عند المواجهة. فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين
، بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعفيه ، كما قال تعالى : { قَدْ كَانَ لَكُمْ
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى
كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ
بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّفِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ } [آل
عمران : 13] ، وهذا هو الجمع بين هاتين الآيتين ، فإن كلا منها (6) حق وصدق ، ولله
الحمد والمنة.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) }
__________
(1) زيادة من د ، م.
(2) في د : "فقال".
(3) تفسير الطبري (13/572).
(4) في د : "الحارث".
(5) في د : "وعن".
(6) في د ، م ، أ : "منهما".
(4/70)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
{
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) }
هذا تعليم الله (1) عباده المؤمنين آداب اللقاء ، وطريق الشجاعة عند مواجهة
الأعداء ، [فقال] (2) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا }
ثبت في الصحيحين ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال :
" يا أيها الناس ، لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا
لقيتموهم فاصبروا (3) واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". ثم قام النبي صلى
الله عليه وسلم وقال : " اللهم ، مُنزل الكتاب ، ومُجري السحاب ، وهازم الأحزاب
، اهزمهم وانصرنا عليهم" (4)
__________
(1) في د ، ك ، م : "تعليم من الله".
(2) زيادة من د.
(3) في أ : "فاثبتوا".
(4) صحيح البخاري برقم (2818) وصحيح مسلم برقم (1742).
(4/70)
وقال
عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن زياد ، عن عبد الله بن يزيد ، عن
عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تتمنوا لقاء
العدو ، واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله فإن أجلبوا (1)
وضجوا (2) فعليكم بالصمت (3)
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي ، حدثنا أمية بن
بِسْطام ، حدثنا معتمر بن سليمان ، حدثنا ثابت بن زيد ، عن رجل ، عن زيد بن أرقم ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله يحب الصمت عند ثلاث : عند تلاوة
القرآن ، وعند الزَّحف ، وعند الجنازة" (4)
وفي الحديث الآخر المرفوع يقول الله تعالى : "إن عبدي كلَّ عبدي الذي يذكرني
وهو مناجز قرنه (5) أي : لا يشغله ذلك الحال عن ذكرى ودعائي واستعانتي.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في هذه الآية ، قال : افترض (6) الله ذكره
عند أشغل ما تكونون (7) عند الضراب بالسيوف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، حدثنا ابن المبارك ، عن
ابن جُريج ، عن عطاء قال : وجب الإنصات والذكر عند الزحف ، ثم تلا هذه الآية ، قلت
: يجهرون بالذكر ؟ قال : نعم.
وقال أيضًا : قُرئ علي يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن
عياش (8) عن يزيد بن قوذر ، عن كعب الأحبار قال : ما من شيء أحب إلى الله تعالى من
قراءة القرآن والذكر ، ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال ، ألا ترون أنه أمر
الناس بالذكر عند القتال ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
}
قال الشاعر : ذكرتك والخَطى يخطرُ بَيْنَنَاوَقَد نَهَلَتْ فِينَا المُثَقَّفَةُ
السُّمْرُ
وقال عنترة : (9) ولَقَد ذَكَرْتُك والرِّمَاحُ شَوَاجِرٌفِينَا وَبِيضُ الْهِنْدِ
تَقْطُر منْ دَمِي
__________
(1) في د ، م ، أ : "جلبوا".
(2) في أ : "وصيحوا"
(3) مصنف عبد الرزاق برقم (9518) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (9/153) من طريق
ابن وهب ، وابن أبي شيبة في المصنف (12/463) من طريق عبد بن سليمان ، كلاهما عن
عبد الرحمن بن زياد به.
(4) المعجم الكبير (5/213) وفيه راو لم يسم.
(5) رواه الترمذي في السنن برقم (3580) من طريق عفير بن معدان عن أبي دوس اليحصبي
عن ابن عائذ عن عمارة بن زعكرة مرفوعا ، وقال : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا
من هذا الوجه ، ليس إسناده بالقوي ، ولا نعرف لعمارة بن زعكرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد".
(6) في د : "فرض".
(7) في أ : "ما يكون".
(8) في أ : "عباس".
(9) في م : "آخر".
(4/71)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
[فوددت
تقبيل السيوف لأنهالمعت كبارق ثغرك المتبسم] (1)
فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم ، فلا يفروا ولا ينكلوا
ولا يجبنوا ، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه بل يستعينوا (2) به ويتكلوا
عليه ، ويسألوه النصر على أعدائهم ، وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك. فما
أمرهم الله تعالى به ائتمروا ، وما نهاهم عنه انزجروا ، ولا يتنازعوا فيما بينهم
أيضا فيختلفوا فيكون سببا لتخاذلهم وفشلهم.
{ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي : قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال ، {
وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ }
وقد كان للصحابة - رضي الله عنهم - في باب الشجاعة والائتمار بأمر (3) الله ،
وامتثال ما أرشدهم إليه - ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ، ولا يكون لأحد
ممن بعدهم ؛ فإنهم ببركة الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، وطاعته فيما أمرهم ،
فتحوا القلوب (4) والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة ، مع قلة عَدَدهم بالنسبة
إلى جيوش سائر الأقاليم ، من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبُوش
وأصناف السودان والقبْط ، وطوائف بني آدم ، قهروا الجميع حتى عَلَتْ كلمة الله ،
وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت (5) الممالك الإسلامية في مشارق الأرض
ومغاربها ، في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ، وحشرنا في
زمرتهم ، إنه كريم وهاب.
{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
(47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ
الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ
نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا
تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ
الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) }
يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله وكثرة ذكره ، ناهيًا
لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم { بَطَرًا } أي : دفعا للحق ، {
وَرِئَاءَ النَّاسِ } وهو : المفاخرة والتكبر عليهم ، كما قال أبو جهل - لما قيل
له : إن العير قد نجا فارجعوا - فقال : لا والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر ، وننحر
الجُزُر ، ونشرب الخمر ، وتعزف (6) علينا القيان ، وتتحدث العرب بمكاننا فيها
يومنا أبدا ، فانعكس ذلك عليه أجمع ؛ لأنهم لما وردوا ماء بدر وردوا به الحمام ،
ورُمُوا في أطواء بدر مهانين أذلاء ، صغرة أشقياء في عذاب سرمدي أبدي ؛ ولهذا قال
: { وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : عالم بما جاءوا به وله ، ولهذا جازاهم
على ذلك شر الجزاء لهم.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في د : "يستغيثوا".
(3) في د ، ك ، م : "بأوامر".
(4) في م : "الثغور".
(5) في د : "واشتهرت".
(6) في ك : "وتضرب".
(4/72)
قال
ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي في قوله تعالى : { وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ } قالوا : هم
المشركون ، الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
وقال محمد بن كعب : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل
الله { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
}
وقوله : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ
لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } الآية : حسَّن لهم - لعنه
الله - ما جاؤوا له وما هموا به ، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، ونفى
عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم بني بكر فقال : أنا جار لكم ، وذلك
أنه تبدى لهم في صورة سُرَاقة بن مالك بن جُعْشُم ، سيد بني مُدْلج ، كبير تلك
الناحية ، وكل ذلك منه ، كما قال [الله] (1) تعالى عنه : { يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [النساء : 120].
قال ابن جريج (2) قال ابن عباس في هذه الآية : لما كان يوم بدر سار إبليس برايته
وجنوده مع المشركين ، وألقى في قلوب المشركين : أن أحدا لن يغلبكم ، وإني جار لكم.
فلما التقوا ، ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة ، { نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْه } قال
: رجع مدبرا ، وقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } الآية.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جند من الشياطين ،
معه رايته ، في صورة رجل من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك (3) بن
جعشم ، فقال الشيطان للمشركين : { لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ
وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة
من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا مدبرين وأقبل جبريل ، عليه السلام ،
إلى إبليس ، فلما رآه - وكانت يده في يد رجل من المشركين - انتزع يده ثم ولى مدبرا
هو وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة ، أتزعم أنك لنا جار ؟ فقال : { إِنِّي أَرَى
مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وذلك حين
رأى الملائكة.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ؛ أن إبليس خرج مع
قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فلما حضر القتال ورأى الملائكة ، نكص على
عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ } فتشبث (4) الحارث بن هشام فنخر في
وجهه ، فخر صعقا ، فقيل له : ويلك يا سراقة ، على هذه الحال تخذلنا وتبرأ منا.
فقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقال محمد بن عمر الواقدي : أخبرني عمر بن عقبة ، عن شعبة - مولى ابن عباس - عن
ابن
__________
(1) زيادة من م.
(2) في ك : "جرير".
(3) في ك : "مالك المدلجي".
(4) في ك : "فتشبث به".
(4/73)
عباس
قال : لما تواقف الناس أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم كشف عنه ،
فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس ، وميكائيل في جند آخر ميسرة
الناس ، وإسرافيل في جند آخر ألف. وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم
المدلجي ، يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم (1) اليوم من الناس. فلما أبصر
عدوُّ الله الملائكة ، نكص على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي
أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } فتشبث به الحارث بن هشام ، وهو يرى أنه سراقة لما سمع من
كلامه ، فضرب في صدر الحارث ، فسقط الحارث ، وانطلق إبليس (2) لا يرى حتى سقط في
البحر ، ورفع ثوبه وقال : يا رب ، موعدك الذي وعدتني (3)
وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع قريب من هذا السياق وأبسط منه (4) ذكرناه في
السيرة.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : لما أجمعت
(5) قريش المسير (6) ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب ، فكاد ذلك أن يثنيهم
، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي - وكان من أشراف بني
كنانة - فقال : أنا جار لكم أن تأتيكم كنانة بشيء تكرهونه ، فخرجوا سراعا.
قال محمد بن إسحاق : فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك
(7) لا ينكرونه ، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان ، كان الذي رآه حين نكص
الحارث بن هشام - أو : عمير بن وهب - فقال : أين ، أي سراق ؟ (8) ومثل عدو الله
فذهب - قال : فأوردهم ثم أسلمهم - قال : ونظر عدو الله إلى جنود الله ، قد أيد
الله بهم رسوله (9) والمؤمنين فانتكص (10) على عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ
مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } وصدق عدو الله ، وقال : { إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } (11) وهكذا روي عن السدي ، والضحاك ،
والحسن البصري ، ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهم ، رحمهم الله.
وقال قتادة : وذكر لنا أنه رأى جبريل ، عليه السلام ، تنزل معه (12) الملائكة ،
فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة فقال : { إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ } وكذب عدو الله ، والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه
لا قوة له ولا منعة ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى
الحق والباطل أسلمهم شر مسلم ، وتبرأ منهم عند ذلك.
قلت : يعني بعادته لمن أطاعه قوله تعالى : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ
لِلإنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ } [الحشر : 16] ، وقوله تعالى : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ
الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا
أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
[إبراهيم : 22].
__________
(1) في م : "لكم".
(2) في أ : "إبليس هاربا".
(3) المغازي للواقدي (1/70).
(4) المعجم الكبير (5/42) من طريق عبد العزيز بن عمران عن رفاعة بن يحيى بن معاذ
بن رفاعة عن رفاعة بن رافع ، رضي الله عنه ، وقال الهيثمي في المجمع (6/82) :
"وفيه عبد العزيز بن عمران وهو ضعيف".
(5) في د ، م ، أ : "اجتمعت".
(6) في د : "للسير".
(7) في ك : "مالك المدلجي ، وكان من أشراف ركانة".
(8) في د ، أ : "إلى أين يا سراقة" ، وفي ك ، م : "أين أين
سراقة".
(9) في أ : "رسله".
(10) في د ، ك ، م ، أ : "فنكص".
(11) في ك ، م ، أ : "إني أخاف عقاب الله" وهو خطأ.
(12) في د : "نزل مع".
(4/74)
وقال
يونس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ،
عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما أصيب بصره يقول : لو
كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري ، لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك
ولا أتمارى (1)
فلما نزلت الملائكة ورآها إبليس ، وأوحى الله إليهم : أني معكم فثبتوا الذين آمنوا
، وتثبيتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه ، فيقول له : أبشر
فإنهم ليسوا بشيء ، والله معكم ، كروا عليهم. فلما رأى إبليس الملائكة نكص على
عقبيه ، وقال : { إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ } وهو في
صورة سراقة ، وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول : لا يهولنكم خذلان سراقة إياكم ،
فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال : واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن
محمدا وأصحابه في الحبال ، فلا تقتلوهم وخذوهم أخذًا. وهذا من أبي جهل لعنه الله
كقول فرعون للسحرة لما أسلموا : { إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي
الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا } [الأعراف : 123] ، وكقوله {
إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [طه : 71] ، وهو من باب
البهت والافتراء ، ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة.
وقال مالك بن أنس ، عن إبراهيم بن أبي عبلة (2) عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز ؛
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما رُئِيَ إبليس في يوم هو فيه أصغر
ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وذلك مما يرى من تنزل الرحمة والعفو
عن الذنوب إلا ما رأى يوم بدر". قالوا : يا رسول الله ، وما رأى يوم بدر ؟
قال : "أما إنه رأى جبريل ، عليه السلام ، يزغ الملائكة" (3)
هذا مرسل من هذا الوجه.
وقوله : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ
هَؤُلاءِ دِينُهُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : لما
دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين ، وقلل المشركين في
أعين المسلمين فقال المشركون : { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ } وإنما قالوا ذلك من
قلتهم في أعينهم ، فظنوا (4) أنهم سيهزمونهم ، لا يشكون في ذلك ، فقال الله : {
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
وقال قتادة : رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر الله ، وذكر لنا أن أبا جهل عدو
الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال : والله لا يعبدوا الله
بعد اليوم ، قسوة وعتوا.
__________
(1) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/633).
(2) في ك : "علية".
(3) الموطأ (1/422) وانظر كلام الإمام ابن عبد البر عن هذا الحديث في : التمهيد
(1/115).
(4) في أ : "وظنوا".
(4/75)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
وقال
ابن جُرَيْج في قوله : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } هم قوم كانوا من المنافقين بمكة ، قالوه يوم بدر.
وقال عامر الشعبي : كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام ، فخرجوا مع المشركين
يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ }
وقال مجاهد في قوله ، عز وجل : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ } قال : فئة من قريش : [أبو] (1) قيس
بن الوليد بن المغيرة ، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن
الأسود بن المطلب ، وعلي بن أمية بن خلف ، والعاص بن منبه بن الحجاج ، خرجوا مع
قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم ، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، قالوا : { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ } حتى قدموا على ما
قدموا عليه ، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم.
وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار ، سواء.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمَر ، عن
الحسن في هذه الآية ، قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر ، فسموا منافقين -
قال معمر : وقال بعضهم : هم قوم كانوا أقروا بالإسلام ، وهم بمكة فخرجوا مع
المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : { غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ }
(2)
وقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : يعتمد على جنابه ، { فَإِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ } أي : لا يُضام من التجأ إليه ، فإن الله عزيز منيع الجناب ،
عظيم السلطان ، حكيم في أفعاله ، لا يضعها إلا في مواضعها ، فينصر من يستحق النصر
، ويخذل من هو أهل لذلك.
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ
وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا
قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (51) }
يقول تعالى : ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار ، لرأيت أمرا
عظيما هائلا فظيعا منكرا ؛ إذ يضربون وجوههم وأدبارهم ، ويقولون لهم : { ذُوقُوا
عَذَابَ الْحَرِيقِ }
قال ابن جريج ، عن مجاهد : { وأدبارهم } استاههم ، قال : يوم بدر.
قال ابن جُرَيْج ، قال ابن عباس : إذا أقبل المشركون (3) بوجوههم إلى المسلمين ،
ضربوا وجوههم بالسيوف ، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم.
قال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قوله : { إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ }
__________
(1) زيادة من د ، ك ، أ ، وابن هشام والطبري.
(2) تفسير الطبري (14/13).
(3) في ك : "المشركين" وهو خطأ.
(4/76)
يوم
بدر.
وقال وَكِيع ، عن سفيان الثوري ، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير ، عن مجاهد ، عن
شعبة ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جُبَيْر : { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ
وَأَدْبَارَهُمْ } قال : وأستاههم (1) ولكن الله يَكْنِي.
وكذا قال عمر مولى غُفْرة (2)
وعن الحسن البصري قال : قال رجل : يا رسول الله ، إني رأيت بظهر أبي جهل مثل
الشراك (3) قال ما ذاك ؟ قال : "ضرب الملائكة (4) ".
رواه ابن جرير (5) وهو مرسل.
وهذا السياق - وإن كان سببه وقعة بدر - ولكنه عام في حق كل كافر ؛ ولهذا لم يخصصه
تعالى بأهل بدر ، بل قال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ
كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وفي سورة
القتال مثلها (6) وتقدم في سورة الأنعام [عند] (7) قوله : { وَلَوْ تَرَى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ
أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } [الأنعام : 93]أي : باسطو أيديهم بالضرب فيهم ،
يأمرونهم إذ استصعبت أنفسهم ، وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهرًا. وذلك
إذ بشروهم بالعذاب والغضب من الله ، كما [جاء] (8) في حديث البراء : إن ملك الموت
- إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة - يقول : اخرجي أيتها النفس
الخبيثة إلى سَمُوم وحميم ، وظل من يحموم ، فتتفرق في بدنه ، فيستخرجونها من جسده
، كما يخرج السفود من الصوف المبلول فتخرج معها العروق والعصب ؛ ولهذا أخبر (9)
تعالى أن الملائكة تقول لهم : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ }
وقوله تعالى : : { ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : هذا الجزاء بسبب ما
عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا ، جازاكم الله بها هذا الجزاء ، {
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي : لا يظلم أحدا من خلقه ، بل هو
الحكم العدل ، الذي لا يجور ، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه الغني الحميد ؛ ولهذا جاء
في الحديث الصحيح عند مسلم ، رحمه الله ، من رواية أبي ذر ، رضي الله عنه ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تعالى يقول : يا عبادي إني حرمت
الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي ، إنما هي أعمالكم
أحصيها لكم ، فمن وجد خيرًا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا
نفسه" (10) ولهذا قال تعالى :
__________
(1) في د ، ك : "وأستاههم".
(2) في ك : "عمرة".
(3) في د ، ك : "الشوك".
(4) في د ، ك : "ذاك ضرب".
(5) تفسير الطبري (14/16).
(6) يشير ابن كثير - رحمه الله - إلى الآية : 27 من سورة محمد.
(7) زيادة من م.
(8) زيادة من أ.
(9) في أ : "قال".
(10) صحيح مسلم برقم (2577).
(4/77)
كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
{
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ
(52) }
يقول تعالى : فعل هؤلاء المشركون المكذبون (1) بما أرسلت به يا محمد ، كما فعل
الأمم المكذبة قبلهم ، ففعلنا بهم ما هو دأبنا ، أي : عادتنا وسنتنا في أمثالهم من
المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل ، الكافرين بآيات الله. {
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } [أي : بسبب ذنوبهم أهلكهم ، فأخذهم أخذ عزيز
مقتدر] (2) { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : لا يغلبه غالب ،
ولا يفوته هارب.
__________
(1) في م : "المشركين المكذبين".
(2) زيادة من د ، ك ، م.
(4/78)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
{
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ
رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ
كَانُوا ظَالِمِينَ (54) }
يخبر تعالى عن تمام عدله ، وقسطه في حكمه ، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على
أحد (1) إلا بسبب ذنب ارتكبه ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ
سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْوَالٍ } [الرعد : 11] ،
وقوله { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } أي : كصنعه (2) بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا
بآياته ، أهلكهم بسبب ذنوبهم ، وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم من جنات وعيون
، وزروع وكنوز ومقام كريم ، ونعمة كانوا فيها فاكهين ، وما ظلمهم الله في ذلك ، بل
(3) كانوا هم الظالمين.
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي
كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ
فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) }
أخبر تعالى أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون ، الذين كلما
عاهدوا عهدا نقضوه ، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه ، { وَهُمْ لا يَتَّقُونَ } أي :
لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام.
{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ } أي : تغلبهم وتظفر بهم في حرب ، {
فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ } أي : نكل بهم ، قاله : ابن عباس ، والحسن
البصري ، والضحاك ، والسدي ، وعطاء الخراساني ، وابن عيينة ،
__________
(1) في أ : "قوم".
(2) في د ، ك ، : "كصنيعهم".
(3) في أ : "ولكن".
(4/78)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
ومعناه
: غَلّظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ليخاف من سواهم من الأعداء ، من العرب وغيرهم ،
ويصيروا لهم عبرة { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
وقال السدي : يقول : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيُصنع (1) بهم مثل ذلك.
{ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) }
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه (2) { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
} قد عاهدتهم { خِيَانَةً } أي : نقضًا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود ، {
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ } أي : عهدهم { عَلَى سَوَاءٍ } أي : أعلمهم بأنك قد نقضت
عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم ، وهم حرب لك ، وأنه لا عهد بينك وبينهم
على السواء ، أي : تستوي أنت وهم في ذلك ، قال الراجز. فَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدر
[الأعْداء] (3) حتى يجيبوك إلى السواء (4)
وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله : { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } أي
: على مهل ، { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } أي : حتى ولو في حق
الكفارين ، لا يحبها أيضًا.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة (5) عن أبي الفيض ، عن سليم بن
عامر ، قال : كان معاوية يسير في أرض الروم ، وكان بينه وبينهم أمد ، فأراد أن
يدنو منهم ، فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر [الله
أكبر] (6) وفاء لا غدرا ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ومن كان
بينه وبين قوم عهد فلا يحلَّنَّ عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم
على سواء" قال : فبلغ ذلك معاوية ، فرجع ، وإذا الشيخ عمرو بن عبسة ، رضي
الله عنه.
وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة وأخرجه أبو داود ، والترمذي ،
والنسائي ، وابن حبان في صحيحه من طرق عن شعبة ، به (7) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري ، حدثنا إسرائيل ، عن
عطاء بن السائب ، عن أبي البختري عن سلمان - يعني الفارسي - رضي الله عنه : أنه
انتهى إلى حصن - أو : مدينة - فقال لأصحابه : دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله (8)
صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلا منهم (9) فهداني الله عز وجل
للإسلام ، فإذا أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم فأدوا
__________
(1) في ك : "فنصنع".
(2) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(3) زيادة من د ، م ، أ ، والطبري.
(4) الرجز في تفسير الطبري (14/27).
(5) في ك : "سعيد".
(6) زيادة من د ، ك ، م ، والمسند.
(7) مسند أحمد (4/111) ومسند الطيالسي برقم (1155) وسنن أبي داود برقم (2759) وسنن
الترمذي برقم (1580) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8732).
(8) في د ، ك : "النبي".
(9) في د ، ك ، م : "منكم".
(4/79)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
الجزية
وأنتم صاغرون ، فإن أبيتم نابذناكم على سواء ، { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْخَائِنِينَ } يفعل بهم ذلك ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها
ففتحوها بعون الله (1)
{ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا
تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا تَحْسَبَنَّ } يا محمَّد {
الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا } أي : فاتونا فلا نقدر عليهم ، بل هم تحت قهر قدرتنا
وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا ، كما قال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [العنكبوت :
4]أي : يظنون ، وقال تعالى : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي
الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [النور : 57] ، وقال
تعالى (2) { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ
قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [آل عمران : 196 ،
197].
ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة ، فقال
: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أي : مهما أمكنكم ، { مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ }
قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن
الحارث ، عن أبي علي ثُمَامة بن شُفَيّ ، أنه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا
اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي" (3)
رواه مسلم ، عن هارون بن معروف ، وأبو داود عن سعيد بن منصور ، وابن ماجة عن يونس
بن عبد الأعلى ، ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب ، به (4)
ولهذا الحديث طرق أخر ، عن عقبة بن عامر ، منها ما رواه الترمذي ، من حديث صالح بن
كَيْسان ، عن رجل ، عنه (5)
وروى الإمام أحمد وأهل السنن ، عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ارموا واركبوا ، وأن ترموا خير من أن تركبوا" (6)
__________
(1) المسند (5/440) ورواه الترمذي في السنن برقم (1548) من طريق أبي عوانة ، عن
عطاء بن السائب ، عن أبي البختري به نحوه ، وقال : "حديث سلمان حديث حسن لا
نعرفه إلا من حديث عطاء بن السائب ، وسمعت محمدا يقول : أبو البختري لم يدرك سلمان
؛ لأنه لم يدرك عليا ، وسلمان مات قبل علي".
(2) في د : "وقوله".
(3) في م ذكرت جملة "ألا إن القوة الرمي" ثلاث مرات.
(4) المسند (4/156) وصحيح مسلم برقم (1917) وسنن أبي داود برقم (2514) وسنن ابن
ماجة برقم (13/28).
(5) سنن الترمذي برقم (3083) وقال : "صالح بن كيسان لم يدرك عقبة بن عامر ،
وقد أدرك ابن عمر".
(6) المسند (4/144).
(4/80)
وقال
الإمام مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه
، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الخيل لثلاثة : لرجل أجْر ، ولرجل
ستر ، وعلى رجل وزر ؛ فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في
مرج - أو : روضة - فما أصابت في طيلها ذلك من المرج - أو : الروضة - كانت له حسنات
، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له ، ولو
أنها مرت بنهر فشربت منه ، ولم يرد أن يسقي به ، كان ذلك حسنات له ؛ فهي لذلك
الرجل أجر. ورجل ربطها تغنِّيًا وتعففا ، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها ،
فهي له ستر ، ورجل ربطها فخرًا ورياء ونواء فهي على ذلك وزر". وسئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال : "ما أنزل الله علي فيها شيئا إلا هذه
الآية الجامعة الفاذة : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة : 7 ، 8].
رواه البخاري - وهذا لفظه - ومسلم ، كلاهما من حديث مالك (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، أخبرنا شريك ، عن الرُّكَيْن بن الربيع (2) عن
القاسم بن حسان ؛ عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن ، وفرس للشيطان ، وفرس للإنسان ، فأما فرس الرحمن
فالذي يربط في سبيل الله ، فعلفه وروثه وبوله ، وذكر ما شاء الله. وأما فرس
الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه ، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها الإنسان
يلتمس بطنها ، فهي ستر من فقر" (3)
وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل ، وذهب الإمام مالك إلى أن
الركوب أفضل من الرمي ، وقول الجمهور أقوى للحديث ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج وهشام (4) قالا حدثنا ليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب
، عن ابن شماسة : أن معاوية بن حديج (5) مر على أبي ذر ، وهو قائم عند فرس له ،
فسأله ما تعالج من فرسك هذا ؟ فقال : إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته!
قال : وما دعاء بهيمة من البهائم ؟ قال : والذي نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو
كل سحر فيقول : اللهم ، أنت خولتني عبدا من عبادك ، وجعلت رزقي بيده ، فاجعلني أحب
إليه من أهله وماله وولده (6)
قال : وحدثنا يحيى بن سعيد ، عن عبد الحميد بن جعفر ؛ حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن
سُوَيْد بن قيس ؛ عن معاوية بن حديج (7) ؛ عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه
__________
(1) الموطأ (2/414) ومن طريقه ، رواه البخاري في صحيحه برقم (2371) وأما مسلم
فرواه من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن أبي صالح به برقم (987).
(2) في ك : "الربيع بن الركين".
(3) المسند (1/395).
(4) في ك ، أ : "هاشم".
(5) في أ : "خديج".
(6) المسند (5/162).
(7) في أ : "خديج".
(4/81)
ليس
من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر ، يدعو بدعوتين ، يقول : اللهم ، إنك خولتني من
خولتني من بني آدم ، فاجعلني من أحب أهله وماله إليه" أو "أحب أهله
وماله إليه".
رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، عن يحيى القطَّان ، به (1)
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التّسْتُرِيّ ، حدثنا هشام بن
عمار ، حدثنا يحيى بن حمزة ، حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني ، عن الحسن بن أبي
الحسن أنه قال لابن الحنظلية - يعني : سهلا - : حدَّثنا حديثا سمعته من رسول الله
صلى الله عليه وسلم. فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الخيل
معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وأهلها معانون عليها ، ومن ربط فرسًا في
سبيل الله كانت النفقة عليه ، كالماد يده بالصدقة لا يقبضها" (2)
والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة ، وفي صحيح البخاري ، عن عُرْوَة ابن
أبي الجعد البارقي (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الخيل معقود
في نواصيها الخير إلى يوم القيامة : الأجر والمغنم" (4)
وقوله : "ترهبون" أي : تخوفون { بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ }
أي : من الكفار { وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ } قال مجاهد : يعني : قريظة ، وقال
السدي : فارس ، وقال سفيان الثوري : قال ابن يمان : هم الشياطين التي في الدور.
وقد ورد حديث بمثل ذلك ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحِمْصِي ، حدثنا أبو حيوة - يعني : شريح بن يزيد
المقرئ - حدثنا سعيد بن سنان ، عن ابن عريب - يعني : يزيد بن عبد الله بن عريب -
عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في قوله : {
وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ } قال : "هم الجن" (5)
ورواه الطبراني ، عن إبراهيم بن دُحَيْم ؛ عن أبيه ، عن محمد بن شعيب ؛ عن سعيد بن
سنان (6) عن يزيد بن عبد الله بن عريب ، به ، وزاد : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل" (7)
وهذا الحديث منكر ، لا يصح إسناده ولا متنه.
وقال مقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون.
__________
(1) المسند (5/170) وسنن النسائي (6/223).
(2) المعجم الكبير (6/98).
(3) في م : "المبارك".
(4) صحيح البخاري برقم (2850).
(5) ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده برقم (650) "بغية الباحث" حدثنا
داود بن رشيد عن أبي حيوة به.
(6) في جميع النسخ : "سنان بن سعيد بن سنان" والتصويب من المعجم الكبير.
(7) المعجم الكبير (17/188) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1089) : حدثنا ابن
أبي عاصم عن دحيم به نحوه.
(4/82)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
وهذا
أشبه الأقوال ، ويشهد له قوله : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ
مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا
تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [التوبة : 101].
وقوله : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لاتُظْلَمُونَ } أي : مهما أنفقتم في الجهاد ، فإنه يوفى إليكم على
التمام (1) والكمال ، ولهذا جاء في حديث (2) رواه أبو داود : أن الدرهم يضاعف
ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف (3) كما تقدم في قوله تعالى : { مَثَلُ
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ
أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ
يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة : 261].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن
الدشتكي ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر ألا يتصدق إلا على
أهل الإسلام ، حتى نزلت : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين. وهذا أيضًا
غريب.
{ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) }
__________
(1) في ك : "إليكم وأنتم لا تظلمون على التمام".
(2) في د : "في الحديث الذي".
(3) سنن أبي داود برقم (2498) ولفظه : "إن الصلاة والصيام والذكر تضاعف على
النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف" وقد تقدم نحو هذا اللفظ عند تفسير الآية :
261 من سورة البقرة من حديث عمران بن حصين.
(4/83)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
{
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي
أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ
أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ
اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) }
يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء ، فإن استمروا على
حربك ومنابذتك فقاتلهم ، { وَإِنْ جَنَحُوا } أي : مالوا { لِلسَّلْمِ } أي :
المسالمة والمصالحة والمهادنة ، { فَاجْنَحْ لَهَا } أي : فمل إليها ، واقبل منهم
ذلك ؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله
صلى الله عليه وسلم تسع سنين ؛ أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا فضيل بن
سليمان - يعني : النميري - حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن إياس بن عمرو الأسلمي ، عن
علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إنه سيكون بعدى اختلاف - أو : أمر - فإن استطعت أن يكون السلم ، فافعل"
(1)
وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة.
__________
(1) زوائد المسند (1/90) وقال الهيثمي في المجمع (7/234) : "رجاله
ثقات".
(4/83)
وهذا
فيه نظر ؛ لأن السياق كله في وقعة بدر ، وذكرها مكتنف لهذا كله.
وقول ابن عباس ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة ، والحسن ،
وقتادة : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في "براءة" : { قَاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية [التوبة :
29] فيه نظر أيضًا ؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا
كان العدو كثيفًا ، فإنه تجوز مهادنتهم ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وكما
فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص ،
والله أعلم.
وقوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : صالحهم وتوكل على الله ، فإن الله
كافيك وناصرك ، ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا ، { فَإِنَّ
حَسْبَكَ اللَّهُ } أي : كافيك وحده.
ثم ذكر نعمته عليه بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار ؛ فقال : { هُوَ
الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ }
أي : جمعها على الإيمان بك ، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا
فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : لما كان بينهم من
العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، بين الأوس
والخزرج ، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان ، كما
قال تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً
فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ
عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [آل عمران : 103].
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين
قال لهم : "يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وعالة
فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي" كلما قال شيئا قالوا : الله
ورسوله أَمَنَّ. (1)
ولهذا قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ } أي : عزيز الجناب ، فلا يخيب رجاء من توكل عليه ، حكيم في أفعاله
وأحكامه.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا علي بن بشر
الصيرفي القزويني في منزلنا ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسن (2) القنديلي
الإستراباذي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار ، حدثنا ميمون
بن الحكم ، حدثنا بكر بن الشرود ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة
، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل
تقارب القلوب ؛ يقول الله تعالى : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا
أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } وذلك موجود في الشعر : إذا مَتَّ ذو القربى إليك
برحمهفَغَشَّك واستَغْنى فليس بذي رحم
ولكن ذا القربى الذي إن دعوتهأجاب ومن يرمي العدو الذي ترمي
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4330) وصحيح مسلم برقم (1061) من حديث عبد الله بن يزيد بن
عاصم ، رضي الله عنه.
(2) في جميع النسخ "الحسين" والتصويب من الشعب والميزان.
(4/84)
قال
: ومن ذلك قول القائل : ولقد صحبت الناس ثم سبرتهموبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تُقَرّب قاطعاوإذا المودة أَقْرَبُ الأسْبَاب
قال البيهقي : لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس ، أو هو من قول من دونه من الرواة
؟ (1)
وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ،
سمعته يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ } الآية ، قال : هم المتحابون في الله ، وفي رواية : نزلت في
المتحابين في الله.
رواه النسائي والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح (2)
وقال عبد الرازق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن
الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ،
ثم قرأ : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ }
رواه الحاكم أيضًا.
وقال أبو عمرو الأوزاعي : حدثني عبدة بن أبي لُبَابة ، عن مجاهد - ولقيته فأخذ
بيدي فقال : إذا تراءى المتحابان في الله ، فأخذ أحدهما بيد صاحبه ، وضحك إليه ،
تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر. قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير! فقال :
لا تقل ذلك ؛ فإن الله تعالى يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا
مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } !. قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني (3)
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان (4) عن إبراهيم الخوزي (5) عن
الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما ، قال :
قلت لمجاهد : بمصافحة يغفر لهما ؟ فقال مجاهد : أما سمعته يقول : { لَوْ
أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ
اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } ؟ فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني.
وكذا روى طلحة بن مُصَرِّف ، عن مجاهد.
وقال ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : كنا نحدث (6) أن أول ما يرفع من الناس -
[أو قال : عن الناس] (7) - الألفة.
وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ، رحمه الله : حدثنا الحسين بن
إسحاق
__________
(1) شعب الإيمان للبيهقي برقم (9034).
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11210) والمستدرك (2/329).
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/46).
(4) في هـ : "حدثنا أبو يمان" والتصويب من د ، ك ، م ، والطبري.
(5) في د ، ك : "الجزري".
(6) في د ، ك : "نتحدث".
(7) زيادة من الطبري.
(4/85)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
التستري
، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا سالم بن غيلان ، سمعت جعدا أبا عثمان
، حدثني أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ، فأخذ بيده ، تحاتت عنهما ذنوبهما ،
كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف ، وإلا غفر لهما ولو كانت
ذنوبهما مثل زبد البحار (1) (2)
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى
الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ
وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ
فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ
وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ
مَعَ الصَّابِرِينَ (66) }
يحرض تعالى نبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، والمؤمنين على القتال ومناجزة الأعداء
ومبارزة الأقران ، ويخبرهم أنه حسبهم ، أي : كافيهم وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم ،
وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم ، ولو قل عدد المؤمنين.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم ، حدثنا عبيد الله بن موسى ،
أنبأنا سفيان ، عن شوذب (3) عن الشعبي في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال : حسبك الله ، وحسب
من شهد معك.
قال : وروي عن عطاء الخراساني ، وعبد الرحمن بن زيد [بن أسلم] (4) مثله.
ولهذا قال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ }
أي : حثهم وذمر (5) عليه ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض على
القتال عند صفهم ومواجهة العدو ، كما قال لأصحابه يوم بدر ، حين أقبل المشركون في
عَدَدهم وعُدَدهم : "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض". فقال عمير بن
الحُمام : عرضها السموات والأرض ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"نعم" فقال : بخ بخ ، فقال : "ما يحملك على قولك بخ بخ ؟ "
قال (6) رجاء أن أكون من أهلها! قال : "فإنك من أهلها" فتقدم الرجل فكسر
جفن سيفه ، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ، ثم ألقى بقيتهن من يده ، وقال : لئن أنا
حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة! ثم تقدم فقاتل حتى قتل ، رضي الله عنه (7)
__________
(1) في د ، ك ، أ : "البحر".
(2) المعجم الكبير (6/256) وفيه : "مثل زبد البحر" وقال الهيثمي في
المجمع (8/37) : "رجاله رجال الصحيح غير سالم بن غيلان وهو ثقة".
(3) في هـ ، ك : "عن ابن شوذب" والمثبت من م ، أ ، والطبري.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "وذمرهم".
(6) في ك : "فقال".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (1901) من حديث أنس ، رضي الله عنه.
(4/86)
وقد
روي عن سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير : أن هذه الآية نزلت حين أسلم عمر بن
الخطاب ، وكمل به الأربعون.
وفي هذا نظر ؛ لأن هذه الآية مدنية ، وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض
الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة ، والله أعلم.
ثم قال تعالى مُبَشِّرًا للمؤمنين وآمرا : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا
أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } كل واحد بعشرة (1) ثم نسخ هذا الأمر وبقيت
البشارة.
قال عبد الله بن المبارك : حدثنا جرير بن حازم ، حدثني الزبير بن الخِرِّيت (2) عن
عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } شق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا
يفر واحد من عشرة ، ثم جاء التخفيف ، فقال : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ }
إلى قوله : { يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } قال : خفف الله عنهم من العدة ، ونقص من
الصبر بقدر ما خفف عنهم.
وروى البخاري من حديث ابن المبارك ، نحوه (3)
وقال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس في هذه الآية
قال : كتب عليهم ألا يفر عشرون من مائتين ، ثم خفف الله عنهم ، فقال : { الآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } فلا ينبغي لمائة أن
يفروا من مائتين.
وروى البخاري ، عن علي بن عبد الله ، عن سفيان ، به ونحوه (4)
وقال محمد بن إسحاق : حدثني ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لما
نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين ، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ، ومائة ألفًا
، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ
وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } الآية ، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدو لهم
(5) لم ينبغ لهم أن يفروا من عدوهم ، وإذا كانوا دون ذلك ، لم يجب عليهم قتالهم ،
وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم.
وروى علي بن أبي طلحة والعوفي ، عن ابن عباس ، نحو ذلك. قال ابن أبي حاتم : وروي
عن مجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، والضحاك
نحو ذلك.
وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه ، من حديث المسيب بن شريك ، عن ابن عون ، عن نافع ،
عن ابن عمر ، رضي الله عنهما : { إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } قال : نزلت فينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في ك : "لعشرة".
(2) في هـ : "الزبير بن الحارث" والمثبت من د ، ك ، م الطبري.
(3) صحيح البخاري برقم (4653).
(4) صحيح البخاري برقم (4652).
(5) في د ، ك : "عدوهم".
(4/87)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
وروى
الحاكم في مستدركه ، من حديث أبي عمرو بن العلاء ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ
فِيكُمْ ضَعْفًا } رفع ، ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1)
{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا
اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) }
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، عن حميد ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال :
استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر ، فقال : "إن
الله قد أمكنكم منهم" فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، اضرب
أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال : "يا أيها الناس ، إن الله قد أمكنكم منهم ، وإنما هم إخوانكم
بالأمس". فقام عمر فقال : يا رسول الله ، اضرب أعناقهم. فأعرض عنه النبي صلى
الله عليه وسلم ، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك ، فقام أبو
بكر الصديق ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل
منهم الفداء. قال : فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم
، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء. قال : وأنزل الله ، عز وجل : { لَوْلا كِتَابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } الآية (2)
وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك.
وقال الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تقولون في هؤلاء (3) الأسارى ؟
" قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قومك وأهلك ، استبقهم واستتبهم ، لعل
الله أن يتوب عليهم. قال : وقال عمر : يا رسول الله ، أخرجوك ، وكذبوك ، فقدمهم
فاضرب أعناقهم. قال : وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، أنت في واد كثير
الحطب ، فأضرم الوادي عليهم نارًا ، ثم ألقهم فيه. [قال : فقال العباس : قطعت
رحمك] (4) قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئًا ، ثم قام
فدخل فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس : يأخذ بقول عمر. وقال ناس : يأخذ
بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
"إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال
فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ، عليه السلام ،
قال : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ
غَفُورٌرَحِيمٌ } [إبراهيم : 36] ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى ، عليه السلام ،
قال : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ
فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة : 118] ، وإن مثلك يا عمر مثل
موسى
__________
(1) المستدرك (2/239).
(2) المسند (3/243).
(3) في أ : "هذه".
(4) زيادة من د ، ك ، م ، والمسند والطبري.
(4/88)
عليه
السلام ، قال : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 88] ،
وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام ، قال : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ
مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح : 26] ، أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا
بفداء أو ضربة عنق". قال ابن مسعود : قلت : يا رسول الله ، إلا سهيل بن بيضاء
، فإنه يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم
أخوف أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إلا سهيل بن بيضاء" فأنزل الله تعالى : { مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلى آخر الآية.
رواه الإمام أحمد والترمذي ، من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، والحاكم في مستدركه
، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه (1) وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه ، عن عبد
الله بن عمر ، وأبي هريرة ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه
(2) وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري.
وروى ابن مردويه أيضا - واللفظ له - والحاكم في مستدركه ، من حديث عبيد الله بن
موسى : حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : لما
أسر الأسارى يوم بدر ، أسر العباس فيمن أسر ، أسره رجل من الأنصار ، قال : وقد
أوعدته الأنصار أن يقتلوه. فبلغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس ، وقد زعمت
الأنصار أنهم قاتلوه" فقال له عمر : فآتهم ؟ قال : "نعم" فأتى عمر
الأنصار فقال لهم : أرسلوا العباس فقالوا : لا والله لا نرسله. فقال لهم عمر : فإن
كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى ؟ قالوا : فإن كان لرسول الله صلى الله
عليه وسلم رضى فخذه. فأخذه عمر فلما صار في يده قال له : يا عباس ، أسلم ، فوالله
لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعجبه إسلامك ، قال : فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ،
فقال أبو بكر : عشيرتك. فأرسلهم ، فاستشار عمر ، فقال : اقتلهم ، ففاداهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ } (3) الآية.
قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (4)
وقال سفيان الثوري ، عن هشام - هو ابن حسان - عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، عن
علي ، رضي الله عنه ، قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال
: خَيِّر أصحابك في الأسارى : إن شاءوا الفداء ، وإن شاؤوا القتل على أن يقتل منهم
مقبلا مثلهم. قالوا : الفداء ويقتل منا.
رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري ، به (5) وهذا حديث
غريب
__________
(1) المسند (1/383) وسنن الترمذي برقم (3084) والمستدرك (3/21) وقال الترمذي :
"هذا حديث حسن وأبو عبيدة بن عبد الله لم يسمع من أبيه".
(2) ذكرهما السيوطي في الدر المنثور (4/104 ، 107).
(3) في ك : "تكون".
(4) المستدرك (2/329) وقال الذهبي : "على شرط مسلم".
(5) سنن الترمذي برقم (1567) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8662) وقال الترمذي :
"هذا حديث غريب من حديث الثوري لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة".
(4/89)
جدا.
وقال ابن عون [عن محمد بن سيرين] (1) عن عبيدة ، عن علي قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم في أسارى يوم بدر : "إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم
واستمتعتم بالفداء ، واستشهد منكم بعدتهم". قال : فكان آخر السبعين ثابت بن
قيس ، قتل يوم اليمامة ، رضي الله عنه (2)
ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا (3) فالله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } فقرأ حتى بلغ : { عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال :
غنائم بدر ، قبل أن يحلها لهم ، يقول : لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه
، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم.
وكذا روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد.
وقال الأعمش : سبق منه ألا يعذب أحدا شهد بدرا. وروى نحوه عن سعد بن أبي وقاص ،
وسعيد بن جبير ، وعطاء.
وقال شعبة ، عن أبي هاشم (4) عن مجاهد : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ }
أي : لهم بالمغفرة ونحوه عن سفيان الثوري ، رحمه الله.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ
} يعني : في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم ، { لَمَسَّكُمْ فِيمَا
أَخَذْتُمْ } من الأسارى { عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال الله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا
غَنِمْتُمْ } الآية. وكذا روى العوفي ، عن ابن عباس. وروي مثله عن أبي هريرة ،
وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والحسن البصري ، وقتادة والأعمش أيضا : أن
المراد { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } لهذه الأمة بإحلال الغنائم وهو
اختيار ابن جرير ، رحمه الله.
ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه
، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خمسا ، لم يعطهن أحد من
الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي
الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى
الناس عامة" (5)
وقال الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "لم تحل
__________
(1) زيادة من المستدرك ودلائل النبوة.
(2) رواه الحاكم في المستدرك (2/140) والبيهقي في دلائل النبوة (3/139) من طريق
إبراهيم بن عرعرة قال : أخبرنا أزهر ، عن ابن عون ، عن محمد عن عبيدة ، عن علي به
، وقال ابن عرعرة : "رددت هذا على أزهر فأبى إلا أن يقول : عبيدة عن
علي" وصححه الحاكم وقال : "على شرط الشيخين".
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/67) من طريق ابن علية عن ابن عون عن ابن سيرين عن
عبيدة به مرسلا.
(4) في د : "هشام".
(5) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(4/90)
الغنائم
لسود الرؤوس غيرنا" (1)
ولهذا قال الله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا
وَاتَّقُوااللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فعند ذلك أخذوا من الأسارى
الفداء.
وقد روى الإمام أبو داود في سننه : حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي ، حدثنا
سفيان بن حبيب ، حدثنا شعبة ، عن أبي العنبس ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة (2)
وقد استقر الحكم في الأسرى (3) عند جمهور العلماء : أن الإمام مخير فيهم : إن شاء
قتل - كما فعل ببني قريظة - وإن شاء فادى بمال - كما فعل بأسرى بدر - أو بمن أسر
من المسلمين - كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها
اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين
الذين كانوا عند المشركين ، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة
من العلماء ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه.
__________
(1) رواه الترمذي في السنن برقم (3085) من طريق معاوية بن عمرو عن زائدة ، عن الأعمش
به نحوه ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث الأعمش".
(2) سنن أبي داود برقم (2691).
(3) في د ، ك ، أ : "الأسارى"
(4/91)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
{
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ
اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ
فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(71) }
قال محمد بن إسحاق : حدثني العباس بن عبد الله بن مغفل ، عن بعض أهله ، عن عبد
الله بن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر :
"إني قد عرفت أن أناسا من بني هاشم وغيرهم ، قد أخرجوا كرها ، لا حاجة لهم
بقتالنا ، فمن لقي (1) منكم أحدا منهم - أي : من بني هاشم - فلا يقتله ، ومن لقي
أبا البختري بن هشام فلا يقتله ، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله ، فإنه
إنما أخرج مستكرها". فقال أبو حذيفة بن عتبة : أنقتل آباءنا وأبناءنا
وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس ؟ ! والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف ؟ فبلغت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمر بن الخطاب : "يا أبا حفص" - قال
عمر : والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - "أيضرب
وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ؟ " فقال عمر : يا رسول الله ،
ائذن لي فأضرب عنقه ، فوالله لقد نافق. فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك : والله ما
آمن من تلك الكلمة التي قلت ، ولا أزال منها خائفا ، إلا أن يكفرها الله عني
بشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيدا ، رضي الله عنه.
__________
(1) في أ : "شهد".
(4/91)
وبه
، عن ابن عباس قال : لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، والأسارى
محبوسون بالوثاق ، بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهرا أول الليل ، فقال له
أصحابه : يا رسول الله ، ما لك لا تنام ؟ - وقد أسر العباس رجل من الأنصار - فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سمعت أنين عمي العباس في وثاقه"
فأطلقوه ، فسكت ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال محمد بن إسحاق : وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب ، وذلك
أنه كان رجلا مُوسرا فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهبا (1)
وفي صحيح البخاري ، من حديث موسى بن عقبة ، قال ابن شهاب : حدثني أنس بن مالك أن
رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ائذَنْ لنا
فَلْنَتْرُكْ لابن أختنا عباس فداءه. قال (2) لا والله لا تَذَرون منه درهما"
(3)
وقال يونس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رُومان ، عن عُرْوَة - وعن
الزهري ، عن جماعة سماهم قالوا : بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
فداء أسراهم ، ففدى (4) كل قوم أسيرهم بما رضوا ، وقال العباس : يا رسول الله ، قد
كنت مسلما! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الله أعلم بإسلامك ، فإن
يكن كما تقول فإن الله يجزيك ، وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابنيْ أخيك
: نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وعَقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب ، وحليفك عتبة
بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر" قال : ما ذاك عندي يا رسول الله! قال :
"فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل ؟ فقلت (5) لها : إن أصبتُ في سفري هذا
، فهذا المال الذي دفنته لبَني : الفضل ، وعبد الله ، وقُثم". قال : والله يا
رسول الله ، إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا لشيء ما علمه أحد (6) غيري وغيرُ أم
الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني : عشرين أوقية من مال كان معي فقال ؟
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك".
ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه ، وأنزل الله ، عز وجل فيه : { يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي
قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (7) قال العباس : فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية
في الإسلام عشرين عبدا ، كلهم في يده مال يضرب به ، مع ما أرجو من مغفرة الله ، عز
وجل.
وقد روى ابن إسحاق أيضا ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس في هذه الآية
بنحو مما تقدم.
__________
(1) في د ، ك : "ذهب".
(2) في ك : "فقال".
(3) صحيح البخاري برقم (4026).
(4) في ك : "يفادى".
(5) في د : "فقال".
(6) في أ : "بشر".
(7) في د : "الأسرى".
(4/92)
وقال
(1) أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا ابن إدريس [عن ابن إسحاق ] (2)
عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : قال العباس : في نزلت : { مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ } فأخبرت
النبيَّ صلى الله عليه وسلم بإسلامي ، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي
أخذ (3) مني ، فأبى ، فأبدلني الله بها عشرين عبدا ، كلهم تاجر ، مالي في يده.
وقال ابن إسحاق أيضا : حدثني الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد
الله ابن رئاب قال : كان العباس بن عبد المطلب يقول : فيَّ نزلت - والله - حين
ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي - ثم ذكر نحو الحديث الذي قبله.
وقال ابن جُريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى } عباس وأصحابه. قال : قالوا للنبي صلى
الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ، ونشهد أنك رسول الله ، لننصحن لك على قومنا.
فأنزل الله : { إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا
مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ } إيمانا وتصديقا ، يخلف (4) لكم خيرا مما أخذ منكم {
وَيَغْفِرْ لَكُمْ } الشرك الذي كنتم عليه. قال : فكان العباس يقول : ما أحب أن
هذه الآية لم تنزل فينا ، وأن لي الدنيا ، لقد قال : { يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ } فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مائة ضعف ، وقال : { وَيَغْفِرْ
لَكُمْ } وأرجو أن يكون (5) غُفر لي.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : كان العباس أسر يوم بدر ،
فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب ، فقال العباس حين قرئت هذه الآية : لقد أعطانا
(6) الله ، عز وجل ، خَصلتين ، ما أحب أن لي بهما الدنيا : إني أسرت يوم بدر
فَفَدَيت نفسي بأربعين أوقية. فآتاني أربعين عبدا ، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا
الله ، جل ثناؤه.
وقال قتادة في تفسير هذه الآية : ذُكر لنا أن رسول (7) الله صلى الله عليه وسلم
لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا ، وقد توضأ لصلاة الظهر ، فما أعطى يومئذ
ساكتًا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرقه ، فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي ،
فأخذ. قال : فكان العباس يقول : هذا خير مما أخذ منا ، وأرجو المغفرة.
وقال يعقوب بن سفيان : حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن حميد بن
هلال قال : بعث ابن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين ثمانين
ألفا ، ما أتاه مال أكثر منه لا قَبلُ ولا بَعدُ. قال : فنثرت على حصير ونودي
بالصلاة. قال : وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمثل قائما على المال ،
__________
(1) في ك : "وقال أيضا".
(2) زيادة من د ، ك ، م ، والطبري.
(3) في أ : "أخذت".
(4) في ك : : نخلف".
(5) في ك ، أ : "يكون قد".
(6) في أ : "أعطاه".
(7) في ك : "نبي".
(4/93)
وجاء
أهل المسجد فما كان يومئذ عددٌ ولا وزنٌ ، ما كان إلا قَبْضًا ، [قال] (1) وجاء
العباس بن عبد المطلب يحثى في خَميصة عليه ، وذهب يقوم فلم يستطع ، قال : فرفع
رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ارفع علي. قال :
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج ضاحكه - أو : نابه - وقال له :
"أعدْ من المال طائفة ، وقم بما تطيق". قال : ففعل ، وجعل العباس يقول -
وهو منطلق - : أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا ، وما ندري ما يصنع في
الأخرى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى }
(2) الآية ، ثم قال : هذا خير مما أخذ منا ، ولا أدري ما يصنع الله في الأخرى (3)
فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم مائلا على ذلك المال ، حتى ما بقي منه درهم
، وما بعث إلى أهله بدرهم ، ثم أتى الصلاة فصلى (4)
حديث آخر في ذلك : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ،
أخبرني أبو الطيب محمد بن محمد بن عبد الله السعيدي ، حدثنا مَحْمَش بن عصام ،
حدثنا حفص بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان ، عن عبد العزيز بن صهيب ، عن
أنس بن مالك قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين ، فقال :
"انثروه في المسجد".
قال : وكان أكثر مال أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إلى الصلاة ولم
يلتفت إليه ، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه. فما كان يرى أحدا إلا أعطاه ، إذ جاء
العباس فقال : يا رسول الله ، أعطني فإني فاديت نفسي ، وفاديت عَقيلا. فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذ". فحثا في ثوبه ، ثم ذهب يُقِلُّه
فلم يستطع ، فقال : مُرْ بعضهم يرفعه إليَّ. قال : "لا". قال : فارفعه
أنت عليَّ. قال : "لا" فنثر منه ثم احتمله على كاهله ، ثم انطلق ، فما
زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خَفِيَ عنه ، عَجَبًا من حِرْصه
، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثَمَّ منها درهم (5)
وقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه تعليقا بصيغة الجزم ، يقول : "وقال
إبراهيم بن طهمان" ويسوقه ، وفي بعض السياقات أتم من هذا (6)
وقوله : { وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ } أي : فيما أظهروا لك من الأقوال ، {
فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل بدر بالكفر به ، { فَأَمْكَنَ
مِنْهُمْ } أي : بالإسار يوم بدر ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بما
يفعله ، حكيم فيه.
قال قتادة : نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح الكاتب حين ارتد ، ولحق
بالمشركين.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د : "الأسرى".
(3) في ك : "الآخرة".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (3/329) من طريق هاشم بن القاسم عن سليمان بن
المغيرة به نحوه ، وقال : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه".
(5) السنن الكبرى (6/356) ووقع فيه "محمد بن محمد بن عبد الله الشعيري".
(6) صحيح البخاري برقم (421 ، 3049 ، 3165).
(4/94)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
وقال
ابن جُرَيْج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : نزلت في عباس وأصحابه ، حين
قالوا : لننصحن لك على قومنا.
وفسرها السُّدِّيّ على العموم ، وهو أشمل وأظهر ، والله أعلم.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ
مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) }
ذكر تعالى أصناف المؤمنين ، وقسمهم إلى مهاجرين ، خرجوا من ديارهم وأموالهم ،
وجاؤوا لنصر الله ورسوله ، وإقامة دينه ، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك. وإلى
أنصار ، وهم : المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك ، آووا إخوانهم المهاجرين في
منازلهم ، وواسوهم في أموالهم ، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم ، فهؤلاء بعضهم
أولى ببعض (1) أي : كل منهم أحق بالآخر من كل أحد ؛ ولهذا آخى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، كل اثنين أخَوَان ، فكانوا يتوارثون بذلك
إرثًا مقدمًا على القرابة ، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث ، ثبت ذلك في صحيح
البخاري ، عن ابن عباس (2) ورواه العَوْفي ، وعلي بن أبي طلحة ، عنه (3) وقال (4)
مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن جَرير -
هو ابن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من
ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة" تفرد به أحمد (5)
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا شيبان (6) حدثنا عِكْرِمة - يعني ابن إبراهيم الأزدي
- حدثنا عاصم ، عن شَقِيق ، عن ابن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "المهاجرون والأنصار ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف ، بعضهم
أولياء بعض في الدنيا والآخرة". هكذا رواه في مسند عبد الله بن مسعود (7)
__________
(1) في د ، ك ، م ، أ : "بعضهم أولياء بعض".
(2) صحيح البخاري برقم (6747).
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/78).
(4) في أ : "وقاله".
(5) المسند (4/363).
(6) في د : "سفيان".
(7) مسند أبي يعلى (8/446) وفيه عكرمة بن إبراهيم ، ضعيف.
(4/95)
وقد
أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في (1) كتابه ، فقال : {
وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الآية [التوبة : 100] ، وقال : {
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } الآية. [التوبة : 117] ، وقال تعالى : {
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا
الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا
يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } الآية [الحشر : 8 ، 9].
وأحسن ما قيل في قوله : { وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا
} أي : لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم ، فإن ظاهر الآيات تقديم
المهاجرين على الأنصار ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، لا يختلفون في ذلك ،
ولهذا قال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا
محمد بن مَعْمَر ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ،
عن سعيد بن المسيب ، عن حذيفة قال : خَيَّرني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين
الهجرة والنصرة ، فاخترت الهجرة (2)
ثم قال : لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ }
[قرأ حمزة : "ولايتهم" بالكسر ، والباقون بالفتح ، وهما واحد كالدِّلالة
والدَّلالة] (3) { مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } هذا هو الصنف الثالث من
المؤمنين ، وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا ، بل أقاموا في بَوَاديهم ، فهؤلاء ليس
لهم في المغانم نصيب ، ولا في خُمسها إلا ما حضروا فيه القتال ، كما قال الإمام
أحمد :
حدثنا وَكيع ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مَرْثَد ، عن سليمان بن بُرَيْدة ، عن
أبيه : بُرَيْدة بن الحُصَيب الأسلمي ، رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش ، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله
ومن معه من المسلمين خيرًا ، وقال : "اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا
من كفر بالله ، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال - أو : خلال
- فأيتهن ما أجابوك (4) إليها فاقبل منهم ، وكُفَّ عنهم : ادعهم إلى الإسلام ، فإن
أجابوك فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ،
وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين ، وأن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا
واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب
__________
(1) في د ، أ : "من".
(2) مسند البزار برقم (2718) "كشف الأستار" وفيه علي بن زيد ، ضعيف.
(3) زيادة من د ، م ، أ.
(4) في أ : "ما أجابوا".
(4/96)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
المسلمين
، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة
نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن
أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم".
انفرد به (1) مسلم ، وعنده زيادات أخر (2)
وقوله : { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ } يقول تعالى : وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب ، الذين لم يهاجروا في قتال
ديني ، على عدو لهم فانصروهم ، فإنه واجب عليكم نصرهم ؛ لأنهم إخوانكم في الدين ،
إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أي :
مهادنة إلى مدة ، فلا تخفروا ذمتكم ، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم. وهذا
مروي عن ابن عباس ، رضي الله عنه.
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ
فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) }
لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضُهم أولياء بعض ، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار ،
كما قال الحاكم في مستدركه :
حدثنا محمد بن صالح بن هانئ ، حدثنا أبو سعد (3) يحيى بن منصور الهروي ، حدثنا
محمد بن أبان ، حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين
، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا
يتوارث أهل ملتين ، ولا يرث مسلم كافرًا ، ولا كافر مسلما" ، ثم قرأ : {
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ
فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم
يخرجاه (4)
قلت : الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" (5) وفي المسند
والسنن ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "لا يتوارث أهل ملتين شتى" (6) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا محمد ، [عن محمد بن ثور] (7) عن معمر ، عن الزهري :
أن
__________
(1) في أ : "انفرد بإخراجه".
(2) المسند (5/352) وصحيح مسلم برقم (1731).
(3) في جميع النسخ : "أبو سعيد" والتصويب من كتب الرجال.
(4) المستدرك (2/240).
(5) صحيح البخاري برقم (6764) وصحيح مسلم برقم (1614).
(6) المسند (2/195) وسنن أبي داود برقم (2911) ولم أقع عليه في سنن الترمذي ،
وإنما أشار إليه عند حديث أسامة بن زيد ، والله أعلم.
(7) زيادة من م ، أ ، والطبري.
(4/97)
رسول
الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال : "تقيم الصلاة ،
وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له
حرب" (1)
وهذا مرسل من هذا الوجه ، وقد روي متصلا من وجه آخر ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم : أنه قال : "أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين" ، ثم قال :
"لا يتراءى ناراهما" (2)
وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد : حدثنا محمد بن داود بن سفيان ، أخبرني يحيى بن
حسان ، أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود ، حدثنا جعفر بن سعد بن سَمُرَة بن جُنْدُب
[حدثني خبيب بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن سمرة] (3) عن سمرة بن جندب : أما بعد ،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من جامع المشرك وسكن معه فإنه
مثله" (4)
وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه ، من حديث حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الله بن
هرمز ، عن محمد وسعيد ابنى عبيد ، عن أبي حاتم (5) المزني قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إذا أتاكم من تَرْضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا (6)
تكن فتنة في الأرض وفساد عريض". قالوا : يا رسول الله ، وإن كان ؟ قال :
"إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه" ثلاث مرات.
وأخرجه أبو داود والترمذي ، من حديث حاتم بن إسماعيل ، به بنحوه (7)
ثم رُويَ من حديث عبد الحميد بن سليمان ، عن ابن (8) عَجْلان ، عن ابن وَثيمةَ
النَّصْري (9) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، إلا تفعلوا (10) تكن فتنة في
الأرض وفساد عريض" (11)
ومعنى قوله تعالى : { إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ
كَبِيرٌ } أي : إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين ، وإلا وقعت الفتنة في
الناس ، وهو التباس الأمر ، واختلاط المؤمن بالكافر ، فيقع بين الناس فساد منتشر
طويل عريض.
__________
(1) تفسير الطبري (14/82).
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (2645) والترمذي في السنن برقم (1604) والنسائي
في السنن (8/36) من حديث جرير بن عبد الله ، رضي الله عنه.
(3) زيادة من د ، ك ، م ، وأبي داود.
(4) سنن أبي داود برقم (2787).
(5) في أ : "حازم".
(6) في ك : "تفعلوه".
(7) رواه أبو داود في المراسيل برقم (224) والترمذي في السنن برقم (1085).
(8) في أ : "أبي".
(9) في أ : "ابن أبي وثيمة النصري".
(10) في ك : "تفعلوه".
(11) ورواه الترمذي في السنن برقم (1084) من طريق عبد الحميد بن سليمان به ، وقال
: "حديث أبي هريرة قد خولف عبد الحميد ابن سليمان في هذا الحديث ، ورواه
الليث بن سعد عن ابن عجلان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ثم قال
: وحديث الليث أشبه ، ولم يعد حديث عبد الحميد محفوظا".
(4/98)
وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
{
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا
مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) }
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا ، عطف بذكر ما لهم في الآخرة ، فأخبر عنهم
بحقيقة الإيمان ، كما تقدم في أول السورة ، وأنه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوب
إن كانت ، وبالرزق الكريم ، وهو الحسن الكثير الطيب الشريف ، دائم مستمر أبدا لا
ينقطع ولا ينقضي ، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه.
ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم
معهم في الآخرة كما قال : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الآية
[التوبة : 100] ، وقال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ
رَبَّنَااغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا
تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ } [الحشر : 10]وفي الحديث المتفق عليه ، بل المتواتر من طرق صحيحة ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "المرء مع من أحب" ، وفي الحديث
الآخر : "من أحب قوما حُشر معهُم" (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن جرير قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض
، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة". قال
شريك : فحدثنا الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن هلال ، عن جرير ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
تفرد به أحمد من هذين الوجهين (2)
وأما قوله تعالى : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللهِ } أي : في حكم الله ، وليس المراد بقوله : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ
} خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة ، الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة ، بل
يُدْلون بوارث ، كالخالة ، والخال ، والعمة ، وأولاد البنات ، وأولاد الأخوات ،
ونحوهم ، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية ، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة ، بل
الحق أن الآية
__________
(1) جاء من حديث أبي قرصافة وجابر ، أما حديث جابر فرواه الطبراني في المعجم
الكبير (3/19) من طريق زياد عن عزة بنت عياض عن أبي قرصافة مرفوعا بلفظ : "من
أحب قوما حشره الله في زمرتهم" ، وفي إسناده من لا يعرف. رواه الخطيب في
تاريخه (5/196) من طريق إسماعيل بن يحيى عن سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن
جابر مرفوعا بلفظ : "من أحب قوما على أعمالهم. حشر يوم القيامة في زمرتهم ،
فحوسب بحسابهم وإن لم يعمل أعمالهم" وإسماعيل بن يحيى ، ضعيف.
(2) المسند (4/343).
(4/99)
عامة
تشمل جميع القرابات. كما نص ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة وغير
واحد : على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أو لا
وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص. ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها
حديث : "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصِيَّة لوارث" ، قالوا :
فلو كان ذا حق لكان له فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا ،
والله أعلم.
آخر [تفسير] (1) سورة "الأنفال" ، ولله الحمد والمنة ، وعليه (2) [الثقة
و] (3) التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "وبه".
(3) زيادة من أ.
(4/100)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
[بسم
الله الرحمن الرحيم ، وبه أستعين وهو حسبي ونعم الوكيل] (1)
تفسير سورة التوبة (2)
مدنية (3)
{ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا
أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) }
هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال
البخاري.
حدثنا [أبو] (4) الوليد ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : آخر
آية نزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } [النساء
: 176] وآخر سورة نزلت براءة (5).
وإنما لا يبسمل (6) في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف
الإمام ، والاقتداء في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه وأرضاه ،
كما قال الترمذي :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعد ، ومحمد بن جعفر (7) وابن أبي عَدِيّ ،
وسَهْل بن يوسف قالوا : حدثنا عوف بن أبي جَميلة (8) أخبرني يزيد الفارسي ، أخبرني
ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال ، وهي من
المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، فقرنتم (9) بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ووضعتموها (10) في السبع الطّوّل ، ما
حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه
الزمان وهو يُنزل (11) عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيءُ دعا بعض
من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يُذْكر فيها كذا وكذا ،
فإذا نزلت (12) عليه الآية فيقول : "ضعوا هذه (13) في السورة التي يذكر فيها
كذا وكذا" ، وكانت الأنفال من أول ما نزل (14) بالمدينة ، وكانت براءة من آخر
القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها (15) وحَسبْتُ أنها منها ، وقبض رسول الله صلى
الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب
بينهما سطر { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } فوضعتها في السبع الطول
(16).
__________
(1) زيادة من ك.
(2) في ك : "براءة".
(3) زيادة من ك.
(4) زيادة من د ، ك ، والبخاري.
(5) صحح البخاري برقم (4645).
(6) في ك : "لا تبسمل".
(7) في د ، ك : "محمد بن أبي جعفر".
(8) في ت : "حملة".
(9) في د : "وقرنتم".
(10) في د : "ووضعتموهما".
(11) في ت : "تنزل".
(12) في ت : "أنزلت".
(13) في ك ، أ : "هذه الآية".
(14) في ت ، أ : "نزلت".
(15) في ت : "بعضها".
(16) سنن الترمذي برقم (3086).
(4/101)
وكذا
رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن حبَّان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ،
من طرق أخر ، عن عوف الأعرابي ، به (1) وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما رجع من غزوة
تبوك وهم بالحج ، ثم ذُكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك
، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم ، فبعث أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ،
أميرًا على الحج هذه السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد
عامهم هذا ، وأن ينادي في الناس ببراءة ، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون
مبلغًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكونه عَصَبَة له ، كما سيأتي بيانه.
فقوله : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي : هذه براءة ، أي : تبرؤ من
الله ورسوله { إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي
الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ }
اختلف المفسرون ها هنا اختلافا كثيرا ، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود
المطلقة غير المؤقتة ، أو من له عهد دون أربعة أشهر ، فيكمل له أربعة أشهر ، فأما
من كان له عهد مؤقَّت فأجله إلى مدته ، مهما كان ؛ لقوله تعالى : { فَأَتِمُّوا
إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }
[التوبة : 4] ولما سيأتي في الحديث : "ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته". وهذا أحسن الأقوال وأقواها ، وقد اختاره ابن
جرير ، رحمه الله ، ورُوي عن الكلبي ومحمد بن كعب القُرَظِيّ ، وغير واحد.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي
الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } قال : حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر ،
يسيحون في الأرض حيثما شاءوا ، وأجل أجل من ليس له عهد ، انسلاخَ الأشهر الحرم ،
[من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم ، فذلك خمسون ليلة ، فإذا انسلخ الأشهر الحرم ]
(2) أمره بأن يضع السيف فيمن لا عهد له.
وكذا رواه العوفي ، عن ابن عباس.
وقال [الضحاك] (3) بعد قوله : فذلك خمسون ليلة : فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم
أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد ، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. وأمر
ممن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر ،
أن يضع فيهم السيف (4) حتى يدخلوا في الإسلام.
وقال أبو معشر المدني : حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : بعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع ، وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين
آية أو أربعين آية من "براءة" فقرأها
__________
(1) المسند (1/57) وسنن أبي داود برقم (786) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8007)
والمستدرك (2/330).
(2) زيادة من ت ، م.
(3) زيادة من ت ، م.
(4) من ت : "السيف أيضا".
(4/102)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
على
الناس ، يؤجل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، فقرأها عليهم يوم عرفة ،
أجَّل المشركين عشرين من ذي الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشرا من
ربيع الآخر ، وقرأها عليهم في منازلهم ، وقال : لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ، ولا
يطوفن بالبيت عريان.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } إلى أهل
العهد : خزاعة ، ومُدْلِج ، ومن كان له عهد أو غيرهم. أقبل (1) رسول الله صلى الله
عليه وسلم من تبوك حين فرغ ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ، ثم قال :
"إنما يحضر المشركون فيطوفون عُرَاة ، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك".
فأرسل أبا بكر وعليًا ، رضي الله عنهما ، فطافا بالناس في ذي المجَاز وبأمكنتهم
التي كانوا يتبايعون بها بالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة
أشهر ، فهي الأشهر المتواليات : عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ،
ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلَّهم بالقتال إلا أن يؤمنوا.
وهكذا روي عن السدي : وقتادة.
وقال الزهري : كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم.
وهذا القول غريب ، وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها ، وإنما ظهر لهم أمرها يوم
النحر ، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ولهذا قال تعالى :
{ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ
أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) }
يقول تعالى : وإعلام { مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } وتَقَدُّم وإنذار إلى الناس ، {
يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ } وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها
وأكثرها جمعا (2) { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } أي :
بريء منهم أيضا.
ثم دعاهم إلى التوبة إليه فقال : { فَإِنْ تُبْتُمْ } أي : مما أنتم فيه من الشرك
والضلال { فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } أي : استمررتم على ما أنتم
عليه { فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ } بل هو قادر ، وأنتم في
قبضته ، وتحت قهره ومشيئته ، { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
أي : في الدنيا بالخزي والنَّكال ، وفي الآخرة بالمقامع والأغلال.
قال البخاري ، رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث ، حدثني عَقيل ،
عن ابن شهاب قال : أخبرني حُمَيد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر
، رضي الله عنه ، في
__________
(1) في ت ، ك : "إقبال" ، وفي د : "فقدم".
(2) في د : "وأكبرها جميعا".
(4/103)
تلك
الحَجَّة في المُؤذِّنين ، بعثهم يوم (1) النحر ، يُؤذِّنون بمنى : ألا يحج بعد
العام مشرك ، ولا يطوف (2) بالبيت عريان. قال حميد : ثم أردف النبيُّ صلى الله
عليه وسلم بعلي بن أبي طالب ، فأمره أن يُؤَذِّن ببراءة. قال أبو هريرة : فأذَّنَ
معنا عليٌّ في أهل منى يوم النحر ببراءة وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف
بالبيت عريان (3)
ورواه البخاري أيضا : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شُعَيب ، عن الزهري ، أخبرني حميد
بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يُؤذِّن يوم النحر بمنى : لا
يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف (4) بالبيت عُريان ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ،
وإنما قيل : "الأكبر" ، من أجل قول الناس : "الحج الأصغر" ،
فَنَبَذَ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك.
وهذا لفظ البخاري في كتاب "الجهاد" (5)
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي
الله عنه ، في قوله : { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } قال : لما كان النبي
صلى الله عليه وسلم زمن حنين ، اعتمر من الجِعِرَّانة ، ثم أمرَ أبا بكر على تلك
الحجة - قال معمر : قال الزهري : وكان أبو هريرة يحدِّث أن أبا بكر أمرَ أبا هريرة
أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر (6) قال أبو هريرة : ثم أتبعنا النبي صلى الله عليه
وسلم عليا ، وأمره أن يؤذن ببراءة ، وأبو بكر على الموسم كما هو ، أو قال : على
هيئته (7)
وهذا السياق فيه غرابة ، من جهة أن أمير (8) الحج كان سنة عمرة الجِعرَّانة إنما
هو عَتَّاب بن أسيد ، فأما أبو بكر إنما كان أميرًا سنة تسع.
وقال أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن مُحرِّر
بن أبي هريرة ، عن أبيه قال : كنت مع علي بن أبي طالب ، حين بعثه رسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى أهل مكة "ببراءة" ، فقال : ما كنتم تنادون ؟ قال :
كنا ننادي : ألا يدخل الجنة إلا مؤمن ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين
رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله (9) - أو أمَدَه - إلى أربعة أشهر ،
فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت
بعد العام مشرك. قال : فكنت (10) أنادي حتى صَحل صوتي (11)
__________
(1) في ك : "بعثهم في يوم ".
(2) في ك ، أ : "يطوفن".
(3) صحيح البخاري برقم (4655).
(4) في أ : "ولا يطوفن".
(5) صحيح البخاري برقم (3177).
(6) في أ : "في حجة أبي بكر بمكة".
(7) الذي في تفسير عبد الرزاق هو ما جاء في الصحيح ولعله رواه في المصنف.
(8) في ت : "أمر".
(9) في أ : "فأجله".
(10) في ت : "وكنت".
(11) المسند (2/299).
(4/104)
وقال
الشعبي : حدثني مُحَرر بن أبي هريرة ، عن أبيه قال : كنت مع ابن أبي طالب (1) رضي
الله عنه ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي ، فكان إذا صَحل ناديتُ.
قلت : بأي شيء كنتم تنادون ؟ قال : بأربع : لا يطوف (2) بالكعبة عريان ، ومن كان
له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته ، ولا يدخل الجنة إلا نفس
مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا مشرك.
رواه ابن جرير من غير ما وجه ، عن الشعبي. ورواه شعبة ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، به
إلا أنه قال : ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فعهده إلى
أربعة أشهر. وذكر تمام الحديث (3) (4)
قال ابن جرير : وأخشى أن يكون وهما من بعض نقلته ؛ لأن الأخبار متظاهرة في الأجل
بخلافه (5)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن سِماك ، عن أنس بن مالك ، رضي
الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ب"براءة" مع أبي بكر ،
فلما بلغ ذا الحليفة قال : "لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي".
فبعث بها مع علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه (6)
ورواه الترمذي في التفسير ، عن بندار ، عن عفان وعبد الصمد ، كلاهما عن حماد بن
سلمة به (7) ثم قال : حسن غريب من حديث أنس ، رضي الله عنه.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : حدثنا محمد بن سليمان - لُوَين (8) - حدثنا محمد
بن جابر ، عن سماك ، عن حَنَش ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت عشر آيات
من "براءة" على النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا النبي صلى الله عليه
وسلم أبا بكر ، فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة ، ثم دعاني فقال (9) أدرك أبا بكر ،
فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه ، فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم". فلحقته بالجُحْفة
، فأخذت الكتاب منه ، ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول
الله ، نزل في شيء ؟ فقال : "لا ولكن جبريل جاءني فقال : لن يؤدي عنك إلا أنت
أو رجل منك" (10)
هذا إسناد فيه ضعف.
وليس المراد أن أبا بكر ، رضي الله عنه ، رجع من فوره ، بل بعد قضائه للمناسك التي
أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما جاء مبينا في الرواية الأخرى.
وقال عبد الله أيضا : حدثني أبو بكر ، حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط بن نصر ، عن
سماك ،
__________
(1) في ت ، أ : "كنت مع علي".
(2) في أ : "لا يطف".
(3) في ت : "تمامه".
(4) تفسير الطبري (14/103 - 105).
(5) تفسير الطبري (14/105).
(6) المسند (3/283).
(7) سنن الترمذي برقم (3090).
(8) في ك : "ابن لوين".
(9) في ت : "فقلت".
(10) زوائد المسند (1/151).
(4/105)
عن
حنش ، عن علي ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه ب"براءة"
قال : يا نبي الله ، إني لست باللسن ولا بالخطيب ، قال : "ما بُدُّ لي أن
أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت". قال : فإن كان ولا بدَّ فسأذهب أنا. قال :
"انطلق (1) فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك". قال : ثم وضع يده على فيه
(2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يُثَيع - رجل من
هَمْدان - : سألنا عليا : بأي شيء بعثت ؟ يعني : يوم بعثه النبي صلى الله عليه
وسلم مع أبي بكر في الحجة ، قال : بعثت بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا
يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده (3)
إلى مدته ، ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا.
ورواه الترمذي عن قلابة ، عن سفيان بن عيينة ، به (4) وقال : حسن صحيح.
كذا قال ، ورواه شعبة ، عن أبي إسحاق فقال : عن زيد بن يُثَيع (5) وهم فيه. ورواه
الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن علي ، رضي الله عنه.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا أبو أسامة ، عن زكريا ، عن أبي إسحاق ، عن
زيد بن يُثَيع ، عن علي قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت
"براءة" بأربع : ألا يطوف بالبيت عريان ، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك
بعد عامهم هذا ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته
، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة (6)
ثم رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن ابن ثور ، عن معمر ، عن أبي إسحاق
، عن الحارث ، عن علي قال : أمرت بأربع. فذكره (7)
وقال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن زيد بن يُثَيع قال : نزلت براءة فبعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، ثم أرسل عليًا ، فأخذها منه ، فلما رجع أبو بكر قال
: نزل (8) في شيء ؟ قال : " لا ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل
بيتي". فانطلق إلى أهل مكة ، فقام فيهم بأربع : لا يدخل مكة مشرك بعد عامه
هذا ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، ومن كان بينه وبين
رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، فعهده إلى مدته (9) (10)
__________
(1) في أ : "فانطلق".
(2) زوائد المسند (1/150) وفي إسناده أسباط بن نصر وحنش بن المعتمر متكلم فيهما.
(3) في د : "فعهدته".
(4) المسند (1/79) وسنن الترمذي برقم (3092).
(5) في أ : "أثيل".
(6) تفسير الطبري (14/106).
(7) تفسير الطبري (14/105).
(8) في ت : "هل نزل".
(9) في ك : "إلى مدته هنا".
(10) رواه الطبري في تفسيره (14/107) من طريق إسرائيل به.
(4/106)
وقال
محمد بن إسحاق ، عن حكيم (1) بن حكيم بن عباد بن حُنَيْف ، عن أبي جعفر محمد بن
علي بن الحسين بن علي قال : لما نزلت "براءة" على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وقد كان (2) بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس ، فقيل : يا رسول الله ، لو
بعثت إلى أبي بكر. فقال : "لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي". ثم دعا
عليا فقال : "اخرج بهذه القصة (3) من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر
إذا اجتمعوا بمنى : أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يَطُف
(4) بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى
مدته".
فخرج علي (5) رضي الله عنه ، على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء ، حتى
أدرك أبا بكر في الطريق (6) فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور ؟ قال (7) بل
مأمور ، ثم مضيا (8) فأقام أبو بكر للناس الحج ، [والعرب] (9) إذ ذاك في تلك السنة
على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر ، قام
علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
يا أيها الناس ، إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام ، ولا يطف (10)
بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته.
فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان ، ثم قدما على رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فكان هذا من "براءة" فيمن كان من أهل الشرك من أهل
العهد العام ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا أبو زُرْعة وهب
الله بن راشد ، أخبرنا حَيْوَة بن شُريح : أخبرنا أبو (11) صخر : أنه سمع أبا
معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول : سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول : سألت علي
بن أبي طالب (12) عن "يوم الحج الأكبر" فقال : إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قُحَافة يقيم للناس الحج ، وبعثني معه بأربعين آية
من " براءة" ، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة ، فلما قضى خطبته التفت
إليَّ فقال : قم ، يا علي ، فأدّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقمت فقرأت
عليهم أربعين آية من "براءة" ، ثم صَدَرنا فأتينا منى ، فرميت الجمرة
ونحرتُ البدنة ، ثم حلقت رأسي ، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا كلهم خطبة أبي
بكر يوم عرفة ، فطفت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم ، فمن ثم إخال حسبتم أنه يوم
النحر [ألا وهو يوم النحر] (13) ألا وهو (14) يوم عرفة (15)
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أبي إسحاق : سألت أبا جُحَيفة عن يوم الحج
الأكبر ، قال :
__________
(1) في ك : "حكم".
(2) في ت : "وكان قد".
(3) في ت : "اخرج من هذه القصة".
(4) في د ، ك : "يطوف".
(5) في ت : "علي بن أبي طالب".
(6) في ت : "بالطريق".
(7) في ت : "فقال".
(8) في أ : "مضينا".
(9) زيادة من الطبري.
(10) في ك : "يطوف".
(11) في أ : "ابن".
(12) في د : "سألت عليا".
(13) زيادة من د.
(14) في ك : "أهو".
(15) تفسير الطبري (14/113).
(4/107)
يوم
عرفة. فقلت : أمِنْ عندك أم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : كل في ذلك
(1)
وقال عبد الرزاق أيضا ، عن جُرَيْج ، عن عطاء قال : يوم الحج الأكبر ، يوم عرفة.
وقال عُمَر بن الوليد الشَّنِّي : حدثنا شهاب بن عباد العَصَريّ ، عن أبيه قال :
سمعت عمر بن الخطاب يقول : هذا يوم عرفة ، هذا يوم الحج الأكبر ، فلا يصومنه أحد.
قال : فحججت بعد أبي فأتيت المدينة ، فسألت عن أفضل أهلها ، فقالوا : سعيد بن
المسيب ، فأتيته فقلت : إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا : سعيد بن المسيب ،
فأخبرني عن صوم يوم عرفة ؟ فقال : أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف عمر - أو : ابن
عمر - كان ينهى عن صومه ، ويقول (2) هو يوم الحج الأكبر.
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم (3) وهكذا روي عن ابن عباس ، وعبد الله بن الزبير ،
ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وطاوس : أنهم قالوا : يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر.
وقد ورد فيه حديث مرسل رواه ابن جُرَيْج : أخبرت عن محمد بن قيس بن مَخْرَمة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة ، فقال : "هذا يوم الحج
الأكبر" (4)
وروي من وجه آخر عن ابن جريج ، عن محمد بن قيس ، عن المِسْوَر بن مخرمة ، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، أنه خطبهم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
"أما بعد ، فإن هذا يوم الحج الأكبر".
والقول الثاني : أنه يوم النحر.
قال هُشَيْم ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال
: يوم الحج الأكبر يوم النحر.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن الحارث الأعور ، سألت عليًا ، رضي الله عنه ، عن
يوم الحج الأكبر ، فقال : [هو] (5) يوم النحر.
وقال شعبة ، عن الحكم : سمعت يحيى بن الجزار يحدث عن علي ، رضي الله عنه ، أنه خرج
يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة ، فجاء رجل فأخذ بلجام دابته ، فسأله عن
الحج الأكبر ، فقال : هو يومك هذا ، خَل سبيلها.
وقال عبد الرازق ، عن سفيان عن شعبة (6) عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الله بن
أبي أوفى أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر.
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (1/241).
(2) في أ : "وهو يقول".
(3) تفسير الطبري (14/114).
(4) تفسير الطبري (14/116).
(5) زيادة من ت.
(6) في د : "عن شعبة".
(4/108)
وروى
شعبة وغيره ، عن عبد الملك بن عمير ، به نحوه. وهكذا (1) رواه هشيم وغيره ، عن
الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى.
وقال الأعمش ، عن عبد الله بن سنان قال : خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على
بعير فقال : هذا يوم الأضحى ، وهذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الأكبر.
وقال حماد بن سلمة ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس أنه قال : الحج الأكبر
، يوم النحر.
وكذا روي عن أبي جُحَيْفة ، وسعيد بن جُبَير ، وعبد الله بن شداد بن الهاد ، ونافع
بن جُبَير بن مطعم ، والشعبي ، وإبراهيم النَّخَعِي ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وأبي
جعفر الباقر ، والزهري ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا : يوم الحج الأكبر
هو يوم النحر. واختاره ابن جرير. وقد تقدم الحديث عن أبي هريرة في صحيح البخاري :
أن أبا بكر بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى ، وقد ورد في ذلك أحاديث أخر ، كما قال
الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني سهل بن محمد السجستاني ، حدثنا أبو جابر الحرمي ،
حدثنا هشام بن الغاز الجرشي - عن نافع ، عن ابن عمر قال : وقف رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع ، فقال : "هذا يوم الحج
الأكبر" (2)
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، وابن مَرْدُويه من حديث أبي جابر - واسمه محمد بن عبد
الملك ، به ، ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الوليد بن مسلم ، عن هشام بن الغاز ،
به. ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز ، عن نافع ، به.
وقال شعبة ، عن عمرو بن مُرَّة عن مرة الهَمْداني ، عن رجل من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء
مخضرمة ، فقال : "أتدرون أي يوم يومكم هذا ؟" قالوا : يوم النحر. قال :
"صدقتم ، يوم الحج الأكبر" (3)
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا ابن عون ،
عن محمد بن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه قال : لما كان ذلك اليوم
، قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير له ، وأخذ الناس بخطامه - أو : زمامه
- فقال : "أي يوم هذا ؟" قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه ،
فقال : "أليس هذا يوم الحج الأكبر" (4)
وهذا إسناد صحيح ، وأصله مخرج في الصحيح.
وقال أبو الأحوص ، عن شبيب بن غرقدة ، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص ، عن أبيه قال
:
__________
(1) في ت ، ك : "وكذا".
(2) تفسير الطبري (14/124).
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/125).
(4) تفسير الطبري (14/123) وأصله في صحيح البخاري برقم (4406) وصحيح مسلم برقم
(1679).
(4/109)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فقال : "أي يوم هذا ؟"
فقالوا : اليوم الحج الأكبر (1)
وعن سعيد بن المسيب أنه قال : يوم الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر. رواه
ابن أبي حاتم. وقال مجاهد أيضا : يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها.
وكذا قال أبو عبيد ، قال سفيان : "يوم الحج" ، و"يوم الجمل" ،
و"يوم صفين" أي : أيامه كلها.
وقال سهل السراج : سئل الحسن البصري عن يوم الحج الأكبر ، فقال : ما لكم وللحج
الأكبر ، ذاك عام حج فيه أبو بكر ، الذي استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج
بالناس. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبو أسامة ، عن ابن عون : سألت محمدا -
يعني ابن سيرين - عن يوم الحج الأكبر فقال : كان يوما وافق فيه حج رسول الله صلى
الله عليه وسلم حج أهل الوبر (2)
{ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ
شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ
إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) }
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر ، لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت ، فأجله
، أربعة أشهر ، يسيح في الأرض ، يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء ، إلا من له عهد
مؤقت ، فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، وقد تقدمت الأحاديث : "ومن
كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته" وذلك بشرط ألا
ينقض المعاهد عهده ، ولم يظاهر على المسلمين أحدا ، أي : يمالئ عليهم من سواهم ،
فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده (3) إلى مدته ؛ ولهذا حرض (4) الله تعالى على
الوفاء بذلك فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أي : الموفين بعهدهم.
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا ، ما هي ؟ فذهب ابن جرير إلى أنها
[الأربعة] (5) المذكورة في قوله تعالى : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } الآية [التوبة : 36]
، قاله أبو جعفر الباقر ، لكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم
وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإليه ذهب الضحاك أيضًا ،
وفيه نظر ،
__________
(1) رواه الترمذي في السنن برقم (2159) عن هناد عن أبي الأحوص به بأطول منه ، وقال
: "هذا حديث حسن صحيح".
(2) تفسير الطبري (14/121).
(3) في ت : "بعهده وذمته".
(4) في ت : "فرض".
(5) زيادة من ت ، أ.
(4/110)
والذي
يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه ، وبه قال مجاهد ،
وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن إسحاق ، وقتادة ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم :
أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها في قوله : { فَسِيحُوا فِي
الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [التوبة : 2] ثُمَّ قَالَ { فَإِذَا انْسَلَخَ
الأشْهُرُ الْحُرُمُ } أي : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها
قتالهم ، وأجلناهم فيها ، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ؛ لأن عود العهد على مذكور
أولى من مقدر ؛ ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في
هذه السورة الكريمة.
وقوله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } أي : من الأرض.
وهذا عام ، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله : { وَلا تُقَاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ } [البقرة : 191]
وقوله : { وَخُذُوهُمْ } أي : وأسروهم ، إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا.
وقوله : { وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } أي : لا تكتفوا
بمجرد وجدانكم لهم ، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم ، والرصد في طرقهم
ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع ، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ؛ ولهذا قال :
{ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ولهذا اعتمد الصديق ، رضي الله عنه ، في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة
وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال ، وهي الدخول في الإسلام ، والقيام
بأداء واجباته. ونبه بأعلاها على أدناها ، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة ،
التي هي حق الله ، عز وجل ، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء
والمحاويج ، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين
الصلاة والزكاة ، وقد جاء في الصحيحين (1) عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا (2) أن
لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة"
الحديث.
وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال :
أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومن لم يزك فلا صلاة له.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال :
يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا
حميد الطويل ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أمرت أن
أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا
__________
(1) في ت ، أ : "الصحيح".
(2) في ت : "يقولوا"
(4/111)
رسول
الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ،
وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم
ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم".
ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث عبد الله بن المبارك ،
به (1)
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، حدثنا عبيد
الله بن موسى ، أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس [عن أنس] (2) قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده ،
وعبادته لا يشرك به شيئا ، فارقها والله عنه راض" - قال : وقال أنس : هو دين
الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هرج الأحاديث ، واختلاف الأهواء ،
وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل ، قال الله تعالى : { فَإِنْ تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } - قال :
توبتهم خلع الأوثان ، وعبادة ربهم ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ثم قال في آية
أخرى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } (3) [التوبة : 11]
ورواه ابن مردويه.
ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب "الصلاة" له : حدثنا إسحاق بن
إبراهيم ، أنبأنا حَكَّام بن سِلْم (4) حدثنا أبو جعفر الرازي ، به سواء (5)
وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم : إنها نسخت كل
عهد بين النبي (6) صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين ، وكل عهد ، وكل مدة.
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة ،
منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم ، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن
تنزل (7) أربعة أشهر ، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : أمره الله تعالى أن يضع
السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ، ونقض ما كان سمي لهم من العقد والميثاق
، وأذهب الشرط الأول.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان
(8) قال
__________
(1) المسند (3/199) وصحيح البخاري برقم (392) وسنن أبي داود برقم (2641) وسنن
الترمذي برقم (2608) وسنن النسائي (8/109).
(2) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(3) تفسير الطبري (14/135) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (70) من طريق عبيد الله
بن موسى بنحوه ، وقال البوصيري في الزوائد (1/56) : "هذا إسناد ضعيف ، الربيع
بن أنس ضعيف هنا".
(4) في ك : "سلمة".
(5) تعظيم قدر الصلاة برقم (1).
(6) في أ : "رسول الله".
(7) في ت ، ك ، أ : "تنزل براءة".
(8) في ت ، ك ، أ : "سفيان بن عيينة".
(4/112)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
علي
بن أبي طالب : بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف : سيف في المشركين من
العرب (1) قال الله : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
[وَخُذُوهُمْ ] } (2)
هكذا رواه مختصرا ، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب في قوله : {
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ } [التوبة : 29] والسيف الثالث : قتال المنافقين في قوله : { يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ] } [التوبة : 73 ، والتحريم : 9] (3) والرابع : قتال الباغين في قوله :
{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى
تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات : 9]
ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه ، فقال الضحاك والسدي : هي منسوخة بقوله تعالى
: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } [محمد : 4] وقال قتادة بالعكس.
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَعْلَمُونَ (6) }
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه : { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
} الذين أمرتك بقتالهم ، وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم ، { اسْتَجَارَكَ } أي
: استأمنك ، فأجبه إلى طلبته { حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } أي : [القرآن]
(4) تقرؤه عليه وتذكر له شيئًا من [أمر] (5) الدين تقيم عليه به حجة الله ، {
ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } أي : وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده
وداره ومأمنه ، { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ } أي : إنما شرعنا
أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله ، وتنتشر دعوة الله في عباده.
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في تفسير هذه الآية ، قال : إنسان يأتيك يسمع ما
تقول وما أنزل عليك ، فهو آمن حتى يأتيك فيسمع كلام الله ، وحتى يبلغ مأمنه ، حيث
جاء.
ومن هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه ، مسترشدًا أو في
رسالة ، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش ، منهم : عروة بن مسعود ،
ومِكْرَز بن حفص ، وسهيل بن عمرو ، وغيرهم واحدًا بعد واحد ، يترددون في القضية
بينه وبين المشركين ، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر ، فرجعوا إلى قومهم فأخبروهم بذلك ، وكان
ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم.
__________
(1) في ت ، د : "سيف في المشركين وسيف في العرب".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ت ، د ، ك ، أ.
(5) زيادة من ت ، د ، ك ، أ.
(4/113)
ولهذا
أيضا لما قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :
"أتشهد (1) أن مسيلمة رسول الله ؟" قال : نعم. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك" (2) وقد قيض الله له
ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة ، وكان يقال له : ابن النواحة ، ظهر عنه
في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة ، فأرسل إليه ابن مسعود فقال له :
إنك الآن لست في رسالة ، وأمر به فضربت عنقه ، لا رحمه الله ولعنه.
والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة ، أو طلب
صلح أو مهادنة أو حمل جزية ، أو نحو ذلك من الأسباب ، فطلب من الإمام أو نائبه
أمانًا ، أعطي أمانًا ما دام مترددًا في دار الإسلام ، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه.
لكن قال العلماء : لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة ، ويجوز أن يمكن
من إقامة أربعة أشهر ، وفيما بين ذلك فيما (3) زاد على أربعة أشهر ونقص عن سنة
قولان ، عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء ، رحمهم الله.
__________
(1) في ك : "أما تشهد".
(2) رواه أحمد في المسند (3/487) وأبو داود في السنن برقم (2761) من طريق سلمة بن
الفضل عن محمد بن إسحاق عن سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم عن أبيه قال : كنت عند
النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسل مسيلمة ، فذكر نحوه.
(3) في ت : "ما".
(4/114)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
{
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ
فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) }
يبين تعالى (1) حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعد
ذلك السيف المرهف أين ثقفوا ، فقال تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ
عَهْدٌ } وأمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون (2) به وبرسوله ، {
إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } يعني يوم الحديبية ،
كما قال تعالى : { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } الآية [الفتح : 25]
، { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } أي : مهما (3) تمسكوا بما
عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين { فَاسْتَقِيمُوا
لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وقد فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست ،
إلى أن نقضت قريش العهد ومالئوا حلفاءهم بني بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا ، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ، ففتح الله عليه البلد الحرام ، ومكنه من نواصيهم ،
ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم ، فسموا الطلقاء
، وكانوا قريبا من ألفين ، ومن استمر على كفره وفر من رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر ، يذهب حيث شاء : منهم صفوان
بن أمية ، وعِكْرِمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الإسلام
التام ، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله.
__________
(1) في ت : "يبين تعالى أن".
(2) في ت ، ك ، : "كافرين" وهو خطأ.
(3) في د : "فمهما".
(4/114)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
{
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً
يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
(8) }
يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداة المشركين والتبري منهم ، ومبينا أنهم لا
يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله وكفرهم برسول الله (1) ولو أنهم إذ ظهروا
(2) على المسلمين وأدِيلوا عليهم ، لم يبقوا ولم يذروا ، ولا راقبوا فيهم إلا ولا
ذمة.
قال علي بن أبي طلحة ، وعِكْرِمة ، والعوفي عن ابن عباس : "الإل" :
القرابة ، "والذمة" : العهد. وكذا قال الضحاك والسدي ، كما قال تميم بن
مُقْبِل :
أفسد الناس خُلوفٌ خلفوا... قطعوا الإلَّ وأعراقَ الرحم (3)
وقال حسان بن ثابت ، رضي الله عنه :
وجدناهُمُ كاذبًا إِلّهُمْ... وذو الإلِّ والعهد لا يكذب (4)
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا } قال : الله.
وفي رواية : لا يرقبون الله ولا غيره.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن سليمان ، عن أبي مجلز في قوله
تعالى : { لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً } مثل قوله :
"جبرائيل" ، "ميكائيل" ، "إسرافيل" ، [كأنه يقول :
يضيف "جبر" ، و"ميكا" ، و"إسراف" ، إلى "إيل"
، يقول عبد الله : { لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا } ] (5) كأنه يقول : لا
يرقبون الله.
والقول الأول أشهر وأظهر ، وعليه الأكثر.
وعن مجاهد أيضا : "الإل" : العهد. وقال قتادة : "الإل" :
الحلف.
{ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ
إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا
وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) }
__________
(1) في د : "برسوله صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت : "ظاهروا".
(3) البيت في تفسير الطبري (14/148).
(4) قال المعلق على طبعة الشعب : هكذا نسبه ابن كثير إلى حسان بن ثابت ، ولم نجده
في ديوانه. والبيت في تفسير الطبري غير منسوب 15/148 وأما بيت حسان الذي استشهد به
الطبري فهو لعمرك إن إلك من قريش... كإل الشقب من رأل النعام
وهذا البيت في ديوان حسان ص 336 ، واللسان ، مادة "ألل".
(5) زيادة من الطبري (14/146).
(4/115)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
يقول
تعالى ذما للمشركين وحثا للمؤمنين على قتالهم : { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ
ثَمَنًا قَلِيلا } يعني : أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور
الدنيا الخسيسة ، { فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ } أي : منعوا المؤمنين من اتباع الحق
، { إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا
وَلا ذِمَّةً } تقدم تفسيره ، وكذا الآية التي بعدها : { فَإِنْ تَابُوا
وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } إلى آخرها ، تقدمت.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يحيى بن أبي بكر ،
حدثنا أبو جعفر الرازي ، حدثنا الربيع بن أنس قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته ،
لا يشرك (1) به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، فارقها والله عنه راض ، وهو دين
الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هَرْج الأحاديث واختلاف
الأهواء". وتصديق ذلك في كتاب الله : { فَإِنْ تَابُوا } يقول : فإن خلعوا
الأوثان وعبادتها { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ } وقال في آية أخرى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ }
ثم قال البزار : آخر الحديث عندي والله أعلم : "فارقها وهو عنه راض" ،
وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس (2)
{ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَنْتَهُونَ (12) }
يقول تعالى : وإن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم ، أي
: عهودهم ومواثيقهم ، { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ } أي : عابوه وانتقصوه. ومن
هاهنا أخذ قتل من سب الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، أو من طعن في دين الإسلام
أو ذكره بتنقص ؛ ولهذا قال : { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا
أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } أي : يرجعون عما هم فيه من الكفر
والعناد والضلال.
وقد قال قتادة وغيره : أئمة الكفر كأبي جهل ، وعتبة ، وشيبة ، وأمية بن خلف ، وعدد
رجالا.
وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال : مر سعد برجل من الخوارج ، فقال الخارجي : هذا
من أئمة الكفر. فقال سعد : كذبت ، بل أنا قاتلت أئمة الكفر. رواه ابن مردويه.
وقال الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن حذيفة أنه قال : ما قوتل أهل هذه الآية بعد.
__________
(1) في ت ، ك : "لا شريك".
(2) ورواه الحاكم في المستدرك (2/331) من طريق أحمد بن مهران عن عبيد الله بن موسى
بنحوه ، ولم يفرق بين المرفوع والموقوف ، وقال الحاكم : "صحيح الإسناد"
وتعقبه الذهبي قلت : "صدر الحديث مرفوع وسائره مدرج فيما أرى".
(4/116)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
وروى
عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، مثله.
والصحيح أن الآية عامة ، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم ،
والله أعلم.
وقال الوليد بن مسلم : حدثنا صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جُبَير بن نفير :
أنه كان في عهد أبي بكر ، رضي الله عنه ، إلى الناس حين وجههم إلى الشام ، قال :
إنكم ستجدون قوما محوقة رءوسهم ، فاضربوا معاقد الشيطان منهم بالسيوف ، فوالله لأن
أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم ، وذلك بأن الله يقول : {
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } رواه ابن أبي حاتم.
{ أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ
الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) }
(4/117)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
{
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ
عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ
قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
}
وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين لأيمانهم ، الذين هموا
بإخراج الرسول من مكة ، كما قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [الأنفال : 30].
وقال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
رَبِّكُمْ [إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِي] } (1) الآية [الممتحنة : 1] وقال تعالى : { وَإِنْ كَادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ
خِلافَكَ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 76]وقوله { وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ } قيل : المراد بذلك يوم بدر ، حين خرجوا لنصر عيرهم (2) فلما نجت وعلموا
بذلك استمروا على وجوههم (3) طلبا للقتال ، بغيا وتكبرا ، كما تقدم بسط ذلك.
وقيل : المراد نقضهم العهد وقتالهم (4) مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، حتى (5) سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح ،
وكان ما كان ، ولله الحمد.
وقوله : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ } (6) يقول تعالى : لا تخشوهم واخشون ، فأنا أهل أن يخشى العباد من
سطوتي وعقوبتي ، فبيدي الأمر ، وما شئت كان ، وما لم أشأ لم يكن.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د : "خرجوا لعيرهم".
(3) في ت ، ك : "وجههم".
(4) في ت : "بقتالهم".
(5) في ت : "حين".
(6) في ك : "أتخشوهم" وهو خطأ.
(4/117)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
ثم
قال تعالى عزيمة على المؤمنين ، وبيانا لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد مع قدرته
على إهلاك الأعداء بأمر من عنده : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ
بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُؤْمِنِينَ } وهذا عام في المؤمنين كلهم.
وقال مجاهد ، وعِكْرِمة ، والسدي في هذه الآية : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ
مُؤْمِنِينَ } يعني : خزاعة.
وأعاد (1) الضمير في قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } عليهم أيضا.
وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة مؤذنٍ لعمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، عن مسلم بن
يسار ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غضبت
أخذ بأنفها ، وقال : "يا عويش ، قولي : اللهم ، رب النبي محمد (2) اغفر ذنبي
، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن".
ساقه من طريق أبي أحمد الحاكم ، عن الباغندي ، عن هشام بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن
بن أبي الجون ، عنه (3)
{ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } أي : من عباده ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ }
أي : بما يصلح عباده ، { حَكِيمٌ } في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية ، فيفعل ما
يشاء ، ويحكم ما يريد ، وهو العادل الحاكم الذي لا يجور أبدا ، ولا يضيع مثقال ذرة
من خير وشر ، بل يجازي عليه في الدنيا والآخرة.
{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا
مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا
الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) }
يقول تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ } أيها المؤمنون أن نترككم مهملين ، لا نختبركم
بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب ؟ ولهذا قال : { وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا
رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } أي : بطانة ودخيلة (4) بل هم في الظاهر
والباطن على النصح لله ولرسوله ، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر ، كما قال الشاعر :
وما أدري إذا يممت أرضا... أريد الخير أيهما يليني...
وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى : { [الم] أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكَاذِبِينَ } (5) [العنكبوت : 1 - 3] وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } [آل عمران : 142]
__________
(1) في ت ، د ، ك : "وأعادوا".
(2) في ك : "محمدا".
(3) تاريخ دمشق (19/335) "المخطوط") ورواه ابن السني في عمل اليوم
والليلة من طريق أبي العميس عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة ومن طريق سلمة
بن علي عن هشام بن عروة عن عائشة.
(4) في ت : "دخلة".
(5) زيادة من ت ، أ.
(4/118)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
وقال
تعالى : { مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ
عَلَى الْغَيْبِ } [آل عمران : 179]
والحاصل أنه تعالى لما شرع الجهاد لعباده ، بين أن له فيه حكمة ، وهو اختبار (1)
عبيده : من يطيعه ممن يعصيه ، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون ، وما لم يكن لو
كان كيف كان يكون ؟ فيعلم الشيء قبل كونه ، ومع كونه على ما هو عليه ، لا إله إلا
هو ، ولا رب سواه ، ولا راد لما قدره وأمضاه.
{ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ
خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا
اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) }
يقول تعالى : ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه
وحده لا شريك له. ومن قرأ : "مسجد الله" فأراد به المسجد الحرام ، أشرف
المساجد في الأرض ، الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا شريك له. وأسسه
خليل الرحمن هذا ، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر ، أي : بحالهم وقالهم ، كما قال
السُّدِّي : لو سألت النصراني : ما دينك ؟ لقال : نصراني ، واليهودي : ما دينك ؟
لقال يهودي ، والصابئي ، لقال : صابئي ، والمشرك ، لقال : مشرك.
{ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بشركهم ، { وَفِي النَّارِ هُمْ
خَالِدُونَ } كما قال تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ
يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ
أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
[الأنفال : 34] ؛ ولهذا قال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد ، كما قال
الإمام أحمد :
حدثنا سريج (2) حدثنا ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ؛ أن دراجا أبا السمح حدثه ، عن
أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد (3) فاشهدوا له بالإيمان ؛ قال الله تعالى : {
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
ورواه الترمذي ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب ، به
(4)
وقال (5) عبد بن حميد في مسنده : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا صالح المري ، عن ثابت
البناني ، عن ميمون بن سياه ، وجعفر بن زيد ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "إنما عمار المساجد هم أهل الله" (6)
__________
(1) في ت ، ك : "إخبار".
(2) في ك ، أ : "شريح".
(3) في ت ، أ : "المساجد"
(4) المسند (3/68) وسنن الترمذي برقم (3093) والمستدرك (2/332) ودراج عن أبي
الهيثم ضعيف.
(5) في د : "وروى".
(6) فيه صالح المري وهو ضعيف ، وقد اختلف عليه فيه كما سيأتي في رواية البزار.
(4/119)
ورواه
الحافظ أبو بكر البزار ، عن عبد الواحد بن غياث ، عن صالح بن بشير المري ، عن ثابت
، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما (1) عمار المساجد
هم أهل الله" ثم قال : لا نعلم رواه عن ثابت غير صالح (2)
وقد روى الدارقطني في الأفراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار ، عن أبيها ، عن
أخيه مالك بن دينار ، عن أنس مرفوعا : "إذا أراد الله بقوم عاهة ، نظر إلى
أهل المساجد ، فصرف عنهم". ثم قال : غريب (3)
وروى الحافظ البهاء في المستقصى ، عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي : حدثنا
منصور بن صقير ، حدثنا صالح المرى ، عن ثابت ، عن أنس مرفوعا : "يقول الله :
وعزتي وجلالي ، إني لأهم بأهل الأرض عذابا ، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى
المتحابين في ، وإلى المستغفرين بالأسحار ، صرفت ذلك عنهم". ثم قال ابن عساكر
: حديث غريب (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، حدثنا العلاء بن زياد ،
عن معاذ بن جبل ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الشيطان ذئب الإنسان
، كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة
والعامة والمسجد" (5)
وقال عبد الرازق ، عن مَعْمَر ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون الأودي قال :
أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يقولون : إن المساجد بيوت الله في الأرض
، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها (6)
وقال المسعودي ، عن حبيب بن أبي ثابت وعدي بن ثابت ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن
عباس ، رضي الله عنهما ، قال : من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ويأتي المسجد
ويصلي ، فلا صلاة له ، وقد عصى الله ورسوله ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية
رواه ابن مردويه.
وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، وله شواهد من وجوه أخر ليس هذا موضع بسطها.
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "إن".
(2) مسند البزار برقم (433) "كشف الأستار" ورواه البيهقي في السنن
الكبرى (3/66) من طريق هاشم بن القاسم عن صالح المري به ، وقال الهيثمي في المجمع
(2/23) : "فيه صالح المرى وهو ضعيف".
(3) لم أعثر عليه في الأطراف لابن القيسراني.
(4) وفيه منصور بن صقير ، قال أبو حاتم : ليس بالقوي. وقال العقيلي : في حديثه بعض
الوهم ، ورواه ابن عدي في الكامل (4/61) من طريق سعيد بن أشعث عن صالح المري به
نحوه ، ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9051) من طريق عبدان عن معاذ بن خالد
بن شقيق عن صالح المري به نحوه ، وصالح المرى ضعيف.
(5) المسند (5/232) وقال الهيثمي في المجمع (2/23) : "العلاء بن زياد لم يسمع
من معاذ".
(6) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9052) من طريق أحمد بن منصور عن عبد
الرزاق عن معمر عن رجل من قريش رفع الحديث ، فذكر نحوه ، وهو معضل.
(4/120)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
وقوله
: { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } أي : التي هي أكبر عبادات البدن ، { وَآتَى الزَّكَاةَ
} أي : التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق ، { وَلَمْ يَخْشَ إِلا
اللَّهَ } أي : ولم يخف إلا من الله تعالى ، ولم يخش سواه ، { فَعَسَى أُولَئِكَ
أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } يقول : من وحد الله ، وآمن باليوم
الآخر يقول : من آمن بما أنزل الله ، { وَأَقَامَ الصَّلاةَ } يعني : الصلوات
الخمس ، { وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } يقول : لم يعبد إلا الله - ثم قال : {
فَعَسَى أُولَئِكَ [ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ] } (1) يقول : إن أولئك
هم المفلحون ، كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ
مَقَامًا مَحْمُودًا } [الإسراء : 79] يقول : إن ربك سيبعثك مقاما محمودا وهي
الشفاعة ، وكل "عسى" في القرآن فهي واجبة.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله : و"عسى" من الله حق.
{ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ
آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا
يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
(20) }
__________
(1) زيادة من د.
(4/121)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا
نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ
وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي
سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}
أمر الله تعالى بمباينة الكفار به ، وإن كانوا آباء أو أبناء ، ونهى عن موالاتهم
إذا ( اسْتَحَبُّوا ) أي : اختاروا الكفر على الإيمان ، وتوعد على ذلك كما قال
تعالى : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ
أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } الآية [المجادلة : 22].
وروى الحافظ [أبو بكر] (1) البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال : جعل أبو أبي
عبيدة بن
__________
(1) زيادة من ت ، ك ، أ.
(4/121)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
الجراح
ينعت له الآلهة يوم بدر ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر الجراح قصده ابنه
أبو عبيدة فقتله ، فأنزل الله فيه هذه الآية : { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية [المجادلة : 22] (1)
ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر (2) أهله وقرابته وعشيرته على الله وعلى رسوله
وجهاد في سبيله ، فقال : ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا )
أي : اكتسبتموها وحصلتموها ( وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
تَرْضَوْنَهَا ) أي : تحبونها لطيبها وحسنها ، أي : إن كانت هذه الأشياء ( أَحَبَّ
إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا ) أي
: فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم ؛ ولهذا قال : ( حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن لهيعة ، عن زهرة بن معبد ، عن
جده قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ،
فقال : والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله (3)
صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه". فقال
عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي. فقال رسول الله : "الآن يا عمر"
(4)
انفرد بإخراجه (5) البخاري ، فرواه عن يحيى بن سليمان ، عن ابن وهب ، عن حيوة بن
شريح ، عن أبي عقيل زهرة بن معبد ، أنه سمع جده عبد الله بن هشام ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم بهذا (6)
وقد ثبت في الصحيح عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "والذي نفسي
بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين" (7)
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني ،
عن عطاء الخراساني ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول : "إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم بأذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ،
وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم" (8)
وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون ، عن أبي جناب ، عن شهر بن حوشب أنه سمع
عبد الله ابن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك (9) وهذا شاهد للذي
قبله ، والله أعلم.
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى (9/27) من طريق الربيع بن سليمان عن أسد بن موسى عن ضمرة
بن ربيعة عن عبد الله بن شوذب ، وقال البيهقي : "هذا منقطع".
(2) في ت ، د : "أحب".
(3) في ت ، ك : "النبي".
(4) المسند (4/336).
(5) في د : "انفرد به".
(6) صحيح البخاري برقم (6632).
(7) صحيح البخاري برقم (14) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(8) المسند (2/42) وسنن أبي داود برقم (3462).
(9) المسند (2/84).
(4/124)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
{
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ
الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا
لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ
(26)}
قال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : هذه أول آية نزلت من [سورة] (1) "براءة".
يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من
غزواتهم مع رسوله (2) وأن ذلك من عنده تعالى ، وبتأييده وتقديره ، لا بعَددهم ولا
بعُددهم ونبههم على أن النصر من عنده ، سواء قل الجمع أو كثر ، فإن يوم حُنين
أعجبتهم كثرتهم ، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أنزل [الله] (3) نصره وتأييده على رسوله وعلى
المؤمنين الذين معه ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم (4) أن النصر من
عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن
الله ، والله مع الصابرين.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، سمعت يونس يحدث عن الزهري
، عن عبيد الله ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خير
الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن تغلب اثنا
عشر ألفا من قلة".
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي (5) ثم قال : (6) هذا حديث حسن غريب ، لا يسنده
كبير أحد غير جرير بن حازم ، وإنما روي عن الزهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
مرسلا.
وقد رواه ابن ماجه والبيهقي وغيره ، عن أكثم بن الجون ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، بنحوه (7) والله أعلم.
وقد كانت وقعة : "حُنين" بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة ، وذلك
لما فرغ عليه السلام (8) من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغه أن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في د : "ليعلم".
(5) المسند (1/294) وسنن أبي داود برقم (2611) وسنن الترمذي برقم (1555).
(6) في د : "وقال".
(7) سنن ابن ماجه برقم (2827) وسنن البيهقي الكبرى (9/263) من طريق أبي سلمة
العاملي عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأكثم بن الجون ،
فذكر نحو حديث ابن عباس. وقال البوصيري في الزوائد (2/412) : "هذا إسناد ضعيف
؛ لضعف أبي سلمة العاملي الأزدي وعبد الملك بن محمد الصنعاني".
(8) في أ : "رسوله الله صلى الله عليه وسلم".
(4/125)
هوازن
جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النَّضْري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو
جُشم وبنو سعد بن بكر ، وأوزاع من بني هلال ، وهم قليل ، وناس من بني عمرو بن عامر
، وعوف بن عامر ، وقد أقبلوا معهم النساء والولدان والشاء والنَّعم ، وجاءوا
بقَضِّهم وقَضِيضهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء (1)
معه للفتح ، وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين
أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء في ألفين أيضا ، فسار بهم إلى العدو ، فالتقوا
بواد بين مكة والطائف يقال له "حنين" ، فكانت فيه الوقعة في أول النهار
في غلس الصبح ، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما تواجهوا لم يشعر
المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم (2) ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة
رجل واحد ، كما أمرهم ملكهم. فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، عز
وجل (3) وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها
إلى نحر العدو ، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد
المطلب آخذ بركابها الأيسر ، يثقلانها لئلا تسرع السير ، وهو ينوه باسمه ، عليه
الصلاة والسلام ، ويدعو المسلمين إلى الرجعة [ويقول] (4) : " أين يا عباد
الله ؟ إليَّ أنا رسول الله" ، ويقول في تلك الحال :
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب...
وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال : ثمانون ، فمنهم : أبو بكر ،
وعمر ، رضي الله عنهما ، والعباس وعلي ، والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ،
وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم ، رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه
وسلم عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة -
يعني شجرة بيعة الرضوان ، التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها ، على
ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة (5) ويقول تارة : يا أصحاب سورة
البقرة ، فجعلوا يقولون : يا لبيك ، يا لبيك ، وانعطف الناس فجعلوا يتراجعوا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع
، لبس درعه ، ثم انحدر عنه ، وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فلما رجعت (6) شرذمة منهم ، أمرهم عليه السلام (7) أن يصدقوا الحملة ، وأخذ
قبضة من التراب بعدما دعا ربه واستنصره ، وقال : "اللهم أنجز لي ما
وعدتني" ثم رمى القوم بها ، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه
ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا ، فاتبع (8) المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ،
وما تراجع بقية الناس إلا والأسارى مجدلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن
عبد الله بن يسار أبي همام ، عن أبي عبد الرحمن الفهري - واسمه يزيد بن أسيد ،
ويقال : يزيد بن أنيس ،
__________
(1) في ت ، أ : "الذي جاءوا" ، وفي د : "الذين جاءوا".
(2) في ت : "بادروهم".
(3) في ت : "الله تعالى".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "الشجرة".
(6) في د : "اجتمعت".
(7) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(8) في ت ، د : "واتبع".
(4/126)
ويقال
: كُرْز - قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين ، فسرنا في يوم
قائظ شديد الحر ، فنزلنا تحت ظلال الشجر ، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي
، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه ، فقلت : السلام عليك
يا رسول الله ورحمة الله ، حان الرواح ؟ فقال : "أجل". فقال : "يا
بلال" فثار من تحت سمرة (1) كأن ظله ظل طائر ، فقال : لبيك وسعديك ، وأنا
فداؤك (2) فقال : "أسرج لي فرسي". فأخرج سرجا دفتاه من ليف ، ليس فيهما
أشرٌ ولا بَطَر.
قال : فأسرج ، فركب وركبنا ، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا ، فتشامت الخيلان ، فولى
المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، عز وجل : ( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ )
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا عباد الله ، أنا عبد الله
ورسوله" ، ثم قال : " يا معشر المهاجرين ، أنا عبد الله ورسوله".
قال : ثم اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه (3) فأخذ كفا من تراب ،
فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني : أنه ضرب به وجوههم ، وقال : "شاهت
الوجوه". فهزمهم الله عز وجل. قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم ، عن آبائهم
، أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا ، وسمعنا صلصلة بين
السماء والأرض ، كإمرار الحديد على الطست (4) الجديد.
وهكذا رواه الحافظ البيهقي في "دلائل النبوة" من حديث أبي داود الطيالسي
، عن حماد بن سلمة به (5)
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن
أبيه جابر عن عبد الله قال : فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين ، فسبق رسول الله
صلى الله عليه وسلم إليه ، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه ، وأقبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح ، فلما
انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل ، فاشتدت عليهم ، وانكفأ الناس منهزمين ، لا
يُقْبِل أحد عن أحد ، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول :
"أيها الناس (6) هلموا إليَّ أنا رسول الله ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن
عبد الله" فلا شيء ، وركبت الإبل بعضها بعضا (7) فلما رأى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمر الناس قال : "يا عباس ، اصرخ : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب
السمرة". فأجابوه : لبيك ، لبيك ، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره ، فلا يقدر
على ذلك ، فيقذف درعه في عنقه ، ويأخذ سيفه وقوسه ، ثم يَؤُمَّ الصوت ، حتى اجتمع
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة ، فاستعرض الناسُ فاقتتلوا ، وكانت
الدعوة أول ما كانت بالأنصار ، ثم جعلت آخرًا بالخزرج (8) وكانوا صُبُرًا عند
الحرب ، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه (9) فنظر إلى مُجتَلَد
القوم ، فقال : "الآن حمي الوَطيس" : قال : فوالله ما راجعه الناس إلا
والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ملقَون ، فقتل الله منهم من قتل ،
__________
(1) في ت : "شجرة".
(2) في ك : "فداك".
(3) في ت : "قرب".
(4) في ت : "الطشت".
(5) المسند (5/286) ودلائل النبوة (5/141).
(6) في ت : "يأيها الناس".
(7) في ك : "بعض".
(8) في ت : "بالخروج".
(9) في ك ، أ : "ركابه".
(4/127)
وانهزم
منهم من انهزم ، وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم.
وفي الصحيحين من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، رضي الله عنهما ،
أنه قال له رجل : يا أبا عمارة ، أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين
، فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ ، إن هوازن كانوا قوما رُمَاة
، فلما لقيناهم وحَمَلنا عليهم انهزموا ، فأقبل الناس على الغنائم ، فاستقبلونا
بالسهام ، فانهزم الناس ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن
الحارث آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، وهو يقول :
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب (1)
قلت : وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة ، إنه في مثل هذا اليوم في حَومة
الوَغَى ، وقد انكشف عنه جيشه ، هو مع ذلك (2) على بغلة وليست سريعة الجري ، ولا
تصلح لكرٍّ ولا لفرٍّ ولا لهرب ، وهو مع هذا (3) أيضًا يركضها إلى وجوههم وينوِّه
باسمه ليعرفه من لم يعرفه ، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ، وما
هذا كله إلا ثقة بالله ، وتوكلا عليه ، وعلمًا منه بأنه سينصره ، ويتم ما أرسله به
، ويظهر دينه على سائر الأديان ؛ ولهذا قال تعالى : ( ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ ) أي : طمأنينته وثباته على رسوله ، ( وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ ) أي : الذين معه ، ( وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا ) وهم
الملائكة ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير :
[حدثنا القاسم قال] (4) حدثني الحسن بن عرفة قال : حدثني المعتمر بن سليمان ، عن
عوف - هو ابن أبي جميلة الأعرابي - قال : سمعت عبد الرحمن مولى ابن بُرْثُن ،
حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم حنين (5) لم يقوموا لنا حَلَب شاة - قال : فلما كشفناهم جعلنا
نسوقهم في آثارهم ، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ، فإذا هو رسول الله صلى
الله عليه وسلم - قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت
الوجوه ، ارجعوا. قال : فانهزمنا ، وركبوا أكتافنا ، فكانت إياها.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثني محمد بن أحمد
بن بَالُويَه ، حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي (6) حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد
الواحد بن زياد ، حدثنا الحارث بن حَصِيرة ، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه
قال : قال ابن مسعود ، رضي الله عنه : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
حُنين ، فولى عنه الناس ، وبقيتُ معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار ،
قدمنا ولم نولهم الدبر ، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة. قال : ورسول الله صلى
الله عليه وسلم على بغلته يمضي قُدُما ، فحادَت بغلته ، فمال عن السرج ، فقلت :
ارتفع رفعك الله. قال : "ناولني كفًا من التراب". فناولته ، قال : فضرب
به وجوههم ، فامتلأت أعينهم ترابًا ، قال : "أين
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2864) ، وصحيح مسلم برقم (1776).
(2) في ت ، د ، ك : "وهو مع هذا".
(3) في ت ، د ، ك : "ذلك"
(4) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(5) في ت : "يوم حنين في آثارهم".
(6) في ك : "الجرمي".
(4/128)
المهاجرون
(1) والأنصار ؟" قلت : هم هناك. قال : "اهتف بهم". فهتفت بهم ،
فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم ، كأنها (2) الشهب ، وولى المشركون أدبارهم.
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن عفان ، به نحوه (3)
وقال الوليد بن مسلم : حدثني عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر الهُذلي ، عن
عِكْرِمة مولى ابن عباس ، عن شيبة بن عثمان قال : لما رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم حنين قد عَرى ، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما ، فقلت : اليوم
أدرك ثأري منه - قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه ، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب
قائمًا ، عليه درع بيضاء كأنها فضة ، يكشف عنها العجاج ، فقلت : عَمُّه ولن يخذله
- قال : فجئته (4) عن يساره ، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، فقلت
: ابن عمه ولن يخذله. فجئته من خلفه ، فلم يبق إلا أن أسَوّره سورة بالسيف ، إذ
رفع لي شُوَاظ من نار بيني وبينه ، كأنه برق ، فخفت أن تَمْحَشَني ، فوضعت يدي على
بصري ومشيت القهقري ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "يا شيبَ ،
يا شيب (5) ادن مني (6) اللهم أذهب عنه الشيطان". قال : فرفعت إليه بصري ،
ولهو أحب إلي من سمعي وبصري ، فقال : "يا شيب (7) قاتل الكفار".
رواه البيهقي من حديث الوليد ، فذكره (8) ثم روى من حديث أيوب بن جابر ، عن صدقة
بن سعيد ، عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم حنين ، والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ، ولكني أبيت أن تظهر هوازن على
قريش ، فقلت وأنا واقف معه : يا رسول الله ، إني أرى خيلا بُلقا ، فقال : "يا
شيبة ، إنه لا يراها إلا كافر". فضرب بيده في (9) صدري ، ثم قال :
"اللهم ، اهد شيبة" ، ثم ضربها الثانية ، ثم قال : "اللهم ، اهد
شيبة" ، ثم ضربها الثالثة ثم قال : "اللهم اهد شيبة". قال : فوالله
ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إليَّ منه ، وذكر تمام
الحديث ، في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى هزم الله المشركين (10)
قال محمد بن إسحاق : حدثني والدي إسحاق بن يَسَار ، عمن حدثه ، عن جُبَير بن مطعم
، رضي الله عنه ، قال : إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، والناس
يقتتلون ، إذ نظرت إلى مثل البِجَاد الأسود يهوي من السماء ، حتى وقع بيننا وبين
القوم ، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي ، فلم يكن إلا هزيمة القوم ، فما كنا نشك
أنها الملائكة.
__________
(1) في ت : "المهاجرين" وهو خطأ.
(2) في ت : "كأنهم".
(3) دلائل النبوة (5/142) والمسند (1/454).
(4) في أ : "ثم جئته".
(5) في أ : "يا شبيب يا شبيب".
(6) في د : "ادن مني يا شيب".
(7) في أ : "يا شبيب".
(8) دلائل النبوة للبيهقي (5/145).
(9) في ت ، د ، ك ، أ : "يده على".
(10) دلائل النبوة للبيهقي (5/146).
(4/129)
وقال
سعيد بن السائب بن يسار ، عن أبيه قال : سمعت يزيد بن عامر السُّوَائي - وكان شهد
حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد - فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب
المشركين يوم حنين ، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطَّسْت (1) فيطنّ ، فيقول
(2) كنا نجد في أجوافنا مثل هذا.
وقد تقدم له شاهد من حديث يزيد بن أبي أسيد (3) فالله أعلم.
وفي صحيح مسلم ، عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق أنبأنا مَعْمَر ، عن هَمَّام قال
: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نصرت
بالرعب ، وأوتيت جوامع الكلم" (4)
ولهذا قال تعالى : ( ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ) (5)
__________
(1) في ت : "الطشت".
(2) في ت : "ثم يقول".
(3) في ت : "أسد".
(4) صحيح مسلم برقم (523).
(5) في ك ، أ : "فأنزل" وهو خطأ.
(4/130)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
{
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (27) }
قال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : هذه أول آية نزلت من [سورة] (1) "براءة".
يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من
غزواتهم مع رسوله (2) وأن ذلك من عنده تعالى ، وبتأييده وتقديره ، لا بعَددهم ولا
بعُددهم ونبههم على أن النصر من عنده ، سواء قل الجمع أو كثر ، فإن يوم حُنين
أعجبتهم كثرتهم ، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أنزل [الله] (3) نصره وتأييده على رسوله وعلى
المؤمنين الذين معه ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم (4) أن النصر من
عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن
الله ، والله مع الصابرين.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، سمعت يونس يحدث عن الزهري
، عن عبيد الله ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خير
الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن تغلب اثنا
عشر ألفا من قلة".
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي (5) ثم قال : (6) هذا حديث حسن غريب ، لا يسنده
كبير أحد غير جرير بن حازم ، وإنما روي عن الزهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
مرسلا.
وقد رواه ابن ماجه والبيهقي وغيره ، عن أكثم بن الجون ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، بنحوه (7) والله أعلم.
وقد كانت وقعة : "حُنين" بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة ، وذلك
لما فرغ عليه السلام (8) من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغه أن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في د : "ليعلم".
(5) المسند (1/294) وسنن أبي داود برقم (2611) وسنن الترمذي برقم (1555).
(6) في د : "وقال".
(7) سنن ابن ماجه برقم (2827) وسنن البيهقي الكبرى (9/263) من طريق أبي سلمة
العاملي عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأكثم بن الجون ،
فذكر نحو حديث ابن عباس. وقال البوصيري في الزوائد (2/412) : "هذا إسناد ضعيف
؛ لضعف أبي سلمة العاملي الأزدي وعبد الملك بن محمد الصنعاني".
(8) في أ : "رسوله الله صلى الله عليه وسلم".
(4/130)
هوازن
جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النَّضْري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو
جُشم وبنو سعد بن بكر ، وأوزاع من بني هلال ، وهم قليل ، وناس من بني عمرو بن عامر
، وعوف بن عامر ، وقد أقبلوا معهم النساء والولدان والشاء والنَّعم ، وجاءوا
بقَضِّهم وقَضِيضهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء (1)
معه للفتح ، وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين
أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء في ألفين أيضا ، فسار بهم إلى العدو ، فالتقوا
بواد بين مكة والطائف يقال له "حنين" ، فكانت فيه الوقعة في أول النهار
في غلس الصبح ، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما تواجهوا لم يشعر
المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم (2) ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة
رجل واحد ، كما أمرهم ملكهم. فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، عز
وجل (3) وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها
إلى نحر العدو ، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد
المطلب آخذ بركابها الأيسر ، يثقلانها لئلا تسرع السير ، وهو ينوه باسمه ، عليه
الصلاة والسلام ، ويدعو المسلمين إلى الرجعة [ويقول] (4) أين يا عباد الله ؟ إليَّ
أنا رسول الله" ، ويقول في تلك الحال :
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب...
وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال : ثمانون ، فمنهم : أبو بكر ،
وعمر ، رضي الله عنهما ، والعباس وعلي ، والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ،
وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم ، رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه
وسلم عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة -
يعني شجرة بيعة الرضوان ، التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها ، على
ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة (5) ويقول تارة : يا أصحاب سورة
البقرة ، فجعلوا يقولون : يا لبيك ، يا لبيك ، وانعطف الناس فجعلوا يتراجعوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع ،
لبس درعه ، ثم انحدر عنه ، وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رجعت (6) شرذمة منهم ، أمرهم عليه السلام (7) أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة
من التراب بعدما دعا ربه واستنصره ، وقال : "اللهم أنجز لي ما وعدتني"
ثم رمى القوم بها ، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن
القتال ، ثم انهزموا ، فاتبع (8) المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع
بقية الناس إلا والأسارى مجدلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن
عبد الله بن يسار أبي همام ، عن أبي عبد الرحمن الفهري - واسمه يزيد بن أسيد ،
ويقال : يزيد بن أنيس ،
__________
(1) في ت ، أ : "الذي جاءوا" ، وفي د : "الذين جاءوا".
(2) في ت : "بادروهم".
(3) في ت : "الله تعالى".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "الشجرة".
(6) في د : "اجتمعت".
(7) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(8) في ت ، د : "واتبع".
(4/126)
ويقال
: كُرْز - قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين ، فسرنا في يوم
قائظ شديد الحر ، فنزلنا تحت ظلال الشجر ، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي
، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه ، فقلت : السلام عليك
يا رسول الله ورحمة الله ، حان الرواح ؟ فقال : "أجل". فقال : "يا
بلال" فثار من تحت سمرة (1) كأن ظله ظل طائر ، فقال : لبيك وسعديك ، وأنا
فداؤك (2) فقال : "أسرج لي فرسي". فأخرج سرجا دفتاه من ليف ، ليس فيهما
أشرٌ ولا بَطَر.
قال : فأسرج ، فركب وركبنا ، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا ، فتشامت الخيلان ، فولى
المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، عز وجل : { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ }
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا عباد الله ، أنا عبد الله
ورسوله" ، ثم قال : " يا معشر المهاجرين ، أنا عبد الله ورسوله".
قال : ثم اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه (3) فأخذ كفا من تراب ،
فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني : أنه ضرب به وجوههم ، وقال : "شاهت
الوجوه". فهزمهم الله عز وجل. قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم ، عن آبائهم
، أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا ، وسمعنا صلصلة بين
السماء والأرض ، كإمرار الحديد على الطست (4) الجديد.
وهكذا رواه الحافظ البيهقي في "دلائل النبوة" من حديث أبي داود الطيالسي
، عن حماد بن سلمة به (5)
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن
أبيه جابر عن عبد الله قال : فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين ، فسبق رسول الله
صلى الله عليه وسلم إليه ، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه ، وأقبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح ، فلما
انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل ، فاشتدت عليهم ، وانكفأ الناس منهزمين ، لا
يُقْبِل أحد عن أحد ، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول :
"أيها الناس (6) هلموا إليَّ أنا رسول الله ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن
عبد الله" فلا شيء ، وركبت الإبل بعضها بعضا (7) فلما رأى رسول الله صلى الله
عليه وسلم أمر الناس قال : "يا عباس ، اصرخ : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب
السمرة". فأجابوه : لبيك ، لبيك ، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره ، فلا يقدر
على ذلك ، فيقذف درعه في عنقه ، ويأخذ سيفه وقوسه ، ثم يَؤُمَّ الصوت ، حتى اجتمع
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة ، فاستعرض الناسُ فاقتتلوا ، وكانت
الدعوة أول ما كانت بالأنصار ، ثم جعلت آخرًا بالخزرج (8) وكانوا صُبُرًا عند
الحرب ، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه (9) فنظر إلى مُجتَلَد
القوم ، فقال : "الآن حمي الوَطيس" : قال : فوالله ما راجعه الناس إلا
والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ملقَون ، فقتل الله منهم من قتل ،
__________
(1) في ت : "شجرة".
(2) في ك : "فداك".
(3) في ت : "قرب".
(4) في ت : "الطشت".
(5) المسند (5/286) ودلائل النبوة (5/141).
(6) في ت : "يأيها الناس".
(7) في ك : "بعض".
(8) في ت : "بالخروج".
(9) في ك ، أ : "ركابه".
(4/127)
وانهزم
منهم من انهزم ، وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم.
وفي الصحيحين من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، رضي الله عنهما ،
أنه قال له رجل : يا أبا عمارة ، أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين
، فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ ، إن هوازن كانوا قوما رُمَاة
، فلما لقيناهم وحَمَلنا عليهم انهزموا ، فأقبل الناس على الغنائم ، فاستقبلونا
بالسهام ، فانهزم الناس ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن
الحارث آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، وهو يقول :
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب (1)
قلت : وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة ، إنه في مثل هذا اليوم في حَومة
الوَغَى ، وقد انكشف عنه جيشه ، هو مع ذلك (2) على بغلة وليست سريعة الجري ، ولا
تصلح لكرٍّ ولا لفرٍّ ولا لهرب ، وهو مع هذا (3) أيضًا يركضها إلى وجوههم وينوِّه
باسمه ليعرفه من لم يعرفه ، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ، وما
هذا كله إلا ثقة بالله ، وتوكلا عليه ، وعلمًا منه بأنه سينصره ، ويتم ما أرسله به
، ويظهر دينه على سائر الأديان ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ } أي : طمأنينته وثباته على رسوله ، { وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ } أي : الذين معه ، { وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا } وهم
الملائكة ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير :
[حدثنا القاسم قال] (4) حدثني الحسن بن عرفة قال : حدثني المعتمر بن سليمان ، عن
عوف - هو ابن أبي جميلة الأعرابي - قال : سمعت عبد الرحمن مولى ابن بُرْثُن ،
حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم حنين (5) لم يقوموا لنا حَلَب شاة - قال : فلما كشفناهم جعلنا
نسوقهم في آثارهم ، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ، فإذا هو رسول الله صلى
الله عليه وسلم - قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت
الوجوه ، ارجعوا. قال : فانهزمنا ، وركبوا أكتافنا ، فكانت إياها.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثني محمد بن أحمد
بن بَالُويَه ، حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي (6) حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا عبد
الواحد بن زياد ، حدثنا الحارث بن حَصِيرة ، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه
قال : قال ابن مسعود ، رضي الله عنه : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين
، فولى عنه الناس ، وبقيتُ معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار ، قدمنا ولم
نولهم الدبر ، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة. قال : ورسول الله صلى الله عليه
وسلم على بغلته يمضي قُدُما ، فحادَت بغلته ، فمال عن السرج ، فقلت : ارتفع رفعك
الله. قال : "ناولني كفًا من التراب". فناولته ، قال : فضرب به وجوههم ،
فامتلأت أعينهم ترابًا ، قال : "أين
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2864) ، وصحيح مسلم برقم (1776).
(2) في ت ، د ، ك : "وهو مع هذا".
(3) في ت ، د ، ك : "ذلك"
(4) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(5) في ت : "يوم حنين في آثارهم".
(6) في ك : "الجرمي".
(4/128)
المهاجرون
(1) والأنصار ؟" قلت : هم هناك. قال : "اهتف بهم". فهتفت بهم ،
فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم ، كأنها (2) الشهب ، وولى المشركون أدبارهم.
ورواه الإمام أحمد في مسنده عن عفان ، به نحوه (3)
وقال الوليد بن مسلم : حدثني عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر الهُذلي ، عن
عِكْرِمة مولى ابن عباس ، عن شيبة بن عثمان قال : لما رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم حنين قد عَرى ، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما ، فقلت : اليوم
أدرك ثأري منه - قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه ، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب
قائمًا ، عليه درع بيضاء كأنها فضة ، يكشف عنها العجاج ، فقلت : عَمُّه ولن يخذله
- قال : فجئته (4) عن يساره ، فإذا أنا بأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، فقلت
: ابن عمه ولن يخذله. فجئته من خلفه ، فلم يبق إلا أن أسَوّره سورة بالسيف ، إذ
رفع لي شُوَاظ من نار بيني وبينه ، كأنه برق ، فخفت أن تَمْحَشَني ، فوضعت يدي على
بصري ومشيت القهقري ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "يا شيبَ ،
يا شيب (5) ادن مني (6) اللهم أذهب عنه الشيطان". قال : فرفعت إليه بصري ، ولهو
أحب إلي من سمعي وبصري ، فقال : "يا شيب (7) قاتل الكفار".
رواه البيهقي من حديث الوليد ، فذكره (8) ثم روى من حديث أيوب بن جابر ، عن صدقة
بن سعيد ، عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم حنين ، والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ، ولكني أبيت أن تظهر هوازن على
قريش ، فقلت وأنا واقف معه : يا رسول الله ، إني أرى خيلا بُلقا ، فقال : "يا
شيبة ، إنه لا يراها إلا كافر". فضرب بيده في (9) صدري ، ثم قال :
"اللهم ، اهد شيبة" ، ثم ضربها الثانية ، ثم قال : "اللهم ، اهد
شيبة" ، ثم ضربها الثالثة ثم قال : "اللهم اهد شيبة". قال : فوالله
ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إليَّ منه ، وذكر
تمام الحديث ، في التقاء الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى هزم الله المشركين (10)
قال محمد بن إسحاق : حدثني والدي إسحاق بن يَسَار ، عمن حدثه ، عن جُبَير بن مطعم
، رضي الله عنه ، قال : إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، والناس
يقتتلون ، إذ نظرت إلى مثل البِجَاد الأسود يهوي من السماء ، حتى وقع بيننا وبين
القوم ، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي ، فلم يكن إلا هزيمة القوم ، فما كنا نشك
أنها الملائكة.
__________
(1) في ت : "المهاجرين" وهو خطأ.
(2) في ت : "كأنهم".
(3) دلائل النبوة (5/142) والمسند (1/454).
(4) في أ : "ثم جئته".
(5) في أ : "يا شبيب يا شبيب".
(6) في د : "ادن مني يا شيب".
(7) في أ : "يا شبيب".
(8) دلائل النبوة للبيهقي (5/145).
(9) في ت ، د ، ك ، أ : "يده على".
(10) دلائل النبوة للبيهقي (5/146).
(4/129)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
وقال
سعيد بن السائب بن يسار ، عن أبيه قال : سمعت يزيد بن عامر السُّوَائي - وكان شهد
حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد - فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في قلوب
المشركين يوم حنين ، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطَّسْت (1) فيطنّ ، فيقول
(2) كنا نجد في أجوافنا مثل هذا.
وقد تقدم له شاهد من حديث يزيد بن أبي أسيد (3) فالله أعلم.
وفي صحيح مسلم ، عن محمد بن رافع ، عن عبد الرزاق أنبأنا مَعْمَر ، عن هَمَّام قال
: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نصرت
بالرعب ، وأوتيت جوامع الكلم" (4)
ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ } (5)
وقوله : { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ } قد تاب الله على بقية هوازن ، وأسلموا وقدموا عليه مسلمين ،
ولحقوه وقد قارب مكة عند الجِعِرَّانة ، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما ،
فعند ذلك خَيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم ، فاختاروا سبيهم ، وكانوا ستة آلاف
أسير ما بين صبي وامرأة ، فرده عليهم ، وقسم أموالهم بين الغانمين ، ونفل أناسا من
الطلقاء ليتألف قلوبهم على الإسلام ، فأعطاهم مائةً مائةً من الإبل ، وكان من جملة
من أعطي مائة مالك بن عوف النَّضْري ، واستعمله على قومه كما كان ، فامتدحه
بقصيدته التي يقول فيها :
ما إنْ رَأيتُ ولا سَمعتُ بمثْلِه... في النَّاس كُلّهم بمثل مُحَمَّد...
أوْفَى وأعْطَى للجزيل إذا اجتُدى... ومَتى تَشَأ يُخْبرْكَ عَمّا في غَد...
وإذَا الكتيبة عَرّدَتْ أنيابُها... بالسَّمْهَريّ وَضَرْب كُلّ مُهَنَّد...
فَكَأنَّه ليث على أشْبَاله... وسط الهَبَاءة (6) خَادر في مَرْصَد
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ
يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ (29) }
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينًا وذاتًا بنفي المشركين ، الذين هم نَجَس
دينًا ، عن المسجد
__________
(1) في ت : "الطشت".
(2) في ت : "ثم يقول".
(3) في ت : "أسد".
(4) صحيح مسلم برقم (523).
(5) في ك ، أ : "فأنزل" وهو خطأ.
(6) في ت ، د : "المياه" ، وفي أ : "المناة".
(4/130)
الحرام
، وألا يقربوه بعد نزول هذه الآية. وكان نزولها في سنة تسع ؛ ولهذا بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر ، رضي الله عنهما ، عامئذ ، وأمره أن ينادي
في المشركين : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف (1) بالبيت عريان. فأتم الله ذلك
، وحكم به شرعا وقدرا.
وقال عبد الرازق : أخبرنا ابن جُرَيْج ، أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد
الله يقول في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } إلا أن يكون عبدًا ، أو أحدا من
أهل الذمة (2)
وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال الإمام أحمد : حدثنا حُسَين (3) حدثنا شريك ، عن
الأشعث - يعني : ابن سَوَّار - عن الحسن ، عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه
وسلم : "لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك ، إلا أهل العهد وخدمهم (4)
" (5)
تفرد به أحمد مرفوعا ، والموقوف أصح إسنادا.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : كتب عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه : أن
امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، وأتبع نهيه قول الله : {
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }
وقال عطاء : الحرم كله مسجد ، لقوله تعالى : { فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا }.
ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما دلت [على طهارة المؤمن ، ولما] (6)
ورد في [الحديث] (7) الصحيح : "المؤمن لا ينجس" (8) وأما نجاسة بدنه
فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ؛ لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب ،
وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم.
وقال أشعث ، عن الحسن : من صافحهم فليتوضأ. رواه ابن جرير.
وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ }
قال ابن إسحاق : وذلك أن الناس قالوا : لتنقطعن عنا الأسواق ، ولتهلكن (9) التجارة
وليذهبن ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فنزلت (10) { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً
فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } من وجه غير ذلك - { إِنْ شَاءَ }
إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : إن هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ،
فعوضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك ، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب ، من
الجزية.
__________
(1) في ت ، أ : "يطوفن".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/245).
(3) في أ : "حسن".
(4) في ت ، أ : "وخدمكم".
(5) المسند (3/392) وقال الهيثمي في المجمع (4/10) : "فيه أشعث بن سوار وفيه
ضعف وقد وثق".
(6) زيادة من ك ، أ.
(7) زيادة من ك ، أ.
(8) صحيح البخاري برقم (283) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، ولفظه : "إن
المسلم لا ينجس".
(9) في ت : "وليمكن".
(10) في ك ، أ : "فنزل".
(4/131)
وهكذا
رُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة والضحاك ،
وغيرهم.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ } أي : بما يصلحكم ، { حَكِيم } أي : فيما يأمر به وينهى
عنه ؛ لأنه الكامل في أفعاله وأقواله ، العادل في خلقه وأمره ، تبارك وتعالى ؛
ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة ، فقال : {
قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ } فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم (1) لم يبق لهم
إيمان صحيح بأحد من الرسل ، ولا بما جاءوا به ، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم
وآباءهم فيما هم فيه ، لا لأنه شرع الله ودينه ؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما
بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد ، صلوات الله عليه ، لأن جميع
الأنبياء [الأقدمين] (2) بشروا به ، وأمروا باتباعه ، فلما جاء وكفروا (3) به ،
وهو أشرف الرسل ، عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند
الله ، بل لحظوظهم وأهوائهم ، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء ، وقد كفروا
بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ؛ ولهذا قال : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ } وهذه الآية الكريمة [نزلت] (4) أول الأمر بقتال أهل الكتاب ، بعد ما
تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فلما استقامت (5) جزيرة العرب
أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى ، وكان ذلك في سنة تسع ؛
ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره
لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فَأَوْعَبوا معه ، واجتمع من
المقاتلة (6) نحو [من] (7) ثلاثين ألفا ، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة ومن
حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جَدْب ، ووقت قَيْظ وحر ، وخرج ،
عليه السلام ، يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، فنزل بها وأقام على مائها (8)
قريبًا من عشرين يومًا ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال
وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله.
وقد استدلَّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ،
أو من أشباههم كالمجوس ، لما (9) صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخذها من مجوس هجر (10) وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد - في المشهور عنه - وقال أبو
حنيفة ، رحمه الله : بل تؤخذ من جميع الأعاجم ، سواء كانوا (11) من أهل الكتاب أو
من المشركين ، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب.
وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابيٍّ ، ومجوسي ،
ووثني ،
__________
(1) في ك : "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "فلما جاءوا كفروا".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في جمع النسخ : "واستقامت" ، وصوبناه ليستقيم النص.
(6) في ك : "القابلة".
(7) زيادة من ت ، ك ، أ.
(8) في د : "وأقام بها قريبا".
(9) في ت ، د ، ك : "كما".
(10) في هـ : "من هجر" ، وفي أ : "من يهود هجر" والمثبت من ت
، ك ، أ.
(11) في ك : "سواء أن كانوا".
(4/132)
وغير
ذلك ، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا ، والله أعلم.
وقوله : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي : إن لم يسلموا ، { عَنْ يَدٍ } أي :
عن قهر لهم وغلبة ، { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : ذليلون حقيرون مهانون. فلهذا لا
يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين ، بل هم أذلاء صَغَرة أشقياء ، كما
جاء في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : "لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في طريق
فاضطروه إلى أضيقه" (1)
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، تلك الشروط
المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم ، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ ، من رواية
(2) عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين
صالح نصارى من أهل الشام :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة
كذا وكذا ، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا (3) وأموالنا وأهل
ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة
، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب ، ولا نجدد ما خرب منها ، ولا نحيي منها ما كان
خطط (4) المسلمين ، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار
، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة
أيام نطعمهم ، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا ، ولا نكتم غشًا للمسلمين
، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا نظهر شركا ، ولا ندعو إليه أحدًا ؛ ولا نمنع
أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه ، وأن نوقر المسلمين ، وأن نقوم
لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم ، في قلنسوة ،
ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا نتكلم بكلامهم ، ولا نكتني بكُنَاهم ،
ولا نركب السروج ، ولا نتقلد السيوف ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ، ولا نحمله معنا ،
ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ، ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقاديم رءوسنا ، وأن نلزم
زِينا حيثما كنا ، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ، وألا نظهر الصليب على كنائسنا ،
وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا (5) في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نضرب
نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا ، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في
شيء من حضرة المسلمين ، ولا نخرج شعانين ولا باعوثًا ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا
، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نجاورهم
بموتانا ، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ، وأن نرشد المسلمين ،
ولا نطلع عليهم في منازلهم.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2167).
(2) في ت ، ك ، أ : "حديث".
(3) في ت ، أ : "وذرياتنا".
(4) في ت ، أ : "ما كان في خطط".
(5) في أ : "صليبا ولا كساء".
(4/133)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
قال
: فلما أتيت عمر بالكتاب ، زاد فيه : ولا نضرب أحدًا من المسلمين ، شرطنا لكم ذلك
على أنفسنا وأهل ملتنا ، وقبلنا عليه الأمان ، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه
لكم وَوَظَفْنا على أنفسنا ، فلا ذمة لنا ، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة
والشقاق.
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ
ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ
مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ
سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) }
وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال المشركين الكفار من اليهود والنصارى ،
لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة ، والفِرْية على الله تعالى ، فأما اليهود فقالوا في
العُزَير : "إنه ابن الله" ، تعالى [الله] (1) عن ذلك علوا كبيرا. وذكر
السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك ، أن العمالقة لما غلبت على بني
إسرائيل ، فقتلوا علماءهم وسَبَوا كبارهم ، بقي العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب
العلم منهم ، حتى سقطت جفون عينيه ، فبينا هو ذات يوم إذ مَرّ على جبانة ، وإذ (2)
امرأة تبكي عند قبر وهي تقول : وامطعماه! واكاسياه! [فقال لها ويحك] (3) من كان
يطعمك قبل هذا ؟ قالت : الله. قال : فإن الله حي لا يموت! قالت : يا عزير فمن كان
يُعلم العلماء قبل بني إسرائيل ؟ قال : الله. قالت : فلم تبكي عليهم ؟ فعرف أنه
شيء قد وُعظ به. ثم قيل له : اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه ، وصَلِّ هناك ركعتين ،
فإنك ستلقى هناك شيخا ، فما أطعمك فكله. فذهب ففعل ما أمر به ، فإذا شيخ فقال له :
افتح فمك. ففتح فمه. فألقى فيه شيئًا كهيئة الجمرة العظيمة ، ثلاث مرات ، فرجع
عُزَير وهو من أعلم الناس بالتوراة ، فقال : يا بني إسرائيل ، قد جئتكم بالتوراة.
فقالوا : يا عُزَير ، ما كنت كَذَّابا. فعمد فربط على إصبع من أصابعه قلما ، وكتب
التوراة بإصبعه كلها ، فلما تراجع الناس من عَدُوّهم ورجع العلماء ، وأخبروا بشأن
عزير ، فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال ، وقابلوها (4) بها ، فوجدوا
ما جاء به صحيحا ، فقال بعض جهلتهم : إنما صنع هذا لأنه ابن الله.
وأما ضَلال النصارى في المسيح فظاهر ؛ ولهذا كَذَّب الله سبحانه الطائفتين فقال :
{ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } أي : لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم
واختلاقهم ، { يضاهئون } أي : يشابهون { قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ }
أي : من قبلهم من الأمم ، ضلوا كما ضل هؤلاء ، { قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } وقال ابن
عباس : لعنهم الله ، { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ؟ أي : كيف يضلون عن الحق ، وهو ظاهر
، ويعدلون إلى الباطل ؟
__________
(1) زيادة من ت ، ك.
(2) في ت ، د : "وإذا".
(3) زيادة من ت ، د ، أ.
(4) في ت ، د ، ك : "وقابلوه".
(4/134)
[وقوله]
(1) { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } روى الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن جرير من طرق ،
عن عدي بن حاتم ، رضي الله عنه ، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فرَّ إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثمَّ
منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها ،
ورَغَّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عَدِيّ
المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدَّث
الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة
، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم.
فقال : "بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا (2) لهم الحرام ، فاتبعوهم ،
فذلك عبادتهم إياهم". وقال (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا عدي
، ما تقول ؟ أيُفرّك (4) أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئًا أكبر من الله ؟ ما
يُفرك ؟ أيفرّك أن يقال (5) لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم من إله إلا الله" ؟
ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم ، وشهد شهادة الحق ، قال : فلقد رأيتُ وجهه استبشر ثم
قال : "إن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون" (6)
وهكذا قال حذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وغيرهما في تفسير : { اتَّخَذُوا
أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } إنهم اتبعوهم فيما
حللوا وحرموا.
وقال السدي : استنصحوا الرجال ، وتركوا (7) كتاب الله وراء ظهورهم.
ولهذا قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا } أي :
الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله حل ، وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ.
{ لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تعالى وتقدس وتنزه
عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت ، د ، ك : "وحللوا".
(3) في ت ، د ، ك : "وقال له".
(4) في أ : "أيسرك".
(5) في أ : "ما نقول أيسرك".
(6) سنن الترمذي برقم (3095) وتفسير الطبري (14/ 209 - 211) من طريق عبد السلام بن
حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم رضي الله عنه ، وقال الترمذي :
"هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس
بمعروف في الحديث".
(7) في د : "ونبذوا".
(4/135)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) }
(4/135)
يقول
تعالى : يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب { أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ } (1) أي : ما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق ، بمجرد جدالهم وافترائهم
، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس ، أو نور القمر بنفخه ، وهذا لا
سبيل إليه ، فكذلك ما أرسل الله به رسوله لا بد أن يتم ويظهر ؛ ولهذا قال تعالى
مقابلا لهم فيما راموه وأرادوه : { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }
والكافر : هو الذي يستر الشيء ويغطيه ، ومنه سمي الليل "كافرا" ؛ لأنه
يستر الأشياء ، والزارع كافرا ؛ لأنه يغطي الحب في الأرض كما قال : { أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [الحديد : 20] (2)
ثم قال تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ }
فالهدى : هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة ، والإيمان الصحيح ، والعلم النافع -
ودين الحق : هي الأعمال [الصالحة] (3) الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة.
{ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } أي : على سائر الأديان ، كما ثبت في
الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله زَوَى لي الأرض
مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زُوي لي منها" (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن أبي يعقوب :
سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قَبِيصة - أو : قبيصة بن مسعود - يقول : صلى
هذا الحي من "مُحَارب" الصبح ، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : "إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها
في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة" (5)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثنا سليم بن عامر ، عن
تميم الداري ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"ليبلغن هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار ، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا
وَبَر إلا أدخله هذا الدين ، بعِزِّ عزيز ، أو بِذُلِّ ذليل ، عزا يعز الله به
الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر" ، فكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في
أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الخيرَ والشرفَ والعزَّ ، ولقد أصاب من كان منهم
كافرا الذل والصغار والجزية (6)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني ابن
جابر ، سمعت سليم بن عامر قال : سمعت المقداد بن الأسود يقول : سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : "لا يبقى على وجه الأرض بيت مَدَر ولا وَبَر ، إلا
أدخله الله كلمة الإسلام بعزِّ عزيز ، أو بذلِّ ذليل ، إما يعزهم الله فيجعلهم من
أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها" (7)
__________
(1) في ت ، أ : "ليطفئوا" وهو خطأ.
(2) في جميع النسخ : "يعجب" والصواب ما أثبتناه.
(3) زيادة من ك.
(4) صحيح مسلم برقم (2889) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
(5) المسند (5/366).
(6) المسند (4/103) وقال الهيثمي في المجمع (6/14) : "رجال أحمد رجال
الصحيح".
(7) المسند (6/4) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1631) "موارد" من طريق
عبد الرحمن بن إبراهيم عن الوليد بن مسلم به.
(4/136)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
وفي
المسند أيضا : حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن أبي
حذيفة ، عن عدي بن حاتم سمعه (1) يقول : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : "يا عدي ، أسلم تسلم". فقلت : إني من أهل دين. قال : "أنا
أعلم بدينك منك". فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال : "نعم ، ألست من
الرَّكُوسِيَّة ، وأنت تأكل مرباع قومك ؟". قلت : بلى. قال : "فإن هذا
لا يحل لك في دينك". قال : فلم يَعْدُ أن قالها فتواضعت لها ، قال :
"أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام ، تقول : إنما اتبعه ضَعَفَةُ الناس
ومن لا قوة له ، وقد رَمَتْهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟" قلت : لم أرها ، وقد
سمعت بها. قال : "فوالذي نفسي بيده ، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج
الظَّعِينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولتفتحن (2) كنوز كسرى
بن هرمز". قلت : كسرى بن هرمز ؟. قال : "نعم ، كسرى بن هرمز ،
وليُبْذَلنَّ المال حتى لا يقبله أحد". قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج
من الحيرة ، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز
، والذي نفسي بيده ، لتكونن الثالثة ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها
(3).
وقال مسلم : حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرّقَاشِيّ ، حدثنا خالد بن الحارث ،
حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن الأسود بن العلاء ، عن أبي سلمة ، عن عائشة ، رضي
الله عنها ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يذهب الليل
والنهار حتى تُعْبَد اللاتُ والعُزّى". فقلت : يا رسول الله ، إن كنت لأظن
حين أنزل الله ، عز وجل : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ } إلى قوله : { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } أن ذلك تام ، قال :
"إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ، عز وجل ، ثم يبعث الله ريحا طيبة [فيتوفى
كلّ من كان في قلبه مثقال حَبَّة خردل من إيمان] (4) فيبقى من لا خير فيه ،
فيرجعون إلى دين آبائهم" (5)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ
لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ
جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ
لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ (35) }
قال السدي : الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى.
وهو كما قال ، فإن الأحبار هم علماء اليهود ، كما قال تعالى : { لَوْلا
يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ
السُّحْتَ } [المائدة : 63]
__________
(1) في ت ، أ : "سمعته".
(2) في ت ، أ : "وليفتحن".
(3) المسند (4/377 ، 378) وكأن الحافظ اختصره هنا.
(4) زيادة من ت ، ك ، أ ، ومسلم.
(5) صحيح مسلم برقم (2907).
(4/137)
والرهبان
: عباد النصارى ، والقسيسون : علماؤهم ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ
مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } [المائدة :
82]
والمقصود : التحذير من علماء السوء وعُبَّاد الضلال (1) كما قال سفيان بن عيينة :
من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه من
النصارى. وفي الحديث الصحيح : "لتركبنّ سَنَن من كان قبلكم حَذْو القُذّة
بالقُذّة". قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : "فمن ؟". وفي رواية :
فارس والروم ؟ قال : "وَمَن (2) الناس إلا هؤلاء ؟" (3)
والحاصل التحذير من التشبه بهم في أحوالهم وأقوالهم ؛ ولهذا قال تعالى : {
لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين
ومناصبهم ورياستهم في الناس ، يأكلون أموالهم بذلك ، كما كان لأحبار اليهود على
أهل الجاهلية شرف ، ولهم عندهم خَرْج وهدايا وضرائب تجيء إليهم ، فلما بعث الله
رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه (4) استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم ، طمعا
منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات ، فأطفأها الله بنور النبوة ، وسلبهم إياها ،
وعوضهم بالذلة والمسكنة ، وباءوا بغضب من الله.
وقوله تعالى : { وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } أي : وهم مع أكلهم الحرام
يصدون الناس عن اتباع الحق ، ويُلبسون الحق بالباطل ، ويظهرون لمن اتبعهم من
الجهلة أنهم يدعون إلى الخير ، وليسوا كما يزعمون ، بل هم دعاة إلى النار ، ويوم
القيامة لا ينصرون.
وقوله : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هؤلاء هم القسم الثالث من رءوس
الناس ، فإن الناس عالة على العلماء ، وعلى العُبَّاد ، وعلى أرباب الأموال ، فإذا
فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس ، كما قال بعضهم (5)
وَهَل أفْسَدَ الدِّينَ إلا المُلوكُ... وَأحبارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُها?...
وأما الكنز فقال مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : هو المال
الذي لا تؤدى منه الزكاة.
وروى الثوري وغيره عن عُبَيد الله (6) عن نافع ، عن ابن عمر قال : ما أُدِّي
زكاتُه فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما (7) كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو
كنز (8) وقد رُوي هذا عن ابن
__________
(1) في ت ، د ، ك ، أ : "الضلالة".
(2) في ت ، د ، أ : "فمن".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3456) ومسلم في صحيحه برقم (2669) من حديث أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه.
(4) في د : "صلى الله عليه وسلم".
(5) هو عبد الله بن المبارك رحمه الله.
(6) في أ : "عبد الله".
(7) في ت ، أ : "وإن".
(8) رواه البيهقي في السنن الكبرى (4/82) من طريق سفيان عن عبد الله بن دينار عن
ابن عمر مرفوعا وقال : "ليس هذا بمحفوظ ، وإنما المشهور عن سفيان عن عبيد
الله عن نافع عن ابن عمر موقوفا".
(4/138)
عباس
، وجابر ، وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا (1) وعمر بن الخطاب ، نحوه ، رضي الله عنهم :
"أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأيما مال لم تؤد
زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض".
وروى البخاري من حديث الزهري ، عن خالد بن أسلم قال : خرجنا مع عبد الله بن عمر ،
فقال : هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت جعلها الله طُهرًا للأموال (2)
وكذا قال عمر بن عبد العزيز ، وعراك بن مالك : نسخها قوله تعالى : { خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ } [التوبة : 103]
وقال سعيد بن محمد بن زياد ، عن أبي أمامة أنه قال : حلية السيوف من الكنز ما
أحدثكم إلا ما سمعت.
وقال الثوري ، عن أبي حصين ، عن أبي الضُّحَى ، عن جَعْدَة بن هبيرة ، عن علي ،
رضي الله عنه ، قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، فما كان أكثر منه (3) فهو كنز.
وهذا غريب. وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر (4) منهما ، أحاديث
كثيرة ؛ ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي ، فقال عبد الرازق : أخبرنا الثوري ،
أخبرني أبو حصين ، عن أبي الضحى ، بن جعدة بن هبيرة ، عن علي ، رضي الله عنه ، في
قوله : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : "تَبّا للذهب ، تَبّا
للفضة" يقولها ثلاثا ، قال : فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال : عمر ، رضي الله عنه ، أنا أعلم لكم ذلك فقال : يا
رسول الله ، إن أصحابك قد شق عليهم [و] (5) قالوا : فأيَّ مال نتخذ ؟ قال :
"لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا (6) وزوجة تعين أحدكم على دينه" (7)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني سالم ،
حدثني عبد الله بن أبي الهُذَيْل ، حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "تبا للذهب والفضة". قال : فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن
الخطاب فقال : يا رسول الله ، قولك : "تبا للذهب والفضة" ، ماذا ندخر ؟.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وزوجة
تُعين على الآخرة" (8)
__________
(1) أما حديث ابن عباس ، فرواه الطبري في تفسيره (14/225) من طريق علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس موقوفا ، وأما حديث جابر ، فرواه ابن عدي في الكامل (7/189) من طريق
يحيى بن أبي أنيسة عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا ، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد
(8/12) من طريق خصيف عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا ، وأما حديث أبي هريرة ، فرواه
الترمذي في السنن برقم (618) قال العراقي : "إسناده جيد".
(2) صحيح البخاري برقم (1404).
(3) في ت ، د ، أ : "أكثر من ذلك".
(4) في ت : "التكثير".
(5) زيادة من ت ، ك ، أ.
(6) في أ : "ذاكرا".
(7) ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف (2/71) وعزاه لعبد الرزاق في تفسيره بعد أن ذكر
من حديث ثوبان وعمر ، ثم قال : "الحاصل أنه حديث ضعيف لما فيه من
الاضطراب".
(8) المسند (5/366).
(4/139)
حديث
آخر : قال (1) الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن
أبيه ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : لما نزل في الفضة والذهب (2) ما نزل
قالوا : فأي المال نتخذ ؟ قال [عمر : أنا أعلم ذلك لكم فأوضع (3) على بعير فأدركه
، وأنا في أثره ، فقال : يا رسول الله ، أي المال نتخذ ؟ قال] (4) ليتخذ أحدكم
قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين أحدكم في (5) أمر الآخرة ".
ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من غير وجه ، عن سالم بن أبي الجعد (6) وقال الترمذي
: حسن ، وحكي عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان.
قلت : ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا والله أعلم.
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حميد بن مالك ، حدثنا يحيى بن
يعلى المحاربي ، حدثنا أبي ، حدثنا غَيْلان بن جامع المحاربي ، عن عثمان أبي
اليقظان ، عن جعفر بن إياس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : {
وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } الآية ، كَبُر ذلك على المسلمين ،
وقالوا : ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده ما لا يبقى بعده. فقال عمر : أنا أفرِّج
عنكم. فانطلق عمر واتبعه ثوبان ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبيَّ
الله ، إنه قد كَبُر على أصحابك هذه الآية. فقال نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض
المواريث من أموال تبقى بعدكم". قال : فكبَّر عمر ، ثم قال له النبي صلى الله
عليه وسلم : "ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر
إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته".
ورواه أبو داود ، والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى ، به (7)
وقال الحاكم : صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال :
كان شداد بن أوس ، رضي الله عنه ، في سفر ، فنزل منزلا فقال لغلامه : ائتنا
بالشَّفْرَةِ نعْبَث بها. فأنكرت عليه ، فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا
أخْطمُها وأزمُّها غير كلمتي هذه ، فلا تحفظونها (8) علي ، واحفظوا ما أقول لكم :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا كنز الناس الذهب والفضة
فاكنزوا هؤلاء الكلمات : اللهم ، إنى أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد
، وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا
، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت
علام الغيوب" (9)
__________
(1) في ت ، ك : "وقال".
(2) في ت ، ك : "في الذهب والفضة".
(3) في ت ، ك : "أعلم لكم ذلك قال : فأوضع".
(4) زيادة من ت ، د ، ك ، أ والمسند.
(5) في ت ، د ، ك ، أ ، "علي".
(6) المسند (5/282) وسنن الترمذي برقم (3094) وسنن ابن ماجه برقم (1856).
(7) سنن أبي داود برقم (1664) والمستدرك (2/333) قال الذهبي : "وعثمان لا
أعرفه والخبر عجيب".
(8) في ت ، د ، ك ، أ : "تحفظوها".
(9) المسند (4/123).
(4/140)
وقوله
تعالى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا
جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ
فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ } أي : يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا
وتهكما ، كما في قوله : { ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } [الدخان : 48 ، 49] أي : هذا بذاك ،
وهو (1) الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ؛ ولهذا يقال : من أحب شيئا وقدمه على طاعة الله
، عذب به. وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم ، عذبوا بها
، كما كان أبو لهب ، لعنه الله ، جاهدًا في عداوة الرسول ، صلوات الله [وسلامه]
(2) عليه (3) وامرأته تعينه في ذلك ، كانت يوم القيامة عونًا على عذابه أيضا { فِي
جِيدِهَا } أي : [في] (4) عنقها { حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } [المسد : 5] أي : تجمع من
الحطب في النار وتلقي عليه ، ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو أشفق عليه - كان - في
الدنيا ، كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأشياء على أربابها ، كانت أضر الأشياء
عليهم في الدار الآخرة ، فيحمى عليها في نار جهنم ، وناهيك بحرها ، فتكوى بها
جباههم وجنوبهم وظهورهم.
قال سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود :
والله الذي لا إله غيره ، لا يكوى عبد بكنز فيمس دينار دينارًا ، ولا درهم درهما ،
ولكن يوسَّع جلده ، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته (5) (6)
وقد رواه ابن مرْدُويه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولا يصح رفعه ، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه قال : بلغني أن الكنز
يتحول يوم القيامة شجاعا يتبع صاحبه ، وهو يفر منه ويقول : أنا كنزك! لا يدرك منه
شيئا إلا أخذه.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ،
عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن مَعْدَان بن أبي طلحة ، عن ثوبان أن نبي (7) الله صلى
الله عليه وسلم كان يقول : "من ترك بعده كنزا مَثَل له يوم القيامة شُجاعًا
أقرع له زبيبتَان ، يتبعه ، يقول : ويلك ما أنت ؟ فيقول : أنا كنزك الذي تركته (8)
بعدك! ولا يزال يتبعه حتى يُلقمه يده فَيُقَصْقِصَها (9) ثم يتبعها سائر
جسده".
ورواه ابن حبان في صحيحه ، من حديث يزيد ، عن سعيد به (10) وأصل هذا الحديث في
الصحيحين من رواية أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه (11)
__________
(1) في ت ، د ، ك : "وهذا".
(2) زيادة من أ.
(3) في د ، ك : "صلى الله عليه وسلم".
(4) زيادة من ك.
(5) في أ : "جلده".
(6) رواه الطبري في تفسيره (14/233) من طريق سفيان به.
(7) في د : "رسول".
(8) في أ : "كنزته".
(9) في د ، أ : "فيقضمها".
(10) تفسير الطبري (14/232) وصحيح ابن حبان برقم (803) "موارد" ورواه
ابن خزيمة في صحيحه برقم (2255) من طريق بشر ابن معاذ به.
(11) صحيح البخاري برقم (4659) ولم أعثر عليه في صحيح مسلم من هذا الطريق.
(4/141)
وفي
صحيح مسلم ، من حديث سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة : أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : "ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل (1) يوم
القيامة صفائح من نار يكوى (2) بها جنبه وجبهته وظهره ، في يوم كان مقداره خمسين
ألف سنة ، حتى يقضى بين الناس ، ثم يَرَى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى
النار" وذكر تمام الحديث (3)
وقال البخاري في تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن حُصَيْن ، عن زيد
بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالرَّبَذة ، فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض ، قال (4)
كنا بالشام ، فقرأت : { وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فقال
معاوية : ما هذه فينا (5) ما هذه إلا في أهل الكتاب. قال : قلت : إنها لفينا وفيهم
(6)
ورواه ابن جرير من حديث عبثر بن القاسم ، عن حصين ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر ،
رضي الله عنه ، فذكره وزاد : فارتفع في ذلك بيني وبينه القول ، فكتب إلى عثمان
يشكوني ، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليه ، قال : فأقبلت ، فلما قدمت المدينة ركبني
(7) الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ ، فشكوت ذلك إلى عثمان ، فقال لي : تَنَحَّ
قريبا. قلت : والله لن أدع ما كنت أقول (8)
قلت : كان من مذهب أبي ذر ، رضي الله عنه ، تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ،
وكان يفتي [الناس] (9) بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه
معاوية فلم ينته ، فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين
عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، وأنزله بالربذة وحده ،
وبها مات ، رضي الله عنه ، في خلافة عثمان. وقد اختبره معاوية ، رضي الله عنه (10)
وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ؟ فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث
إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت ، فهات الذهب!
فقال : ويحك! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك (11) به.
وهكذا روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنها عامة :
وقال السدي : هي في أهل القبلة.
وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة ، فبينا أنا في حلقة فيها مَلأ من قريش ، إذ
جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين
برَضْف يحمى عليه في
__________
(1) في د : "جعل له".
(2) في ت : "فتكوى" ، وفي د ، أ : "فيكوى".
(3) صحيح مسلم برقم (987).
(4) في ت ، د ، ك ، أ : "فقال".
(5) في ت ، د ، ك : "ما هذا".
(6) صحيح البخاري برقم (4660).
(7) في ت : "ولقيني".
(8) تفسير الطبري (14/227).
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من أ : "عنهما".
(11) في ت ، أ : "حاسبناه".
(4/142)
نار
جهنم ، فيوضع على حَلمة ثَدْي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه ، ويوضع على نغض كتفه
حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل - قال : فوضع القوم رءوسهم ، فما رأيت أحدا منهم
رَجَع إليه شيئا - قال : وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية ، فقلت : ما رأيت هؤلاء
إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئا.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذَرّ : "ما يسرني أن
عندي مثل أحد ذهبا يمر عليه ثالثة وعندي منه شيء إلا دينار أرصده لدين" (1)
فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن سعيد بن أبي الحسن
، عن عبد الله بن الصامت ، رضي الله عنه ، أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه
جارية له ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوسا. قال
: قلت : لو ادخرته للحاجة تَنُوبك وللضيف ينزل بك! قال : إن خليلي عهد إليَّ أنْ
أيما ذهب أو فضة أوكِي (2) عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله ،
عز وجل (3)
ورواه عن يزيد ، عن همام ، به وزاد : إفراغا (4)
وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته ، عن محمد بن مهدي :
حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، عن صدقة بن عبد الله ، عن طلحة بن زيد ، عن أبي فَرْوَة
الرّهاوي ، عن عطاء ، عن أبي سعيد ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "الق الله فقيرًا ولا تلقه غنيا". قال : يا رسول الله ، كيف
لي بذلك ؟ قال : "ما سُئِلتَ فلا تَمْنَع ، وما رُزقْت فلا تَخْبَأ" ،
قال : يا رسول الله ، كيف لي بذلك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هو
ذاك وإلا فالنار" (5) إسناده ضعيف.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا عتيبة ، عن بريد بن
أصرم (6) قال : سمعت عليًا ، رضي الله عنه ، يقول : مات رجل من أهل الصُّفَّة ،
وترك دينارين - أو : درهمين - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كيَّتان
، صلوا على صاحبكم" (7)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6444).
(2) في أ : "أيما ذهبا وفضة أولى".
(3) المسند (5/156).
(4) المسند (5/175) وقال الهيثمي في المجمع (10/240) : "رجاله رجال
الصحيح".
(5) انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (28/168) ورواه الخطيب في تاريخ بغداد
(14/390) في ترجمة الشبلى من طريق محمد بن مهدي المصري به.
(6) في جميع النسخ : "عيينة عن يزيد بن الصرم" والتصويب من المسند.
(7) المسند (1/101).
(4/143)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
وقد
روي هذا من طرف أخر (1)
وقال قتادة ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أبي أمامة صُدَي بن عَجْلان قال : مات رجل
من أهل الصُّفَّة ، فوجد في مئزره دينار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"كيَّة". ثم تُوفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "كيتان" (2)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم الفراديسي ،
حدثنا معاوية بن يحيى الأطرابلسي ، حدثني أرطاة ، حدثني أبو عامر الهَوْزَني ،
سمعت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما من رجل يموت وعنده أحمر أو
أبيض ، إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه.
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن خداش ، حدثنا سيف بن محمد الثوري ، حدثنا
الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "لا يوضع الدينار على الدينار ، ولا الدرهم على الدرهم ،
ولكن يُوَسَّع جلده فيكوى (3) بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، هذا ما كنزتم لأنفسكم
فذوقوا ما كنتم تكنزون" (4) سيف - هذا - كذاب ، متروك.
{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ
اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) }
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا أيوب ، أخبرنا محمد بن سيرين ، عن أبي
بَكْرَة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته ، فقال : "ألا إن الزمان
قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرًا ، منها
أربعة [حرم ، ثلاثة] (5) متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر
الذي بين جمادى وشعبان". ثم قال : "أي يوم هذا ؟ " قلنا : الله
ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : "أليس يوم النحر ؟
" قلنا ؛ بلى. ثم قال : "أي شهر هذا ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم.
فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : "أليس ذا الحجة ؟" قلنا :
بلى. ثم قال : "أي بلد هذا ؟". قلنا : الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا
أنه سيسميه بغير اسمه ،
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (1/137 ، 138) من طريق قطن بن نسير ومحمد بن عبيد وحبان بن
هلال كلهم عن جعفر بن سليمان به نحوه ، وجاء من حديث عبد الله بن مسعود رواه أحمد
في مسنده (1/412) ، وجاء من حديث سلمة بن الأكوع رواه أحمد في مسنده (4/47) من
حديث طويل ، وجاء من حديث أبي هريرة رواه أحمد في مسنده (2/429).
(2) رواه أحمد في مسنده (5/253) والطبري في تفسيره (14/222) من طريق قتادة به.
(3) في ت : "فتكوى".
(4) ورواه ابن مردويه كما في الدر المنثور للسيوطي (4/179).
(5) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(4/144)
قال
: "أليست البلدة ؟" قلنا : بلى. قال : "فإن دماءكم وأموالكم - قال
: وأحسبه قال : وأعراضكم - عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم
هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا لا ترجعوا بعدي ضُلالا يضرب بعضكم
رقاب بعض ، ألا هل بلغت ؟ ألا ليبلغ الشاهد الغائب منكم ، فلعل من يبلغه يكون أوعى
له من بعض من يسمعه (1) (2)
ورواه البخاري في التفسير وغيره ، ومسلم من حديث أيوب ، عن محمد - وهو ابن سيرين -
عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة ، عن أبيه ، به (3)
وقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا روح ، حدثنا أشعث ، عن محمد بن
سيرين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور
عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ،
ثلاثة متواليات ، ورجب مضر بين جمادى وشعبان" (4)
ورواه البَزَّار ، عن محمد بن معمر ، به (5) ثم قال : لا يروى عن أبي هريرة إلا من
هذا الوجه ، وقد رواه ابن عَوْن وقُرَّة ، عن ابن سيرين ، عن عبد الرحمن بن أبي
بكرة ، عن أبيه ، به.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا زيد بن حُبَاب ،
حدثنا موسى بن عبيدة الربَذي ، حدثني صدقة بن يسار ، عن ابن عمر قال : خطب رسول
الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال :
"أيها الناس ، إن الزمان قد استدار ، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات
والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، أولهن رَجَب مضر
بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم" (6)
وروى ابن مَرْدُويه من حديث موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمرو ،
مثله أو نحوه.
وقال حماد بن سلمة : حدثني علي بن زيد ، عن أبي حُرّة (7) حدثني الرقاشي ، عن عمه
- وكانت له صحبة - قال : كنت آخذًا بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أوسط أيام التشريق ، أذود الناس عنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة
الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض ، منها أربعة
حرم فلا
__________
(1) في ت ، د ، أ : "سمعه".
(2) المسند (5/37).
(3) صحيح البخاري برقم (4662) وبرقم (3197 ، 4406 ، 7447 ، 5550) وصحيح مسلم برقم
(1679).
(4) تفسير الطبري (14/235).
(5) في ت ، أ : "معاوية".
(6) تفسير الطبري (14/234) وموسى بن عبيده ضعيف.
(7) في ك ، أ : "حمزة".
(4/145)
تظلموا
فيهن أنفسكم" (1)
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس
في قوله : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } قال : محرم ، ورجب ، وذو القعدة ، وذو
الحجة.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق
الله السموات والأرض" ، تقرير منه ، صَلَوَات الله وسلامه عليه ، وتثبيت
للأمر على ما جعله الله تعالى في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ، ولا زيادة
ولا نقص ، ولا نسيء ولا تبديل ، كما قال في تحريم مكة : "إن هذا البلد حرمه
الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة" ، وهكذا
قال هاهنا : "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض"
أي : الأمر اليوم شرعا كما ابتدأ الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض.
وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث : إن المراد بقوله : "قد
استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" ، أنه اتفق أن حج رسول الله صلى
الله عليه وسلم في تلك السنة في ذي الحجة ، وأن العرب قد كانت نسأت النسيء ، يحجون
في كثير من السنين ، بل أكثرها ، في غير ذي الحجة ، وزعموا أن حجة الصديق في سنة
تسع كانت في ذي القعدة ، وفي هذا نظر ، كما سنبينه إذا تكلمنا على النسيء.
وأغرب منه ما رواه الطبراني ، عن بعض السلف ، في جملة حديث : أنه اتفق حج المسلمين
واليهود والنصارى في يوم واحد ، وهو يوم النحر ، عام حجة الوداع ، والله أعلم.
[حاشية فصل] (2)
ذكر الشيخ علم الدين السَّخاوي في جزء جمعه سماه "المشهور في أسماء الأيام
والشهور" : أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما ، وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا
لتحريمه ؛ لأن العرب كانت تتقلب به ، فتحله عاما وتحرمه عاما ، قال : ويجمع على
محرمات ، ومحارم ، ومحاريم.
صفر : سمي بذلك لخلو بيوتهم منه ، حين يخرجون للقتال والأسفار ، يقال :
"صَفِرَ المكان" : إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال.
شهر ربيع أول : سمي بذلك لارتباعهم فيه. والارتباع الإقامة في عمارة الربع ، ويجمع
على أربعاء كنصيب وأنصباء ، وعلى أربعة ، كرغيف وأرغفة.
ربيع الآخر : كالأول.
جمادى : سمي بذلك لجمود الماء فيه. قال : وكانت الشهور في حسابهم لا تدور. وفي هذا
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (5/72 ، 73) من طريق حماد بن سلمة بأطول منه.
(2) زيادة من ك ، أ.
(4/146)
نظر
؛ إذ كانت شهورهم منوطة بالأهلة ، ولا بد من دورانها ، فلعلهم سموه بذلك ، أول ما
سمي عند جمود الماء في البرد ، كما قال الشاعر :
وَلَيلَةٍ منْ جُمادى ذَاتِ أنْدِيَة... لا يُبْصِرُ العبدُ في ظَلماتها
الطُّنُبَا...
لا يَنْبَحُ الكلبُ فيها غَير وَاحدَةٍ... حَتَّى يَلُفَّ عَلَى خُرْطُومه
الذَّنَبَا...
ويُجمع على جُمَاديات ، كحبارى وحُبَاريات ، وقد يذكر ويؤنث ، فيقال : جمادى
الأولى والأول ، وجمادى الآخر والآخرة.
رجب : من الترجيب ، وهو التعظيم ، ويجمع على أرجاب ، ورِجَاب ، ورَجَبات.
شعبان : من تشعب القبائل وتفرقها للغارة ويجمع على شَعَابين وشَعْبانات (1)
ورمضان : من شدة الرمضاء ، وهو الحر ، يقال : "رمضت الفصال" : إذا عطشت
، ويجمع على رَمَضَانات ورَماضين وأرْمِضَة قال : وقول من قال : "إنه اسم من
أسماء الله" ؛ خطأ لا يعرج عليه ، ولا يلتفت إليه.
قلت : قد ورد فيه حديث ؛ ولكنه ضعيف ، وبينته في أول كتاب الصيام.
شوال : من شالت الإبل بأذنابها للطراق ، قال : ويجمع على شَوَاول وشَوَاويل
وشَوَّالات.
القعدة : بفتح القاف - قلت : وكسرها - لقعودهم فيه عن القتال والترحال ، ويجمع على
ذوات القعدة.
الحجة : بكسر الحاء - قلت : وفتحها - سمي بذلك لإيقاعهم الحج فيه ، ويجمع على ذوات
الحجة.
أسماء الأيام : أولها الأحد ، ويجمع على آحاد ، وأُحاد ووحود. ثم يوم الإثنين ،
ويجمع على أثانين. الثلاثاء : يمد ، ويُذَكَّر ويؤنث ، ويجمع على ثلاثاوات وأثالث.
ثم الأربعاء بالمد ، ويجمع على أربعاوات وأرابيع. والخميس : يجمع على أخمسة وأخامس
، ثم الجمعة - بضم الميم ، وإسكانها ، وفتحها أيضا - ويجمع على جُمَع وجُمُعات.
السبت : مأخوذ من السَّبْت ، وهو القطع ؛ لانتهاء العدد عنده. وكانت العرب تسمي
الأيام أول ، ثم أهون ، ثم جُبَار ، ثم دبار ، ثم مؤنس ، ثم العروبة ، ثم شيار ،
قال الشاعر - من العرب العرباء العاربة المتقدمين - :
أُرَجِّي أن أعيشَ وأن يَومِي... بأوّل أو بأهون أو جُبَار...
أو التالي دُبَار فإن أفُْتهُ... فمؤنس أو عروبةَ أو شيار...
__________
(1) في ك : "وشعابات".
(4/147)
وقوله
تعالى : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية (1)
تحرمه ، وهو الذي كان عليه جمهورهم ، إلا طائفة منهم يقال لهم :
"البَسْل" ، كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر ، تعمقا وتشديدًا.
وأما قوله : "ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي
بين جمادى وشعبان ، [فإنما أضافه إلى مضر ، ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي
بين جمادى وشعبان] (2) لا كما كانت تظنه ربيعة من أنَّ رجب المحرم هو الشهر الذي
بين شعبان وشوال ، وهو رمضان اليوم ، فبين ، عليه [الصلاة و] (3) السلام ، أنه رجب
مضر لا رجب ربيعة. وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة ، ثلاثة سَرْدٌ وواحد فرد ؛
لأجل أداء مناسك الحج والعمرة ، فحرم قبل شهر الحج شهر ، وهو ذو القعدة ؛ لأنهم
يقعدون فيه عن القتال ، وحُرِّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه
بأداء المناسك ، وحرم بعده شهر آخر ، وهو المحرم ؛ ليرجعوا فيه إلى نائي أقصى
بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول ، لأجل زيارة البيت والاعتمار به ، لمن يقدم
إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا.
وقوله تعالى : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي : هذا هو الشرع المستقيم ، من
امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم ، والحَذْو بها على ما سبق في كتاب الله
الأول.
وقال تعالى : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : في هذه الأشهر
المحرمة ؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام
تضاعف ، لقوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج : 25] وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ؛ ولهذا تغلظ
فيه الدية في مذهب الشافعي ، وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حَقِّ من قتل في
الحرم أو قتل ذا محرم.
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ، في قوله
: { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } قال : في الشهور كلها.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ
اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا } الآية { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }
في كلِّهن ، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما ، وعَظم حُرُماتهن ، وجعل
الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم.
وقال قتادة في قوله : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } إن الظلم في
الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا ، من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال
عظيما ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء. قال : إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه ،
اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذِكْرَه ، واصطفى من
الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ،
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "جاهليتها".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4/148)
واصطفى
من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فَعَظِّموا ما عظم الله ،
فإنما تُعَظم الأمور (1) بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل.
وقال الثوري ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد بن الحنفية : بألا تحرموهن
كحرمتهن (2)
وقال محمد بن إسحاق : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي : لا تجعلوا
حرامها حلالا ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك ، فإنما النسيء الذي كانوا
يصنعون من ذلك ، زيادة في الكفر { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } الآية
[التوبة : 37].
وهذا القول اختيار ابن جرير.
وقوله : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } أي : جميعكم (3) { كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } أي : جميعهم ، { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ }
وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام : هل هو منسوخ أو محكم
؟ على قولين :
أحدهما - وهو الأشهر : أنه منسوخ ؛ لأنه تعالى قال هاهنا : { فَلا تَظْلِمُوا
فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } وأمر بقتال المشركين وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك
أمرًا عاما ، فلو كان محرما ما في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ؛ ولأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام - وهو ذو القعدة - كما
ثبت في الصحيحين : أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فلما كسرهم واستفاء أموالهم ، ورجع
فَلُّهم ، فلجئوا إلى الطائف - عَمد إلى الطائف فحاصرها أربعين يوما ، وانصرف ولم
يفتتحها (4) فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام.
والقول الآخر : أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام ، وأنه لم ينسخ تحريم
الحرام ، لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ
اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } [الآية] (5) [المائدة : 2 ] وقال : {
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }
الآية[البقرة : 194] وقال : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ } [الآية] [التوبة : 50] (6)
وقد تقدم أنها الأربعة المقررة في كل سنة ، لا أشهر التسيير على أحد القولين.
وأما قوله تعالى : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ
كَافَّةً } فيحتمل أنه منقطع عما قبله ، وأنه حكم مستأنف ، ويكون من باب التهييج
والتحضيض ، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا
حاربتموهم ، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون ، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال
__________
(1) في ت ، أ : "يعظم من الأمور".
(2) في ت : "لحرمتهن".
(3) في ت : "جميعهم".
(4) في ت : "يفتحها".
(5) زيادة من ت ، ك ، أ.
(6) زيادة من ت ، ك ، أ.
(4/149)
المشركين
في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : { الشَّهْرُ الْحَرَامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [البقرة : 194] وقال تعالى : {
وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } الآية[البقرة : 191] ، وهكذا الجواب عن حصار
رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر
الحرام ، فإنه من (1) تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدءوا
القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندما قصدهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ،
فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة ، واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من
أربعين يوما. وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياما ،
ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا هو أمر مقرر ،
وله نظائر كثيرة ، والله أعلم. ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك (2) وقد حررنا ذلك
في السيرة ، والله أعلم (3)
__________
(1) في ت ، أ : "في".
(2) كذا ولم أجد شيئا من ذلك ، ورفع في هـ ، ك فراغ قدر أربعة أسطر ، ووصل الكلام
في باقي النسخ.
(3) في ك : "والحمد لله".
(4/150)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
{
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) }
هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة ،
وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة ، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله
، فإنهم كان فيهم من القوة الغضَبِية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر
الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم ، فكانوا قد
أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم وتأخيره إلى صفر ، فيحلون الشهر الحرام ،
ويحرمون الشهر الحلال ، ليواطئوا عدة الأشهر الأربعة (1) كما قال شاعرهم - وهو
عمير بن قيس المعروف - بجذل الطعان :
لَقَدْ عَلمت مَعد أنَّ قَومِي... كرَامُ النَّاس أنَّ لَهُمْ كِراما...
ألسْنا الناسئينَ على مَعد... شُهُورَ الحِل نَجْعلُهَا حَرَاما...
فأيّ النَّاسِ لَم تُدْرَك بوتْر?... وأيّ النَّاس لم نُعْلك لجاما? (2)
__________
(1) في ك ، أ : "ليواطئوا عدة ما حرم الله الأشهر الأربعة".
(2) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/45).
(4/150)
قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي
الْكُفْرِ } قال : النسيء أنَّ جُنادة بن عوف بن أمية الكناني ، كان يوافي الموسم
في كل عام ، وكان يكنى "أبا ثُمَامة" ، فينادي : ألا إن أبا ثمامة لا
يُحاب ولا يُعاب ، ألا وإن صفر العام الأول حلال. فيحله للناس ، فيحرم صفرا عاما ،
ويحرم المحرم عاما ، فذلك قول الله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي
الْكُفْرِ } [إلى قوله : { الكافرين } وقوله { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي
الْكُفْرِ } ] (1) يقول : يتركون المحرم عاما ، وعاما يحرمونه.
وروى العوفي عن ابن عباس نحوه.
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم
على حمار له ، فيقول : يا أيها الناس ، إني لا أعاب ولا أجاب ، ولا مَرَدّ لما
أقول ، إنا قد حَرَّمنا المحرم ، وأخرنا صفر. ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل
مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفر ، وأخرنا المحرم. فهو قوله : { لِيُوَاطِئُوا
عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } قال : يعني الأربعة { فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ
اللَّهُ } لتأخير هذا الشهر الحرام.
وروي عن أبي وائل ، والضحاك ، وقتادة نحو هذا.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي
الْكُفْرِ } الآية ، قال : هذا رجل من بني كنانة يقال له : "القَلَمَّس"
، وكان في الجاهلية ، وكانوا في الجاهلية لا يغيرُ بعضهم على بعض في الشهر الحرام
، يلقى الرجل قاتل أبيه ولا يَمُدُّ إليه يده ، فلما كان هو ، قال : اخرجوا بنا.
قالوا له : هذا المحرم! قال : ننسئه العام ، هما العام صفران ، فإذا كان العام
القابل قضينا جعلناهما مُحرَّمين. قال : ففعل ذلك ، فلما كان عام قابل قال : لا
تغزُوا في صفر ، حرموه مع المحرم ، هما محرمان.
فهذه صفة غريبة في النسيء ، وفيها نظر ؛ لأنهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة
أشهر فقط ، وفي العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر ، فأين هذا من قوله تعالى : {
يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ }.
وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا ، فقال عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن
ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي
الْكُفْرِ } الآية ، قال : فرض الله ، عز وجل ، الحج في ذي الحجة. قال : وكان
المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع ، وربيع ، وجمادى ،
وجمادى ، ورجب ، وشعبان ، ورمضان ، وشوالا (2) وذا القعدة. وذا الحجة يحجون فيه
مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ، ثم يعودون فيسمون صفر صفر ، ثم يسمون
رجب جمادى الآخرة ، ثم يسمون شعبان رمضان ، ثم يسمون شوالا رمضان ، ثم يسمون ذا
القعدة شوالا
__________
(1) زيادة من ت ، ك ، أ ، والطبري.
(2) في أ : "وشوال".
(4/151)
ثم
يسمون ذا الحجة ذا القعدة ، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ، فيحجون فيه ، واسمه عندهم
ذو (1) الحجة ، ثم عادوا بمثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عامين ، حتى وافق
حجة أبي بكر الآخر من العامين في القعدة (2) ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته
التي حج ، فوافق ذا الحجة ، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته :
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض".
وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا ، وكيف تصح حجة أبي بكر وقد وقعت في ذي القعدة
، وأنى هذا ؟ وقد قال الله تعالى : { وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَرَسُولُهُ } الآية[التوبة : 3] ، وإنما نودي بذلك في حجة أبي بكر ، فلو لم تكن
في ذي الحجة لما قال تعالى : { يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ } ولا يلزم من فعلهم
النسيء هذا الذي ذكره ، من دوران السنة عليهم ، وحجهم في كل شهر عامين ؛ فإن
النسيء حاصل بدون هذا ، فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا ،
وبعده ربيع وربيع إلى آخر [السنة والسنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها
ثم في العام القابل يحرمون المحرم ويتركونه على تحريمه ، وبعده صفر ، وربيع وربيع
إلى آخرها] (3) فيحلونه عاما ويحرمونه عاما ؛ ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا
ما حرم الله ، أي : في تحريم أربعة أشهر من السنة ، إلا أنهم تارة يقدمون تحريم
الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم ، وتارة ينسئونه إلى صفر ، أي :
يؤخرونه. وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم : "إن الزمان قد
استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم
، ثلاثة متوالية : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر" ، أي : أن
الأمر في عدة (4) الشهور وتحريم ما هو محرم منها ، على ما سبق في كتاب الله من
العدد والتوالي ، لا كما يعتمده جهلة العرب ، من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض
، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني ، حدثنا مكي بن إبراهيم ،
حدثنا موسى بن عبيدة ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال : وقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالعقبة ، فاجتمع إليه من شاء الله من المسلمين ، فحمد الله
وأثنى عليه بما هو له أهل (5) ثم قال : "وإنما النسيء من الشيطان ، زيادة في
الكفر ، يضل به الذين كفروا ، يحلونه عاما ويحرمونه عاما". فكانوا يحرمون
المحرم عاما ، ويستحلون صفر (6) ويستحلون المحرم ، وهو النسيء (7)
وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق على هذا في كتاب "السيرة" كلامًا جيدًا
ومفيدًا حسنًا ، فقال : كان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما حرم الله
، وحرم منها ما أحل الله ، عز وجل ، "القَلمَّس" ، وهو : حذيفة بن عبد
مُدْرِكة فُقَيم (8) بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن
__________
(1) في ك : "ذا".
(2) في ك ، أ : "ذي القعدة".
(3) زيادة من ت ، ك ، أ.
(4) في ت : "هذه".
(5) في ت ، أ : "بما هو أهله".
(6) في ت ، ك ، أ : "صفر منه".
(7) ورواه أبو الشيخ الأصبهاني كما في الدر المنثور (5/188).
(8) في ت ، ك ، أ : "عبد بن فقيم".
(4/152)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
كنانة
بن خُزَيمة بن مدْرِكة بن إلياس بن مُضَر بن نزار بن مَعدَّ بن عدنان ، ثم قام
بعده على ذلك ابنه عَبَّاد ثم من بعد عباد ابنه قَلَع بن عباد ، ثم ابنه أمية بن
قلع ، ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه
قام الإسلام. فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيبًا ، فحرم
رجبا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ويحل المحرم عاما ، ويجعل مكانه صفر ، ويحرمه
عاما ليواطئ عدة ما حرم الله ، فيحل ما حرم الله ، يعني : ويحرم ما أحل الله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا
مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ
(38) إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }
هذا شروع في عتاب من تخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، حين
طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحَمَارَّة (1) القيظ ، فقال تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ } أي : إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله { اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ
} أي : تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار ، { أَرَضِيتُمْ
بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ } أي : ما لكم فعلتم (2) هكذا أرضا منكم
بالدنيا بدلا من الآخرة
ثم زهد تبارك وتعالى في الدنيا ، ورغب في الآخرة ، فقال : { فَمَا مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } كما قال الإمام أحمد.
حدثنا وَكِيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس ، عن
المستَوْرِد أخي بني فِهْر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما
الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بما ترجع ؟ (3) وأشار
بالسبابة.
انفرد بإخراجه مسلم (4)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا بشر بن مسلم بن (5) عبد الحميد الحِمْصي ، حدثنا الربيع
بن رَوْح ، حدثنا محمد بن خالد الوهبي ، حدثنا زياد - يعني الجصاص - عن أبي عثمان
قال : قلت : يا أبا هريرة ، سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول : سمعت نبي الله يقول
: "إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة" قال أبو هريرة : بل سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف
__________
(1) في أ : "وحماوة".
(2) في ت ، ك ، أ : "صنعتم".
(3) في أ : "يرجع".
(4) المسند (4/228) وصحيح مسلم برقم (2858).
(5) في أ : "عن".
(4/153)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
حسنة"
ثم تلا هذه الآية : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا
قَلِيلٌ } (1) (2)
فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها عند الله قليل.
وقال [سفيان] (3) الثوري ، عن الأعمش في الآية : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ } قال : كزاد الراكب.
وقال عبد العزيز بن أبي حازم (4) عن أبيه : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاةُ
قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه ، أنظر إليه (5) فلما وضع بين يديه نَظَر إليه
فقال : أمَا لي من كَبِير (6) ما أخلف من الدنيا إلا هذا ؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو
يقول أفٍّ لك من دار. إن كان كثيرُك لقليل ، وإن كان قليلك لقصير ، وإن كنا منك
لفي غرور.
ثم توعد تعالى على ترك الجهاد فقال : { إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا } قال ابن عباس : استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من العرب ،
فتثاقلوا عنه ، فأمسك الله عنهم القَطْر فكان عذابهم.
{ وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } أي : لنصرة نبيه وإقامة دينه ، كما قال
تعالى : { إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ } [محمد : 38].
{ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا } أي : ولا تضروا الله شيئًا بتوليكم عن الجهاد ،
ونُكُولكم وتثاقلكم عنه ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : قادر على
الانتصار من الأعداء بدونكم.
وقد قيل : إن هذه الآية ، وقوله : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } وقوله { مَا
كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } [التوبة : 120] إنهن منسوخات بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } [التوبة : 122] رُوي هذا عن ابن عباس ، وعِكْرِمة ، والحسن ،
وزيد بن أسلم. ورده (7) ابن جرير وقال : إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى الجهاد ، فتعين عليهم ذلك ، فلو تركوه لعوقبوا عليه.
وهذا له اتجاه ، والله [سبحانه و] (8) تعالى أعلم [بالصواب] (9)
{ إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ
بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى
وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) }
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "ما الحياة" وهو خطأ.
(2) ورواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن مردويه في تفسيره كما في الدر
المنثور (5/193).
(3) زيادة من ت ، ك ، أ.
(4) في أ : "حاتم".
(5) في ت : "فيه".
(6) في ت ، ك ، أ : "كثير".
(7) في أ : "ورواه".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) زيادة من ت ، أ.
(4/154)
يقول
تعالى : { إِلا تَنْصُرُوهُ } أي : تنصروا رسوله ، فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه
وحافظه ، كما تولى نصره { إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ
[إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ] } (1) أي : عام الهجرة ، لما هم المشركون بقتله أو حبسه
أو نفيه ، فخرج منهم هاربًا صحبة صدِّيقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة ، فلجأ إلى
غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطَّلَبُ الذين خرجوا في آثارهم ، ثم يسيرا نحو المدينة
، فجعل أبو بكر ، رضي الله عنه ، يجزع أن يَطَّلع عليهم أحد ، فيخلص إلى الرسول ،
عليه السلام (2) منهم أذى ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يُسَكِّنه ويَثبِّته
ويقول : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما" ، كما قال الإمام
أحمد :
حدثنا عفان ، حدثنا همام ، أنبأنا ثابت ، عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي
صلى الله عليه وسلم ، ونحن في الغار : لو أن أحدهم (3) نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت
قدميه. قال : فقال : "يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
أخرجاه في الصحيحين (4)
ولهذا قال تعالى : { فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي : تأييده ونصره
عليه ، أي : على الرسول في أشهر القولين : وقيل : على أبي بكر ، وروي عن ابن عباس
وغيره ، قالوا : لأن الرسول لم تزل معه سكينة ، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة
بتلك الحال ؛ ولهذا قال : { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } أي : الملائكة
، { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا }
قال ابن عباس : يعني { كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا } الشرك و { كَلِمَةُ اللَّهِ
} هي : لا إله إلا الله.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حَمِيَّة ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل
الله ؟ فقال : "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"
(5)
وقوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب ، لا يُضام
من لاذ ببابه ، واحتمى بالتمسك بخطابه ، { حَكِيمٌ } في أقواله وأفعاله.
__________
(1) زيادة من ك.
(2) في ك : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(3) في ت : "أحدا".
(4) المسند (1/4) وصحيح البخاري برقم (3653) وصحيح مسلم برقم (2381).
(5) صحيح البخاري برقم (2810) وصحيح مسلم برقم (1904).
(4/155)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
{
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) }
قال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن أبي الضحَى مسلم بن صَبيح : هذه الآية : { انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالا }
(4/155)
أول
ما نزل من سورة براءة.
وقال معتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم حَضْرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى
أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرا ، فيقول : إني لا آثم ، فأنزل الله : { انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالا } الآية.
أمر الله تعالى بالنفير العام مع الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، عام غزوة تبوك
، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب ، وحَتَّم على المؤمنين في
الخروج معه على كل حال في المَنْشَط والمَكْرَه والعسر واليسر ، فقال : {
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا }
وقال علي بن زيد ، عن أنس ، عن أبي طلحة : كهولا وشَبَابًا (1) ما أسمع الله عَذَر
أحدًا ، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قُتل.
وفي رواية : قرأ (2) أبو طلحة سورة براءة ، فأتى على هذه الآية : { انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ } فقال : أرى ربنا يستنفرنا شيوخًا وشَبَابًا (3) جهزوني يا بَنِيَّ. فقال
بنوه : يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع
عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك. فأبى ، فركب البحر فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه
فيها إلا بعد تسعة أيام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها (4)
وهكذا روي عن ابن عباس ، وعِكْرِمة وأبي صالح ، والحسن البصري ، وشَمْر بن عطية ،
ومقاتل بن حَيَّان ، والشعبي وزيد بن أسلم : أنهم قالوا في تفسير هذه الآية : {
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } قالوا : كهولا وشبابا (5) وكذا قال عِكْرِمة
والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد.
وقال مجاهد : شبابا (6) وشيوخا ، وأغنياء ومساكين. وكذا قال أبو صالح ، وغيره.
وقال الحكم بن عُتيبة : مشاغيل وغير مشاغيل.
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } يقول
: انفروا نشاطا وغير نشاط. وكذا قال قتادة.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مُجاهد : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } قالوا : فإن
فينا الثقيل ، وذا الحاجة ، والضيعة (7) والشغل ، والمتيسر به أمر ، فأنزل الله
وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم.
__________
(1) في أ : "وشبانا".
(2) في ت ، أ : "وهو في رواية أنه قال : ".
(3) في أ : "وشبانا".
(4) في ت ، ك : "فيها".
(5) في ت ، ك ، أ : "وشبانا".
(6) في أ : "شبانا".
(7) في ت : "والصنعة".
(4/156)
وقال
الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا : في العسر واليسر. وهذا كله من مقتضيات العموم في
الآية ، وهذا اختيار ابن جرير.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي : إذا كان النفير إلى دُروب الروم نفرَ الناس إليها
خفافا وركبانا ، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا
وركبانا ومشاة. وهذا تفصيل في المسألة.
وقد روي عن ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة
بقوله تعالى : { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } وسيأتي
الكلام على ذلك إن شاء الله.
وقال السدي قوله : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } يقول : غنيًا وفقيرًا ،
وقويًا وضعيفًا فجاءه رجل يومئذ ، زعموا أنه المقداد ، وكان عظيما سمينًا ، فشكا
إليه وسأله أن يأذن له ، فأبى فنزلت يومئذ (1) { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا }
فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله ، فقال : { لَيْسَ عَلَى
الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا
يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } [التوبة : 91].
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا أيوب ، عن محمد قال :
شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غَزاة للمسلمين
إلا وهو في آخرين إلا عاما واحدًا قال : وكان أبو أيوب يقول : قال الله : {
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلا (2)
وقال ابن جرير : حدثني سعيد بن عمر السَّكُوني ، حدثنا بَقِيَّة ، حدثنا حَرِيز ،
حدثني عبد الرحمن بن ميسرة ، حدثني أبو راشد الحُبْراني قال : وافيت المقدام بن
الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة
بحمص ، وقد فضل عنها من عظمه ، يريد الغزو ، فقلت له : لقد أعذر الله إليك فقال :
أتت علينا سورة "البعوث (3) { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } (4)
وبه قال ابن جرير : حدثني حيان بن زيد الشَّرْعِبي قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو ،
وكان واليا على حمص قِبَل الأفسُوس ، إلى الجراجمة فلقيت شيخًا كبيرًا هما ، وقد
سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته ، فيمن أغار. فأقبلت إليه (5)
فقلت : يا عم ، لقد أعذر الله إليك. قال : فرفع حاجبيه (6) فقال : يا ابن أخي ،
استنفرنا الله خفافا وثقالا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه (7)
وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله ، عز وجل (8)
__________
(1) في أ : "فنزلت هذه الآية".
(2) تفسير الطبري (14/267).
(3) في هـ ، ت ، د : "البعوث" والمثبت من الطبري.
(4) تفسير الطبري (14/268).
(5) في ت ، أ : "عليه".
(6) في ت : "حاجبه".
(7) في أ : "فيقتنيه".
(8) رواه الطبري في تفسيره (14/264).
(4/157)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
ثم
رغب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله ، فقال : {
وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : هذا خير لكم في الدنيا والآخرة ، ولأنكم
تغرمون في النفقة قليلا فيغنيكم الله أموال عدوكم في الدنيا ، مع ما يدخر لكم من
الكرامة في الآخرة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "وتَكفَّل الله
للمجاهد (1) في سبيله إن (2) توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرده إلى منزله نائلا ما
نال من أجر أو غنيمة" (3)
ولهذا قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى
أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة :
216].
ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، عن حميد ، عن أنس ؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لرجل : "أسلم". قال : أجدني كارها. قال : "أسلم وإن كنت كارها"
(4)
{ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ
عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا
مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
(42) }
يقول تعالى موبّخًا للذين تخلفوا عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ،
وقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما استأذنوه في ذلك ، مظهرين أنهم ذوو
أعذار ، ولم يكونوا كذلك ، فقال : { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا } قال ابن عباس :
غنيمة قريبة ، { وَسَفَرًا قَاصِدًا } أي : قريبا أيضا ، { لاتَّبَعُوكَ } أي :
لكانوا جاءوا معك لذلك ، { وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } أي :
المسافة إلى الشام ، { وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ } أي : لكم إذا رجعتم إليهم {
لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي : لو لم تكن لنا أعذار لخرجنا معكم ،
قال الله تعالى : { يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ }
{ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ
صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي
رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) }
__________
(1) في ت : "للمجاهدين".
(2) في ت : "بأن".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (7463) ومسلم في صحيحه برقم (1876) من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه.
(4) المسند (3/109).
(5) في أ : "رسول الله".
(4/158)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
قال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو حصين بن [يحيي بن] (1) سليمان الرازي (2)
حدثنا سفيان بن عيينة ، عن مِسْعَر (3) عن عون قال : هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا
؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة فقال : { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ }
وكذا قال مُوَرِّق العِجْلي وغيره.
وقال قتادة : عاتبه كما تسمعون ، ثم أنزل التي في سورة النور ، فرخَّص له في أن
يأذن لهم إن شاء : { فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ
شِئْتَ مِنْهُمْ } [النور : 62] وكذا رُوي عن عطاء الخراساني.
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس قالوا : استأذِنُوا رسول الله فإن أذن لكم
فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
ولهذا قال تعالى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } أي : في إبداء
الأعذار ، { وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } (4) يقول تعالى : هلا تركتهم لما استأذنوك
، فلم تأذن لأحد منهم في القعود ، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب ،
فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو [وإن لم تأذن لهم فيه. ولهذا أخبر تعالى
أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو] (5) أحد يؤمن بالله ورسوله ، فقال : { لا
يَسْتَأْذِنُكَ } أي : في القعود عن الغزو { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } ؛ لأن
أولئك يرون الجهاد قربة ، ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا. { وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } أي : في القعود ممن لا عذر له {
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : لا يرجون ثواب
الله في الدار الآخرة على أعمالهم ، { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : شكت في صحة
ما جئتهم به ، { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي : يتحيرون ،
يُقَدِّمُون رجلا ويؤخرون أخرى ، وليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى
هَلْكى ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا.
{ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ
انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ
خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ
يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (47) }
يقول تعالى : { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ } أي : معك إلى الغزو { لأعَدُّوا
لَهُ عُدَّةً } أي : لكانوا تأهبوا له ، { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ
} أي : أبغض أن يخرجوا معك (6) قَدرًا ، { فَثَبَّطَهُمْ } أي : أخرهم ، { وَقِيلَ
اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ } أي : قدرًا.
__________
(1) زيادة من الجرح والتعديل 4/2/364. مستفادا من هامش ط. الشعب.
(2) في أ : "الداري".
(3) في أ : "مشرف".
(4) في ت : "ويعلم".
(5) زيادة من ت ، ك ، أ.
(6) في ت ، ك : "معكم".
(4/159)
ثم
بين [الله تعالى] (1) وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين. فقال : { لَوْ خَرَجُوا
فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا } أي : لأنهم جبناء مخذولون ، { وَلأوْضَعُوا
خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } أي : ولأسرعوا السير والمشي بينكم
بالنميمة والبغضاء والفتنة ، { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي : مطيعون لهم
ومستحسنون لحديثهم وكلامهم ، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، فيؤدي هذا
إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
وقال مجاهد ، وزيد بن أسلم ، وابن جرير : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي :
عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم.
وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جميع الأحوال ، والمعنى
الأول أظهر في المناسبة بالسياق ، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
وقال محمد بن إسحاق : كان فيما بلغني - من استأذن - من ذوي الشرف منهم : عبد الله
بن أبي ابن سلول والجَدُّ بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله ، لعلمه
بهم : أن يخرجوا معه (2) فيفسدوا عليه جنده ، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة
فيما يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ، فقال : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } (3)
ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } فأخبر
بأنه [يعلم] (4) ما كان ، وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ؛ ولهذا قال
تعالى : { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا } فأخبر عن حالهم
كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا ، كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا
لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام : 28] وقال تعالى : {
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ
لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنفال : 23] وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا
كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ
دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا
يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا
لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا } [النساء : 66 - 68] والآيات في هذا كثيرة.
__________
(1) زيادة من ك.
(2) في ت : "معهم".
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/281).
(4) زيادة من ت ، ك.
(4/160)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
{
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى
جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) }
يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين : { لَقَدِ ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ } أي : لقد أعملوا فكرهم
وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماله مدة طويلة ،
(4/160)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
وذلك
أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته
يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن
أبي وأصحابه : هذا أمر قد تَوَجَّه. فدخلوا في الإسلام ظاهرًا ، ثم كلما أعز الله
الإسلام وأهله غاظهم (1) ذلك وساءهم ؛ ولهذا قال تعالى : { حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ
وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ }
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ
سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) }
يقول تعالى : ومن المنافقين من يقول لك يا محمد : { ائْذَنْ لِي } في القعود {
وَلا تَفْتِنِّي } بالخروج معك ، بسبب الجواري من نساء الروم ، قال الله تعالى : {
أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } أي : قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا. كما قال
محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، ويزيد بن رُومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن
عمر بن قتادة وغيرهم قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، وهو في
جهازه ، للجد بن قيس أخي بني سلمة : "هل لك يا جَدُّ العامَ في جلاد بني
الأصفر ؟" فقال : يا رسول الله ، أو تأذن لي ولا تفتني ، فوالله لقد عرف قومي
ما رجل أشد عجبًا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن.
فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "قد أذنت لك". ففي
الجَدِّ بن قيس نزلت هذه : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي
} الآية ، أي : إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به ، فما سقط فيه من
الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه ، أعظم (2)
وهكذا روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : أنها نزلت في الجد بن قيس. وقد كان
الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة ، وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لهم : "من سيدكم يا بني سلمة ؟" قالوا : الجد بن قيس ، على أنا
نُبَخِّله (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وأي داء أدوأ من البخل ،
ولكن سَيِّدكم الفتى الأبيض الجَعْد بِشْر بن البراء بن مَعْرُور".
وقوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } أي : لا مَحيد
لهم عنها ، ولا مَحيص ، ولا مَهرَب.
{ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ
أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ
يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) }
يعلم تبارك وتعالى نبيه بعداوة هؤلاء له ؛ لأنه مهما أصابه من { حَسَنَةٌ } أي :
فتح ونصر وظفر
__________
(1) في ت : "أغاظهم".
(2) رواه عنهم الطبري في تفسيره (14/287).
(3) في ت : "نبجله".
(4/161)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
على
الأعداء ، مما يسره ويسر أصحابه ، ساءهم ذلك ، { وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ
يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ } أي : قد احترزنا من متابعته من
قبل هذا ، { وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ } فأرشد الله تعالى رسوله ، صلوات
الله وسلامه عليه ، إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة ، فقال : { قُلْ } أي : لهم
{ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا } أي : نحن تحت مشيئة الله ،
وقدره ، { هُوَ مَوْلانَا } أي : سيدنا وملجؤنا { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ } أي : ونحن متوكلون عليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ
نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ
بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا
طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا
فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا
أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ
كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) }
يقول تعالى : { قُلْ } لهم يا محمد : { هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا } ؟ أي : تنتظرون
بنا { إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ } شهادَة أو ظَفَرٌ بكم. قاله ابن عباس ،
ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم. { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ
اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } أي : ننتظر بكم هذا أو هذا ،
إما أن يصيبكم الله بقارعة من عنده أو بأيدينا ، بسبي أو بقتل ، { فَتَرَبَّصُوا
إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ }
وقوله : { قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } أي : مهما أنفقتم من نفقة
طائعين أو مكرهين { لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا
فَاسِقِينَ }
ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك ، وهو أنهم لا يتقبل منهم ، { إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } أي : [قد كفروا] (1) والأعمال إنما تصح بالإيمان ، {
وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى } أي : ليس لهم قصد صحيح ، ولا همة
في العمل ، { وَلا يُنْفِقُونَ } نفقة { إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ }
وقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لا يمل حتى تملوا ، وأنه طيب لا يقبل إلا طيبا ؛
فلهذا لا يتقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين.
__________
(1) زيادة من أ.
(4/162)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
{
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ
كَافِرُونَ (55) }
يقول تعالى لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه : { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ
وَلا أَوْلادُهُمْ } كما قال تعالى : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا
مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه : 131]
(4/162)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
وقال
: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ
لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون : 55 ، 56]
وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا } قال الحسن البصري : بزكاتها ، والنفقة منها في سبيل الله.
وقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ،
[في الحياة الدنيا] (1) إنما يريد الله ليعذبهم بها [في الآخرة] (2)
واختار ابن جرير قول الحسن ، وهو القول القَوي الحسن.
وقوله : { وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي : ويريد أن يميتهم حين
يميتهم على الكفر ، ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم ، عياذا بالله من ذلك ، وهذا
يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه.
{ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ
وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ
أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) }
يخبر الله تعالى نبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم
أنهم { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ } يمينًا مؤكدة ، { وَمَا هُمْ
مِنْكُمْ } أي : في نفس الأمر ، { وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } أي : فهو
الذي حملهم على الحلف. { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً } أي : حصنا يتحصنون به ، وحرزا
يحترزون به ، { أَوْ مَغَارَاتٍ } وهي التي في الجبال ، { أَوْ مُدَّخَلا } وهو
السَّرَب في الأرض والنفَق. قال ذلك في الثلاثة ابنُ عباس ، ومجاهد ، وقتادة : {
لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } أي : يسرعون في ذهابهم عنكم ، لأنهم
إنما يخالطونكم كرها لا محبة ، وودوا أنهم لا يخالطونكم ، ولكن للضرورة أحكام ؛
ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغَمٍّ ؛ لأن الإسلام وأهله لا يزال في عزّ ونصر ورفعة
؛ فلهذا كلما سُرّ المؤمنون ساءهم ذلك ، فهم يودون ألا يخالطوا المؤمنين ؛ ولهذا
قال : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا
إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ }
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا
وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ
(59) }
__________
(1) زيادة من ت ، ك ، أ.
(2) زيادة من ت ، ك ، أ.
(4/163)
يقول
تعالى : { وَمِنْهمْ } أي ومن المنافقين { مَنْ يَلْمِزُكَ } أي : يعيب عليك { فِي
} قَسْم { الصَّدَقَاتِ } إذا فرقتها ، ويتهمك في ذلك ، وهم المتهمون (1)
المأبونون ، وهم مع هذا لا ينكرون للدين ، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم ؛ ولهذا إن {
أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ }
أي : يغضبون لأنفسهم.
قال ابن جُرَيْج : أخبرني داود بن أبي عاصم قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم
بصدقة ، فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت. قال : ووراءه رجل من الأنصار فقال : ما هذا
بالعدل ؟ فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة في قوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } يقول :
ومنهم من يطعن عليك في الصدقات. وذُكر لنا أن رجلا من [أهل] (2) البادية حديثَ عهد
بأعرابية ، أتى رسول (3) الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا وفضة ، فقال : يا
محمد ، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ، ما عدلت. فقال نبي الله صلى الله عليه
وسلم : "ويلك فمن ذا يعدل عليك بعدي". ثم قال نبي الله : "احذروا
هذا وأشباهه ، فإن في أمتي أشباه هذا ، يقرءون القرآن لا يجاوز (4) تَرَاقيَهم ،
فإذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم". وذكر
لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "والذي نفسي بيده ما أعطيكم
شيئا ولا أمنعكموه ، إنما أنا خازن".
وهذا الذي ذكره قتادة شبيه بما رواه الشيخان من حديث الزهري ، عن أبي سلمة (5) عن
أبي سعيد في قصة ذي الخُوَيصرة - واسمه حُرْقوص - لما اعترض على النبي صلى الله
عليه وسلم حين قسم غنائم حنين ، فقال له : اعدل ، فإنك لم تعدل. فقال : "لقد
خِبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه
مقفيا (6) إنه يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم يحقرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع
صيامهم ، يمرقون من الدين مُرُوق السهم من الرَّمِيَّة ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم
، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء" وذكر بقية الحديث (7)
ثم قال تعالى مُنَبِّها لهم على ما هو خير من ذلك لهم ، فقال : { وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ
} فتضمنت هذه الآية الكريمة أدبا عظيما وسرا شريفا ، حيث جعل الرضا بما آتاه الله
ورسوله والتوكل على الله وحده ، وهو قوله : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وكذلك
الرغبة إلى الله وحده في التوفيق لطاعة الرسول وامتثال أوامره ، وترك زواجره ،
وتصديق أخباره ، والاقتفاء بآثاره.
__________
(1) في ت : "المبهمون".
(2) زيادة من ت ، ك ، أ.
(3) في أ : "نبي".
(4) في ت : "لا يتجاوز"
(5) في ت ، أ : "أبي سالم".
(6) في ت ، أ : "مقتفيا".
(7) صحيح البخاري برقم (3610) وصحيح مسلم برقم (1064).
(4/164)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
{
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(60) }
لما ذكر [الله] (1) تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم
ولمزهم إياه في قَسْم الصدقات ، بين تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها ، وتولى
أمرها بنفسه ، ولم يَكلْ قَسْمها إلى أحد غيره ، فجزّأها لهؤلاء المذكورين ، كما
رواه الإمام أبو داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم - وفيه ضعف - عن
زياد بن نعيم ، عن زياد بن الحارث الصُدَائي ، رضي الله عنه ، قال : أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة فقال له : "إن
الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أصناف
، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك" (2) وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف
الثمانية : هل يجب استيعاب الدفع إليها أو إلى ما أمكن منها ؟ على قولين :
أحدهما : أنه يجب ذلك ، وهو قول الشافعي وجماعة.
والثاني : أنه لا يجب استيعابها ، بل يجوز الدفع إلى واحد منها ، ويعطى جميعَ
الصدقة مع وجود الباقين. وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف ، منهم : عمر ،
وحذيفة ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وسعيد بن جُبَير ، وميمون بن مِهْران.
قال ابن جرير : وهو قول عامة أهل العلم ، وعلى هذا فإنما ذكرت الأصناف هاهنا لبيان
المصرف لا لوجوب استيعاب الإعطاء.
ولوجوه الحجاج والمآخذ مكان غير هذا ، والله أعلم.
وإنما قدم الفقراء هاهنا لأنهم أحوج من البقية على المشهور ، لشدة فاقتهم وحاجتهم
، وعند أبي حنيفة أن المسكين أسوأ حالا من الفقير ، وهو كما قال ، قال ابن جرير :
حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أنبأنا ابن عَوْن ، عن محمد قال : قال عمر ،
رضي الله عنه : الفقير ليس بالذي لا مال له ، ولكن الفقير الأخلق الكسب. قال ابن
علية : الأخلق : المحارَفُ عندنا (3)
والجمهور على خلافه. ورُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن البصري ، وابن زيد.
واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير : هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ،
والمسكين : هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس.
وقال قتادة : الفقير : من به زمانة ، والمسكين : الصحيح الجسم.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) سنن أبي داود برقم (1630)
(3) تفسير الطبري (14/308).
(4/165)
وقال
الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم : هم فقراء المهاجرين. قال سفيان الثوري : يعني :
ولا يُعْطَى الأعرابُ منها شيئا.
وكذا روي عن سعيد بن جُبَير ، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبْزَى.
وقال عِكْرِمة : لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وإنما المساكين مساكين أهل
الكتاب.
ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية.
فأما "الفقراء" ، فعن ابن عمرو (1) قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "لا تحل الصدقة لغَنِيٍّ ولا لذي مِرَّة سَويّ". رواه أحمد ،
وأبو داود ، والترمذي (2)
ولأحمد أيضا ، والنسائي ، وابن ماجه عن أبي هريرة ، مثله (3)
وعن عبيد الله بن عَدِيِّ بن الخيار : أن رجلين أخبراه : أنهما أتيا النبي صلى
الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة ، فقلب إليهما البصر ، فرآهما جَلْدين ، فقال :
"إن شئتما أعطيتكما ، ولا حَظَّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب".
رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي (4) بإسناد جيد قوي.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح [والتعديل : أبو بكر العبسي قال : قرأ عمر ، رضي
الله عنه : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } قال : هم أهل الكتاب] (5) روى
عنه عمر بن نافع ، سمعت أبي يقول ذلك (6)
قلت : وهذا قول غريب جدا بتقدير صحة الإسناد ، فإن أبا بكر هذا ، وإن لم ينص أبو
حاتم على جهالته ، لكنه في حكم المجهول.
وأما المساكين : فعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس ، فتردُّه اللقمة
واللقمتان ، والتمرة والتمرتان". قالوا : فما المسكين (7) يا رسول الله ؟ قال
: "الذي لا يجدُ غنًى يغنيه ، ولا يُفْطَن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس
شيئا".
رواه الشيخان : البخاري ومسلم (8)
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "بن عمر".
(2) المسند (2/164) وسنن أبي داود برقم (1634) وسنن الترمذي برقم (652).
(3) المسند (2/377) وسنن النسائي (5/99) وسنن ابن ماجه برقم (1839).
(4) المسند (4/224) وسنن أبي داود برقم (1633) وسنن النسائي (5/99).
(5) زيادة من ت ، ك ، أ.
(6) الجرح والتعديل (9/341) وقد وقع سقط هناك.
(7) في أ : "المساكين".
(8) صحيح البخاري برقم (1479) وصحيح مسلم برقم (1039).
(4/166)
وأما
العاملون عليها : فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطا على ذلك ، ولا يجوز أن
يكونوا من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة ، لما ثبت
في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث : أنه انطلق هو والفضل بن عباس
يسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة ، فقال : "إن الصدقة
لا تحل لمحمد ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس" (1)
وأما المؤلفة قلوبهم : فأقسام : منهم من يعطى ليُسلم ، كما أعطى النبي صلى الله
عليه وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين ، وقد كان شهدها مشركا. قال : فلم يزل
يعطيني حتى صار أحبَّ الناس إليَّ بعد أن كان أبغض الناس إلي ، كما قال الإمام
أحمد :
حدثنا زكريا بن عدي ، أنا (2) ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن سعيد بن
المسيب ، عن صفوان بن أمية قال : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ،
وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى صار وإنه لأحب الناس إلي.
ورواه مسلم والترمذي ، من حديث يونس ، عن الزهري ، به (3)
ومنهم من يُعْطَى ليحسُن إسلامه ، ويثبت قلبه ، كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من
صناديد الطلقاء وأشرافهم : مائة من الإبل ، مائة من الإبل وقال : "إني لأعطي
الرجل وغيره أحب إلي منه ، مخافة أن يَكُبَّه الله على وجهه في نار جهنم" (4)
وفي الصحيحين عن أبي سعيد : أن عليا بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذُهَيبة في
تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر : الأقرع بن حابس ، وعُيَينة بن بدر ،
وعلقمة بن عُلاثة ، وزيد الخير ، وقال : "أتألفهم" (5)
ومنهم من يُعطَى لما يرجى من إسلام نظرائه. ومنهم من يُعطَى ليجبي الصدقات ممن
يليه ، أو ليدفع عن حَوزة المسلمين الضرر من (6) أطراف البلاد. ومحل تفصيل هذا في
كتب الفروع ، والله أعلم.
وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فيه خلاف ، فرُوي عن
عمر ، وعامر الشعبي وجماعة : أنهم لا يُعطَون بعده ؛ لأن الله قد أعز الإسلام
وأهله ، ومَكَّن لهم في البلاد ، وأذل لهم رقاب العباد.
وقال آخرون : بل يُعطَون ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام (7) قد أعطاهم بعد فتح مكة
وكسر هَوازن ،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1072).
(2) في ك : "أخبرنا".
(3) المسند (6/465) وصحيح مسلم برقم (2313) وسنن الترمذي برقم (666).
(4) صحيح البخاري برقم (1478) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(5) صحيح البخاري برقم (3344) وصحيح مسلم برقم (1064).
(6) في أ : "في".
(7) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(4/167)
وهذا
أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم.
وأما الرقاب : فرُوي عن الحسن البصري ، ومقاتل بن حيان ، وعمر بن عبد العزيز ،
وسعيد بن جُبَير ، والنَّخعي ، والزهري ، وابن زيد : أنهم المكاتَبون ، وروي عن
أبي موسى الأشعري نحوه ، وهو قول الشافعي والليث.
وقال ابن عباس ، والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب الإمام أحمد
بن حنبل ، ومالك ، وإسحاق ، أي : إن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب ، أو يشتري
رقبة فيعتقها استقلالا. وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة ، وأن
الله يعتق بكل عضو منها عضوا من مُعتقها حتى الفَرْج بالفرج ، وما ذاك إلا لأن (1)
الجزاء من جنس العمل ، { وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
[الصافات : 39]
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة حق
على الله عونُهم : الغازي في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح
الذي يريد العفاف".
رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود (2)
وفي المسند عن البراء بن عازب قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، دُلَّني على
عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار. فقال : "أعتق النسَمة وفك
الرقبة". فقال : يا رسول الله ، أو ليسا واحدا ؟ قال : "لا عتق النسمة
أن تُفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها" (3)
وأما الغارمون : فهم أقسام : فمنهم من تحمّل حمالة أو ضمن دينا فلزمه فأجحف بماله
، أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب ، فهؤلاء يدفع إليهم. والأصل في هذا
الباب حديث قَبِيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة فأتيت رسول الله (4) صلى
الله عليه وسلم أسأله فيها ، فقال : "أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك
بها". قال : ثم قال : "يا قَبِيصة ، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة :
رجل تحمَّل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ، ثم يمسك. ورجل أصابته جائحة اجتاحت
ماله ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش : أو قال : سدادًا من عيش - ورجل
أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ، فيقولون : لقد أصابت فلانا
فاقة فحلت له المسألة ، حتى يصيب قواما من عيش - أو قال سدادا من عيش - فما سواهن من
المسألة سحت ، يأكلها صاحبها سحتا". رواه مسلم (5)
__________
(1) في ت : "أن".
(2) المسند (2/251) وسنن الترمذي برقم (1655) وسنن النسائي (6/61) وسنن ابن ماجه
برقم (2518) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن".
(3) المسند (4/299).
(4) في ت : "النبي".
(5) صحيح مسلم برقم 1(1044).
(4/168)
وعن
أبي سعيد قال : أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها ،
فكثر دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (1) تصدقوا عليه". فتصدق الناس
(2) فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه : "خذوا
ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك". رواه مسلم (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، أنبأنا صدقة بن موسى ، عن أبي عمران
الجَوْني ، عن قيس بن زيد عن قاضي المصرين (4) عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف
بين يديه ، فيقول : يا بن آدم ، فيم أخذت هذا الدين ؟ وفيم ضيعت حقوق الناس ؟
فيقول : يا رب ، إنك تعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ، ولكن أتى على يدي
إما حرق وإما سرق وإما وضيعة. فيقول الله : صدق عبدي ، أنا أحق من قضى عنك اليوم.
فيدعو الله بشيء فيضعه في كفة ميزانه ، فترجح حسناته على سيئاته ، فيدخل الجنة
بفضل الله ورحمته" (5)
وأما في سبيل الله : فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان ، وعند الإمام أحمد
، والحسن ، وإسحاق : والحج من سبيل الله ، للحديث.
وكذلك ابن السبيل : وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره ،
فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال. وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء
سفر من بلده وليس معه شيء ، فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه وإيابه. والدليل
على ذلك الآية ، وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجه من حديث مَعْمَر ، عن زيد بن
أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد ، رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "لا تحل الصدقة لغنيّ إلا لخمسة : العامل عليها ، أو رجل
اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى
لغني" (6)
وقد رواه السفيانان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء مرسلا. ولأبي داود عن عطية العوفي
، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تحل
الصدقة لغني إلا في سبيل الله ، وابن السبيل ، أو جار فقير فيُهدي لك أو
يدعوك" (7)
وقوله : { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } أي حكما مقدرا بتقدير الله وفَرْضِه وقَسْمه
(8) { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح
عباده ، { حَكِيمٌ } فيما يفعله ويقوله ويشرعه ويحكم به ،
__________
(1) في أ : "فقال صلى الله عليه وسلم لغرمائه".
(2) في أ : "الناس عليه".
(3) صحيح مسلم برقم (1556).
(4) في أ : "المصريين".
(5) المسند (1/197 ، 198).
(6) سنن أبي داود برقم (1635) وسنن ابن ماجه برقم (1841).
(7) سنن أبي داود برقم (1637) وعطية العوفي ضعيف.
(8) في ت ، أ : "وقسمته".
(4/169)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
لا
إله إلا هو ، ولا رب سواه.
{ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ
أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ
لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) }
يقول تعالى : ومن المنافقين قوم يُؤذون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالكلام فيه
ويقولون : { هُوَ أُذُنٌ } أي : من قال له شيئا صدقه ، ومن حدثه فينا صدقه ، فإذا
جئنا وحلفنا له صدقنا. روي معناه عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة. قال الله تعالى :
{ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } أي : هو أذن خير ، يعرف الصادق من الكاذب ، {
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : ويصدق المؤمنين ، {
وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ } أي : وهو حجة على الكافرين ؛ ولهذا قال
: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
(4/170)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
{
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ
يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا
ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) }
قال قتادة في قوله تعالى : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } الآية
، قال : ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ،
وإن كان ما يقول محمد حقا ، لهم شر من الحمير. قال : فسمعها رجل من المسلمين فقال
: والله إن ما يقول محمد لحق ، ولأنت أشر من الحمار. قال : فسعى بها الرجل إلى
النبي (1) صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : "ما
حملك على الذي قلت ؟" فجعل يلتعن ، ويحلف بالله ما قال ذلك. وجعل الرجل
المسلم يقول : اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب. فأنزل الله ، عز وجل : { يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ
إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ }
وقوله تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا } (2) أي : ألم يتحققوا ويعلموا أنه
من حاد (3) الله ، أي : شاقه وحاربه وخالفه ، وكان في حَدٍّ والله ورسوله في حدٍّ
{ فأن له نار جهنم خالدا فيها } أي : مهانًا معذبا ، { ذلك الخزي العظيم } أي :
وهذا هو الذل العظيم ، والشقاء الكبير.
{ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا
فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
}
قال مجاهد : يقولون القول بينهم ، ثم يقولون : عسى الله ألا يفشي علينا سرنا هذا.
وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ
يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا
اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
[المجادلة : 8]
__________
(1) في أ : "نبي الله".
(2) في ت : "تعلموا".
(3) في أ : "يحاد".
(4/170)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
وقال
في هذه الآية : { قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون } أي : إن الله سينزل على
رسوله ما يفضحكم به ، ويبين له (1) أمركم كما قال : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } إلى قوله : {
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ }
[محمد : 29 ، 30] (2) ؛ ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة
"الفاضحة" ، فاضحة المنافقين.
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ
أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا
قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ
نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) }
قال أبو معشر المديني (3) عن محمد بن كعب القُرَظي وغيره قالوا : قال رجل من
المنافقين : ما أرى قُرّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا ، وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا
عند اللقاء. فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى رسول الله وقد
ارتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب. فقال : { أبالله
وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } إلى قوله : { مجرمين } وإن رجليه لتنسفان (4)
الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متعلق بنسعة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الله بن وهب : أخبرني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الله بن عمر
قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس (5) ما رأيت مثل قُرائنا هؤلاء ، أرغبَ بطونا
، ولا أكذبَ ألسنًا ، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد : كذبتَ ، ولكنك
منافق. لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر : وأنا رأيته متعلقا بحَقَب ناقة رسول الله
صلى الله عليه وسلم تَنكُبُه (6) الحجارة (7) وهو يقول : يا رسول الله ، إنما كنا
نخوض ونلعب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { أبالله وآياته ورسوله كنتم
تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم }.
وقد رواه الليث ، عن هشام بن سعد ، بنحو من هذا (8)
وقال ابن إسحاق : وقد كان جماعة من المنافقين منهم وَديعة بن ثابت ، أخو بني أمية
بن زيد ، من بني عمرو بن عوف ، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له : مُخَشّن (9)
بن حُميّر يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك ، فقال
بعضهم لبعض : أتحسبون جِلادَ بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا ؟ والله لكأنا بكم
غدا مُقَرّنين في الحبال ، إرجافا وترهيبا للمؤمنين ، فقال مُخَشّن (10)
__________
(1) في أ : "لكم".
(2) في أ : "إسرارهم" وهو خطأ.
(3) في أ : "المعدني".
(4) في هـ : "ليسفعان" ، وفي أ : "ليشفعان" والمثبت من
الطبري.
(5) في ت ، أ : "مجلس يوما".
(6) في ت ، أ : "يركبه".
(7) في ت : "بالحجارة".
(8) رواه الطبري في تفسير (14/333 ، 334).
(9) في أ : "مخشي".
(10) في أ : "مخشي".
(4/171)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
بن
حُمَيّر : والله لوددتُ أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة ، وإما
نَنْفَلتُ أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فيما بلغني - لعمار بن ياسر : "أدرك القوم ، فإنهم قد احترقوا ، فسلهم عما
قالوا ، فإن أنكروا فقل : بلى ، قلتم كذا وكذا". فانطلق إليهم عمار ، فقال
ذلك لهم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت
، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته ، فجعل يقول وهو آخذ بحَقَبها :
يا رسول الله ، إنما كنا نخوض ونلعب ، [فأنزل الله ، عز وجل : { وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } ] (1) فقال
مُخَشّن (2) بن حُمّير : يا رسول الله ، قعد بي اسمي واسم أبي. فكان الذي عفى عنه
في هذه الآية مُخَشّن (3) بن حُمّير ، فتسمى (4) عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل
(5) شهيدا لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة ، فلم يوجد له أثر (6)
وقال قتادة : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ } قال : فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وركب من
المنافقين يسيرون بين يديه ، فقالوا : يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها. هيهات
هيهات. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا ، فقال : "عَليَّ
بهؤلاء النفر". فدعاهم ، فقال : "قلتم كذا وكذا". فحلفوا ما كنا
إلا نخوض ونلعب.
وقال عِكْرِمة في تفسير هذه الآية : كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول : اللهم
، إني أسمع آية أنا أعنَى بها ، تقشعر منها الجلود ، وتجيب منها القلوب ، اللهم ،
فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك ، لا يقول أحد : أنا غسّلت ، أنا كفنت ، أنا دفنت ، قال
: فأصيب يوم اليمامة ، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره (7)
وقوله : { لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أي : بهذا
المقال الذي استهزأتم به { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ
طَائِفَةً } أي : لا يُعْفى عن جميعكم ، ولا بد من عذاب بعضكم ، { بِأَنَّهُمْ
كَانُوا مُجْرِمِينَ } أي : مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.
{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا
اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ
فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) }
يقول تعالى منكرا على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين ، ولما كان
المؤمنون (8) يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، كان هؤلاء { يَأْمُرُونَ
بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أي :
عن الإنفاق في سبيل الله ، { نَسُوا اللَّهَ } أي : نسوا ذكر الله ، {
فَنَسِيَهُمْ } أي : عاملهم
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، وسيرة ابن هشام.
(2) في أ : "مخشي".
(3) في أ : "مخشي"
(4) في أ : "فسمى".
(5) في أ : "أن يقتله".
(6) السيرة النبوية لابن هشام (2/524).
(7) في أ : "عبرة".
(8) في ك : "المؤمنين" وهو خطأ.
(4/172)
معاملة
من نسيهم ، كقوله تعالى : { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ
لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } [الجاثية : 34] (1) { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ } أي : الخارجون عن طريق الحق ، الداخلون في طريق الضلالة.
وقوله : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ
جَهَنَّمَ } أي : على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي :
ماكثين فيها مخلدين ، هم والكفار ، { هِيَ حَسْبُهُمْ } أي : كفايتهم في العذاب ،
{ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ } أي : طردهم وأبعدهم ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ }.
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "فاليوم" وهو خطأ.
(4/173)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
{
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ
أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ
كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي
خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) }
يقول تعالى : أصاب هؤلاء من عذاب الله في الدنيا والآخرة كما أصاب من قبلهم ، وقد
كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ } قال
الحسن البصري : بدينهم ، { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } أي : في الكذب والباطل ، { أُولَئِكَ
حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بطلت مساعيهم ، فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة {
فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ لأنهم لم يحصل لهم
عليها ثواب.
قال ابن جُرَيْج عن عُمَر بن عَطَاء ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : {
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية ، قال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة ،
{ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } هؤلاء بنو إسرائيل ، شبهنا بهم ، لا أعلم إلا أنه
قال : "والذي نفسي بيده ، لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحر ضَبٍّ
لدخلتموه".
قال ابن جُرَيْج : وأخبرني زياد بن سعد ، عن محمد بن زيد (1) بن مهاجر ، عن سعيد
بن أبي سعيد المَقْبُري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، لتتبعن سَنَن الذين من قبلكم ، شبرا
بشبر ، وذراعا بذراع ، وباعا بباع ، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه".
قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ أهل الكتاب ؟ قال : "فَمَه" (2)
وهكذا رواه أبو مَعْشَر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم ، فذكره وزاد : قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم القرآن. { كَالَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا
وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا
اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ } قال أبو هريرة : الخلاق :
الدين. { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } قالوا : يا رسول الله ، كما صنعت فارس
والروم ؟ قال : "فهل الناس إلا هم" (3)
__________
(1) في ت : "زياد".
(2) رواه الطبري في تفسيره (14/342).
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/341).
(4/173)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
وهذا
الحديث له شاهد في الصحيح (1)
{ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ
أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) }
يقول تعالى واعظا لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل : { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذبة
للرسل { قَوْمِ نُوحٍ } وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض ، إلا من آمن
بعبده ورسوله نوح ، عليه السلام ، { وَعَادٍ } كيف أهلكوا بالريح العقيم ، لما
كذبوا هودا ، عليه السلام ، { وَثَمُودَ } كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحا ،
عليه السلام ، وعقروا الناقة ، { وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ } كيف نصره الله عليهم
وأيده بالمعجزات الظاهرة عليهم ، وأهلك ملكهم النمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني
لعنه الله ، { وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ } وهم قوم شعيب ، عليه السلام ، وكيف أصابتهم
(2) الرجفة والصيحة وعذاب يوم (3) الظلة ، { وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } قوم لوط ، وقد
كانوا يسكنون في مدائن ، وقال في الآية الأخرى : { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى }
[النجم : 53 ، ] أي : الأمة المؤتفكة ، وقيل : أم قراهم ، وهي "سدوم".
والغرض : أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطا ، عليه السلام ،
وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
{ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والدلائل القاطعات ، {
فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } أي : بإهلاكه إياهم ؛ لأنه أقام عليهم الحجة
بإرسال الرسل وإزاحة العلل { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي :
بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق ، فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار.
{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) }
لما ذكر [الله] (4) تعالى صفات المنافقين الذميمة ، عطف بذكر صفات المؤمنين
المحمودة ، فقال : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } أي : يتناصرون ويتعاضدون ،
كما جاء في الصحيح : "المؤمن للمؤمن كالبنان يشد بعضه (5) بعضا" وشبك
بين أصابعه (6) وفي الصحيح أيضا : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم ، كمثل
الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" (7)
__________
(1) في صحيح البخاري برقم (7319) من طريق محمد بن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي
هريرة رضي الله عنه.
(2) في ت ، أ : "أصابهم".
(3) في ت ، أ : "تلك".
(4) زيادة من ك.
(5) في ت : "بعضهم".
(6) صحيح البخاري برقم (481) وصحيح مسلم برقم (2585) من حديث أبي موسى الأشعري رضي
الله عنه.
(7) صحيح البخاري برقم (6011) وصحيح مسلم برقم (2586) من حديث النعمان بن بشير رضي
الله عنه.
(4/174)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
وقوله
: { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } كما قال تعالى :
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
[آل عمران : 104]
وقوله تعالى : { وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي : يطيعون الله
ويحسنون إلى خلقه ، { وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فيما أمر ، وترك ما
عنه زجر ، { أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } أي : سيرحم الله من اتصف بهذه
الصفات ، { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز ، من أطاعه أعزه ، فإن
العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، { حَكِيمٌ } في قسمته هذه الصفات لهؤلاء ، وتخصيصه
المنافقين بصفاتهم المتقدمة ، فإن له الحكمة في جميع ما يفعله ، تبارك وتعالى.
{ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ
عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
}
يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في {
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين فيها
أبدا ، { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أي : حسنة البناء ، طيبة القرار ، كما جاء في
الصحيحين من حديث أبي عمران الجوني ، عن أبي بكر بن أبي موسى عبد الله بن قيس
الأشعري ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "جنتان من ذهب
آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن
ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" (1)
وبه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن للمؤمن في الجنة لَخَيْمَة
من لؤلؤة واحدة مُجَوَّفة ، طولها ستون ميلا في السماء ، للمؤمن فيها أهلون يطوف
عليهم ، لا يرى بعضهم بعضا" أخرجاه (2)
وفي الصحيحين أيضا ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من آمن بالله ورسوله ، وأقام الصلاة وصام رمضان ، فإن (3) حقا على الله أن
يدخله الجنة ، هاجر في سبيل الله ، أو جلس في أرضه التي ولد فيها". قالوا :
يا رسول الله ، أفلا نخبر الناس ؟ قال : "إن في الجنة مائة درجة ، أعدها الله
للمجاهدين في سبيله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله
فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تَفَجَّر أنهار الجنة ،
وفوقه عرش الرحمن" (4)
وعند الطبراني والترمذي وابن ماجه ، من رواية زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ،
عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول... فذكر
مثله (5)
وللترمذي عن عبادة بن الصامت ، مثله (6)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4878) وصحيح مسلم برقم (180).
(2) صحيح البخاري برقم (4879) وصحيح مسلم برقم (2838).
(3) في ت ، ك ، أ : "كان".
(4) صحيح البخاري برقم (7423) من طريق فليح عن هلال ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي
هريرة رضي الله عنه.
(5) المعجم الكبير (20/158) وسنن الترمذي برقم (2530) وعند ابن ماجه القطعة
الثانية منه برقم (4331) ، وقد أشار الحافظ إلى الاختلاف على عطاء بن يسار.
(6) سنن الترمذي برقم (2531).
(4/175)
وعن
أبي حازم ، عن سهل بن سعد (1) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن
أهل الجنة ليتراءون الغُرفة في الجنة ، كما تراؤون الكوكب في السماء". أخرجاه
في الصحيحين (2)
ثم ليعلم (3) أن أعلى منزلة في الجنة مكانٌ يقال له : "الوسيلة" لقربه
من العرش ، وهو مسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة ، كما قال الإمام أحمد
[بن حنبل] (4)
حدثنا عبد الرازق ، أخبرنا سفيان ، عن ليث ، عن كعب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : "إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة" قيل :
يا رسول الله ، وما الوسيلة ؟ قال : "أعلى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رجل
واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو" (5)
وفي صحيح مسلم ، من حديث كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جُبَير ، عن عبد الله بن
عمرو بن العاص ؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا سمعتم المؤذن
فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلُّوا عليَّ ، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها
عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله
، وأرجو أنى أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة يوم القيامة"
(6)
[وفي صحيح البخاري ، من حديث محمد بن المنكدر ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة
والصلاة القائمة ، آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته ،
إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة"] (7)
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا الوليد بن
عبد الملك الحراني ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن
عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سلوا الله لي
الوسيلة ، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا - أو شفيعا - يوم
القيامة" (8)
وفي مسند الإمام أحمد ، من حديث سعد (9) أبي مجاهد الطائي ، عن أبي المدله ، عن
أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قلنا : يا رسول الله ، حدثنا عن الجنة ، ما
بناؤها ؟ قال : "لبنة ذهب ، ولبنة فضة ، وملاطها المسك ، وحصباؤها اللؤلؤ
والياقوت ، وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم لا يبأس ، ويخلد لا يموت ، لا تبلى
ثيابه ولا يفنى شبابه" (10)
وروي عن ابن عمر مرفوعا ، نحوه (11)
__________
(1) في ت : "سعيد".
(2) صحيح البخاري برقم (6555) وصحيح مسلم برقم (2830).
(3) في ت : "لتعلم".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) المسند (2/256).
(6) صحيح مسلم برقم (1384).
(7) زيادة من ت ، ك ، أ. وهو في صحيح البخاري برقم (614).
(8) المعجم الأوسط برقم (639) "مجمع البحرين".
(9) في أ : "عن سعيد".
(10) المسند (2/304).
(11) رواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (96) من طريق عمر بن ربيعة عن الحسن البصري
عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا نحو حديث أبي هريرة.
(4/176)
وعند
الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، عن النعمان بن سعد ، عن علي ، رضي الله عنه
، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن في الجنة لغُرفا يرى ظهورها
من بطونها ، وبطونها من ظهورها". فقام أعرابي فقال : يا رسول الله ، لمن هي ؟
فقال : "لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس
نيام" (1)
ثم قال : حديث غريب.
ورواه الطبراني ، من حديث عبد الله بن عمرو وأبي مالك الأشعري ، كل منهما عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، بنحوه (2) وكل من الإسنادين جيد حسن ، وعنده (3) أن السائل
هو "أبو مالك" ، فالله أعلم.
وعن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا هل مُشَمِّر
إلى الجنة ؟ فإن الجنة لا خَطَر لها ، هي - ورب الكعبة - نور يتلألأ وريحانة
تَهْتَزّ ، وقصر مَشيدٌ ، ونهر مُطَّرد ، وثمرة نَضِيجة ، وزوجة حسناء جَميلة ،
وحُلَل كثيرة ، ومقام في (4) أبد ، في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة
عالية بهية". قالوا : نعم يا رسول الله ، نحن المشمرون لها ، قال :
"قولوا : إن شاء الله". فقال القوم : إن شاء الله. رواه ابن ماجه (5)
وقوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } أي : رضا الله عنهم أكبر
وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم ، كما قال الإمام مالك ، رحمه الله ، عن زيد بن
أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخُدْري ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "إن الله ، عز وجل ، يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ،
فيقولون : لبيك يا ربنا وسعديك ، والخير في يدك. فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما
لنا لا نرضى يا رب ، وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحدا من خلقك. فيقول : ألا أعطيكم
أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني
فلا أسخط عليكم بعده أبدا" أخرجاه من حديث مالك (6)
وقال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي : حدثنا الفضل الرُّخاميّ ، حدثنا
الفِرْياني ، عن سفيان ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله ، عز
وجل : هل تشتهون شيئا فأزيدكم ؟ قالوا : يا ربنا ، ما خير مما أعطيتنا ؟ قال :
رضواني أكبر".
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2527).
(2) أما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، فرواه أيضا الإمام أحمد في مسنده
(2/173) من طريق حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما. وأما حديث أبي مالك الأشعري فهو في المعجم الكبير (3/301) وسيأتي
عند تفسير الآية : 20 من سورة الزمر.
(3) في أ : "وعنه".
(4) في ت : "ومقام به في".
(5) سنن ابن ماجه برقم (4332) من طريق الضحاك المعافري ، عن سليمان بن موسى ، عن
كريب ، عن أسامة بن زيد به. وقال البوصيري في الزوائد (3/325) : "هذا إسناد
فيه مقال".
(6) صحيح البخاري برقم (6549) وصحيح مسلم برقم (2829).
(4/177)
ورواه
البزار في مسنده ، من حديث الثوري (1) وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه
"صفة الجنة" : هذا عندي على شرط الصحيح ، والله أعلم.
__________
(1) ورواه أبو نعيم في صفة الجنة برقم (238) والحاكم في المستدرك (1/82) من طريق
محمد بن يوسف الفريابي به نحوه ، وقال الحاكم : "صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه".
(4/178)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
{
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ
إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ
أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا
لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
}
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، كما
أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين ، وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين
إلى النار في الدار الآخرة. وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال :
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف ، سيف للمشركين : { فَإِذَا
انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [التوبة : 5] وسيف
للكفار أهل الكتاب : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة : 29] وسيف للمنافقين : {
جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } [التوبة : 73 ، التحريم : 9] وسيف للبغاة
: { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } [الحجرات
: 9]
وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف (1) إذا أظهروا النفاق ، وهو اختيار ابن جرير.
وقال ابن مسعود في قوله تعالى : { جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } قال :
بيده ، [فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه] (2) فإن لم يستطع فليكفهر في
وجهه.
وقال ابن عباس : أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان ،
وأذهب الرفق عنهم.
وقال الضحاك : جاهد الكفار بالسيف ، واغلظ على المنافقين بالكلام ، وهو مجاهدتهم.
وعن مقاتل ، والربيع مثله.
وقال الحسن وقتادة : مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم.
وقد يقال : إنه لا منافاة بين هذه الأقوال ، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا ، وتارة بهذا
بحسب الأحوال ، والله أعلم.
وقوله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ
وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } قال قتادة : نزلت في عبد الله بن أبي ، وذلك أنه
اقتتل رجلان : جُهَني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد
__________
(1) في أ : "بالسيف".
(2) زيادة من ت ، ك ، أ ، والطبري.
(4/178)
الله
للأنصار : ألا تنصروا أخاكم ؟ والله (1) ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل :
"سمِّن كلبك يأكلك" ، وقال : { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ } [المنافقون : 8] فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله
فيه هذه الآية (2)
وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمه موسى بن عقبة قال : فحدثنا عبد الله بن
الفضل ، أنه سمع أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، يقول : حزنت على من أصيب بالحرَّة
من قومي ، فكتب إلي زيد بن أرقم ، وبلغه شدة حزني ، يذكر أنه سمع رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : "اللهم ، اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار" - وشك
ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار - قال ابن الفضل : فسأل أنسا بعض من كان عنده عن
زيد بن أرقم ، فقال : هو الذي يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أوفى
الله له بأذنه". وذاك حين سمع رجلا من المنافقين يقول - ورسول الله صلى الله
عليه وسلم يخطب - : لئن كان هذا صادقا فنحن (3) شر من الحمير ، فقال زيد بن أرقم :
فهو والله صادق ، ولأنت شر من الحمار. ثم رُفع ذلك إلى رسول الله ، فجحده القائل ،
فأنزل الله هذه الآية تصديقا لزيد - يعني قوله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا
قَالُوا } الآية.
رواه البخاري في صحيحه ، عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة.
إلى قوله : "هذا الذي أوفى الله له بأذنه" (4) ولعل ما بعده من قول موسى
بن عقبة ، وقد رواه محمد بن فُلَيح ، عن موسى بن عقبة بإسناده ثم قال : قال ابن
شهاب. فذكر ما بعده عن موسى ، عن ابن شهاب.
والمشهور في هذه القصة أنها كانت في غزوة بني المصطلق ، فلعل الراوي وَهَم في ذكر
الآية ، وأراد أن يذكر غيرها فذكرها ، والله أعلم.
[حاشية] (5)
قال "الأموي" في مغازيه : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عبد
الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن جده قال : لما قدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، أخذني قومي فقالوا : إنك امرؤ شاعر ، فإن شئت أن تعتذر إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ببعض العلة ، ثم يكون ذنبا تستغفر الله منه. وذكر الحديث بطوله
، إلى أن قال : وكان ممن تخلف من المنافقين ، ونزل فيه القرآن منهم ، ممن كان مع
النبي صلى الله عليه وسلم : الجُلاس بن سُوَيد بن الصامت ، وكان على أم عُمَير بن
سعد ، وكان عمير في حجره ، فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في
المنافقين ، قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من
الحمير [قال] (6) فسمعها عمير بن سعد فقال : والله - يا جلاس - إنك لأحب
__________
(1) في ت : "فوالله".
(2) رواه الطبري في تفسيره (14/364).
(3) في ك : "لنحن".
(4) صحيح البخاري برقم (4906).
(5) زيادة من ك.
(6) زيادة من ك.
(4/179)
الناس
إلي ، وأحسنهم عندي بلاء ، وأعزهم علي أن يصله (1) شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن
ذكرتها لتفضحنك ولئن كتمتها لتهلكني ، ولإحداهما أهون علي من الأخرى. فمشى إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ما قال الجلاس. فلما بلغ ذلك الجلاس خرج
حتى يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد ، ولقد
كذب علي. فأنزل الله ، عز وجل ، فيه : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا
وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } إلى آخر
الآية. فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت
توبته ، ونزع فأحسن النزوع (2) هكذا جاء هذا "مدرجا" في الحديث متصلا به
، وكأنه والله أعلم من كلام ابن إسحاق نفسه ، لا من كلام كعب بن مالك.
وقال عروة بن الزبير : نزلت هذه الآية في الجلاس بن سويد بن الصامت ، أقبل هو وابن
امرأته مُصعب من قُبَاء ، فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من
حُمُرنا هذه التي نحن عليها. فقال مصعب : أما والله - يا عدو الله - لأخبرن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بما قلت : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وخفت أن ينزل
في القرآن (3) أو تصيبني قارعة ، أو أن أخلط (4) بخطيئته ، فقلت : يا رسول الله ،
أقبلت أنا والجلاس من قباء ، فقال كذا وكذا ، ولولا مخافة أن أخلط (5) بخطيئة أو
تصيبني قارعة ما أخبرتك. قال : فدعا الجلاس فقال : "يا جلاس ، أقلت الذي قاله
مصعب ؟" فحلف ، فأنزل الله : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ
قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ } الآية.
وقال محمد بن إسحاق : كان الذي قال تلك المقالة - فيما بلغني - الجلاس بن سويد بن
الصامت ، فرفعها عليه رجل كان في حجره ، يقال له : عمير بن سعيد ، فأنكرها ، فحلف
بالله ما قالها : فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته ، فيما بلغني.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله
بن رجاء ، حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال : "إنه سيأتيكم إنسان
فينظر إليكم بعيني الشيطان ، فإذا جاء فلا تكلموه". فلم يلبثوا أن طلع رجل
أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "علام تشتمني أنت وأصحابك
؟" فانطلق الرجل فجاء بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، حتى تجاوز عنهم ،
فأنزل (6) الله ، عز وجل : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا } الآية (7)
وذلك بَيِّنٌ فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب "دلائل النبوة"
من حديث محمد بن إسحاق ، عن الأعمش عن عمرو بن مُرة ، عن [أبي] (8) البختري ، عن
حذيفة بن اليمان ، رضي الله
__________
(1) في ك : "يصله إليه".
(2) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/519).
(3) في ك : "قرآنا".
(4) في أ : "أختلط".
(5) في ت ، أ : "أختلط".
(6) في ت ، ك : "وأنزل".
(7) تفسير الطبري (14/363).
(8) زيادة من ت ، أ ، والدلائل.
(4/180)
عنه
، قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به ، وعمار يسوق
الناقة - أو أنا : أسوقه ، وعمار يقوده - حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر
راكبا قد اعترضوه فيها ، قال : فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم [بهم] (1)
فصرخ بهم فولوا مدبرين ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل عرفتم
القوم ؟ قلنا : لا يا رسول الله ، قد كانوا متلثمين ، ولكنا قد عرفنا الركاب. قال
: "هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، وهل تدرون (2) ما أرادوا ؟" قلنا
: لا. قال : "أرادوا أن يزحموا (3) رسول الله في العقبة ، فيلقوه منها".
قلنا : يا رسول الله ، أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟
قال : "لا أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقوم حتى [إذا] (4) أظهره
الله بهم أقبل عليهم يقتلهم" ، ثم قال : "اللهم ارمهم بالدبيلة".
قلنا : يا رسول الله ، وما الدبيلة ؟ قال : "شهاب من نار يقع على نياط قلب
أحدهم فيهلك" (5)
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يزيد ، أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع ،
عن أبي الطفيل قال : لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك ، أمر
مناديا فنادى : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد.
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار ، إذ أقبل رهط متلثمون
على الرواحل فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله ، وأقبل عمار ، رضي الله عنه ، يضرب
وجوه الرواحل ، فقال رسول الله (6) صلى الله عليه وسلم لحذيفة : "قد ،
قد" حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [فلما هبط] (7) نزل ورجع عمار ،
فقال : "يا عمار ، هل عرفت القوم ؟" فقال : قد عرفت عامة الرواحل ،
والقوم متلثمون. قال : "هل تدري ما أرادوا ؟" قال : الله ورسوله أعلم.
قال : "أرادوا أن ينفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فيطرحوه". قال :
فسار عمار رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : نشدتك (8) بالله كم تعلم
كان أصحاب العقبة ؟ قال : أربعة عشر. فقال : إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر. قال
: فعذر (9) رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ثلاثة قالوا : والله ما سمعنا منادي
رسول الله ، وما علمنا ما أراد القوم. فقال عمار : أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب
لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (10)
وهكذا روى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عُرْوَة بن الزبير نحو هذا ، وأن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي ، وصعد هو وحذيفة وعمار
العقبة ، فتبعهم هؤلاء النفر الأرذلون ، وهم متلثمون ، فأرادوا سلوك العقبة ،
فأطلع الله على مرادهم رسول الله (11) صلى الله عليه وسلم ، فأمر حذيفة فرجع
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والدلائل.
(2) في أ : "ترون".
(3) في ك : "يزاحموا".
(4) زيادة من ت ، ك ، أ ، والدلائل.
(5) دلائل النبوة (5/260).
(6) في ت ، ك : "النبي".
(7) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(8) في أ : "أنشدك".
(9) في أ : "فعد".
(10) المسند (5/453) وقال الهيثمي في المجمع (6/195) : "رجاله رجال
الصحيح".
(11) في ت ، ك ، أ : "رسوله".
(4/181)
إليهم
، فضرب وجوه رواحلهم ، ففزعوا ورجعوا مقبوحين ، وأعلم رسول الله صلى الله عليه
وسلم حذيفة وعمارا بأسمائهم ، وما كانوا هموا به من الفتك (1) به ، صلوات الله
وسلامه عليه ، وأمرهما أن يكتما عليهم (2)
وكذلك روى يونس بن بُكَير ، عن ابن إسحاق ، إلا أنه سَمّى جماعة منهم ، فالله أعلم
(3)
وكذا قد حكي (4) في معجم الطبراني ، قاله البيهقي. ويشهد لهذه القصة بالصحة ، ما
رواه مسلم :
حدثنا زهير بن حرب ، حدثنا أبو أحمد الكوفي ، حدثنا الوليد بن جُمَيع ، حدثنا أبو
الطفيل قال : كان [بين] (5) رجل من أهل العقبة [وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس
، فقال : أنشدك بالله ، كم كان أصحاب العقبة] (6) قال : فقال له القوم : أخبره إذ
سألك. قال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم (7) خمسة عشر ،
وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد
، وعذر ثلاثة قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا علمنا
بما أراد القوم. وقد كان في حرة فمشى ، فقال : "إن الماء قليل ، فلا يسبقني
إليه أحد" ، فوجد قوما قد سبقوه ، فلعنهم (8) يومئذ (9)
وما رواه مسلم أيضا ، من حديث قتادة ، عن أبي نَضْرة ، عن قيس بن عباد ، عن عمار
بن ياسر قال : أخبرني حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "في
أصحابي اثنا عشر منافقا ، لا يدخلون الجنة ، ولا يجدون ريحها حتى يلج [الجمل] (10)
في سم الخياط : ثمانية تكفيكهم الدُّبَيْلة : سراج من نار يظهر بين أكتافه حتى
ينجم من صدورهم" (11)
ولهذا كان حذيفة يقال له : "صاحب السر ، الذي لا يعلمه غيره" أي : من
تعيين جماعة من المنافقين ، وهم هؤلاء ، قد أطلعه عليهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم دون غيره ، والله أعلم. وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة
، ثم روى عن علي بن عبد العزيز ، عن الزبير بن بكار أنه قال : هم مُعَتِّب بن قشير
، ووديعة بن ثابت ، وجد بن عبد الله بن نَبْتَل بن الحارث من بني عمرو بن عوف ،
والحارث بن يزيد الطائي ، وأوس بن قَيْظِي ، والحارث بن سُوَيْد ،
__________
(1) في ت : "القتل".
(2) رواه البيهقي في دلائل النبوة (5/256).
(3) دلائل النبوة للبيهقي (5/257).
(4) في ت ، أ : "وقع".
(5) زيادة من ت ، ك ، أ ، ومسلم.
(6) زيادة من ت ، ك ، أ ، ومسلم.
(7) في ك : "فقد كانوا".
(8) في أ : "فلعنوه".
(9) صحيح مسلم برقم (2779).
(10) زيادة من ت ، ك ، أ ، ومسلم.
(11) صحيح مسلم برقم (2779).
(4/182)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
وسعد
بن زرارة (1) وقيس بن فهد ، وسويد وداعس من بني الحبلي ، وقيس بن عمرو بن سهل ،
وزيد بن اللصيت ، وسلالة بن الحمام ، وهما من بني قينقاع أظهرا الإسلام (2)
وقوله : { وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ
فَضْلِهِ } أي : وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سفارته ،
ولو تمت عليهم السعادة لهداهم الله لما جاء به ، كما قال ، عليه السلام (3)
للأنصار : "ألم أجدكم ضُلالا فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي
؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟" كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمن.
وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب كما قال تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ
يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج : 8] وكما قال ، عليه
السلام (4) ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله".
ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال : { فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا
لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي
الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : وإن يستمروا على طريقهم { يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ
عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا } أي : بالقتل والهم والغم ، { والآخرة } أي :
بالعذاب والنكال والهوان والصغار ، { وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
نَصِيرٍ } أي : وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم ، ولا يحصل لهم خيرا ، ولا يدفع
عنهم شرا.
{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا
بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي
قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ
وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ
سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ (78) }
يقول تعالى : ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه : لئن أغناه من فضله ليصدقن
من ماله ، وليكونن من الصالحين. فما وفى بما قال ، ولا صدق فيما ادعى ، فأعقبهم
هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون (5) الله ، عز وجل ، يوم القيامة ،
عياذا بالله من ذلك.
وقد ذكر كثير من المفسرين ، منهم ابن عباس ، والحسن البصري : أن سبب نزول هذه
الآية الكريمة في "ثعلبة بن حاطب الأنصاري".
وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير هاهنا وابن أبي حاتم ، من حديث مُعان (6) بن
رِفَاعة ، عن علي بن يزيد ، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن ، مولى عبد
الرحمن بن يزيد بن معاوية ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ،
أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يرزقني
__________
(1) في ك : "وابرة".
(2) المعجم الكبير (3/165 - 167).
(3) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(4) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(5) في ت ، ك ، أ ، هـ : "إلى يوم يلقوا" وهو خطأ ، والصواب : في جميع
النسخ : "يلقوا" والصواب ما أثبتناه "إلى يوم يلقون" ؛ لأن
الفعل المضارع لم يسبق بناصب ولا بجازم.
(6) في ت : "معاذ".
(4/183)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
مالا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من
كثير لا تطيقه". قال : ثم قال مرة أخرى ، فقال : "أما ترضى أن تكون مثل
نبي الله ، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت".
قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم ارزق ثعلبة مالا". قال : فاتخذ غنما ،
فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها ،
حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكَثُرت ، فتنحى
حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود ، حتى ترك الجمعة. فطفق
يتلقى الركبان (1) يوم الجمعة ، يسألهم عن الأخبار ، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "ما فعل ثعلبة" ؟ فقالوا : يا رسول الله ، اتخذ غنما فضاقت عليه
المدينة. فأخبروه بأمره فقال : "يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة ، يا ويح
ثعلبة". وأنزل الله جل ثناؤه : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } الآية [التوبة : 103] قال : ونزلت عليه
فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة : رجلا من
جُهَيْنَة ، ورجلا من سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين ، وقال لهما
: "مُرا بثعلبة ، وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما". فخرجا حتى
أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال :
ما هذه إلا جزية. ما هذه إلا أخت الجزية. ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرُغا ثم
عُودا إلي. فانطلقا وسمع بهما السلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله ، فعزلها للصدقة
، ثم استقبلهما (2) بها فلما رأوها قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ
هذا منك. قال : بلى ، فخذوها ، فإن نفسي بذلك طيبة ، وإنما هي له. فأخذوها منه.
فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مَرَّا بثعلبة ، فقال : أروني كتابكما فنظر فيه ،
فقال : ما هذه إلا أخت الجزية. انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي (3)
صلى الله عليه وسلم ، فلما رآهما قال : "يا ويح ثعلبة" قبل أن يكلمهما ،
ودعا للسلمي بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي ، فأنزل الله ،
عز وجل : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ } إلى قوله : { وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } قال : وعند رسول
الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة ، فسمع ذلك ، فخرج حتى أتاه فقال :
ويحك يا ثعلبة. قد أنزل الله فيك كذا وكذا. فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله
عليه وسلم ، فسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : "إن الله منعني أن أقبل منك
صدقتك". فجعل يحثو على رأسه التراب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"[هذا] (4) عملك ، قد أمرتك فلم تطعني". فلما أبى أن يقبض رسول الله صلى
الله عليه وسلم رجع إلى منزله ، فقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه
شيئا. ثم أتى أبا بكر ، رضي الله عنه ، حين استخلف ، فقال : قد علمت منزلتي من
رسول الله ، وموضعي من الأنصار ، فاقبل صدقتي. فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى أن يقبلها ، فقبض أبو بكر ولم يقبلها. فلما وَلِي
عمر ، رضي الله عنه ، أتاه فقال : يا أمير المؤمنين ، اقبل صدقتي. فقال : لم
يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ، وأنا (5) أقبلها منك! فقبض ولم
يقبلها ؛ ثم ولي عثمان ، رضي الله عنه ، [فأتاه] (6) فسأله أن يقبل صدقته ، فقال :
لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ، وأنا أقبلها منك!
فلم يقبلها منه ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان (7)
وقوله تعالى : { بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ } أي : أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم ، كما جاء
في الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "آية المنافق ثلاث :
إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان" (8) وله شواهد كثيرة ، والله
أعلم.
وقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ
وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ } يخبرهم تعالى أنه يعلم السر وأخفى ، وأنه
أعلم بضمائرهم وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها وشكروا عليها ، فإنه
أعلم بهم من أنفسهم ؛ لأنه تعالى علام الغيوب ، أي : يعلم كل غيب وشهادة ، وكل سر
ونجوى ، ويعلم ما ظهر وما بطن.
{ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ
وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ
مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) }
وهذه أيضا من صفات المنافقين : لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، حتى
ولا المتصدقون يسلمون منهم ، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا : هذا مراء ، وإن
جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا. كما قال البخاري :
حدثنا عبيد الله بن سعيد ، حدثنا أبو النعمان البصري ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ،
عن أبي وائل ، عن أبي مسعود قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نتحامل على ظهورنا ،
فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مرائى. وجاء رجل فتصدق بصاع ، فقالوا : إن
الله لغني عن صدقة هذا. فنزلت { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ }
الآية.
وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه ، من حديث شعبة به (9)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا الجريري ، عن أبي السليل قال : وقف علينا
رجل في
__________
(1) في ت ، أ : "الركاب".
(2) في ت ، ك ، أ : "استقبلهم".
(3) في ت : "رسول الله".
(4) زيادة من ت ، ك ، أ ، والطبري.
(5) في ت ، ك : "فأنا".
(6) زيادة من ت ، ك ، أ ، والطبري.
(7) تفسير الطبري (14/370) وقد أنكر العلماء هذه القصة وقالوا ببطلانها ، فممن قال
بذلك الإمام ابن حزم ، قال في المحلى (11/207 ، 208) : "على أنه قد روينا
أثرا لا يصح وأنها نزلت في ثعلبة بن حاطب ، وهذا باطل ؛ لأن ثعلبة بدري معروف ، ثم
ساق الحديث بإسناده من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن
عن أبي أمامة وقال : "وهذا باطل لا شك ؛ لأن الله أمر بقبض زكوات أموال
المسلمين ، وأمر عليه السلام عند موته ألا يبقى في جزيرة العرب دينان فلا يخلو
ثعلبة من أن يكون مسلما ففرض على أبي بكر وعمر قبض زكاته ولا بد ولا فسحة في ذلك ،
وإن كان كافرا ففرض ألا يبقى في جزيرة العرب فسقط هذا الأثر بلا شك ، وفي رواته
معان بن رفاعة ، والقاسم بن عبد الرحمن وعلي بن يزيد - هو ابن عبد الملك - وكلهم
ضعفاء. وللفاضل عداب الحمش رسالة في نقد هذه القصة جمع فيها أقوال أهل العلم فيها
سماها "ثعلبة بن حاطب الصحابي المفترى عليه".
(8) صحيح البخاري برقم (33) وصحيح مسلم برقم (59) من حديث أبي هريرة ، رضي الله
عنه.
(9) صحيح البخاري برقم(1415) وصحيح مسلم برقم (1018).
(4/184)
مجلسنا
بالبقيع فقال : حدثني أبي - أو : عمي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالبقيع ، وهو يقول : "من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة" ؟ قال :
فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين ، وأنا أريد أن أتصدق بهما ، فأدركني ما يدرك ابن
آدم ، فعقدت على عمامتي. فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد سوادا [ولا] (1) أصغر
منه ، ولا أدمَّ ببعير (2) ساقه ، لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها ، فقال : يا رسول
الله ، أصدقة ؟ قال : "نعم" فقال : دونك هذه الناقة. قال : فلمزه رجل
فقال : هذا يتصدق بهذه فوالله لهي خير منه. قال : فسمعها رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال : "كذبت بل هو خير منك ومنها" ثلاث مرات ، ثم قال : "ويل
لأصحاب المئين من الإبل" ثلاثا. قالوا : إلا من يا رسول الله ؟ قال :
"إلا من قال بالمال هكذا وهكذا" ، وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ،
ثم قال : "قد أفلح المزهد المجهد" ثلاثا : المزهد في العيش ، المجهد في
العبادة (3)
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، وقال : جاء عبد الرحمن بن عوف
بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل من الأنصار بصاع
من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء.
وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا الصاع (4)
وقال العوفي ، عن ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يوما
فنادى فيهم : أن اجمعوا صدقاتكم. فجمع الناس صدقاتهم ، ثم جاء رجل من آخرهم بصاع
من تمر ، فقال : يا رسول الله ، هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء ، حتى
نلت صاعين من تمر ، فأمسكت أحدهما ، وأتيتك بالآخر. فأمره رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن ينثره في الصدقات. فسخر منه رجال ، وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن
هذا. وما يصنعان (5) بصاعك من شيء. ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله صلى
الله عليه وسلم : هل بقي أحد من أهل الصدقات ؟ فقال "لا" (6) فقال له
عبد الرحمن بن عوف : فإن عندي مائة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب
، رضي الله عنه : أمجنون أنت ؟ قال : ليس بي جنون. قال : فعلت (7) ما فعلت ؟ قال :
نعم ، مالي ثمانية آلاف ، أما أربعة آلاف فأقرضها ربي ، وأما أربعة آلاف فلي. فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما
أعطيت". ولمزه المنافقون فقالوا : والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء.
وهم كاذبون ، إنما كان به متطوعا ، فأنزل الله ، عز وجل ، عذره وعذر صاحبه المسكين
الذي جاء بالصاع من التمر ، فقال تعالى في كتابه : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ
الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } الآية.
وكذا روي عن مجاهد ، وغير واحد.
وقال ابن إسحاق : كان المطوعون من المؤمنين في الصدقات : عبد الرحمن بن عوف ، تصدق
__________
(1) زيادة من أ ، والمسند.
(2) في ت ، ك ، أ : "بعير".
(3) المسند (5/34).
(4) رواه الطبري في تفسيرة (14/382).
(5) في ت ، ك ، أ : "يصنعون".
(6) في ت ، ك : "لا لم يبق أحد غيرك".
(7) في ت ، أ : "فقال أفعلت".
(4/186)
بأربعة
آلاف درهم ، وعاصم بن عدي أخا بني العجلان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
رغب في الصدقات ، وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام
عاصم فتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء. وكان الذي تصدق
بجهده : أبو عقيل أخو بني أنيف الإراشي حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر
فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عَقيل.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عمر
(1) بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثا". قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال
: يا رسول الله ، عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما ربي ، وألفين لعيالي. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "بارك الله لك فيما أعطيت (2) وبارك لك فيما
أمسكت". وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال : يا رسول الله ،
أصبت صاعين من تمر : صاع أقرضه (3) لربي ، وصاع لعيالي. قال : فلمزه المنافقون
وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء! وقالوا : ألم يكن الله ورسوله غنيين
عن صاع هذا ؟ فأنزل الله : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ [سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ] } (4) الآية (5)
ثم رواه عن أبي كامل ، عن أبي عوانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه مرسلا (6) قال
: ولم يسنده أحد إلا طالوت.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، عن موسى
بن عبيدة ، حدثني خالد بن يسار ، عن ابن أبي عقيل ، عن أبيه قال : بت أجر الجرير
على ظهري ، على صاعين من تمر ، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به ، وجئت بالآخر
أتقرب [به] (7) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخبرته ، فقال : "انثره في الصدقة". قال : فسخر القوم وقالوا :
لقد كان الله غنيا عن صدقة هذا المسكين. فأنزل الله : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ
الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } الآيتين (8)
__________
(1) في أ : "عمرو".
(2) في ك : "أعطيته".
(3) في ت : "أقرضته".
(4) زيادة من ت ، ك ، أ.
(5) مسند البزار برقم (2216) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(7/32) : "وفيه عمرو بن أبي سلمة ، وثقه العجلي ، وأبو خيثمة وابن حبان وضعفه
شعبة وغيره ، وبقية رجالهما ثقات".
(6) مسند البزار برقم (2216) "كشف الأستار" قال الحافظ ابن حجر في الفتح
(8/332) بعد أن ساق هذه الرواية المرسلة : "وكذلك أخرجه عبد بن حميد عن يونس
بن محمد عن أبي عوانة ، وأخرجه ابن أبي حاتم والطبري وابن مردويه من طرق أخرى عن
أبي عوانة مرسلا".
(7) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(8) تفسير الطبري (14/388).
(4/187)
وكذا
رواه الطبراني من حديث زيد بن الحباب (1) به. وقال : اسم أبي عقيل : حباب. ويقال :
عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة.
وقوله : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } وهذا من باب المقابلة
على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، فعاملهم معاملة
من سخر بهم ، انتصارا للمؤمنين في الدنيا ، وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا أليما.
__________
(1) المعجم الكبير (4/45) وقد وقع فيه : "عن زيد بن الحباب عن خالد بن
يسار" فأسقط موسى بن عبيدة في رواية ؛ ولذا قال الهيثمي في المجمع (7/33) :
"رجاله ثقات إلا أن خالد بن يسار لم أجد من وثقه ولا جرحه" لكن الزيلعي
في تخريج الكشاف (2/88) عزاه للطبراني في معجمه من طريق موسى بن عبيدة عن خالد بن
يسار ، فلعله سقط من نسخ الطبراني أو توهم فيه الزيلعي. تنبيه : كذا وقع هنا وعند
الطبراني : "اسم أبي عقيل حباب" ، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة
(1/389) : "كذا وقع عند الطبراني ، والصواب حبحاب".
(4/188)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
{
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) }
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار ،
وأنه لو استغفر لهم ، ولو سبعين مرة فإن الله لا يغفر لهم.
وقد قيل : إن السبعين إنما ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم ؛ لأن العرب في أساليب
كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها ، ولا تريد التحديد بها ، ولا أن يكون ما
زاد عليها بخلافها.
وقيل : بل لها مفهوم ، كما روى العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لما نزلت هذه الآية : "أسمع ربي قد رخص لي فيهم ، فوالله لأستغفرن
أكثر من سبعين مرة ، لعل الله أن يغفر لهم! فقال الله من شدة غضبه عليهم : {
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
[المنافقون : 6]
وقال الشعبي : لما ثَقُل عبد الله بن أبي ، انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فقال : إن أبي قد احتضر ، فأحب أن تشهده وتصلي عليه. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : "ما اسمك". قال الحباب بن عبد الله. قال : "بل أنت عبد
الله بن عبد الله ، إن الحباب اسم شيطان". قال : فانطلق معه حتى شهده وألبسه
قميصه وهو عرق ، وصلى عليه ، فقيل له : أتصلي عليه [وهو منافق] (1) ؟ قال :
"إن الله قال : { إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } ولأستغفرن له
سبعين وسبعين وسبعين".
وكذا روي عن عُرْوَة بن الزبير ومجاهد بن جُبَير ، وقتادة بن دِعَامة. رواها ابن
جرير بأسانيده.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(4/188)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ
يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا
تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا
يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) }
يقول تعالى ذَامّا للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في
غزوة تبوك ، وفرحوا بمقعدهم (1) بعد خروجه ، { وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا } معه
{ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا } أي : بعضهم
لبعض : { لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ } ؛ وذلك أن الخروج في (2) غزوة تبوك كان في
شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، فلهذا قالوا (3) { لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ
} قال الله تعالى لرسوله : { قل } لهم : { نَارُ جَهَنَّمَ } التي تصيرون إليها
بسبب مخالفتكم { أَشَدُّ حَرًّا } مما فررتم منه من الحر ، بل أشد حرا من النار ،
كما قال الإمام مالك ، عن أبي الزِّناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : "نار بني آدم التي يوقدون بها جزءٌ من سبعين جزءًا
[من نار جهنم" فقالوا : يا رسول الله ، إن كانت لكافية. قال (4) إنها فضلت
عليها بتسعة وستين جزءا] (5) أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ، به (6)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن
النبي (7) صلى الله عليه وسلم قال : "إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار
جهنم ، وضربت بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل [الله] (8) فيها منفعة لأحد"
(9) وهذا أيضا إسناده صحيح (10)
وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي وابن ماجه ، عن عباس الدوري ، عن يحيى بن أبي
بكير (11) عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أوقد على النار ألف سنة حتى احمرَّت ، ثم
أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضَّت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت ، فهي سوداء
كالليل المظلم". ثم قال الترمذي : لا أعلم أحدا رفعه غير يحيى (12)
كذا قال. وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن إبراهيم بن محمد ، عن محمد بن
الحسين بن
__________
(1) في ت ، أ : "بقعودهم".
(2) في ت ، أ : "إلى".
(3) في ك : "قال".
(4) في ت ، ك ، أ : "فقال".
(5) زيادة من ت ، ك ، أ ، والموطأ.
(6) الموطأ (2/994) وصحيح البخاري برقم (3265) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2843) من
طريق المغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد به.
(7) في ك : "أن رسول الله".
(8) زيادة من ت ، ك ، أ ، . والمسند.
(9) المسند (2/244).
(10) في ت ، أ : "إسناد جيد صحيح".
(11) في أ : "بكر".
(12) سنن الترمذي برقم (2591) وسنن ابن ماجه برقم (4320) وقال الترمذي :
"حديث أبي هريرة في هذا موقوف أصح ، ولا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن أبي بكير
عن شريك".
(4/189)
مكرم
، عن عبيد الله بن سعد (1) عن عمه ، عن شريك - وهو ابن عبد الله النخعي - به. وروى
أيضا ابن مردويه من رواية مبارك بن فضالة ، عن ثابت ، عن أنس قال : تلا رسول الله
صلى الله عليه وسلم : { نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم :
6] قال : "أُوقد عليها ألف عام حتى ابيضت ، وألف عام حتى احمرت ، وألف عام حتى
اسودت ، فهي سوداء كالليل ، لا يضيء لهبها" (2)
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نَجِيح - وقد اختلف فيه - عن
الحسن ، عن أنس مرفوعا : "لو أن شرارة بالمشرق - أي من نار جهنم - لوجد حرها
مَنْ بالمغرب" (3)
وروى الحافظ أبو يعلى عن إسحاق بن أبي إسرائيل ، عن أبي عبيدة الحداد ، عن هشام بن
حسان (4) عن محمد بن شبيب ، عن جعفر بن أبي وحشية ، عن سعيد بن جُبَير ، عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كان هذا المسجد مائة ألف
أو يزيدون ، وفيهم رجل من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه ، لاحترق المسجد ومن
فيه" (5) غريب.
وقال الأعمش عن أبي إسحاق ، عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشِرَاكان من نار
، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أحدا من أهل النار أشدُّ عذابا منه ،
وإنه أهونهم عذابا". أخرجاه في الصحيحين ، من حديث الأعمش (6)
وقال مسلم أيضا : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر (7)
حدثنا زهير بن محمد ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن النعمان بن أبي عياش (8) عن أبي
سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أدنى أهل النار
عذابا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار ، يغلي دماغه من حرارة نعليه" (9)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن ابن عجلان ، سمعت أبي ، عن أبي هريرة ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن أدنى أهل النار عذابا رجل يجعل له نعلان
يغلي منهما دماغه" (10)
وهذا إسناد جيد قوي ، رجاله على شرط مسلم ، والله أعلم.
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "سعيد".
(2) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (799) من طريق سهل بن حماد عن مبارك بن
فضالة به نحوه.
(3) المعجم الأوسط برقم (4841) "مجمع البحرين" وأشار الحافظ هنا إلى
الاختلاف في حال تمام بن نجيح ، قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/362) :
"في إسناده احتمال للتحسين".
(4) في جميع النسخ : "حسام" والتصويب من أبي يعلى.
(5) مسند أبي يعلى (12/22) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/307) من طريق إسحاق بن أبي
إسرائيل به ، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (4/363) : "إسناده حسن ، وفي
متنه نكارة".
(6) صحيح البخاري برقم (6562) وصحيح مسلم برقم (+213).
(7) في أ : "بكر".
(8) في أ : "عباس".
(9) صحيح مسلم برقم (211).
(10) المسند (2/438).
(4/190)
والأحاديث
والآثار النبوية في هذا كثيرة ، وقال الله تعالى في كتابه العزيز : { كَلا
إِنَّهَا لَظَى نزاعَةً لِلشَّوَى } [المعارج : 15 ، 16] وقال تعالى : { يُصَبُّ
مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ
وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا
مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [الحج : 19 -
22] وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ
نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا
لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } [النساء : 56]
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة [الأخرى] (1) { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ
حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي : لو أنهم يفقهون ويفهمون لنفروا مع الرسول
في سبيل الله في الحر ، ليتقوا به حَرَّ جهنم ، الذي هو أضعاف أضعاف هذا ، ولكنهم
كما قال الآخر (2)
كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال الآخر :
عُمرُكَ بالحميَة أفْنَيْتَه... مَخَافَةَ البارد والحَار...
وَكانَ أولَى بك أنْ تَتقي... مِنَ المعَاصِي حَذرَ النَّار...
ثم قال [الله] (3) تعالى جل جلاله ، متوعدا لهؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا : {
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
}
قال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الدنيا قليل ، فليضحكوا فيها ما شاءوا ، فإذا
انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله ، عز وجل ، استأنفوا بكاء لا ينقطع أبدا. وكذا قال
أبو رَزِين ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن خُثَيم ، وعون العقيلي (4) وزيد بن
أسلم.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش ، حدثنا
محمد بن حميد (5) عن ابن المبارك ، عن عمران بن زيد ، حدثنا يزيد الرَّقاشي ، عن
أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يا أيها الناس
، ابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم
كأنها جداول ، حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون. فلو أن سُفُنًا
أُزْجِيَتْ فيها لَجرَت".
ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش ، عن يزيد الرقاشي ، به (6)
__________
(1) زيادة من ت ، ك ، أ.
(2) وصدر البيت : والمستجير بعمرو عند كربته وذكره داود الأنطاكي في مصارع العشاق
(ص 219).
(3) زيادة من ت ، ك ، أ.
(4) في أ : "الفضلي".
(5) في جميع النسخ : "محمد بن جبير" والتصويب من أبي يعلى.
(6) مسند أبي يعلى (7/161 - 162) وسنن ابن ماجه برقم (4324) وقال البوصيري في
الزوائد (3/323) : "هذا إسناد فيه يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف".
(4/191)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
وقال
الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا : حدثنا محمد بن العباس ، حدثنا
حماد الجزري ، عن زيد بن رُفَيْع ، رفعه قال : "إن أهل النار إذا دخلوا النار
بكوا الدموع زمانا ، ثم بكوا القيح زمانا" قال : "فتقول لهم الخَزَنَة :
يا معشر الأشقياء ، تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا ، هل
تجدون اليوم من تستغيثون به ؟ قال : فيرفعون (1) أصواتهم : يا أهل الجنة ، يا معشر
الآباء والأمهات والأولاد ، خرجنا من القبور عطاشا ، وكنا طول الموقف عطاشا ، ونحن
اليوم عطاش ، فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، فيدعون أربعين سنة لا
يجيبهم ، ثم يجيبهم : { إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [الزخرف : 77] فييأسون من كل
خير" (2)
{ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ
فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا
إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ
(83) }
يقول تعالى آمرا لرسوله عليه الصلاة والسلام (3) { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ } أي :
ردك الله من غَزْوَتك هذه { إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ } قال قتادة : ذكر لنا أنهم
كانوا اثني عشر رجلا { فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ } أي : معك إلى غزوة أخرى ، {
فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا } أي :
تعزيرا لهم وعقوبة. ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ } وهذا كقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا
لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام : 110] فإن من جزاء السيئة
السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، كما قال في عُمرة الحديبية : {
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا
ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ
تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } [الفتح : 15]
وقوله تعالى : { فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } قال ابن عباس : أي الرجال الذين
تخلفوا عن الغزاة. وقال قتادة : { فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ } أي : مع
النساء.
قال ابن جرير : وهذا لا يستقيم ؛ لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون ، ولو أريد
النساء لقال : فاقعدوا مع الخوالف ، أو الخالفات ، ورجح قول ابن عباس رضي الله
عنهما (4) (5)
{ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ
إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) }
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يَبْرَأ من المنافقين ، وألا يصلي (6)
على أحد منهم إذا مات ، وألا
__________
(1) في ت : "فيرفعوا".
(2) صفة النار (ق 152 ظاهرية) وله شواهد من حديث أبي موسى الأشعري وأبي سعيد
الخدري ، رضي الله عنهما.
(3) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(4) في ت ، ك ، أ : "عنه"
(5) تفسير الطبري (14/405).
(6) في ت ، أ : "ونهاه أن يصلي".
(4/192)
يقوم
على قبره ليستغفر له أو يدعو له ؛ لأنهم كفروا بالله ورسوله ، وماتوا عليه. وهذا
حكم عام في كل من عرف نفاقه ، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أُبَيّ بن
سلول رأس المنافقين ، كما قال البخاري :
حدثنا عُبَيد بن إسماعيل ، عن أبي أسامة ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر
قال : لما توفي عبد الله - هو ابن أبي - جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يعطيه قميصه يُكَفِّن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم
سأله أن يصلي عليه ، فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر
فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، تصلي عليه وقد نهاك
ربك أن تصلي عليه ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما خيرني الله
فقال : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } وسأزيده على السبعين".
قال : إنه منافق! قال : فصلى عليه [رسولُ الله صلى الله عليه وسلم] (1) فأنزل الله
، عز وجل ، آية : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ
عَلَى قَبْرِهِ }
وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن أبي أسامة حماد بن أسامة ، به (2)
ثم رواه البخاري عن إبراهيم بن المنذر ، عن أنس بن عياض ، عن عبيد الله - وهو ابن
عمر - العمري - به وقال : فصلى عليه ، وصلينا معه ، وأنزل الله : { وَلا تُصَلِّ
عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } الآية.
وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن عبيد الله ، به (3)
وقد رُوي من حديث عمرَ بن الخطاب نفسه أيضا بنحو من هذا ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني الزهري ، عن عبيد الله بن عبد
الله ، عن ابن عباس قال : سمعت عمرَ بن الخطاب ، رضي الله عنه. يقول لما تُوفي عبد
الله بن [أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه ، فقام إليه ، فلما
وقف عليه يريد الصلاة تحولتُ حتى قمت في صدره ، فقلت : يا رسول الله ، أعلى
عَدُوِّ الله عبد الله بن] (4) أبي القائل يوم كذا : كذا وكذا - يُعَدِّد أيامه -
قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال :
"أخِّر عني يا عمر ، إني خُيِّرت فاخترتُ ، قد قيل لي : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة : 80] لو أعلم أنى إن زدت على السبعين غُفر له
لزدت". قال : ثم صلى عليه ، ومشى معه ، وقام على قبره حتى فُرغ منه - قال :
فَعَجَبٌ لي وجراءتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم! قال :
فوالله ما كان إلا يسيرًا حتى نزلت هاتان الآيتان : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ }
__________
(1) زيادة من ت ، ك ، أ ، والبخاري.
(2) صحيح البخاري برقم (4670) وصحيح مسلم برقم (2774).
(3) صحيح البخاري برقم (4672) والمسند (2/18).
(4) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(4/193)
فما
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ، ولا قام على قبره ، حتى قبضه
الله ، عز وجل.
وهكذا رواه الترمذي في "التفسير" من حديث محمد بن إسحاق ، عن الزهري ،
به (1) وقال : حسن صحيح. ورواه البخاري عن يحيى بن بُكَير ، عن الليث ، عن عُقَيل
، عن الزهري ، به ، فذكر مثله وقال : "أخّر عني يا عمر". فلما أكثرت
عليه قال : "إنِّي خُيِّرت فاخترتُ ، ولو أعلم أنى إن زدت على السبعين يُغْفَر
(2) له لزدت عليها". قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف
، فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } الآية ، فعجبتُ بعد من
جُرْأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم.
(3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عُبَيد ، حدثنا عبد الملك ، عن أبي الزبير ،
عن جابر قال : لما مات عبد الله بن أبيّ ، أتى ابنه النبيّ صلى الله عليه وسلم
فقال : يا رسول الله ، إنك إن لم تأته لم نزل نُعَيَّر بهذا. فأتاه النبي صلى الله
عليه وسلم ، فوجده قد أدخل في حفرته ، فقال : أفلا قبل أن تدخلوه! فَأخرجَ من
حُفرته ، وتَفَل عليه من قرنه إلى قدمه ، وألبسه قميصه.
ورواه النسائي ، عن أبي داود الحراني ، عن يعلى بن عبيد ، عن عبد الملك - وهو ابن
أبي سليمان به (4)
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن عثمان ، أخبرنا ابن عُيَينة ، عن عمرو ، سمع
جابر بن عبد الله قال : أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ بعد ما
أدخل في قبره ، فأمر به فأخرج ، ووضع على ركبتيه ، ونفث عليه من ريقه ، وألبسه
قميصه ، والله أعلم (5)
وقد رواه أيضا في غير موضع مع مسلم والنسائي ، من غير وجه ، عن سفيان بن عيينة ،
به (6)
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا عمرو بن
علي ، حدثنا يحيى ، حدثنا مجالد ، حدثنا عامر ، حدثنا جابر(ح) وحدثنا يوسف بن موسى
، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدوسي ، حدثنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال :
لما مات رأس المنافقين - قال يحيى بن سعيد : بالمدينة - فأوصى أن يصلي عليه النبي
(7) صلى الله عليه وسلم ، فجاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
__________
(1) المسند (1/16) وسنن الترمذي برقم (3097).
(2) في ك : "لغفر".
(3) صحيح البخاري برقم (4671).
(4) المسند (3/371) والنسائي في السنن الكبرى برقم (9665).
(5) صحيح البخاري برقم (5795).
(6) صحيح البخاري برقم (1270 ، 1350 ، 3008) وصحيح مسلم برقم (2773) وسنن النسائي
(4/37 ، 38).
(7) في ت : "رسول الله".
(4/194)
إن
أبي أوصى أن يكفن في قميصك - وهذا الكلام في حديث عبد الرحمن بن مغراء - قال يحيى
في حديثه : فصلى عليه ، وألبسه قميصه ، فأنزل الله تعالى : { وَلا تُصَلِّ عَلَى
أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } وزاد عبد الرحمن :
وخلع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه ، فأعطاه إياه ، ومشى فصلى عليه ، وقام على
قبره ، فأتاه جبريل ، عليه السلام ، لما ولى قال : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ
مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } (1) وهذا إسناد لا بأس به ،
وما قبله شاهد له.
وقال الإمام أبو جعفر الطبري : حدثنا [أحمد بن إسحاق ، حدثنا] (2) أبو أحمد ،
حدثنا حماد بن سلمة ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أراد أن يصلي على عبد الله بن أبيّ ، فأخذ جبريل بثوبه وقال : { وَلا تُصَلِّ
عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ }
ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده ، من حديث يزيد الرقاشي (3) وهو ضعيف.
وقال قتادة : أرسل عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ،
فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أهلكك حبّ يهود". قال
: يا رسول الله ، إنما أرسلتُ إليك لتستغفر لي ، ولم أرسل إليك لتؤنبني! ثم سأله
عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفن فيه أباه ، فأعطاه إياه ، وصلى عليه ، وقام على
قبره ، فأنزل الله ، عز وجل : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا
وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ }
وقد ذكر بعض السلف أنه إنما ألبسه قميصه ؛ لأن عبد الله بن أُبيّ لما قدم العباس
طُلب له قميص ، فلم يُوجَد على تفصيله إلا ثوب عبد الله بن أُبيّ ؛ لأنه كان ضخمًا
طويلا ففعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مكافأة له ، فالله أعلم ، ولهذا
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة عليه لا يصلي على
أحد من المنافقين ، ولا يقوم على قبره ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي لجنازة سأل عنها ، فإن أثني عليها خيرًا
قام فصلى عليها ، وإن أثني عليها غير ذلك قال لأهلها : "شأنكم بها" ،
ولم يصل عليها (4)
وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جُهِل حاله ، حتى يصلي عليها حذيفة بن
اليمان ؛ لأنه كان يعلم أعيان منافقين قد أخبره (5) بهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؛ ولهذا كان يقال له : "صاحب السر" الذي لا يعلمه غيره أي من
الصحابة.
__________
(1) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (1524) من طريق يحيى بن سعيد عن مجالد به نحوه.
(2) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(3) تفسير الطبري (14/407) ومسند أبي يعلى (7/145).
(4) المسند (5/299).
(5) في أ : "أعلمه".
(4/195)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
وقال
أبو عُبَيد في كتاب "الغريب" ، في حديث عُمَر أنه أراد أن يصلي على
جنازة رجل ، فَمرَزَه حُذيفة ، كأنه أراد أن يَصُده عن الصلاة عليها ، ثم حكي عن
بعضهم أن "المرز" بلغة أهل اليمامة هو : القَرْص بأطراف الأصابع.
ولما نهى الله ، عز وجل ، عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار
لهم ، كان هذا الصنيعُ من أكبر القُرُبات في حق المؤمنين ، فشرع ذلك. وفي فعله
الأجر الجزيل ، لما (1) ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : "من شهد الجنازة حتى يصلّي عليها فله قيراط ، ومن شهدها
حتى تدفن فله قيراطان". قيل : وما القيراطان ؟ قال : "أصغرهما مثل
أحد" (2)
وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات فقد قال أبو داود : حدثنا إبراهيم بن موسى
الرازي ، أخبرنا هشام ، عن عبد الله بن بَحير ، عن هانئ - وهو أبو سعيد البربري ،
مولى عثمان بن عفان - عن عثمان ، رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال : "استغفروا لأخيكم ، واسألوا له
التثبيت ، فإنه الآن يسأل".
انفرد بإخراجه أبو داود ، رحمه الله (3)
{ وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ
يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
(85) }
قد تقدم تفسير نظير هذه الآية الكريمة (4) ولله الحمد.
{ وَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ
اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ
الْقَاعِدِينَ (86) }
__________
(1) في ت ، أ : "كما".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (1325) ومسلم في صحيحه برقم (945).
(3) سنن أبي داود برقم (3221).
(4) انظر تفسير الآية : 55 من هذه السورة.
(4/196)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
{
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ (87) }
يقول تعالى منكرًا وذامًا للمتخلفين عن الجهاد ، الناكلين عنه مع القدرة عليه ،
ووجود السعة والطَّوْل ، واستأذنوا الرسول في القعود ، وقالوا : { ذَرْنَا نَكُنْ
مَعَ الْقَاعِدِينَ } ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء ، وهن
الخوالف ، بعد خروج الجيش ، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس ، وإذا كان أَمْنٌ
كانوا أكثر الناس كلامًا ، كما قال [الله] (1) تعالى ، عنهم في الآية الأخرى :
__________
(1) زيادة من ت.
(4/196)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
{
فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ
بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [الأحزاب : 19] أي : علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في
الأمن ، وفي الحرب أجبن شيء ، وكما قال الشاعر (1)
أفي السّلم أعيارًا جفَاءً وَغلْظَةً... وَفي الحَرْب أشباهُ النّسَاءِ العَوارِكِ
(2)
وقال تعالى (3) في الآية الأخرى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ
سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا
عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ] [الآية] (4) [محمد :
20 - 22] } (5)
وقوله : { وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي : بسبب (6) نكولهم عن الجهاد والخروج
مع الرسول في سبيل الله ، { فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ } أي : لا يفهمون ما فيه صلاح
لهم فيفعلوه ، ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه.
{ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) }
لما ذكر تعالى ذم المنافقين ، بيَّن ثناء المؤمنين ، وما لهم في آخرتهم ، فقال : {
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا } إلى آخر الآيتين من
بيان حالهم ومآلهم.
وقوله : { وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } أي : في الدار الآخرة ، في جنات
الفردوس والدرجات العلى.
{ وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ
كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (90) }
ثم بَيَّن تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد ، الذين جاءوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعتذرون إليه ، ويبينون له ما هم فيه من الضعف ، وعدم القدرة على الخروج
، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة.
__________
(1) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/656) منسوبا إلى هند بنت عتبة ،
والأعيار : جميع عير وهو الحمار ، والعوارك : هن الحوائض.
(2) في أ : "العوازل".
(3) في ت : "الله".
(4) زيادة من ت ، ك ، أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في ك : "بسببهم".
(4/197)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
قال
الضحاك ، عن ابن عباس : إنه كان يقرأ : "وَجَاءَ المُعْذَرُون" بالتخفيف
، ويقول : هم أهل العذر.
وكذا روى ابن عيينة ، عن حُمَيد ، عن مجاهد سواء.
قال ابن إسحاق : وبلغني أنهم نَفَر من بني غفار منهم : خُفاف بن إيماء بن رَحَضة.
وهذا القول هو الأظهر في معنى الآية ؛ لأنه قال بعد هذا : { وَقَعَدَ الَّذِينَ
كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : لم يأتوا فيعتذروا.
وقال ابن جُرَيْج عن مجاهد : { وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ } قال :
نفر من بني غفار ، جاءوا فاعتذروا فلم يُعذرْهم الله. وكذا قال الحسن ، وقتادة ،
ومحمد بن إسحاق ، والقول الأول أظهر (1) والله أعلم ، لما قدمنا من قوله بعده : {
وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : وقعد آخرون من الأعراب عن
المجيء للاعتذار ، ثم أوعدهم بالعذاب الأليم ، فقال : { سَيُصِيبُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا
يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ
إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ
تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا
يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ
أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) }
ثم بين تعالى الأعذار التي لا حَرَج على من قعد فيها عن القتال ، فذكر منها ما هو
لازم للشخص لا ينفك عنه ، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في
الجهاد ، ومنه العمى والعَرَج ونحوهما ، ولهذا بدأ به. ما هو عارض بسبب مرض عَنَّ
له في بدنه ، شغله عن الخروج في سبيل الله ، أو بسبب فقره (2) لا يقدر على التجهز
للحرب ، فليس على هؤلاء حَرَج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ، ولم يرجفوا بالناس
، ولم يُثَبِّطوهم ، وهم محسنون في حالهم هذا ؛ ولهذا قال : { مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال سفيان الثوري ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي ثمامة ، رضي الله عنه ، قال :
قال الحواريون : يا روح الله ، أخبرنا عن الناصح لله ؟ قال : الذي يُؤثِر حق الله
على حق الناس ، وإذا حدث له أمران - أو : بدا له أمر الدنيا وأمر الآخرة - بدأ
بالذي للآخرة ثم تفرغ للذي للدنيا.
__________
(1) في أ : "أولى".
(2) في ت ، أ : "فقر".
(4/198)
وقال
الأوزاعي : خرج الناس إلى الاستسقاء ، فقام فيهم بلال بن سعد ، فحمد الله وأثنى
عليه ، ثم قال : يا معشر من حضر : ألستم مقرين بالإساءة ؟ قالوا : اللهم نعم. فقال
: اللهم ، إنا نسمعك تقول : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } اللهم ،
وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقِنا. ورفع يديه ورفعوا أيديهم فَسُقوا.
وقال قتادة : نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو المزني.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي ، حدثنا ابن جابر
، عن ابن فروة ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتبُ
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكنت أكتب "براءة" فإني لواضعُ القلم
على أذني إذ أمرْنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل
عليه ، إذا جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى ؟ فأنزل الله (1) {
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى } الآية (2)
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمرَ الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه ، فيهم عبد الله بن
مُغَفَّل المزني (3) فقالوا : يا رسول الله ، احملنا. فقال لهم : "والله لا
(4) أجد ما أحملكم عليه". فتولوا ولهم بكاء ، وعزَّ عليهم أن يجلسوا عن
الجهاد ، ولا يجدون نفقة ولا محملا. فلما رأى الله حرْصَهم على محبته ومحبة رسوله
أنزل عذرهم في كتابه ، فقال : { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى
وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ } إلى قوله تعالى : {
فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ }.
وقال مجاهد في قوله : { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ }
نزلت في بني مقرن من مزينة.
وقال محمد بن كعب : كانوا سبعة نفر ، من بني عمرو بن عوف : سالم بن عُمَيْر (5) -
ومن بني واقف : هَرَمي (6) بن عمرو - ومن بني مازن بن النجار : عبد الرحمن بن كعب
، ويكنى أبا ليلى - ومن بني المُعَلى : [سلمان بن صخر - ومن بني حارثة : عبد
الرحمن بن يزيد ، أبو عبلة ، وهو الذي تصدق بعرضه فقبله الله منه] (7) ومن بني
سَلِمة : عمرو بن عَنَمة (8) وعبد الله بن عمرو المزني.
وقال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك : ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ،
__________
(1) في ت ، أ : "فنزلت".
(2) ورواه الدارقطني في الأفراد كما في الأطراف لابن طاهر (ق 134) وقال :
"غريب من حديث أبي فروة - مسلم بن سالم عنه - أي ابن أبي ليلى - عن زيد ،
تفرد به محمد بن جابر عنه ، وهو غريب من حديث ابن أبي ليلى لا يعلم حدث به عنه غير
أبي فروة".
(3) في ت ، ك ، أ : "عبد الله بن معقل بن مقرن".
(4) في ت ، ك : "ما".
(5) في ك : "عوف".
(6) في جميع النسخ : "حرمى" والتصويب من أسد الغابة والإصابة.
(7) زيادة من ت ، ك ، والطبري ، وفي هـ : "فضل الله".
(8) في ك : "عنزة".
(4/199)
وهم
البكاءون ، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم ، من بني عمرو بن عوف : سالم بن عُمَير
(1) وعلبة بن زيد أخو بني حارثة ، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب ، أخو بني مازن بن
النجار ، وعمرو بن الحمام بن الجموح ، أخو بني سَلِمة ، وعبد الله بن المُغَفَّل
المزني ؛ وبعض الناس يقول : بل هو عبد الله بن عمرو المزني ، وهَرَميّ بن عبد الله
، أخو بني واقف ، وعِرْباض (2) بن سارية الفزاري ، فاستحملوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وكانوا أهل حاجة ، فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وأعينهم تفيض
من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (3)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن الأودي ، حدثنا وَكيع ، عن الربيع ، عن الحسن
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد خلفتم بالمدينة أقواما ، ما
أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم واديا ، ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شَركوكم في
الأجر" ، ثم قرأ : { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ
قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } الآية.
وأصل هذا الحديث في الصحيحين من حديث (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ، ولا سرتم [مسيرًا] (5) إلا وهم
معكم". قالوا : وهم بالمدينة ؟ قال : "نعم ، حبسهم العذر" (6)
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد خلفتم بالمدينة رجالا (7) ما قطعتم
واديًا ، ولا سلكتم طريقًا إلا شَركوكم في الأجر ، حبسهم المرض".
ورواه مسلم ، وابن ماجه ، من طرق ، عن الأعمش ، به (8)
ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم أغنياء ، وأنَّبَهم في
رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرحال ، { وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ }.
__________
(1) في أ : "عوف".
(2) في جميع النسخ : "عياض" والتصويب من ابن هشام. مستفاد من هامش ط.
الشعب.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (2/518).
(4) بعدها بياض في جميع النسخ قدر كلمة.
(5) زيادة من أ ، ومسلم.
(6) صحيح البخاري برقم (2839) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وصحيح مسلم برقم
(1911) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(7) في ت ، أ : "أقواما".
(8) المسند (3/300) وصحيح مسلم برقم (1911) وسنن ابن ماجه برقم (2765).
(4/200)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) }
(4/200)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
أخبر
تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم ، { قُلْ لا
تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ } أي : لن نصدقكم ، { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ
مِنْ أَخْبَارِكُمْ } أي : قد أعلمنا الله أحوالكم ، { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ
وَرَسُولُهُ } أي : سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا ، { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
(1) أي : فيخبركم بأعمالكم ، خيرها وشرها ، ويجزيكم عليها.
ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون معتذرين لتعرضوا عنهم فلا تُؤَنِّبُوهم ، {
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ } احتقارا لهم ، { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } أي : خُبثاء نجس
بواطنهم واعتقاداتهم ، { وَمَأْوَاهُمْ } في آخرتهم { جهنم } { جَزَاءً بِمَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : من الآثام والخطايا.
وأخبر أنهم وإن رضوا عنهم بحلفهم (2) لهم ، { فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله ، فإن الفسق هو
الخروج ، ومنه سميت الفأرة "فُوَيسقة" لخروجها من جُحرها للإفساد ،
ويقال : "فسقت الرطبة" : إذا خرجت من أكمامها (3)
{ الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا
أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأعْرَابِ
مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأعْرَابِ
مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ
عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ
سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) }
أخبر تعالى أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين ، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من
غيرهم وأشد ، وأجدر ، أي : أحرى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ، كما قال
الأعمش عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه ، وكانت
يده قد أصيبت يوم نهاوَند ، فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك
لتريبني فقال زيد : ما يُريبك من يدي ؟ إنها الشمال. فقال الأعرابي : والله ما
أدري ، اليمين يقطعون أو الشمالَ ؟ فقال زيد بن صوحان (4) صدق الله : { الأعْرَابُ
أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن
وهب
__________
(1) في أ : "ستردون" وهو خطأ.
(2) في أ : "بحلفانهم".
(3) في ت : "كمامها".
(4) في ك : "صوخان".
(4/201)
بن
مُنَبِّه ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من سكن البادية
جفا ، ومن اتبع الصيد غَفَل ، ومن أتى السلطان افتتن".
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن سفيان الثوري ، به (1) وقال
الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث الثوري.
ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا وإنما كانت
البعثة من أهل القرى ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا
رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف : 109] ولما أهدى ذلك
الأعرابي تلك الهدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فردَّ عليه أضعافها حتى رضي ،
قال : "لقد هممت ألا أقبل هدية إلا من قُرشي ، أو ثَقَفي أو أنصاري ، أو
دَوْسِيّ" (2) ؛ لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن : مكة ، والطائف ، والمدينة ،
واليمن ، فهم ألطف أخلاقًا من الأعراب : لما في طباع الأعراب من الجفاء.
حديث [الأعرابي] (3) في تقبيل الولد : قال مسلم : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو
كُرَيْب قالا حدثنا أبو أسامة وابن نُمَيْر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت :
قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أتقبِّلون صبيانكم
؟ قالوا : نعم. قالوا : ولكنا والله ما نقبِّل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "وَأمْلكُ أن كان الله نزع منكم الرحمة ؟". وقال ابن نمير : "من
قلبك الرحمة" (4)
وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان
والعلم ، { حَكِيمٌ } فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والإيمان والكفر والنفاق
، لا يسأل عما يفعل ، لعلمه وحكمته.
وأخبر تعالى أن منهم { مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ } أي : في سبيل الله {
مَغْرَمًا } أي : غرامة وخسارة ، { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ } أي :
ينتظر بكم (5) الحوادث والآفات ، { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } أي : هي
منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم ، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لدعاء
عباده ، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان.
وقوله : { وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ
وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } هذا
هو القسم الممدوح من الأعراب ، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة
يتقربون بها عند الله ، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم ، { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ
لَهُمْ } أي : ألا إن ذلك حاصل لهم ، { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
__________
(1) المسند (1/357) وسنن أبي داود برقم (2859) وسنن الترمذي برقم (2256) وسنن
النسائي (7/195).
(2) رواه النسائي في السنن (6/279) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) زيادة من ت ، ك ، أ.
(4) صحيح مسلم برقم (2317).
(5) في ت ، ك ، أ : "لهم".
(4/202)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
{
وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) }
يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ،
ورضاهم عنه بما أعدَّ لهم من جنات النعيم ، والنعيم المقيم.
قال الشعبي : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام
الحديبية.
وقال أبو موسى الأشعري ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة : هم
الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال محمد بن كعب القرظي : مرَّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ : { وَالسَّابِقُونَ
الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ } فأخذ عمر بيده فقال : من أقرأك
هذا ؟ فقال : أبيُّ بن كعب. فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه. فلما جاءه قال
عمر : أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال : نعم. قال : وسمعتَها من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ؟ قال : نعم. لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا ،
فقال أبيُّ : تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا
يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الجمعة : 3] وفي سورة الحشر :
{ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا
الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ } [الحشر : 10] وفي الأنفال : { وَالَّذِينَ
آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ }
[الأنفال : 75] إلى آخر الآية ، رواه ابن جرير (1)
قال : وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤها برفع "الأنصار" عطفا على {
وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ }
فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار
والذين اتبعوهم بإحسان : فيا ويل من أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض أو سبَّ بعضهم ،
ولا سيما سيدُ الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم ، أعني الصديق الأكبر والخليفة
الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة ، رضي الله عنه ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة
يعادون أفضل الصحابة ويُبغضونهم ويَسُبُّونهم ، عياذًا بالله من ذلك. وهذا يدل على
أن عقولهم معكوسة ، وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن ، إذ يسبُّون
من رضي الله عنهم ؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ، ويسبون من سبه
الله ورسوله ، ويوالون من يوالي الله ، ويعادون من يعادي الله ، وهم متبعون لا
مبتدعون ، ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ
مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) }
__________
(1) تفسير الطبري (14/438).
(4/203)
يخبر
تعالى رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن في أحياء العرب ممن حول المدينة
منافقين ، وفي أهل المدينة أيضا منافقون { مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } أي : مرنوا
واستمروا عليه : ومنه يقال : شيطان مريد ومارد ، ويقال : تمرد فلان على الله ، أي
: عتا وتجبر.
وقوله : { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } لا ينافي قوله تعالى : { وَلَوْ
نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي
لَحْنِ الْقَوْلِ } الآية[محمد : 30] ؛ لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون
بها ، لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين. وقد كان يعلم
أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا ، وإن كان يراه صباحا ومساء ، وشاهد هذا
بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال :
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن رجل ، عن جُبَير بن
مطعم ، رضي الله عنه ، قال : قلت : يا رسول الله ، إنهم يزعمون أنه ليس لنا أجر
بمكة ، فقال : لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جُحر ثعلب وأصغى إليَّ رسول الله صلى
الله عليه وسلم برأسه فقال : "إن في أصحابي منافقين" (1)
ومعناه : أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ، ومن
مثلهم صَدَر هذا الكلام الذي سمعه جُبَير بن مطعم. وتقدم في تفسير قوله : {
وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا } [التوبة : 74] أنه عليه السلام (2) أعلم حُذَيفة
بأعيان أربعة عشر أو خمسة عشر منافقًا ، وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم
وأعيانهم كلهم ، والله أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "أبي عمر البيروتي" من طريق هشام بن
عمار : حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا بن جابر ، حدثني شيخ بيروت يكنى أبا عمر ، أظنه
حدثني عن أبي الدرداء ؛ أن رجلا يقال له "حرملة" أتى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال : الإيمان هاهنا - وأشار بيده إلى لسانه - والنفاق هاهنا - وأشار
بيده إلى قلبه ولم يذكر الله إلا قليلا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اللهم اجعل له لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وارزقه حُبّي ، وحبَّ من يحبني ،
وصَيِّر أمره إلى خير". فقال : يا رسول الله ، إنه كان لي أصحاب من المنافقين
وكنت رأسا فيهم ، أفلا آتيك بهم ؟ قال : "من أتانا استغفرنا له ، ومن أصر على
دينه فالله أولى به ، ولا تخرقن على أحد سترا" (3)
قال : وكذا رواه أبو أحمد الحاكم ، عن أبي بكر الباغندي ، عن هشام بن عمار ، به.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في هذه الآية أنه قال : ما بال أقوام
يتكلفون علم
__________
(1) المسند (4/83).
(2) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(3) انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (29/76).
(4/204)
الناس
؟ فلان في الجنة وفلان في النار. فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال : لا أدري! لعمري
أنت بنفسك (1) أعلم منك بأحوال الناس ، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك.
قال نبي الله نوح : { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الشعراء :
112] وقال نبي الله شعيب : { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [هود : 86] وقال الله لنبيه صلى
الله عليه وسلم : { لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } (2).
وقال السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : قام رسول الله صلى
الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال : "اخرج يا فلان ، فإنك منافق ، واخرج
يا فلان فإنك منافق". فأخرج من المسجد ناسا منهم ، فضحهم. فجاء عمر وهم
يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة (3) وظن أن الناس قد
انصرفوا ، واختبئوا هم من عمر ، ظنوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد
فإذا الناس لم يصلوا ، فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر ، قد (4) فضح الله
المنافقين اليوم. قال ابن عباس : فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد ،
والعذاب الثاني عذاب القبر (5)
وكذا قال الثوري ، عن السدي ، عن أبي مالك نحو هذا.
وقال مجاهد في قوله : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } يعني : القتل والسباء (6)
وقال - في رواية - بالجوع ، وعذاب القبر ، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ
عَظِيمٍ }
وقال ابن جريج : عذاب الدنيا ، وعذاب القبر ، ثم يردون إلى عذاب النار.
وقال الحسن البصري : عذاب في الدنيا ، وعذاب في القبر (7)
وقال عبد الرحمن بن زيد : أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد ، وقرأ قول الله
(8) { فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ
أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا } [التوبة : 85] فهذه المصائب لهم عذاب ،
وهي للمؤمنين أجر ، وعذاب في الآخرة في النار { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ
عَظِيمٍ } قال : النار.
وقال محمد بن إسحاق : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } قال : هو - فيما بلغني - ما
هم فيه من أمر الإسلام ، وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ، ثم عذابهم في
القبور إذا صاروا إليها ، ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه ، عذاب الآخرة والخلد
فيه.
وقال سعيد ، عن قتادة في قوله : { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ } عذاب الدنيا ،
وعذاب القبر ، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ }
__________
(1) في جميع النسخ : "بنصيبك" والتصويب من الطبري. مستفاد من هامش ط.
الشعب.
(2) تفسير عبد الرزاق (1/253).
(3) في أ" : "المسجد".
(4) في ت ، ك ، أ : "فقد".
(5) رواه الطبري في تفسيره (14/441).
(6) في أ : "والسبي".
(7) في ت ، أ : "النار".
(8) في ت : "قوله" ، وفي أ : "قول الله تعالى".
(4/205)
وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
ذكر
لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين
، فقال : "ستة منهم تكفيكهم الدُّبَيْلة : سراج من نار جهنم ، يأخذ في كتف
أحدهم حتى يفضي إلى صدره ، وستة يموتون موتًا". وذكر لنا أن عمر بن الخطاب ،
رضي الله عنه ، كان إذا مات رجل ممن يُرى أنه منهم ، نظر إلى حذيفة ، فإن صلى عليه
وإلا تركه. وَذُكر لنا أن عمر قال لحذيفة : أنشدك بالله ، أمنهم أنا ؟ قال : لا. ولا
أومن منها أحدًا بعدك. (1)
{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ
سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(102) }
لما بَيَّن تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغَزاة رغبة عنها وتكذيبًا وشكا ،
شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة ، مع
إيمانهم وتصديقهم بالحق ، فقال : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } أي :
أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين رَبِّهم ، ولهم أعمال أخرَ صالحة ، خلطوا هذه
بتلك ، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه.
وهذه الآية - وإن كانت نزلت في أناس معينين - إلا أنها عامة في كل المذنبين
الخاطئين المخلصين المتلوثين.
وقد قال مجاهد : إنها نزلت في أبي لُبَابة لما قال لبني قريظة : إنه الذبح ، وأشار
بيده إلى حلقه.
وقال ابن عباس : { وَآخَرُونَ } نزلت في أبي لُبابة وجماعة من أصحابه ، تخلفوا عن
غزوة تبوك ، فقال بعضهم : أبو لبابة وخمسة معه ، وقيل : وسبعة معه ، وقيل : وتسعة
معه ، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته (2) ربطوا أنفسهم بسواري المسجد
، وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أنزل الله هذه الآية :
{ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ } أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وعفا
عنهم.
وقال البخاري : حدثنا مُؤمَّل بن هشام ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عوف ،
حدثنا أبو رجاء ، حدثنا سَمُرَة بن جُنْدَب قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لنا : "أتاني الليلة آتيان (3) فابتعثاني فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن
ذهب ولَبِن فضة ، فتلقانا رجال شَطْر من خلقهم كأحسن ما أنت رَاء ، وشطر كأقبح ما
أنت راء ، قالا لهم : اذهبوا فَقَعُوا في ذلك النهر. فوقعوا فيه ، ثم رجعوا إلينا
قد ذهب ذلك السوء عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي : هذه جنة عدن ، وهذا
منزلك. قالا أما القوم الذين كانوا شَطر منهم حَسَن وشطر منهم قبيح ، فإنهم خلطوا
عملا صالحًا وآخر سيئًا ، فتجاوز الله عنهم".
هكذا رواه مختصرًا ، في تفسير هذه الآية. (4)
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (14/443). والدبيلة : خراج ودمل كبير يظهر في الجوف
فيقتل صاحبه غالبا.
(2) في أ : "من غزوة".
(3) في أ : "اثنان".
(4) صحيح البخاري برقم (4674).
(4/206)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
{
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ
يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ
الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) }
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخُذَ من أموالهم صدقَة يطهرهم
ويزكيهم بها ، وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في "أموالهم" إلى الذين
اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحًا وآخر سيئا ؛ ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من
أحياء العرب أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون ، وإنما كان هذا خاصًا برسول الله
(1) صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا احتجوا بقوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ
سَكَنٌ لَهُمْ } وقد رَدَّ عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد الصديق أبو بكر وسائر
الصحابة ، وقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة ، كما كانوا يُؤدونها إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قال الصديق : والله لو منعوني عِقالا - وفي رواية :
عَناقًا - يُؤدُّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه. (2)
وقوله : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي : ادع لهم واستغفر لهم ، كما رواه مسلم في
صحيحه ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
أُتِيَ بصدقة قوم صَلَّى عليهم ، فأتاه أبي بصدقته فقال : "اللهم صَل على آل
أبي أوفى" (3) وفي الحديث الآخر : أن امرأة قالت : يا رسول الله ، صلّ عليَّ
وعلى زوجي. فقال : "صلى الله عليك ، وعلى زوجك". (4)
وقوله : { إنّ صَلاتك } : قرأ بعضهم : "صلواتك" على الجمع ، وآخرون
قرءوا : { إِنَّ صَلاتَكَ } على الإفراد.
{ سَكَنٌ لَهُمْ } قال ابن عباس : رحمة لهم. وقال قتادة : وقار.
وقوله : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } أي : لدعائك { عَلِيمٌ } أي : بمن يستحق ذلك منك
ومن هو أهل له.
قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا أبو العُمَيْس ، عن أبي بكر بن عمرو بن
عتبة ، عن ابن لحذيفة ، عن أبيه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل
أصابته ، وأصابت ولده ، وولد ولده. (5)
ثم رواه عن أبي نُعَيم ، عن مِسْعَر ، عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة ، عن ابن لحذيفة
- قال مسعر :
__________
(1) في ك : "بالنبي".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7284 ، 7285) بلفظ : "لو منعنوني
عقالا" قال : "وقال ابن بكير وعبد الله عن الليث : "عناقا وهو
أصح".
(3) صحيح مسلم برقم (1078) والبخاري في صحيحه برقم (1497).
(4) رواه أبو داود في السنن برقم (1533) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10256) من
حديث جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه.
(5) المسند (5/385).
(4/207)
وقد
ذكره مرة عن حذيفة - : إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتُدرك الرجل وولده وولد
ولده. (1)
وقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منها
(2) يحطُّ الذنوب ويمحصها ويمحقها.
وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله
تعالى يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها ، حتى تصير التمرة مثل أحد. كما جاء بذلك
الحديث ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما قال الثوري ووكيع ، كلاهما عن
عباد بن منصور ، عن القاسم بن محمد أنه سمع أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم ، كما
يربي أحدكم مهره ، حتى إن اللقمة لتَصير مثل أحد" ، وتصديق ذلك في كتاب الله
، عز وجل : { [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ] هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } (3) و[قوله] (4) { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا
وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } [البقرة : 276]. (5)
وقال الثوري والأعمش كلاهما ، عن عبد الله بن السائب ، عن عبد الله بن أبي قتادة
قال : قال عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه : إن الصدقة تقع في يد الله عز وجل
قبل أن تقع في يد السائل. ثم قرأ هذه الآية : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } (6).
وقد روى ابن عساكر في تاريخه ، في ترجمة عبد الله بن الشاعر السَّكْسَكي الدمشقي -
وأصله حمصي ، وكان أحد الفقهاء ، روى عن معاوية وغيره ، وحكى عنه حوشب بن سيف
السكسكي الحمصي - قال : غزا الناس في زمان معاوية ، رضي الله عنه ، وعليهم عبد
الرحمن بن خالد بن الوليد ، فَغَلَّ رجل من المسلمين مائة دينار رومية. فلما قفل
الجيش نَدم وأتى الأميرَ ، فأبى أن يقبلها منه ، وقال : قد تفرق الناس ولن أقبلها
منك ، حتى تأتي الله بها يوم القيامةَ فجعل الرجل يستقرئ الصحابة ، فيقولون له مثل
ذلك ، فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه ، فأبى عليه. فخرج من عنده وهو
يبكي ويسترجع ، فمر بعبد الله بن الشاعر السكسكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ فذكر له
أمره ، فقال أمطيعُني أنت ؟ فقال : نعم ، فقال : اذهب إلى معاوية فقل له : اقبل
مني خُمسك ، فادفع إليه عشرين دينارًا ، وانظر الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك
الجيش ، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرجل ،
فقال معاوية ، رضي الله عنه : لأن أكون أفتيتُه بها أحب إلي من كل شيء أملكه ،
أحسن الرجل". (7)
__________
(1) المسند (5/ 400).
(2) في ت ، أ : "منهما".
(3) زيادة من ك.
(4) زيادة من ك.
(5) رواه الطبري في تفسيره (14/461). تنبيه : وقع خطأ في الآية هنا وعند الطبري ،
وما أثبتناه هو الصواب.
(6) في ت : "تعلموا".
(7) تاريخ دمشق (9/401) "المخطوط".
(4/208)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
{
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
قال مجاهد : هذا وَعيد ، يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرَضُ
عليه تبارك وتعالى ، وعلى الرسول ، وعلى المؤمنين. وهذا كائن لا محالة يوم القيامة
، كما قال : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } [الحاقة :
18] ، (1) وقال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [الطارق : 9] ، وقال {
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } [العاديات : 10] وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا ،
كما قال الإمام أحمد :
حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي
سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لو أن أحدكم يعمل في صخرة
صَماء ليس لها باب ولا كُوَّة ، لأخرج الله عمله للناس كائنًا ما كان". (2).
وقد ورد : أن أعمال الأحياء تُعرَض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ ،
كما قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الصلت بن دينار ، عن الحسن ، عن جابر بن عبد
الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أعمالكم تعرض على
أقربائكم وعشائركم في قبورهم ، فإن كان خيرًا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا
: "اللهم ، ألهمهم أن يعملوا بطاعتك". (3)
وقال الإمام أحمد : أخبرنا عبد الرزاق ، عن سفيان ، عمَّن سمع أنسًا يقول : قال
النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من
الأموات ، فإن كان خيرًا استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم ، لا تمتهم
حتى تهديهم كما هديتنا". (4)
وقال البخاري : قالت عائشة ، رضي الله عنها : إذا أعجبك حُسن عمل امرئ ، فقل : {
اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } (5).
وقد ورد في الحديث شبيه بهذا ، قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له ؟ فإن العامل يعمل زمانًا من
عمره - أو : بُرهَة من دهره - بعمل صالح لو مات عليه لدخل الجنة ، ثم يتحول فيعمل
عملا سيئًا ، وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سيئ ، لو
__________
(1) في ت : "يعرضون لا يخفى"
(2) المسند (3/28) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(3) مسند الطيالسي برقم (1794).
(4) المسند (3/164) وقال الهيثمي في المجمع (2/228) : "وفيه رجل لم
يسم".
(5) صحيح البخاري (13/503 "فتح").
(4/209)
وَآَخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
مات عليه
دخل النار ، ثم يتحول فيعمل عملا صالحًا ، وإذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله قبل
موته". قالوا : يا رسول الله وكيف يستعمله : قال : "يوفقه لعمل صالح ثم
يقبضه عليه" (1) تفرد به أحمد من هذا الوجه.
{ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) }
قال ابن عباس ومجاهدُ وعِكْرِمة ، والضحاك وغير واحد : هم الثلاثة الذين خلفوا ،
أي : عن التوبة ، وهم : مرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، قعدوا
عن غزوة تبوك في جملة من قعد ، كسلا وميلا إلى الدَّعَة والحفظ وطيب الثمار
والظلال ، لا شكا ونفاقا ، فكانت منهم طائفة رَبَطوا أنفسهم بالسواري ، كما فعل
أبو لُبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون ، فنزلت
توبة أولئك قبل هؤلاء ، وأرجى هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الآية الآتية ، وهي قوله :
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ } الآية
[التوبة : 117] ، { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ
عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ] } (2)
الآية [التوبة : 118] ، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك.
وقوله : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي : هم تحت عفو
الله ، إن شاء فعل بهم هذا ، وإن شاء فعل بهم ذاك ، ولكن رحمته تغلب غضبه ، وهو {
عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي : عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو ، حكيم في أفعاله
وأقواله ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.
__________
(1) المسند (3/120) وقال الهيثمي في المجمع (7/211) : "ورجاله رجال
الصحيح".
(2) زيادة من ك.
(4/210)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
{
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) }
سبب نزول هذه الآيات (1) الكريمات : أنه كان بالمدينة قبل مَقدَم رسول الله صلى
الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له : "أبو عامر الراهبُ" ،
وكان قد تَنَصَّر في الجاهلية وقرأ علْم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ،
وله شرف في الخزرج كبير. فلما قَدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مهاجرًا إلى
المدينة ، واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم
بدر ، شَرِق اللعين أبو عامر بريقه ، وبارز بالعداوة ، وظاهر بها ، وخرج فارًّا
إلى كفار مكة من مشركي قريش فألَّبهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أحد ، فكان من أمر المسلمين ما
كان ،
__________
(1) في أ : "الآية".
(4/210)
وامتحنهم
الله ، وكانت العاقبة للمتقين. (1)
وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وأصيب ذلك اليوم ، فجرح في وجهه وكُسِرت ربَاعِيتُه اليمنى
السفلى ، وشُجَّ رأسه ، صلوات الله وسلامه عليه.
وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار ، فخاطبهم واستمالهم إلى نصره
وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ،
ونالوا منه وسبُّوه. فرجع وهو يقول : والله لقد أصاب قومي بعدي شَر. وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره ، وقرأ عليه من القرآن ، فأبى
أن يسلم وتمرَّد ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدًا طريدًا
، فنالته هذه الدعوة.
وذلك أنه لما فرغ الناس (2) من أحد ، ورأى أمر الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه
(3) في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ، ملك الروم ، يستنصره على النبي صلى الله
عليه وسلم ، فوعده ومَنَّاه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من
أهل النفاق والريب يعدهم ويُمنَّيهم أنه سيقدمُ بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله
عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له مَعقلا يقدم عليهم فيه
من يقدم من عنده لأداء كُتُبه ويكونَ مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في
بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج النبي صلى الله
عليه وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم
فيصلي في مسجدهم ، ليحتجوا بصلاته ، عليه السلام ، فيه على تقريره وإثباته ، وذكروا
أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة
فيه فقال : "إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله".
فلما قفل ، عليه السلام (4) راجعًا إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا
يوم أو بعض يوم ، نزل عليه الوحي بخبر مسجد الضِّرار ، وما اعتمده بانوه من الكفر
والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء ، الذي أسس من أول يوم على
التقوى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هَدَمه قبل مقدمه
المدينة ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا [وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ] }
(5) وهم أناس من الأنصار ، ابتنوا مسجدًا ، فقال لهم أبو عامر ، ابنوا مسجدًا
واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم ، فآتي بجند
من الروم وأخرج محمدًا وأصحابه. فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه
وسلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا ، فنحب (6) أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة.
فأنزل الله ، عز وجل : { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } إلى { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ }.
وكذا رُوي عن سعيد بن جُبير ، ومجاهد ، وعروة بن الزبير ، وقتادة وغير واحد من
العلماء.
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي
بكر ،
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "للتقوى".
(2) في ت ، أ : "المسلمون".
(3) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(4) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(5) زيادة من أ.
(6) في ت ، ك : "فتجب".
(4/211)
وعاصم
بن عُمَر بن قتادة وغيرهم ، قالوا : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني :
من تبوك - حتى نزل بذي أوان - بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار - وكان أصحاب
مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد
بنينا مسجدًا لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، والليلة الشاتية ، وإنا نحب
أن تأتينا فتصلي لنا فيه. فقال : "إني على جناح سَفر وحال شُغل - أو كما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا
لكم فيه". فلما نزل بذي أوان أتاه خبرُ المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله
عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم أخا بني سالم بن عوف ، ومعن بن عدي - أو : أخاه عامر
بن عدي - أخا بلعجلان فقال : "انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه
وحرقاه". فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدّخشم ،
فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي. فدخل أهله فأخذ سَعَفا من
النخل ، فأشعل فيه نارًا ، ثم خرجا يَشتدَّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرقاه
وهدماه وتفرقوا عنه. ونزل فيهم من القرآن ما نزل : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا
مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا } إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا
خذام بن خالد ، من بني عُبَيد بن زيد ، أحد (1) بني عمرو بن عوف ، ومن داره أخرج
مسجد الشقاق ، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وهو إلى بني أمية بن زيد ، ومعتِّب بن
قُشير ، من [بني] (2) ضُبَيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأذعر ، من بني ضُبَيعة بن
زيد ، وعَبَّاد بن حُنَيف ، أخو سهل بن حنيف ، من بني عمرو بن عوف ، وجارية بن
عامر ، وابناه : مُجَمِّع بن جارية ، وزيد بن جارية ونَبْتَل [بن] (3) الحارث ،
وهم من بني ضبيعة ، وبحزج وهو من بني ضبيعة ، وبجاد بن عُثمان وهو من بني ضُبَيعة
، [ووديعة بن ثابت ، وهو إلى بني أمية] (4) رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. (5)
وقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ } أي : الذين بنوه { إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى }
أي : ما أردناه ببنيانه إلا خيرًا ورفقًا بالناس ، قال الله تعالى : { وَاللَّهُ
يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : فيما قصدوا وفيما نوَوا ، وإنما بنوه
ضِرارا لمسجد قُباء ، وكفرا بالله ، وتفريقًا بين المؤمنين ، وإرصادًا لمن حارب
الله ورسوله ، وهو أبو عامر الفاسق ، الذي يقال له : "الراهب" لعنه
الله.
وقوله : { لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا } نهي من الله لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه
، والأمة تَبَع له في ذلك ، عن أن يقوم فيه ، أي : يصلي فيه أبدا.
ثم حثه على الصلاة في مسجد قُباء الذي أسس من أول يوم بنائه على التقوى ، وهي طاعة
الله ، وطاعة رسوله ، وجمعا لكلمة المؤمنين ومَعقلا وموئلا للإسلام وأهله ؛ ولهذا
قال تعالى : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ
أَنْ تَقُومَ فِيهِ } والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء ؛ ولهذا جاء
__________
(1) في أ : "جد".
(2) زيادة من ت ، أ ، وابن هشام.
(3) زيادة من ت ، أ ، وابن هشام.
(4) زيادة من ت ، أ ، وابن هشام.
(5) السيرة النبوية لابن هشام (2/530) ورواه الطبري في تفسيره (14/468). وانظر
الكلام على هذه الرواية وتفنيدها في كتاب الفاضل : عداب الحمش "ثعلبة بن حاطب
المفترى عليه (ص 138).
(4/212)
في
الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "صلاة في مسجد قُباء
كعُمرة". (1) وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورُ مسجد
قُباء راكبًا وماشيًا (2) وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه
وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف ، كان جبريل هو الذي عَيَّن له جِهَة
القبلة (3) فالله أعلم.
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن يونس بن الحارث
، عن إبراهيم بن أبي ميمونة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نزلت هذه الآية في أهل قباء : { فِيهِ
رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } قال : كانوا يستنجون بالماء ، فنزلت فيهم
الآية.
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث يونس بن الحارث ، وهو ضعيف ، وقال الترمذي :
غريب من هذا الوجه.
وقال الطبراني : حدثنا الحسن بن علي المعمري ، حدثنا محمد بن حميد الرازي ، حدثنا
سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : لما
نزلت هذه الآية : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى عُوَيم بن ساعدة فقال : "ما هذا الطهور الذي أثنى
الله عليكم ؟". فقال : يا رسول الله ، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط
إلا غسل فرجه - أو قال : مقعدته - فقال النبي صلى الله عليه وسلم. "هو هذا".
(4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حُسَين بن محمد ، حدثنا أبو أويس ، حدثنا شرحبيل ، عن
عُوَيم بن ساعدة الأنصاري : أنه حَدّثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد
قُباء ، فقال : "إن الله تعالى قد أحسن [عليكم الثناء] (5) في الطَّهور في
قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تطهرون به ؟" فقالوا : والله - يا رسول
الله - ما نعلم شيئًا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، فكانوا يغسلون أدبارهم من
الغائط ، فغسلنا كما غسلوا.
ورواه ابن خُزيمة في صحيحه. (6)
وقال هُشَيْم ، عن عبد الحميد المدني ، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري : أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال
__________
(1) رواه الترمذي في السنن برقم (324) وابن ماجه في السنن برقم (1411) من طريق أبي
أسامة - عبد الحميد بن جعفر - عن أبي الأبرد مولى بني الخطمة - عن أسيد بن ظهير
الأنصاري رضي الله عنه ، وبه. وقال الترمذي - كما في تحفة الأشرف (1/275) :
"حديث حسن صحيح ، ولا نعرف لأسيد بن ظهير شيئا يصح غير هذا الحديث ، ولا
نعرفه إلا من حديث أبي أسامة".
(2) صحيح مسلم برقم (1399) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(3) سنن أبي داود برقم (44) وسنن الترمذي برقم (3100) ، وسنن ابن ماجة برقم (357).
(4) المعجم الكبير (11/67) وفيه محمد بن حميد وهو ضعيف ، وابن إسحاق مدلس وقد
عنعن.
(5) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(6) المسند (3/422) وصحيح ابن خزيمة برقم (83) وقال الهيثمي في المجمع (1/212) :
"وفيه شرحبيل بن سعد ضعفه مالك وابن معين وأبو زرعة ووثقه ابن حبان".
(4/213)
لعُوَيم
بن ساعدة. "ما هذا الذي أثنى الله عليكم : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } قالوا : يا رسول الله ، إنا
نغسل الأدبار بالماء. (1)
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عُمارة الأسدي ، حدثنا محمد بن سعد ، حدثنا إبراهيم
بن محمد ، عن شرحبيل بن سعد قال : سمعت خُزَيمة بن ثابت يقول : نزلت هذه الآية : {
فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ
} قال : كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط. (2)
حديث آخر : قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا مالك - يعني :
ابن مغْوَل - سمعت سيارا أبا الحكم ، عن شهر بن حوشب ، عن محمد بن عبد الله بن
سلام قال : لما (3) قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني : قباء ، فقال :
"إن الله ، عز وجل ، قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا ، أفلا تخبروني ؟".
يعني : قوله تعالى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } فقالوا : يا رسول الله ، إنا نجده مكتوبًا علينا في
التوراة : الاستنجاءُ بالماء. (4)
وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف ، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس.
ورواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة بن الزبير. وقاله عطية
العوفي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والشعبي ، والحسن البصري ، ونقله البغوي عن
سعيد بن جُبَير ، وقتادة.
وقد ورد في الحديث الصحيح : أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في جوف
المدينة ، هو المسجد الذي أسس على التقوى. وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية وبين
هذا ؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى
الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى ؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده :
حدثنا أبو نُعيم ، حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي ، عن عمران بن أبي أنس ، عن سهل
بن سعد ، عن أبيّ بن كعب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "المسجد الذي
أسس على التقوى مسجدي هذا". تفرد به أحمد. (5)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي ، عن
عمران بن أبي أنس ، عن سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسِّسَ على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد
رسول الله (6) صلى الله عليه وسلم. وقال الآخر : هو مسجد قباء.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (14/487).
(2) رواه الطبري في تفسيره (14/487).
(3) في أ : "لقد".
(4) المسند (6/6).
(5) المسند (5/116).
(6) في ت ، أ : "الرسول".
(4/214)
فأتيا
النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه ، فقال : "هو مسجدي هذا" (1) تفرد به
أحمد أيضا.
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ليث ، عن عمران بن أبي أنس ، عن
سعيد بن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس
على التقوى ، فقال أحدهما : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد النبي صلى الله
عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هو مسجدي هذا" (2) تفرد
به أحمد.
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا ليث ، حدثني عمران بن
أبي أنس ، عن ابن أبي سعيد ، عن أبيه أنه قال : تمارى رجلان في المسجد الذي أسس
على التقوى من أول يوم ، فقال رجل : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هو
مسجدي".
وكذا رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة ، عن الليث (3) وصححه الترمذي ، ورواه مسلم
كما سيأتي.
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا يحيى ، عن أُنَيْس بن أبي يحيى ، حدثني أبي قال :
سمعت أبا سعيد الخدري قال : اختلف رجلان : رجل من بني خَدْرة ، ورجل من بني عمرو
بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، وقال العَمْري : هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسألاه عن ذلك ، فقال : "هو هذا المسجد" لمسجد رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وقال : "في ذاك [خير كثير] (4) يعني : مسجد قباء. (5)
طريق أخرى : قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد - حدثنا
حميد الخراط المدني ، سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن أبي سعيد (6) فقلت : كيف
سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى ؟ فقال أبي : أتيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه ، فقلت : يا رسول الله ، أين المسجد
(7) الذي أسس على التقوى ؟ قال : فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ، ثم قال :
"هو مسجدكم هذا". ثم قال : [فقلتُ له : هكذا] (8) سمعتَ أباك يذكره ؟.
رواه مسلم منفردًا به عن محمد بن حاتم ، عن يحيى بن سعيد ، به (9) ورواه عن أبي
بكر بن
__________
(1) المسند (5/331) وقال الهيثمي في المجمع (7/34) : "رجاله رجال
الصحيح".
(2) المسند (3/89).
(3) المسند (3/7) وسنن الترمذي برقم (3099) والنسائي في السنن الكبرى برقم
(11228).
(4) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند. وفي أ : "خير كبير".
(5) المسند (3/23).
(6) في ت ، ك ، أ : "سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال : مر بي عبد الرحمن بن
أبي سعيد".
(7) في أ : "أي مسجد".
(8) زيادة من ت ، ك ، أ ، والطبري.
(9) تفسير الطبري (14/477) وصحيح مسلم برقم (1398).
(4/215)
أبي
شيبة وغيره ، عن حاتم بن إسماعيل ، عن حميد الخراط ، به. (1)
وقد قال بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف والخلف ، وهو مروي عن
عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن المسيب. واختاره ابن
جرير.
وقوله : { لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُطَّهِّرِينَ } دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول
بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع جماعة الصالحين ،
والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن (2) ملابسة القاذورات.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، سمعت
شبيبا أبا روح يحدث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم صَلَّى بهم الصبح فقرأ بهم (3) الروم فأوهم ، فلما انصرف قال :
"إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن
شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء".
ثم رواه من طريقين آخرين ، عن عبد الملك بن عمير ، عن شبيب أبي روح من ذي الكَلاع
: أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره (4) فدل هذا على أن إكمال الطهارة
يسهل القيام في العبادة ، ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها.
وقال أبو العالية في قوله تعالى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } إن
الطهور بالماء لحسن ، ولكنهم المطهرون من الذنوب.
وقال الأعمش : التوبة من الذنب ، والتطهير من الشرك.
وقد ورد في الحديث المروي من طرق ، في السنن وغيرها ، أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال لأهل قباء : "قد أثنى الله عليكم في الطهور ، فماذا تصنعون ؟"
فقالوا : نستنجي بالماء.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب ، حدثنا أحمد بن محمد بن
عبد العزيز قال : وجدته في كتاب أبي ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن
ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أهل قباء. { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ
يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } فسألهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقالوا : إنا نُتْبِعُ الحجارة الماء.
ثم قال : تفرد به محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، ولم يرو عنه سوى ابنه. (5)
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1398).
(2) في ت ، ك ، أ : "من".
(3) في ت ، أ : "فيها".
(4) المسند (3/471 ، 472).
(5) مسند البزار برقم (247) وقال الهيثمي في المجمع (1/212) : "فيه محمد بن
عبد العزيز بن عمر الزهري ضعفه البخاري والنسائي وهو الذي أشار بجلد مالك".
(4/216)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
قلت
: وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء (1) ولم يعرفه كثير من المحدّثين
المتأخرين ، أو كلهم ، والله أعلم.
{ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ
أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي
نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزَالُ
بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ
قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) }
يقول تعالى : لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى الله ورضوان ، ومن بنى مسجدا ضرارا
وكفرا وتفريقا بين المؤمنين ، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ، فإنما بنى
هؤلاء بنيانهم { عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } أي : طرف حَفِيرة مثاله { فِي نَارِ
جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يصلح عمل
المفسدين.
قال جابر بن عبد الله : رأيت المسجد الذي بني ضرارا يخرج منه الدخان على عهد النبي
(2) صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن جُرَيْج (3) ذُكر لنا أن رجالا (4) حَفَروا فوجدوا الدخان يخرج منه. وكذا
قال قتادة.
وقال خلف بن ياسين الكوفي : رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن ،
وفيه جحر يخرج منه الدخان ، وهو اليوم مَزْبلة. رواه ابن جرير (5) رحمه الله.
وقوله : { لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي
: شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع ، أورثهم نفاقا في قلوبهم ، كما
أشرب عابدو العجل حبه.
وقوله : { إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي : بموتهم. قاله ابن عباس ، ومجاهد
، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، وحبيب بن أبي ثابت ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم ، وغير واحد من علماء السلف.
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : بأعمال خلقه ، { حَكِيمٌ } في مجازاتهم عنها ، من خير
وشر. (6)
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "الفقهاء به".
(2) في ت ، أ : "رسول الله".
(3) في ت ، أ : "جرير".
(4) في ت : "رجلا".
(5) تفسير الطبري (14/494).
(6) في ك ، أ : "عليها".
(4/217)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
{
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ
لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ
أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ
بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) }
يخبر تعالى أنه عاوض عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة
، وهذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عباده
المطيعين له ؛ ولهذا قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم.
وقال شَمِر بن عطية : ما من مسلم إلا ولله ، عز وجل ، في عُنُقه بيعة ، وفَّى بها
أو مات عليها ، ثم تلا هذه الآية.
ولهذا يقال : من حمل في سبيل الله بايع الله ، أي : قَبِل هذا العقد ووفى به.
وقال محمد بن كعب القُرَظي وغيره : قال عبد الله بن رواحة ، رضي الله عنه ، لرسول
الله صلى الله عليه وسلم - يعني ليلة العقبةِ - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت! فقال
: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما
تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ قال :
"الجنة". قالوا : رَبِح البيعُ ، لا نُقِيل ولا نستقيل ، فنزلت : (1) {
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ }
الآية.
وقوله : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } أي :
سواء قتلوا أو قُتلوا ، أو اجتمع لهم هذا وهذا ، فقد وجبت لهم الجنة ؛ ولهذا جاء
في الصحيحين : "وتكفل الله لمن خرج في سبيله ، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي ،
وتصديق برسلي ، بأن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه ،
نائلا ما نال من أجر أو غنيمة". (2)
وقوله : { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ }
تأكيد لهذا الوعد ، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة ، وأنزله على رسله في
كتبه الكبار ، وهي (3) التوراة المنزلة على موسى ، والإنجيل المنزل على عيسى ،
والقرآن المنزل على محمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقوله : { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } [أي : ولا واحد أعظم وفاءً
بما عاهد عليه من الله] (4) فإنه لا يخلف الميعاد ، وهذا كقوله تعالى : { وَمَنْ
أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا } [النساء : 87]{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ
قِيلا } [النساء : 122] ؛ ولهذا قال : { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي
بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : فليستبشر من قام
بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد ، بالفوز العظيم ، والنعيم (5) المقيم.
__________
(1) في أ : "فنزل".
(2) صحيح البخاري برقم (3123) وصحيح مسلم برقم (1876)
(3) في أ : "وهو".
(4) زيادة من ت ، ك ، أ.
(5) في ت ، أ : "والمغنم".
(4/218)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
{ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) }
(4/218)
هذا
نعتُ المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال
الجليلة : { التَّائِبُونَ } من الذنوب كلها ، التاركون للفواحش ، { الْعَابِدُونَ
} أي : القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها ، وهي الأقوال والأفعال فمن أخَصّ
الأقوال الحمد (1) ؛ فلهذا قال : { الْحَامِدُونَ } ومن أفضل الأعمال الصيامُ ،
وهو ترك الملاذِّ من الطعام والشراب والجماع ، وهو المراد بالسياحة هاهنا ؛ ولهذا
قال : { السَّائِحُونَ } كما وصف أزواج النبي (2) صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله
تعالى : { سَائِحَاتٍ } [التحريم : 5] أي : صائمات ، وكذا الركوع والسجود ، وهما
عبارة عن الصلاة ، ولهذا قال : { الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ } وهم مع ذلك ينفعون
خلق الله ، ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، مع العلم
بما ينبغي فعله ويجب تركُه ، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه ، علما وعملا
فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق ؛ ولهذا قال : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } لأن
الإيمان يشمل هذا كله ، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به.
[بيان (3) أن المراد بالسياحة الصيام] : (4)
قال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زِرّ ، عن عبد الله بن مسعود قال : {
السَّائِحُونَ } الصائمون. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير ، والعوفي عن ابن عباس.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : كل ما ذكر الله في القرآن السياحة ، هم
الصائمون. وكذا قال الضحاك ، رحمه الله.
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إبراهيم بن يزيد ،
عن الوليد بن عبد الله ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : سياحةُ هذه الأمة
الصيام. (5)
وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وعطاء ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والضحاك بن
مُزاحم ، وسفيان بن عُيينة وغيرهم : أن المراد بالسائحين : الصائمون.
وقال الحسن البصري : { السَّائِحُونَ } الصائمون شهر رمضان.
وقال أبو (6) عمرو العَبْدي : { السَّائِحُونَ } الذين يديمون الصيام من المؤمنين.
وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا ، وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن
بَزِيع ،
__________
(1) في أ : "الحمد الله".
(2) في ت ، أ : "الرسول".
(3) في أ : "ذكر".
(4) زيادة من ت ، ك ، أ.
(5) تفسير الطبري (14/505).
(6) في ت : "ابن".
(4/219)
حدثنا
حكيم بن حزام ، حدثنا سليمان ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "السائحون هم الصائمون" (1)
[ثم رواه عن بُنْدَار ، عن ابن مهدي ، عن إسرائيل ، عن سليمان الأعمش ، عن أبي
صالح ، عن أبي هريرة أنه قال : { السَّائِحُونَ } الصائمون]. (2)
وهذا الموقوف أصح.
وقال أيضا : حدثني يونس ، عن ابن وهب ، عن عمر بن الحارث ، عن عمرو بن دينار ، عن
عُبَيد بن عُمَير قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال : "هم
الصائمون". (3)
وهذا مرسل جيد.
فهذه (4) أصح الأقوال وأشهرها ، وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد ، وهو ما روى
أبو داود في سننه ، من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ، ائذن لي في
السياحة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "سياحة (5) أمتي الجهاد في سبيل
الله". (6)
وقال ابن المبارك ، عن ابن لَهِيعة : أخبرني عُمارة بن غَزِيَّة : أن السياحة ذكرت
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله ، والتكبير على كل شرف". (7)
وعن عِكْرِمة أنه قال : هم طلبة العلم. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم
المهاجرون. رواهما ابن أبي حاتم.
وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض ،
والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري ، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام
الفتَن والزلازل في الدين ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن أبي سعيد الخدري (8) أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يوشك أن يكون خير مال الرجل (9) غَنَم
يَتْبَع بها شَعفَ الجبال ، ومواقع القَطْر ، يفر بدينه من الفتن". (10)
وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَالْحَافِظُونَ
لِحُدُودِ اللَّهِ } قال : القائمون بطاعة الله. وكذا قال الحسن البصري ، وعنه
رواية : { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } قال : لفرائض
__________
(1) تفسير الطبري (14/503).
(2) زيادة من ت ، ك ، أ.
(3) تفسير الطبري (14/502).
(4) في ت : "وهذا" ، وفي أ : "فهذا".
(5) في أ : "سياح".
(6) سنن أبي داود برقم (2486).
(7) وهذا معضل ، عمارة بن غزية لم يدرك أحدا من الصحابة.
(8) في أ : "عن أبي هريرة".
(9) في ت ، ك ، أ : "المسلم".
(10) صحيح البخاري برقم (19).
(4/220)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
الله
، وفي رواية : القائمون على أمر الله.
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا
عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ
تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) }
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب
، عن أبيه قال : لما حَضَرت أبا طالب الوفاة (1) دخل عليه النبي صلى الله عليه
وسلم وعنده أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية ، فقال : "أيْ عَمّ ، قل : لا
إله إلا الله. كلمة أحاجّ لك بها عند الله ، عز وجل". فقال أبو جهل وعبد الله
بن أبي أمية : يا أبا طالب ، أترغب عن ملَّة عبد المطلب ؟ [قال : فلم يزالا
يكلمانه ، حتى قال آخر شيء كلمهم به : على (2) ملة عبد المطلب]. (3) فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : "لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك". فنزلت : { مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ
أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } قال : ونزلت فيه : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }
[القصص : 56] أخرجاه. (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، أخبرنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي
الخليل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رجلا يستغفر لأبويه ، وهما مشركان ،
فقلت : أيستغفر الرجل لأبويه وهما مشركان ؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه ؟
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } إلى قوله : { فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ } قال : "لما مات" ، فلا أدري
قاله سفيان أو قاله إسرائيل ، أو هو (5) في الحديث "لما مات". (6)
قلت هذا ثابت عن مجاهد أنه قال : لما مات.
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا زبيد بن الحارث
اليامي (7) عن محارب بن دثار ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه قال : كنا مع النبي صلى
الله عليه وسلم ، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب ، فصلى ركعتين ، ثم أقبل
علينا بوجهه وعيناه تَذْرِفان ، فقام إليه عمر بن الخطاب وفَداه بالأب والأم ،
وقال : يا رسول الله ، ما لك ؟ قال : "إني سألت ربي ، عز وجل ، في الاستغفار
لأمي ، فلم يأذن لي ، فدمعت عيناي رحمة لها من النار ، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث :
نهيتكم عن زيارة القبور
__________
(1) في أ : "الفائدة".
(2) في ت ، ك ، أ : "فقال : أنا على ملة".
(3) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(4) المسند (5/533) وصحيح البخاري برقم (4675) وصحيح مسلم برقم (24).
(5) في ت ، أ : "وهو".
(6) المسند (1/99).
(7) في أ : "السامي".
(4/221)
فزوروها
، لتذكركم زيارتُها خيرًا ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث ، فكلوا وأمسكوا ما
شئتم ، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية ، فاشربوا في أي وعاء (1) ولا تشربوا
مسكرا". (2)
وروى ابن جرير ، من حديث علقمة بن مَرْثد ، عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه ؛ أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رَسْمَ قبر ، فجلس إليه ، فجعل
يخاطب ، ثم قام مستعبرًا. فقلنا : يا رسول الله ، إنا رابنا ما صنعت. قال :
"إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي ، فأذن لي ، واستأذنته في الاستغفار لها
فلم يأذن لي". فما رئي باكيا أكثر من يومئذ. (3)
وقال ابن أبي حاتم ، في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا خالد بن خِداش ، حدثنا عبد
الله بن وهب ، عن ابن جرَيج عن أيوب بن هانئ ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود
قال : خرجَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر ، فاتبعناه ، فجاء حتى
جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن
الخطاب ، فدعاه ثم دعانا ، فقال : "ما أبكاكم ؟" فقلنا : بكينا لبكائك.
قال : "إن القبر الذي جلستُ عنده قبر آمنة ، وإني استأذنتُ ربي في زيارتها
فأذن لي" (4) ثم أورده من وجه آخر ، ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا منه ،
وفيه : "وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي ، وأنزل علي : { مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة ، وكنت نهيتكم عن
زيارة القبور فزوروها ، فإنها تذكر الآخرة". (5)
حديث آخر في معناه : قال الطبراني : حدثنا محمد بن علي المروزي ، حدثنا أبو
الدرداء عبد العزيز (6) بن منيب ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كَيْسَان ، عن أبيه
، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقبل من غزوة
تبوك واعتمر ، فلما هبط من ثنية عُسْفان أمر أصحابه : أن استندوا إلى العقبة حتى
أرجع إليكم ، فذهب فنزل على قبر أمّه ، فناجى ربَّه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه
، وبكى هؤلاء لبكائه ، وقالوا : ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أُحدثَ في
أمته شيء لا تُطيقه. فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم ، فقال : "ما يبكيكم
؟". قالوا : يا نبي الله ، بكينا لبكائك ، فقلنا : لعله أحدث في أمتك شيء لا
تطيقه ، قال : "لا وقد كان بعضه ، ولكن نزلت على قبر أمي
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "أي وعاء شئتم".
(2) المسند (5/355).
(3) تفسير الطبري (14/512) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (1/189) من طريق سفيان
عن علقمة بن مرثد به نحوه.
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (2/336) ومن طريقه البيهقي في دلائل النبوة (1/189)
من طريق بحر بن نصر عن ابن وهب به نحوه.
(5) وأصل الحديث رواه مسلم في صحيحه برقم (976) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. فقال : "استأذنت
ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا
القبور فإنها تذكر الموت".
(6) في ت : "أبو الدرداء عن عبد العزيز".
(4/222)
فدعوت
الله أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة ، فأبى الله أن يأذن لي ، فرحمتها وهي
أمّي ، فبكيت ، ثم جاءني جبريل فقال : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ
لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ
عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } فتبرّأ أنت من أمك ، كما تبرأ إبراهيم من أبيه
، فرحمْتُها وهي أمي ، ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعًا ، فرفع عنهم اثنتين ،
وأبى أن يرفع عنهم اثنتين : دعوتُ ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغَرَق من
الأرض ، وألا يلبسهم شيعا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من
السماء ، والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج". وإنما عدل
إلى قبر أمه لأنها كانت مدفونة تحت كَداء (1) وكانت عُسْفان لهم. (2)
وهذا حديث غريب وسياق عجيب ، وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه الخطيب البغدادي في
كتاب "السابق واللاحق" بسند مجهول ، عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله
أحيا أمَّه فآمنت ثم عادت. (3) وكذلك ما رواه السهيلي في "الروض" بسند
فيه جَمَاعة مجهولون : أن الله أحيا له أباه وأمه (4) فآمنا به. (5)
وقد قال الحافظ ابن دِحْيَةَ : [هذا الحديث موضوع يرده القرآن والإجماع ، قال الله
تعالى : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [النساء : 18]. وقال أبو
عبد الله القرطبي : إن مقتضى هذا الحديث... وردَّ عَلَى ابن دِحية] (6) في هذا
الاستدلال بما حاصله : أن هذه حياة جديدة ، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلى
عَلِيٌّ العصر ، قال الطحاوي : وهو [حديث] (7) ثابت ، يعني : حديث الشمس.
قال القرطبي : فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا شرعا ، قال : وقد سمعت أن الله أحيا
عمه أبا طالب ، فآمن به. (8)
__________
(1) في ت ، أ : "كذا وكذا" ، وفي ك : "كذا وكذا".
(2) المعجم الكبير (11/374).
(3) ساقه القرطبي في : التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 16) وقال : خرجه
أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في كتاب السابق واللاحق ، وأبو حفص عمر بن شاهين في
الناسخ والمنسوخ ، ولا يصح الحديث. لمخالفته ما في صحيح مسلم برقم (976) من حديث
أبي هريرة قال : زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. فقال :
"استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها
فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" ولضعف إسناده.
(4) في ت : "وآمنة".
(5) الروض الأنف (1/113).
(6) زيادة من ت ، ك ، أ.
(7) زيادة من ت ، ك ، أ.
(8) التذكرة (ص 17). وما ذكره القرطبي لا يصح ؛ أما إحياؤهما وإيمانهما فلا يمتنع
عقلا ، وأما شرعا فقد جاء في صحيح مسلم من حديث أنس ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله
، أين أبي ؟ قال : "في النار" فلما قفا دعاه وقال : "إن أبي وأباك
في النار" ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الاستغفار لأمه ، وهذا المنع
متأخر بخلاف من قال بأن ما جاء في أنهما - أي أبواه صلى الله عليه وسلم - في النار
منسوخ بحديث عائشة الذي رواه الخطيب ، فإن دعوى النسخ غير قائمة ولا تعتمد على
أصل. وأما قول القرطبي بأنه سمع أن الله أحيا عمه أبا طالب... إلخ ، فهذا أبعد عن
الصحة ؛ فإن في الصحيح من حديث أبي سعيد ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع له عند
الله فهو في النار يجعل ضحاح من نار تحت قدميه يغلي منها دماغه ، وفي صحيح مسلم
مرفوعا : "أهون أهل النار عذابا أبو طالب" فمن يكون في النار كيف يقال :
إنه آمن في قبره ؟!
(4/223)
قلت
: وهذا كله متوقف على صحة الحديث ، فإذا صح فلا مانع منه (1) والله أعلم.
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } الآية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أراد أن يستغفر لأمه ، فنهاه الله عن ذلك (2) فقال : "فإنّ إبراهيم خليل الله
استغفر لأبيه" ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ
لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } (3) الآية.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : كانوا يستغفرُون لهم ، حتى
نزلت هذه الآية ، فلما [نزلت (4) أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ، ولم ينههم أن
يستغفروا للأحياء حتى يموتوا] (5) ثم أنزل الله : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ
إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ } الآية.
وقال قتادة في هذه الآية : ذُكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
قالوا : يا نبي الله ، إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفُكّ
العاني ، ويوفي بالذمم ؛ أفلا نستغفر لهم ؟ قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"بلى ، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه". فأنزل الله :
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
} حتى بلغ : { الْجَحِيمِ } ثم عذر الله تعالى إبراهيم ، فقال : { وَمَا كَانَ
اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } قال : وذُكر
لنا أن نبي الله قال : "أوحى إليّ كلمات ، فدخلن في أذني ووقَرْن في قلبي :
أمِرْتُ ألا أستغفرَ لمن مات مشركا ، ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له ، ومن أمسك
فهو شرٌ له ، ولا يلوم الله على كَفاف".
وقال الثوري ، عن الشيباني ، عن سعيد بن جُبير قال : مات رجل يهودي وله ابن (6)
مسلم ، فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : فكان ينبغي له أن يمشي معه
ويدفنه ، ويدعو له بالصلاح ما دام حيا ، فإذا مات وكَّله إلى شأنه ثم قال : {
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا
إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } لم
يَدْعُ.
[قلت] (7) وهذا يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره ، عن علي بن أبي طالب قال :
لما مات أبو طالب قلت : يا رسول الله ، إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال :
"اذهب فَوَاره ولا تُحْدثَنَّ شيئا حتى تأتيني". وذكر تمام الحديث. (8)
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مَرّت به جنازة عمه أبي طالب قال :
"وَصَلتكَ رَحِمٌ يا عم". (9)
__________
(1) وقد رأيت أن ذلك لا يصح. والله أعلم.
(2) في ت ، أ : "عنه".
(3) في ت : "إياها".
(4) في أ : "أنزلت".
(5) زيادة من ت ، ك ، أ.
(6) في ك : "ولد".
(7) زيادة من أ.
(8) سنن أبي داود برقم (3214).
(9) ورواه ابن عدي في الكامل (1/260) من طريق الفضل بن موسى ، عن إبراهيم بن عبد
الرحمن - وهو ضعيف - عن ابن جريج عن عطاء ، عن ابن عباس مرفوعا ولفظه :
"وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم". وإبراهيم بن عبد الرحمن قال ابن عدي :
"أحاديثه عن كل من روى ليست بمستقيمة" ثم قال : "وعامة أحاديثه غير
محفوظة".
(4/224)
وقال
عطاء بن أبي رباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية
حبلى من الزنا ؛ لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا على المشركين ، يقول الله ، عز
وجل : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ }.
وروى ابنُ جَرير ، عن ابن وَكِيع ، عن أبيه ، عن عصمة بن زامل ، عن أبيه قال :
سمعت أبا هريرة يقول : رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه. قلت : ولأبيه ؟ قال
: لا. قال : إن أبي مات مشركا. (1)
وقوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ }
قال ابن عباس : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو لله
تبرأ منه. وفي رواية : لما مات تبين له أنه عدو لله.
وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم ، رحمهم الله.
وقال عُبَيْد بن عمير ، وسعيد بن جُبَيْر : إنه يتبرأ منه [في] (2) يوم القيامة
حين يلقى أباه ، وعلى وجه أبيه الغُبرة والقُتْرة فيقول : يا إبراهيم ، إني كنت
أعصيك وإني اليوم لا أعصيك. فيقول : أيْ رَبي ، ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون ؟
فأيّ خزْي أخزى من أبي الأبعد ؟ فيقال : انظر إلى ما وراءك ، فإذا هو بِذِيخٍ
متلطخ ، أي : قد مسخ ضِبْعانًا ، ثم يسحب بقوائمه ، ويلقى في النار.
وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } قال سفيان الثوري وغير واحد ، عن
عاصم بن بَهْدَلة ، عن زِرّ بن حُبَيش ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الأواه :
الدَّعَّاء. وكذا روي من غير وجه ، عن ابن مسعود.
وقال ابن جرير : حدثني المثنى : حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا عبد الحميد بن
بَهْرام ، حدثنا شَهْر بن حَوشب ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال : بينما رسول
الله صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل : يا رسول الله ، ما الأوّاه ؟ قال :
"المتضرع" ، قال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } (3)
ورواه (4) ابن أبي حاتم من حديث ابن المبارك ، عن عبد الحميد بن بَهْرَام ، به ،
قال : المتضرع : الدَّعَّاء.
وقال الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مسلم البَطِين عن أبي العُبَيْديْن أنه سأل
ابن مسعود عن الأواه ، فقال : هو الرحيم.
وبه قال مجاهد ، وأبو ميسرة عمرو بن شُرَحْبيل ، والحسن البصري ، وقتادة : أنه
الرحيم ، أي : بعباد الله.
__________
(1) تفسير الطبري (14/517).
(2) زيادة من ت ، ك ، أ.
(3) تفسير الطبري (14/531).
(4) في ت ، أ : "وروى".
(4/225)
وقال
ابن المبارك ، عن خالد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : الأوَّاه : الموقن بلسان
الحبشة. (1) وكذا قال العوفي ، عن ابن عباس : أنه الموقن. وكذا قال مجاهد ،
والضحاك. وقال علي بن أبي طلحة ، ومجاهد ، عن ابن عباس : الأواه : المؤمن - زاد
علي بن أبي طلحة عنه : المؤمن التواب. وقال العوفي عنه : هو المؤمن بلسان الحبشة.
وكذا قال ابن جُرَيْج : هو المؤمن بلسان الحبشة.
وقال أحمد : حدثنا موسى ، حدثنا ابن لهِيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن علي بن رباح
، عن عقبة بن عامر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له "ذو
البِجادين" : "إنه أواه" ، وذلك أنه رجل (2) كثير الذكر لله في
القرآن ويرفع صوته في الدعاء.
ورواه ابن جرير. (3)
وقال سعيد بن جبير ، والشعبي : الأواه : المسبّح. وقال ابن وهب ، عن معاوية بن
صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جُبَير بن نفير ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ،
قال : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا أواه. وقال شُفَى بن مانع ، عن أيوب : الأواه :
الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها.
وعن مجاهد : الأواه : الحفيظ الوجل ، يذنب الذنب سرا ، ثم يتوب منه سرا.
ذكر ذلك كلَّه ابن أبي حاتم ، رحمه الله.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا المحاربي ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن
الحسن بن مسلم بن يناق : أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبّح ، فذكر ذلك للنبي صلى
الله عليه وسلم ، فقال : "إنه أواه". (4)
وقال أيضا حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا ابن يمان ، حدثنا المِنْهَال بن خليفة ، عن
حَجّاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا
، فقال : "رحمك الله إن كنتَ لأواها"! يعني : تَلاءً للقرآن (5) وقال
شعبة ، عن أبي يونس الباهلي قال : سمعت رجلا بمكة - وكان أصله روميا ، وكان قاصا -
يحدث عن أبي ذر قال : كان رجل يطوف بالبيت الحرام ويقول في دعائه : "أوّه
أوّه" ، فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه أواه. قال : فخرجت
ذات ليلة ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح.
هذا حديث غريب رواه ابن جرير ومشاه. (6)
وروي عن كعب الأحبار أنه قال : (7) { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ } قال : كان إذا
ذكر النار قال : "أوّه من النار".
__________
(1) في ت : "الحبشية".
(2) في ت ، أ : "رجل كان كثير الذكر".
(3) المسند (4/159) وتفسير الطبري (14/533) وحسنه الهيثمي في المجمع (9/369) وفيه
ابن لهيعة متكلم فيه.
(4) تفسير الطبري (14/529).
(5) تفسير الطبري (14/530).
(6) تفسير الطبري (14/530). ورواه الحاكم في المستدرك (1/368) من طريق شعبة به ،
وقال : "إسناده معضل".
(7) في هـ ، ت ، أ : "أنه قال : سمعت".
(4/226)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
وقال
ابن جُرَيْج عن ابن عباس : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ } قال : فقيه.
قال الإمام العلم أبو جعفر بن جرير : وأولى الأقوال قول من قال : إنَّه الدعَّاء ،
وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن
موعدة وعدها إياه ، وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه وأناله مكروها ؛
ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه (1) في قوله : { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي
يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.
قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا }
[مريم : 46 ، 47] ، فحلم عنه مع أذاه له ، ودعا له واستغفر ؛ ولهذا قال تعالى : {
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } (2)
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ
لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) }
يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل : إنه لا يضل قوما بعد بلاغ (3)
الرسالة إليهم ، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة ، كما قال تعالى : { وَأَمَّا
ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } الآية [فصلت :
17].
وقال مجاهد في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ
هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } قال : بيان الله ، عز وجل ،
للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة ، فافعلوا أو
ذَروا.
وقال ابن جرير : يقول الله تعالى : وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم
المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله ، حتى يتقدم
إليكم بالنهي عنه فتتركوا ، فأما قبل أن يبين لكم كراهيته (4) ذلك بالنهي عنه ، ثم
تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه ، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال ، فإن الطاعة والمعصية
إنما يكونان من المأمور والمنهي ، وأما من لم يُؤمَر ولم يُنْهَ فغير كائن مطيعا
أو عاصيًا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ } قال ابن جرير : هذا
تحريض من الله لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر ، وأن (5) يثقوا بنصر
الله مالك السماوات والأرض ، ولم يرهبوا من أعدائه فإنه لا ولي لهم من دون الله ،
ولا نصير لهم
__________
(1) في ك : "أذاه له".
(2) تفسير الطبري (14/532).
(3) في ت : "إبلاغ".
(4) في ت : "كراهية".
(5) في ت ، ك : "وأنهم".
(4/227)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
سواه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء
، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن صفوان بن مُحْرِز ، عن حكيم بن حزام قال : بينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم : "هل تسمعون ما أسمع ؟"
قالوا ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لأسمع أطيط
السماء ، وما تلام أن تَئطَّ ، وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو
قائم". (1)
وقال كعب الأحبار : ما من موضع خرمة (2) إبرة من الأرض إلا وملك موكل بها ، يرفع
علم ذلك إلى الله ، وإن ملائكة السماء لأكثر من عدد التراب ، وإن حملة العرش ما
بين كعب أحدهم إلى مُخّه مسيرة مائة عام.
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ
قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
(117) }
قال مجاهد وغير واحد : نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك أنهم خرجوا إليها في
شدة من الأمر في سنة مُجدبة وحر شديد ، وعسر من الزاد والماء.
قال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لَهَبان الحر ، على ما يعلم الله من
الجهد ، أصابهم فيها جهد شديد ، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين (3) كانا يشقان التمرة
بينهما ، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم ، يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، ثم
يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، [ثم يمصها هذا ، ثم يشرب عليها] (4) فتاب الله عليهم
وأقفلهم من غزوتهم.
وقال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن
الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن عتبة بن أبي عتبة ، عن نافع بن جُبَير بن مطعم
، عن عبد الله بن عباس ؛ أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر بن
الخطاب : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا
منزلا فأصابنا فيه عَطَش ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع (5) [حتى إن كان الرجل ليذهب
يلتمس الماء ، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع] (6) حتى إن الرجل لينحر بعيره
فيعصر فَرْثه فيشربه ، ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق : يا رسول
الله ، إن الله عز وجل ، قد عَوّدك في الدعاء خيرا ، فادع لنا. قال : "تحب
ذلك". قال : نعم! فرفع يديه فلم
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (3/201) وأبو نعيم في الحلية (2/217) من طريق
عبد الوهاب بن عطاء به نحوه ، وقال أبو نعيم : "هذا حديث غريب من حديث صفوان
بن محرز عن حكيم تفرد به عن قتادة سعيد بن أبي عروبة".
(2) في ت ، أ : "خرم".
(3) في أ : "رجلين".
(4) زيادة من أ.
(5) في ت : "ستقطع".
(6) زيادة من ت ، ك ، أ ، والطبري.
(4/228)
يرجعهما
حتى مالت السماء فأظَلَّت (1) ثم سكبت ، فملئوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها
جاوزت العسكر. (2)
وقال ابن جرير في قوله : { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ }
أي : من النفقة والظهر والزاد والماء ، { مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ } (3) أي : عن الحق ويشك في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويرتاب ، بالذي نالهم من المشقة والشدة في سفره وغزوه ، { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ
} يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم ، والرجوع إلى الثبات على دينه ، { إِنَّهُ
بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }.
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "فأهطلت".
(2) تفسير الطبري (14/541) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1707) "موارد"
والحاكم في المستدرك (1/159) من طريق حرملة ابن يحيى ، ورواه البزار في مسنده برقم
(1841) "كشف الأستار" من طريق أصبغ بن الفرج كلاهما عن ابن وهب به نحوه
، وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". قال
المؤلف ابن كثير في السيرة (4/16) : "إسناد جيد ، ولم يخرجوه من هذا
الوجه".
(3) في أ : "يزيغ".
(4/229)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
{
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ
بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ
مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) }
قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد
الله ، عن عمه محمد بن مسلم الزهري ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن
مالك ، أن عبد الله بن كعب بن مالك - وكان قائد كعب من بنيه (1) حين عَمى - قال :
سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة
تبوك ، فقال كعب بن مالك : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة
غيرها (2) قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ، ولم يعاتَب أحدٌ
تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عِير قريش ، حتى جمع
الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد ، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن
كانت بدر أذْكَر في الناس منها وأشهر ، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنه في
تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة ، وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرّى بغيرها ، حتى
كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَرٍّ شديد ، واستقبل
سفرا بعيدا ومفازًا ، واستقبل عدوا كثيرًا (3) فَجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا
أهبة عدوهم ، فأخبرهم وَجْهَه
__________
(1) في أ : "بيته".
(2) في أ : "غزاها".
(3) في أ : "كبيرا".
(4/229)
الذي
يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ -
يريد الديوان - فقال كعب : فَقَلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم
ينزل فيه وحي من الله ، عز وجل ، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة
حين طابت الثمار والظل ، وأنا إليها أصعر. فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه
وسلم والمؤمنون معه ، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا ،
فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمَّر (1)
بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ، ولم أقض
من جهازي شيئا ، وقلت : الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه (2) فغدوت بعدما فصلوا
لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا من جهازي. ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل
[ذلك] (3) يَتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فأدركهم - وليت
أنّي فعلتُ - ثم لم يقدر ذلك لي ، فطفقت إذا خرجتُ في الناس بعد [خروج] (4) رسول
الله صلى الله عليه وسلم [فَطُفتُ فيهم] (5) يحزنني ألا أرى إلا رجلا مَغْموصا
عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذره الله ، عز وجل ، ولم يذكرني رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم بتبوك : "ما فعل كعب بن
مالك ؟" قال رجل من بني سَلمة : حبسه يا رسول الله بُرْداه ، والنظر في
عَطْفيه. فقال له معاذ بن جبل : بئسما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا
خيرا! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد تَوجَّه قافلا من تبوك حضرني بَثّي (6) فطفقت أتذكر
(7) الكَذب ، وأقول : بماذا أخرج من سخطه غدا ؟ أستعين على ذلك كلّ ذي رأي من
أهلي. فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما ، زاح عني الباطل
وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا. فأجمعتُ صدقه ، وصَبَّح رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ، ثم جلس للناس. فلما فعل
ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له - وكانوا بضعة وثمانين رجلا -
فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى
الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلَّمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي :
"تعال" ، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه ، فقال لي : "ما خلَّفك ،
ألم تك قد اشتريت ظهرك" ؟ قال : فقلت : يا رسول الله ، إني لو جلست عند غيرك
من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سَخَطه بعذر ، لقد أعطيتُ جَدَلا ولكنه والله لقد
علمتُ لئن حَدّثتك اليوم حديث كَذب ترضى به عني ، ليوشكن الله يُسْخطك علي ، ولئن
حدثتك بصدق تَجدُ عَليّ فيه ، إني لأرجو أقرب عقبى ذلك [عفوًا] (8) من الله ، عز
وجل (9) والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي
الله فيك". فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني ، فقالوا لي : والله ما
علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ، ولقد عَجَزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون (10) فقد كان كافيك [من ذنبك] (11) استغفار
رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال : فوالله ما زالوا يؤنّبوني حتى أردت أن
أرجع فأُكذِّب نفسي : قال : ثم قلت لهم : هل لقي هذا معي أحد ؟ قالوا : نعم ،
[لقيه معك] (12) رجلان ، قالا ما قلتَ ، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت : فمن هما ؟
قالوا : مُرَارة بن الربيع العامري ، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين
صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة. قال : فمضيت حين ذكروهما لي - قال : ونهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا - أيها الثلاثة - من بين من تخلف عنه
، فاجتنَبنَا الناس وتغيّروا لنا ، حتى تنكرَتْ لي في نفسي الأرضُ ، فما هي بالأرض
التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في
بيوتهما يبكيان ، وأما أنا فكنت أشَب القوم وأجلَدهم ، فكنت أشهد الصلاة مع
المسلمين ، وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم ، وأقول في نفسي : حَرّك شفتيه برد السلام عليّ أم
لا ؟ ثم أصلي قريبا منه ، وأسارقه النظر ، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي ، فإذا
التفت نحوه أعرَض ، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مَشَيت حتى تسورت حائط
أبي قتادة - وهو ابن عمي ، وأحب الناس إلي - فسلمت عليه ، فوالله ما رد علي السلام
، فقلت له : يا أبا قتادة ، أنشدُك الله : هل تعلم أني أحب الله ورسوله ؟ قال :
فسكت. قال : فعدتُ فنشدته [فسكت ، فعدت فنشدته] (13) فقال : الله ورسوله أعلم. قال
: ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدار. فبينا (14) أنا أمشي بسوق المدينة إذا
نَبَطِيٌّ من أنباط الشام ، ممن (15) قَدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول : من يدل على
كعب بن مالك ؟ قال : فطفِقَ الناس يشيرون له إليّ ، حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك
غسان ، وكنت كاتبا (16) فإذا فيه : أما بعد ، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم
يجعلك الله بدار هَوان ولا مَضْيَعة ، فالحق بنا نُواسكَ. قال : فقلت حين قرأتها :
وهذا أيضًا من البلاء. قال : فتيممت به التنور فَسَجرته (17) حتى إذا مضت أربعون
ليلة من الخمسين ، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني ، فقال : إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال : فقلت : أطلقها أم ماذا
أفعل ؟ قال : بل اعتزلها ولا تقربها. قال : وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك قال : فقلت
لامرأتي : الحقي بأهلك ، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال : فجاءت
امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا رسول الله ، إن
هلالا شيخ ضائع ليس له خادم ، فهل تكره أن أخدمه ؟ قال : "لا ولكن لا
يقربَنَّك" قالت : وإنه والله ما به حركة إلى شيء ، والله ما يزال يبكي من
لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا. قال : فقال لي بعض أهلي : لو استأذنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك ، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه.
قال : فقلت : والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أدري ما
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب ؟ قال : فلبثنا [بعد
ذلك] (18) عشر ليال ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال : ثم صليت
صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا ، فبينا أنا جالس على الحال
التي ذكر الله تعالى منا : قد ضاقت علي نفسي ، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت
صارخا أوفى على جبل سَلْع يقول بأعلى صوته : يا كعب بن مالك ، أبشر. قال : فخررت
ساجدا ، وعرفت أن (19) قد جاء فرج ، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله
علينا حين صلى الفجر ، فذهب الناس يبشروننا ، وذهب قِبَل صاحبيّ مبشرون ، وركض إلي
رجُل فرسًا ، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل ، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما
جاءني الذي سمعت صوته يبشرني ، فنزعت (20) ثوبي ، فكسوتهما إياه ببشارته ، والله
ما أملك غيرهما يومئذ ، واستعرت ثوبين فلبستهما ، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ، يقولون : لِيَهْنك توبة
الله عليك. حتى دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد
حوله الناس ، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهرول ، حتى صافحني وهَنَّأني ، والله
ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال : فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب : فلما
سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرُق وجهه من السرور : "أبشر
بخير يوم مَرّ عليك منذ ولدتك أمّك". قال : قلت : أمن عندك يا رسول الله أم
من عند الله ؟ قال : "لا بل من عند الله". قال : وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر ، حتى يعرف ذلك منه. فلما
جلست بين يديه قلت : يا رسول الله ، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله
وإلى رسوله. قال : "أمسك عليك بعض مالك ، فهو خير لك". قال : فقلت :
فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت : يا رسول الله ، إنما نجاني الله بالصدق ، وإن
من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. قال : فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه
الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما
أبلاني الله تعالى ، والله ما تعمدت كَذبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى يومي هذا ، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال : وأنزل الله تعالى
: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ
قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ
بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ
مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } قال كعب : فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد
أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ألا
أكون كَذَبْتُه فأهلك كما هلك الذين كَذَبوه [حين كَذَبُوه] (21) ؛ فإن الله تعالى
قال للذين كَذَبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد ، قال (22) الله تعالى : {
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا
عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ
تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
[التوبة : 95 ، 96]. قال : وكنا خُلّفنا - أيها الثلاثة - عن أمر أولئك الذين قبل
منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا ، فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسولُ
الله أمرَنا ، حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال الله تعالى : (23) { وَعَلَى
الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما
خُلِّفنا بتخلفنا عن الغزو ، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه ، فقبل منه.
هذا حديث صحيح ثابت متفق على صحته ، رواه صاحبا الصحيح : البخاري ومسلم من حديث
الزهري ، بنحوه. (24)
فقد تضمن هذا الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها. وكذا رُوي عن
غير واحد من السلف في تفسيرها ، كما رواه الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر بن عبد
الله في قوله تعالى : { وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا } قال : هم كعب
بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومُرارة بن ربيعة وكلهم من الأنصار.
وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي وغير واحد - وكلهم قال : مُرارة بن
ربيعة.
[وكذا في مسلم : مرارة بن ربيعة في بعض نسخه ، وفي بعضها : مرارة بن الربيع]. (25)
وفي رواية عن سعيد بن جُبَير : ربيع بن مرارة.
وقال الحسن البصري : ربيع بن مرارة (26) أو مرارة (27) بن ربيع.
وفي رواية عن الضحاك : مُرارة بن الربيع ، كما وقع في الصحيحين ، وهو الصواب.
وقوله : "فسموا رجلين شهدا بدرا" ، قيل : إنه خطأ من الزهري ، فإنه لا
يُعْرَف شُهودُ واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا ، والله أعلم.
ولما ذكر تعالى ما فرّج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب ، من هجر المسلمين
إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وضاقت عليهم الأرض بما
رَحُبت ، أي : مع سعتها ، فسدّدت عليهم المسالك والمذاهب ، فلا يهتدون ما يصنعون ،
فصبروا لأمر الله ، واستكانوا لأمر الله ، وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم ، وأنه كان عن غير عذر ، فعوقبوا على ذلك
هذه المدة ، ثم تاب الله عليهم ، فكان (28) عاقبة صدقهم خيرا لهم وتوبة عليهم ؛
ولهذا قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ } أي : اصدُقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك
ويجعل لكم فرجا من أموركم ، ومخرجا ، وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ،
حدثنا الأعمش عن شقيق (29) ؛ عن عبد الله ، هو ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليكم بالصدق ؛ فإن الصدق يهدي إلى البر
وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله
صديقا ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ،
وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب ، حتى
__________
(1) في ت ، ك : "استمر".
(2) في ت : "ألحقهم".
(3) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(4) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(5) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(6) في أ : "شيء".
(7) في ت ، أ : "أتفكر".
(8) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(9) في ت : "تعالى".
(10) في أ : "المخلفون".
(11) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(12) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(13) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(14) في ت ، ك ، أ : "وبينا".
(15) في ت : "فيمن".
(16) في ت : "وكتب كتابا".
(17) في ت ، أ : "فسجرته فيها".
(18) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(19) في أ : "أنه".
(20) في ت ، ك ، أ : "فنزعت له".
(21) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(22) في ت ، ك ، أ : "فقال".
(23) في ت : "عز وجل".
(24) المسند (3/456 - 459) وصحيح البخاري برقم (889) وبرقم (2757) وصحيح مسلم برقم
(2769).
(25) زيادة من أ.
(26) في جميع النسخ : "مرار" بدون هاء ، والتصويب من الطبري.
(27) في جميع النسخ : "مرار" بدون هاء ، والتصويب من الطبري.
(28) في ت ، ك ، أ : "وكان".
(29) في أ : "سفيان".
(4/230)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
يكتب
عند الله كذابا".
أخرجاه في الصحيحين. (1)
وقال شعبة ، عن عمرو بن مُرّة ، سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن مسعود ، رضي
الله عنه ، أنه قال : [إن] (2) الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، اقرءوا إن شئتم : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ }
(3) - هكذا قرأها - ثم قال : فهل تجدون لأحد فيه رخصة.
وعن عبد الله بن عمر : { اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } مع محمد
صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقال الضحاك : مع أبي بكر وعمر وأصحابهما. (4)
وقال الحسن البصري : إن أردت أن تكون مع الصادقين ، فعليك بالزهد في الدنيا ،
والكف عن أهل الملة.
{ مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ
يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ
مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) }
يعاتب تعالى المتخلّفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوك ، من أهل
المدينة ومن حولها من أحياء العرب ، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل من المشقة
، فإنهم نَقَصُوا أنفسهم من الأجر ؛ لأنهم (5) { لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } وهو :
العطش { وَلا نَصَبٌ } وهو : التعب { وَلا مَخْمَصَةٌ } وهي : المجاعة (6) { وَلا
يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ } أي : ينزلون منزلا (7) يُرهبُ عدوهم {
وَلا يَنَالُونَ } منه ظفرًا وغلبة عليه إلا كتب الله لهم بهذه الأعمال التي ليست
داخلة تحت قدرتهم ، وإنما هي ناشئة عن أفعالهم ، أعمالا صالحة وثوابا جزيلا {
إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } كما قال تعالى : { إِنَّا لا
نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا } [الكهف : 30].
{ وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا
إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(121) }
يقول تعالى : ولا ينفق هؤلاء الغزاة في سبيل الله { نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً } أي : قليلا ولا كثيرا
__________
(1) المسند (1/384) وصحيح البخاري برقم (6094) وصحيح مسلم برقم (2607).
(2) زيادة من أ.
(3) في ت ، ك ، أ : "مع".
(4) في ت ، ك ، أ : "وأصحابهم".
(5) في ت ، أ : "لأنه".
(6) في ت : "المجامعة".
(7) في أ : "مالا".
(4/234)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
{
وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا } أي : في السير إلى الأعداء { إِلا كُتِبَ لَهُمْ }
ولم يقل ها هنا "به" لأن هذه أفعال صادرة عنهم ؛ ولهذا قال : {
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }.
وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، من هذه الآية الكريمة حظ
وافر ، ونصيب عظيم ، وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة ، والأموال
الجزيلة ، كما قال عبد الله بن الإمام أحمد :
حدثنا أبو موسى العنزي ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثني سَكَن بن المغيرة
، حدثني الوليد بن أبي هاشم ، عن فرقد أبي طلحة ، عن عبد الرحمن بن خَبَّاب السلمي
قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحث على جيش العسرة ، فقال عثمان بن عفان
، رضي الله عنه : عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها. قال : ثم حث ، فقال عثمان :
عليَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال : ثم نزل مرْقاة من المنبر ثم حث ، فقال
عثمان بن عفان : علىَّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال : فرأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول بيده هكذا - يحركها. وأخرج عبد الصمد يده كالمتعجب : "ما
على عثمان ما عمل بعد هذا". (1)
وقال عبد الله أيضا : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ضَمْرَة ، حدثنا عبد الله بن
شَوْذَب ، عن عبد الله بن القاسم ، عن كثير مولى عبد الرحمن بن سَمُرة ، عن عبد
الرحمن بن سمرة قال : جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه
حين (2) جَهَّز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال : فصبها في حجر النبي صلى
الله عليه وسلم ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول : "ما
ضَرّ ابن عفان ما عمل بعد اليوم". يرددها مرارا. (3)
وقال قتادة في قوله تعالى : { وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ }
الآية : ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بعدًا إلا ازدادوا من الله قربا.
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) }
هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نَفير الأحياء مع الرسول في غزوة تبوك ، فإنه
قد ذهب طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم ؛ ولهذا قال تعالى : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا } [التوبة :
41] ، وقال : { مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ
أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } [التوبة : 120] ، قالوا : فنسخ ذلك
بهذه الآية.
__________
(1) زوائد المسند (4/75) ورواه الترمذي في السنن برقم (3700) من طريق السكن بن
المغيرة به ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه إلا من
حديث السكن بن المغيرة".
(2) في ت ، ك : "حتى".
(3) زوائد المسند (5/63) ورواه الترمذي في السنن برقم (3701) من طريق الحسن بن
واقع عن ضمرة بن ربيعة به ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب من هذا
الوجه".
(4/235)
وقد
يقال : إن هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلها ، وشرذمة من كل قبيلة إن لم
يخرجوا كلهم ، ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من الوحي عليه ، وينذروا قومهم
إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو ، فيجتمع لهم الأمران في هذا : النفير
المعين وبعده ، صلوات الله وسلامه عليه ، تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه
وإما للجهاد ؛ فإنه فرض كفاية على الأحياء.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً } يقول : ما كان المؤمنون لينفروا جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه
وسلم وحده ، { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } يعني :
عصبة ، يعني : السرايا ، ولا يَتَسرَّوا (1) إلا بإذنه ، فإذا رجعت السرايا وقد
نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : إن الله قد
أنزل على نبيكم قرآنا ، وقد تعلمناه. فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على
نبيهم بعدهم ، ويبعث سرايا أخرى ، فذلك قوله : { لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ }
يقول : ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم ، وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم {
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }.
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، خرجوا في
البوادي ، فأصابوا من الناس معروفا ، ومن الخصب (2) ما ينتفعون به ، ودعوا من
وجدوا من الناس إلى الهدى ، فقال الناس لهم : ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم
وجئتمونا. فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا ، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على
النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الله ، عز وجل : { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } يبتغون (3) الخير ، { لِيَتَفَقَّهُوا [فِي
الدِّينِ] } (4) وليستمعوا ما في الناس ، وما أنزل الله بعدهم ، { وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ } الناس كلهم { إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }.
وقال قتادة في هذه الآية : هذا إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش ،
أمرهم الله ألا يُعرَوْا (5) نبيَّه صلى الله عليه وسلم ، وتقيم طائفة مع رسول
الله تتفقه في الدين ، وتنطلق طائفة تدعو قومها ، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا
قبلهم.
وقال الضحاك : كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحلْ لأحد من
المسلمين أن يتخلف عنه ، إلا أهل الأعذار. وكان إذا أقام فاسترت السرايا لم يحل
لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه ، فكان الرجل إذا استرى فنزل بعده قرآن ، تلاه رسول (6)
الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين (7) معه ، فإذا رجعت السرية قال لهم
الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أنزل بعدكم على نبيه
قرآنا. فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين ، وهو قوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } يقول إذا أقام رسول الله { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ } يعني بذلك : أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعا
ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد ، ولكن إذا قعد نبي الله تسرت السرايا ، وقعد
معه عُظْم (8) الناس.
__________
(1) في جميع النسخ : "يسيروا" والمثبت من الطبري ومستفاد من ط. الشعب.
(2) في ك : "الخطب".
(3) في أ : "يتبعون".
(4) زيادة من أ.
(5) في ت : "أن لا يغزوا" ، وفي أ : "أن يغزوا".
(6) في أ : "نبي".
(7) في ت ، ك ، أ : "القاعدون".
(8) في ت ، أ : "عظيم".
(4/236)
وقال
[علي] (1) بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس : قوله : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } فإنها ليست في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله
عليه وسلم على مُضر بالسنين أجدبت بلادهم ، وكانت القبيلة منهم تُقبِل بأسرها حتى
يحلوا بالمدينة من الجهد ، ويعتلّوا بالإسلام وهم كاذبون. فضيقوا على أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم. فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين ، فردهم
رسول الله إلى عشائرهم ، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم ، فذلك قوله : {
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }.
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : كان ينطلق من كل حي من العرب عصابة ،
فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم. فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ، ويتفقهون في
دينهم ، ويقولون لنبي الله : ما تأمرنا أن نفعله ؟ وأخبرنا [ما نقول] (2) لعشائرنا
إذا قدمنا انطلقنا إليهم. قال : فيأمرهم نبي الله بطاعة الله وطاعة رسوله ،
ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا : إن من أسلم فهو
منا ، وينذرونهم ، حتى إن الرجل ليفارق أباه وأمه ، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم ، فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الإسلام وينذرونهم
النار ويبشرونهم بالجنة.
وقال عكرمة : لما نزلت هذه الآية : [الشريفة] (3) { إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (4) } [التوبة : 39] ، و { مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ
وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا [عَنْ رَسُولِ اللَّهِ] }
[التوبة : 120] ، (5) قال المنافقون : هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم
ينفروا معه. وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى
قومهم يفقهونهم ، فأنزل الله ، عز وجل : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ
لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ }
الآية ، ونزلت : { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا
اسْتُجِيبَ لَهُ } الآية [الشورى : 16].
وقال الحسن البصري : { فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } قال : ليتفقه الذين خرجوا ، بما يردهم الله من
الظهور على المشركين ، والنصرة ، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ت ، ك ، أ.
(3) زيادة من ت.
(4) في ت ، ك : "يعذبكم".
(5) زيادة من ت ، أ.
(4/237)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
(123) }
أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا الأقرب فالأقرب إلى حوزة
الإسلام ؛ ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب
، فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة ، والطائف ، واليمن واليمامة ، وهجر
، وخيبر ، وحضرموت ، وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ،
(4/237)
ودخل
الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا ، شرع في قتال أهل الكتاب ، فتجهز
لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب ، وأولى الناس بالدعوة إلى
الإسلام لكونهم أهل الكتاب ، فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهْد الناس وجَدْب البلاد (1)
وضيق الحال ، وكان ذلك سنة تسع من هجرته ، عليه السلام. (2)
ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجته حَجَّة الوداع. ثم عاجلته المنية ، صلوات الله
وسلامه عليه ، بعد الحجة بأحد وثمانين يوما ، فاختاره الله لما عنده.
وقام بالأمر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر ، رضي الله عنه ، وقد مال الدين
ميلة كاد أن ينجفل ، فثبته الله تعالى به فوطد القواعد ، وثبت الدعائم. ورد شارد
الدين وهو راغم. ورد أهل (3) الردة إلى الإسلام ، وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغام
، وبين الحق لمن جهله ، وأدى عن الرسول ما حمله. ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية
إلى الروم عَبَدَةِ الصلبان (4) وإلى الفرس عبدة النيران ، ففتح الله ببركة سفارته
البلاد ، وأرغم أنفس كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد. وأنفق كنوزهما في سبيل
الله ، كما أخبر بذلك رسول الإله.
وكان تمام الأمر على يدي وصيّه من بعده ، وولي عهده الفاروق الأوّاب ، شهيد
المحراب ، أبي حفص عمر بن الخطاب ، فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين ، وقمع
الطغاة والمنافقين ، واستولى على الممالك شرقًا وغربًا. وحملت إليه خزائن الأموال
من سائر الأقاليم بعدًا وقُربا. ففرقها على الوجه الشرعي ، والسبيل المرضي.
ثم لما مات شهيدًا وقد عاش حميدًا ، أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار. على
خلافة أمير المؤمنين [أبي عمرو] (5) عثمان بن عفان شهيد الدار. فكسى الإسلام
[بجلاله] (6) رياسة حلة سابغة. وأمدت (7) في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة
الله البالغة ، وظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وعلت كلمة الله وظهر دينه.
وبلغت الأمة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها ، فكلما عَلَوا أمة انتقلوا إلى
من بعدهم ، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار ، امتثالا لقوله تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ }
وقوله تعالى : { وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً } [أي : وليجد الكفار منكم (8)
غلظة] (9) عليهم في قتالكم لهم ، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا لأخيه
المؤمن ، غليظًا على عدوه الكافر ، كما قال تعالى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ
بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة : 54] ، وقال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح :
29] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } [التوبة : 73 ، والتحريم : 9] ، وفي
الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أنا الضَّحوك
القَتَّال" ، يعني : أنه ضَحُوك في وجه وليه ،
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "الناس".
(2) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ت : "آل".
(4) في أ : "الأصنام".
(5) زيادة من ت ، ك ، أ.
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في أ : "وامتدت".
(8) في ت ، أ : "فيكن".
(9) زيادة من ت ، ك ، أ.
(4/238)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
قَتَّال
لهامة عدوه.
وقوله : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } أي : قاتلوا الكفار ،
وتوكلوا على الله ، واعلموا أن الله معكم إن اتقيتموه وأطعتموه.
وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة ، في غاية الاستقامة
، والقيام بطاعة الله تعالى ، لم يزالوا ظاهرين على عدوهم ، ولم تزل الفتوحات
كثيرة ، ولم تزل الأعداء في سَفال وخسار. ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات
بين الملوك ، طمع الأعداء في أطراف البلاد ، وتقدموا إليها ، فلم يمانعوا لشغل
الملوك بعضهم ببعض ، ثم تقدموا إلى حوزة الإسلام ، فأخذوا من الأطراف بلدانا كثيرة
، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام ، ولله ، سبحانه ، الأمر من
قبل ومن بعد. فكلما (1) قام ملك من ملوك الإسلام ، وأطاع أوامر الله ، وتوكل على
الله ، فتح الله عليه من البلاد ، واسترجع من الأعداء بحسبه ، وبقدر ما فيه من
ولاية الله. والله المسئول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين ،
وأن يعلي كلمتهم في سائر الأقاليم ، إنه جواد كريم.
{ وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ
هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ
رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) }
يقول تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ } فمن المنافقين { مَنْ يَقُولُ
أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا } ؟ أي : يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه
السورة إيمانا ؟ قال الله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ
إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }.
وهذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص ، كما هو مذهب أكثر السلف
والخلف من أئمة العلماء ، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، وقد بسط الكلام
على هذه المسألة في أول "شرح البخاري" رحمه الله ، { وَأَمَّا الَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ } أي : زادتهم شكا
إلى شكهم ، وريبا إلى ريبهم ، كما قال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا
هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا
خَسَارًا } [الإسراء : 82] ، وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى
وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ
عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت : 44] ، وهذا من جملة
شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم ، كما أن سيئ المزاج لو غذي بما
غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا.
__________
(1) في ت : "فلما".
(4/239)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
{
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ
ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ
نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا
صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) }
يقول تعالى : أولا يرى هؤلاء المنافقون (1) { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } أي : يختبرون
{ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ
يَذَّكَّرُونَ } أي : لا يتوبون من ذنوبهم السالفة ، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من
أحوالهم.
قال مجاهد : يختبرون بالسَّنة والجوع.
وقال قتادة : بالغزو في السنة مرة أو مرتين.
وقال شريك ، عن جابر - هو الجعفي - عن أبي الضُّحى ، عن حذيفة : { أَوَلا يَرَوْنَ
أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } قال : كنا نسمع
في كل عام كذبة أو كذبتين ، فيضل بها فئام من الناس كثير. رواه ابن جرير.
وفي الحديث عن أنس : "لا يزداد الأمر إلا شدة ، ولا يزداد الناس إلا شحا ،
وما من عام إلا والذي بعده شر منه" ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم. (2)
وقوله : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ
يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } (3) هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } أي :
تَلَفَّتُوا ، { هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا } أي : تولوا عن
الحق وانصرفوا عنه ، وهذا حالهم في الدين لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا
يقيمونه كما قال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ.
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } [المدثر : 49 - 51]
، وقال تعالى : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ
الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } [المعارج : 36 ، 37] ، أي : ما لهؤلاء
القوم يتقللون عنك يمينا وشمالا هروبا من الحق ، وذهابا إلى الباطل.
وقوله : { ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } كقوله : { فَلَمَّا
زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف : 5] ،
__________
(1) في ك ، أ : "المنافقين".
(2) هذا الحديث مركب من حديثين عن أنس : الأول : رواه ابن ماجه في السنن برقم
(4039) والحاكم في المستدرك (4/441) من طريق محمد بن خالد الجندي ، عن أبان ابن
صالح ، عن الحسن ، عن أنس رضي الله عنه مرفوعا : "لا يزداد الأمر إلا شدة ،
ولا الدنيا إلا إدبارا ، ولا الناس إلا شحا ، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس
، وما المهدى إلا عيسى ابن مريم" ففيه ضعف ونكارة بينهما المؤلف - الحافظ ابن
كثير في النهاية في الفتن والملاحم (1/32). وأما الثاني : فرواه البخاري في صحيحه
برقم (7068) من طريق سفيان عن الزبير بن عدي قال : أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه
ما يلقون من الحجاج ، فقال : "اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده
أشر منه حتى تلقوا ربكم" سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
(3) في ت : "رآكم".
(4/240)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
{
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ } أي : لا يفهمون عن الله خطابه ، ولا يقصدون
لفهمه ولا يريدونه ، بل هم في شده (1) عنه ونفور منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا
إليه.
{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) }
يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم ، أي : من جنسهم
وعلى لغتهم ، كما قال إبراهيم ، عليه السلام : { رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ
رَسُولا مِنْهُمْ } [البقرة : 129] ، وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [آل عمران : 164]
، وقال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي : منكم وبلغتكم
، كما قال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ، والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى : إن الله بعث
فينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصفته ، ومدخله ومخرجه ، وصدقه وأمانته ، وذكر الحديث.
وقال سفيان بن عُيينة ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه في قوله تعالى : { لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ،
وقال صلى الله عليه وسلم : "خرجت من نكاح ، ولم أخرج من سِفاح".
وقد وصل هذا من وجه آخر ، كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن
الرامهُرْمُزي في كتابه "الفاصل بين الراوي والواعي" : حدثنا أبو أحمد
يوسف بن هارون بن زياد ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال :
أشهد على أبي لحدثني ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي
وأمي لم يمسني (2) من سفاح الجاهلية شيء". (3)
وقوله : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي : يعز عليه الشيء الذي يَعْنَتُ
أمته ويشق عليها ؛ ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال : "بعثت
بالحنيفية السمحة" (4) وفي الصحيح : "إن هذا الدين يسر" (5)
وشريعته كلها سهلة سمحة كاملة ، يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه.
{ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي : على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم.
قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد
المقرئ ،
__________
(1) في ت ، ك ، أ : "شغل".
(2) في ت ، أ : "لم يصبني" ، وفي ك : "لم يمسسني".
(3) الفاصل بين الراوي والواعي (ص 136) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3483)
"مجمع البحرين" من طريق عبد الرحمن الرازي ، عن محمد بن أبي عمر به ،
وفيه محمد بن جعفر بن محمد بن علي متكلم فيه.
(4) رواه أحمد في مسنده (5/266) عن أبي أمامة ، و(6/233) عن عائشة رضي الله عنهما.
(5) صحيح البخاري برقم (39) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4/241)
حدثنا
سفيان بن عيينة ، عن فِطْر ، عن أبي الطفيل ، عن أبي ذر قال. تركنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وما طائر (1) يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكرنا منه علما - قال
: وقال صلى الله عليه وسلم : "ما بقي شيء يُقرب من الجنة ويباعد من النار إلا
وقد بين لكم". (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا [أبو] (3) فَطَن ، حدثنا السعودي ، عن الحسن بن سعد ، عن
عبدة النَّهدي ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الله لم يحرم حُرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مُطَّلَع ، ألا وإني
آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار ، كتهافت الفراش ، أو الذباب". (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن
جُدْعان ، عن يوسف بن مِهْرَان ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتاه ملكان ، فيما يرى النائم ، فقعد أحدهما عند (5) رجليه والآخر عند رأسه. فقال
الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مثل هذا ومثل أمته. فقال : إن مثله (6) ومثل أمته
كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة (7) فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به
المفازة (8) ولا ما يرجعون به ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حُلَّة حِبَرَة
فقال : أرأيتم إن ورَدت بكم رياضا معشبة ، وحياضا رواء تتبعوني ؟ فقالوا : نعم.
قال : فانطلق بهم ، فأوردهم رياضا معشبة ، وحياضا رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا ،
فقال لهم : ألم ألفكم على تلك الحال ، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا
رواء أن تتبعوني ؟ فقالوا : بلى. قال : فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه ،
وحياضا هي أروى من هذه ، فاتبعوني. فقالت طائفة : صدق ، والله لنتبعنه وقالت طائفة
: قد رضينا بهذا نقيم عليه. (9)
وقال البزار : حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور قالا حدثنا إبراهيم بن الحكم بن
أبان حدثنا أبي ، عن عِكْرِمة عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن أعرابيا جاء إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعينه في شيء - قال عِكْرِمة : أراه قال :
"في دم" - فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال :
"أحسنت إليك ؟" قال الأعرابي : لا ولا أجملت. فغضب بعض المسلمين ، وهموا
أن يقوموا إليه ، فأشار رسول الله إليهم : أن كفوا. فلما قام رسول الله صلى الله
عليه وسلم وبلغ إلى منزله ، دعا الأعرابي إلى البيت ، فقال له : "إنك جئتنا
فسألتنا فأعطيناك ، فقلت ما قلت" فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ،
وقال : "أحسنت إليك ؟" فقال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة
خيرًا. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنك جئتنا تسألنا (10) فأعطيناك ،
فقلت ما قلت ، وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شيء ، فإذا جئت (11) فقل بين أيديهم ما
قلت بين يدي ، حتى يذهب عن صدورهم". قال : نعم. فلما جاء الأعرابي. قال (12)
إن صاحبكم كان
__________
(1) في أ : "وما من طائر".
(2) المعجم الكبير (2/155) وقال الهيثمي في المجمع (7/265) : "رجاله رجال
الصحيح غير محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ وهو ثقة".
(3) زيادة من ت ، ك ، أ ، والمسند.
(4) المسند (1/390).
(5) في ك : "عن".
(6) في ت : "مثل هذا".
(7) في ك : "مغازة".
(8) في ك : "المغازة".
(9) المسند (1/267) وعلى بن زيد بن جدعان ضعيف.
(10) في ت ، ك : "فسألنا" وفي أ : "فسألتنا".
(11) في ت : "خرجت".
(12) في ك ، أ : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(4/242)
جاءنا
فسألنا فأعطيناه ، فقال ما قال ، وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي ، [كذلك
يا أعرابي ؟] (1) قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم : "إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له
ناقة ، فشردت عليه ، فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا. فقال لهم صاحب الناقة :
خلوا بيني وبين ناقتي ، فأنا أرفق بها ، وأعلم بها. فتوجه إليها وأخذ لها (2) من
قَتَام الأرض ، ودعاها حتى جاءت واستجابت ، وشد عليها رحْلها وإنه لو أطعتكم حيث
قال ما قال لدخل النار". ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه.
(3)
قلت : وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان ، والله أعلم.
وقوله : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } كما قال تعالى : { وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } [الشعراء
: 215 - 217].
وهكذا أمره تعالى.
وهذه (4) الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : تولوا عما
جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة ، { فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ
} أي : الله كافيَّ ، لا إله إلا هو عليه توكلت ، كما قال تعالى : { رَبُّ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [المزمل :
9].
{ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي : هو مالك كل شيء وخالقه ، لأنه رب
العرش العظيم ، الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السموات والأرضين وما
فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى ، وعلمه محيط بكل شيء ،
وَقَدَره نافذ في كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل.
قال عبد الله بن (5) الإمام أحمد : حدثني محمد بن أبي بكر ، حدثنا بشر بن عمر ،
حدثنا شعبة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْرَان ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما
، عن أبي بن كعب قال : آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية : { لَقَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } إلى آخر السورة. (6)
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا روح بن عبد المؤمن ، حدثنا عمر بن شقيق ،
حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب ، رضي
الله عنه ؛ أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر ، رضي الله عنه ، فكان
رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب ، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة :
{ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا
يَفْقَهُونَ } [التوبة : 127] ، فظنوا أن هذا آخر ما أنزل (7) من القرآن. فقال لهم
أبي بن كعب : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين : { لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }
__________
(1) زيادة من ت ، ك ، أ ، والبزار.
(2) في ت ، أ : "فأخذها".
(3) مسند البزار برقم (2476) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(9/15) : "وفيه إبراهيم بن الحكم بن أبان وهو متروك".
(4) في ت ، ك ، أ : "في هذه".
(5) ساقطة من النسخ.
(6) زوائد المسند (5/117) وقال الهيثمي في المجمع (7/36) : "وفيه علي بن زيد
بن جدعان وهو ثقة سيئ الحفظ ، وبقية رجاله ثقات" قلت : أجمع الأئمة على تضعيف
علي بن زيد بن جدعان.
(7) في أ : "ما نزل".
(4/243)
إلى
: { وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } قال : "هذا (1) آخر ما أنزل (2) من
القرآن" قال : فختم بما فُتح به ، بالله الذي لا إله إلا هو ، وهو قول الله
تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] (3) غريب (4) أيضا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن بحر ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ،
عن يحيى بن عباد ، عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير ، رضي الله عنه ، قال : أتى
الحارث بن خَزَمة (5) بهاتين الآيتين من آخر براءة : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ
مِنْ أَنْفُسِكُمْ } إلى عمر بن الخطاب ، فقال : من معك على هذا ؟ قال : لا أدري ،
والله إني لأشهد (6) لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيتها وحفظتها.
فقال عمر : وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم قال : لو كانت
ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة ، فانظروا سورة من القرآن ، فضعوها فيها. فوضعوها
في آخر براءة. (7)
وقد تقدم أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار على أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهما ،
بجمع القرآن ، فأمر زيد بن ثابت فجمعه. وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك. وفي
الصحيح أن زيدا قال : فوجدت آخر سورة "براءة" مع خزيمة بن ثابت - أو :
أبي خزيمة (8) وقدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا (9) ذلك عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، كما قال خزيمة بن ثابت حين ابتدأهم بها ، والله أعلم.
وقد روى أبو داود ، عن يزيد بن محمد ، عن عبد الرزاق بن عمر - وقال : كان من ثقات
المسلمين من المتعبدين ، عن مدرك بن سعد - قال يزيد : شيخ ثقة - عن يونس بن ميسرة
، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله لا
إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ، سبع مرات ، إلا كفاه الله ما
أهمه. (10) (11)
وقد رواه ابن عساكر في ترجمة "عبد الرزاق بن عمر" هذا ، من رواية أبى زُرْعَة
الدمشقي ، عنه ، عن أبي سعد مُدْرِك بن أبي سعد الفزاري ، عن يونس بن ميسرة بن
حليس ، عن أم الدرداء ، سمعت أبا الدرداء يقول : ما من عبد يقول : حسبي الله ، لا
إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ، سبع مرات ، صادقا كان بها أو
كاذبا ، إلا كفاه الله ما هَمَّه. (12)
وهذه زيادة غريبة. ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد ، عن أحمد بن عبد الله بن
عبد الرزاق ، عن جده عبد الرزاق بن عمر ، بسنده فرفعه (13) فذكر مثله بالزيادة.
وهذا منكر ، والله أعلم.
آخر سورة براءة ، والحمد لله وحده. (14)
__________
(1) في أ : "إن هذا".
(2) في أ : "ما نزل".
(3) في أ : "إلا نوحي".
(4) زوائد المسند (5/134).
(5) في ك : "خزيمة".
(6) في أ : "أشهد".
(7) المسند (1/199).
(8) صحيح البخاري برقم (4679).
(9) في ك ، أ : "يذكروا".
(10) في ك : "ما يغمه".
(11) سنن أبي داود برقم (5081).
(12) تاريخ دمشق (10/291 "المخطوط").
(13) تاريخ دمشق (10/312 "المخطوط").
(14) جاء في ك : [رابع عشر من ربيع الأول سنة ثمانين في سبع من الهجرة النبوية ،
وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم].
(4/244)
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
تفسير
سورة يونس
[وهي مكية] (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ
أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ
آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ
هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) }
أما الحروف المقطعة في أوائل السور ، فقد تقدم الكلام عليها [مستوفى] (2) في أوائل
(3) سورة البقرة.
وقال أبو الضحى ، عن ابن عباس في قوله تعالى : "الر" ، أي : أنا الله
أرى. وكذا قال الضحاك وغيره.
{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } أي : هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال
مجاهد : { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } [قال : التوراة والإنجيل].
(4)
[وقال الحسن : التوراة والزبور]. (5)
وقال قتادة : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } قال : الكتب التي كانت قبل القرآن.
وهذا القول لا أعرف وجهه ولا معناه.
وقوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ
أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } الآية ، يقول تعالى منكرا على من
تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من البشر ، كما أخبر تعالى عن القرون الماضية من
(6) قولهم : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] وقال هود وصالح لقومهما :
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ } [
الأعراف : 63 : 69 ] وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا : { أَجَعَلَ
الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ].
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا
أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا
مثل محمد. قال : فأنزل الله عز
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت ، أ : "أول".
(4) زيادة من تفسير الطبري (15/11) مستفاد من ط. الشعب.
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) من ت ، أ : "في".
(4/245)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
وجل
: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ }
وقوله : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } اختلفوا فيه ، فقال علي
بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ [عِنْدَ
رَبِّهِمْ] } (1) يقول : سبقت لهم السعادة في الذكر الأول.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ }
يقول : أجرا حسنا ، بما قدموا. وكذا قال الضحاك ، والربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم. وهذا كقوله تعالى : { لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ
وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ
أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } [ الكهف : 2 ، 3 ]
وقال مجاهد : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } قال : الأعمال
الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم.
[وقال عمرو بن الحارث عن قتادة أو الحسن { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ
رَبِّهِمْ] } (2) قال : محمد صلى الله عليه وسلم شفيع لهم. وكذا قال زيد بن أسلم ،
ومقاتل بن حيان.
وقال قتادة : سَلفُ صدق عند ربهم.
واختار ابن جرير قول مجاهد - أنها الأعمال الصالحة التي قدموها - قال : كما يقال :
"له قدم في الإسلام" ومنه قول [حسان] (3) رضي الله عنه.
لنا القَدَمُ (4) العُليا إليك وخَلْفُنا لأوَّلِنا في طاعَة اللهِ تَابعُ...
وقول ذي الرُّمة :
لكُم قَدَمٌ لا يُنْكرُ الناسُ أنها... مَعَ الحسَبِ العَادِيّ طَمَّت على
البَحْرِ (5)
وقوله تعالى : { قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } (6) أي : مع
أنا بعثنا إليهم رسولا منهم ، رجلا من جنسهم ، بشيرا ونذيرا ، { قَالَ
الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ } (7) أي : ظاهر ، وهم الكاذبون في
ذلك.
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ
أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا
مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ (3) }
يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه ، وأنه خَلَق السموات والأرض في ستة أيام - قيل :
كهذه الأيام ، وقيل : كل يوم كألف سنة مما تعدون. كما سيأتي بيانه [إن شاء الله
تعالى] (8) ثم استوى
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "قدم".
(5) تفسير الطبري (15/16).
(6) في ت : "لسحر".
(7) في ت : "لسحر".
(8) زيادة من أ.
(4/246)
على
العرش ، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إسماعيل بن أبي
خالد قال : سمعت سعد (1) الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء.
وقال وهب بن منبه : خلقه الله من نوره.
وهذا غريب.
{ يُدَبِّرُ الأمْرَ } أي : يدبر أمر الخلائق ، { لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ
فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ } [ سبأ : 3 ] ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا
تغلّظه (2) المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين (3) ولا يلهيه تدبير الكبير عن
الصغير ، في الجبال والبحار والعمران والقفار ، { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ
إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ
فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ هود : 6 ]. { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا
يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا
فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ]. (4)
وقال الدراوردي ، عن سعد بن إسحاق بن كعب [بن عجرة] (5) أنه قال حين نزلت هذه
الآية : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ } لقيهم ركب عظيم (6) [لا يرون إلا أنهم] (7) من العرب ، فقالوا
لهم : من أنتم ؟ قالوا. من الجن ، خرجنا من المدينة ، أخرجتنا هذه الآية. رواه ابن
أبي حاتم.
[وقوله] (8) { مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ } كقوله تعالى : { مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وكقوله تعالى :
{ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا
مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [ النجم : 26 ]
وقوله : { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ :
23 ].
وقوله : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } (9) أي
: أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } (10) أي : أيها
المشركون في أمركم ، تعبدون مع الله غيره ، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق ،
كقوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [
الزخرف : 87 ] ، وقوله : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } [ المؤمنون :
86 - 87 ] ، (11) وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها.
__________
(1) في ت : "سعدا".
(2) في ت ، أ : "ولا يغلطه".
(3) في ت : "+بالألجاج الملجين".
(4) في ت : "يسقط".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) في ت : "لقي - ثم بياض - ركبا عظيما".
(7) زيادة من ت.
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) في ت : "يتذكرون".
(10) في ت : "يتذكرون".
(11) في ت : "الله".
(4/247)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
{
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ
بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) }
أخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة ، لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما
بدأه. ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده ، { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ].
{ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ } أي :
بالعدل والجزاء الأوفى ، { وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ
وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي : بسبب كفرهم يعذبون يوم
القيامة بأنواع العقاب ، من { سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ } [
الواقعة : 42 ، 43 ]. { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ
شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ ص : 57 ، 58 ]. { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ
بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 43
، 44 ].
{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ
مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ
إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) }
يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، وأنه جعل
الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء وشعاع القمر نورا ، هذا فن وهذا فن آخر ، ففاوت
بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار ، وسلطان القمر بالليل ، وقدر
القمر منازل ، فأول ما يبدو صغيرًا ، ثم يتزايد نُوره وجرمه ، حتى يستوسق ويكمل
إبداره ، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حاله الأول في تمام شهر ، كما قال تعالى :
{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 39 ، 40 ]. وقال : { وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96
].
وقال في هذه الآية الكريمة : { وقدره } أي : القمر { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ
لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } فبالشمس تعرف الأيام ، وبسير القمر
تعرف الشهور والأعوام.
{ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ } أي : لم يخلقه عبثا بل له حكمة
عظيمة في ذلك ، وحجة بالغة ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ
وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27 ]. وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى
اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [
المؤمنون : 115 ، 116 ].
وقوله : { نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي : نبين الحجج والأدلة { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
(4/248)
وقوله
: { إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب
هذا ، وإذا ذهب هذا جاء هذا ، لا يتأخر عنه شيئا ، كما قال تعالى : { يُغْشِي
اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } [ الأعراف : 54 ] ، وقال : { لا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ
النَّهَارِ } [ يس : 40 ] ، وقال تعالى : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ].
وقوله : { وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : من الآيات
الدالة على عظمته تعالى ، كما قال : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ [يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ] } [ يوسف : 105 ] ،
(1) [وقال (2) { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ] وَمَا
تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ]. (3)
وقال : { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ
السَّمَاءِ وَالأرْضِ } [ سبأ : 9 ]. (4) وقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } [ آل
عمران : 190 ]. أي : العقول ، وقال هاهنا : { لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } أي :
عقاب الله ، وسخطه ، وعذابه.
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في أ : و "قوله".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "ينظروا".
(4/249)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
{
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ
مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) }
يقول الله تعالى مخبرًا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا
يرجون في لقاء الله شيئا ، ورضوا بهذه الحياة الدنيا (1) واطمأنت إليها أنفسهم.
قال الحسن : والله ما زينوها ولا رفعوها ، حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله
الكونية فلا يتفكرون فيها ، والشرعية فلا يأتمرون بها ، بأن مأواهم يوم معادهم
النار ، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام ، مع ما
هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ
بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ
دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) }
وهذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ، وامتثلوا ما أمروا
، به فعملوا الصالحات ، بأنه سيهديهم بإيمانهم.
يحتمل أن تكون "الباء" هاهنا سببية فتقديره : بسبب إيمانهم في الدنيا
يهديهم الله يوم القيامة
__________
(1) في أ : "الدنية".
(4/249)
على
الصراط ، حتى يجوزوه ويخلصُوا إلى الجنة. ويحتمل أن تكون للاستعانة ، كما قال
مجاهد في قوله : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } قال : [يكون لهم نورا
يمشون به]. (1)
وقال ابن جُرَيْج في [قوله : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } قال] (2) :
يمثُل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره ، يعارض صاحبه ويبشره بكل
خير ، فيقول له : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك. فيجعل (3) له نورا. من بين يديه حتى
يدخله (4) الجنة ، فذلك قوله تعالى : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ }
والكافر يَمْثُلُ له عمله في صورة سيئة وريح منتنة فيلازم صاحبه ويلازُّه (5) حتى
يقذفه في النار.
وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم.
وقوله : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا
سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي :
هذا حال أهل الجنة.
قال ابن جريج : أخبرتُ أن قوله : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ }
[قال : إذا مر بهم الطير يشتهونه ، قالوا : سبحانك اللهم] (6) وذلك دعواهم فيأتيهم
الملك بما يشتهونه ، فيسلم عليهم ، فيردون عليه. فذلك قوله : { وَتَحِيَّتُهُمْ
فِيهَا سَلامٌ } قال : فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم ، فذلك قوله : { وَآخِرُ
دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
وقال مقاتل بن حيان : إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم : {
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } قال : فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم ، مع كل خادم صحفة
من ذهب ، فيها طعام ليس في الأخرى ، قال : فيأكل منهن كلهن.
وقال سفيان الثوري : إذا أراد أحدهم أن يدعو بشيء قال : { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ
}
وهذه الآية فيها شبه من قوله : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ
وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا } [ الأحزاب : 44 ] ، وقوله : { لا يَسْمَعُونَ
فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } [ الواقعة : 25 ، 26
]. وقوله : { سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [ يس : 58 ]. وقوله : {
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا
صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [ الرعد : 23 ، 24 ].
وقوله : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } هذا
فيه دلالة على أن الله تعالى هو المحمود أبدا ، المعبود على طول المدى ؛ ولهذا حمد
نفسه عند ابتداء خلقه واستمراره ، وفي ابتداء كتابه ، وعند ابتداء تنزيله ، حيث
يقول تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } [
الكهف : 1 ] ، { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } [ الأنعام
: 1 ] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها ، وأنه
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) في ت : "فنجعل".
(4) في ت : "يدخل".
(5) في ت : "ويلاده".
(6) زيادة من ت ، أ.
(4/250)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
المحمود
في الأول و[في] (1) الآخر ، في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، في جميع الأحوال ؛
ولهذا جاء في الحديث : "إن أهل الجنة يُلْهَمُونَ التسبيح والتحميد كما
يُلْهَمُونَ النَّفَس" (2) وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تضاعف نعم الله
عليهم ، فتكرّر (3) وتعاد وتزاد ، فليس لها انقضاء ولا أمد ، فلا إله إلا هو ولا
رب سواه.
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ
لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) }
يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده : أنه لا يستجيب لهم (4) إذا دعوا على أنفسهم أو
أموالهم أو أولادهم (5) في حال ضجرهم وغضبهم ، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة
ذلك ، فلهذا لا يستجيب (6) لهم - والحالة هذه - لطفا ورحمة ، كما يستجيب لهم إذا
دعوا لأنفسهم أو لأموالهم وأولادهم بالخير والبركة والنماء ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ
يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ
إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } (7) أي : لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك ، لأهلكهم ،
ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك ، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر
البزار في مسنده :
حدثنا محمد بن مَعْمَر ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا حاتم بن إسماعيل ، حدثنا
يعقوب بن مجاهد أبو حَزْرَة عن عبادة بن الوليد ، حدثنا جابر قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا
تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب (8) لكم".
ورواه أبو داود ، من حديث حاتم بن إسماعيل ، به. (9)
وقال البزار : [و] (10) تفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري ، لم
يشاركه أحد فيه ، وهذا كقوله تعالى : { وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ
بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا } [ الإسراء : 11 ].
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : { وَلَوْ (11) يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ
الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ } هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه
: "اللهم لا تبارك فيه والعنه". فلو يعجل لهم الاستجابة في
__________
(1) زيادة من ت.
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2835) من حديث جابر رضي الله عنه.
(3) في ت ، أ : "فيكرر".
(4) في ت : "لا يستحب منهم" ، وفي أ : "لا يستجيب منهم".
(5) في ت ، أ : "وأموالهم وأولادهم".
(6) في ت : "لا يستحب".
(7) في ت : "تعجل".
(8) في ت : "فيستحب".
(9) سنن أبي داود برقم (1532) ورواه مسلم في صحيحه برقم (3009) بأطول منه من طريق
حاتم بن إسماعيل.
(10) زيادة من ت.
(11) في ت : ولولا.
(4/251)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
ذلك
، كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.
{ وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ
قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى
ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) }
يخبر تعالى عن الإنسان وضجره وقلقه إذا مسه الضر ، كقوله : { وَإِذَا مَسَّهُ
الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ } [ فصلت : 51 ] أي : كثير ، وهما في معنى واحد ؛
وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها ، وأكثر الدعاء عند ذلك ، فدعا الله
في كشفها وزوالها عنه في حال اضطجاعه وقعوده وقيامه ، وفي جميع أحواله ، فإذا فرج
الله شدته وكشف كربته ، أعرض ونأى بجانبه ، وذهب كأنه ما كان به من ذاك شيء ، {
مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ }
ثم ذم تعالى مَنْ هذه صفته وطريقته (1) فقال : { كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد ،
فإنه مستثنى من ذلك ، كما قال تعالى : { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
} [ هود : 11 ] ، وكقول (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عجبا لأمر
المؤمن (3) لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له : إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا
له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له" ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن. (4)
{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ
بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) }
أخبر تعالى عما أحلّ بالقرون الماضية ، في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من
البينات والحجج الواضحات ، ثم استخلف الله هؤلاء القومَ من بعدهم ، وأرسل إليهم
رسولا لينظر طاعتهم له ، واتباعهم رسوله ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي نَضْرَة ، عن
أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الدنيا حلوة خَضِرة ،
وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ؛ فإن
أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء". (5)
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد (6) حدثنا حماد ،
عن ثابت
__________
(1) في أ : "وطريقه".
(2) في ت ، أ : "وكما قال".
(3) في ت ، أ : "عجبا للمؤمن".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (2999) من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه.
(5) صحيح مسلم برقم (2742).
(6) في هـ ، ت : "مهد" ، وفي أ : "شهد" والتصويب من الطبري.
(4/252)
البُناني
، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ؛ أن عوف بن مالك قال لأبي بكر : رأيت فيما يرى
النائم كأن سَبَبًا دُلِّي من السماء ، فانتُشط رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ،
ثم أعيد ، فانتُشط أبو بكر ، ثم ذُرعَ (1) الناس حول المنبر ، ففضل عمر بثلاث أذرع
إلى المنبر. فقال عمر : دعنا من رؤياك ، لا أرَبَ لنا فيها! فلما استخلف عمر قال :
يا عوف ، رؤياك! فقال : وهل لك في رؤياي من حاجة ؟ أولم تنتهرني (2) ؟ فقال :
ويحك! إني : كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه! فقصّ عليه
الرؤيا ، حتى إذا بلغ : "ذُرع (3) الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع"
، قال : أما إحداهن فإنه كائن خليفة. وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة
لائم. وأما الثالثة فإنه شهيد. قال : فقال : يقول الله تعالى : { ثُمَّ
جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ } فقد استُخلفت (4) يا ابن أم عمر ، فانظر كيف تعمل ؟ وأما قوله :
"فإني لا أخاف في الله لومة لائم" ، فما شاء الله! وأما قوله : [إني]
(5) شهيد فَأَنَّى لعمر الشهادة والمسلمون مطيفون به. (6)
__________
(1) في ت : "درع".
(2) في ت : "تنتهزني".
(3) في ت ، أ : "درع".
(4) في ت ، أ : "استخلف".
(5) زيادة من ت.
(6) تفسير الطبري (15/39).
(4/253)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
{
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ
لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي
أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ
إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ
عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) }
يخبر تعالى عن تعنّت الكفار من مشركي قريش الجاحدين الحقّ المعرضين عنه ، أنهم إذا
قَرَأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحُجَجه الواضحة قالوا له : {
ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا } أي : رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر ، أو بَدّله
إلى وضع آخر ، قال الله لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، { قُلْ مَا يَكُونُ لِي
أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي } أي : ليس هذا إلي ، إنما أنا عبد مأمور
، ورسول مبلغ عن الله ، { إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ
إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }
ثم قال محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به : { قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } أي : هذا إنما جئتكم به عن إذن
الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته ، والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا افتريته
(1) أنكم عاجزون عن معارضته ، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين
بعثني الله عز وجل ، لا تنتقدون علي شيئا تَغمصوني به ؛ ولهذا قال : { فَقَدْ
لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ } أي : أفليس لكم عقول
تعرفون بها الحق من الباطل ؛ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم
__________
(1) في ت : "أفتريه" ، وفي أ : "أقربه".
(4/253)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
أبا
(1) سفيان ومن معه ، فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : هل (2)
كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا - وقد كان
أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ، ومع هذا اعترف (3) بالحق :
وَالفَضْلُ ما شَهدَتْ به الأعداءُ...
فقال له هرقل : فقد أعرف (4) أنه لم يكن ليدَعَ الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على
الله. (5) !
وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولا نعرف نسبه وصدقه
وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه ، عليه السلام ، بين أظهرنا (6) قبل النبوة أربعين
سنة. وعن سعيد بن المسيب : ثلاثا وأربعين سنة. والصحيح المشهور الأول.
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ
بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) }
يقول تعالى : لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما { مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا } وتَقَوّل (7) على الله ، وزعم أن الله أرسله ، ولم يكن كذلك ،
فليس أحد أكبر جرمًا ولا أعظم ظُلما من هذا ، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء
، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء! فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا ، فلا بد
أن الله يَنصب عليه من الأدلة على برِّه أو فُجُوره ما (8) وأظهر من الشمس ، فإن
الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب [لعنة الله] (9) لمن
شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى ووقت نصف الليل في حنْدس الظلماء ، فَمِنْ
سيما كل منهما وكلامه وفعاله يَستدّل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم
وكذب مسيلمة الكذاب ، وسَجَاح ، والأسود العَنْسي. (10)
قال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انْجَفَل
الناس ، فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب ، فكان أول
ما سمعته يقول : "يا أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، [وصلوا
الأرحام] (11) وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلون الجنة بسلام". (12)
ولما قَدم ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في (13) قومه بني سعد
بن بكر قال لرسول الله فيما قال له (14) من رفع هذه السماء ؟ قال :
"الله". قال : ومن نصب هذه الجبال ؟ قال : "الله". قال : ومن
__________
(1) في ت : "لأبي".
(2) في ت : "فهل".
(3) في ت : "أعرف".
(4) في ت : "أعترف".
(5) في ت ، أ : "ربه".
(6) في ت ، أ : "أضهرهم".
(7) في ت : "ويقول".
(8) في ت : "وما".
(9) زيادة من أ.
(10) في أ : "العبسي".
(11) زيادة من ت ، أ : والمسند.
(12) رواه أحمد في المسند (5/451) والترمذي في السنن برقم (2485) وقال الترمذي :
"حديث صحيح".
(13) في أ : "من".
(14) في ت : "فيما قاله".
(4/254)
سطح
هذه الأرض ؟ قال : "الله". قال : فبالذي رفع هذه السماء ، ونصب هذه
الجبال ، وسَطَح هذه الأرض : الله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ قال : "اللهم
نعم" ثم (1) سأله عن الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصيام ، ويحلف عند كل
واحدة (2) هذه اليمين ، ويحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : صدقت ،
والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص. (3)
فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا ، وقد أيقن بصدقه ، صلوات الله وسلامه عليه ، بما رأى
وشاهد من الدلائل الدالة عليه ، كما قال حسان بن ثابت :
لَو لم تَكُن (4) فيه آياتٌ مُبَيّنة كانت بَديهَتُه (5) تَأتيكَ بالخَبَرِ
وأما مسيلمة فمن شاهده من ذَوي البصائر ، علم أمره لا محالة ، بأقواله الركيكة
التي ليست بفصيحة ، وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة ، وقرآنه الذي يخلد به في النار
يوم الحسرة (6) والفضيحة ، وكم من فرق بين قوله تعالى : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة :
255 ]. وبين عُلاك (7) مسيلمة قبحه الله ولعنه : "يا ضفدع بنت (8) الضفدعين ،
نقي كما تنقين لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين". وقوله - قُبّح ولعن - :
"لقد أنعم الله على الحبلى ، إذ أخرج منها نَسَمة تسعى ، من بين صِفَاق
وحَشَى". وقوله - خَدّره (9) الله في نار جهنم ، وقد فعل - : "الفيل وما
أدراك ما الفيل ؟ له زُلقُومٌ (10) طويل" وقوله - أبعده الله من رحمته :
"والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ، واللاقمات (11) لقما ، إهالة وسمنا ، إن
قريشا قوم يعتدون" إلى غير ذلك من الهذيانات والخرافات التي يأنف الصبيان أن
يتلفظوا بها ، إلا على وجه السخرية والاستهزاء ؛ ولهذا أرغم الله أنفه ، وشرب يوم
"حديقة الموت" حتفه. ومَزّق (12) شمله. ولعنه صحبُه وأهله. وقدموا على
الصديق تائبين ، وجاءوا في دين الله راغبين ، فسألهم الصديق خليفة الرسول ، صلوات
الله وسلامه عليه ، ورضي [الله] (13) عنه - أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة
لعنه الله ، فسألوه أن يعفيهم من ذلك ، فأبى عليهم إلا أن يقرءوا شيئا منه ليسمعه
من لم يسمعه من الناس ، فيعرفوا فضل ما هم عليه (14) من الهدى والعلم. فقرءوا عليه
من هذا الذي ذكرناه وأشباهه ، فلما فرغوا قال لهم الصديق ، رضي الله عنه : ويحكم!
أين كان يُذهب بعقولكم ؟ والله إن هذا لم يخرج من إلٍّ.
__________
(1) في أ : "قال : ثم".
(2) في ت : "واحد".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (12) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه بنحو هذا
السياق.
(4) في ت : "يكن".
(5) في أ : "بدايته".
(6) في ت ، أ : "الحشر".
(7) في ت : "علال".
(8) في ت : "بين".
(9) في ت ، أ : "خلده".
(10) في ت ، أ : "زلوم".
(11) في ت ، أ : "فاللاقمات".
(12) في ت ، أ : "وتمزق".
(13) زيادة من ت.
(14) في ت ، أ : "فيه".
(4/255)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
وذكروا
أن وفد عمرو بن العاص على مسيلمة ، وكان صديقا له في الجاهلية ، وكان عمرو لم يسلم
بعدُ ، فقال له مسيلمة : ويحك يا عمرو ، ماذا أنزل على صاحبكم - يعني : رسول الله
صلى الله عليه وسلم - في هذه المدة ؟ فقال : لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة
قصيرة فقال : وما هي ؟ فقال : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ } [سورة العصر] ، ففكر مسيلمة ساعة ، ثم قال : وقد أنزل عليّ مثله.
فقال : وما هو ؟ فقال : "يا وَبْرُ (1) إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حَقْرٌ
نَقْر ، كيف ترى يا عمرو ؟" فقال له عمرو : (2) والله إنك لتعلم أني أعلم أنك
لتكذب" ، فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه ، لم يشتبه عليه حال محمد صلى
الله عليه وسلم وصدقه ، وحال مسيلمة - لعنه الله - وكذبه ، فكيف بأولي (3) البصائر
والنهى ، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجى! ولهذا قال الله تعالى : {
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ
إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ
اللَّهُ } [ الأنعام : 93 ] ، (4) وقال في هذه الآية الكريمة : { وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ الأنعام : 21 ] ، وكذلك من كذّب بالحق الذي جاءت به
الرسل ، وقامت عليه الحجج ، لا أحد أظلم منه كما جاء في الحديث : "أعتى الناس
على الله رجلٌ قتل نبيا ، أو قتله نبي". (5)
{ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ
وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ
بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً
فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) }
ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ، ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم
شفاعتُها عند الله ، فأخبر تعالى أنها لا تنفع ولا تضر ولا تملك شيئا ، ولا يقع
شيء مما يزعمون فيها ، ولا يكون هذا أبدا ؛ ولهذا قال تعالى : { قُلْ
أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ }.
وقال ابن جرير : معناه أتخبرون (6) الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض ؟
ثم نزه نفسه عن شركهم وكفرهم ، فقال : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ }.
__________
(1) في ت ، أ : "يا وبر وبر".
(2) في ت : "عمر".
(3) في ت : "بأول".
(4) في ت : "فمن".
(5) رواه الإمام أحمد في المسند (1/407) من حديث عبد الله بن مسعود ولفظه :
"أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيا". وروى البخاري
في صحيحه برقم (4073) من حديث أبي هريرة : "اشتد غضب الله على من يقتله رسول
الله في سبيل الله".
(6) في ت : "تخبرون".
(4/356)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
ثم
أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس ، كائن بعد أن لم يكن ، وأن الناس كلهم
كانوا على دين واحد ، وهو الإسلام ؛ قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ،
كلهم على الإسلام ، ثم وقع الاختلاف بين الناس ، وعُبدت الأصنام والأنداد والأوثان
، فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحُجَجه البالغة وبراهينه الدامغة ، {
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } [
الأنفال : 42 ].
وقوله : { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : لولا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحدا إلا بعد
قيام الحجة عليه ؛ وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود لقضى بينهم فيما فيه اختلفوا ،
فأسعد المؤمنين ، وأعنَتَ الكافرين.
{ وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا
الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) }
أي : ويقول هؤلاء الكفرة [الملحدون] (1) المكذبون المعاندون : "لولا أنزل على
محمد آية من ربه" ، يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة ، أو أن (2) يحول لهم
الصفا ذهبا ، أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارا ، ونحو ذلك مما
الله عليه قادر (3) ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله ، كما قال تعالى : { تَبَارَكَ
الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } [ الفرقان : 10 ، 11 ] وقال
تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا
الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا
نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } [ الإسراء : 59 ] ، يقول تعالى : إن سنتي
في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا ، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة. ولهذا لما
خيَّر رسول الله ، عليه الصلاة والسلام ، بين أن يُعطى ما سألوا ، فإن أجابوا وإلا
عُوجلوا ، وبين أن يتركهم ويُنْظرهم ، اختار إنظارهم ، كما حلم عنهم غير مرة ،
صلوات الله عليه ؛ ولهذا قال تعالى إرشادا لنبيه إلى الجواب عما سألوا : { فَقُلْ
إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ } أي : الأمر كله لله ، وهو يعلم العواقب في الأمور ،
{ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ } أي : إن كنتم لا تؤمنون
حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله فيَّ وفيكم. هذا مع أنهم قد شاهدوا من
معجزاته ، عليه السلام (4) أعظم مما سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره
، فانشق باثنتين (5) فرقة من وراء الجبل ، وفرقة من دونه. وهذا أعظم من سائر
الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا ، ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك
استرشادا وتثبّتا لأجابهم ، ولكن علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا ، فتركهم فيما
رابهم ، وعلم أنهم لا يؤمن (6) منهم أحد ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ
آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] ، وقال تعالى : {
وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ] ،
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "وأن".
(3) في ت : "مما الله قادر عليه".
(4) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(5) في ت ، أ : "باثنين".
(6) في ت ، أ : "ولكن ممن لم يؤمن".
(4/257)
ولما فيهم من المكابرة ، كما قال تعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [ الحجر : 14 ، 15 ] ، وقال تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] ، فمثل هؤلاء أقل من أن يجابوا إلى ما سألوه ؛ لأنه لا فائدة في جواب هؤلاء ؛ لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم ، لكثرة فجورهم وفسادهم ؛ ولهذا قال : { فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }
(4/258)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
{
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا
لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا
يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ
طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ
كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
(22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (23) }
يخبر (1) تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم ، كالرخاء بعد الشدة ،
والخصب (2) بعد الجدب ، والمطر بعد القحط ونحو ذلك { إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي
آيَاتِنَا }.
قال مجاهد : استهزاء وتكذيب. كما قال : { وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ الضُّرُّ
دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ
ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس : 12 ] ، وفي
الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح على (3) أثر سماء - مطر (4)
- أصابهم (5) من الليل ثم قال : "هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟"
قالوا (6) الله ورسوله أعلم. قال : "قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ،
فأما من قال : مُطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال
: مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب". (7)
وقوله : { قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا } أي : أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن
الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب ، وإنما هو في مهلة ، ثم يؤخذ على غرة منه ،
والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ،
__________
(1) في ت : "فخبر".
(2) في ت : "والخصيب".
(3) في ت ، أ : "في".
(4) في ت ، أ : "أي مطر".
(5) في ت : "أصابتهم".
(6) في ت : "قلنا".
(7) صحيح البخاري برقم (846) وصحيح مسلم برقم (71).
(4/258)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
ويحصونه
عليه ، ثم يعرضون على عالم الغيب والشهادة ، فيجازيه على الحقير والجليل (1)
والنقير والقِطْمير.
ثم أخبر تعالى أنه : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي
: يحفظكم (2) ويكلؤكم بحراسته { حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا } أي : بسرعة سيرهم رافقين ، فبينما
(3) هم كذلك إذ { جَاءَتْهَا } أي : تلك السفن { رِيحٌ عَاصِفٌ } أي : شديدة {
وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } أي : اغتلم البحر عليهم { وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي : هلكوا { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ } أي : لا يدعون معه صنما ولا وثنا ، بل يفردونه بالدعاء والابتهال ، كما
قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ
إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ
كَفُورًا } [ الإسراء : 67 ] ، وقال هاهنا : { دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ } أي : هذه الحال { لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ } أي : لا نشرك بك أحدا ، ولنفردنك (4) بالعبادة هناك كما أفردناك
بالدعاء هاهنا ، قال الله تعالى : { فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ } أي : من تلك الورطة {
إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : كأن لم يكن من ذاك شيء
(5) { كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ }
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ }
أي : إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون (6) به أحدا غيركم ، كما جاء
في الحديث : "ما من ذنب أجدر (7) أن يعجل الله عقوبته في الدنيا ، مع ما
يَدخر (8) الله لصاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم". (9)
وقوله : { مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : إنما لكم متاع في الحياة الدنيا
الدنيئة الحقيرة { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ } أي : مصيركم ومآلكم (10) {
فننبئكم } أي : فنخبركم بجميع أعمالكم ، ونوفيكم (11) إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد
الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى
إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) }
__________
(1) في ت : "القليل والحقير".
(2) في ت ، أ : "يحيطكم".
(3) في ت : "فبينا".
(4) في أ : "ولنفردك".
(5) في ت ، أ : "كأن لم يكن شيء من ذاك".
(6) في ت : "يضرون".
(7) في ت : "أحذر".
(8) في ت : "يؤخر".
(9) رواه أبو داود في السنن برقم (4902) والترمذي في السنن برقم (2511) وابن ماجه
في السنن برقم (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه ، وقال الترمذي : "هذا
حديث حسن صحيح".
(10) في ت : "ومآبكم".
(11) في ت : "ونوفكم".
(4/259)
ضرب
[تبارك و] (1) تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها ،
بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل (2) من السماء من الماء ، مما يأكل
الناس من زرع (3) وثمار ، على اختلاف أنواعها وأصنافها ، وما تأكل (4) الأنعام من
أب وقَضْب وغير ذلك ، { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا } أي : زينتها
الفانية ، { وَازَّيَّنَتْ } أي : حَسُنت بما خرج من (5) رُباها من زهور نَضِرة
مختلفة الأشكال والألوان ، { وَظَنَّ أَهْلُهَا } الذين زرعوها وغرسوها (6) {
أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } أي : على جَذاذها وحصادها فبيناهم (7) كذلك إذ
جاءتها صاعقة ، أو ريح بادرة ، فأيبست أوراقها ، وأتلفت ثمارها ؛ ولهذا قال تعالى
: { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا } (8) أي :
يبسا بعد [تلك] (9) الخضرة والنضارة ، { كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ } أي :
كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك.
وقال قتادة : { كَأَنْ لَمْ تَغْنَ } كأن لم تنعم.
وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن ؛ ولهذا جاء في الحديث (10) يؤتى بأنعم أهل
الدنيا ، فيُغْمَس في النار غَمْسَة ثم يقال له : هل رأيت خيرًا قط ؟ [هل مر بك
نعيم قط ؟] (11) فيقول : لا. ويؤتى بأشد الناس عذابًا في الدنيا (12) فيغمس في
النعيم غمسة ، ثم يقال له : هل رأيت بؤسا قط ؟ فيقول : لا" (13)
وقال تعالى إخبارًا عن المهلكين : { فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } [ هود : 94 ، 95 ].
ثم قال تعالى : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي : نبين الحُجج والأدلة ، {
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا من أهلها سريعًا مع
اغترارهم بها ، وتمكنهم (14) بمواعيدها وتَفَلّتها (15) منهم ، فإن من طبعها الهرب
ممن طلبها ، والطلب لمن هرب منها ، وقد ضرب الله مثل الحياة الدنيا بنبات الأرض ،
في غير ما آية من كتابه العزيز ، فقال في سورة الكهف : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } [ الكهف : 45 ] ، وكذا في سورة الزمر (16) والحديد (17)
يضرب بذلك مثل الحياة الدنيا كماء.
وقال ابن جرير : حدثني الحارث (18) حدثنا عبد العزيز ، حدثنا ابن عُيَيْنَةَ ، عن
عمرو بن دينار ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال :
سمعت مروان - يعني : ابن
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "أنزل الله".
(3) في ت : "زروع".
(4) في ت : "يأكل".
(5) في ت : "في".
(6) في ت : "وعرشوها"
(7) في ت ، أ : "فبيناها".
(8) في ت ، أ : "جاءها" وهو خطأ.
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) في ت ، أ : "الصحيح".
(11) زيادة من ت ، أ ، وابن ماجه.
(12) في ت ، أ : "ويؤتى بأبأس أهل الدنيا".
(13) سنن ابن ماجه برقم (4321).
(14) في ت ، أ : "وتمسكهم".
(15) في ت : "وتفلها".
(16) الآية : 21.
(17) الآية : 20
(18) في ت : "الحرب".
(4/260)
الحكم
- يقرأ على المنبر : "وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله
ليهلكها (1) إلا بذنوب أهلها" ، قال : قد قرأتها وليست في المصحف فقال عباس
بن عبد الله بن عباس : هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال : هكذا
أقرأني أبيّ بن كعب. (2)
وهذه قراءة غريبة ، وكأنها زيادة للتفسير.
وقوله : { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ } الآية : لما ذكر تعالى
الدنيا وسرعة [عطبها و] (3) زوالها ، رغَّب في الجنة ودعا إليها ، وسماها دار
السلام أي : من الآفات ، والنقائص والنكبات ، فقال : { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى
دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }.
قال أيوب عن أبي قِلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قيل لي : لتنَمْ
عينُك ، وليعقلْ قلبك ، ولتسمع (4) أذنك فنامت عيني ، وعقل قلبي ، وسمعت أذني. ثم
قيل : سيّدٌ بَنَى دارًا ، ثم صنع مأدبة ، وأرسل داعيًا ، فمن أجاب الداعي دخل
الدار ، وأكل من المأدبة ، ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ،
ولم يأكل من المأدبة ، ولم يرض عنه السيد فالله السيد ، والدار الإسلام ، والمأدبة
الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم. (5)
وهذا حديث مرسل ، وقد جاء متصلا من حديث الليث ، عن خالد بن يزيد (6) عن سعيد بن
أبي هلال ، عن جابر (7) بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : خرج علينا رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم يومًا فقال : "إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي ،
وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلا. فقال : اسمع سَمعت أذنك ،
واعقل عَقَل قلبك ، إنما مَثَلُك ومثل أمَّتك كمثل ملك اتخذ دارا ، ثم بنى فيها
بيتًا ، ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب
الرسول ، ومنهم من تركه ، فالله الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا
محمد الرسُول ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل
الجنة أكل منها" رواه ابن جرير. (8)
وقال قتادة : حدثني خُلَيْد العَصَري ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجنَبَتَيْها ملكان يناديان
يسمعهما (9) خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس ،
__________
(1) في ت : "ليهلكهم".
(2) تفسير الطبري (15/57) وانظر تعليق الأستاذ محمود شاكر في الحاشية ، فقد ذكر أن
هذا الإسناد هالك.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "وليسمع".
(5) رواه الطبري في تفسيره (15/60).
(6) في ت ، أ : "سويد".
(7) في ت : "جبار".
(8) تفسير الطبري (15/61) وعلقه البخاري في الصحيح برقم (7281) ورواه الترمذي في
السنن برقم (2860) من طريق قتيبة عن الليث به ، وقال الترمذي : "هذا حديث
مرسل ، سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله" قال : "وقد روي هذا
الحديث من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أصح من هذا" قلت :
رواه البخاري في صحيحه برقم (7281) من طريق يزيد عن سليم بن حيان ، عن سعيد بن أبي
ميناء ، عن جابر بن عبد الله بنحوه.
(9) في ت ، أ : "يسمعه".
(4/261)
هلموا
إلى ربكم ، إن ما قلَّ وكَفَى ، خير مما كثر وألهى". قال : وأنزل ذلك في (1)
القرآن ، في قوله : { وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير. (2)
__________
(1) في ت ، أ : "في ذلك".
(2) تفسير الطبري (15/60) ورواه أحمد في مسنده (5/197) من طريق همام عن قتادة
بنحوه.
(4/262)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
{
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ
وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) }
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح أبدله (1) الحسنى
في الدار الآخرة ، كما قال تعالى : { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } [
الرحمن : 60 ].
وقوله : { وَزِيَادَة } هي (2) تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى
سبعمائة ضعف ، وزيادة على ذلك [أيضا] (3) ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من
القُصُور والحُور والرضا عنهم ، وما أخفاه لهم من قرة أعين ، وأفضل من ذلك وأعلاه
النظرُ إلى وجهه (4) الكريم ، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه ، لا يستحقونها
بعملهم ، بل بفضله ورحمته (5) وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله (6)
الكريم ، عن أبي بكر الصديق ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس [قال البغوي
وأبو موسى وعبادة بن الصامت] (7) وسعيد بن المسيب ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعبد
الرحمن بن سابط ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعامر بن سعد ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن ،
وقتادة ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهم من السلف والخلف.
وقد وردت في ذلك أحاديثُ كثيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن ذلك ما
رواه الإمام أحمد :
حدثنا عفان ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن ثابت البُناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
، عن صهيب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وقال : "إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل
النار النار ، نادى مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن
يُنْجِزَكُمُوه. فيقولون : وما هو ؟ ألم يُثقِّل موازيننا ، ويبيض وجوهنا ،
ويدخلنا الجنة ، ويزحزحنا من النار ؟". قال : "فيكشف (8) لهم الحجاب ،
فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ، ولا أقر لأعينهم".
وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة ، من حديث حماد بن سلمة ، به. (9)
__________
(1) في ت ، أ : "أن لهم".
(2) في ت ، أ : "تشمل هي".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "وجه".
(5) في ت : "ورحمته".
(6) في ت : "وجهه".
(7) زيادة من ت ، أ.
(8) في ت : "فكشف".
(9) صحيح مسلم برقم (181) ورواه الترمذي في السنن برقم (2552) والنسائي في السنن
الكبرى برقم (11234) وابن ماجه في السنن برقم (187).
(4/262)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
وقال
ابن جرير : أخبرنا يونس ، أخبرنا ابن وهب : أخبرنا شبيب ، عن أبان (1) عن أبي
تَمِيمَة الهُجَيْمي ؛ أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي : يا أهل الجنة - بصَوْت
يُسْمعُ أوَّلهم وآخرهم - : إن الله وعدكم الحسنى وزيادة ، الحسنى : الجنة. وزيادة
: النظر إلى وجه الرحمن عز وجل".
(2) ورواه أيضا ابنُ أبي حاتم ، من حديث أبي بكر الهُذلي (3) عن أبي تميمة الهجيمي
، به.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا ابن حميد ، حدثنا إبراهيم بن المختار (4) عن ابن
جُرَيْج ، عن عطاء ، عن كعب بن عُجْرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : {
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال : النظر إلى وجه الرحمن عز
وجل. (5)
وقال أيضا : حدثنا ابن عبد الرحيم (6) حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، سمعت زهيرًا عمن
سمع أبا العالية ، حدثنا أبيّ بن كعب : أنه سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن
قول الله عز وجل : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } قال :
"الحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الله عز وجل". (7)
ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير ، به.
وقوله تعالى : { وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ } أي : قتام وسواد في عَرَصات
المحشر ، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القُتْرة والغُبْرة ، { وَلا ذِلَّةٌ }
أي : هوان وصغار ، أي : لا يحصل لهم إهانة في الباطن ، ولا في الظاهر ، بل هم كما
قال تعالى في حقهم : { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ
نَضْرَةً وَسُرُورًا } أي : نضرة في وجوههم ، وسرورًا في قلوبهم ، جعلنا الله منهم
بفضله ورحمته ، آمين.
{ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا
أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) }
لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يُضاعف لهم الحسنات ، ويزدادون (8) على ذلك ،
عطف بذكر حال الأشقياء ، فذكر عدله تعالى فيهم ، وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها ،
لا يزيدهم على ذلك ،
__________
(1) في ت ، أ : "وأبان".
(2) تفسير الطبري (15/65) وابن وهب روى عن شبيب مناكير وأبان بن أبي عياش ضعيف.
(3) في ت : "الهذل".
(4) في ت : "المختار به".
(5) تفسير الطبري (15/68) ورواه أبو نعيم في الحلية (5/204) من طريق محمد بن حميد
به ، وقال : "غريب من حديث عطاء وابن جريج تفرد به إبراهيم بن المختار".
وإبراهيم بن المختار ضعيف.
(6) في أ : "عبد الرحمن".
(7) تفسير الطبري (15/69) ورواه اللالكائي في السنة برقم (780) من طرق الوليد بن
مسلم عن زهير بن محمد عمن سمع أبا العالية يحدث عن أبي بن كعب فذكره مرفوعا.
(8) في ت : "ويزادون".
(4/263)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
{
وَتَرْهَقُهُم } أي : تعتريهم وتعلوهم ذلة من معاصيهم وخوفهم منها ، كما قال تعالى
: { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ
طَرْفٍ خَفِيٍّ } [ الشورى : 45 ] ، وقال تعالى : { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ
غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ
فِيهِ الأبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ
طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ
الْعَذَاب } [ إبراهيم : 42 - 44 ] ، وقوله { مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ
عَاصِمٍ } أي : من مانع ولا واق يقيهم العذاب ، كما قال تعالى : { يَقُولُ
الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 10 - 12 ].
وقوله : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا }
إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ
أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ آل عمران : 106 ، 107 ] ، وكما قال تعالى : { وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا
غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } [ عبس :
38 - 42 ]. الآية.
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا
مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ
شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ
شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ
(29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ
مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) }
يقول تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } أي : أهل الأرض كلهم ، من إنس وجن (1) وبر
وفاجر ، كما قال : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [ الكهف
: 47 ].
{ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ } أي
: الزموا أنتم وهم مكانًا معينًا ، امتازوا فيه عن مقام المؤمنين ، كما قال تعالى
: { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [ يس : 59 ] ، وقال {
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، وفي
الآية الأخرى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] أي : يصيرون صِدعين ،
وهذا يكون إذا جاء الرب تعالى لفصل القضاء ؛ ولهذا قيل : ذلك (2) يستشفع المؤمنون
إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا ، وفي الحديث الآخر :
"نحن يوم القيامة على كَوْم فوق الناس. (3) (4)
__________
(1) في ت ، "من جن وإنس".
(2) وقع هنا بياض في هـ ، ووصل في ت ، أ. وحديث الاستشفاع رواه البخاري في صحيحه
برقم (4476) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3) في أ : "النار".
(4) رواه أحمد في المسند (3/345) من حديث جابر رضي الله عنه. والكوم : الموضع
المشرف العال.
(4/264)
وقال
الله تعالى في هذه الآية الكريمة إخبارًا عما يأمر به المشركين (1) وأوثانهم يوم
القيامة : { مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ
وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } أنكروا عبادتهم ،
وتبرءوا منهم ، كما قال تعالى : { [كَلا] سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ
وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } الآية. [ مريم : 82 ]. (2) وقال : { إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا } [ البقرة : 166 ] ، وقال {
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ
النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [
الأحقاف : 5 ، 6 ].
وقال في هذه الآية إخبارًا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم
عبادتهم : { فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ
عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } أي : ما كنا نشعر بها ولا نعلم ، وإنما أنتم كنتم
تعبدوننا من حيث لا ندري بكم ، والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى
عبادتنا ، ولا أمرناكم بها ، ولا رضينا منكم بذلك.
وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ، ممن لا يسمع ولا يبصر ،
ولا يغني عنهم شيئًا ، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده ، بل تبرأ منهم في
وقت أحوج ما يكونون إليه ، وقد تركوا (3) عبادة الحي القيوم ، السميع البصير ،
القادر على كل شيء ، العليم بكل شيء وقد أرسل رسله وأنزل كتبه ، آمرا بعبادته وحده
لا شريك له ، ناهيًا عن عبادة ما سواه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي
كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } [
النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا
نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ،
(4) وقال : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا
أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ].
والمشركون أنواع وأقسام كثيرون ، قد ذكرهم الله في كتابه ، وبَيّن أحوالهم
وأقوالهم ، ورَد عليهم فيما هم فيه أتم رد.
وقوله : { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ } أي : في موقف الحساب
يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما أسلفت من [عملها من] (5) خير وشر ، كما قال تعالى
: { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] ، وقال تعالى : { يُنَبَّأُ
الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] ، وقال تعالى :
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا اقْرَأْ
كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 13 ، 14 ].
وقد قرأ بعضهم : { هُنَالِكَ تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ } وفسَّرها
بعضهم بالقراءة ، وفسّرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمته من خير وشر ، وفسّرها بعضهم
بحديث : "تتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من
__________
(1) في ت ، أ : "المشركون".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "يكون إليه وقد ترك".
(4) في أ : "نوحي".
(5) زيادة من أ.
(4/265)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
كان
يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت
الطواغيت" الحديث. (1)
وقوله : { وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ } أي : ورجعت الأمور كلها
إلى الله الحكم العدل ، ففصلها ، وأدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار.
{ وَضَلَّ عَنْهُمْ } أي : ذهب عن المشركين { مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : ما
كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.
{ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ
وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ
مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا
(31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا
الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى
الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) }
يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية الإله (2) فقال
: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } أي : من ذا الذي ينزل من
السماء ماء المطر ، فيشق (3) الأرض شقًا بقدرته ومشيئته ، فيخرج منها { حَبًّا
وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً
وَأَبًّا } [ عبس : 27 - 31 ] ، أإله مع الله ؟ فسيقولون : الله ، { أَمَّنْ هَذَا
الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } [ الملك : 21 ] ؟ ، وكذلك قوله : {
أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ } [ يونس : 31 ] ؟ (4) ؟ أي : الذي وهبكم
هذه القوة السامعة ، والقوة الباصرة ، ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها ، كما قال
تعالى : { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ
وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ } [ الملك : 23 ] ، وقال { قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى
قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } [ الأنعام : 46 ].
وقوله : { وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَيِّ } أي : بقدرته العظيمة ، ومنته العميمة ، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك ،
وأن الآية عامة في ذلك كله.
وقوله : { وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ } أي : من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا
يجار عليه ، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يُسأل عما يفعل وهم
يُسْألُون ، { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي
شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] ، فالملك كله العلوي والسفلي ، وما فيهما من ملائكة وإنس
وجان ، فقيرون إليه ، عبيد له ، خاضعون لديه ، { فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } أي : هم
يعلمون ذلك
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (182) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) في ت ، أ : "وحدانيته الإلهية".
(3) في ت ، أ : "ويشق".
(4) في أ : "قل من" وهو خطأ.
(4/266)
ويعترفون
به ، { فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } أي : أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره
بآرائكم وجهلكم ؟.
وقوله : { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا
الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } أي : فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو
ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة ، { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا
الضَّلالُ } أي : فكل معبود سواه باطل ، لا إله إلا هو ، واحد (1) لا شريك له.
{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } (2) أي : فكيف تصرفون (3) عن عبادته إلى عبادة ما سواه ،
وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء ، والمتصرف في كل شيء ؟
وقوله : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ
لا يُؤْمِنُونَ } أي : كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع
الله غيره ، مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده ، الذي بعث
رسله بتوحيده ؛ فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار ، كقوله : {
قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [
الزمر : 71 ].
__________
(1) في ت ، أ : "لا إله إلا هو لأن الإله واحد".
(2) في ت : "يصرفون".
(3) في ت : "يصرفون".
(4/267)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
{
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ
مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ
أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي
إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا
ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
بِمَا يَفْعَلُونَ (36) }
وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره ، وعبدوا من الأصنام والأنداد ، { قُلْ
هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : من بدأ
خلق هذه السموات والأرض ثم ينشئ (1) ما فيهما من الخلائق ، ويفرق أجرام السموات
والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما ، ثم يعيد الخلق (2) خلقًا جديدًا ؟ { قُلِ
اللَّهُ } هو الذي يفعل هذا ويستقل به ، وحده لا شريك له ، { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
} أي : فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل ؟!
{ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي
لِلْحَقِّ } أي : أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال ، وإنما يهدي
الحيارى والضلال ، ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله ، الذي لا إله إلا هو.
{ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي
إِلا أَنْ يُهْدَى } أي : أَفَيُتَّبَع [العبد الذي يهدي إلى
__________
(1) في ت ، أ : "يفنى".
(2) في ت : "الخلائق".
(4/267)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
الحق
ويُبَصّر بعد العمى ، أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا] (1) أن يهدى ، لعماه وبكمه ؟
كما قال تعالى إخبارًا عن إبراهيم أنه قال : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا
يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } [ مريم : 42 ] ، وقال لقومه
: { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون } [
الصافات : 95 ، 96 ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله : { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي : فما بالكم (2) يُذْهَبُ بعقولكم
، كيف سويتم بين الله وبين خَلقه ، وعدلتم هذا بهذا ، وعبدتم هذا وهذا ؟ وهلا
أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من الضلالة بالعبادة وحده ، وأخلصتم
إليه الدعوة والإنابة.
ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانًا ، وإنما هو ظن منهم ،
أي : توهم وتخيل ، وذلك لا يغني عنهم شيئا ، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
يَفْعَلُونَ } تهديد لهم ، ووعيد شديد ؛ لأنه تعالى أخبر (3) أنه سيجازيهم على ذلك
أتم الجزاء.
{ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا
يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) }
هذا بيان لإعجاز القرآن ، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ، ولا بعشر سور ،
ولا بسورة من مثله ، لأنه بفصاحته وبلاغته ووَجازته وحَلاوته ، واشتماله على
المعاني العزيزة (4) [للعزيرة] (5) النافعة في الدنيا والآخرة ، لا يكون إلا من
عند الله الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا صفاته ، ولا في أفعاله وأقواله ، فكلامه
لا يشبه كلام المخلوقين ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ
يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ } (6) أي : مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله
، ولا يشبه هذا كلام (7) البشر ، { وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ }
أي : من الكتب المتقدمة ، ومهيمنا عليها ، ومبينا لما وقع فيها من التحريف
والتأويل والتبديل.
وقوله : { وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي
: وبيان الأحكام والحلال والحرام ، بيانًا
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "لكم".
(3) في ت ، أ : "يخبر".
(4) في ت ، ا : "الغزيرة".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت : "لهذا".
(7) في ت ، أ : "بكلام".
(4/268)
شافيًا
كافيًا حقًا لا مرية فيه من الله رب العالمين ، كما تقدم في حديث الحارث الأعور ،
عن علي بن أبي طالب : "فيه خَبَرُ ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وفصل ما
بينكم" ، أي : خَبَر عما سلف وعما سيأتي ، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي
يحبه الله ويرضاه.
وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا
مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : إن ادعيتم
وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله ، وقلتم كذبًا ومَيْنا : "إن هذا من
عند محمد" ، فمحمد بشر مثلكم ، وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن ، فأتوا أنتم
بسورة (1) مثله ، أي : من جنس القرآن ، واستعينوا على ذلك بكل من قَدرتم عليه من
إنس وجان.
وهذا هو المقام الثالث في التحدي ، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم ، إن كانوا صادقين في
دعواهم ، أنه من عند محمد ، فلتعارضوه (2) بنظير ما جاء به وحده واستعينوا بمن
شئتم (3) وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ، ولا سبيل لهم إليه ، فقال تعالى : { قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }
[ الإسراء : 88 ] ، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه ، فقال في أول سورة هود : {
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ هود
: 13 ] ، (4) ثم تنازل إلى سورة ، فقال في هذه السورة : { أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (5) وكذا في سورة البقرة - وهي مدنية -
تحداهم بسورة منه ، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا ، فقال : { فَإِنْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ } الآية : [ البقرة : 24 ].
هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم ، وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب
، ولكن جاءهم من الله ما لا قِبَلَ لأحد به ، ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من
بلاغة هذا الكلام وحلاوته ، وجزالته وطلاوته ، وإفادته وبراعته ، فكانوا أعلم
الناس به ، وأفهمهم له ، وأتبعهم له وأشدهم (6) له انقيادا ، كما عرف السحرة ،
لعلمهم (7) بفنون السحر ، أن هذا الذي فعله موسى ، عليه السلام ، لا يصدر إلا عن مُؤيَّد
مُسَدد مرسل من الله ، وأن هذا لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله. وكذلك عيسى ، عليه
السلام ، بُعِث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى ، فكان يبرئ الأكمه والأبرص ،
ويحيي الموتى بإذن الله ، ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه ، فعرف من عرف منهم
أنه عبد الله (8) ورسوله ؛ ولهذا جاء في الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال : "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله
البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا
(9).
__________
(1) في ت ، أ : "من مثله".
(2) في ت ، أ : "فليعارضوه".
(3) في ت ، أ : "وليستعينوا بمن شاءوا
(4) في ت : "ما" وهو خطأ.
(5) في ت : "ما" وهو خطأ.
(6) في ت ، أ : "وأشهرهم".
(7) في ت ، أ : "بعلمهم".
(8) في ت : "من عبد الله" ، وفي أ : "من عند الله".
(9) رواه البخاري في صحيحه برقم (4981) ومسلم في صحيحه برقم (152) من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه.
(4/269)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
وقوله
: { بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ } يقول : بل كذب هؤلاء بالقرآن ، ولم يفهموه ولا عرفوه ، { وَلَمَّا
يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } أي : ولم يُحصّلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين
تكذيبهم به جهلا وسفهًا { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : من
الأمم السالفة { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } أي : فانظر كيف
أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلمًا وعلوا ، وكفرا وعنادًا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون
أن يصيبكم ما أصابهم.
وقوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ } أي : ومن هؤلاء الذين بُعثتَ (1) إليهم يا
محمد من يؤمن (2) بهذا القرآن ، ويتبعك وينتفع بما أرسلت به ، { وَمِنْهُمْ مَنْ
لا يُؤْمِنُ بِهِ } بل يموت على ذلك ويبعث عليه ، { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِالْمُفْسِدِينَ } أي : وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه ، ومن يستحق الضلالة
فيضله ، وهو العادل الذي لا يجور ، بل يعطي كلا ما يستحقه ، تبارك وتعالى وتقدس
وتنزه ، لا إله إلا هو.
{ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ
مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا
يَعْقِلُونَ (42) }
__________
(1) ت في ت : "الذين من بعثت".
(2) في ت ، أ : "سيؤمن".
(4/270)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
{
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا
لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ
النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : وإن كذبك (1) هؤلاء المشركون ، فتبرأ منهم
ومن عملهم ، { فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } كقوله تعالى : { قُلْ
يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين } [ سورة الكافرون ].
وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين : { إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ
وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4].
وقوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } أي : يسمعون (2) كلامك الحسن
، والقرآن العظيم ، والأحاديث الصحيحة الفصيحة (3) النافعة في القلوب والأبدان
والأديان ، وفي هذا كفاية عظيمة ، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم ، فإنك لا تقدر على
إسماع الأصم - وهو الأطرش - فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء ، إلا أن يشاء الله.
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ } أي : ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من
التؤدة ، والسمت الحسن ، والخلق العظيم ، والدلالة الظاهرة ، على نبوءتك لأولي
البصائر (4) والنهى ، وهؤلاء ينظرون كما ينظر
__________
(1) في أ : "وإن كذبوك".
(2) في ت : "يستمعون".
(3) في ت : "الفصيحة الصحيحة".
(4) في ت : "الأبصار".
(4/270)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
غيرهم
، ولا يحصل لهم من الهداية شيء مما (1) يحصل لغيرهم ، بل المؤمنون ينظرون إليك
بعين الوقار ، والكافرون ينظرون إليك بعين الاحتقار ، { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ
لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } [ الفرقان : 41 ،
42 ].
ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئًا ، وإن كان قد هدى به من هدى [من الغي] (2)
وبصر به من العمى ، وفتح به أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبًا غلفا ، وأضل به عن
الإيمان (3) آخرين ، فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء ، الذي لا يُسْأل عما
يفعل وهم يسألون ، لعلمه وحكمته وعدله ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا
يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } وفي
الحديث عن أبي ذر (4) عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم ، فيما يرويه عنه ربه عز
وجل : "يا عبادي ، إني حرّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا
- إلى أن قال في آخره : يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها
، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه".
رواه مسلم بطوله. (6)
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ
يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ
وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) }
يقول تعالى مُذكِّرًا للناس قيام الساعة وحشرهم من أجداثهم إلى عَرَصات القيامة :
كأنهم (7) يوم يوافونها لم يلبثوا في الدنيا { إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ } كما
قال تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً
أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا } [ طه : 102 - 104 ] ، وقال
تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا
غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ
الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [
الروم : 55 ، 56 ].
وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كما قال : { قَالَ كَمْ
لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ المؤمنون : 112 ، 114 ].
وقوله : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } أي : يعرف الأبناء الآباء (8) والقرابات
بعضهم لبعض ، كما كانوا في
__________
(1) في ت : "ما".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "وأضل عن الإيمان به".
(4) في ت ، أ : "حديث أبي ذر".
(5) في ت ، أ : "رسول الله".
(6) صحيح مسلم برقم (2577).
(7) في ت ، أ : "وكأنهم".
(8) في ت ، أ : "الآباء الأبناء.
(4/271)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
الدنيا
، ولكن كل مشغول بنفسه { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ
يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وقال تعالى : { وَلا
يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي
مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ
الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ * كَلا } [
المعارج : 10 ، 15 ].
وقوله : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا
مُهْتَدِينَ } كقوله تعالى : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات :
15 ]. لأنهم خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ألا ذلك هو الخسران المبين. فهذه
هي الخسارة العظيمة ، ولا خسارة أعظم من خَسارة من فُرّق بينه وبين أحبته (1) يوم الحسرة
والندامة.
{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) }
يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ
الَّذِي نَعِدُهُمْ } أي : ننتقم (2) منهم في حياتك لتقرّ عينُك منهم ، { أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي : مصيرهم ومتقَلَبهم ، والله شهيد
على أفعالهم بعدك.
وقد قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا أبو بكر
الحنفي ، حدثنا داود بن الجارود ، عن أبي الطفيل (3) عن حذيفة بن أسيد ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : "عُرضت عليّ أمتي البارحة لدى هذه الحجرة ، أولها
وآخرها. فقال رجل : يا رسول الله ، عرض عليك من خُلِق ، فكيف من لم يخلق ؟ فقال :
"صُوِّروا لي في الطين ، حتى إني لأعْرَفُ بالإنسان منهم من أحدكم
بصاحبه". (4)
ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، عن عقبة بن مكرم ، عن يونس بن بُكَيْر ، عن
زياد بن المنذر ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة بن أسيد ، به نحوه. (5)
وقوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ } قال مجاهد :
يعني يوم القيامة.
{ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } كما قال تعالى : {
وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ
بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ (6) وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ } [ الزمر : 69 ] ، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها ، وكتابُ
أعمالها من خير وشر موضوعٌ شاهد عليهم ، وحفظتهم من الملائكة شهودٌ أيضا أمة بعد
أمة. وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق ، إلا أنها أول الأمم يوم
القيامة يفصل بينهم ، ويقضى لهم ، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال : "نحن
__________
(1) في ت ، أ : "أخيه".
(2) في ت : "ينتقم".
(3) في جميع النسخ : "أبي السليل" والتصويب من المعجم الكبير للطبراني.
(4) المعجم الكبير (3/181).
(5) المعجم الكبير (3/181) وقال الهيثمي في المجمع (10/69) : "وفيه زياد بن
المنذر وهو كذاب".
(6) في ت ، أ : "وهو خطأ".
(4/272)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
الآخرون
السابقون يوم القيامة ، المقضى لهم قبل الخلائق" (1) فأمته إنما حازت قَصَب
السبق لشرف رسولها ، صلوات الله وسلامه عليه [دائمًا] (2) إلى يوم الدين.
{ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لا
أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ
(49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا
يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ
آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا
ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
}
يقول تعالى مخبرًا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذَاب وسؤالهم عن وقته
قبل التعين ، مما لا فائدة فيه لهم (3) كما قال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } [ الشورى : 18 ] أي : كائنة لا محالة وواقعة ،
وإن لم يعلموا وقتها عينا ، ولهذا أرشَدَ رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم
فقال : { قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ
} أي : لا أقول إلا ما علَّمني ، ولا أقدر على شيء مما استأثر به إلا أن يُطلعني
عليه ، فأنا عبده ورسوله إليكم ، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة ، ولم
يطلعني على وقتها ، [ولكن] (4) { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } أي : لكل قرن مدَّة من
العمر مقدَّرة (5) فإذا انقضى أجلهم { فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا
يَسْتَقْدِمُونَ } كما قال تعالى : { وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا
جَاءَ أَجَلُهَا } [ المنافقون : 11 ] ، ثم أخبرهم أن عذاب الله سيأتيهم بغتة ،
فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا } أي
: ليلا أو نهارا ، { مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أَثُمَّ إِذَا مَا
وَقَعَ آمَنْتُمْ بِه } يعني : أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا : { رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [
السجدة : 12 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا
بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي
عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } [ غافر : 84 ، 85 ].
{ ثُمَّ قِيلَ (6) لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ } أي : يوم
القيامة يقال لهم هذا ، تبكيتا وتقريعًا ، كقوله : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى
نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ *
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا
تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [
الطور : 13 - 16 ].
__________
(1) هذا اللفظ في صحيح مسلم برقم (856) من حديث حذيفة رضي الله عنه ، وروى البخاري
أوله برقم (876) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت ، أ : "لهم فيه".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "تقدر".
(6) في ت : "قل".
(4/273)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
{ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) }
(4/274)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
{
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ
وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) }
يقول تعالى : ويستخبرونك { أَحَقٌّ هُوَ } أي : المعاد والقيامة من الأجداث بعد
صيرورة الأجسام ترابا. { قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ } أي : ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من
العدم : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ } [ يس : 82 ]. (1)
وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان ، يأمر الله تعالى رسوله أن
يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا
تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ سبأ : 3 ]. وفي
التغابن : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ].
ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يودّ الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض
ذهبا ، { وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ } أي : بالحق ، { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }.
{ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ
حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) }
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، وأنَّ وعده حقّ كائن لا محالة ، وأنه يحيي
ويميت وإليه مرجعهم ، وأنه القادر على ذلك ، العليم بما تفرّق من الأجسام وتمزّق
في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار [سبحانه وتعالى تقدست أسماؤه وجل ثناؤه]. (2)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ
لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ
اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ
(58) }
يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزل إليهم من القرآن العظيم على رسوله الكريم : {
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : زاجر عن
الفواحش ، { وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } أي : من الشُبَه والشكوك ، وهو
إزالة ما فيها من رجس ودَنَس ، { وَهُدًى وَرَحْمَةً } أي : محصلٌ لها الهداية
والرحمة من الله تعالى. وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه ، كما
قال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] ،
وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ
مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ].
__________
(1) في ت : "إنما قوله" والصواب مل أثبتناه.
(2) زيادة من أ.
(4/274)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
وقوله
تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (1) أي : بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق
(2) فليفرحوا ، فإنه أولى ما يفرحون به ، { هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } أي :
من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة ، كما قال ابن أبي
حاتم ، في تفسير هذه الآية : "وذُكِر عن بَقيَّة (3) - يعني ابن الوليد - عن
صفوان بن عمرو ، سمعت أيفع بن عبد الكلاعي يقول : لما قُدم خراجُ العراق إلى عمر ،
رضي الله عنه ، خرج عُمَرُ ومولى له فجعل عمر يعد الإبل ، فإذا هي (4) أكثر من ذلك
، فجعل عمر يقول : الحمد لله تعالى ، ويقول مولاه : هذا والله من فضل الله ورحمته.
فقال عمر : كذبت. ليس هذا ، هو الذي يقول الله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } وهذا
مما يجمعون.
وقد (5) أسنده (6) الحافظ أبو القاسم الطبراني ، فرواه عن أبي زُرْعَة الدمشقي ،
عن حَيوة بن شُرَيح ، عن بقية ، فذكره. (7)
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ
حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ
(59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لا يَشْكُرُونَ (60) }
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت
إنكارًا على المشركين فيما كانوا يحرمون ويحلون من البحائر والسوائب والوصايا ،
كقوله تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ
نَصِيبًا } [ الأنعام : 136 ] الآيات.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، سمعت أبا الأحوص
- وهو عوف بن [مالك بن] (8) نضلة - يحدث عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأنا قَشْف الهيئة ، فقال : "هل لك مال ؟" قال : قلت : نعم.
قال : "من أي المال ؟" قال : قلت : من كل المال ، من الإبل والرقيق
والخيل والغنم. فقال (9) إذا آتاك مالا فَلْيُرَ عليك". وقال : "هل تنتج
إبل قومك صحاحا آذانُها ، فتعمَد إلى موسى فتقطع آذانها ، فتقول : هذه بحر وتشقها
، أو تشق جلودها
__________
(1) في ت : "وبرحمة".
(2) في أ : "الله".
(3) في ت : "ذكر عن نفسه".
(4) في أ : "هو".
(5) في ت : "وهذا".
(6) في أ : "أسند".
(7) أورده السيوطي في الدر المنثور (4/368) وعزاه لابن أبي حاتم والطبراني.
(8) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(9) في ت ، أ : "والنعم قال".
(4/275)
وتقول
: هذه صُرُم ، وتحرمها (1) عليك وعلى أهلك ؟" قال : نعم. قال : "فإن ما
آتاك الله لك حل ، وساعد الله أشد من ساعدك ، وموسى الله أحد من موساك" وذكر
تمام الحديث. (2)
ثم رواه عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو ، عن عمه أبي الأحوص (3)
وعن بَهْز بن أسد ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي الأحوص ، به
(4) وهذا حديث جيد قوي الإسناد.
وقد أنكر [الله] (5) تعالى على من حَرّم ما أحل الله ، أو أحل ما حرم بمجرد الآراء
والأهواء ، التي (6) لا مستند لها ولا دليل عليها. ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة
، فقال : { وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ
الْقِيَامَة } أي : ما ظنهم أن يُصنَع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } قال ابن جرير : في تركه
معاجلتهم (7) بالعقوبة في الدنيا.
قلت : ويحتمل أن يكون المراد لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع
في الدنيا ، ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم.
{ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ } بل يحرمون ما أنعم الله [به] (8) عليهم
، ويضيقون على أنفسهم ، فيجعلون بعضا حلالا وبعضا حراما. وهذا قد وقع فيه المشركون
فيما شرعوه لأنفسهم ، وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم. وقال ابن أبي حاتم في
تفسير هذه الآية : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا رباح ، حدثنا
عبد الله بن سليمان ، حدثنا موسى بن الصباح في قول الله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ
لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } قال : إذا كان يوم القيامة ، يؤتى بأهل ولاية الله
عز وجل ، فيقومون بين يدي الله عز وجل ثلاثة أصناف قال : فيؤتى برجل من الصنف
الأول فيقول : عبدي ، لماذا عملت ؟ فيقول : يا رب : خلقت الجنة وأشجارها وثمارها
وأنهارها ، وحورها ونعيمها ، وما أعددت لأهل طاعتك فيها ، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ
نهاري شوقا إليها. قال : فيقول الله تعالى : عبدي ، إنما عملت للجنة ، هذه الجنة
فادخلها ، ومن فضلي عليك أن أعتقتك من النار ، [ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي] (9)
قال : فيدخل هو ومن معه الجنة.
قال : ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني ، قال : فيقول : عبدي ، لماذا عملت ؟ فيقول :
يا رب ، خلقت نارا وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها ويحمُومها ، وما أعددت لأعدائك
وأهل معصيتك فيها
__________
(1) في ت : "حرام ويحرمها".
(2) المسند (3/473).
(3) المسند (4/137).
(4) المسند (3/473).
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) في أ : "الذي".
(7) في ت : "معالجتهم".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) زيادة من ت ، أ.
(4/276)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
فأسهرت
ليلي وأظمأت نهاري خوفا منها. فيقول : عبدي ، إنما عملت ذلك خوفا من ناري ، (1)
فإني قد أعتقتك من النار ، ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي. فيدخل هو ومن معه الجنة.
ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث ، فيقول : عبدي ، لماذا عملت ؟ فيقول : رب (2) حبًا
لك ، وشوقا إليك ، وعزتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليك وحبا لك ، فيقول
تبارك وتعالى : عبدي ، إنما عملت حبا لي وشوقا إلي ، فيتجلى له الرب جل جلاله ،
ويقول : ها أنا ذا ، انظر إلي ثم يقول : من فضلي عليك أن أعتقك من النار ، وأبيحك
جنتي ، وأزيرَك ملائكتي ، وأسلم عليك بنفسي. فيدخل هو ومن معه الجنة.
{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ
مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا
يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ
وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) }
يخبر تعالى نبيه ، صلوات الله عليه وسلامه (3) أنه (4) يعلم جميع أحواله وأحوال
أمته ، وجميع الخلائق في كل ساعة وآن ولحظة ، وأنه لا يعزُب عن علمه وبصره مثقالُ
ذرة في حقارتها وصغرها في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في
كتاب مبين ، كقوله : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ (5) الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا
هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا
يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا
فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار
وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة في قوله : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي
الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [
الأنعام : 38 ] ، وقال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى
اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ } [ هود : 6 ].
وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء ، فكيف بعلمه بحركات المكلفين المأمورين
بالعبادة ، كما قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي
يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } [ الشعراء : 217 - 219 ]
؛ ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ
قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ
تُفِيضُونَ فِيهِ } أي : إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون ،
ولهذا قال ، عليه السلام (6) لما سأله جبريل عن الإحسان [قال] (7) أن تعبد الله
كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". (8)
__________
(1) في ت ، أ : "النار".
(2) في أ : "ربي".
(3) في ت : "صلوات الله وسلامه عليه".
(4) في ت : "بأنه".
(5) في ت : "مفاتح".
(6) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(7) زيادة من ت ، أ.
(8) رواه مسلم في صحيحه برقم (8) من حديث عمر بن الخطاب الطويل.
(4/277)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
{ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) }
(4/277)
يخبر
تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون ، كما فسرهم (1) ربهم ، فكل من كان
تقيا كان لله وليا : أنه { لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [أي] (2) فيما يستقبلون من
أهوال القيامة ، { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما وراءهم في الدنيا.
وقال عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وغير واحد من السلف : أولياء الله الذين إذا
رءوا ذُكِر الله.
وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما قال البزار :
حدثنا علي بن حَرْب الرازي ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا يعقوب بن عبد
الله الأشعري - وهو القمي - عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ، مَنْ أولياء الله ؟ قال : "الذين إذا
رءُوا ذُكر الله". ثم قال البزار : وقد روي عن سعيد مرسلا. (3)
وقال ابن جرير : حدثنا أبو هشام الرِّفاعي ، حدثنا ابن فضيل (4) حدثنا أبي ، عن
عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير البَجَلي ، عن أبي هريرة ، رضي
الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من عباد الله عبادا
يغبطهم (5) الأنبياء والشهداء". قيل : من هم يا رسول الله ؟ لعلنا نحبهم. قال
: "هم قوم تحابوا (6) في الله من غير أموال ولا أنساب ، وجوههم نور على منابر
من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس". ثم قرأ : {
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } (7)
ثم رواه أيضا أبو داود ، من حديث جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زرعة بن
عمرو بن جرير ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
بمثله. (8)
وهذا أيضا إسناد جيد ، إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب ، والله أعلم.
__________
(1) في ت ، أ : "فسر بهم".
(2) زيادة من ت.
(3) مسند البزار برقم (3626) "كشف الأستار". والمرسل رواه الطبري في
تفسيره (15/119) من طريق أشعث بن إسحاق ، عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير
مرسلا.
(4) في جميع النسخ "أبو فضيل" ، وكذا وقع في مخطوطة الطبري وصوبه
المعلق.
(5) في ت : "يعطيهم".
(6) في أ : "تحابون".
(7) تفسير الطبري (15/20) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11236) عن واصل بن
عبد الأعلى عن محمد بن فضيل عن أبيه وعمارة بن القعقاع - هكذا مقرونا - كلاهما عن
أبي زرعة عن أبي هريرة به نحوه ، ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2508) من طريق عبد
الرحمن بن صالح عن ابن فضيل عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة به.
(8) تفسير الطبري (15/121) وسنن أبي داود برقم (3527).
(4/278)
وفي
حديث الإمام أحمد ، عن أبي النضر ، عن عبد الحميد بن بَهْرَام ، عن شَهْر بن
حَوْشَب ، عن عبد الرحمن بن غَنْم ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل (1) بينهم
أرحام متقاربة ، تحابوا في الله ، وتصافوا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة
منابر من نور ، فيجلسهم عليها ، يفزع الناس ولا يفزعون ، وهم أولياء الله ، الذين
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون". والحديث متطول. (2) (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن الأعمش ، عن ذَكْوَان
أبي صالح ، عن رجل ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
في قوله : { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } قال :
"الرؤيا الصالحة يراها المسلم ، أو تُرى له". (4)
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ،
عن عطاء بن يسار ، عن رجل من أهل مصر ، عن أبي الدرداء في قوله : { لَهُمُ
الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } قال : سأل رجل أبا
الدرداء (5) عن هذه الآية ، فقال : لقد سألت عن شيء ما سمعتُ [أحدًا] (6) سأل عنه
بعد رجل سأل عنه رسولَ الله ، فقال : "هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم
، أو تُرَى له ، بشراه في الحياة الدنيا ، وبشراه في الآخرة [الجنة]. (7)
ثم رواه ابن جرير من حديث سفيان ، عن ابن المنْكَدِر ، عن عَطَاء بن يَسَار ، عن
رجل من أهل مصر ، أنه سأل أبا الدرداء عن هذه الآية ، فذكر نحو ما تقدم. (8)
وقال ابن جرير : حدثني المثنى : حدثنا الحجاج بن مِنْهَال ، حدثنا حماد بن زيد ،
عن عاصم بن بَهْدَلَة ، عن أبي صالح قال : سمعت أبا الدرداء ، وسئل عن : {
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى } فذكر نحوه سواء. (9)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى ، عن أبي سلمة ، عن
عبادة بن الصامت ؛ أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ،
أرأيت قول الله تعالى : { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الآخِرَةِ } ؟ فقال : "لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي - أو :
أحد قبلك" قال : "تلك الرؤيا الصالحة ، يراها الرجل الصالح أو تُرَى
له".
وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن عمران القَطَّان ، عن يحيى بن أبي كثير ، به
(10) ورواه
__________
(1) في ت : "يتصل".
(2) في ت ، أ : "يطول".
(3) المسند (5/343).
(4) المسند (6/445).
(5) في أ : "سأل رجل من أهل مصر أبا الدرداء".
(6) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(7) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(8) تفسير الطبري (15/128) ورواه الترمذي في السنن برقم (3106) من طريق سفيان عن
محمد بن المنكدر به نحوه.
(9) تفسير الطبري (15/136) ورواه الترمذي في السنن برقم (3106) من طريق أحمد بن
عبدة عن حماد بن زيد به.
(10) مسند الإمام أحمد (5/315) وهو في مسند الطيالسي برقم (583) عن حرب بن شداد ،
عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة قال : نبئت أن عبادة بن الصامت فذكره ، وهو
منقطع قال ابن حجر : "رجاله ثقات إلا أنه معلول ، فإن أبا سلمة لم يسمع من
عبادة".
(4/279)
الأوزاعي
، عن يحيى بن أبي كثير ، فذكره. ورواه علي بن المبارك ، عن يحيى ، عن أبي سلمة قال
: نُبّئنا عن عبادة بن الصامت ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ،
فذكره.
وقال ابن جرير : حدثني أبو حميد الحِمْصيّ ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عمر بن
عمرو بن عبد الأحْمُوسي ، عن حميد بن عبد الله المزني قال : أتى رجل عبادة بن
الصامت فقال : آية في كتاب الله أسألك عنها ، قول الله تعالى : { لَهُمُ
الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؟ فقال عبادة : ما سألني عنها أحد قبلك ،
سألت عنها نبي الله فقال مثل ذلك : "ما سألني عنها أحد قبلك ، الرؤيا الصالحة
، يراها العبد المؤمن في المنام أو تُرَى له". (1)
ثم رواه من حديث موسى بن عبيدة ، عن أيوب بن خالد بن صَفْوان ، عن عبادة بن الصامت
؛ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } فقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة ، فما بشرى الدنيا ؟
قال : "الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرَى له ، وهي جزء من أربعة وأربعين
جزءا أو سبعين جزءا من النبوة". (2)
وقال [الإمام] (3) أحمد أيضا : حدثنا بَهْز ، حدثنا حماد ، حدثنا أبو عمران ، عن
عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر ؛ أنه قال : يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل
فيحمده (4) الناس عليه ، ويثنون عليه به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"تلك عاجل بشرى المؤمن". رواه مسلم. (5)
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن - يعني الأشيب - حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا دَرَّاج ،
عن عبد الرحمن بن جُبَيْر ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال : { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }
قال : "الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن ، هي جزء من تسعة وأربعين جزءا من
النبوة ، فمن رأى [ذلك] (6) فليخبر بها ، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان
ليَحْزُنه ، فلينفث (7) عن يساره ثلاثا ، وليكبر (8) ولا يخبر بها أحدا" (9)
لم يخرجوه.
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وَهْب ، حدثني عمرو بن الحارث ، أن
دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن عبد الرحمن بن جُبَيْر ، عن عبد الله بن عمرو ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا } الرؤيا الصالحة يبشَّرها المؤمن ، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
(10)
وقال أيضا ابن جرير : حدثني محمد بن أبي حاتم المؤدَّب ، حدثنا عمار بن محمد ،
حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : {
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } قال : "هي
__________
(1) تفسير الطبري (15/129).
(2) تفسير الطبري (15/132).
(3) زيادة من أ.
(4) في ت ، أ : "ويحمده".
(5) المسند (5/156) وصحيح مسلم برقم (2642).
(6) زيادة من أ ، والمسند ، وفي ت : "تلك".
(7) في ت : "فليتفت".
(8) في ت ، أ : "وليسكت".
(9) المسند (2/219) وابن لهيعة ودراج ضعيفان.
(10) تفسير الطبري (15/139).
(4/280)
في
الدنيا الرؤيا الصالحة ، يراها العبد أو تُرَى له ، وهي في الآخرة الجنة".
(1)
ثم رواه عن أبي كُرَيْب ، عن أبي بكر بن عَيَّاش ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن
أبي هريرة أنه قال : الرؤيا الحسنة بشرى من الله ، وهي من المبشّرات. (2)
هكذا رواه من هذه الطريق موقوفا.
وقال أيضا : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن
أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الرؤيا الحسنة هي
البشرى ، يراها المسلم أو تُرَى له". (3)
وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن حماد الدُّولابي ، حدثنا سفيان ، عن عبيد الله بن
أبي يزيد ، عن أبيه ، عن سِبَاع بن ثابت ، عن أم كُرْز الكعبية : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : "ذهبت النبوة ، وبقيت المبشرات". (4)
وهكذا روي عن ابن مسعود ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعُرْوَة بن الزبير ،
ويحيى بن أبي كثير ، وإبراهيم النَّخَعي ، وعطاء بن أبي رباح : أنهم فسروا ذلك
بالرؤيا الصالحة.
وقيل : المراد بذلك (5) بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة كما في
قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ
فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [ فصلت : 30 - 32 ].
وفي حديث البراء : "أن المؤمن إذا حضره الموت ، جاءه ملائكة بيض الوجوه ، بيض
الثياب ، فقالوا : اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان ، ورب غير غضبان.
فتخرج من فمه ، كما تسيل القطرة من فم السقاء".
وأما بشراهم في الآخرة ، فكما قال تعالى : { لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأكْبَرُ
وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [
الأنبياء : 103 ]. وقال تعالى : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ
جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ الحديد : 12 ]. (6)
وقوله : { لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } أي : هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف
ولا يغير ، بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة : { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }
(7)
__________
(1) تفسير الطبري (15/131).
(2) تفسير الطبري (15/130).
(3) تفسير الطبري (15/130).
(4) تفسير الطبري (15/133) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (3896) من طريق هارون
الحمال عن سفيان به ، وقال البوصيري في الزوائد (3/212) : "هذا إسناد صحيح
رجاله ثقات" وأبو زيد لم يوثقه سوى ابن حبان ، ولم يرو عنه سوى ابنه.
(5) في ت ، أ : "المراد من ذلك".
(6) في ت : "وذلك الفوز العظيم".
(7) في ت : "وذلك" وهو خطأ.
(4/281)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
{
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ
وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) }
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَلا يَحْزُنْكَ } قولُ هؤلاء المشركين
، واستعن بالله عليهم ، وتوكل عليه ؛ فإن العزة لله جميعا ، أي : جميعها له
ولرسوله وللمؤمنين ، { هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لأقوال عباده
العليم بأحوالهم. (1)
ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض ، وأن المشركين يعبدون الأصنام ، وهي لا
تملك شيئا ، لا (2) ضرًا ولا نفعا ، ولا دليل لهم على عبادتها ، بل إنما يتبعون في
ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم.
ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه ، أي : يستريحون فيه من نَصَبهم
وكلالهم وحَرَكاتهم ، { وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } أي : مضيئا لمعاشهم وسعيهم ،
وأسفارهم ومصالحهم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي :
يسمعون هذه الحجج والأدلة ، فيعتبرون (3) بها ، ويستدلون على عظمة خالقها ،
ومقدرها ومسيرها.
{ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا
أَتَقُولُونَ (4) عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا
ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا
كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) }
يقول تعالى منكرًا على من ادعى أن له ولدًا : { سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ } أي
: تقدس عن ذلك ، هو الغني عن كل ما سواه ، وكل شيء فقير إليه ، { لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : فكيف يكون له ولد مما خلق ، وكل شيء مملوك
له ، عبد له ؟! { إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا } أي : ليس عندكم دليل
على ما تقولونه من الكذب والبهتان! { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ } إنكار ووعيد أكيد ، وتهديد شديد ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا
اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ
السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ
هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ
يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي
الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 - 95 ].
__________
(1) في ت ، أ : "عليم بهم".
(2) في ت ، أ : "ولا".
(3) في ت : "ويعتبرون".
(4) في ت : "أيقولون".
(4/282)
ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين ، ممن زعم أنه له ولدا ، بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلا ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ ، كما قال ها هنا : { مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا } أي : مدة قريبة ، { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي : يوم القيامة ، { ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ } أي : الموجع المؤلم { بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } أي : بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله ، فيما ادعوه من الإفك والزور.
(4/283)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
{
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ
كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ
فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ
غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) }
يقول تعالى لنبيه ، صلوات الله وسلامه عليه : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ } أي : أخبرهم
واقصص عليهم ، أي : على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك { نَبَأَ نُوحٍ } أي :
خبره مع قومه الذين كذبوه ، كيف أهلكهم الله ودَمّرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم ،
ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك. { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ
يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ } أي : عَظُم عليكم ، { مَقَامِي } أي
فيكم بين أظهركم ، { وَتَذْكِيرِي } إياكم { بِآيَاتِ اللَّهِ } أي : بحججه
وبراهينه ، { فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ } أي : فإني لا أبالي ولا أكف عنكم (1)
سواء عظم عليكم أو لا! { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ } أي : فاجتمعوا
أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله ، من صَنَم ووثن ، { ثُمَّ لا يَكُنْ
أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي : ولا تجعلوا أمركم عليكم ملتبسا ، بل افصلوا
حالكم معي ، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون ، فاقضوا إلي ولا تنظرون ، أي : ولا
تؤخروني ساعة واحدة ، أي : مهما قدرتم فافعلوا ، فإني لا أباليكم (2) ولا أخاف
منكم ، لأنكم لستم على شيء ، كما قال هود لقومه : { إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ
وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا
ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا
مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } [ هود : 54 - 56 ].
{ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ } أي : كذبتم وأدبرتم عن الطاعة ، { فَمَا سَأَلْتُكُمْ
مِنْ أَجْرٍ } أي : لم أطلب منكم على نصحي إياكم شيئا ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلا
عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } أي : وأنا ممتثل ما
أمرت به
__________
(1) في ت ، أ : "ولا أفكر عنكم".
(2) في ت ، أ : "أبالكم".
(4/283)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
من
الإسلام لله عز وجل ، والإسلام هو دين [جميع] (1) الأنبياء من أولهم إلى آخرهم ،
وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم ، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ]. قال ابن عباس : سبيلا وسنة. فهذا نوح
يقول : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [ النمل : 91 ] ، وقال
تعالى عن إبراهيم الخليل : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ
لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ
يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 131 ، 132 ] ، وقال يوسف : { رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي
مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ]. وَقَالَ مُوسَى { يَا
قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ]. وقالت (2) السحرة : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ الأعراف : 126 ]. وقالت بلْقيس : { رَبِّ
إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } [ النمل : 44 ]. وقال [الله] (3) تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا } [ المائدة : 44 ] ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى
الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ
بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] وقال خاتم الرسل وسيد البشر : { قُلْ
إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا
شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [ الأنعام :
162 ، 163 ] أي : من هذه الأمة ؛ ولهذا قال في الحديث الثابت عنه : "نحن
معاشر الأنبياء أولاد عَلات ، ديننا واحد" (4) أي : وهو عبادة الله وحده لا
شريك له ، وإن تنوعت شرائعنا ، وذلك معنى قوله : "أولاد علات" ، وهم :
الإخوة من أمهات شتى والأب واحد.
وقوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ } (5) أي : على دينه {
فِي الْفُلْكِ } وهي : السفينة ، { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ } أي : في الأرض ، {
وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُنْذَرِينَ } أي : يا محمد كيف أنجينا المؤمنين ، وأهلكنا المكذبين.
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ
كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) }
يقول تعالى : ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم ، فجاءوهم بالبينات ، أي :
بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاءوهم به ، { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا
بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ } أي : فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به
رسلهم ، بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [
الأنعام : 110 ].
وقوله : { كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ } أي : كما طبع الله
على قلوب هؤلاء ، فما آمنوا
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "وقال".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (3443) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) في ت ، أ : "والذين"
(4/284)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
بسبب
تكذيبهم المتقدم ، هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم ، ويختم على
قلوبهم ، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
والمراد : أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة للرسل ، وأنجى (1) من آمن بهم ، وذلك
من بعد نوح ، عليه السلام ، فإن الناس كانوا من قبله من (2) زمان آدم عليه السلام
على الإسلام ، إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام ، فبعث الله إليهم نوحا ، عليه
السلام ؛ ولهذا يقول له المؤمنون يوم القيامة : أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل
الأرض.
وقال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام.
وقال الله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى
بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } [ الإسراء : 17 ] ، وفي هذا
إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا بسيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين ، فإنه
إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العقاب والنَّكَال ،
فماذا (3) ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك ؟
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا
جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا
يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ
لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) }
يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا } من بعد تلك الرسل { مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي : قومه. (4) { بِآيَاتِنَا } أي : حجَجنا وبراهيننا ،
{ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ } أي : استكبروا عن اتباع الحق
والانقياد له ، { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا
لَسِحْرٌ مُبِينٌ } كأنهم - قبَّحهم الله - أقسموا على ذلك ، وهم يعلمون أن ما
قالوه كذب وبهتان ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
} [ النمل : 14].
{ قَاَلَ } لهم { مُوسَى } منكرا عليهم : { أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا
جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِتَلْفِتَنَا } أي : تثنينا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : الدّين
الذي كانوا عليه ، { وَتَكُونَ لَكُمَا } أي : لك ولهارون { الْكِبْرِيَاء } أي :
العظمة والرياسة { فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ }.
وكثيرًا ما يذكر الله تعالى قصة موسى ، عليه السلام ، مع فرعون في كتابه العزيز ؛
لأنها من أعجب القصص ، فإن فرعون حَذر من موسى كل (5) الحذر ، فسخره القدر أن
رَبَّى هذا الذي يُحذَّر
__________
(1) في ت ، أ : "ونجى".
(2) في ت ، أ : "إلى".
(3) في ت ، أ : "فما".
(4) في ت ، أ : "أي إلى قومه".
(5) في أ : "من".
(4/285)
منه
على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ، ثم ترعرع وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم
، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم ، وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده (1)
ويرجع إليه ، هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان ، فجاءه برسالة الله
، وليس له وزير سوى أخيه هارون عليه (2) السلام ، فتمرد فرعون واستكبر وأخذته
الحمية ، والنفس الخبيثة الأبية ، وقوى رأسه وتولّى بركنه ، وادعى ما ليس له ،
وتجهرم على الله ، وعتا وبغى وأهان حزب الإيمان من بني إسرائيل ، والله تعالى يحفظ
رسوله موسى وأخاه هارون ، ويحوطهما ، بعنايته ، ويحرسهما بعينه التي لا تنام ، ولم
تزل (3) المحاجة والمجادلة والآيات تقوم على يدي موسى شيئا (4) بعد شيء ، ومرة (5)
بعد مرة ، مما يبهر العقول ويدهش الألباب ، مما لا يقوم له شيء ، ولا يأتي به إلا
من هو مؤيد من الله ، وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها ، وصمم فرعون
وَمَلَؤه - قبحهم الله - على التكذيب بذلك كله ، والجحد والعناد والمكابرة ، حتى
أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرَد ، وأغرقهم في صبيحة (6) واحدة أجمعين ، {
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } [ الأنعام : 45 ].
__________
(1) في ت ، أ : "فيعبده".
(2) في ت ، أ : "عليهما".
(3) في ت : "ولم يزل".
(4) في ت : "شيء".
(5) في ت : "وكره".
(6) في ت : "صيحة".
(4/286)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
{
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ
السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا
أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ
إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ
بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) }
ذكر تعالى (1) قصة السحرة مع موسى ، عليه السلام ، في سورة الأعراف ، وقد تقدم
الكلام عليها هناك. وفي هذه السورة ، وفي سورة طه ، وفي الشعراء ؛ وذلك أن فرعون -
لعنه الله - أراد أن يَتَهَرَّج على الناس ، ويعارض ما جاء به موسى ، عليه السلام
، من الحق المبين ، بزخارف (2) السحرة والمشعبذين ، فانعكَس عليه النظام ، ولم
يحصل له ذلك المرام ، وظهرت (3) البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام ، و {
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ } [ الشعراء : 46 - 48 ] فظن فرعون أن (4) يستنصر بالسحَّار ،
على رسول عالم الأسرار ، فخاب وخسر الجنة ، واستوجب النار.
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمَّا جَاءَ
السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ } (5) ؛ وإنما
قال لهم ذلك لأنهم اصطفوا - وقد وعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل - {
قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا } [ طه : 65 ، 66 ] ، فأراد موسى أن تكون البَدَاءة
منهم ، ليرى الناس ما صنعوا ، ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم ؛ ولهذا لما {
أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ
عَظِيمٍ } [ الأعراف : 116 ] ،
__________
(1) في ت : "ذكر الله سبحانه"
(2) في أ : "من خوارق".
(3) في ت : "وأظهرت".
(4) في ت : "أنه".
(5) في ت : "سحار".
(4/286)
فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
{
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ
الأعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا
كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [ طه : 67 ، 69 ] ، فعند
ذلك قال موسى لما ألقوا : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ
سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ
الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ }.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، حدثنا عبد الرحمن - يعني
الدَّشْتَكِيّ - أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن لَيْث - وهو ابن أبي سليم - قال :
بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى ، تقرأ في إناء فيه ماء ، ثم
يصب على رأس المسحور : الآية التي من سورة يونس : { فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى
مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا
يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } والآية الأخرى : { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 118 - 122 ] ، وقوله { إِنَّمَا صَنَعُوا
كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [ طه : 69 ].
{ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي
الأرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) }
يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى ، عليه السلام ، مع ما جاء به من الآيات (1) البينات
والحجج القاطعات والبراهين الساطعات ، إلا قليل من قوم فرعون ، من الذرية - وهم
الشباب (2) - على وجل وخوف منه ومن مَلَئه ، أن يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر
؛ لأن فرعون كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتوّ ، وكانت (3) له سَطْوة
ومَهابة ، تخاف رعيته منه خوفا شديدا.
قال العوفي : عن ابن عباس : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ
عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ } قال : فإن الذرية
التي آمنت لموسى ، من أناس غير بني إسرائيل ، من قوم فرعون يسير ، منهم : امرأة
فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه.
وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ
مِنْ قَوْمِهِ } يقول : بني إسرائيل.
وعن ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة(الذرية) : القليل.
وقال مجاهد في قوله : { إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ } يقول : بني إسرائيل. قال
: هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى ، من طول الزمان ، ومات آباؤهم.
واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية : أنها من بني إسرائيل لا من قوم فرعون ،
لعود الضمير على أقرب المذكورين.
__________
(1) في ت : "الإيمان".
(2) في ت : "الشاب".
(3) في ت : "فكانت".
(4/287)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
وفي
هذا نظر ؛ لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب (1) وأنهم من بني إسرائيل ، فالمعروف
أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى ، عليه السلام ، واستبشروا به ، وقد كانوا يعرفون
نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة ، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر
فرعون ويظهرهم عليه ؛ ولهذا لما بلغ هذا فرعون حَذَر كل الحذر فلم يُجْد عنه شيئا.
ولما جاء موسى آذاهم فرعون (2) أشد الأذى ، و { قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129]. وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم
موسى ، وهم بنو إسرائيل ؟.
{ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } أي : وأشراف قومهم أن يفتنهم ، ولم
يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يَفتِنَ عن الإيمان سوى قارون ، فإنه كان من
قوم موسى ، فبغى عليهم ؛ لكنه كان طاويا (3) إلى فرعون ، متصلا به ، متعلقا بحباله
(4) ومن قال : إن الضمير في قوله : { وَمَلَئِهِمْ } عائد إلى فرعون ، وعظم الملك
(5) من أجل اتباعه أو بحذف "آل" فرعون ، وإقامة المضاف إليه مقامه - فقد
أبعد ، وإن كان ابن جرير قد حكاهما عن بعض النحاة. ومما يدل على أنه لم يكن في بني
إسرائيل إلا مؤمن قوله تعالى :
{ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ
تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا
رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا
بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) }
يقول تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لبني إسرائيل : { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ
آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } أي : فإن
الله كاف من توكل عليه ، { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] ،
{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ].
وكثيرا ما يقرن الله بين العبادة والتوكل ، كما في قوله تعالى : { فَاعْبُدْهُ
وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ
وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] ، { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [ المزمل : 9 ] ، وأمر الله تعالى
المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم (6) مرات متعددة : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ].
وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك ، فقالوا : { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : لا تظفرهم بنا ، وتسلطهم
(7) علينا ، فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل ،
__________
(1) في ت ، "والشاب".
(2) في ت : "لفرعون".
(3) في ت : "طاويا".
(4) في ت : "بحاله".
(5) في ت : "للملك".
(6) في ت : "صلاتهم".
(7) في ت : "أي يظفركم ويسلطهم".
(4/288)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
فيفتنوا
(1) بذلك. هكذا روي عن أبي مِجْلَز ، وأبي الضُّحى.
وقال ابن أبي نَجِيح وغيره واحد ، عن مجاهد : لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ، ولا
بعذاب من عندك ، فيقول قوم فرعون : لو كانوا على حق ما عذبوا ، ولا سُلِّطنا عليهم
، فيفتنوا (2) بنا.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عُيَيْنَةَ ، عن ابن نَجِيح ، عن مجاهد : { رَبَّنَا
لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [أي] (3) لا تسلطهم علينا ،
فيفتنونا.
{ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ } أي : خلصنا برحمة منك وإحسان ، { مِنَ الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ } أي : الذين كفروا الحق وستروه ، ونحن قد آمنا بك وتوكلنا علي.
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ
بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ
الْمُؤْمِنِينَ (87) }
يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه ، وكيفية خلاصهم منهم (4) وذلك
أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون ، عليهما السلام { أَنْ تَبَوَّءَا } أي :
يتخذا لقومهما بمصر بيوتا.
واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } (5)
فقال الثوري وغيره ، عن خُصَيْف ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَاجْعَلُوا
بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال : أمرُوا أن يتخذوها مساجد.
وقال الثوري أيضا ، عن ابن منصور ، عن إبراهيم : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ
قِبْلَةً } قال : كانوا خائفين ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
وكذا قال مجاهد ، وأبو مالك ، والربيع بن أنس ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم ، وأبوه زيد بن أسلم : وكأن هذا - والله أعلم - لما اشتد بهم البلاء من قبَل
فرعون وقومه ، وضيقوا عليهم ، أمروا بكثرة الصلاة ، كما قال تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة :
156]. وفي الحديث : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى. أخرجه أبو
داود. (6) ولهذا (7) قال تعالى في هذه الآية : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بالثواب والنصر القريب.
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية قال : قالت بنو إسرائيل لموسى ،
عليه السلام : لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة ، فأذن الله تعالى لهم أن
يصلوا في بيوتهم ، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة. وقال مجاهد : {
وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال : لما خاف بنو إسرائيل من
__________
(1) في ت ، أ : "فيفتتنوا".
(2) في ت ، أ : "فيفتتنوا".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في أ : "منه".
(5) في ت : "وجعلوا".
(6) سنن أبي داود برقم (1319) من حديث حذيفة ، رضي الله عنه.
(7) في ت ، أ : "وكذا".
(4/289)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
فرعون
أن يقتلوا (1) في الكنائس الجامعة ، أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة
، يصلون فيها سرًا. وكذا قال قتادة ، والضحاك.
وقال سعيد بن جبير : { وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي : يقابل بعضها بعضا.
{ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً
وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا
حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ (88) }
__________
(1) في ت : "أن يصلوا".
(4/290)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
{
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ
الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) }
هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى ، عليه السلام ، على فرعون وَمَلَئه ،
لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ، ظلما وعلوا
وتكبرًا وعتوا ، قال : { رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً }
أي : من أثاث الدنيا ومتاعها ، { وأموالا } أي : جزيلة كثيرة ، { فِي } هذه {
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ } - بفتح الياء - أي :
أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم ،
كما قال تعالى : { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ }
وقرأ آخرون : { لِيُضِلُّوا } بضم الياء ، أي : ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك
، ليظن من أغويته أنك إنما أعطيت هؤلاء هذا لحبك إياهم (1) واعتنائك بهم.
{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد : أي : أهلكها.
وقال الضحاك ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس : جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما
كانت.
وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة.
وقال محمد بن كعب القُرَظي : اجعل (2) سُكَّرهم حجارة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر ،
عن أبي مَعْشَر ، حدثني محمد بن قيس : أن محمد بن كعب قرأ سورة يونس على عمر بن
عبد العزيز : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ }
إلى قوله : { اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } إلى آخرها [فقال له : عمر يا أبا حمزة
(3) أي شيء الطمس ؟ قال : عادت أموالهم كلها حجارة] (4) فقال عمر بن عبد العزيز
لغلام له : ائتني بكيس. [فجاءه بكيس] (5) فإذا فيه حمص وبيض ، قد قطع حول حجارة.
وقوله : { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } قال ابن عباس : أي اطبع عليها ، { فَلا
يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ }
وهذه الدعوة كانت من موسى ، عليه السلام ، غضبًا لله ولدينه على فرعون وملئه ،
الذين تبين له
__________
(1) في ت ، أ : "لهم".
(2) في ت : "جعل".
(3) في ت : "يا أبا جمرة".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) زيادة من ت ، أ.
(4/290)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
أنه
لا خير فيهم ، ولا يجيء منهم شيء كما دعا نوح ، عليه السلام ، فقال : { رَبِّ لا تَذَرْ
عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا
عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا } [نوح : 26 ، 27] ؛ ولهذا
استجاب الله تعالى لموسى ، عليه السلام ، فيهم (1) هذه الدعوة ، التي أمَّنَ عليها
أخوه هارون ، فقال تعالى : { قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا }
قال أبو العالية ، وأبو صالح ، وعكرمة ، ومحمد بن كعب القرظي ، والربيع بن أنس :
دعا موسى وأمَّنَ هارون ، أي : قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون.
وقد يحتج بهذه الآية من يقول : "إن تأمين المأموم على قراءة الفاتحة يُنزل
منزلة (2) قراءتها ؛ لأن موسى دعا وهارون أمن".
وقال تعالى : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [وَلا
تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ] } (3) أي : كما أجيبت دعوتكما
فاستقيما على أمري.
قال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : { فَاسْتَقِيمَا } فامضيا لأمري ، وهي الاستقامة.
قال ابن جريج : يقولون : إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة.
وقال محمد بن علي بن الحسين : أربعين يوما.
{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ
وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ
الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
(91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) }
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده ؛ فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر صحبة
موسى ، عليه السلام ، وهم - فيما قيل - ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية ، وقد كانوا
استعاروا من القبط حُلِيّا كثيرا ، فخرجوا به معهم ، فاشتد حَنَق فرعون عليهم ،
فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه ، فركب وراءهم في أبهة عظيمة
، وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم ، ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان
في سائر مملكته ، فلحقوهم وقت شروق الشمس ، { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ
قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء : 61] وذلك أنهم لما
انتهوا إلى ساحل البحر ، وأدركهم فرعون ، ولم يبق إلا أن يتقاتل (4) الجمعان ،
وألح أصحاب موسى ، عليه السلام ، عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه ؟ فيقول :
إني أمرت أن أسلك هاهنا ، { كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء :
62]
__________
(1) في ت : "فيما".
(2) في ت : "يتنزل منزلة".
(3) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) في أ : "أن يتقابل".
(4/291)
فعندما
ضاق الأمر اتسع ، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه ، فضربه فانفلق البحر ، {
فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } [الشعراء : 63] أي : كالجبل العظيم
، وصار اثني عشر طريقًا ، لكل سبط واحد. وأمر الله الريح فنَشَّفت أرضه ، {
فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى
} [طه : 77] وتخرق الماء بين الطرق كهيئة الشبابيك ، ليرى كل قوم الآخرين لئلا
يظنوا أنهم هلكوا. وجازت بنو إسرائيل البحر ، فلما خرج آخرهم منه انتهى فرعون
وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى ، وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان ،
فلما رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع ، وهيهات ولات حين مناص ، نفذ القدر ،
واستجيبت الدعوة. وجاء جبريل ، عليه السلام ، على فرس - وديق حائل - فمر إلى جانب
حصان فرعون فحمحم إليها وتقدم جبريل فاقتحم البحر ودخله ، فاقْتحم الحصان وراءه ،
ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا ، فتجلد لأمرائه ، وقال لهم : ليس بنو إسرائيل
بأحق بالبحر منا ، فاقتحموا كلهم عن آخرهم وميكائيل في ساقتهم ، لا يترك أحدا منهم
، إلا ألحقه بهم. فلما استوسقوا فيه وتكاملوا ، وهم أولهم بالخروج منه ، أمر اللهُ
القدير البحرَ أن يرتطم عليهم ، فارتطم عليهم ، فلم ينج منهم أحد ، وجعلت الأمواج
ترفعهم وتخفضهم ، وتراكمت الأمواج فوق فرعون ، وغشيته سكرات الموت ، فقال وهو كذلك
: { آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ
وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } فآمن حيث لا ينفعه الإيمان ، { فَلَمَّا رَأَوْا
بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ
مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ
الْكَافِرُونَ } [غافر : 84 ، 85].
وهكذا (1) قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ
قَبْلُ } أي : أهذا (2) الوقت تقول ، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه ؟ {
وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } أي : في الأرض الذين أضلوا الناس ، {
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا
يُنْصَرُونَ } [القصص : 41]
وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله (3) ذاك من أسرار الغيب
التي (4) أعلم الله بها رسوله ؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله :
حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهْران ،
عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما قال فرعون : {
آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } قال :
قال لي جبريل : [يا محمد] (5) لو رأيتني وقد أخذت [حالا] (6) من حال البحر ،
فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة"
__________
(1) في ت : "ولهذا".
(2) في ت : "هذا".
(3) في ت : "حالة".
(4) في ت ، أ : "الذي".
(5) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(6) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(4/292)
ورواه
الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم ، من حديث حماد بن سلمة ، به (1)
وقال الترمذي : حديث حسن.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب ، عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال لي
جبريل : لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر ، فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه
الرحمة". وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضا ، وابن جرير أيضا ، من غير وجه ، عن
شعبة ، به (2) وقال الترمذي : حسن غريب صحيح.
ووقع في رواية عند ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن عطاء
وعَدِيّ ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، رفعه أحدهما - وكأن (3) الآخر لم يرفعه ، فالله
(4) أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمر بن
عبد الله بن يَعْلَى الثقفي ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : لما أغرق
(5) الله فرعون ، أشار بأصبعه ورفع صوته : { آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا
الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } (6) قال : فخاف جبريل أن تسبق رحمة
الله فيه غضبه ، فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه.
وكذا رواه ابن جرير ، عن سفيان بن وَكِيع ، عن أبي خالد ، به موقوفا (7)
وقد روي من حديث أبي هريرة أيضا ، فقال ابن جرير :
حدثنا ابن حميد ، حدثنا حَكَّام ، عن عَنْبَسة - هو ابن (8) سعيد - عن كثير بن
زاذان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "قال لي جبريل : يا محمد ، لو رأيتني وأنا أغطّه وأدس من
الحال (9) في فيه ، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له" يعني : فرعون (10)
كثير بن زاذان هذا قال ابن مَعِين : لا أعرفه ، وقال أبو زُرْعَة وأبو حاتم :
مجهول ، وباقي رجاله ثقات.
__________
(1) المسند (1/309) وسنن الترمذي برقم (3107).
(2) سنن الترمذي برقم (3108) وتفسير الطبري (15/190 - 192) ورواه الحاكم في
المستدرك (2/340) من طريق النضر بن شميل عن شعبة به ، وقال الحاكم : "هذا
حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ؛ لأن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن
عباس" ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9392) فذكرت روايات الرفع والوقف.
(3) في ت ، أ : "فكأن".
(4) في ت ، أ : "والله".
(5) في ت ، أ : "لما غرق".
(6) في ت : "أن لا إله".
(7) تفسير الطبري (15/193) ورواه السرقسطي في غريب الحديث ، كما في تخريج الكشاف
(2/138) عن موسى بن هارون ، عن يحيى الحماني عن أبي خالد الأحمر به نحوه.
(8) في ت ، أ : "أبو".
(9) في ت : "الجبال".
(10) تفسير الطبري (15/191) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9390) من طريق
حكام الرازي به.
(4/293)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
وقد
أرسل هذا الحديث جماعة من السلف : قتادة ، وإبراهيم التيمي ، وميمون بن مِهْران.
ونقل عن الضحاك بن قيس : أنه خطب بهذا للناس ، فالله أعلم.
وقوله : { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً }
قال ابن عباس وغيره من السلف : إن بعض بني إسرائيل شكُّوا في موت فرعون ، فأمر
الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده (1) بلا روح ، وعليه درعه المعروفة [به] (2) على
نجوة (3) من الأرض وهو المكان المرتفع ، ليتحققوا موته وهلاكه ؛ ولهذا قال تعالى :
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ } أي : نرفعك على نَشز (4) من الأرض ، { بِبَدَنِك } قال
مجاهد : بجسدك. وقال الحسن : بجسم لا روح فيه. وقال عبد الله بن شداد : سويا صحيحا
، أي : لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه. وقال أبو صخر : بدرعك (5)
وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها ، كما تقدم ، والله أعلم.
وقوله : { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } أي : لتكون لبني إسرائيل دليلا على
موتك وهلاكك ، وأن الله (6) هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده ، وأنه لا يقوم لغضبه
شيء ؛ ولهذا قرأ بعض السلف : " لِتَكُونَ لِمَنْ خَلَقَكَ آيَةً وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ" (7) أي : لا يتعظون (8)
بها ، ولا يعتبرون. وقد كان [إهلاك فرعون وملئه] (9) يوم عاشوراء ، كما قال
البخاري :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غُنْدَر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير
، عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينَة ، واليهود تصوم يوم
عاشوراء فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لأصحابه : "أنتم أحق بموسى منهم ، فصوموه" (10)
{ وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ
الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ
يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
}
يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية ف { مُبَوَّأَ
صِدْقٍ } (11) قيل : هو بلاد مصر والشام ، مما يلي بيت المقدس ونواحيه ، فإن الله
تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها ،
كما قال الله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا
يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ
} [الأعراف : 137] وقال في الآية الأخرى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ } [الشعراء : 57 - 59] (12) ولكن
__________
(1) في ت ، أ : "بجسده سويا".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "نحوه".
(4) في ت : "يرفعك على بشر".
(5) في ت : "تذرعك".
(6) في ت : "وأنه تعالى".
(7) في ت : "الغافلون".
(8) في ت : "يتعضون".
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) صحيح البخاري برقم (4680).
(11) في ت : "فالمبوأ".
(12) في ت ، أ : "كم تركوا من جنات وعيون وزروع".
(4/294)
استمروا
مع موسى ، عليه السلام ، طالبين إلى بلاد بيت المقدس [وهي بلاد الخليل عليه السلام
فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس] (1) وكان فيه قوم من العمالقة ، [فنكل بنو
إسرائيل عن قتال العمالقة] (2) فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة ، ومات فيه
(3) هارون ، ثم ، موسى ، عليهما السلام ، وخرجوا بعدهما مع يوشع بن نون ، ففتح
الله عليهم بيت المقدس ، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من
الدهر ، ثم عادت إليهم ، ثم أخذها ملوك اليونان ، وكانت تحت أحكامهم (4) مدة طويلة
، وبعث الله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، في تلك المدة ، فاستعانت اليهود -
قبحهم (5) الله - على معاداة عيسى ، عليه السلام ، بملوك اليونان ، وكانت تحت
أحكامهم ، ووشوا عندهم ، وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا (6) من
يقبض عليه ، فرفعه الله إليه ، وشُبّه لهم بعض الحواريين بمشيئة الله وقدره (7)
فأخذوه فصلبوه ، واعتقدوا أنه هو ، { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ
اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [النساء : 157 ، 158] ثم
بعد المسيح ، عليه السلام بنحو [من] (8) ثلثمائة سنة ، دخل قسطنطين أحد ملوك
اليونان - في دين النصرانية ، وكان فيلسوفا قبل ذلك. فدخل في دين النصارى قيل :
تقية ، وقيل : حيلة ليفسده ، فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة وبدعًا أحدثوها
، فبنى لهم الكنائس والبيَع الكبار والصغار ، والصوامع والهياكل ، والمعابد ،
والقلايات. وانتشر دين النصرانية (9) في ذلك الزمان ، واشتهر على ما فيه من تبديل
وتغيير وتحريف ، ووضع وكذب ، ومخالفة لدين المسيح. ولم يبق على دين المسيح على
الحقيقة منهم إلا القليل من الرهبان ، فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامه
والقفار ، واستحوذت يدُ النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم ، وبنى هذا
الملك المذكور مدينة قسطنطينية ، والقُمَامة ، وبيت لحم ، وكنائس [بلاد] (10) بيت
المقدس ، ومدن حَوْران كبُصرى وغيرها من البلدان بناءات هائلة محكمة ، وعبدوا
الصليب من حينئذ ، وصلوا إلى الشرق ، وصوروا الكنائس ، وأحلوا لحم الخنزير ، وغير ذلك
مما أحدثوه من (11) الفروع في دينهم والأصول ، ووضعوا له الأمانة الحقيرة ، التي
يسمونها الكبيرة ، وصنفوا له القوانين ،
وبسط هذا يطول.
والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها (12) منهم الصحابة ، رضي
الله عنهم ، وكان فتح بيت المقدس على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله
عنه ، ولله الحمد والمنة.
وقوله : { وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : الحلال ، من الرزق الطيب
النافع المستطاب طبعا وشرعا.
وقوله : { فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ } أي : ما اختلفوا في شيء
من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم ، أي : ولم يكن لهم أن يختلفوا ، وقد بين
الله لهم وأزال عنهم اللبس. وقد ورد في
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت ، أ : "في أثنائها".
(4) في أ : "حكامهم".
(5) في أ : "لعنهم".
(6) في ت : "فعثوا".
(7) في أ : "وقدرته".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) في أ : "النصارى".
(10) زيادة من ت ، أ.
(11) في أ : "في".
(12) في ت : "انتزعتها".
(4/295)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
الحديث
: أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين
وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، منها واحدة في الجنة ،
وثنتان وسبعون في النار. قيل : من هم (1) يا رسول الله ؟ قال : "ما أنا عليه
وأصحابي".
رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ ، وهو في السنن والمسانيد (2) ولهذا قال الله
تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } أي : يفصل بينهم { يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
{ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ
يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ
عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ
حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ (97) }
قال قتادة بن دِعَامة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا أشك
ولا أسأل" (3)
وكذا قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وهذا فيه تثبيت (4) للأمة ،
وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة (5) في الكتب المتقدمة التي
بأيدي أهل الكتاب ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ
النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالإنْجِيلِ } الآية [الأعراف : 157]. ثم مع هذا العلم يعرفونه من كتبهم كما
يعرفون أبناءهم ، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة
عليهم ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ
الألِيمَ } أي : لا يؤمنون إيمانا ينفعهم ، بل حين لا ينفع نفسًا إيمانها ؛ ولهذا
لما دعا موسى ، عليه السلام ، على فرعون وملئه قال : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 88] ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا
إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ
شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [الأنعام : 111] ثم قال تعالى :
__________
(1) في ت : "من هو".
(2) المستدرك (1/129) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وجاء من حديث معاوية
وأنس وعوف بن مالك قال العراقي : "أسانيدها جياد".
(3) رواه عبد الرزاق في تفسيره (15/202) عن معمر عن قتادة به مرسلا.
(4) في ت : "تتبيت".
(5) في ت ، أ : "صلوات الله وسلامه عليه موجود".
(4/296)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
{ فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) }
(4/296)
يقول
تعالى : فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا إليهم الرسل ،
بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه ، أو أكثرهم كما قال تعالى :
{ يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30] ، { كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [الذاريات : 52] ، {
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ
مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ
مُقْتَدُونَ } [الزخرف : 23] (1) (2) وفي الحديث الصحيح : "عرض علي الأنبياء
، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس ، والنبي معه الرجل والنبي معه الرجلان ،
والنبي ليس معه أحد" (3) ثم ذكر كثرة أتباع موسى ، عليه السلام ، ثم ذكر كثرة
أمته ، صلوات الله وسلامه عليه ، كثرة سدت الخافقين الشرقي (4) والغربي.
والغرض أنه لم توجد (5) قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى ، إلا قوم يونس
، وهم أهل نِينَوى ، وما كان إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به
رسولهم ، بعد ما عاينوا أسبابه ، وخرج رسولهم من بين أظهرهم ، فعندها جأروا إلى
الله واستغاثوا به ، وتضرعوا (6) لديه. واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم
ومواشيهم ، وسألوا الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فعندها
رحمهم الله ، وكشف عنهم العذاب وأخروا ، كما قال تعالى : { إِلا قَوْمَ يُونُسَ
لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }.
واختلف المفسرون : هل كُشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي ؟ أو إنما كشف عنهم في
الدنيا فقط ؟ على قولين ، أحدهما : إنما كان ذلك في الحياة الدنيا ، كما هو مقيد
في هذه الآية. والقول الثاني فيهما لقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ
أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [الصافات : 147
، 148] فأطلق عليهم الإيمان ، والإيمان منقذ من العذاب الأخروي ، وهذا هو الظاهر ،
والله أعلم.
قال قتادة في تفسير هذه الآية : لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب ،
فتركت ، إلا قوم يونس ، لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم ، قذف الله
في قلوبهم التوبة ، ولبسوا المسوح ، وفَرّقوا بين كل بهيمة وولدها ثم عَجّوا إلى
الله أربعين ليلة. فلما عرف الله منهم الصدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما
مضى منهم كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم - قال قتادة : وذكر أن قوم يونس
كانوا بنينوى أرض الموصل.
وكذا روي عن ابن مسعود ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف ، وكان ابن
مسعود يقرؤها : "فَهَلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ".
__________
(1) في ت : "وما أرسلنا في قرية من نبي".
(2) في ت : "مهتدون" وهو خطأ.
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (5752) ومسلم في صحيحه برقم (220) من حديث عبد
الله بن عباس رضي الله عنه.
(4) في ت ، أ : "والشرقي".
(5) في ت : "يوجد".
(6) في ت ، أ : "وضرعوا".
(4/297)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
وقال
أبو عمران ، عن أبي الجَلْد قال : لما نزل بهم (1) العذاب ، جعل يدور على رءوسهم
كقطع الليل المظلم ، فمشوا إلى رجل من علمائهم فقالوا : علمنا دعاء ندعوا به ، لعل
الله يكشف (2) عنا العذاب ، فقال : قولوا : يا حيّ حين لا حيّ ، يا محيي الموتى
(3) لا إله إلا أنت. قال : فكشف عنهم العذاب.
وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن شاء الله.
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ
تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ
تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا
يَعْقِلُونَ (100) }
يقول تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ } - يا محمد - لأذن لأهل الأرض كلهم في
الإيمان بما جئتهم به ، فآمنوا كلّهم ، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى كما قال
تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ } [هود : 118 ، 119] ، وقال تعالى : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا } [الرعد : 31] ؛
ولهذا قال تعالى : { أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ } أي : تلزمهم وتلجئهم { حَتَّى
يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } أي : ليس ذلك عليك ولا إليك ، بل [إلى] (4) الله {
يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَرَاتٍ } [فاطر : 8] ، { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ } [البقرة : 272] ، { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 3] ، { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص :
56] ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40] ، {
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ } [الغاشية :
21 ، 22] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد ،
الهادي من يشاء ، المضل لمن يشاء ، لعلمه وحكمته وعدله ؛ ولهذا قال : { وَمَا
كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ } (5)
وهو الخبال (6) والضلال ، { عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ } أي : حججَ الله
وأدلته ، وهو العادل في كل ذلك ، في هداية من هدى ، وإضلال من ضل.
{ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ
وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ
أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ
مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) }
__________
(1) في ت : "لما نزل بقوم يونس".
(2) في ت : "أن يكشف".
(3) في ت : "يا محيي الموتى يا حي".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت : "يؤمن".
(6) في ت : "الجبال".
(4/298)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
يرشدُ
تعالى عباده إلى التفكر في آلائه (1) وما خلق في السموات والأرض من الآيات الباهرة
لذوي الألباب ، مما في السموات (2) من كواكب نيرات ، ثوابت وسيارات ، والشمس
والقمر ، والليل والنهار ، واختلافهما ، وإيلاج أحدهما في الآخر ، حتى يطول هذا
ويقصر هذا ، ثم يقصر هذا ويطول هذا ، وارتفاع السماء واتساعها ، وحسنها وزينتها ،
وما أنزل الله منها من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها ، وأخرج فيها من أفانين
الثمار والزروع والأزاهير ، وصنوف النبات ، وما ذرأ فيها من دوابّ مختلفة الأشكال
والألوان والمنافع ، وما فيها من جبال وسهول (3) وقفار وعمران وخراب. وما في البحر
من العجائب والأمواج ، وهو مع هذا [مسخر] (4) مذلل للسالكين ، يحمل سفنهم ، ويجري
بها برفق بتسخير القدير له ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.
وقوله : { وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } أي :
وأي شيء تُجدي الآيات السماوية والأرضية ، والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة
على صدقها ، عن قوم لا يؤمنون ، كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96 ، 69].
وقوله : { فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِهِمْ } أي : فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل
أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم المكذبة لرسلهم ، { قُلْ فَانْتَظِرُوا
إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ
آمَنُوا } (5) أي : ونهلك المكذبين بالرسل ، { كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ
الْمُؤْمِنِينَ } [أي] (6) حقا : أوجبه تعالى على نفسه الكريمة : كقوله { كَتَبَ
عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام : 12] كما جاء في الصحيحين ، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش : إن
رحمتي سبقت (7) غضبي" (8)
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ
الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا
تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ
فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) }
__________
(1) في أ : "إلى التفكر في الآية لآياته".
(2) في ت ، أ : "السماء".
(3) في أ : "وهول".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "فإنى".
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت ، أ : "تغلب".
(8) صحيح البخاري برقم (7554) وصحيح مسلم برقم (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه.
(4/299)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
{
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ
بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) }
يقول تعالى لرسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه : قل : يا أيها الناس ، إن كنتم
في شك من
(4/299)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
صحة
ما جئتكم من الدين الحنيف ، الذي أوحاه الله إلي ، فها أنا لا أعبد الذين تعبدون
من دون الله ، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له ، وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ، ثم
إليه مرجعكم ؛ فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله (1) حقا ، فأنا لا أعبدها
(2) فادعوها فلتضرني ، فإنها لا تضر ولا تنفع ، وإنما الذي بيده الضر والنفع هو
الله وحده لا شريك له ، وأمرت أن أكون من المؤمنين.
وقوله : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ } أي : أخلص العبادة لله وحده حنيفا ، أي : منحرفا عن الشرك ؛
ولهذا قال : { وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وهو معطوف على قوله : {
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
وقوله : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } إلى آخرها ، بيان لأن الخير والشر
والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده لا يشاركه (3) في ذلك أحد ، فهو
الذي يستحق العبادة وحده ، لا شريك له.
روى الحافظ ابن عساكر ، في ترجمة صفوان بن سليم ، من طريق عبد الله بن وهب :
أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى ، عن صفوان بن سليم ، عن أنس بن مالك ، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اطلبوا الخير دهركم كله ، وتعرضوا
لنفحات رحمة الله ، فإن لله نفحات من رحمته ، يصيب بها من يشاء من عباده واسألوه
أن يستر عوراتكم ، ويؤمن روعاتكم" (4)
ثم رواه من طريق الليث ، عن عيسى بن موسى ، عن صفوان ، عن رجل من أشجع ، عن أبي
هريرة مرفوعا ؛ بمثله سواء (5)
وقوله : { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : لمن تاب إليه وتوكل عليه ، ولو من
أيّ ذنب كان ، حتى من الشرك به ، فإنه يتوب عليه.
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ
اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا
وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) }
يقول تعالى آمرا لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن يخبر الناس أن الذي جاءهم
به من عند
__________
(1) في أ : "من دون الله من شيء حقا".
(2) في ت : "أعبد".
(3) في ت ، "لا يشركه".
(4) تاريخ دمشق (8/328) "المخطوط") ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم
(1121) من طريق عبد الله بن وهب به ، ورواه ابن عبد البر في التمهيد (5/339)
والبيهقي في شعب الإيمان برقم (1122) من طريق عمرو بن الربيع بن طاق عن يحيى بن
أيوب به نحوه ورمز له السيوطي بالضعف في الجامع.
(5) تاريخ دمشق (8/328 "المخطوط") ورواه ابن أبي الدنيا في الفرج بعد
الشدة برقم (27) من طريق رويم بن يزيد عن الليث به مرفوعا ، ورواه البيهقي في شعب
الإيمان برقم (1123) من طريق يحيى بن بكير عن الليث به مرفوعا. وقال البيهقي :
"هذا هو المحفوظ دون الأول" والأول حديث أنس.
(4/300)
الله
هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ، فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك
الاتباع على نفسه ، [ومن ضل عنه (1) فإنما يرجع وبال ذلك عليه (2) ] (3)
{ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي : وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين به
، وإنما أنا نذير لكم ، والهداية على الله تعالى.
وقوله : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ } أي : تمسك بما أنزل الله
عليك وأوحاه (4) واصبر على مخالفة من خالفك من الناس ، { حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ
} أي : يفتح بينك وبينهم ، { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } أي : خير الفاتحين
بعدله (5) وحكمته.
__________
(1) في ت : "عن ذلك".
(2) في ت : "على نفسه".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت ، أ : "وأوحاه إليك".
(5) في ت ، أ : "لعدله".
(4/301)
تفسير
سورة هود
[وهي مكية] (1).
قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا خلف بن هشام البزار ، حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي
إسحاق ، عن عِكْرِمة قال : قال أبو بكر : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما
شَيّبك ؟ قال : " شيبتني هود ، والواقعة ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت
" (2).
وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلاء ، حدثنا معاوية بن هشام
، عن شيبان ، عن أبي إسحاق ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال أبو بكر : يا رسول
الله ، قد شبت ؟ قال : " شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ،
وإذا الشمس كورت " (3) وفي رواية : " هود وأخواتها ".
وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا حماد (4) بن الحسن ، حدثنا سعيد بن
سلام ، حدثنا عمر بن محمد ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : " شيبتني هود وأخواتها : الواقعة ، والحاقة ، وإذا الشمس
كورت " وفي رواية : " هود وأخواتها " (5).
وقد روي من حديث ابن مسعود ، فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في
معجمه الكبير : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أحمد بن طارق الرائشي (6)
، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ؛ أن
أبا بكر قال : يا رسول الله ، ما شيبك ؟ قال : " هود ، والواقعة " (7).
عمرو بن ثابت متروك ، وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود. والله أعلم.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) مسند أبي يعلى (1/102) وهو منقطع وقد تكلم عليه والذي بعده ، الحافظ الدارقطني
في العلل (3/193 - 211) بما يكفي.
(3) سنن الترمذي برقم (3297) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من
حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه".
(4) جميع النسخ : "حجاج" والتصويب من المعجم الكبير.
(5) المعجم الكبير (6/183) ورواه الدارقطني في العلل (1/210) من طريق أحمد بن طارق
به ، وقال الهيثمي في المجمع (3/192) : "عمر بن صهبان متروك" وسعيد بن
سلام كذاب.
(6) في ت ، أ ، والمعجم الكبير : "الوابشي" ولم أجد ترجمته.
(7) المعجم الكبير (10/125 ، 126) وهو عنده من طريق عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن
أبي الأحوص عن ابن مسعود فلعله سقط من نسخة ابن كثير والله أعلم. وللاستزادة في
أحاديث الباب : فقد توسع الفاضل محمد طرهوني في تتبعها انظر كتابه : موسوعة فضائل
القرآن _1/295 - 308).
(4/302)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
بسم
الله الرحمن الرحيم
{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ
(1) أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا
حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ
مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) }
قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ،
وبالله التوفيق.
وأما قوله : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } أي : هي محكمة في لفظها ،
مفصلة في معناها ، فهو كامل صورة ومعنى. هذا معنى ما روي عن مجاهد ، وقتادة ،
واختاره ابن جرير.
وقوله : { مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } أي : من عند الله الحكيم في أقواله ،
وأحكامه ، الخبير بعواقب الأمور.
{ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } أي : نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة (1)
الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ }
[الأنبياء : 25] ، قال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ
اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36].
وقوله : { إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } (2) أي : إني لكم نذير من
العذاب إن خالفتموه ، وبشير بالثواب إن أطعتموه ، كما جاء في الحديث الصحيح : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا ، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب ، فاجتمعوا
، فقال (3) يا معشر قريش ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم (4) ، ألستم مصدقي
؟" فقالوا : ما جربنا عليك كذبا. قال : "فإني نذير لكم بين (5) يدي عذاب
شديد" (6).
وقوله : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ
مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي
: وآمركم (7) بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عز وجل فيما
تستقبلونه ، وأن تستمروا (8) على ذلك ، { يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا } أي :
في الدنيا { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : في
الدار الآخرة ، قاله قتادة ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ
أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل : 97] ، (9) (10)
__________
(1) في ت ، أ : "بعباده".
(2) في ت ، أ : "إني".
(3) في ت : "فقالوا".
(4) في ت : "تصحبكم".
(5) في أ : "من".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (4971) من حديث ابن عباس ، رضي الله عنه.
(7) في ت ، أ : "يأمركم".
(8) في ت ، أ : "يستقبلونه وأن يستمروا".
(9) في ت ، "فليحيينه".
(10) في ت : "بأحسن الذي كانوا".
(4/303)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
وقد
جاء في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد : "وإنك لن تنفق
نفقة تبتغي بها وجه الله ، إلا أجِرْت بها ، حتى ما تجعل في فِي (1) امرأتك"
(2).
وقال ابن جرير : حدثت عن المسيب بن شريك ، عن أبي بكر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن
مسعود في قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } قال : من عمل سيئة كتبت
عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في
الدنيا بقيت له عشر حسنات ، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر
واحدة وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول : هلك من غلب آحاده أعشاره (3).
وقوله : { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ
} هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى ، وكذب رسله ، فإن العذاب يناله
يوم معاده (4) لا محالة ، { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } أي : معادكم يوم القيامة
، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : وهو القادر على ما يشاء من إحسانه
إلى أوليائه ، وانتقامه من أعدائه ، وإعادة (5) الخلائق يوم القيامة ، وهذا مقام
الترهيب ، كما أن الأول مقام ترغيب.
{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورُهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ
يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) }
قال ابن عباس : كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم ، وحال وقاعهم ، فأنزل
الله هذه الآية. رواه البخاري من حديث ابن جُرَيْج ، عن محمد بن عباد بن جعفر ؛ أن
ابن عباس قرأ : "أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني (6) صُدُورهُم" ، فقلت : يا
أبا عباس ، ما تثنوني (7) صدورهم ؟ قال : الرجل كان يجامع امرأته فيستحيي - أو :
يتخلى فيستحيي فنزلت : "أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني (8) صُدُورهُم".
وفي لفظ آخر له : قال ابن عباس : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا ، فيفضوا إلى
السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ، فنزل ذلك فيهم.
ثم قال : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو قال : قرأ (9) ابن عباس
"أَلا إِنِّهُمْ يَثْنوني صُدُورهُم لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتغْشُونَ
ثِيَابَهُم".
__________
(1) في ت ، أ : "في فم".
(2) صحيح البخاري برقم (6373) وصحيح مسلم برقم (1628).
(3) تفسير الطبري (15/231).
(4) في ت : "معاذه".
(5) في ت ، أ : "وإعادته".
(6) في ت ، أ : "تثنون".
(7) في ت ، أ : "تثنون".
(8) في ت ، أ : "يثنون".
(9) في ت : "قال".
(4/304)
قال
البخاري : وقال غيره ، عن ابن عباس : { يَسْتَغْشُونَ } يغطون رءوسهم (1).
وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية : يعني به الشك في الله ، وعمل
السيئات ، وكذا روي عن مجاهد ، والحسن ، وغيرهم : أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا
قالوا شيئًا أو عملوه ، يظنون أنهم يستخفون من الله بذلك ، فأعلمهم الله تعالى
أنهم (2) حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل ، { يَعْلَمُ مَا
يُسِرُّونَ } (3) من القول : { وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ } أي : يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر. وما أحسن ما
قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة :
فَلا تَكْتُمُنَّ الله ما في نفوسكم... ليخفى ، فمهما يُكتم (4) الله يَعْلم...
يُؤخَر فيوضَع في كتاب فَيُدخَر... ليوم حساب ، أو يُعَجل فَيُنْقمِ (5) (6)
فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات ، وبالمعاد وبالجزاء ،
وبكتابة الأعمال في الصحف ليوم القيامة.
وقال عبد الله بن شداد : كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى (7)
صدره ، وغطى رأسه فأنزل الله ذلك.
وعود الضمير (8) على الله أولى ؛ لقوله : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ
يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ }.
وقرأ ابن عباس : "أَلا إِنِّهُمْ تَثْنوني (9) صُدُورُهُم" ، برفع
الصدور على الفاعلية ، وهو قريب المعنى.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4681 - 4683).
(2) في ت ، أ : "أنه".
(3) في ت ، أ : "يسرونه".
(4) في ت : "تكتم".
(5) في ت : "فينتقم".
(6) البيت في تفسير الطبري (15/233).
(7) في ت ، أ : "ثنى عنه".
(8) في ت ، أ : "الضمير أولا".
(9) في ت ، أ : "يثنوني".
(4/305)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
{
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) }
أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات ، من سائر دواب الأرض ، صغيرها وكبيرها ،
بحريها ، وبريها ، وأنه { يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } أي : يعلم
أين مُنتهى سيرها في الأرض ، وأين تأوي إليه من وكرها ، وهو مستودعها.
وقال علي بن أبي طلحة وغيره ، عن ابن عباس : { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } أي :
حيث تأوي ، { وَمُسْتَوْدَعَهَا } حيث تموت.
وعن مجاهد : { مُسْتَقَرَّهَا } في الرحم ، { وَمُسْتَوْدَعَهَا } في الصلب ،
كالتي في الأنعام : وكذا روي عن ابن عباس والضحاك ، وجماعة. وذكر (1) ابن أبي حاتم
أقوال المفسرين هاهنا ، كما ذكره
__________
(1) في أ : "وقال".
(4/305)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
عند
تلك الآية : (1) فالله أعلم ، وأن جميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله مبين عن جميع
ذلك ، كما قال تعالى : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ
بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ
شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [الانعام : 38] ، وقوله (2) : {
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ
فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }
[الأنعام : 59].
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ
قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ
الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ
يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِئُونَ (8) }
يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء ، وأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ، وأن عرشه
كان على الماء قبل ذلك ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن جامع بن شَدَّاد ، عن صفوان بن مُحْرِزْ ،
عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقبلوا البشرى
يا بني تميم". قالوا : قد بشرتنا فأعطنا. قال : "اقبلوا البشرى يا أهل
اليمن". قالوا : قد قبلنا ، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان ؟ قال :
"كان الله قبل كل شيء ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل
شيء". قال : فأتاني آت فقال : يا عمران ، انحلت ناقتك من عقالها. قال : فخرجت
في إثرها ، فلا أدري ما كان بعدي (3).
وهذا الحديث مخرج في صحيحي البخاري ومسلم بألفاظ كثيرة (4) ؛ فمنها : قالوا :
جئناك نسألك عن أول هذا الأمر فقال : "كان الله ولم يكن شيء قبله - وفي رواية
: غيره - وفي رواية : معه - وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كلّ شيء ، ثم خلق
السموات والأرض".
وفي صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف
سنة ، وكان عرشه على الماء" (5).
وقال البخاري في تفسير هذه الآية : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو
الزِّنَادِ ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "قال الله عز وجل : أنفِق أُنفقْ
__________
(1) عند تفسير الآية : 98 من سورة الأنعام.
(2) في ت ، أ : "وقال تعالى".
(3) المسند (4/431).
(4) صحيح البخاري برقم (3190 ، 3191 ، 4365 ، 4386 ، 7418) ولم أعثر عليه في صحيح
مسلم.
(5) صحيح مسلم برقم (2653).
(4/306)
عليك".
وقال : "يد الله ملأى لا يَغيضها نفقة ، سحَّاءَ الليلَ والنهار" وقال
"أفرأيتم (1) ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يَغض ما في يده ،
وكان عرشه على الماء ، وبيده الميزان يخفض ويرفع" (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن يَعْلَى بن
عَطَاء ، عن وَكِيع بن عُدُس ، عن عمه أبي رَزِين - واسمه لَقِيط بن عامر بن
المنتفق (3) العُقَيْلي - قال : قلت : يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق
خلقه ؟ قال : "كان في عَمَاء ، ما تحته هواء وما فوقه هواء ، ثم خلق العرش
بعد ذلك".
وقد رواه الترمذي في التفسير ، وابن ماجه في السنن من حديث يزيد بن هارون به (4)
وقال الترمذي : هذا حديث حسن.
وقال مجاهد : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } قبل أن يخلق شيئا. وكذا قال وهب
بن مُنبِّه ، وضمرة بن حبيب ، وقاله قتادة ، وابن جرير ، وغير واحد.
وقال قتادة في قوله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } ينبئكم كيف كان بدء
خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض.
وقال الربيع بن أنس : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } فلما خلق السموات
والأرض ، قسم ذلك الماء قسمين ، فجعل نصفا تحت العرش ، وهو البحر المسجور.
وقال ابن عباس : إنما سمي العرش عرشا لارتفاعه.
وقال إسماعيل بن أبي خالد ، سمعت سعدا الطائي يقول : العرش ياقوتة حمراء.
وقال محمد بن إسحاق في قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } فكان كما (5)
وصف نفسه تعالى ، إذ ليس إلا الماء وعليه العرش ، وعلى العرش ذو الجلال والإكرام ،
والعزة والسلطان ، والملك والقدرة ، والحلم والعلم ، والرحمة والنعمة ، الفعال لما
يريد.
وقال الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن قول
الله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } على أي شيء كان الماء ؟ قال : على متن
الريح.
وقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } أي : خلق السموات
والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه وحده لا شريك له ، ولم يخلق ذلك عبثا ، كما
قال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا
ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ص
: 27] ، (6) وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا
إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [المؤمنون : 115 ، 116] ،
__________
(1) في ت ، أ : "أرأيت".
(2) صحيح البخاري برقم (4684).
(3) في ت ، أ : "المتفق".
(4) المسند (4/11) وسنن الترمذي برقم (3109) وسنن ابن ماجه برقم (182).
(5) في ت : "مما".
(6) في أ : "السموات".
(4/307)
وقال
تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات :
56].
وقوله : { لِيَبْلُوكُمْ } أي : ليختبركم { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا } ولم يقل :
أكثر عملا بل { أَحْسَنُ عَمَلا } ولا يكون العمل حسنا حتى يكون خالصا لله عز وجل
، على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمتى فقد العمل واحدا من هذين الشرطين
بطل وحبط.
وقوله : { وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ
لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } يقول تعالى :
ولئن أخبرت يا محمد هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم ، مع
أنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض ، [كما قال تعالى : {
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [الزخرف : 87] ، {
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ] وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [العنكبوت : 61] ، (1) وهم مع هذا ينكرون
البعث والمعاد يوم القيامة ، الذي هو بالنسبة إلى القدرة أهون من البداءة ، كما
قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ
عَلَيْهِ } [الروم : 27] ، وقال تعالى : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا
كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28] وقولهم (2) : { إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ
} أي : يقولون كفرا وعنادا ما نصدقك (3) على وقوع البعث ، وما يذكر ذلك (4) إلا من
سحرته ، فهو يتبعك على ما تقول.
وقوله : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ
لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } يقول تعالى : ولئن أخرنا العذاب والمؤاخذة عن هؤلاء
المشركين إلى أجل معدود وأمد محصور ، وأوعدناهم به إلى مدة مضروبة ، ليقولن تكذيبا
واستعجالا { مَا يَحْبِسُهُ } أي : يؤخر هذا العذاب عنا ، فإن سجاياهم قد ألفت
التكذيب والشك ، فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد.
و"الأمة" تستعمل في القرآن والسنة في معان متعددة ، فيراد بها : الأمد ،
كقوله في هذه الآية : { إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ } وقوله في [سورة] (5) يوسف : {
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } [يوسف : 45] ،
وتستعمل في الإمام المقتدى به ، كقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً
قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120] ،
وتستعمل في الملة والدين ، كقوله إخبارا عن المشركين أنهم قالوا : { إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ }
[الزخرف : 23] ، وتستعمل في الجماعة ، كقوله : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ
وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } [القصص : 23] ، وقال تعالى : {
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ
وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] ، وقال تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ } [يونس : 47].
والمراد من الأمة هاهنا : الذين يبعث فيهم الرسول (6) مؤمنهم وكافرهم ، كما [جاء]
(7) في
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "وقوله".
(3) في ت : "ما يصدقك".
(4) في ت : "وما تذكره من ذلك".
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "الرسل".
(7) زيادة من ت.
(4/308)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
صحيح
مسلم : "والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ،
ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" (1).
وأما أمة الأتباع ، فهم المصدقون للرسل ، كما قال تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران : 110] وفي الصحيح : " فأقول :
أمتي أمتي".
وتستعمل الأمة في الفرقة والطائقة ، كقوله تعالى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ
يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف : 159] ، وقال تعالى : { مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ
وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل عمران : 113].
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ
لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ
لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) }
يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة ، إلا من رحم الله من عباده
المؤمنين ، فإنه إذا أصابته شدة بعد نعمة ، حصل له يأس (2) وقنوط من الخير بالنسبة
إلى المستقبل ، وكفر وجحود لماضي الحال ، كأنه لم ير خيرا ، ولم يَرْج (3) بعد ذلك
فرجا. وهكذا إن (4) أصابته نعمة بعد نقمة { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ
عَنِّي } أي : يقول : ما بقي ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء ، { إِنَّهُ لَفَرِحٌ
فَخُورٌ } أي : فرح بما في يده ، بطر فخور على غيره. قال الله تعالى : { إِلا
الَّذِينَ صَبَرُوا } أي : في الشدائد والمكاره ، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي
: في الرخاء والعافية ، { أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } أي : بما يصيبهم من
الضراء ، { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } بما أسلفوه في زمن الرخاء ، كما جاء في الحديث :
"والذي نفسي بيده ، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا غَمٌّ ، ولا نَصَب ولا وَصَب ،
ولا حَزَن حتى الشوكة يشاكها ، إلا كَفَّرَ اللهُ عنه بها من خطاياه (5) (6) ، وفي
الصحيحين : "والذي نفسي بيده ، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له ،
إن أصابته سراء فشكر كان (7) خيرا له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ، وليس
ذلك لأحد غير المؤمن" (8) وهكذا قال الله تعالى : { وَالْعَصْرِ إِنَّ
الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة العصر] ، وقال تعالى :
{ إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا
مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلا الْمُصَلِّينَ } الآية [المعارج : 19 - 22].
__________
(1) صحيح مسلم برقم (153) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(2) في ت : "إياس".
(3) في ت ، أ : "ولا يرجوا".
(4) في ت : "إذا".
(5) في ت ، أ : "ولا حزن إلا كفر الله بها من خطاياه حتى الشوكة
يشاكها".
(6) روى مسلم نحوه في صحيحه من حديث أبي هريرة وأبي سعيد (2573) ومن حديث أبي
هريرة وحده (2574).
(7) في ت : "فكان".
(8) صحيح مسلم برقم (299) بلفظ : "عجبا للمؤمن إن أمره كله خير" من حديث
صهيب الرومي رضي الله عنه وليس في صحيح البخاري.
(4/309)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
{ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) }
(4/310)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
{
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزلَ بِعِلْمِ اللَّهِ
وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) }
يقول تعالى مسليّا لرسوله الله صلى الله عليه وسلم ، عما كان يتعنت به المشركون ،
فيما كانوا يقولونه عن الرسول - كما أخبر تعالى عنهم - : { وَقَالُوا مَالِ هَذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ
مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ
جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا
مَسْحُورًا } [الفرقان : 7 ، 8]. فأمر الله تعالى رسوله ، صلوات الله تعالى وسلامه
عليه ، وأرشده إلى ألا يضيق بذلك منهم صَدْرُه ، ولا يهيدنه ذلك ولا يُثْنينَّه عن
دعائهم إلى الله عز وجل آناء الليل وأطراف النهار ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ
وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [
الحجر : 97 - 99] ، وقال هاهنا : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى
إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا } أي : لقولهم ذلك ، فإنما أنت
نذير ، ولك أسوة بإخوانك من الرسل قبلك ، فإنهم كُذبُوا وأوذُوا فصبروا حتى أتاهم
نصر الله عز وجل.
ثم بين تعالى إعجاز القرآن ، وأنه لا يستطيع البشر الإتيان بمثله ، ولا بعشر سور
[من] (1) مثله ، ولا بسورة من مثله ؛ لأن كلام الرب لا يشبهه كلام المخلوقين ، كما
أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات (2) ، وذاته لا يشبهها شيء ، تعالى وتقدس وتنزه ،
لا إله إلا هو ولا رب سواه.
ثم قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ } أي : فإن لم يأتوا بمعارضة
ما دعوتموهم (3) إليه ، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك ، وأن هذا الكلام منزل من عند
الله ، متضمن (4) علمه وأمره ونهيه ، { وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ
أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (5).
{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا
وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) }
قال العوفي ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في
الدنيا ، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا ، يقول : من عمل صالحا التماس الدنيا ، صوما
أو صلاة أو تهجدا بالليل ، لا
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت ، أ : "المخلوقين".
(3) في ت ، أ : "ما دعوتهم".
(4) في ت : "متضمنا".
(5) في ت : "وأنه".
(4/310)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
يعمله
(1) إلا التماس الدنيا ، يقول الله : أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة ،
وحبط عمله الذي كان يعمله التماس الدنيا ، وهو في الآخرة من الخاسرين.
وهكذا روي عن مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد.
وقال أنس بن مالك ، والحسن : نزلت في اليهود والنصارى. وقال مجاهد وغيره : نزلت في
أهل الرياء (2).
وقال قتادة : من كانت الدنيا همه وَسَدَمه (3) وطَلِبَته ونيته ، جازاه الله
بحسناته في الدنيا ، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن
فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة.
وقد ورد في الحديث المرفوع نحو من هذا (4).
وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا
نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا
مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ
عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ
تَفْضِيلا } [الإسراء : 18 - 21] ، (5) وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ
الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا
نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [الشورى : 20].
{ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ
قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ
يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ
مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ
(17) }
يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده ،
من الاعتراف له بأنه لا إله إلا هو ، كما قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } [الروم : 30] ، وفي
الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل مولود
يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه ، كما تولد
البهيمة بهيمة جَمْعاء ، هل تُحِسُّون فيها من جدعاء ؟" (6). وفي صحيح مسلم
عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في ت : "لا يعلمه".
(2) في ت : "الربا".
(3) في ت : "وشدته".
(4) لعل الحافظ يقصد الحديث الذي رواه البزار والطبراني من حديث أنس ولفظه :
"من كانت الدنيا همته وسدمه ، ولها شخص وإياها +ينوى ، جعل الله الفقر بين
عينيه وشتت عليه ضيعته ، ولم يأته منها إلا ما كتب له منها ، ومن كانت الآخرة همته
وسدمه ، ولها شخص ، وإياها +ينوى ، جعل الله عز وجل الغنى في قلبه وجمع عليه ضيعته
وأتته الدنيا وهي صاغرة". ورواه الترمذي في السنن برقم (2465) عن أنس بأخصر
من هذا ، ورواه ابن ماجه في السنن عن زيد بن ثابت مرفوعا بنحوه.
(5) في ت : "ما يشاء".
(6) صحيح البخاري برقم (1385) وصحيح مسلم برقم (2658).
(4/311)
قال
: "يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حُنَفَاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم
عن دينهم ، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم" (1). وفي المسند والسنن :
"كل مولود يولد على هذه الملة ، حتى يُعرِب عنه لسانه" (2) الحديث ،
فالمؤمن باق على هذه الفطرة. [وقوله : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } أي] (3) : وجاءه
شاهد من الله ، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء ، من الشرائع المطهرَة المُكَمَّلَة
المعظَّمة المُخْتَتَمَةِ بشريعة محمد ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
ولهذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وأبو العالية ، والضحاك ، وإبراهيم
النَّخَعي ، والسُّدِّي ، وغير واحد في قوله تعالى : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ
} إنه جبريل عليه السلام.
وعن علي ، والحسن ، وقتادة : هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وكلاهما قريب في المعنى ؛ لأن كلا من جبريل ومحمد ، صلوات الله عليهما ، بلَّغ
رسالة الله تعالى ، فجبريل إلى محمد ، ومحمد إلى الأمة (4).
وقيل : هو عليّ. وهو ضعيف لا يثبت له قائل ، والأول والثاني هو الحق ؛ وذلك أن
المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة ، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة
، والفطرة تصدقها وتؤمن بها ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ
مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ } وهو القرآن ، بلّغه جبريل إلى النبي
[محمد] (5) صلى الله عليه وسلم ، وبلغه النبي محمد إلى أمته.
ثم قال تعالى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى } أي : ومن قبل [هذا] (6) القرآن
كتاب موسى ، وهو التوراة ، { إِمَامًا وَرَحْمَةً } أي : أنزل الله تعالى إلى تلك
الأمة إماما لهم ، وقدوة (7) يقتدون بها ، ورحمة من الله بهم. فمن آمن بها حق
الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ }.
ثم قال تعالى متوعدا لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } أي : ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض
مشركيهم : أهل (8) الكتاب وغيرهم ، من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم
وأشكالهم وأجناسهم ، ممن بلغه القرآن ، كما قال تعالى : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ
وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام : 19] ، وقال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف : 158]. وقال تعالى : {
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } وفي صحيح مسلم ، من
حديث شعبة ، عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من
هذه الأمة يهودي أو نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار" (9).
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2865).
(2) رواه الإمام أحمد في المسند (3/353) من طريق أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن
الحسن عن جابر به.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في أ : "أمته".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) زيادة من أ.
(7) في ت : "وقد".
(8) في ت : "وأهل".
(9) كذا ، والحديث في صحيح مسلم برقم (153) من حديث أبي هريرة ، وإنما رواه بهذا
السند الطبري في تفسيره (15/281) وأحمد في مسنده (4/396) وذكره الهيثمي في مجمع
الزوائد (8/261).
(4/312)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
وقال
أيوب السختياني ، عن سعيد بن جبير قال : كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه - أو قال : تصديقه - في القرآن ، فبلغني أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، ولا
يهودي ولا نصراني ، فلا يؤمن بي إلا دخل النار". فجعلت أقول : أين مصداقه في
كتاب الله ؟ قال : وقلما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدت له تصديقا
في القرآن ، حتى وجدت هذه الآية : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } قال : "من الملل كلها" (1).
قوله : { فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أي :
القرآن حق من الله ، لا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى : { الم تَنزيلُ
الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [السجدة : 1 ، 2] ، وقال
تعالى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] } [
البقرة : 1 ، 2] (2).
وقوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } كما قال تعالى : { وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103] ، وقال تعالى : {
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ }
[الأنعام : 116] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ
فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [سبأ : 20].
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ
عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى
رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
(19) }
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (15/280).
(2) زيادة من ت ، أ.
(4/313)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
{
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ
السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا
أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ
فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ (22) }
يبين تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رءوس الخلائق ؛ من
الملائكة ، والرسل ، والأنبياء ، وسائر البشر والجان ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا بَهْز وعفان قالا أخبرنا هَمَّام ، حدثنا قتادة ، عن صفوان بن مُحْرِز قال :
كنت آخذًا بيد ابن عمر ، إذ عرض له رجل قال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يقول : "إن الله عز وجل يدني المؤمن ، فيضع عليه كنَفَه ، ويستره من الناس ،
ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا (1) ؟ أتعرف ذنب كذا (2) ؟ أتعرف ذنب
كذا (3) ؟ حتى إذا قَرَّره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها
عليك في الدنيا ، وإني أغفرها لك اليوم. ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار
والمنافقون فيقول : { الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ
أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }
__________
(1) في أ : "كذا وكذا".
(2) في أ : "كذا وكذا".
(3) في أ : "كذا وكذا".
(4/313)
أخرجه
البخاري ومسلم في الصحيحين ، من حديث قتادة به (1).
وقوله : { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي
يردُّون الناسَ عن اتباع الحق وسلوك طريق (2) الهدى الموصلة إلى الله عز وجل
ويجنبونهم (3) الجنة ، { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي : ويريدون أن يكون طريقهم
(4) عوجا غير معتدلة ، { وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } أي : جاحدون بها
مكذبون بوقوعها وكونها.
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ } أي : بل كانوا تحت قهره وغلبته ، وفي قبضته
وسلطانه ، وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة ، ولكن {
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [إبراهيم : 42] ، وفي
الصحيحين : "إن الله ليُملي للظالم ، حتى إذا أخذَه لم يُفْلته" ؛ (5)
ولهذا قال تعالى : { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ
السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } أي : يضاعف عليهم العذاب ، وذلك لأن الله
تعالى جعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم
[من شيء] (6) ، بل كانوا صُمَّا عن سماع الحق ، عُميا عن اتباعه ، كما أخبر تعالى
عنهم حين دخولهم النار : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا
كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ
كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ
بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [النحل : 88] ؛ ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه ، وعلى
كل نهي ارتكبوه ؛ ولهذا كان أصحَّ الأقوال أنهم مكلفون بفروع الشرائع أمرها ونهيها
بالنسبة إلى الدار الآخرة.
وقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : خسروا أنفسهم لأنهم دخلوا (7) نارا حامية ، فهم معذبون
فيها لا يُفَتَّر عنهم من عذابها طرفة عين ، كما قال تعالى : { كُلَّمَا خَبَتْ
زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء : 97].
و { ضَلَّ عَنْهُمْ } أي : ذهب عنهم { مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } من دون الله من
الأنداد والأصنام ، فلم تُجْد عنهم شيئًا ، بل ضرتهم كل الضرر ، كما قال تعالى : {
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ
كَافِرِينَ } [الأحقاف : 6] ، وقال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ
وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم : 81 ، 82] ، (8) وقال الخليل لقومه : {
إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ
وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ
نَاصِرِينَ } [العنكبوت : 25] ، (9) وقال تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ
اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ
الأسْبَابُ } [البقرة : 166] ؛
__________
(1) المسند (2/74) وصحيح البخاري برقم (4685) وصحيح مسلم برقم (1768).
(2) في ت : "طرق".
(3) في ت : "وبحبحة".
(4) في ت ، أ : "طريق الحق".
(5) صحيح البخاري برقم "4086" وصحيح مسلم برقم "2583" من حديث
أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(6) زيادة من أ.
(7) في ت : "أدخلوا".
(8) في ت : "ويكونوا".
(9) في ت : "ويوم".
(4/314)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
إلى
غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم (1) ودمارهم ؛ ولهذا قال : { لا جَرَمَ
أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ } يخبر تعالى عن حالهم أنهم أخسر الناس
صفقة في الدار الآخرة ؛ لأنهم استبدلوا بالدركات عن الدرجات ، واعتاضوا عن نعيم
الجنان بحميم آن ، وعن شرب الرحيق المختوم ، بَسمُوم وحميم ، وظِلٍّ من يحموم ،
وعن الحور العين بطعام من غِسْلين ، وعن القصور العالية بالهاوية ، وعن قرب الرحمن
، ورؤيته بغضب الديان وعقوبته ، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ
كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) }
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثَنَّى بذكر السُّعَداء ، وهم الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ، فآمنت قلوبهم وعَملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا من الإتيان بالطاعات
وترك المنكرات ، وبهذا ورثوا الجنات ، المشتملة على الغرف العاليات ، والسرر
المصفوفات ، والقطوف الدانيات ، والفرش المرتفعات ، والحسان الخيرات ، والفواكه
المتنوعات ، والمآكل المشتهيات (2) والمشارب المستلذات ، والنظر إلى خالق الأرض
والسموات ، وهم في ذلك خالدون ، لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ، وينامون (3)
ولا يتغطَّون ، ولا يبصقون ولا يتمخطون ، إن هو إلا رَشْحُ مِسك يعرقون.
ثم ضرب [الله] (4) تعالى مثل الكافرين والمؤمنين ، فقال : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ
} أي : الذين وصفهم أولا بالشقاء والمؤمنين السُّعَداء ، فأولئك كالأعمى والأصم ،
وهؤلاء كالبصير والسميع. فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا ، وفي الآخرة لا
يهتدي إلى خير ولا يعرفه ، أصم عن سماع الحجَج ، فلا (5) يسمع ما ينتفع به ، {
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا
وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنفال : 23] ، وأما المؤمن ففَطِن ذكي لبيب ، بصير بالحق
، يميز (6) بينه وبين الباطل ، فيتبعُ الخير ويترك الشر ، سميع للحجة ، يفرق بينها
وبين الشبهة ، فلا يَرُوج (7) عليه باطل ، فهل يستوي هذا وهذا.
{ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } أفلا تعتبرون وتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء ، كما قال في
الآية الأخرى : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [الحشر : 20] وقال { وَمَا يَسْتَوِي
الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا
الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ
مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلا
نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر : 19 - 24].
__________
(1) في ت ، أ : "خسارهم".
(2) في ت : "المشهوات".
(3) في ت ، أ : "لا ينامون".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت ، أ : "ولا".
(6) في ت : "مميز".
(7) في ت : "فلا يزوح".
(4/315)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
{
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا
بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا
بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ
كَاذِبِينَ (27) }
يخبر تعالى عن نوح ، عليه السلام ، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من
المشركين عَبَدة الأصنام أنه قال لقومه : { إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي :
ظاهر النّذَارَة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله ؛ ولهذا قال : { أَنْ لا
تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ } وقوله { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
أَلِيمٍ } أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عَذَّبكم الله عذابا أليما مُوجعًا
شاقًا في الدار الآخرة.
{ فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } والملأ هم : السادة
والكبراء من الكافرين منهم : { مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا } أي : لست
بملك ، ولكنك بشر ، فكيف أوحي إليك من دوننا ؟ ثم ما نراك (1) اتبعك إلا أراذلنا
(2) كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء [منا] (3) ثم هؤلاء
الذين اتبعوك لم يكن عن تَرَوّ منهم ولا فكرة ولا نظر ، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك
فاتبعوك (4) ؛ ولهذا قال : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ
أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } أي : في أول بادئ الرأي ، { وَمَا نَرَى لَكُمْ
عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } يقولون : ما رأينا لكم علينا فضيلة في خَلْق ولا خُلُق ،
ولا رزق ولا حال ، لَمَّا دخلتم في دينكم هذا ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ }
أي : فيما تَدَّعونه (5) لكم من البر والصلاح والعبادة ، والسعادة في الدار الآخرة
إذا صرتم إليها.
هذا اعتراض الكافرين على نوح ، عليه السلام ، وأتباعه ، وذلك دليل على جهلهم وقلة
علمهم وعقلهم ، فإنه ليس بعار على الحق رَذَالة من اتبعه ، فإن الحق في نفسه صحيح
، وسواء اتبعه الأشراف أو الأراذل (6) بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم
الأشراف ، ولو كانوا فقراء ، والذين يأبونه هم الأراذل ، ولو كانوا أغنياء. ثم
الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس ، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته
، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ
نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [الزخرف : 23] ، (7) ولما سأل هرقل ملك
الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له فيما قال :
أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم. فقال هرقل : هم أتباع الرسل.
وقولهم (8) { بَادِيَ الرَّأَي } ليس بمذمة ولا عيب ؛ لأن الحق إذا وضح لا يبقى
للتروي (9) ولا للفكر مجال ، بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء
وذكاء ولا يفكر وينزوي هاهنا إلا عَيِيّ أو غبي (10). والرسل ، صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين ، إنما جاءوا بأمر جلي واضح.
وقد
__________
(1) في ت ، أ : "لا نراك.
(2) في ت : "أرذلنا".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت ، أ : "واتبعوك".
(5) في ت : "تدعوهم" ، وفي أ : "تدعونهم".
(6) في ت ، أ : "الأرذال".
(7) في ت : "من نبي".
(8) في ت : "وقوله".
(9) في ت : "للروي" ، وفي أ : "للردي".
(10) في ت ، أ : "غني".
(4/316)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
جاء
في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام
إلا كانت له كَبْوَة ، غير أبي بكر ، فإنه لم يَتَلَعْثَم" (1) أي : ما تردد
ولا تروَّى ، لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا ، فبادر إليه وسارع.
وقولهم : { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } هم لا يرون ذلك ؛ لأنهم
عُمْي عن الحق ، لا يسمعون ولا يبصرون : بل هم في ريبهم يترددون ، في ظلمات الجهل
يعمهون ، وهم الأفاكون الكاذبون ، الأقلون الأرذلون ، وفي الآخرة هم الأخسرون.
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا
وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) }
يقول تعالى مخبرًا عن نوح ما ردَّ على قومه في ذلك : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ
عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على يقين وأمر جلي ، ونبوة صادقة ، وهي الرحمة
العظيمة من الله به وبهم ، { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : خفيت عليكم ، فلم تهتدوا
إليها ، ولا عرفتم قدرها ، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها ، { أَنُلْزِمْكُمُوهَا }
أي : نَغْضبكم (2) بقبولها وأنتم لها كارهون.
__________
(1) ذكره المؤلف في البداية والنهاية (3/27) عن ابن إسحاق وهو منقطع.
(2) في ت : "نغصبكم".
(4/317)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
{
وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي
أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ
إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) }
يقول لقومه : لا أسألكم على نصحي [لكم] (1) مالا ؛ أجرة آخذها منكم ، إنما أبتغي
الأجر من الله عز وجل ، { وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا } كأنهم طلبوا
منه أن يطرد المؤمنين عنه ، احتشاما ونفاسة منهم أن يجلسوا معهم ، كما سأل أمثالهم
خاتم (2) الرسل صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنهم (3) جماعة من الضعفاء ويجلس معهم
مجلسا خاصا ، فأنزل الله تعالى : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } [الأنعام : 52] ، { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } [الكهف : 28] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } الآيات [الأنعام : 53].
{ وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا
أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ
يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي
إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) }
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "لخاتم".
(3) في ت : "عنه".
(4/317)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
يخبرهم
أنه رسول من الله ، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، بإذن الله له في ذلك ،
ولا يسألهم على ذلك أجرا ، بل هو يدعو من لقيه من شريف ووضيع ، فمن استجاب له فقد
نجا. ويخبرهم (1) أنه لا يَقدِر على التصرف في خزائن الله ، ولا يعلم من الغيب إلا
ما أطلعه الله عليه ، وليس هو بمَلك من الملائكة ، بل بشر مرسل ، مؤيد بالمعجزات.
ولا أقولُ عن هؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم (2) : إنه (3) ليس لهم عند الله
ثواب على إيمانهم الله أعمل بما في أنفسهم ، فإن كانوا مؤمنين باطنًا ، كما هو
الظاهر من حالهم ، فلهم جزاء الحسنى ، ولو قطع لهم أحد بشر بعد ما آمنوا ، لكان
ظالما قائلا ما لا علم له به.
{ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا
تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ
اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي
إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ
هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) }
يقول تعالى مخبرًا عن استعجال قوم نوح نقمة الله وعذابه وسخطه ، والبلاء موكل
بالمنطق : { قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } أي :
حاججتنا فأكثرت من ذلك ، ونحن لا نتبعك { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } أي : من
النقمة والعذاب ، ادع علينا بما شئت ، فليأتنا ما تدعو به (4) ، { إِنْ كُنْتَ
مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا
أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم الله الذي لا
يُعجِزُه شيء ، { وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ
إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } أي : أي شيء يُجدِي عليكم إبلاغي
لكم وإنذاري إياكم ونصحي ، إن كان الله يريد إغواءكم ودماركم ، { هُوَ رَبُّكُمْ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : هو مالك أزمة الأمور ، والمتصرف (5) الحاكم العادل
الذي لا يجور ، له الخلق وله الأمر ، وهو المبدئ المعيد ، مالك الدنيا والآخرة.
{ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي
وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) }
هذا كلام معترض في وسط هذه القصة ، مؤكد لها ومقرر بشأنها (6). يقول تعالى لمحمد
(7) صلى الله عليه وسلم : أم يقول (8) هؤلاء الكافرون الجاحدون : افترى هذا
وافتعله من عنده { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي : فإثم ذلك
علي ، { وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ } أي : ليس ذلك مفتعلا ولا مفترى (9)
، لأني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه.
__________
(1) في ت : "وتخبرهم".
(2) في ت ، أ : "يحتقرونهم ويزدرونهم".
(3) في أ : "إنهم".
(4) في ت : "من تدعونه" ، وفي أ : "بدعوته".
(5) في ت : "المتصرف".
(6) في ت : "لشأنها".
(7) في ت ، أ : "لنبيه".
(8) في ت : "أم يقولون".
(9) في ت : "مفتريا".
(4/318)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
{ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) }
(4/319)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
{
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا
مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا
تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ
عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) }
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نُوح لما استعجل قومُه نقمة الله بهم وعذابه لهم ، فدعا
عليهم نوحُ دعوته التي قال الله تعالى (1) مخبرًا عنه أنه قال : { رَبِّ لا تَذَرْ
عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [نوح : 26] ، { فَدَعَا رَبَّهُ
أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [القمر : 10] ، فعند ذلك أوحى الله تعالى إليه : {
أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ } فلا تحزن عليهم ولا
يَهُمَّنك أمرهم.
{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ } يعني : السفينة { بِأَعْيُنِنَا } أي : بمرأى منا ، {
وَوَحْيِنَا } أي : وتعليمنا لك ماذا تصنعه ، { وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ }.
فقال بعض السلف : أمره الله تعالى أن يغرِز (2) الخشب ويقطِّعه وييبسه ، فكان ذلك
في مائة سنة ، ونَجَرها في مائة سنة أخرى ، وقيل : في أربعين سنة ، فالله (3)
أعلم.
وذكر محمد بن إسحاق عن التوراة : أن الله أمره أن يصنعها من خشب الساج ، وأن يجعل
طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا.
وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار ، وأن يجعل لها جؤجؤا أزور يشق الماء. وقال قتادة
: كان طولها ثلاثمائة ذراع ، في عرض خمسين.
وعن الحسن : طولها ستمائة ذراع وعرضها ثلاثمائة ذراع.
وعنه مع ابن عباس : طولها ألف ومائتا ذراع ، في عرض ستمائة.
وقيل : طولها ألفا ذراع ، وعرضها مائة ذراع ، فالله أعلم.
قالوا كلهم : وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعا ، ثلاث طبقات ، كل طبقة عشرة
أذرع ، فالسفلى للدواب والوحوش : والوسطى للإنس : والعليا للطيور. وكان بابها في
عرضها ، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير أثرا غريبا ، من حديث علي بن زيد بن جُدْعَان ،
عن يوسف بن مِهْران ، عن عبد الله بن عباس ؛ أنه قال : قال الحواريون لعيسى ابن
مريم : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدّثنا عنها. قال : فانطلق بهم حتى أتى (4)
إلى كَثيب من تراب ، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه ، قال (5) أتدرون ما هذا ؟ قالوا
: الله ورسوله أعلم ، قال : هذا كعب (6) حام بن نوح. قال : وضرب الكثيب بعصاه ،
قال : قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفُض التراب عن رأسه ، قد شاب. قال له
__________
(1) في أ : "عز وجل".
(2) في أ : "يغرس".
(3) في ت : "والله".
(4) في ت ، أ : "انتهى".
(5) في أ : "فقال".
(6) في أ : "قبر".
(4/319)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
عيسى
، عليه السلام : هكذا هلكت ؟ قال : لا. ولكني متّ وأنا شابّ ، ولكنني ظننت أنها
الساعة ، فمن ثمَّ شبت. قال : حدِّثنا عن سفينة نوح ؟ قال : كان طولها ألف ذراع
ومائتي (1) ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات ، فطبقة فيها الدواب
والوحوش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير ، فلما كثر أرواث الدواب ، أوحى
الله عز وجل إلى نوح ، عليه السلام ، أن اغمز ذَنَب الفيل ، فغمزه ، فوقع منه
خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث ، فلما وقع الفأر بخَرَزِ السفينة يقرضه وحبالها
، أوحى إلى نوح ؛ أن اضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخره سنَّور وسنورة ، فأقبلا
على الفأر. فقال له عيسى ، عليه السلام : كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت ؟ قال :
بعث الغراب يأتيه بالخبر ، فوجد جيفة فوقع عليها ، فدعا عليه بالخوف ، فلذلك لا
يألف البيوت قال : ثم بعث الحمامة ، فجاءت بورق زيتون بمنقارها ، وطين برجليها ،
فعلم أن البلاد قد غَرِقت. قال : فطوّقَها الخضرة التي في عنقها ، ودعا لها أن
تكون في أنس وأمان ، فمن ثم تألف البيوت. قال : فقلنا : يا رسول الله ، ألا ننطلق
به (2) إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له ؟ قال :
فقال له : عد بإذن الله ، فعاد ترابا (3)
وقوله : { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ
سَخِرُوا مِنْهُ } أي : يَطْنزون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق ، { قَالَ
إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ } وعيد شديد ، وتهديد أكيد ، { مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي
: يهنه في الدنيا ، { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أي : دائم مستمر أبدا.
{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ
وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ (40) }
هذه مُواعدة من الله تعالى لنوح ، عليه السلام ، إذا جاء أمر الله من الأمطار
المتتابعة ، والهَتَّان الذي لا يُقْلع ولا يَفتُر ، بل هو كما قال تعالى : {
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرْضَ
عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ
أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ } [القمر :
11 - 14].
وأما قوله : { وَفَارَ التَّنُّورُ } فعن ابن عباس : التنور : وجه الأرض ، أي :
صارت الأرض عيونا تفور ، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار ، صارت
تفور ماء ، وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف.
وعن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : التنور : فَلَق الصبح ، وتنوير الفجر ، وهو
ضياؤه وإشراقه.
__________
(1) في أ : "ومائتا".
(2) في أ : "بنا".
(3) تفسير الطبري (15/311).
(4/320)
والأول
أظهر.
وقال مجاهد والشعبي : كان هذا التنور بالكوفة ، وعن ابن عباس : عين بالهند. وعن
قتادة : عين بالجزيرة ، يقال لها : عين الوردة.
وهذه أقوال غريبة.
فحينئذ أمر الله نوحا ، عليه السلام ، أن يحمل معه في السفينة من كل زوجين - من
صنوف المخلوقات ذوات الأرواح ، قيل : وغيرها من النباتات - اثنين. ذكرا وأنثى ،
فقيل : كان أول من أدخل من الطيور الدرة ، وآخر من أدخل من الحيوانات الحمار ،
فدخل إبليس متعلقًا بذنبه ، فدخل بيده (1) ، وجعل يريد أن ينهض فيثقله إبليس وهو
متعلق بذنبه ، فجعل يقول له نوح : مالك ؟ ويحك. ادخل. فينهض ولا يقدر ، فقال :
ادخل وإن كان إبليس معك فدخلا في السفينة.
وذكر أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم الأسد ، حتى
ألقيت عليه الحمى.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث ، حدثني الليث
، حدثني هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم. عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين ، قال أصحابه : وكيف يطمئن
أو : تطمئن - المواشي ومعها (2) الأسد ؟ فسلط الله عليه الحمى ، فكانت أول حُمَّى
نزلت الأرض ، ثم شكوا الفأرة فقالوا : الفُوَيسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا.
فأوحى الله إلى الأسد ، فعطس ، فخرجت الهرة منه ، فتخبأت الفأرة منها (3).
وقوله : { وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } أي : "واحمل
فيها أهلك ، وهم أهل بيته وقرابته" إلا من سبق عليه القول منهم ، ممن لم يؤمن
بالله ، فكان منهم ابنه "يام" الذي انعزل وحده ، وامرأة نوح وكانت كافرة
بالله ورسوله.
وقوله : { وَمَنْ آمَنَ } أي : من قومك ، { وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ } أي
: نزر (4) يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فعن ابن
عباس : كانوا ثمانين نفسا منهم (5) نساؤهم. وعن كعب الأحبار : كانوا اثنين وسبعين
نفسا. وقيل : كانوا عشرة. وقيل : إنما كانوا نوح وبنوه (6) الثلاثة سام ، وحام ،
ويافث ، وكنائِنِه الأربع نساء هؤلاء الثلاثة وامرأة يام. وقيل : بل امرأةُ نوح
كانت
__________
(1) في ت : "بيديه".
(2) في ت : "ومعنا".
(3) وهذا مرسل ، وقد ورد في سفينة نوح غير ما ذكره الحافظ وأكثرها من رواية عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم. قال ابن حبان : "كان ممن يقلب الأخبار حتى كثر ذلك في
روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوف ، فاستحق الترك". ومما رواه في شأن
سفينة نوح ما أورده ابن حجر في التهذيب (6/179) عن الساجي قال : حدثنا الربيع ،
حدثنا الشافعي قال : قيل لعبد الرحمن بن زيد : حدثك أبوك عن جدك أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : " إن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت خلف المقام ركعتين
؟!" قال : نعم. وقد ذكر رجل لمالك حديثا منقطعا ، فقال : اذهب إلى عبد الرحمن
بن زيد يحدثك عن أبيه عن نوح!!. وانظر كتاب : الإسرائيليات في كتب التفسير لمحمد
أبو شهبة (ص218).
(4) في ت ، أ : "نفر".
(5) في أ : "معهم".
(6) في أ : "إنما كان وبنوه".
(4/321)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
معهم
في السفينة ، وهذا فيه نَظَرٌ ، بل الظاهر أنها هلكت ؛ لأنها كانت على دين قومها ،
فأصابها ما أصابهم ، كما أصاب امرأة لوط ما أصاب قَومها ، والله أعلم وأحكم.
{ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى
نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ
الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا
عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا
الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) }
يقول تعالى إخبارًا عن نوح ، عليه السلام ، أنه قال للذين أمر بحملهم معه في
السفينة : { ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } أي : بسم
الله يكون جَرْيُها على وجه الماء ، وبسم الله يكون منتهى سيرها ، وهو رُسُوها.
وقرأ أبو رجاء العَطاردي : "بسْمِ اللهِ مُجْرِيَها ومُرْسِيهَا".
وقال الله تعالى (1) : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى
الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ وَقُلْ رَبِّ أَنزلْنِي مُنزلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ
الْمُنزلِينَ } [المؤمنون : 28 ، 29] ؛ (2) ؛ ولهذا تستحب التسمية في ابتداء
الأمور : عند الركوب على السفينة وعلى الدابة ، كما قال تعالى : { وَالَّذِي
خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا
تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ
إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا
وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ } [
الزخرف : 12 - 14] ، وجاءت السنة بالحث على ذلك ، والندب إليه ، كما سيأتي في سورة
"الزخرف" ، إن شاء الله وبه الثقة.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا إبراهيم بن هاشم البغوي ، حدثنا محمد بن أبي بكر
المقدمي - وحدثنا زكريا بن يحيى الساجي ، حدثنا محمد بن موسى الحَرشي - قالا حدثنا
عبد الحميد بن الحسن الهلالي ، عن نَهْشل بن سعيد ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن
يقولوا : بسم الله الملك ، { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ
جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [الزمر : 67] ، { بِسْمِ اللَّهِ
مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } (3).
وقوله : { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } مناسب عند (4) ذكر الانتقام من
الكافرين بإغراقهم أجمعين ذكْرُ أنه غفور رحيم ، كما قال : { إِنَّ رَبَّكَ
لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأعراف : 167] ، وقال : {
__________
(1) في أ : "عز وجل".
(2) في ت ، "وإذا" وهو خطأ.
(3) المعجم الكبير (12/124) وقال الهيثمي في المجمع (10/132) : "فيه نهشل بن
سعيد وهو متروك".
(4) في ت ، أ : "عندما".
(4/322)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
وَإِنَّ
رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ
الْعِقَابِ } [الرعد : 6] ، إلى غير ذلك من الآيات التي يقرن فيها بين انتقامه
ورحمته.
وقوله : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } أي : السفينة سائرة
بهم على وجه الماء ، الذي قد طَبَّق (1) جميع الأرض ، حتى طفت (2) على رءوس الجبال
، وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا ، وقيل : بثمانين ميلا وهذه السفينة على وجه الماء
سائرة بإذن الله وتحت كَنَفه وعنايته (3) وحراسته وامتنانه كما قال تعالى : {
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا
لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [الحاقة : 11 ، 12] ، وقال
تعالى : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا
جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ }
[ القمر : 13 - 15].
وقوله : { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ
مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ } هذا هو الابن الرابع ، واسمه
"يام" ، وكان كافرا ، دعاه أبوه عند ركوب السفينة أن يؤمن ويركب معهم
ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون ، { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ
الْمَاءِ } وقيل : إنه اتخذ له مركبا من زُجاج ، وهذا من الإسرائيليات ، والله
أعلم بصحته. والذي نص عليه القرآن أنه قال : { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ } اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رءوس الجبال ،
وأنه لو تعلق في رأس جبل لنجّاه ذلك من الغرق ، فقال له أبوه نوح ، عليه السلام :
{ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ } أي : ليس شيء يعصم
اليوم من أمر الله. وقيل : إن عاصما بمعنى معصوم ، كما يقال : "طاعم
وكاس" ، بمعنى مطعوم ومكسُوّ ، { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ
الْمُغْرَقِينَ }.
{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ
وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (44) }
يخبر تعالى أنه لما غرق (4) أهل الأرض إلا أصحاب السفينة ، أمر (5) الأرض أن تبلع
ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها ، وأمر السماء أن تُقلعَ عن المطر ، { وَغِيضَ
الْمَاءُ } أي : شرع في النقص ، { وَقُضِيَ الأمْرُ } أي : فُرغَ من أهل الأرض
قاطبة ، ممن كفر بالله ، لم يبق منهم دَيّار ، { وَاسْتَوَتْ } السفينة بمن فيها {
عَلَى الْجُودِيِّ } قال مجاهد : وهو جبل بالجزيرة ، تشامخت الجبال يومئذ من الغرق
وتطاولت ، وتواضع هو لله عز وجل ، فلم يغرق ، وأرست عليه سفينة نوح عليه السلام.
وقال قتادة : استوت عليه شهرا حتى نزلوا منها ، قال قتادة : قد أبقى (6) الله
سفينة نوح ، عليه السلام ، على الجُودي من أرض الجزيرة عِبرة وآية حتى رآها أوائل
هذه الأمة ، وكم من سفينة قد
__________
(1) في ت : "طبق به".
(2) في أ : "طفف"
(3) في ت : "وغايته" ، وفي أ : "ورعايته".
(4) في ت ، أ : "أغرق".
(5) في ت ، أ : "أنه أمر".
(6) في ت ، أ : "أقفى".
(4/323)
كانت
بعدها فهلكت ، وصارت رمادًا (1).
وقال الضحاك : الجُوديّ : جبل بالموصل : وقال بعضهم : هو الطور.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن رافع ، حدثنا محمد بن عبيد ، عن
توبة (2) بن سالم قال : رأيت زِرّ بن حُبَيش يصلي في الزاوية حين يُدخل من أبواب
كِندة على يمينك فسألته إنك لكثير (3) الصلاة هاهنا يوم الجمعة : ! قال : بلغني أن
سفينة نوح أرْسَتْ من هاهنا.
وقال عِلْباء بن أحمد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : كان مع نوح في السفينة
ثمانون رجلا معهم أهلوهم ، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما ، وإن الله
وجّه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوما ، ثم وجهها الله إلى الجُودِيّ
فاستقرت عليه ، فبعث نوح الغرابَ ليأتيه بخبر الأرض ، فذهب فوقع على الجيف فأبطأ
عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون ، ولطخت رجليها بالطين ، فعرف نوح ، عليه
السلام ، أن الماء قد نضب ، فهبط إلى أسفل الجُودِيّ ، فابتنى قرية وسماها ثمانين
، فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة ، إحداها اللسان (4) العربي.
فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض ، وكان نوح عليه السلام يُعبّر عنهم.
وقال كعب الأحبار : إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن تستقر على
الجوديّ.
وقال قتادة وغيره : ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين واستقرت بهم على
الجودي شهرًا ، وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم. وقد ورد نحو هذا
في حديث مرفوع رواه ابن جرير (5). وأنهم صاموا يومهم ذاك (6) ، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو جعفر ، حدثنا عبد الصمد بن حَبِيب الأزدي ، عن أبيه
حبيب بن عبد الله ، عن شُبَيل ، عن أبي هريرة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم
بأناس من اليهود ، وقد صاموا يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا الصوم ؟ قالوا : هذا
اليوم الذي نجى الله موسى وبني إسرائيل من الغرق ، وغرق فيه فرعون ، وهذا يوم
استوت (7) فيه السفينة على الجُودِيّ ، فصامه (8) نوح وموسى ، عليهما السلام ،
شكرًا لله عز وجل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أنا أحق بموسى ، وأحق
بصوم هذا اليوم". فصام ، وقال لأصحابه : "من كان أصبح منكم صائما فليتم
صومه ، ومن كان أصاب من غَذاء أهله ، فليتم بقية يومه" (9)
وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه ، ولبعضه شاهدٌ في الصحيح (10).
__________
(1) في ت : "مدادا".
(2) في ت ، أ : "تربة".
(3) في أ" "لتكثر".
(4) في ت : "لسان".
(5) تفسير الطبري (15/335) وهو موضوع.
(6) في أ : "ذلك".
(7) في ت ، أ : "استقرت".
(8) في ت ، أ : "فصام".
(9) المسند (2/359).
(10) في صحيح البخاري برقم (4680) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال :
قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم عاشوراء ، فقالوا : هذا يوم
ظهر فيه موسى على فرعون ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "أنتم أحق
بموسى منهم ، فصوموا".
(4/324)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
وقوله
: { وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : هلاكًا وخسارًا (1) لهم
وبعدا (2) من رحمة الله ، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم ، فلم يبق لهم بقية.
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير والحبر أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما (3) من
حديث موسى بن يعقوب (4) الزمعي ، عن قائد - مولى عبيد الله بن أبي رافع - أن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره : أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه
وسلم أخبرته : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لو رحم الله من قوم نوح
أحدًا لرحم أم الصبي" ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كان نوح ،
عليه السلام ، مكث في قومه ألف سنة [إلا خمسين عاما] (5) ، يعني وغرس مائة سنة
الشجر ، فعظمت وذهبت كل مذهب ، ثم قطعها ، ثم جعلها سفينة ويمرون عليه ويسخرون منه
ويقولون : تعمل (6) سفينة في البَرّ ، فكيف تجري ؟ قال : سوف تعلمون. فلما فرغ
ونَبَع الماء ، وصار في السكك خشِيت أمّ الصبي عليه ، وكانت تحبه حبا شديدًا ،
فخرجت إلى الجبل ، حتى بلغت ثلثه (7) فلما بلغها الماء [ارتفعت حتى بلغت ثلثيه ،
فلما بلغها الماء] (8) خرجت به حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ رقبتها رفعته
بيديها فغرقا فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي" (9).
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وقد روي عن كعب الأحبار ، ومجاهد بن جبر قصةُ هذا
الصبي وأمه بنحو من هذا.
{ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ
وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) }
__________
(1) في ت ، أ : "هلاك وخسارا".
(2) في ت ، أ : "وبعد".
(3) في ت ، أ : "تفسيرهما".
(4) في ت ، أ : "يعقوب بن موسى".
(5) زيادة من الدر المنثور. مستفاد من ط. الشعب.
(6) في ت : "يعمل".
(7) في ت ، أ : "قتله".
(8) زيادة من الدر المنثور. مستفاد من ط. الشعب.
(9) تفسير الطبري (15/310) ورواه الحاكم في المستدرك (2/342) من طريق سعيد بن أبي
مريم عن موسى بن يعقوب به نحوه ، وقال الحاكم : "صحيح الإسناد ولم
يخرجاه" وتعقبه الذهبي قلت : "إسناده مظلم وموسى بن يعقوب ليس
بذاك".
(4/325)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
{
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا
تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ
لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ
(47) }
هذا سؤال استعلام وكشف من نوح ، عليه السلام ، عن حال ولده الذي غرق ، { فَقَالَ
رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } أي : وقد وعدتني بنجاة أهلي ، ووعدُك الحق الذي
لا يخلف ، فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين ؟ { قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ } أي : الذين وعدت إنجاءهم (1) ؛ لأني (2) إنما وعدتك (3) بنجاة من آمن
من أهلك ؛ ولهذا قال : { وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } [هود :
40] ، فكان هذا الولد
__________
(1) في أ : "نجاتهم".
(2) في ت : "الذين أي : ليس من أهلك وعدت بنجاتهم لأنما".
(3) في ت ، أ : "وعدناك".
(4/325)
ممن
سَبَق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبيّ الله نوحا ، عليه السلام.
وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه ،
وإنما كان ابن زِنْية (1) ، ويحكى القول بأنه ليس بابنه ، وإنما كان ابن امرأته عن
مجاهد ، والحسن ، وعُبَيد بن عُمَير ، وأبي جعفر الباقر ، وابن جُرَيج ، واحتج
بعضهم بقوله : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } وبقوله : { فَخَانَتَاهمُا }
[التحريم : 10] ، فممن قاله الحسن البصري ، احتج بهاتين الآيتين. وبعضهم يقول :
كان ابن امرأته. وهذا يحتمل (2) أن يكون أراد ما أراد الحسن ، أو أراد أنه نسب
إليه مجازا ، لكونه كان ربيبًا عنده ، فالله أعلم.
وقال ابن عباس ، وغير واحد من السلف : ما زنت امرأة نبي قط ، قال : وقوله : {
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي : الذين وعدتك نجاتهم (3).
وقولُ ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه ، فإن الله سبحانه (4) أغير من أن
يمكن (5) امرأة نبي من الفاحشة (6) ولهذا غضب الله على الذين رمَوا أم المؤمنين
عائشة بنتَ الصدّيق زوج النبي صلى الله عليه وسلم (7) ، وأنكر على المؤمنين الذين
تكلموا بهذا وأشاعوه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ
امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ
لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } إلى قوله { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [النور : 11 - 15].
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة وغيره ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس
قال : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية. قال عكرمة : في بعض الحروف :
"إنه عَمِل عملا غير صالح" ، والخيانة تكون على غير باب.
وقد ورد في الحديث أن رسول الله قرأ بذلك ، فقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن
هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد
قالت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : "إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ
صَالِح" ، وسمعته يقول (8) : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا } ولا يبالي { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر :
53] (9).
وقال أحمد أيضا : حدثنا وَكِيع ، حدثنا هارون النحوي ، عن ثابت البُنَاني ، عن
شَهْر بن حَوْشَب ، عن أم سلمة أن رسول الله قرأها : "إنه عَمِل غَيْرَ
صَالِح" (10).
أعاده أحمد أيضا في مسنده (11).
__________
(1) في ت ، أ : "ليس منك إنما هو ولد زنية".
(2) في ت : "محتمل".
(3) في ت : "بنجاتهم".
(4) في ت : "تعالى".
(5) في ت : "يمكن من".
(6) في ت : "هذه الفاحشة".
(7) في أ : "زوج النبي صلى الله عليه وسلم بالفاحشة".
(8) في ت : "يقرأ".
(9) المسند (6/454).
(10) المسند (6/294).
(11) المسند (6/322).
(4/326)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
أم
سلمة هي (1) أم المؤمنين والظاهر - والله أعلم - أنها أسماء (2) بنت يزيد ، فإنها
تكنى بذلك أيضا (3).
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا الثوري وابن عيينة ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن
سليمان بن قَتَّة قال : سمعت ابن عباس - سُئِل - وهو إلى جَنْب الكعبة - عن قول
الله : { فَخَانَتَاهُمَا } [التحريم : 10] ، قال : أما وإنه لم يكن بالزنا ، ولكن
كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدل على الأضياف. ثم قرأ : { إِنَّهُ
عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } قال ابن عيينة : وأخبرني عمار الدُهْبِي (4) أنه سأل سعيد
بن جبير عن ذلك فقال : كان ابن نوح ، إن الله لا يكذب! قال تعالى : { وَنَادَى
نُوحٌ ابْنَهُ } قال : وقال بعض العلماء : ما فجرت امرأة نبي قط (5).
وكذا روي عن مجاهد أيضًا ، وعكرمة ، والضحاك ، وميمون بن مِهْران وثابت بن الحجاج
، وهو اختيار أبي جعفر بن جرير ، وهو الصواب [الذي] (6) لا شك فيه.
[وقوله] (7) :
{ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ
مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ
أَلِيمٌ (48) }
يخبر تعالى عما قيل لنوح ، عليه السلام ، حين أرست السفينة على الجوديّ ، من
السلام عليه ، وعلى من معه من المؤمنين ، وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة ،
كما قال محمد بن كعب : دخل في هذا السلام كلّ مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، وكذلك
في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
وقال محمد بن إسحاق : ولما أراد أن يكف (8) الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض ،
فسكن الماء ، وانسدت ينابيع الأرض الغمر الأكبر (9) وأبواب السماء ، يقول الله
تعالى (10) : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ [وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي
وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] } (11)
__________
(1) في ت ، أ : "هند".
(2) في ت : "إنما هي أسماء".
(3) قال الطبري في تفسيره (15/348) : "ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من
قرأة الأمصار إلا بعض المتأخرين ، واعتل في ذلك بخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قرأ ذلك كذلك ، غير صحيح السند ، وذلك حديث روي عن شهر بن حوشب ، فمرة
يقول : عن أم سلمة ، ومرة يقول عن أسماء بنت يزيد. ، ولا نعلم أبنت يزيد يريد ؟
ولا نعلم لشهر سماعا يصح عن أم سلمة". وانظر : حاشية الأستاذ محمود شاكر عليه
فقد أفاد وأجاد.
(4) في ت : "الذهبي".
(5) رواه الطبري في تفسيره (15/343).
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) زيادة من ت.
(8) في ت : "يكف ذلك".
(9) قال الأستاذ محمود شاكر في حاشيته على الطبري (15/239) : "هكذا في
المخطوطة والمطبوعة : "الغمر الأكبر". وأنا أرجح أنه خطأ محض ، وأن
الصواب : "الغوط الأكبر" وبهذا اللفظ رواه صاحب اللسان في مادة
(غوط)".
(10) في ت ، أ : "يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم".
(11) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4/327)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
فجعل
الماء ينقص ويَغيض ويُدْبِرُ ، وكان استواء الفلك على الجودي ، فيما يزعم أهل
التوراة ، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه ، وفي أول يوم من الشهر العاشر
، رُئي رءوس الجبال. فلما مضى بعد ذلك أربعون يومًا ، فتح نوح كُوّة الفُلْك التي
ركب (1) فيها ، ثم أرسل الغرابَ لينظر له ما صنع الماء ، فلم يرجع إليه. فأرسل
الحمامة فرجعت إليه ، لم تجد لرجليها موضعا ، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها. ثم
مضى (2) سبعة أيام ، ثم أرسلها لتنظر له. فرجعت حين أمست ، وفي فيها وَرَق زيتون
(3) فعلم نوح أن الماء قد قَلّ عن وجه الأرض. ثم مكث سبعة أيام ، فلم ترجع ، فعلم
نوح أن الأرض قد بَرَزَت ، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن
أرسل نوح الحمامة ، ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين ، برز وجه الأرض ،
وظهر اليَبَس (4) وكشف نوح غطاء الفلك ورأى وجه الأرض ، وفي الشهر الثاني من سنة
اثنتين ، في سبع وعشرين ليلة منه { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا
[وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ] } (5) [إلى آخر] (6) الآية
(7).
{ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا
أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ (49) }
يقول تعالى لنبيه [ورسوله محمد] (8) صلى الله عليه وسلم (9). هذه القصة وأشباههَا
(10) { مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ } يعني : من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك
على وجهها [وجليتها] (11) ، كأنك شاهدها (12) ، { نُوحِيهَا إِلَيْكَ } أي : نعلمك
بها وحيا (13) منا إليك ، { مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ
قَبْلِ هَذَا } أي : لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها ، حتى يقول من يكذبك
: إنك تعلمتها (14) منه ، بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح ،
كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك ، فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك ، وأذاهم لك ،
فإنا سننصرك (15) ونحوطك بعنايتنا ، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة
، كما فعلنا [بإخوانك] (16) بالمرسلين (17) حيث نصرناهم على أعدائهم ، { إِنَّا
لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا [فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ
يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ
وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] } [غافر : 51 ، 52] ،
__________
(1) في ت ، أ : "صنع".
(2) في ت ، أ : "مضت".
(3) في ت : "زيتونة".
(4) في ت : "النسر" ، وفي أ : "البشر".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) تفسير الطبري (15/338).
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) في أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
(10) في ت : "وما أشبهها".
(11) زيادة من ت ، أ.
(12) في ت : "مشاهد لها".
(13) في ت : "بوحي".
(14) في أ : "تعلمها".
(15) في ت : "سنؤيدك : ونبصرك" ، وفي أ : "فإنا سنؤيدك".
(16) زيادة من ت ، أ.
(17) في ت ، أ : "من المرسلين".
(4/328)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
(1)
وقال تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ] }
[الصافات : 171 - 173] ، (2) وقال تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ }.
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ
مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا
تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) }
يقول تعالى : ولقد أرسلنا ، { إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } آمرا لهم بعبادة
الله وحده لا شريك له ، ناهيا لهم (3) عن [عبادة] (4) الأوثان التي افتروها
واختلقوا لها أسماء الآلهة ، وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ
من الله ، إنما يبغي ثوابه [على ذلك وأجره] (5) من الله الذي فطره { أَفَلا
تَعْقِلُونَ } من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة (6).
ثم أمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة ، وبالتوبة عما يستقبلون [من
الأعمال السابقة] (7) ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه ، وسهل عليه أمره
وحفظ [عليه] (8) شأنه [وقوته] (9) ؛ ولهذا قال : { يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ
مِدْرَارًا } [نوح : 11] ، و[كما جاء] (10) وفي الحديث : "من لزم (11)
الاستغفار جعل الله له من كل هَم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا
يحتسب".
{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي
آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) }
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) في ت ، أ : "ونهاهم".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) في ت ، أ : "من غير جعل ولا أجر".
(7) زيادة من ت ، أ.
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) زيادة من ت ، أ.
(11) في ت ، أ : "أكثر من".
(4/329)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
{
إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ
اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ
فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ
رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ
رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) }
يخبر (1) تعالى [إخبارًا عن قوم هود] (2) أنهم قالوا لنبيهم : { مَا جِئْتَنَا
بِبَيِّنَةٍ } أي : بحجة [ولا دلالة] (3) [ولا] (4) وبرهان على ما تدعيه ، { وَمَا
نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ } أي : بمجرد قولك :
"اتركوهم" نتركهم ، { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [أي] (5)
بمصدقين ، { إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } يقولون :
ما نظن إلا أن بعض الآلهة أصابك بجنون وخبَل في عقلك بسبب نهيك عن
__________
(1) في ت ، أ : "يقول".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) زيادة من ت ، أ.
(4/329)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
عبادتها
وعيبك لها { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا } [أي أنتم أيضا] (1) {
أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ } (2). يقول : إني بريء من جميع
الأنداد والأصنام ، { فَكِيدُونِي جَمِيعًا } أي : أنتم وآلهتكم إن كانت حقا ، [ف
ذروها تكيدني] (3) ، { ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ } أي : طرفة عين [واحدة] (4).
وقوله : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ
إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } أي : [هي] (5) تحت قهره وسلطانه ، وهو الحاكم
العادل الذي لا يجور في حكمه ، فإنه على صراط مستقيم.
قال الوليد بن مسلم ، عن صفوان بن عمرو (6) عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه قال في
قوله تعالى : { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } قال : فيأخذ بنواصي عباده فيلقى المؤمن (7) حتى يكون
له (8) أشفق من الوالد لولده (9) ويقال للكافر : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ } [الانفطار : 6].
وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به ، وبطلان ما هم
عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ، بل هي جَمَاد لا تسمع ولا تبصر ،
ولا تُوالي ولا تُعادي ، وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده لا شريك له ، الذي
بيده الملك ، وله التصرف ، وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه ، فلا إله إلا
هو ، ولا رب سواه.
{ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ
وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ
غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ
وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ
أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) }
يقول لهم [رسولهم] (10) هود : فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم وحده لا
شريك له ، فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة الله التي بعثني بها ، {
وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ } (11) يعبدونه وحده لا يشركون به
[شيئًا] (12) ولا يبالي بكم : فإنكم لا تضرونه بكفركم بل (13) يعود وَبَال ذلك
عليكم ، { إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي : شاهد وحافظ لأقوال
عباده وأفعالهم ويجزيهم (14) عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "تدعون" وهو خطأ.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) في أ : "محرز".
(7) في ت : "للمؤمن".
(8) في ت : "لهم".
(9) في ت : "بولده".
(10) زيادة من ت ، أ.
(11) في ت ، أ : "الله" وهو خطأ.
(12) زيادة من ت ، أ.
(13) في ت ، أ : "وكفركم وإنما".
(14) في ت : "وتجزيهم".
(4/330)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
{
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا } وهو [ما أرسل الله عليهم من] (1) الريح العقيم [التي
لا تمر بشيء إلا جعلته كالرميم] (2) فأهلكهم الله عن آخرهم ، ونجى [من بينهم
رسولهم] (3) هودا وأتباعه [المؤمنين] (4) من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه.
{ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } [أي] (5) كفروا بها ، وعَصَوا رسل
الله ، وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء ، لأنه لا فرق بين أحد منهم في
وجوب الإيمان به ، فعاد كفروا بهود ، فنزل كفرهم [به] (6) منزلة من كفر بجميع
الرسل ، { وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } تركوا اتباع رسولهم
الرشيد ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد. فلهذا أتبعوا في هذه الدنيا لعنة من الله ومن
عباده المؤمنين كلما ذكروا وينادى عليهم يوم القيامة على رءوس الأشهاد (7) ، {
أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ [أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ] } (8).
قال السُّدِّي : ما بُعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه.
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ
فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ
(61) }
يقول تعالى : ولقد أرسلنا { إِلَى ثَمُودَ } وهم الذين كانوا يسكنون (9) مدائن
الحجر بين تبوك والمدينة ، وكانوا بعد عاد ، فبعث الله منهم (10) { أَخَاهُمْ
صَالِحًا } فأمرهم (11) بعبادة الله وحده [لا شريك له الخالق الرازق] (12) ؛ ولهذا
قال : { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ } أي : ابتدأ خلقكم منها ، [من الأرض
التي] (13) خلق منها أباكم آدم ، { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } أي : جعلكم [فيها]
(14) عُمَّارا تعمرونها وتستغلونها ، لسالف ذنوبكم ، { ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ }
فيما تستقبلونه ؛ { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } كما قال تعالى : { وَإِذَا
سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا
دَعَانِ } الآية [البقرة : 186].
{ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا
أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا
إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) }
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) زيادة من أ.
(7) في ت : "عليهم على رءوس الخلائق يوم القيامة".
(8) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(9) في ت : "يستكبرون".
(10) في ت ، أ : "فيهم".
(11) في أ : "فأمره".
(12) زيادة من أ.
(13) زيادة من ت ، أ.
(14) زيادة من ت ، أ.
(4/331)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
{
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي
مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا
تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) }
يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح ، عليه السلام ، وبين قومه ، وما كان عليه
قومه من الجهل والعناد في قولهم : { قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا }
أي : كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما
(4/331)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
قلت!
{ أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } وما كان عليه أسلافنا ، {
وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي : [في] (1) شك
كثير (2).
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } فيما
أرسلني به إليكم على يقين وبرهان [من الله] (3) ، { وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً
فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ } وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة
الله وحده ، فلو تركته (4) لما نفعتموني ولما زدتموني { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } أي :
خسارة.
{ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي
أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ
غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا
فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ
كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) }
وتقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة "الأعراف" (5) بما أغنى عن
إعادته ها هنا ، وبالله التوفيق.
{ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ
سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى
أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا
لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ
فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
}
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "كبير".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت ، أ : "فلو تركت ذلك".
(5) عند تفسير الآيات 73 - 78.
(4/332)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
{
قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ
اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
}
يقول تعالى : { وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا } وهم الملائكة ، إبراهيم بالبشرى ،
قيل : تبشره (1) بإسحاق ، وقيل : بهلاك قوم لوط. ويشهد للأول قوله تعالى : {
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا
فِي قَوْمِ لُوطٍ } [هود : 74] ، { قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ } أي : عليكم.
قال علماء (2) البيان : هذا أحسن مما حَيّوه به ؛ لأن الرفع يدل على الثبوت
والدوام (3).
{ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } أي : ذهب (4) سريعا ، فأتاهم
بالضيافة ، وهو عجل : فتى البقر ،
__________
(1) في ت : "تبشيره".
(2) في ت : "علمنا".
(3) في ت ، أ : "والاستقرار".
(4) في ت : "فذهب".
(4/332)
حَنِيذ
: [وهو] (1) مَشْوي [شيًا ناضجًا] (2) على الرّضْف ، وهي الحجارة المُحْماة.
هذا معنى ما روي عن ابن عباس [ومجاهد] (3) وقتادة [والضحاك ، والسدي] (4) وغير
واحد ، كما قال في الآية الأخرى : { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ
سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } [الذاريات : 26 ، 27].
وقد تضمَّنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوه كثيرة.
وقوله : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } تَنَكرهم
، { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا
يشتهونه ولا يأكلونه ؛ فلهذا رأى حالهم معرضين (5) عما جاءهم به ، فارغين عنه
بالكلية فعند ذلك نَكرهم ، { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً }.
قال السدّي : لما بعث الله الملائكة لقوم لوط (6) أقبلت تمشي في صُور رجال شبان
(7) حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه ، فلما رآهم [إبراهيم] (8) أجَلَّهم ، {
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } فذبحه ثم شواه في الرضف (9).
[فهو الحنيد حين شواه] (10) وأتاهم به فقعد معهم ، وقامت سارة تخدمهم (11) فذلك
حين يقول : "وامرأته قائمة وهو جالس" في قراءة ابن مسعود : "فلما
قَربه إليهم قال ألا تأكلون قالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن. قال
فإن لهذا ثمنا. قالوا (12) وما ثمنه ؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله ، وتحمدونه
على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال : حُق لهذا أن يتخذه ربه خليلا" ، {
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } يقول : فلما رآهم لا
يأكلون فزع منهم ، وأوجس منهم خيفة ، فلما نظرت إليه (13) سارة أنه قد أكرمهم
وقامت هي تخدمهم ، ضحكت وقالت : عجبا لأضيافنا هؤلاء ، [إنا] (14) نخدمهم بأنفسنا
كرامة (15) لهم ، وهم لا يأكلون طعامنا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا نصر بن علي ، [حدثنا] (16) نوح
بن قيس ، عن عثمان بن مِحْصن في ضيف إبراهيم قال : كانوا أربعة : جبريل ، وميكائيل
، وإسرافيل ، ورفائيل. قال نوح بن قيس : فزعم نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على
إبراهيم ، فقرب إليهم العجل ، مسحه جبريل بجناحه ، فقام يدرج حتى لحق بأمه ، وأم
العجل في الدار.
وقوله تعالى إخبارا عن الملائكة : { قَالُوا لا تَخَفْ [إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى
قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ] } (17) أي قالوا : لا تخف منا ،
إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم (18). فضحكت (19) سارة استبشارًا [منها]
(20) بهلاكهم ، لكثرة فسادهم ، وغِلَظ كفرهم وعنادهم ، فلهذا جوزيت بالبشارة
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت ، أ : "معرضا".
(6) في ت ، أ : "الملائكة لمهلك قوم لوط".
(7) في ت ، أ : "شباب".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) في ت : "الرصف".
(10) زيادة من ت ، أ.
(11) في ت ، أ : "عليهم".
(12) في ت : "قال".
(13) في ت : "إليهم".
(14) زيادة من ت ، أ.
(15) في ت : "تكرمة".
(16) زيادة من ت ، أ.
(17) زيادة من ت ، أ.
(18) في ت : "إلى قوم لوط لندمر عليهم ونهلكهم كما ذكر في الآية
الأخرى".
(19) في ت : "وضحكت".
(20) زيادة من ت ، أ.
(4/333)
بالولد
بعد الإياس.
وقال قتادة : ضحكت [امرأته] (1) وعجبت [من] (2) أن قوما يأتيهم (3) العذاب وهم في
غفلة [فضحكت من ذلك وعجبت فبشرناها بإسحاق].
وقوله : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } قال العوفي ، عن ابن عباس : {
فَضَحِكَتْ } أي : حاضت.
وقول محمد بن قيس : إنها إنما ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل
قوم لوط ، وقول الكلبي إنها إنما ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم - ضعيفان جدا ،
وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما ، فلا يلتفت إلى ذلك ، والله أعلم.
وقال وهب بن مُنَبِّه : إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق. وهذا مخالف لهذا السياق ، فإن
البشارة صريحة مُرتبة على.
{ فَبَشَّرْنَاهَا (4) بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } أي :
بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل ؛ فإن يعقوب ولد إسحاق ، كما قال في آية البقرة :
{ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ
مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133].
ومن هاهنا استدل من استدل بهذه الآية ، على أن الذبيح إنما هو إسماعيل ، وأنه
يمتنع أن يكون هو إسحاق ؛ لأنه وقعت البشارة به ، وأنه سيولد له يعقوب ، فكيف يؤمر
إبراهيم بذبحه وهو طفل (5) صغير ، ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده. ووعد
الله حق لا خُلْفَ فيه ، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه ، فتعين أن يكون هو
إسماعيل وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه ، ولله الحمد.
{ قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا [إِنَّ
هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ] } (6) حكى قولها في هذه الآية ، كما حكى فعلها في الآية
الأخرى ، فإنها : { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ } وفي
الذاريات : { فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ
عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [الذاريات : 29] ، كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن
عند التعجب. { قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } أي : قالت الملائكة
لها ، لا تعجبي من أمر الله ، فإنه إذا أراد شيئًا أن (7) يقول له :
"كن" فيكون ، فلا تعجبي من هذا ، وإن كنت عجوزا [كبيرة] (8) عقيما ،
وبعلك [وهو زوجها الخليل عليه السلام ، وإن كان] (9) شيخا كبيرا ، فإن الله على ما
يشاء قدير.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "أتاهم".
(4) في ت : "فبشرت".
(5) في ت : "غلام".
(6) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ "الآية".
(7) في ت : "إنما".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) زيادة من ت ، أ.
(4/334)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
{
رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ } أي : هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله محمود ، ممجد في صفاته وذاته ؛
ولهذا ثبت في الصحيحين أنهم قالوا : قد علمنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك يا
رسول الله ؟ قال : قولوا : "اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على
إبراهيم وآل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على [إبراهيم و]
(1) آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد" (2).
{ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى
يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ
مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ
رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) }
يخبر تعالى عن [خليله] (3) إبراهيم ، عليه السلام ، أنه لما ذهب عنه الروع ، وهو
ما أوْجَس من الملائكة خيفة ، حين لم يأكلوا ، وبشروه بعد ذلك بالولد [وطابت نفسه]
(4) وأخبروه بهلاك قوم لوط ، أخذ يقول كما قال (5) [عنه] (6) سعيد بن جبير في
الآية (7) قال : لما جاءه جبريل ومن معه ، قالوا له (8) { إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ
هَذِهِ الْقَرْيَةِ [إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ] } [العنكبوت : 31] ، (9)
قال لهم [إبراهيم] (10) أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن ؟ قالوا : لا. قال :
أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن ؟ قالوا : لا. قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون
مؤمنا ؟ قالوا : لا. قال : ثلاثون ؟ قالوا لا حتى بلغ خمسة قالوا : لا. قال :
أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها ؟ قالوا : لا. فقال إبراهيم عليه
السلام عند ذلك : { إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا
لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ } الآية [العنكبوت : 32] ، فسكت
عنهم واطمأنت نفسه.
وقال قتادة وغيره قريبا من هذا - زاد ابن إسحاق : أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد ؟
قالوا : لا. قال : فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب ، قالوا : { نَحْنُ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِيهَا [لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ
الْغَابِرِينَ] } [العنكبوت : 32]. (11)
وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ } مدح (12) إبراهيم بهذه
الصفات الجميلة ، وقد تقدم تفسيرها [في سورة براءة] (13).
وقوله : { يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ
رَبِّكَ [وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ] } (14)
__________
(1) زيادة من ت ، والبخاري.
(2) صحيح البخاري برقم (4797) وصحيح مسلم برقم (406) من حديث كعب بن عجرة ، رضي
الله عنه.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "قاله".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت ، أ : "في قوله : يجادلنا في قوم لوط".
(8) في أ : "فقالوا لإبراهيم".
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) زيادة من ت.
(11) زيادة من ت ، أ. وفي هـ : "الآية".
(12) في ت ، أ : "مدح له".
(13) زيادة من ت ، أ.
(14) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4/335)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
أي :
إنه قد نفذ فيهم القضاء ، وحَقَّت عليهم الكلمة بالهلاك ، وحلول البأس الذي لا
يُرد عن القوم المجرمين.
{ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ
هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ
كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ
أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ
رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ
وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) }
يخبر تعالى عن قُدوم رسله من الملائكة (1) بعد ما أعلموا (2) إبراهيم بهلاكهم ،
وفارقوه وأخبروه بإهلاك الله قوم لوط هذه الليلة. فانطلقوا من عنده ، فأتوا لوطا
(3) عليه السلام ، وهو - على ما (4) قيل - في أرض له [يعمرها] (5) وقيل : [بل كان]
(6) في منزله ، ووردوا عليه وهم في أجمل صورة تكون ، على هيئة شبان (7) حسان
الوجوه ، ابتلاء من الله [واختبارا] (8) وله الحكمة والحجة البالغة ، [فنزلوا
عليه] (9) فساءه شأنهم وضاقت نفسه بسببهم ، وخشي إن لم يُضِفْهم (10) أن يضيفهم
أحد من قومه ، فينالهم بسوء ، { وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ }.
قال ابن عباس [ومجاهد وقتادة ومحمد بن إسحاق] (11) وغير واحد [من الأئمة] (12)
شديد بلاؤه وذلك أنه علم أنه سيدافع [قومه] (13) عنهم ، ويشق عليه ذلك.
وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في أرض له [يعمل فيها] (14) فتضيّفوه (15) فاستحيا منهم
، فانطلق أمامهم وقال (16) لهم في أثناء الطريق ، كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه :
إنه والله يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء. ثم مشى قليلا ثم
أعاد ذلك عليهم ، حتى كرره أربع مرات قال قتادة : وقد كانوا أمروا ألا يهلكوهم حتى
يشهد عليهم نبيهم بذلك.
وقال السدي : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية (17) لوط (18) فبلغوا (19)
نهر سدون نصف النهار ، ولقوا بنت (20) لوط تستقي [من الماء لأهلها وكانت له ابنتان
اسم الكبرى رثيا والصغرى زغرتا] (21) فقالوا [لها] (22) يا جارية ، هل من منزل ؟
فقالت [لهم] (23) مكانكم حتى آتيكم ، وفَرقت عليهم من قومها ، فأتت أباها فقالت :
يا أبتاه ، أدرك فتيانا على باب المدينة ، ما رأيت
__________
(1) في ت ، أ : "من الملائكة الذين فارقوا إبراهيم الخليل عليه السلام
بعد".
(2) في ت ، أ : "أعلموه".
(3) في ت : "فأتوا على لوط" ، وفي أ : "فأتوا لوط".
(4) في ت ، أ : "وهو فيما".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت ، أ : "شباب".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) في ت ، أ : "يضيفهم".
(11) زيادة من ت ، أ.
(12) زيادة من ت ، أ.
(13) زيادة من ت ، أ.
(14) زيادة من ت ، أ.
(15) في ت ، أ : "فيضيفوه".
(16) في ت ، أ : "فقال".
(17) في ت : "قوم".
(18) في ت ، أ : "لوط فأتوها نصف النهار ، فبلغوا".
(19) في ت ، أ : "فلما بلغوا".
(20) في ت ، أ : "ابنة".
(21) زيادة من ت ، أ.
(22) زيادة من ت ، أ.
(23) زيادة من ت ، أ.
(4/336)
وجوه
قوم [هي] (1) أحسن منهم ، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم ، و[قد] (2) كان قومه نهوه أن
يضيف رجلا فقالوا : خل عنا فلْنُضِف (3) الرجال. فجاء بهم ، فلم يعلم بهم أحد إلا
أهل بيته (4) فخرجت امرأته فأخبرت قومها [فقالت : إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل
وجوههم قط] (5) ، فجاءوا (6) يهرعون إليه.
وقوله : { يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي : يسرعون ويهرولون [في مشيتهم ويجمرون] (7)
من فرحهم بذلك [وروي في هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وقتادة وشمر بن
عطية وسفيان بن عيينة] (8).
وقوله : { وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } أي : لم يزل هذا من
سجيتهم [إلى وقت آخر] (9) حتى أخذوا وهم على ذلك الحال.
وقوله : { قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يرشدهم إلى
نسائهم ، فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد [للرجال والنساء] (10) ، فأرشدهم إلى ما
هو أنفع (11) لهم في الدنيا والآخرة ، كما قال لهم في الآية الأخرى : {
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ
رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [الشعراء : 165 ،
166] ، وقوله في الآية الأخرى : { قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ }
[الحجر : 70] أي : ألم (12) ننهك عن ضيافة الرجال { قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ
كُنْتُمْ فَاعِلِينَ. لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ }
[الحجر : 71 ، 72] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ
لَكُمْ } قال (13) مجاهد : لم يكن بناته ، ولكن كن من أمَّتِهِ ، وكل نبي أبو
أمَّتِه.
وكذا روي عن قتادة ، وغير واحد.
وقال ابن جُرَيْج : أمرهم أن يتزوجوا النساء ، ولم يعرض عليهم سفاحا.
وقال سعيد بن جبير : يعني نساءهم ، هن بَنَاته ، وهو أب لهم (14) ويقال في بعض
القراءات (15) النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم.
وكذا روي عن الربيع بن أنس ، وقتادة ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهم.
وقوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي : اقبلوا ما آمركم
به من الاقتصار على نسائكم (16) ، { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ } أي : [ليس
منكم رجل] (17) فيه خير ، يقبل ما آمره به ، ويترك ما أنهاه
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت ، أ : "فلنضيف".
(4) في ت ، أ : "بيت لوط".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) في ت ، أ : "فجاءه قومه".
(7) زيادة من ت ، أ.
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) زيادة من ت ، أ.
(11) في ت : "الأنفع".
(12) في ت ، أ : "أو لم".
(13) في ت ، أ : "وقال".
(14) في ت ، أ : "هن بناته هو نبيهم".
(15) في ت ، أ : "القراءة".
(16) في ت ، أ : "أي اقبلوا ما آمركم به من إتيانكم نساءكم واقتصاركم عليهن
وترككم الفواحش من إتيان الذكران من العالمين".
(17) زيادة من ت ، أ.
(4/337)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
عنه
؟
{ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أي : إنك تعلم
(1) أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن ، { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
} أي : ليس لنا غرض إلا في الذكور ، وأنت تعلم ذلك ، فأي حاجة في تكرار القول
علينا في ذلك ؟
قال السدي : { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } إنما نريد الرجال.
{ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ
بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا
امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ
أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) }
يقول تعالى مخبرًا عن نبيه لوط ، عليه السلام : إن لوطا توعدهم بقوله (2) : { لَوْ
أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً [أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ] } (3) أي : لكنت نكلت
بكم وفعلت بكم الأفاعيل [من العذاب والنقمة وإحلال البأس بكم] (4) بنفسي وعشيرتي ،
ولهذا ورد في الحديث ، من طريق محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي
هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "رحمة الله على لوط ، لقد كان
يأوي إلى ركن شديد - يعني : الله عز وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة
من قومه" (5).
[وروي من حديث الزهري عن أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعًا ومن حديث
أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به ، ومن حديث ابن لهيعة عن أبي يونس سمع أبا
هريرة به وأرسله الحسن وقتادة] (6).
فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم (7) رُسل الله إليه ، و[وبشروه] (8) أنهم لا وصول
لهم إليه [ولا خلوص] (9) { قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا
إِلَيْكَ } وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل ، وأن يتَّبع أدبارهم ، أي : يكون
ساقة لأهله ، { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ } أي : إذا سمعت (10) ما نزل بهم
، ولا تهولنَّكم (11) تلك الأصوات المزعجة ، ولكن استمروا ذاهبين [كما أنتم] (12).
{ إِلا امْرَأَتَكَ } قال الأكثرون : هو استثناء من المثبت (13) وهو قوله : {
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } تقديره { إِلا امْرَأَتَكَ } وكذلك قرأها ابن مسعود ونصب
هؤلاء امرأتك ؛ لأنه من مثبت (14) ،
__________
(1) في ت ، أ : "لتعلم".
(2) في ت ، أ : "عليه السلام إنه توعدهم بهذا الكلام وهو قوله".
(3) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) رواه الترمذي في السنن برقم (3116) من طريق الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو به
، ورواه عن طريق عبدة وعبد الرحيم عن محمد بن عمرو ونحو حديث الفضل بن موسى ، وقال
الترمذي : "وهذا - أي الطريق الثاني - أصح من رواية الفضل بن موسى وهذا حديث
حسن".
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت : "بأنهم".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) في ت ، أ : "إذا سمعتم".
(11) في ت : "+ولاتهيلنكم".
(12) زيادة من ت ، أ.
(13) في ت : "من المبيت".
(14) في ت : "من مبيت".
(4/338)
فوجب
نصبه عندهم.
وقال آخرون من القراء والنحاة : هو استثناء من قوله : { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ
أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ } فجَّوزوا الرفع والنصب ، وذكر هؤلاء [وغيرهم من
الإسرائيليات] (1) أنها خرجت معهم ، وأنها لما سمعت الوَجْبَة التفتت وقالت (2)
واقوماه. فجاءها حجر من السماء فقتلها (3).
ثم قربوا له هلاك قومه تبشيرًا له ؛ لأنه قال لهم : "أهلكوهم الساعة" ،
فقالوا : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } هذا
وقومُ لُوطِ وقُوف على الباب وعُكوف قد جاءوا يُهرعون إليه من كل جانب ، ولوط واقف
على (4) الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه ، وهم لا يقبلون منه ، بل
يتوعدونه ، فعند ذلك خرج عليهم جبريل ، عليه السلام ، فضرب وجوههم بجناحه ، فطمس
أعينهم ، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ
عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ [وَلَقَدْ
صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ] } [القمر
: 37 - 39] (5).
وقال مَعْمَر ، عن قتادة ، عن حذيفة بن اليمان قال : كان إبراهيم ، عليه السلام ،
يأتي (6) قوم لوط ، فيقول : أنَهاكم (7) الله أن تَعَرّضوا لعقوبته ؟ فلم يطيعوه ،
حتى إذا بلغ الكتاب أجله [لمحل عذابهم وسطوات الرب بهم قال] (8) انتهت الملائكة
إلى لوط وهو يعمل في أرض له ، فدعاهم إلى الضيافة فقالوا : إنا ضيوفك (9) الليلة ،
وكان الله قد عهد إلى جبريل ألا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شَهادات فلما
توجه بهم لوط إلى الضيافة ، ذكر ما يعمل قومه من الشر [والدواهي العظام] (10) ،
فمشى معهم ساعة ، ثم التفت إليهم فقال : أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية ؟ ما
أعلم على وجه الأرض شرا منهم. أين أذهب بكم ؟ إلى قومي وهم [من] (11) أشر خلق الله
، فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال : احفظوها (12) هذه واحدة. ثم مشى معهم ساعة ،
فلما توسط القرية وأشفق عليهم واستحيا منهم قال : أما تعلمون ما يعمل أهل هذه
القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أشر منهم ، إن قومي أشر خلق الله. فالتفت جبريل
إلى الملائكة فقال : احفظوا ، هاتان اثنتان ، فلما انتهى إلى باب الدار بكى حياء
منهم وشفقة عليهم فقال (13) إن قومي أشر من خلق الله ؟ أما تعلمون ما يعمل أهل هذه
القرية ؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرًا (14) منهم. فقال جبريل للملائكة :
احفظوا ، هذه ثلاث ، قد حق العذاب. فلما دخلوا ذهبت عجوز السوء فصعدت فلوحت بثوبها
، فأتاها الفساق يُهرَعون سراعا ، قالوا : ما عندك ؟ قالت : ضَيَّف لوطًا قوم (15)
ما رأيت قط أحسن وجوها منهم ، ولا أطيب ريحًا منهم. فهُرعوا يسارعون إلى الباب ،
فعالجهم لوط على الباب ، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج ، يناشدهم الله ويقول : {
هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } فقام
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "فقالت".
(3) في ت : "فقتلتها".
(4) في ت ، أ : "في".
(5) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) في ت ، أ : "يأتيهم يعني".
(7) في ت ، أ : "أنهاكم الله عنه".
(8) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(9) في ت : "مضيفوك".
(10) زيادة ، ت ، أ.
(11) زيادة من ت ، أ.
(12) في ت ، أ : "احفظوا".
(13) في ت : "وقال".
(14) في ت ، أ : "أشر".
(15) في ت ، أ : "الليلة\".
(4/339)
الملك
فَلَزّ (1) بالباب - يقول فسده (2) - واستأذن جبريل في عقوبتهم ، فأذن الله له ،
فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء ، فنشر جناحه. ولجبريل جناحان ، وعليه
وشاح من درّ منظوم ، وهو براق الثنايا ، أجلى الجبين ، ورأسه حُبُكٌ حُبُك مثل
المرجان وهو اللؤلؤ ، كأنه الثلج ، ورجلاه إلى الخضرة. فقال يا لوط : { إِنَّا
رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ } امض يا لوط عن الباب ودعني وإياهم ،
فتنحى لوط عن الباب ، فخرج إليهم ، فنشر جناحه ، فضرب به وجوههم ضربة شدخ أعينهم ،
فصاروا عُمْيًا لا يعرفون الطريق [ولا يهتدون بيوتهم] (3) ثم أمر لوط فاحتمل بأهله
في ليلته قال : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ } (4).
وروي عن محمد بن كعب [القرظي] (5) وقتادة ، والسدي نحو هذا.
__________
(1) في أ : "فكن".
(2) في ت : "فشده" ، وفي أ : "نسده".
(3) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(4) رواه الطبري في تفسيره (15/429).
(5) زيادة من ت ، أ.
(4/340)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
{
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ
وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) }
يقول تعالى : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا } وكان ذلك عند طلوع الشمس ، { جَعَلْنَا
عَالِيَهَا } وهي [قريتهم العظيمة وهي] (1) سَدُوم [ومعاملتها] (2) { سَافِلَهَا }
كقوله (3) { [وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى] فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } [النجم : 53 ،
54] (4) أي : أمطرنا (5) عليها حجارة من "سجيل" وهي بالفارسية : حجارة
من طين ، قاله ابن عباس وغيره.
وقال بعضهم : أي من "سنك" وهو الحجر ، و"كل" (6) وهو الطين ،
وقد قال في الآية الأخرى : { حِجَارَةً مِنْ طِينٍ } [الذاريات : 33] أي : مستحجرة
قوية شديدة. وقال بعضهم : مشوية ، [وقال بعضهم : مطبوخة قوية صلبة] (7) وقال
البخاري. "سِجيل" : الشديد الكبير. سجيل وسجين واحد ، اللام والنون
أختان ، وقال تميم بن مُقبِل :
وَرَجْلَةٍ يَضْربُون البَيْضَ ضَاحِيةٌ... ضَرْبًا تواصَت به الأبطال (8) سِجّينا
(9)
وقوله : { مَنْضُودٍ } قال بعضهم : منضودة في السماء ، أي : معدة لذلك.
وقال آخرون : { مَنْضُودٍ } أي : يتبع بعضها بعضا في نزولها عليهم.
وقوله : { مُسَوَّمَةً } أي مُعْلمَة مختومة ، عليها أسماء أصحابها ، كل حجر مكتوب
عليه اسم الذي ينزل عليه.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "كما قال تعالى".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت ، أ : "أمطر".
(6) في ت : "وحل" ، وفي أ : "وجيل".
(7) زيادة من ت ، أ.
(8) في أ : "الأباطيل".
(9) صحيح البخاري (8/352) "فتح".
(4/340)
وقال
قتادة وعِكْرِمة : { مُسَوَّمَةً } [أي] (1) مُطَوّقة ، بها نَضْحٌ من حُمّرٍة.
وذكروا أنها نزلت على أهل البلد ، وعلى المتفرقين في القرى مما حولها ، فبينا
أحدهم يكون عند (2) الناس يتحدّث ، إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس
، فدّمره ، فتتبعهم (3) الحجارة من سائر البلاد ، حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق
منهم أحد.
وقال مجاهد : أخذ جبريلُ قوم لوط من سَرْحهم ودورهم ، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ،
ورفعهم حتى سمع أهل السماء نُباح كلابهم ثم أكفأهم (4) [وقال] (5) وكان حملهم على
خوافي (6) جناحه الأيمن. قال : ولما قلبها كان أول ما سقط منها شُذانها (7).
وقال قتادة : بلغنا أن جبريل أخذ بعروة (8) القرية الوسطى ، ثم ألوَى بها إلى جو
السماء ، حتى سمع أهل السماء (9) ضواغي كلابهم ، ثم دمر بعضها على بعض ، ثم أتبع
شُذّاذ القوم سُخْرًا (10) - قال : وذكر لنا أنهم كانوا أربع قرى ، في كل قرية
مائة ألف - وفي رواية : [كانوا] (11) ثلاث قرى ، الكبرى منها سَدُوم. قال : وبلغنا
أن إبراهيم ، عليه السلام ، كان يشرف على سدوم ، ويقول : سدوم ، يومٌ ، ما لَك ؟.
وفي رواية عن قتادة وغيره : بلغنا أن جبريل عليه السلام ، لما أصبح نشر جناحه ،
فانتسف به أرضهم بما فيها من قُصُورها ودوابها وحجارتها وشجرها ، وجميع ما فيها ،
فضمها في جناحه ، فحواها وطواها في جوف جناحه ، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا ،
حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب ، وكانوا أربعة آلاف ألف ، ثم قلبها ،
فأرسلها إلى الأرض منكوسة ، وَدَمْدَم بعضها على بعض ، فجعل عاليها سافلها ، ثم
أتبعها حجارة من سجيل.
وقال محمد بن كعب القُرَظي : كانت قرى قوم لوط خمس قريات : "سدوم" ، وهي
العظمى ، و"صعبة" (12) و"صعوة" و"عثرة" (13)
و"دوما" ، احتملها جبريل بجناحه ، ثم صعد بها ، حتى إنّ أهل السماء
الدنيا ليسمعون نابحة كلابها ، وأصوات دجاجها ، ثم كفأها على وجهها ، ثم أتبعها
الله بالحجارة ، يقول الله تعالى : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } (14) فأهلكها الله وما حولها
من المؤتفكات.
وقال السدي : لما أصبح قوم لوط ، نزل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين ، فحملها
حتى بلغ بها السماء ، حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم ، وأصوات ديوكهم ، ثم
قلبها فقتلهم ، فذلك
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "بين".
(3) في ت : "فيتبعهم".
(4) في ت ، أ : "أكفأها".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت ، أ : "حوافي".
(7) في ت : "شرفاتها".
(8) في ت : "بعزوة".
(9) في ت ، أ : "سمع الملائكة".
(10) في ت ، أ : "صخرا".
(11) زيادة من ت ، أ.
(12) في ت ، أ : "صبعة".
(13) في ت ، أ : "وعمرة".
(14) في ت ، أ : "فجعلنا".
(4/341)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
قوله
(1) { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } [النجم : 53] ، ومن لم يمت حين سقط للأرض ،
أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة ، ومن كان منهم شاذا في الأرض يتبعهم في
القرى ، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله ، فذلك قوله (2) عز وجل : {
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي : في القرى حجارة من سجيل. هكذا قال السدي.
وقوله : { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } أي : وما هذه النقمة ممن
تَشَبَّه بهم في ظلمهم ، ببعيد (3) عنه.
وقد ورد في الحديث المروي في السنن (4) عن ابن عباس مرفوعًا (5) " من وجدتموه
يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (6).
وذهب الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل ، سواء كان
محصنًا أو غير (7) محصن ، عملا بهذا الحديث.
وذهب الإمام أبو حنيفة [رحمه الله إلى] (8) أنه يلقى من شاهق ، ويُتبَع بالحجارة ،
كما فعل الله بقوم لوط ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي
أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) }
يقول تعالى : ولقد أرسلنا إلى مدين - وهم قبيلة من العرب ، كانوا يسكنون بين
الحجاز والشام ، قريبًا من بلاد معان ، في بلد يعرف بهم ، يقال لها
"مدين" فأرسل الله إليهم شعيبا ، وكان من أشرفهم (9) نسبًا. ولهذا قال :
{ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده ، وينهاهم عن التطفيف (10)
في المكيال والميزان { إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } أي : في معيشتكم ورزقكم فأخاف أن تُسلَبوا ما أنتم فيه
بانتهاككم محارم الله ، { وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ }
(11) أي : في الدار الآخرة.
__________
(1) في ت ، أ : "فذلك حين يقول".
(2) في ت ، أ : "قول الله".
(3) في ت : "ببعد".
(4) في ت ، أ : "في السنن من حديث عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة".
(5) في ت ، أ : "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال".
(6) سنن أبي داود برقم (4462) وسنن الترمذي برقم (1456) وسنن ابن ماجة برقم (2561)
، وقال الترمذي : "وإنما يعرف هذا الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه
وسلم من هذا الوجه ، وروى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو فقال :
"ملعون من عمل عمل قوم لوط" ولم يذكر فيه القتل وذكر فيه : "ملعون
من أتى بهيمة".
(7) في ت ، أ : "أو لم يكن محصنا".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) في ت ، أ : "أشرافهم".
(10) في أ : "الطفيف".
(11) في ت : "عظيم".
(4/342)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
{
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ
اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
(86) }
ينهاهم (1) أولا عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس ، ثم أمرهم بوفاء الكيل
والوزن بالقسط آخذين ومعطين ، ونهاهم عن العيث (2) في الأرض بالفساد ، وقد كانوا
يقطعون الطريق.
وقوله : { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } قال ابن عباس : رزق الله خَيْر لكم.
وقال الحسن : رزق الله خير [لكم] (3) من بخسكم الناس.
وقال الربيع بن أنس : وصية الله خير لكم.
وقال مجاهد : طاعة الله [خير لكم] (4).
وقال قتادة : حظكم من الله خير لكم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : "الهلاك" في العذاب ،
و"البقية" في الرحمة.
وقال أبو جعفر بن جرير : { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : ما يفضُل لكم
من الربح بعد وفاء الكيل والميزان { خَيْرٌ لَكُمْ } أي : من أخذ أموال الناس قال
: وقد روي هذا عن ابن عباس.
قلت : ويشبه قوله تعالى : { قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ
أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } [المائدة : 100].
وقوله : { وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : برقيب ولا حفيظ ، أي : افعلوا
ذلك لله عز وجل. لا تفعلوه (5) ليراكم الناس ، بل لله عز وجل.
{ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ
آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ
الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) }
يقولون له على سبيل التهكم ، قَبَّحهم الله : { أَصَلاتُكَ } (6) ، قال الأعمش :
أي : قرآنك (7) { تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } أي : الأوثان
والأصنام ، { أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } فنترك التطفيف
(8) على قولك ، هي أموالنا نفعل فيها ما نريد.
[قال الحسن] (9) في قوله : { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ
آبَاؤُنَا } (10) إيْ والله ، إن صلاته
__________
(1) في ت ، أ : "نهاهم".
(2) في ت : "العيب".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت ، "لا تفعلوا".
(6) في ت : "أصلواتك".
(7) في أ : "قراءتك".
(8) في أ : "الطفيف".
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) في ت : "أصلواتك".
(4/343)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
لتأمرهم
أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم.
وقال الثوري في قوله : { أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } يعنون
الزكاة.
وقولهم : { إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } قال ابن عباس ، وميمون بن
مِهْرَان ، وابن جُرَيْج ، وابن أسلم ، وابن جرير : يقولون ذلك - أعداء الله - على
سبيل الاستهزاء ، قبحهم الله ولعنهم عن رحمته ، وقد فَعَلْ.
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي
وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا
أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي
إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) }
يقول لهم أرأيتم يا قوم { إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على
بصيرة فيما أدعو إليه ، { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } قيل : أراد
النبوة. وقيل : أراد الرزق الحلال ، ويحتمل الأمرين.
وقال الثوري : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }
أي : لا أنهاكم عن شيء (1) وأخالف أنا في السر فأفعله خفية (2) عنكم ، كما قال
قتادة في قوله : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ
} يقول : لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركَبَه (3) { إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ } أي : فيما آمركم وأنهاكم ، إنما مرادي إصلاحكم جهدي وطاقتي ، {
وَمَا تَوْفِيقِي } أي : في إصابة الحق فيما أريده { إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ } في جميع أموري ، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع ، قاله مجاهد
وغيره.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا أبو قَزْعَةَ سُوَيد
بن حُجَير (4) الباهلي ، عن حكيم بن معاوية ، عن أبيه : أن أخاه مالكًا قال : يا
معاوية ، إن محمدًا أخذ جيراني ، فانطَلق إليه ، فإنه قد كلمك وعرفك ، فانطلقت معه
فقال : دع لي جيراني ، فقد كانوا أسلموا. فأعرض عنه. [فقام مُتَمَعطًا] (5) فقال :
أما والله لئن فَعلتَ إن الناس يزعمون أنك تأمر بالأمر وتخالف إلى غيره. وجعلت
أجرّه وهو يتكلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تقول ؟" فقال
: إنك والله لئن فعلت ذلك. إن الناس ليزعمون أنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره.
قال : فقال : "أوَ قد قالوها - أو قائلهم - ولئن فعلت ذلك ما ذاك إلا عليّ ،
وما عليهم من ذلك من شيء ، أرسلوا له جيرانه (6).
وقال أحمد أيضا : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن بَهْز (7) بن حكيم ، عن
أبيه ، عن جده
__________
(1) في ت ، أ : "الشيء".
(2) في ت : "خيفة".
(3) في أ : "وأرتكبه".
(4) في ت : "ابن حجر".
(5) زيادة من ت ، أ ، والمسند. ،
(6) المسند (4/447).
(7) في ت ، أ : "شهر".
(4/344)
قال
: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناسًا من قومي في تُهَمة فحبسهم ، فجاء رجل من
قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، فقال : يا محمد ، علام تحبس
جيرتي ؟ فصَمت رسول الله صلى الله عليه وسلم [عنه] (1) فقال : إن ناسًا ليقولون :
إنك تنهى عن الشيء وتستخلي به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما يقول
؟" قال : فجعلت أعرض بينهما الكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دَعوة لا
يفلحون بعدها أبدًا ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به حتى فهمها ، فقال :
"أو قد قالوها - أو : قائلها منهم - والله لو فعلتُ لكان عليّ وما كان عليهم
، خلوا له عن جيرانه" (2).
ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا سليمان بن
بلال ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال :
سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا
سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب
، فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تُنكره قلوبكم ، وتنفر منه أشعاركم
وأبشاركم ، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه" (3).
هذا (4) إسناد صحيح ، وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث : "إذا دخل أحدكم المسجد
فليقل : اللهم ، افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل : اللهم ، إني أسألك من
فضلك" (5).
ومعناه - والله أعلم - : مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به ومهما يكن من مكروه
فأنا أبعدكم منه ، { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ
[عَنْهُ] } (6).
وقال قتادة ، عن عَزْرَة (7) عن الحسن العُرَني ، عن يحيى بن الجزار ، عن مسروق ،
أن امرأة جاءت ابن مسعود قالت (8) أتنهى عن الواصلة ؟ قال : نعم. فقالت [المرأة]
(9) فلعله في بعض نسائك ؟ فقال : ما حفظت إذا وصية العبد الصالح : { وَمَا أُرِيدُ
أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }.
وقال عثمان بن أبي شيبة : حدثنا جرير ، عن أبي سليمان العتبي (10) قال : كانت
تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي ، فيكتب في آخرها : وما كانت (11)
من ذلك إلا كما قال العبد الصالح : { وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }.
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(2) المسند (5/2) ورواه أبو داود في السنن برقم (3630) عن عبد الرزاق والترمذي في
السنن برقم (1417) عن ابن المبارك كلاهما من طريق معمر به مختصرا جدا ، وقال
الترمذي : "حديث بهز عن أبيه عن جده حديث حسن".
(3) المسند (3/497).
(4) في ت ، أ : "وهذا".
(5) صحيح مسلم برقم (713).
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت ، أ : "عروة".
(8) في ت : "فقالت".
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) في ت ، أ : "الضبي".
(11) في ت : "وما كنت" ، وفي أ : "وما كتب".
(4/345)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
{
وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ
قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ
بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي
رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) }
يقول لهم : { وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي } أي : لا تحملنكم عداوتي
وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد ، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم
نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط من النقمة والعذاب.
قال قتادة : { وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي } يقول : لا يحملنكم
فراقي.
وقال السدي : عداوتي ، على أن تتمادوا في الضلال والكفر ، فيصيبكم من العذاب ما
أصابهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج
، حدثنا ابن أبي غَنيَّة ، حدثني عبد الملك بن أبي سليمان ، عن أبي ليلى الكندي
قال : كنت مع مولاي أمسك دابته ، وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان ؛ إذ أشرف علينا
من داره فقال : { وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ
مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } يا قوم
، لا تقتلوني ، إنكم إن تقتلوني كنتم هكذا ، وشَبَّك بين أصابعه.
وقوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } [قيل : المراد في الزمان ، كما
قال قتادة في قوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ } يعني] (1) إنما
أهلكوا (2) بين أيديكم بالأمس ، وقيل : في المكان ، ويحتمل الأمران ، {
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } أي : استغفروه من سالف الذنوب
، وتوبوا فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة ، { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } أي
: لمن تاب وأناب.
{ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ
فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا
بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ
وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
(92) }
يقولون : { يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ } أي : ما نفهم ولا
نعقل كثيرًا من قولك ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب. { وَإِنَّا
لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا }.
قال (3) سعيد بن جبير ، والثوري : كان ضرير البصر. قال الثوري : وكان يقال له :
خطيب الأنبياء.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "هلكوا".
(3) في ت : "وقال".
(4/346)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
[وقال
السدي : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا } قال : أنت واحد] (1).
[وقال أبو روق : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا } يعنون : ذليلا ؛ لأن
عشيرتك ليسوا على دينك ، فأنت ذليل ضعيف] (2).
{ وَلَوْلا رَهْطُكَ } أي : قومك وعشيرتك ؛ لولا معزة قومك علينا لرجمناك ، قيل
(3) بالحجارة ، وقيل : لسبَبْنَاك ، { وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي :
ليس لك عندنا معزة.
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ } يقول : أتتركوني
لأجل قومي ، ولا تتركوني إعظاما لجناب الله أن تنالوا نبيه بمساءة. وقد اتخذتم
جانب الله { وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا } أي : نبذتموه خلفكم ، لا تطيعونه ولا
تعظمونه ، { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي : هو يعلم جميع أعمالكم
وسيجزيكم بها.
{ وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ
مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي
مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا
بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) }
لما يئس نبيّ الله شعيب من استجابة قومه له ، قال : يا قوم ، { اعْمَلُوا عَلَى
مَكَانَتِكُمْ } أي : على طريقتكم ، وهذا تهديد ووعيد شديد ، { إِنِّي عَامِلٌ }
على طريقتي ومنهجي { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي :
في الدار الآخرة ، { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } أي : مني ومنكم ، { وَارْتَقِبُوا } أي
: انتظروا { إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ }.
قال الله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا } وهم قومه ، {
الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } وقوله { جَاثمِيِنَ } أي :
هامدين لا حِرَاك بهم. وذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة ، وفي الأعراف رجفة ، وفي
الشعراء عذاب يوم الظلة ، وهم أمة واحدة ، اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقَمُ
كلها. وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ، ففي الأعراف لما قالوا : {
لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا }
[الأعراف : 88] ، ناسب أن يذكر هناك الرجفة ، فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها ،
وأرادوا إخراج نبيهم منها ، وهاهنا لما أساءوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ناسب
ذكر الصيحة التي أسكتتهم (4) وأخمدتهم ، وفي الشعراء لما قالوا : { فَأَسْقِطْ
عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [الشعراء :
189] ، قال { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الشعراء : 189] ، وهذا من الأسرار الغريبة الدقيقة ، ولله الحمد
والمنة كثيرًا دائمًا.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "قتل".
(4) في ت ، أ : "أسكنتهم".
(4/347)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
وقوله
: { كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } أي : يعيشوا في دارهم قبل ذلك ، { أَلا
بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } وكانوا جيرانهم قريبًا منهم في الدار
، وشبيهًا بهم في الكفر وقَطْع الطريق ، وكانوا عرَبا شبههم.
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ
بِرَشِيدٍ (97) }
(4/348)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
{
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ
الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) }
يقول تعالى مخبرًا عن إرسال موسى ، عليه السلام ، بآياته وبيناته ، وحججه ودلائله
الباهرة القاطعة إلى فرعون لعنه الله ، وهو ملك ديار مصر على أمة القبط ، { فَاتَّبَعُوا
أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي : مسلكه ومنهجه وطريقته في الغي والضلال ، { وَمَا أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي : ليس فيه رشد ولا هدى ، وإنما هو جهل وضلال ، وكفر
وعناد ، وكما أنهم اتبعوه في الدنيا ، وكان مُقَدمهم ورئيسهم ، كذلك هو يُقدمهم
يوم القيامة إلى نار جهنم ، فأوردهم إياها ، وشربوا من حياض (1) رَدَاها ، وله في
ذلك الحظ الأوفر ، من العذاب الأكبر ، كما قال تعالى : { فَعَصَى فِرْعَوْنُ
الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا } [المزمل : 16] ، وقال تعالى : {
فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا
رَبُّكُمُ الأعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [النازعات : 21 - 26] ، وقال تعالى : {
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ
الْمَوْرُودُ } وكذلك شأن المتبوعين يكونون مُوفرين في العذاب يوم المعاد ، كما
قال تعالى : { [قَالَ] لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 38] ،
(2) وقال تعالى إخبارًا عن الكَفَرة أنهم يقولون في النار : { رَبَّنَا إِنَّا
أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ
ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [الأحزاب : 67 ،
68].
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا أبو الجهم ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ،
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "امرؤ القيس حامل
لواء شعراء الجاهلية إلى النار" (3).
وقوله : { وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ
الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } أي : أتبعناهم زيادة على ما جازيناهم من عذاب النار لعنة
في هذه الحياة الدنيا ، { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ }.
قال مجاهد : زيدوا لعنة يوم القيامة ، فتلك لعنتان.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } قال :
لعنة الدنيا والآخرة ، وكذا
__________
(1) في ت : "خاص".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) المسند (2/228).
(4/348)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
قال
الضحاك ، وقتادة ، وهكذا قوله (1) تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ
إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي
هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ }
[القصص : 41 ، 42] ، وقال تعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا
وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ } [غافر : 46].
{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ
(100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ
عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا
جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) }
لما ذكر تعالى خبر هؤلاء الأنبياء ، وما جرى لهم مع أممهم ، وكيف أهلك الكافرين
ونَجّى المؤمنين قال : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى } أي : من أخبارها {
نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ } (2) أي : عامر ، { وَحَصِيدٌ } أي : هالك
دائر ، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } أي : إذ أهلكناهم ، { وَلَكِنْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ } أي : بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم ، { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ
آلِهَتُهُمُ } أي : أصنامهم وأوثانهم التي كانوا يعبدونها ويدعونها ، { مِنْ دُونِ
اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : ما نفعوهم ولا أنقذوهم لما جاء أمر الله بإهلاكهم ، {
وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } (3).
قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما : أي غير تخسير ، وذلك أن سبب هلاكهم ودَمَارهم إنما
كان باتباعهم تلك الآلهة وعبادتهم إياها (4) فبهذا أصابهم ما أصابهم ، وخسروا بهم
، في الدنيا والآخرة.
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) }
يقول تعالى : وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بنظائرهم
وأشباههم وأمثالهم ، { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } وفي الصحيحين عن أبي موسى
الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله
ليُملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يُفلته" ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه
وسلم : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ
أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (5).
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ
مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا
لأجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) }
__________
(1) في ت ، أ : "وهذا كقوله".
(2) في ت : "نقصها" وهو خطأ.
(3) في ت : "تثبيت".
(4) في ت : "إياهم".
(5) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583).
(4/349)
واعتبارا
على صدق موعُودنا في الدار الآخرة ، { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ
آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ } [غافر : 51] ،
وقال تعالى : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم
: 13 ، 14].
وقال تعالى : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ } (1) أي : أولهم وآخرهم ،
فلا يبقى منهم أحد ، كما قال : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ
أَحَدًا } [الكهف : 47].
{ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } أي : يوم عظيم تحضره الملائكة كلهم ، ويجتمع فيه
الرسل جميعهم ، وتحشر فيه الخلائق بأسرهم ، من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب
، ويحكم فيهم (2) العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ، وإن تك حسنة يضاعفها.
وقوله : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ } أي : ما نؤخر إقامة يوم
القيامة إلا لأنه (3) قد سبقت كلمة الله وقضاؤه وقدره ، في وجود أناس معدودين من
ذرية آدم ، وضرب مدة معينة إذا انقضت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم من ذرية آدم
، أقام الله الساعة ؛ ولهذا قال : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ } أي
: لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها ، { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلا بِإِذْنِهِ } (4) يقول : يوم يأتي هذا اليوم وهو يوم القيامة ، لا يتكلم أحد
[يومئذ] (5) إلا بإذن الله تعالى ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ : 38] ، وقال تعالى : { وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ
لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } [طه : 108] ، وفي الصحيحين عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل : "ولا يتكلم يومئذ إلا
الرسل ، ودعوى الرسل يومئذ : اللهُم سَلّم سلّم (6) (7).
وقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } أي : فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد ،
كما قال : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } [الشورى : 7].
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا موسى بن حيان ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ،
حدثنا سليمان بن (8) سفيان ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن عمر (9)
رضي الله عنه ، قال : لما نزلت { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } سألت النبي صلى
الله عليه وسلم ، قلت : (10) يا رسول الله ، علام نعمل (11) ؟ على شيء قد فُرغ منه
، أم على شيء لم يفرغ منه ؟ فقال : "على شيء قد فرغ منه يا عمر وجرت به
الأقلام ،
__________
(1) قبلها في ت ، أ : "إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة".
(2) في أ : "فيه".
(3) في ت ، أ : "إلا أنه".
(4) في ت : "يأتي" وفي أ. "يأتيهم".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت : "اللهم سلم اللهم سلم".
(7) صحيح البخاري برقم (806) وصحيح مسلم برقم (182).
(8) في ت ، أ : "أبو".
(9) في أ : "عمر بن الخطاب".
(10) في ت : "فقلت".
(11) في ت : "على ما يعمل".
(4/350)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
ولكن
كل ميسر لما خلق له" (1).
ثم بين (2) تعالى حال الأشقياء وحال السعداء ، فقال :
{ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ
(106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ
رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) }
يقول تعالى : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } قال ابن عباس : الزفير في الحلق
، والشهيق في الصدر أي : تنفسهم زفير ، وأخذهم النفس شهيق ، لما هم فيه من العذاب
، عياذا بالله من ذلك.
{ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال الإمام أبو جعفر
بن جرير : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت : "هذا
دائم دوامَ السموات والأرض" ، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليلُ والنهار
، وما سمر ابنا سَمير ، وما لألأت العُفْر (3) بأذنابها. يعنون بذلك كلمة :
"أبدا" ، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم ، فقال : { خَالِدِينَ
فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ }.
قلت : ويحتمل أن المراد بما دامت السموات والأرض : الجنس ؛ لأنه لا بدّ في عالم
الآخرة من سموات وأرض ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ
الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [إبراهيم : 48] ؛ ولهذا قال الحسن البصري في قوله : {
مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال : تبدل سماء غير (4) هذه السماء ، وأرض
غير هذه الأرض ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس
قوله : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ } قال : لكل جنة سماء وأرض.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما دامت الأرض أرضًا ، والسماء سماءً.
وقوله : { إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } كقوله
تعالى : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ
رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام : 128].
وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء ، على أقوال كثيرة ، حكاها الشيخ
أبو الفرج بن الجوزي في كتابه "زاد المسير" (5) وغيره من علماء التفسير
، ونقل كثيرًا منها الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، في كتابه (6) واختار هو
ما نقله عن خالد بن مَعْدَان ، والضحاك ، وقتادة ، وأبي سِنَان ، ورواه ابن أبي
حاتم عن ابن عباس والحسن أيضًا : أن الاستثناء عائد على العُصاة من أهل التوحيد ،
ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين ، من الملائكة والنبيين والمؤمنين ،
__________
(1) ورواه الترمذي في السنن برقم (3111) عن بندار ، عن أبي عامر العقدي - عبد
الملك بن عمرو به - وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه لا نعرفه
إلا من حديث عبد الملك بن عمرو".
(2) في أ : "وبين".
(3) في ت : : الغفر".
(4) في ت : "يبدل بهما غير".
(5) زاد المسير (4/160 ، 161).
(6) تفسير الطبري (15/485).
(4/351)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
حين
يشفعون في أصحاب الكبائر ، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين ، فتخرج من النار من لم
يعمل خيرا قط ، وقال يوما من الدهر : لا إله إلا الله. كما وردت بذلك الأخبار
الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس ،
وجابر ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وغيرهم من الصحابة (1) ، ولا يبقى بعد ذلك في
النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها. وهذا الذي عليه كثير من
العلماء قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة. وقد روي في تفسيرها عن أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن مسعود (2) ، وأبي هريرة ، وعبد الله بن
عمرو ، وجابر ، وأبي سعيد ، من الصحابة. وعن أبي مِجْلَز ، والشعبي ، وغيرهما من
التابعين. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة -
أقوال غريبة. وورد حديث غريب في معجم الطبراني الكبير ، عن أبي أمامة صُدَىّ بن عَجْلان
الباهلي ، ولكن سنده ضعيف ، والله أعلم.
وقال قتادة : الله أعلم بثنياه.
وقال السدي : هي منسوخة بقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } [النساء : 57].
{ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) }
يقول تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا } وهم أتباع الرسل ، { فَفِي
الْجَنَّةِ } أي : فمأواهم الجنة ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين مقيمين فيها
أبدا ، { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ } معنى
الاستثناء هاهنا : أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ، ليس أمرا واجبا بذاته ، بل
هو موكول إلى مشيئة الله تعالى ، فله المنة عليهم [دائمًا] (3) ، ولهذا يلهمون
التسبيح والتحميد كما يلهمون النَّفس.
وقال الضحاك ، والحسن البصري : هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في النار ، ثم
أخرجوا منها. وعقب ذلك بقوله : { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أي : غير مقطوع (4) -
قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية وغير واحد ، لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره
المشيئة أن ثم انقطاعًا ، أو لبسا ، أو شيئًا (5) بل ختم له بالدوام وعدم
الانقطاع. كما بين هنا (6) أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته ،
وأنه (7) بعَدْله وحكمته عذبهم ؛ ولهذا قال : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا
يُرِيدُ } [هود : 107] كَمَا قَالَ { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْأَلُونَ } [الأنبياء : 23] ، وهنا طيب القلوب وثَبَّت المقصود بقوله : {
عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }.
__________
(1) انظر أحاديث الشفاعة عند تفسير سورة الإسراء في أولها.
(2) في ت : "وابن مسعود وابن عباس".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في أ : "منقطع".
(5) في ت : "ثم انقطاع أو لبس أو شيء".
(6) في ت ، أ : "هناك".
(7) في ت : "وأن".
(4/352)
يا
أهل الجنة ، خُلُود فلا (1) موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا (2) موت (3).
وفي الصحيحين (4) أيضا : "فيقال (5) يا أهل الجنة ، إن لكم أن تعيشوا فلا
تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهْرَموا أبدا ، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا
أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبَأسوا أبدا" (6).
__________
(1) في ت ، أ : "بلا".
(2) في ت ، أ : "بلا".
(3) صحيح البخاري برقم (4730) وصحيح مسلم برقم (2849) من حديث أبي سعيد الخدري رضي
الله عنه.
(4) في أ : "وفي الصحيح".
(5) في ت ، أ : "فقال".
(6) صحيح مسلم برقم (2837) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما ، ولم أعثر
عليه في البخاري.
(4/353)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
{
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا
يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ
مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ
مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ
أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) }
يقول تعالى : { فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ } المشركون ، إنه
باطل وجَهل وضلال ، فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل ، أي : ليس لهم
مُستَنَد فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات ، وسيجزيهم الله على ذلك أتم
الجزاء فيعذب كافرهم عذابًا لا يعذبه أحدا من العالمين ، وإن كان لهم حسنات فقد
وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة.
قال سفيان الثوري ، عن جابر الجُعْفي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَإِنَّا
لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ } قال : ما (1) وعدوا فيه من خير أو
شر.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص. ثم ذكر
تعالى أنه آتى موسى الكتاب ، فاختلف الناس فيه ، فمن مؤمن به ، ومن كافر به ، فلك
بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد أسوة ، فلا يغيظنك تكذيبهم لك ، ولا يهيدنَّك
ذلك.
{ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } قال ابن جرير :
لولا ما تقدم من تأجيله العذاب (2) إلى أجل معلوم ، لقضى الله بينهم.
ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة ، أنه لا يعذب أحدا إلا بعدم (3) قيام الحجة عليه ،
وإرسال الرسول إليه ، كما قال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولا } [الإسراء : 15] ؛ فإنه قد قال في الآية الأخرى : { وَلَوْلا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى فَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ } [طه : 129 ، 130].
__________
(1) في ت : "وبما".
(2) في ت : "العباد" وفي أ : "الميعاد".
(3) في ت ، أ : "إلا بعد".
(4/353)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
ثم
أخبر أن الكافرين في شك - مما جاءهم به الرسول - قوي ، فقال { وَإِنَّهُمْ لَفِي
شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ }.
ثم أخبرنا (1) تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من الأمم ، ويجزيهم بأعمالهم ، إن
خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ، فقال : { وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ
رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : عليم بأعمالهم
جميعها ، جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها.
وفي هذه الآية قراءات كثيرة ، ويرجع معناها إلى هذا الذي ذكرناه ، كما في قوله
تعالى : { وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [يس : 32].
{ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ
لا تُنْصَرُونَ (113) }
يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة ، وذلك من أكبر
العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ونهى عن الطغيان ، وهو البغي ، فإنه
مَصرَعة حتى ولو كان على مشرك. وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد ، لا يغفل عن
شيء ، ولا يخفى عليه شيء.
وقوله : { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } قال علي بن أبي طلحة ، عن
ابن عباس : لا تُدهنُوا وقال العوفي ، عن ابن عباس : هو الركون إلى الشرك.
وقال أبو العالية : لا ترضوا أعمالهم.
وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس : ولا تميلوا إلى الذين ظلموا وهذا القول حسن ، أي
: لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم ، { فَتَمَسَّكُمُ
النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ
} أي : ليس لكم من دونه (2) من ولي ينقذكم ، ولا ناصر يخلصكم من عذابه.
{ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ }
قال : يعني الصبح والمغرب وكذا قال الحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال الحسن - في رواية - وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم : هي الصبح والعصر.
وقال مجاهد : هي الصبح في أول النهار ، والظهر والعصر من آخره. وكذا قال محمد بن
كعب القُرَظي ، والضحاك في رواية عنه.
__________
(1) في ت ، أ : "ثم أخبر".
(2) في أ : "من دون الله".
(4/354)
وقوله
: { وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وغيرهم : يعني
صلاة العشاء.
وقال الحسن - في رواية ابن المبارك ، عن مبارك بن فَضَالة ، عنه : { وَزُلَفًا
مِنَ اللَّيْلِ } يعني المغرب والعشاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"هما زُلْفَتَا (1) الليل : المغرب والعشاء" (2). وكذا قال مجاهد ،
ومحمد بن كعب ، وقتادة ، والضحاك : إنها صلاة المغرب والعشاء.
وقد يحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء ؛ فإنه إنما
كان يجب من الصلاة صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس ، وصلاة قبل غروبها. وفي أثناء
الليل قيام عليه وعلى الأمة ، ثم نسخ في حق الأمة ، وثبت وجوبه عليه ، ثم نسخ عنه
أيضًا ، في قول ، والله أعلم.
وقوله : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } يقول : إن فعل الخيرات
يكفر الذنوب السالفة ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، عن
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعتُ من رسول الله صلى الله عليه
وسلم حديثا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه ، وإذا حدثني عنه أحد استحلفته ،
فإذا حلف لي صدقته ، وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : "ما من مسلم يذنب ذنبا ، فيتوضأ ويصلي ركعتين ، إلا غفر
له" (3).
وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان : أنه توضأ لهم كوضُوء رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، ثم قال : هكذا رأيتُ رسول الله يتوضأ ، وقال : "من توضأ نحو
وضوئي هذا ، ثم صلى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه ، غُفِرَ له ما تقدم من
ذنبه" (4).
وروى الإمام أحمد ، وأبو جعفر بن جرير ، من حديث أبي عَقِيل زُهْرَة بن مَعْبَد :
أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول : جلس عثمان يوما وجلسنا معه ، فجاءه المؤذن فدعا
عثمان بماء في إناء أظنه سيكون فيه قدر مُدّ ، فتوضأ ، ثم قال : رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ، ثم قال : "من توضأ وضوئي هذا ، ثم قام
فصلى (5) صلاة الظهر ، غُفِر له ما كان بينه وبين صلاة الصبح ، ثم صلى العصر غفر
له ما بينه وبين صلاة الظهر ، ثم صلى المغرب غفر له ما بينه وبين صلاة العصر ، ثم
صلى العشاء غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب ، ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ، ثم إن
قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء ، وهن الحسنات يذهبن
السيئات" (6).
وفي الصحيح (7) عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال : "أرأيتم لو أن
__________
(1) في ت : "زلفيا".
(2) رواه الطبري في تفسيره (15/508).
(3) المسند (1/2) وسنن أبي داود برقم (1521) وسنن الترمذي برقم (406) والنسائي في
السنن الكبرى برقم (10247) وسنن ابن ماجه برقم (1395) وقال الترمذي : "حديث
علي حديث حسن ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
(4) صحيح البخاري برقم (159) وصحيح مسلم برقم (245).
(5) في ت : "يصلي".
(6) المسند (1/71) وتفسير الطبري (15/511).
(7) في ت : "وفي الصحيحين".
(4/355)
بباب
أحدكم نهرًا غَمْرًا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ، هل يُبقي من درنه شيئا ؟"
قالوا : لا يا رسول الله : قال : "وكذلك الصلوات الخمس ، يمحو الله بهن
الذنوب والخطايا" (1).
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو الطاهر (2) وهارون بن سعيد قالا حدثنا ابن وَهْب ،
عن أبي صخر : أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حَدَثه عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ،
ورمضان إلى رمضان ، مُكَفِّرَات ما بينهن إذا (3) اجتنبت الكبائر" (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحَكَم بن نافع (5) حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ضَمْضَم
بن زُرْعَة ، عن شُرَيْح بن عبيد ، أن أبا رُهْم السمعي كان يحدّث : أن أبا أيوب
الأنصاري حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : "إن كل صلاة تحطّ ما
بين يديها من خطيئة" (6)
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا محمد بن عوف (7) حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أبي
، عن ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم "جعلت الصلوات كفارات لما بينهن ؛ فإن الله قال : { إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (8).
وقال البخاري : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، عن سليمان التيمي ،
عن أبي عثمان النهدي ، عن ابن مسعود ؛ أن رجلا أصاب من امرأة قُبْلَة ، فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
} فقال الرجل : إلى هذا يا رسول الله ؟ (9) قال : "لجميع أمتي كلهم".
هكذا رواه في كتاب الصلاة ، وأخرجه في التفسير عن مُسَدَّد ، عن يزيد بن زُرَيع ،
بنحوه (10) ورواه مسلم ، وأحمد ، وأهل السنن إلا أبا داود ، من طرق عن أبي عثمان
النهدي ، واسمه عبد الرحمن بن مُلّ ، به (11).
وروى الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير - وهذا
لفظه -
__________
(1) صحيح البخاري برقم (528) وصحيح مسلم برقم (667).
(2) في ت : "أبو طاهر".
(3) في ت : "ما".
(4) صحيح مسلم برقم (233).
(5) في أ : "بن رافع".
(6) المسند (5/413).
(7) في ت : "عون".
(8) تفسير الطبري (15/513) ومحمد بن إسماعيل ضعيف ولم يسمع من أبيه.
(9) في ت : "يا رسول +ألى هذا".
(10) صحيح البخاري برقم (526) وبرقم (4687).
(11) وصحيح مسلم برقم (2763) والمسند (1/385) وسنن الترمذي برقم (3114) والنسائي
في السنن الكبرى برقم (11247) وسنن ابن ماجه برقم (1398).
(4/356)
من
طُرُق : عن سِمَاك بن حرب : أنه سمع إبراهيم بن يزيد يُحدِّث عن علقمة والأسود ،
عن ابن مسعود قال : جاء رجل إلى النبي (1) صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله
، إني وجدت امرأة في بستان ، ففعلت بها كل شيء ، غير أني لم أجامعها ، قَبَّلتها
ولزمتها ، ولم أفعل غير ذلك ، فافعل بي ما شئت. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه
وسلم شيئا ، فذهب الرجل ، فقال عمر : لقد ستر الله عليه ، لو ستر على نفسه. فأتبعه
رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرَه ثم قال : "ردوه عليّ". فردّوه عليه
، فقرأ عليه : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }
فقال معاذ - وفي رواية عمر - : يا رسول الله ، أله وحده ، أم للناس كافة ؟ فقال :
"بل للناس كافة" (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا أبان بن إسحاق ، عن الصباح بن محمد
، عن مُرّة الهَمْداني ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن الله قسم بينكم أخلاقكم (3) كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي
(4) الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين (5) إلا من أحب. فمن أعطاه الله
الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن
حتى يأمن جاره بوائقه". قال : قلنا : وما بوائقه يا نبي الله (6) ؟ قال :
"غشه وظلمه ، ولا يكسِبُ عبد مالا حراما فينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتصدق
فيقبل منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زادَه إلى النار ، إن الله لا يمحو السيئ
بالسيئ ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" (7).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم
قال : كان فلان ابن معتب رجلا من الأنصار ، فقال : يا رسول الله ، دخلت على امرأة
فنِلْتُ منها ما ينال الرجل من أهله ، إلا أني لم أجامعها فلم يدر رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما يجيبه ، حتى نزلت هذه الآية : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } (8) فدعاه رسول الله ، فقرأها عليه (9).
وعن ابن عباس : أنه عمرو بن غَزِيَّة الأنصاري التمار. وقال مقاتل : هو أبو نفيل
عامر بن قيس الأنصاري ، وذكر الخطيب البغدادي أنه أبو اليَسر : كعب بن عمرو.
__________
(1) في ت ، أ : "رسول الله".
(2) المسند (1/445) وصحيح مسلم برقم (2763) وسنن أبي داود برقم (4468) وسنن
الترمذي برقم (3112) والنسائي في السنن الكبرى برقم (7323) وتفسير الطبري
(15/515).
(3) في ت ، أ : "آجالكم".
(4) في ت : "معطى".
(5) في ت ، أ : "الآخرة".
(6) في أ : "يا رسول الله".
(7) المسند (1/387).
(8) في ت ، أ : "أقم" وهو خطأ.
(9) تفسير الطبري (15/519).
(4/357)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا يونس وعفان قالا حدثنا حماد - يعني : ابن سلمة - عن علي بن
زيد - قال عفان : أنبأنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مٍهْران ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا
أتى عمر قال (1) امرأة جاءت تبايعه ، فأدخلتها الدولج ، فأصبت منها ما دون الجماع
، فقال : ويحك. لعلها مُغِيبة في سبيل الله ؟ قال : أجل. قال : فائت أبا بكر
فاسأله (2) قال : فأتاه فسأله ، فقال : لعلها مُغيبة في سبيل الله ؟ فقال مثل قول
عمر ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل ذلك ، قال : "فلعلها
مُغيبة في سبيل الله". ونزل القرآن : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ
النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ
} (3) إلى آخر الآية ، فقال : يا رسول الله ، ألي خاصة أم للناس عامة ؟ فضرب -
يعني : عمر - صدره (4) بيده وقال : لا ولا نُعمَة عين ، بل للناس عامة. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "صدق عمر" (5).
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير من حديث قيس بن الربيع ، عن عثمان بن موهب ، عن موسى
بن طلحة ، عن أبي اليسر كعب بن عمرو الأنصاري قال : أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم
تمرا ، فقلت : إن في البيت تمرا أطيب وأجود من هذا ، فدخلت ، فأهويت إليها فقبلتها
، فأتيت عمر فسألته ، فقال : اتق الله ، واستر على نفسك ، ولا تخبرنّ أحدا. فلم
أصبر حتى أتيت أبا بكر فسألته ، فقال : اتق الله ، واستر على نفسك ، ولا تخبرنّ
أحدا. قال : فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فقال :
"أخَلَفتَ رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا ؟" حتى ظننت أني من
أهل النار ، حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ. فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة
، فنزل جبريل ، فقال : "[أين] (6) أبو اليسر ؟". فجئت ، فقرأ علي : {
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } إلى { ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ } فقال إنسان : يا رسول الله ، أله خاصة أم للناس عامة ؟ قال (7)
" لِلنَّاس عامة" (8).
وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني : حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي ، حدثنا يوسف
بن موسى ، حدثنا جرير ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن
معاذ بن جبل ؛ أنه كان قاعدا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال : يا
رسول الله ، ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له ، فلم يدع شيئا يصيبه الرجل
من امرأته إلا قد أصاب منها ، غير أنه لم يجامعها ؟ فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم : "توضأ وضوءا حَسَنا ، ثم قم فصل" (9) قال : فأنزل الله عز وجل
هذه الآية ، يعني قوله : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ
اللَّيْلِ } فقال معاذ : أهي له خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال : "بل للمسلمين
عامة".
__________
(1) في ت : "فقال".
(2) في ت : "فسله".
(3) في ت ، أ : "أقم" وهو خطأ.
(4) في ت : "عن صدره".
(5) المسند (1/245) وعلى بن زيد ضعيف.
(6) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(7) في ت : "فقال".
(8) تفسير الطبري (15/523).
(9) في ت : "فصلى".
(4/358)
ورواه
ابن جرير من طرق ، عن عبد الملك بن عمير ، به (1).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن يحيى بن جعدة ؛ أن
رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة وهو جالس مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فاستأذنه لحاجة ، فأذن له ، فذهب يطلبها فلم يجدها ، فأقبل الرجل يريد
أن يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر ، فوجد المرأة جالسة على غدير ، فدفع في
صدرها وجلس بين رجليها ، فصار ذكره مثل الهُدْبة ، فقام نادما حتى أتى النبي صلى
الله عليه وسلم فأخبره بما صنع ، فقال له : "استغفر ربك ، وصلّ أربع
ركعات". قال : وتلا عليه : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ
وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } الآية (2).
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن أحمد بن شَبّويه ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ،
حدثني عمرو بن الحارث حدثني عبد الله بن سالم ، عن الزبيدي ، عن سليم بن عامر ؛
أنه سمع أبا أمامة يقول : إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول
الله ، أقم فيّ حد الله - مرة أو ثنْتِين - فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، ثم أقيمت الصلاة ، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال :
"أين هذا الرجل القائل : أقم فيّ حد الله ؟" قال : أنا ذا : قال :
"أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا ؟" قال : نعم. قال : "فإنك من
خطيئتك كما ولدتك أمك ، ولا تعد". وأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه
وسلم (3) : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }
(4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أنبأنا علي بن زيد ، عن أبي
عثمان قال : كنت مع سلمان الفارسي تحت شجرة ، فأخذ منها غُصْنا يابسا فهزّه حتى
تحاتَّ ورقة (5) ، ثم قال : يا أبا عثمان ، ألا تسألني لم أفعل هذا ؟ فقلت : لم
تفعله (6) ؟ قال : هكذا فعل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه تحت شجرة ،
فأخذ منها يابسا فهزه حتى تحات ورقة ، فقال : "يا سلمان ، ألا تسألني : لم
أفعل هذا ؟". قلت : ولم تفعله ؟ فقال : "إن المسلم إذا توضأ فأحسن
الوضوء ، ثم صلى الصلوات الخمس ، تحاتت خطاياه كما يتحات (7) هذا الورق. وقال : {
وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } (8) (9)
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ميمون
بن أبي
__________
(1) سنن الدارقطني (1/134) وتفسير الطبري (15/520 - 522) ورواه الترمذي في السنن
برقم (3113) من طريق عبد الملك بن عمير به ، وقال الترمذي : "هذا حديث ليس
إسناده بمتصل ، عبد الله بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ ، وروى شعبة هذا الحديث عن
عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
مرسل".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/274).
(3) في ت : "على رسوله".
(4) تفسير الطبري (15/521) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2765) من طريق شداد بن عبد
الله ، عن أبي أمامة بنحوه.
(5) في ت ، أ : "ورقه".
(6) في ت : "قلت ولم يفعله".
(7) في ت : "يتحاتت".
(8) في ت : "أقم" وهو خطأ.
(9) المسند (5/437).
(4/359)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
شبيب
، عن معاذ ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : "يا
معاذ ، أتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن" (1).
وقال الإمام أحمد ، رضي الله عنه : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن
ميمون بن أبي شبيب ، عن أبي ذر ؛ أن رسول (2) الله صلى الله عليه وسلم قال :
"اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق
حسن" (3).
وقال أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَمْر بن عطية ، عن أشياخه ، عن
أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، أوصني. قال : "إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة
تمحها". قال : قلت : يا رسول الله ، أمن الحسنات : لا إله إلا الله ؟ قال :
"هي أفضل الحسنات" (4).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا هذيل بن إبراهيم الجُمَّاني ، حدثنا عثمان
بن عبد الرحمن الزهري ، من ولد سعد بن أبي وقاص ، عن الزهري ، عن أنس بن مالك قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما قال عَبْد : لا إله إلا الله ، في
ساعة من ليل أو نهار ، إلا طَلَست ما في الصحيفة من السيئات ، حتى تسكن إلى مثلها
من الحسنات" (5).
عثمان بن عبد الرحمن ، يقال له : الوقاصي. فيه ضعف.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا بشر بن آدم وزيد بن أخرم قالا حدثنا الضحاك بن
مَخْلَد ، حدثنا مستور بن عباد ، عن ثابت ، عن أنس ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله ،
ما تركت من حاجة ولا داجة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تشهد أن لا
إله إلا الله وأني رسول الله ؟". قال : بلى. قال : "فإن هذا يأتي على
ذلك" (6).
تفرد به من هذا الوجه مستور.
{ فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ
عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
}
يقول تعالى : فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ، ينهون عما كان يقع
بينهم من
__________
(1) المسند (5/228).
(2) في ت ، أ : "أن النبي".
(3) المسند (5/153).
(4) المسند (5/169).
(5) مسند أبي يعلى (6/204) وقال الهيثمي في المجمع (10/82) : "فيه عثمان بن
عبد الرحمن الزهري ، وهو متروك".
(6) مسند البزار برقم (3067) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(10/83) : "رجاله ثقات".
(4/360)
الشرور
والمنكرات والفساد في الأرض.
وقوله : { إِلا قَلِيلا } أي : قد وجد منهم من هذا الضرب قليل ، لم يكونوا كثيرا ،
وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَره ، وفجأة نِقَمه ؛ ولهذا أمر تعالى هذه
الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، كما قال تعالى : {
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }
[آل عمران : 104]. وفي الحديث : "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه ،
أوشك أن يَعُمَّهُم الله بعقاب" ؛ ولهذا قال تعالى : { فَلَوْلا كَانَ مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي
الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ }.
وقوله : { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ } أي : استمروا على
ما هم فيه من المعاصي والمنكرات ، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك ، حتى فَجَأهم
العذابُ ، { وَكَانُوا مُجْرِمِينَ }.
ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة [لنفسها] (1) ولم يأت قرية مصلحة
بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين ، كما قال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ
وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [ هود : 101] ، وقال { وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ
لِلْعَبِيدِ } [فصلت : 46].
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(4/361)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
{
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(119) }
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كُلِّهم أمة واحدة ، من إيمان أو كفران (1) كما
قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا }
[يونس : 99].
وقوله : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي : ولا
يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم.
قال (2) عكرمة : { مُخْتَلِفِينَ } في الهدى (3). وقال الحسن البصري : {
مُخْتَلِفِينَ } في الرزق ، يُسخّر بعضهم بعضا ، والمشهورُ الصحيح الأول.
وقوله : { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي : إلا المرحومين من أتباع الرسل ، الذين
تمسكوا بما أمروا به من الدين (4). أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم
، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الرسل والأنبياء ، فاتبعوه وصدقوه
، ونصروه ووازروه ، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة ؛ لأنهم الفرقة الناجية ، كما
جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن ، من طرق يشد بعضها بعضا : "إن
اليهود افترقت على
__________
(1) في ت ، أ : "وكفران".
(2) في ت ، أ : "وقال".
(3) في ت ، أ : "الهوى".
(4) في ت : "الذي" ، وفي أ : "الذين".
(4/361)
إحدى
(1) وسبعين فرقة ، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي (2)
على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة واحدة". قالوا : ومن هم يا
رسول الله ؟ قال : "ما أنا عليه وأصحابي".
رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة (3)
وقال عطاء : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } يعني : اليهود والنصارى والمجوس {
إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } يعني : الحنَيفيَّة.
وقال قتادة : أهلُ رحمة الله أهل الجماعة ، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم ، وأهل
معصيته أهل فرقة ، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم.
وقوله : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال الحسن البصري - في رواية عنه - : وللاختلاف
خَلَقهم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : خلقهم فريقين ، كقوله : { فَمِنْهُمْ
شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [هود : 105].
وقيل : للرحمة خلقهم. قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن
طاوس ؛ أن رجلين اختصما إليه فأكثرا (4) فقال طاوس : اختلفتما فأكثرتما (5) ! فقال
أحد الرجلين : لذلك خلقنا. فقال طاوس : كذبت. فقال : أليس الله يقول : { وَلا
يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال :
لم يخلقهم ليختلفوا ، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة. كما قال الحكم بن أبان ، عن
عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب. وكذا قال مجاهد
والضحاك وقتادة. ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات : 56].
وقيل : بل المراد : وللرحمة والاختلاف خلقهم ، كما قال الحسن البصري في رواية عنه
في قوله : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ
خَلَقَهُمْ } قال : الناس مختلفون على أديان شتى ، { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ }
فمن رحم ربك غير مختلف. قيل له : فلذلك خلقهم ؟ [قال] (6) خلق هؤلاء لجنته ، وخلق
هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه.
وكذا (7) قال عطاء بن أبي رَبَاح ، والأعمش.
وقال ابن وَهْب : سألت مالكا عن قوله تعالى : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : فريق في الجنة وفريق في
السعير.
__________
(1) في أ : "اثنين".
(2) في أ : "هذه الأمة".
(3) سبق تخريجه عند تفسير الآية : 93 من سورة يونس.
(4) في ت : "فأكثروا".
(5) في ت : "وأكثرتما".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت : "وكذلك".
(4/362)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
وقد
اختار هذا القول ابن جرير ، وأبو عبيدة (1) والفراء.
وعن مالك فيما رويناه عنه في التفسير : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : للرحمة ،
وقال قوم : للاختلاف.
وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره ، لعلمه التام
وحكمته النافذة ، أن ممن (2) خلقه من يستحق الجنة ، ومنهم من يستحق النار ، وأنه
لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس ، وله الحجة البالغة والحكمة
التامة. وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "اختصمت الجنة والنار ، فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا
ضَعَفَةُ الناس وسَقطُهم ؟ وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. فقال الله
عز وجل للجنة ، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء. وقال للنار : أنت عذابي ، أنتقم بك ممن
أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما الجنة فلا يزال فيها فضل ، حتى ينشئ الله لها
خلقا يسكن فضل الجنة ، وأما النار فلا تزال تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع عليه ربّ
العزة قَدمه ، فتقول : قَطْ قط ، وعزتك" (3).
{ وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) }
يقول تعالى : وكل أخبار نقصها عليك ، من أنباء الرسل المتقدمين قبلك مع أممهم ،
وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات ، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى ،
وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين - كل هذا مما نثبت به فؤادك -
يا محمد - أي : قلبك ، ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسْوةً.
وقوله : { وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ } أي : [في] (4) هذه السورة. قاله ابن
عباس ، ومجاهد ، وجماعة من السلف. وعن الحسن - في رواية عنه - وقتادة : في هذه
الدنيا.
والصحيح : في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف نَجّاهم (5) الله
والمؤمنين بهم ، وأهلك الكافرين ، جاءك فيها قَصَصُ حق ، ونبأ صدق ، وموعظة يرتدع
بها الكافرون ، وذكرى يتوقر (6) بها المؤمنون.
{ وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا
عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) }
__________
(1) في ت ، أ : "وأبو عبيد".
(2) في ت ، أ : "من".
(3) صحيح البخاري برقم (7449) وصحيح مسلم برقم (2846).
(4) زيادة من أ.
(5) في ت ، أ : "أنجاهم".
(6) في ت ، أ : "يتذكر".
(4/363)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
يقول
تعالى آمرا رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد : {
اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : على طريقتكم ومنهجكم ، { إِنَّا عَامِلُونَ
} أي : على طريقتنا ومنهجنا ، { وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } أي :
فستعلمون من تكون له عاقبة الدار ، إنه لا يفلح الظالمون.
وقد أنجز الله لرسوله وعده ، ونصره وأيده ، وجعل كلمته هي العليا ، وكلمة الذين
كفروا السفلى ، والله عزيز حكيم.
{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ
فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ
(123) }
يخبر تعالى أنه عالم غيب السموات والأرض ، وأنه إليه المرجع والمآب ، وَسيُوَفِّى
كل عامل عمله يوم الحساب ، فله الخلق والأمر. فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه ؛
فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه.
وقوله : { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } (1) أي : ليس يخفى عليه
ما عليه مكذبوك يا محمد ، بل هو عليم بأحوالهم وأقوالهم وسيجزيهم على ذلك أتم
الجزاء في الدنيا والآخرة ، وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين. وقال ابن جرير :
حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا زيد بن الحباب ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران
الجَوْني ، عن عبد الله بن رباح ، عن كعب (2) قال : خاتمة "التوراة"
خاتمة "هود" [والله أعلم] (3) تم تفسير سورة هود.
__________
(1) في ت : "يعملون".
(2) في أ : "كعب الأحبار".
(3) زيادة من أ.
(4/364)
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
تفسير
سورة يوسف
[وهي مكية] (1)
روى الثعلبي وغيره ، من طريق سَلام بن سليم - ويقال : سليم - المدائني ، وهو متروك
، عن هارون بن كثير - وقد نصّ على جهالته أبو حاتم - عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ،
عن أبي أمامة ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
علموا أرقاءكم سورة يوسف ، فإنه أيما مسلم تلاها ، أو علمها أهله ، أو ما (2) ملكت
يمينه ، هَوَّن الله عليه سكرات الموت ، وأعطاه من القوة ألا يحسد مسلما "
(3).
وهذا من هذا الوجه لا يصح ، لضعف إسناده بالكلية. وقد ساقه له (4) الحافظ ابن
عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم ، عن هارون بن كثير ، به - ومن طريق شَبَابة
، عن مخلد بن عبد الواحد البصري (5) عن علي بن زيد بن جدعان - وعن عطاء بن أبي
ميمونة ، عن زر بن حُبَيش ، عن أُبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكر
نحوه (6) وهو منكر من سائر طرقه.
وروى البيهقي في " الدلائل " أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم. وهو من رواية
الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا
عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ
قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) }
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة "البقرة".
وقوله : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } أي : هذه آيات الكتاب ، وهو القرآن ، {
الْمُبِينِ } أي : الواضح الجلي ، الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها
(7).
{ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وذلك لأن لغة
العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ؛
فلهذا أنزلَ أشرف الكتب بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل ، بسفارة (8) أشرف الملائكة
، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وابتدئ إنزاله في أشرف
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "وما".
(3) تفسير الثعلبي (7/ل 61 "المحمودية") وأورده الزيلعي في تخريج الكشاف
(2/179) من رواية الثعلبي في تفسيره ، ورواه الواحدي في الوسيط (2/599) من طريق
إبراهيم بن شريف عن أحمد بن يونس عن سلام بن سليم به.
(4) في جميع النسخ : "وقد ساقه" وهذا التعبير غير صحيح".
(5) جميع النسخ : "محمد بن عبد الواحد النضري" ، وفي أ ، ت : "مخلد
بن عبد الواحد النضري" والصواب ما أثبتناه.
(6) نقله الزيلعي في تخريج الكشاف (2/180) عن المؤلف.
(7) في ت : "وتفسيرها وتبينها".
(8) في ت : "كسفارة".
(4/365)
شهور
السنة وهو رمضان ، فكمل من كل الوجوه ؛ ولهذا قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } بسبب
إيحائنا إليك هذا القرآن.
وقد وَرَدَ في سبب نزول هذه الآيات ما رواه ابن جرير :
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ (1). حدثنا حكام الرازي ، عن أيوب ، عن عمرو -
هو ابن قيس الملائي - عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله ، لو قصصت علينا ؟
فنزلت : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } (2).
ورواه من وجه آخر ، عن عمرو بن قيس مرسلا.
وقال أيضا : حدثنا محمد بن سعيد (3) العطار (4) ، حدثنا عمرو بن محمد ، أنبأنا
خَلاد الصفار ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مُرَّة (5) ، عن مصعب بن سعد عن عن
سعد قال : أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ، قال : فتلا عليهم زمانا ،
فقالوا : يا رسول الله ، لو قصصتَ علينا. فأنزل الله عز وجل : { الر تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ الْمُبِينِ } إلى قوله : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (6). ثم تلا
عليهم زمانا ، فقالوا : يا رسول الله ، لو حدثتنا. فأنزل الله عز وجل : { اللَّهُ
نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } الآية [الزمر : 23] ، وذكر الحديث.
ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن رَاهَويه ، عن عمرو بن محمد القرَشي العَنْقزي ، به
(7).
وروى ابن جرير بسنده (8) ، عن المسعودي ، عن عَوْن بن عبد الله قال : مَلّ أصحابُ
رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلّةَ ، فقالوا : يا رسول الله ، حَدثنا. [فأنزل
الله : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } ثم مَلّوا ملة أخرى فقالوا : يا رسول
الله ، حدثنا] (9) فوق الحديث ودون القرآن - يعنون القصص - فأنزل الله : { الر
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغَافِلِينَ } فأرادوا الحديث ، فدلَّهم على أحسن الحديث ، وأرادوا القصص فدلهم
على أحسن القصص (10).
ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة ، المشتملة على مدح القرآن ، وأنه كاف عن
كل ما سواه من الكتب ما قال الإمام أحمد :
حدثنا سُرَيْج بن النعمان ، أخبرنا هُشَيْم ، أنبأنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر
بن عبد الله ؛ أن
__________
(1) في ت : "الأوذي".
(2) تفسير الطبري (15/552).
(3) في أ : "سعد".
(4) في ت ، أ : "القطان".
(5) في ت ، أ : "قرة".
(6) في ت : "(لعلكم تعقلون) الآية".
(7) تفسير الطبري (15/553) والمستدرك (2/345) وقال : "حديث صحيح الإسناد ولم
يخرجاه" ووافقه الذهبي ، وحسنه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية برقم
(3652).
(8) في ت : "بسند".
(9) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(10) تفسير الطبري (15/552).
(4/366)
عمر
بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه
على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال : "أمُتَهوكون فيها يا ابن الخطاب ؟
والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق
فتكذّبونه ، أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيا ، لما (1)
وسعه إلا أن يتبعني" (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن جابر ، عن الشعبي ، عن
عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول
الله ، إني مررت بأخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ، ألا أعرضها عليك ؟
قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن ثابت : فقلت له :
ألا ترى ما بوجه (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا ،
وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا. قال : فسُرِّي عن النبي (4) صلى الله عليه وسلم
وقال : "والذي نفس محمد بيده ، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني
لضللتم ، إنكم حَظِّي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين" (5).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا
علي بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن خليفة بن قيس ، عن خالد بن عُرْفَطة
قال : كنت جالسا عند عمر ، إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس ، فقال له عمر :
أنت فلان بن فلان العبدي ؟ قال : نعم. قال : وأنت النازل بالسوس ، قال : نعم.
فضربه بقناة معه ، قال : فقال الرجل : ما لي يا أمير المؤمنين ؟ فقال له عمر :
اجلس. فجلس ، فقرأ عليه : { بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ
الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ [أَحْسَنَ الْقَصَصِ] } (6) إلى قوله : {
لَمِنَ الْغَافِلِينَ } فقرأها (7) ثلاثا ، وضربه ثلاثا ، فقال له الرجل : ما لي
يا أمير المؤمنين ؟ فقال : أنت الذي نسخت كتاب دانيال! قال : مرني بأمرك أتبعه.
قال : انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض ، ثم لا تقْرأه (8) ولا تُقرئه أحدا من
الناس ، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنّك عقوبة ، ثم
قال له : اجلس ، فجلس بين يديه ، فقال : انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب ،
ثم جئت به في أديم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما هذا في يدك
يا عمر ؟". قال : قلت : يا رسول الله ، كتاب نسخته لنزداد (9) به علما إلى
علمنا. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرّت وجنتاه ، ثم نودي بالصلاة جامعة
، فقالت الأنصار : أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم ؟ السلاح السلاح. فجاءوا حتى
أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "يا أيها الناس ، إني قد
أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه ، واختُصِر لي اختصارا ، ولقد أتيتكم بها
__________
(1) في ت : "ما".
(2) المسند (3/378).
(3) في ت : "ما توجه".
(4) في أ : "رسول الله".
(5) المسند (3/365).
(6) زيادة من ت.
(7) في ت ، أ : "فقرأها عليه".
(8) في ت : "لا يقرأه".
(9) في ت : "ليزداد".
(4/367)
بيضاء
نقية فلا تَتهوَّكوا ، ولا يغرنكم المتهوِّكون". قال عمر : فقمت فقلت : رضيت
بالله ربا وبالإسلام دينا ، وبك رسولا. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصرا ، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق ، به. وهذا
حديث غريب من هذا الوجه. وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شَيبَة (2) الواسطي ، وقد
ضعفوه وشيخه. قال البخاري : لا يصح حديثه.
قلت : وقد روي له شاهد من وجه آخر ، فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم
الإسماعيلي : أخبرني الحسن بن سفيان ، حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا إسحاق بن
إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، حدثني عمرو بن الحارث ، حدثنا عبد الله بن سالم
الأشعري ، عن الزبيدي ، حدثنا سليم بن عامر : أن جُبَير بن نُفَير حَدّثهم : أن
رجلين كانا بحمص في خلافة عمر ، رضي الله عنه ، فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص
، وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة (3) فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير
المؤمنين ويقولون : إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة. وإن نهانا عنها
رفضناها ، فلما قدما عليه قالا إنا بأرض أهل الكتابين ، وإنا نسمع منهم كلاما
تقشعر منه جلودنا ، أفنأخذ منه أو نترك ؟ فقال : لعلكما كتبتما منه شيئا. قالا (4)
لا. قال : سأحدثكما ، انطلقت في حياة رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم حتى أتيت
خيبر ، فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني ، فقلت : هل أنت مكتبي ما تقول ؟ قال : نعم.
فأتيت بأديم ، فأخذ يملي علي ، حتى كتبت في الأكرُع. فلما رجعت قلت : يا نبي الله
، وأخبرته ، قال : "ائتني به". فانطلقت أرغب عن المشي رجاء أن أكون أتيت
(6) رسول الله ببعض ما يحب ، فلما أتيت به قال : "اجلس اقرأ عليّ".
فقرأت ساعة ، ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو يتلوّن ، فتحيرت من الفَرق ، فما استطعت
أجيز (7) منه حرفا ، فلما رأى الذي بي دَفَعه (8) ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه
بريقه ، وهو يقول : "لا تتبعوا هؤلاء ، فإنهم قد هَوكوا وتَهَوَّكوا" ،
حتى محا آخره حرفًا حرفا. قال عمر ، رضي الله عنه : فلو علمت أنكما كتبتما منه
شيئًا جعلتكما نكالا لهذه الأمة! قالا والله ما نكتب منه شيئًا أبدا. فخرجا
بصلاصفتهما (9) فحفرا لها (10) فلم يألُوا أن يعمِّقَا ، ودفناها
__________
(1) لم أعثر عليه في المطبوع من مسند أبي يعلى ، وأورده الهيثمي في المجمع (1/182)
وقال : "رواه أبو يعلى ، وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي ، ضعفه أحمد
وجماعة". ورواه المقدسي في المختارة برقم (115) من طريق أبي يعلى وقال :
"عبد الرحمن بن إسحاق أخرج له مسلم وابن حبان". يقصد عبد الرحمن بن
إسحاق المدني وهو أثبت من الواسطي وفترتهما متقاربة ، لكن المزني ذكر علي بن مسهر
من الرواة عن الواسطي الضعيف ، وقد رجح المؤلف هنا أنه الواسطي. وكذا في مسند عمر
بن الخطاب (2/591) وقال : "وزعم الحافظ الضياء المقدسي في كتابه "المختارة"
أنه الذي روى له مسلم كما (أظن صوابه كذا) قال : وأما شيخه خليفة بن قيس فقال فيه
أبو حاتم الرازي : شيخ ليس بالمعروف. وقال البخاري : لم يصح حديثه".
(2) في ت : "ابن شيبة".
(3) في هـ : "ملاصق" بدون نقط ، والمثبت من ت ، أ.
(4) في ت ، أ : "فقالا".
(5) في ت : "النبي".
(6) في ت : "جئت".
(7) في ت : "أحبر".
(8) في ت : "دفعته".
(9) في هـ ، ت : "بصفيهما" والمثبت من أ.
(10) في ت : "فحفراها".
(4/368)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
فكان
آخر العهد منها (1).
وكذا روى الثوري ، عن جابر بن يزيد الجُعْفي ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن ثابت
الأنصاري ، عن عمر بن الخطاب ، بنحوه (2) وروى أبو داود في المراسيل ، من حديث أبي
قِلابة ، عن عمر نحوه (3). والله أعلم.
{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) }
يقول تعالى : اذكر لقومك يا محمد في قَصَصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه ،
وأبوه هو : يعقوب ، عليه السلام ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، عن أبيه ، عن ابن عمر
؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الكريم ، ابن الكريم ، ابن الكريم
، ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه (4) عن عبد الله بن محمد ، عن عبد الصمد به (5)
وقال البخاري أيضا :
حدثنا محمد ، أخبرنا عبدة ، عن عُبَيْد الله ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة
، رضي الله عنه ، قال : سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أكرم ؟
قال : "أكرمهم عند الله أتقاهم". قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال :
"فأكرم الناس يوسف نبي الله ، ابن نبي الله ، ابن نبي الله ، ابن خليل
الله". قالوا : ليس عن هذا نسألك. قال : "فعن معادن العرب تسألوني
؟" قالوا : نعم. قال : "فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا
فَقِهوا". ثم قال : تابعه أبو أسامة ، عن عبيد الله (6).
وقال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي.
وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام : أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته ،
وكانوا أحد عشر رجلا [سواه] (7) والشمس والقمر عبارة عن أبيه وأمه. رُوي هذا عن
ابن عباس ، والضحاك ،
__________
(1) ورواه أبو نعيم في الحلية (5/136) عن الطبراني ، عن عمرو بن إسحاق بن إبراهيم
بن العلاء الحمصي ، عن أبيه ، عن عمرو بن الحارث به.
(2) سبق تخريجه في المسند.
(3) المراسيل برقم (455).
(4) في أ : "ورواه".
(5) المسند (2/96) وصحيح البخاري برقم (4688).
(6) صحيح البخاري برقم (4689).
(7) زيادة من ت.
(4/369)
وقتادة
وسفيان الثوري ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة ،
وقيل : ثمانين سنة ، وذلك حين رفع أبويه على العرش ، وهو سريره ، وإخوته بين يديه
: { وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ
قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } [يوسف : 100].
وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكبا - فقال الإمام أبو جعفر بن جرير.
حدثني علي بن سعيد الكندي ، حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي ، عن عبد الرحمن بن
سابط ، [عن جابر] (1) قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من يهود يقال له :
"بستانة اليهودي" ، فقال له : يا محمد ، أخبرني عن الكواكب التي رآها
يوسف أنها ساجدة له ، ما أسماؤها ؟ قال : فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فلم
يجبه بشيء ، ونزل [عليه] (2) جبريل ، عليه السلام ، فأخبره بأسمائها. قال : فبعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال : "هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها
؟" فقال : نعم. قال : "خرتان (3) والطارِقُ ، والذَّيَّال (4) وذو
الكَنَفَات ، وقابس ، ووَثَّاب ، وعَمُودَان ، والْفَيلَقُ ، والمُصَبِّحُ ،
والضَّرُوحُ ، وذو الفرغ ، والضِّيَاُء ، والنُّور" ، فقال اليهودي : إيْ
والله ، إنها لأسماؤها (5).
ورواه البيهقي في "الدلائل" ، من حديث سعيد (6) بن منصور ، عن الحكم بن
ظهير. وقد روى هذا الحديث الحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما
، وابن أبي حاتم في تفسيره (7) أما أبو يعلى فرواه عن أربعة من شيوخه عن الحكم بن
ظهير ، به وزاد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما رآها يوسف قَصّها
على أبيه يعقوب ، فقال له أبوه : هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد ؛ قال : والشمس
أبوه ، والقمر أمه".
تفرد به الحكم بن ظهير الفزاري (8) وقد ضَعَّفه الأئمة ، وتركه الأكثرون ، وقال
الجوزجاني : ساقط ، وهو صاحب حديث حُسْن يوسف.
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(2) زيادة من ت ، أ : ، والطبري.
(3) في هـ : "حرثان" وفي ت ، أ : "جريان" والمثبت من ميزان
الاعتدال 1/572. مستفاد من ط. الشعب.
(4) في ت : "والدثال".
(5) تفسير الطبري (15/555).
(6) في ت : "سعد".
(7) دلائل النبوة للبيهقي (6/277) ومسند البزار برقم (2220) "كشف
الأستار". وقد وقع اختلاف في أسماء الكواكب في هذه المصادر وليست بالمهمة ،
والحديث حكم عليه ابن الجوزي بالوضع.
(8) لم يتفرد به بل توبع ، فرواه الحاكم في المستدرك (4/396) من طريق طلحة عن
أسباط بن نصر ، عن السدي ، عن عبد الرحمن بن سابط ، عن جابر به نحوه ، وقال :
"هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" قال الزيلعي : "وسند
الحاكم وارد على البزار في قوله : لا نعلم له طريقا غيره ، وعلى البيهقي في قوله :
تفرد به الحكم بن ظهير ولهما عذرهما" تخريج الكشاف (2/161).
(4/370)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
{ قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) }
(4/370)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
يقول
تعالى مخبرًا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قَصّ عليه ما رأى من هذه الرؤيا ، التي
تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدًا ، بحيث يخرون له ساجدين إجلالا
وإكراما واحتراما (1) فخشي يعقوب ، عليه السلام ، أن يحدث بهذا المنام أحدا من
إخوته فيحسدوه (2) على ذلك ، فيبغوا له الغوائل ، حسدا منهم له ؛ ولهذا قال له : {
لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } أي : يحتالوا
لك حيلةً يُرْدُونَك فيها. ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال : "إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به ، وإذا رأى ما يكره فليتحوَّل إلى
جنبه الآخر وليتفل عن يساره ثلاثا ، وليستعذ بالله من شرها ، ولا يحدث بها أحدًا ،
فإنها لن تضره" (3). وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد ، وبعض أهل
السنن ، من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر ، فإذا عُبرت وقعت" (4) ومن
هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر ، كما ورد في حديث : "استعينوا
على قضاء الحوائج بكتمانها ، فإن كل ذي نعمة محسود" (5)
{ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ
وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى
أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(6) }
يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لولده يوسف : إنه كما اختارك (6) ربك ، وأراك هذه
الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك ، { وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي :
يختارك ويصطفيك لنبوته ، { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ } قال مجاهد
وغير واحد : يعني تعبير الرؤيا.
{ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي : بإرسالك والإيحاء إليك ؛ ولهذا قال : {
كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ } وهو الخليل ، {
وَإِسْحَاقَ } ولده ، وهو الذبيح في قول ، وليس بالرجيح ، { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ } أي : [هو] (7) أعلم حيث يجعل رسالاته ، كما قال في الآية الأخرى.
__________
(1) في ت ، أ : "واحتراما وإكراما".
(2) في ت : "فيحسدونه".
(3) جاء من حديث جابر ، وأم سلمة ، وأبي قتادة : أما حديث جابر ، فرواه مسلم في
صحيحه برقم (2262) ، وأما حديث أم سلمة ، فرواه النسائي في السنن الكبرى برقم
(10741) ، وأما حديث أبي قتادة ، فرواه أحمد في المسند (5/296) وهذا لفظه.
(4) لم أعثر عليه من حديث معاوية ، وإنما من حديث لقيط بن عامر رضي الله عنه ،
رواه أحمد في المسند (4/10) وأبو داود في السنن برقم (5020) والترمذي في السنن
برقم (2278) وابن ماجه في السنن برقم (3914).
(5) رواه العقيلي في الضعفاء (2/109) وابن عدي في الكامل (3/404) وأبو نعيم في
الحلية (6/96) من طريق سعيد بن سالم العطار عن ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان عن
معاذ به مرفوعا ، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (2/165) وقال أبو حاتم في العلل
(2/258) : "حديث منكر". وآفته سعيد بن سلام العطار فهو كذاب.
(6) في ت : "اختار".
(7) زيادة من ت.
(4/371)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
{
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا
لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ
أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا
يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ
يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) }
يقول تعالى : لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته آيات ، أي عبرةٌ ومواعظُ
للسائلين عن ذلك ، المستخبرين عنه ، فإنه خبر عجيب ، يستحق أن يستخبر عنه ، { إِذْ
قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا } أي : حلفوا فيما
يظنون : والله ليوسف وأخوه - يعنون بنيامين ، وكان شقيقه لأمه - { أَحَبُّ إِلَى
أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أي : جماعة ، فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من
الجماعة ؛ { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } يعنون في تقديمهما علينا ،
ومحبته إياهما أكثر منا.
واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف ، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك ،
ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك ، وفي هذا نظر. ويحتاج مُدّعي ذلك إلى
دليل ، ولم يذكروا سوَى قوله تعالى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ
إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ
وَالأسْبَاطِ } [البقرة : 136] ، وهذا فيه احتمال ؛ لأن بطون بني إسرائيل يقال لهم
: الأسباط ، كما يقال للعرب : قبائل ، وللعجم : شعوب ؛ يذكر تعالى أنه أوحى إلى
الأنبياء من أسباط بني إسرائيل ، فذكرهم إجمالا لأنهم كثيرون ، ولكن كل سبط من نسل
رجل من إخوة يوسف ، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم ، والله أعلم.
{ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ }
يقولون : هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم ، أعدموه من وجه أبيكم ، ليخلو لكم
وحدكم ، إما بأن تقتلوه ، أو تلقوه في أرض من الأراضي - تستريحوا منه ، وتختلوا
أنتم بأبيكم ، وتكونوا من (1) بعد إعدامه قوما صالحين. فأضمروا التوبة قبل الذنب.
{ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ } قال قتادة ، ومحمد بن إسحاق : كان أكبرهم واسمه روبيل.
وقال السدي : الذي قال ذلك يهوذا. وقال مجاهد : هو شمعون { لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ
} أي : لا تَصِلوا (2) في عداوته وبغضه إلى قتله ، ولم يكن لهم (3) سبيلٌ إلى قتله
؛ لأن الله تعالى كان يريد منه أمرًا لا بدّ من إمضائه وإتمامه ، من الإيحاء إليه
بالنبوة ، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها ، فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل
فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب ، وهو أسفله.
قال قتادة : وهي بئر بيت المقدس.
{ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } أي : المارة من المسافرين ، فتستريحوا بهذا
، ولا حاجة إلى قتله.
{ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } أي : إن كنتم عازمين على ما تقولون.
قال محمد بن إسحاق بن يسار : لقد اجتمعوا على أمر عظيم ، من قطيعة الرحم ، وعقوق
__________
(1) في أ : "وتكونوا من بعده ، أي من بعد".
(2) في أ : "لا تغلوا".
(3) في ت : "له".
(4/372)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
الوالد
، وقلة الرأفة بالصغير الضَّرَع الذي لا ذنب له ، وبالكبير الفاني ذي الحق والحرمة
والفضل ، وخطره عند الله ، مع حق الوالد على ولده ، ليفرقوا بينه وبين ابنه (1)
وحبيبه ، على كبر سنه ، ورِقَّة عظمه ، مع مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا ،
وبين أبيه على ضعف قوته وصغر سنه ، وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه ، يغفر الله
لهم وهو أرحم الراحمين ، فقد احتملوا أمرا عظيما.
رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل ، عنه.
{ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ
لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ (12) }
لما تواطئوا على أخذه وطَرْحه في البئر ، كما أشار عليهم أخوهم الكبير رُوبيل ،
جاءوا أباهم يعقوب ، عليه السلام ، فقالوا : { يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا
تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } وهذه توطئة وسلف ودعوى ،
وهم يريدون خلاف ذلك ؛ لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له ، { أَرْسِلْهُ
مَعَنَا } أي : ابعثه معنا ، { غَدًا نَرْتَعْ وَنَلْعَبْ } وقرأ بعضهم بالياء {
يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ }
قال ابن عباس : يسعى وينشط. وكذا قال قتادة ، والضحاك والُّسدِّي ، وغيرهم.
{ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } يقولون : ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك.
{ قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ
الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ
وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) }
يقول تعالى مخبرا عن نبيه (2) يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف
معهم إلى الرعي في الصحراء : { إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ } أي :
يشق علي مفارقتُهُ مدة ذهابكم به إلى أن يرجع ، وذلك لفَرْط محبته له ، لما يتوسم
فيه من الخير العظيم ، وشمائل النبوة والكمال في الخُلُق والخلق ، صلوات الله
وسلامه عليه.
وقوله : { وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ }
يقول : وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورَعْيتكم (3) فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا
تشعرون ، فأخذوا من فمه هذه الكلمة ، وجعلوها عذرهم فيما فعلوه ، وقالوا مجيبين
عنها في الساعة الراهنة : { لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا
إِذًا لَخَاسِرُونَ } يقولون : لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ، ونحن جماعة ،
إنا إذًا لهالكون عاجزون.
__________
(1) في ت : "أبيه".
(2) في ت ، أ : "عن نبي الله".
(3) في ت : "ورعيكم".
(4/373)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) }
(4/373)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
يقول
تعالى : فلما ذهب (1) به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك ، {
وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ } هذا فيه تعظيم لما فعلوه
أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب ، وقد أخذوه من عند أبيه فيما
يُظهرونه له إكراما له ، وبسطا وشرحًا لصدره ، وإدخالا للسرور عليه ، فيقال : إن
يعقوب (2) عليه السلام ، لما بعثه معهم ضمه إليه ، وقَبَّله ودعا له.
وقال (3) السدي وغيره : إنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له ، إلا أن
غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه ، ثم شرعوا يؤذونه بالقول ، من شتم ونحوه ، والفعل
من ضَرْب ونحوه ، ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه فربطوه بحبل
ودلوه فيه ، فجعل إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشَتمه ، وإذا تشبث بحافات البئر
ضربوا على يديه ، ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة ، فسقط في الماء فغمره ، فصعد
إلى صخرة تكون في وسطه ، يقال لها : "الراغوفة" (4) فقام فوقها.
قال الله تعال : { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } يقول تعالى ذاكرًا لطفه ورحمته وعائدته (5) وإنزاله اليسر
في حال العسر : إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق ، تطييبًا لقلبه ، وتثبيتًا
له : إنك لا تحزن مما (6) أنت فيه ، فإن لك من ذلك فرجًا ومخرجًا حسنًا ، وسينصرك
الله عليهم ، ويعليك ويرفع درجتك ، وستخبرهم (7) بما فعلوا معك من هذا الصنيع.
وقوله : { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } - قال [مجاهد و] (8) قتادة : { وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ } بإيحاء الله إليه.
وقال ابن عباس : ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك ، وهم لا يعرفونك ، ولا يستشعرون بك ،
كما قال ابن جرير :
حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا صدقة بن عُبادة الأسدي ، عن أبيه ، سمعت
ابن عباس يقول : لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون ، قال : جيء
بالصّواع ، فوضعه على يده ، ثم نقره فطن ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجام : أنه كان
لكم أخ من أبيكم يقال له "يوسف" ، يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به
فألقيتموه في غيابة الجب - قال : ثم نقره فطنّ - فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب
أكله ، وجئتم على قميصه بدم كَذب - قال : فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره
بخبركم. قال ابن عباس ، رضي الله عنهما : لا نرى (9) هذه الآية نزلت إلا فيهم : {
لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } (10).
{ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا
ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ
وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) }
__________
(1) في ت ، أ : "ذهب".
(2) في ت ، أ : "يوسف".
(3) في ت : "فذكر".
(4) في أ : "الراغوف".
(5) في ت : "وعائد به".
(6) في ت ، أ : "فيما".
(7) في ت ، أ : "وسيجزيهم".
(8) زيادة من ت.
(9) في ت : "فلا يرى" ، وفي أ : "فلا نرى".
(10) تفسير الطبري (15/576).
(4/374)
يقول
تعالى مخبرا عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعدما ألقوه في غيابة الجب : أنهم (1) رجعوا
إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون ، ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم ،
وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا : { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي : نترامى
، { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا } أي : ثيابنا وأمتعتنا ، { فَأَكَلَهُ
الذِّئْبُ } وهو الذي كان [قد] (2) جزع منه ، وحذر عليه.
وقولهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } تلّطفٌ عظيم
في تقرير ما يحاولونه ، يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدقنا - والحالة هذه - لو كنا
عندك صادقين ، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك ، لأنك خشيت أن يأكله الذئب ، فأكله الذئب
، فأنت معذور في تكذيبك لنا ؛ لغرابة ما وقع ، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا.
{ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } أي : مكذوب مفترى. وهذا من الأفعال
التي يؤكدون بها ما تمالئوا عليه من المكيدة ، وهو أنهم عمدوا إلى سَخْلة - فيما
ذكره مجاهد ، والسدي ، وغير واحد - فذبحوها ، ولطخوا ثوب يوسف بدمها ، موهمين أن
هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب ، وقد أصابه من دمه ، ولكنهم نسوا أن يخرقوه ،
فلهذا لم يَرُج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب ، بل قال لهم معرضًا عن كلامهم إلى
ما وقع في نفسه من تمالئهم عليه : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي : فسأصبر صبرًا جميلا على هذا الأمر الذي قد اتفقتم عليه ،
حتى يفرجه الله بعونه ولطفه ، { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ }
أي : على ما تذكرون من الكذب والمحال.
وقال الثوري ، عن سِمَاك ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : { وَجَاءُوا عَلَى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } قال : لو أكله السبع لخرق القميص. وكذا قال الشعبي ،
والحسن ، وقتادة ، وغير واحد.
وقال مجاهد : الصبر الجميل : الذي لا جزع فيه.
وروى هُشَيْم ، عن عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبَّان بن أبي جَبَلة قال : سئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } فقال : "صبر لا شكوى
(3) فيه" وهذا مرسل (4).
وقال عبد الرزاق : قال الثوري عن بعض أصحابه أنه قال : ثلاث من الصبر : ألا تحدث
بوجعك ، ولا بمصيبتك ، ولا تزكي نفسك (5).
وذكر البخاري هاهنا حديث عائشة ، رضي الله عنها ، في الإفك حتى ذكر قولها : والله
لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف (6) ، { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } (7).
__________
(1) في ت ، أ : "ثم".
(2) زيادة من أ.
(3) في ت : "لا قوى".
(4) تفسير الطبري (15/585).
(5) تفسير عبد الرزاق (1/277).
(6) في ت : "إلا يعقوب" وفي أ : "إلا أبا يوسف إذ قال".
(7) صحيح البخاري برقم (4690).
(4/375)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
{
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا
بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
(19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ
الزَّاهِدِينَ (20) }
يقول تعالى مخبرًا عما جرى ليوسف ، عليه السلام ، حين ألقاه إخوته ، وتركوه في ذلك
الجب فريدا وحيدًا ، فمكث في البئر ثلاثة أيام ، فيما قاله أبو بكر بن عياش (1)
وقال محمد بن إسحاق : لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك ، ينظرون ما يصنع
وما يُصنع به ، فساق الله له سَيَّارة ، فنزلوا قريبًا من تلك (2) البئر ، وأرسلوا
واردهم - وهو الذي يتطلب لهم الماء - فلما جاء تلك (3) البئر ، وأدلى دلوه فيها ،
تشبث يوسف ، عليه السلام ، فيها ، فأخرجه واستبشر به ، وقال : { يَا بُشْرَى هَذَا
غُلامٌ }
وقرأ بعض القراء : "يا بشرى" ، زعم السدي أنه اسم رجل ناداه ذلك الرجل
الذي أدلى دلوه ، معلما له أنه أصاب غلامًا. وهذا القول من السدي غريب ؛ لأنه لم
يُسبَق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس ، والله أعلم. وإنما
معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى ، ويكون قد أضاف البشرى إلى
نفسه ، وحذف ياء الإضافة وهو يريدها ، كما تقول العرب : "يا نفسُ اصبري"
، و"يا غلام أقبل" ، بحذف حرف الإضافة ، ويجوز الكسر حينئذ والرفع ،
وهذا منه ، وتفسرها القراءة الأخرى { يَا بُشْرَى" } والله أعلم.
وقوله : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } أي : وأسره الواردون من بقية السيارة وقالوا :
اشتريناه وتبضّعناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره. قاله
مجاهد ، والسدي ، وابن جرير. هذا قول.
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } يعني : إخوة يوسف ،
أسروا شأنه ، وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، واختار
البيع. فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه : { يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ }
يباع ، فباعه إخوته.
وقوله : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : يعلم ما يفعله إخوة يوسف
ومشتروه ، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه ، ولكن له حكمة وقَدرَ سابق ، فترك ذلك
ليمضي ما قدره وقضاه ، ألا له الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين.
وفي هذا تعريض لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم (4) ، وإعلامه له بأنني عالم بأذى
قومك ، وأنا قادر على الإنكار عليهم ، ولكني سأملي لهم ، ثم أجعل لك العاقبة
والحكم عليهم ، كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته.
__________
(1) في ت ، "ابن عباس".
(2) في ت : "ذلك".
(3) في ت : "ذلك".
(4) في ت : "صلوات الله عليه" وفي أ : "صلوات الله عليه
وسلامه".
(4/376)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
وقوله
: { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } يقول تعالى : وباعه إخوته
بثمن قليل ، قاله مجاهد وعِكْرِمة.
والبخس : هو النقص ، كما (1) قال تعالى : { فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا }
[الجن : 13] أي : اعتاض عنه إخوته بثمن دُونٍ قليل ، وكانوا مع ذلك فيه من
الزاهدين ، أي : ليس لهم رغبة فيه ، بل لو سألوه (2) بلا شيء لأجابوا.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : إن الضمير في قوله : { وَشَرَوْهُ } عائد على
إخوة يوسف.
وقال قتادة : بل هو عائد على السيارة.
والأول أقوى ؛ لأن قوله : { وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } إنما أراد إخوته
، لا أولئك السيارة ؛ لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة ، ولو كانوا فيه
زاهدين لما اشتروه ، فيرجح من هذا أن الضمير في { وَشَرَوْهُ } إنما هو لإخوته.
وقيل : المراد بقوله : { بَخْسٍ } الحرام. وقيل : الظلم. وهذا وإن كان كذلك ، لكن
ليس هو المراد هنا ؛ لأن هذا معلوم يعرفه كل أحد أن ثمنه حرام على كل حال ، وعلى
كل أحد ، لأنه نبي ابن نبي ، ابن نبي ، ابن خليل الرحمن ، فهو الكريم ، ابن الكريم
، ابن الكريم ، ابن الكريم ، وإنما المراد هنا بالبخس الناقص أو الزيوف أو كلاهما
، أي : إنهم إخوته ، وقد باعوه ومع هذا بأنقص الأثمان ؛ ولهذا قال : { دَرَاهِمَ
مَعْدُودَةٍ } فعن ابن مسعود باعوه بعشرين درهما ، وكذا قال ابن عباس ، ونَوْف
البَكَالي ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وعطية العَوْفي وزاد : اقتسموها درهمين درهمين.
وقال مجاهد : اثنان وعشرون درهما.
وقال محمد بن إسحاق وعِكْرِمة : أربعون درهمًا.
وقال الضحاك في قوله : { وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } وذلك أنهم لم
يعلموا نبوته
ومنزلته عند الله عز وجل.
وقال مجاهد : لما باعوه جعلوا يتبعونهم ويقولون لهم : استوثقوا منه لا يأبق حتى
وقفوه بمصر ، فقال : من يبتاعني وليبشر ؟ فاشتراه الملك ، وكان مسلمًا.
{ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى
أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الأرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) }
__________
(1) في ت : "وكما".
(2) في أ : "لو سئلوا".
(4/377)
يخبر
تعالى بألطافه بيوسف ، عليه السلام ، أنه قيض له الذي اشتراه من مصر ، حتى اعتنى
به وأكرمه ، وأوصى أهله به ، وتوسم فيه الخير والفلاح ، فقال لامرأته : {
أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } وكان الذي
اشتراه من مصر عزيزها ، وهو الوزير بها. [قال] (1) العوفي ، عن ابن عباس : وكان
اسمه قطفير.
وقال محمد بن إسحاق : اسمه إطفير (2) بن روحيب ، وهو العزيز ، وكان على خزائن مصر
، وكان الملك يومئذ الريَّان بن الوليد ، رجل من العماليق قال : واسم امرأته راعيل
بنت رعائيل.
وقال غيره : اسمها زليخا.
وقال محمد بن إسحاق أيضا ، عن محمد بن السائب ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : كان
الذي باعه بمصر مالك بن دعر بن بُويب (3) بن عنقا بن مديان بن إبراهيم ، فالله
أعلم.
وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال : أفرس الناس ثلاثة
: عزيز مصر حين قال لامرأته : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } والمرأة التي قالت لأبيها
[عن موسى] (4) : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ
الْقَوِيُّ الأمِينُ } [القصص : 26] وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب ،
رضي الله عنهما (5).
يقول تعالى : وكما أنقذنا يوسف من إخوته ، { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الأرْضِ } يعني : بلاد مصر ، { وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ } قال
مجاهد والسدي : هو تعبير الرؤيا ، { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } أي (6)
إذا أراد شيئا فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف ، بل هو الغالب لما سواه.
قال سعيد بن جبير في قوله : { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } أي : فعال لما
يشاء.
وقوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } يقول : لا يدرون حكمته في
خلقه ، وتلطفه لما يريد (7).
وقوله : { وَلَمَّا بَلَغَ } أي : يوسف عليه السلام { أَشُدَّهُ } أي : استكمل
عقله (8) وتم خلقه. { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } يعني : النبوة ، إنه حباه
بها بين أولئك الأقوام ، { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : إنه كان
محسنًا في عمله ، عاملا بطاعة ربه تعالى.
وقد اختُلِف في مقدار المدة التي بلغ فيها أشده ، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة :
ثلاث وثلاثون. وعن ابن عباس : بضع وثلاثون. وقال الضحاك : عشرون. وقال الحسن :
أربعون سنة. وقال عكرمة : خمس وعشرون سنة. وقال السدي : ثلاثون سنة. وقال سعيد بن
جبير : ثمانية عشرة سنة. وقال الإمام مالك ، وربيعة ، وزيد بن أسلم ، والشعبي :
الأشد الحلم. وقيل غير ذلك ،
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "إظفير".
(3) في ت : "نويب".
(4) زيادة من أ.
(5) رواه الطبري في تفسيره (16/19).
(6) في أ : "فهو".
(7) في ت ، أ : "يريده".
(8) في أ : "خلقه".
(4/378)
والله
(1) أعلم.
__________
(1) في ت : "فالله".
(4/379)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
{
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) }
يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر ، وقد أوصاها زوجها به
وبإكرامه [ { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا] عَنْ نَفْسِهِ } أي :
حاولته على (1) نفسه ، (2) ودعته إليها ، وذلك أنها أحبته حبًا شديدًا لجماله
وحسنه وبهائه ، فحملها ذلك على أن تجملت له ، وغلقت عليه الأبواب ، ودعته إلى
نفسها ، { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } فامتنع من ذلك أشد الامتناع ، و { قَالَ
مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي [أَحْسَنَ مَثْوَايَ] } (3) وكانوا يطلقون
"الرب" (4) على السيد والكبير ، أي : إن بعلك ربي أحسن (5) مثواي أي :
منزلي وأحسن إلي ، فلا أقابله بالفاحشة في أهله ، { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ
الظَّالِمُونَ } قال ذلك مجاهد ، والسدي ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهم.
وقد اختلف القراء في قراءة : { هَيْتَ لَكَ } فقرأه كثيرون بفتح الهاء ، وإسكان
الياء ، وفتح التاء. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : معناه : أنها تدعوه إلى
نفسها. وقال علي بن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس : { هَيْتَ لَكَ } تقول :
هلم لك. وكذا قال زِرّ بن حبيش ، وعِكْرِمة ، والحسن وقتادة.
قال عمرو بن عبُيَد ، عن الحسن : وهي كلمة بالسريانية ، أي : عليك.
وقال السدي : { هَيْتَ لَكَ } أي : هلم لك ، وهي بالقبطية.
قال مجاهد : هي لغة عربية (6) تدعوه بها.
وقال البخاري : وقال عكرمة : { هَيْتَ لَكَ } هَلُم لك بالحَوْرَانية.
وهكذا ذكره معلقًا ، وقد أسنده الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن سُهَيْل
الواسطي ، حدثنا قُرَّة بن قيسى ، حدثنا النضر بن عربي الجَزَري (7) ، عن عكرمة
مولى ابن عباس في قوله : { هَيْتَ لَكَ } قال : هلم لك. قال : هي بالحورانية.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : وكان الكسائي يحكي (8) هذه القراءة - يعني : {
هَيْتَ لَكَ } - ويقول : هي لغة ، لأهل حَوْران ، وقعت إلى أهل الحجاز ، معناها :
تعال. وقال أبو عبيد : سألت شيخًا عالمًا من أهل حوران ، فذكر أنها لغتهم يعرفها.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "عن".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت ، أ : "ذلك".
(5) في ت ، أ : "أكرم".
(6) في ت : "غريبة".
(7) في ت : "+غربي +الحوري".
(8) في ت ، أ : "يحب".
(4/379)
واستشهد
الإمام ابن جرير على هذه القراءة بقول (1) الشاعر لعلي بن أبى طالب ، رضي الله عنه
:
أَبْلْغ أَمِيَر المؤمِنين... أَخا العِراَقِ إذَا أَتَينَا...
إنَّ العِراقَ وَأَهْلَهُ... عُنُقٌ إليكَ فَهَيتَ هَيْتا...
يقول : فتعال واقترب (2)
وقرأ ذلك آخرون : "هِئتُ لك" بكسر الهاء والهمزة ، وضم التاء ، بمعنى :
تهيأت لك ، من قول القائل : هئت للأمر أهىِ هيْئَة وممن روي عنه هذه القراءة ابن
عباس ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو وائل ، وعكرمة ، وقتادة ، وكلهم يفسرها
بمعنى : تهيأت لك.
قال ابن جرير : وكان أبو عمرو والكسائي ينكران هذه القراءة. وقرأ عبد الله بن
إسحاق (3) هيت" ، " بفتح الهاء وكسر التاء : وهي غريبة.
وقرأ آخرون ، منهم عامة أهل المدينة "هَيْتُ" بفتح الهاء ، وضم التاء ،
وأنشد (4) قول الشاعر : (5)
لَيسَ قَومِي بالأبْعَدِين إِذَا مَا... قَالَ دَاعٍ منَ العَشِيرِةَ : هَيتُ...
قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي وائل قال : قال ابن مسعود :
قد سمعت القَرَأة فسمعتهم متقاربين ، فاقرءوا كما عُلِّمتم ، وإياكم والتنطع
والاختلاف ، فإنما هو كقول أحدكم : "هلم" و"تعال" ثم قرأ عبد
الله : { هَيْتَ لَكَ } فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إن ناسا يقرءونها :
"هَيْتُ [لَك]" (6) ؟ فقال عبد الله : إني أقرأها كما عُلِّمت ، أحبّ
إلي (7)
وقال ابن جرير : حدثني ابن وَكِيع ، حدثنا ابن عُيَيْنة ، عن منصور ، عن أبي وائل
قال : قال عبد الله : { هَيْتَ لَكَ } فقال له مسروق : إن ناسا يقرءونها :
"هَيْتُ لَك" ؟ فقال : دعوني ، فإني أقرأ كما أقْرِئتُ ، أحب إلي (8)
وقال أيضًا : حدثني المثنى ، حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شعبة ، عن شقيق ، عن
ابن مسعود قال : { هَيْتَ لَكَ } بنصب الهاء والتاء ولا بهمز.
__________
(1) في ت : "قول".
(2) تفسير الطبري (16/25).
(3) في ت : "عبد الله بن أبي إسحاق".
(4) في ت ، أ : "وأنشدوا".
(5) هو طرفة بن العبد ، والبيت في تفسير الطبري (16/30).
(6) زيادة من أ.
(7) تفسير عبد الرزاق (1/279).
(8) تفسير الطبري (16/31).
(4/380)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
وقال
(1) آخرون : "هِيْتُ لَك" ، بكسر الهاء ، وإسكان الياء ، وضم التاء.
قال أبو عُبَيدة معمر بن المثنى : "هيت" لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث ، بل
يخاطب الجميع بلفظ واحد ، فيقال : هيتَ لَك ، وهيتَ لك ، ِ وهيتَ لكما ، وهيتَ لكم
، وهيتَ لهن (2)
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ
كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ (24) }
اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام ، وقد روي عن ابن عباس ، ومجاهد ،
وسعيد بن جبير ، وطائفة من السلف في ذلك ما ذكره ابن جرير وغيره ، والله أعلم.
وقال بعضهم : المراد بهمه بها هَمّ خَطَرات حديث (3) النفس. حكاه البغوي عن بعض
أهل التحقيق ، ثم أورد (4) البغوي هاهنا حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ،
عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يقول الله تعالى : إذا هَمّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها
فاكتبوها له بعشر أمثالها ، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ، فإنما تركها
من جَرّائي ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها" (5).
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين (6) وله ألفاظ كثيرة ، هذا منها.
وقيل : هم بضربها. وقيل : تمناها زوجة. وقيل : { وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى
بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي : فلم يهم بها.
وفي هذا القول نظر من حيث العربية ، ذكره ابن جرير وغيره (7).
وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضا : فعن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ،
ومحمد بن سيرين ، والحسن ، وقتادة ، وأبي صالح ، والضحاك ، ومحمد بن إسحاق ،
وغيرهم : رأى صورة أبيه يعقوب ، عليه السلام ، عاضا على أصبعه بفمه (8).
وقيل عنه في رواية : فضرب في صدر يوسف.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : رأى خيال (9) الملك ، يعني : سيده ، وكذا قال محمد بن
إسحاق ،
__________
(1) في ت : "وقرأ".
(2) في أ : "لهم".
(3) في ت ، أ : "وحديث".
(4) في أ : "وأورد".
(5) معالم التنزيل (4/231).
(6) صحيح البخاري برقم (7501) وصحيح مسلم برقم (205).
(7) تفسير الطبري (16/38 ، 39) وما ذكره الحافظ هنا في معنى الهم غير مسلم به ،
والراجح هو ما اختاره أبو حيان في تفسيره ونقله عنه العلامة الشنقيطي في
"أضواء البيان" (3/60) وقال : "والجواب الثاني - وهو الذي اختاره
أبو حيان - أن يوسف لم يقع منه هم أصلا ، بل هو +منفى عنه لوجود البرهان..."
وانظر بقية كلامه هناك.
(8) في ت ، أ : "يعظه".
(9) في ت ، أ : "تمثال".
(4/381)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
فيما
حكاه عن بعضهم : إنما هو خيال إطفير سيده ، حين دنا من الباب (1).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وكيع ، عن أبي مودود (2) سمعت من محمد
بن كعب القُرَظي قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت ، فإذا كتاب في حائط البيت : {
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } [الإسراء :
32]
وكذا رواه أبو مَعْشَر المدني ، عن محمد بن كعب.
وقال عبد الله بن وهب ، أخبرني نافع بن يزيد ، عن أبي صخر قال : سمعت القرظي يقول
في : "البرهان" الذي رأى يوسف : ثلاث آيات من كتاب الله { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحَافِظِينَ } الآية [الانفطار : 10] ، وقوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ }
الآية : [يونس : 61] ، وقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا
كَسَبَتْ } [الرعد : 33]قال نافع : سمعت أبا هلال يقول مثل قول القرظي ، وزاد آية
رابعة { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا } [الإسراء : 32]
وقال الأوزاعي : رأى آية من كتاب الله في الجدار تنهاه (3) عن ذلك.
قال ابن جرير : والصواب أن يقال : إنه رأى من آيات الله ما زجره عما كان هم به ،
وجائز أن يكون صورة يعقوب ، وجائز أن يكون [صورة] (4) الملك ، وجائز أن يكون ما رآه
مكتوبا من الزجر عن ذلك. ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك ، فالصواب أن يطلق
كما قال الله تعالى.
قال : وقوله : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ } أي : كما
أريناه برهانا صرفه عما كان فيه ، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره.
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } أي : من المجتبين المطهرين المختارين
المصطفين الأخيار ، صلوات الله وسلامه عليه.
{ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا
لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ
يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ
دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ
مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ
الْخَاطِئِينَ (29) }
__________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى (10/297) : "وما
ينقل من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على
يده وأمثال ذلك ، فهو مما لم يخبر الله به ولا رسوله ، وما لم يكن كذلك ، فإنما هو
مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء ، وقدحا فيهم ، وكل من
نقله من المسلمين فعنهم نقله ، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم
حرفا واحدا". وانظر : الإسرائيليات في كتب التفسير لمحمد أبو شهبة (ص 220 -
225).
(2) في ت : "مردود".
(3) في ت ، أ : "والجدار نهاه".
(4) زيادة من ت ، أ.
(4/382)
يخبر
تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب ، يوسف هارب ، والمرأة تطلبه ليرجع
إلى البيت ، فلحقته في أثناء ذلك ، فأمسكت بقميصه [من ورائه] (1) فَقَدَّته (2)
قدًا فظيعا ، يقال : إنه سقط عنه ، واستمر يوسف هاربا ذاهبا ، وهي في إثره ،
فألفيا سيدها - وهو زوجها - عند الباب ، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها ،
وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها : { مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ
سُوءًا } أي : (3) فاحشة ، { إِلا أَنْ يُسْجَنَ } أي : يحبس ، { أَوْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ } أي : يضرب ضربا شديدًا موجعا. فعند ذلك انتصر يوسف ، عليه السلام ،
بالحق ، وتبرأ مما رمته به من الخيانة ، وقال بارا صادقا (4) { هِيَ رَاوَدَتْنِي
عَنْ نَفْسِي } وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه ، { وَشَهِدَ شَاهِدٌ
مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ } أي : من قدامه ، {
فَصَدَقَتْ } أي : في قولها إنه أرادها على نفسها ، لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه
دفعته في صدره ، فقدت قميصه ، فيصح ما قالت : { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ
دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ } وذلك يكون كما وقع لما هرب منها ،
وتطلبته أمسكت بقميصه من ورائه لتردّه إليها ، فقدت قميصه من ورائه.
وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير ، على قولين لعلماء السلف ، فقال
عبد الرزاق :
أخبرنا إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ
مِنْ أَهْلِهَا } قال : ذو لحية.
وقال الثوري ، عن جابر ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن ابن عباس : كان من خاصة الملك.
وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومحمد بن إسحاق : إنه
كان رجلا.
وقال زيد بن أسلم ، والسدي : كان ابن عمها.
وقال ابن عباس : كان من خاصة الملك.
وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد.
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } قال :
كان صبيا في المهد. وكذا رُوي عن أبي هريرة ، وهلال بن يَسَاف ، والحسن ، وسعيد بن
جبير والضحاك بن مُزاحم : أنه كان صبيا في الدار. واختاره ابن جرير.
وقد ورد فيه حديث مرفوع فقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا عفان ، حدثنا
حماد - هو ابن سلمة - أخبرني عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن
النبي
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "فقدت".
(3) في ت ، أ : "تعني".
(4) في ت : "صادقا بارا".
(4/383)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
صلى
الله عليه وسلم قال : "تكلم أربعة وهم صغار" ، فذكر فيهم شاهد يوسف (1).
ورواه غيره عن حماد بن سلمة ، عن عطاء ، عن سعيد ، عن ابن عباس ؛ أنه قال : تكلم
أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جُرَيْج ، وعيسى ابن
مريم (2).
وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : كان من أمر الله ، ولم يكن إنسيا. وهذا قول
غريب.
وقوله : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ } أي : فلما تحقق زوجها
صدقَ يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به ، { قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ } أي :
إن هذا البهت واللَّطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن ، { إِنَّ كَيْدَكُنَّ
عَظِيمٌ }
ثم قال آمرا ليوسف ، عليه السلام ، بكتمان ما وقع : يا { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ
هَذَا } أي : اضرب عن هذا [الأمر] (3) صفحا ، فلا تذكره لأحد ، { وَاسْتَغْفِرِي
لِذَنْبِكِ } يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلا أو أنه عذرها ؛ لأنها رأت ما
لا صبر لها عنه ، فقال لها : { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ } أي : الذي (4) وقع منك
من إرادة السوء بهذا الشاب ، ثم قَذْفه بما هو بريء منه ، استغفري من هذا الذي وقع
منك ، { إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا
عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) }
__________
(1) تفسير الطبري (16/55) ورواه أحمد في المسند (1/310) والحاكم في المستدرك
(2/496) من طريق حماد بن سلمة به ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(2) رواه العلاء بن عبد الجبار عن حماد موقوفا أخرجه الطبري في تفسيره (16/54).
(3) زيادة من ت.
(4) في ت ، أ : "للذي".
(4/384)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
{
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ
مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ
عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ
حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ
فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ
فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا
مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا
يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ
وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ
كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) }
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة ، وهي مصر ، حتى تحدث الناس
به ، { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ } مثل نساء الأمراء [و] (1) الكبراء ،
ينكرن على امرأة العزيز ، وهو الوزير ، ويعبن ذلك عليها : { امْرَأَةُ الْعَزِيزِ
تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ } أي : تحاول غلامها عن نفسه ، وتدعوه إلى
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(4/384)
نفسها
، { قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا } أي قد : وصل حبه إلى شغاف قلبها. وهو غلافه.
قال الضحاك عن ابن عباس : الشَّغَف : الحب القاتل ، والشَّغَف دون ذلك ، والشغاف :
حجاب القلب.
{ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : في صنيعها هذا من حبها فتاها ،
ومراودتها إياه عن نفسه.
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } قال بعضهم : بقولهن. وقال محمد بن إسحاق : بل
(1) بَلَغهُنَّ حُسْنُ يوسف ، فأحببن أن يرينه ، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته
ومشاهدته ، فعند ذلك { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي : دعتهن إلى منزلها لتضيفهن {
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً }
قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، وغيرهم : هو المجلس
المعد ، فيه مفارش ومخاد وطعام ، فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج (2) ونحوه. ولهذا
قال تعالى : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا } وكان هذا مكيدة منها
، ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته ، { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } وذلك
أنها كانت قد خبأته في مكان آخر ، { فَلَمَّا } خرج و { رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ }
أي : أعظمن شأنه ، وأجللن قدره ؛ وجعلن يقطعن أيديهن دَهَشا برؤيته ، وهن يظنن
أنهن يقطعن الأترج (3) بالسكاكين ، والمراد : أنهن حززن أيديهن بها ، قاله غير
واحد.
وعن مجاهد ، وقتادة : قطعن أيديهن حتى ألقينها ، فالله (4) أعلم.
وقد ذكر عن زيد بن أسلم أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن ، ثم وضعت بين
أيديهن أترجا (5) وآتت كل واحدة منهن سكينا : هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن :
نعم. فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن (6) فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن ، ثم أمرته
أن يرجع فرجع ليرينه مقبلا ومدبرا ، وهن يحززن في أيديهن ، فلما أحسسن بالألم جعلن
يولولن ، فقالت : أنتن من نظرة واحدة فعلتن هكذا ، فكيف ألام أنا ؟ فقلن حاش لله
ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ، ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد الذي
رأينا ، لأنهن لم يرين في البشر شبهه ولا قريبا منه ، فإنه ، صلوات الله عليه وسلم
(7) كان قد أعطي شطر الحسن ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء : أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف ، عليه السلام ، في السماء الثالثة ، قال :
"فإذا هو قد أعطي شطر الحسن" (8)
وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أعطي يوسف وأمه شطر
__________
(1) في ت ، أ : "قيل".
(2) في ت ، أ : "أترنج".
(3) في : "الأترج".
(4) في أ : "والله".
(5) في أ : "أترنجا".
(6) في أ : "عليهن".
(7) في ت ، أ : "وسلامه".
(8) رواه مسلم في صحيحه برقم (162) من حديث أنس رضي الله عنه.
(4/285)
الحسن"
(1) وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال
: أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن.
وقال أبو إسحاق أيضا ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : كان وجه يوسف مثل البرق
، وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به.
ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أعطي يوسف
وأمه ثلث حسن أهل الدنيا ، وأعطى الناس الثلثين - أو قال : أعطي يوسف وأمه الثلثين
والناس الثلث" (2)
وقال سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد عن ربيعة الجُرَشي قال : قسم الحسن نصفين ،
فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن. والنصف الآخر بين سائر الخلق.
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي : معناه : أن يوسف كان على النصف من حسن آدم ،
عليه السلام ، فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها ، ولم يكن في ذريته من
يوازيه في جماله ، وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه.
فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته : { حَاشَ لِلَّهِ } قال مجاهد وغير واحد : معاذ
الله ، { مَا هَذَا بَشَرًا } وقرأ بعضهم : "ما هذا بِشِرىً" أي :
بمشترى.
{ إِنْ هَذَا إِلا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ
} تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق بأن يحبّ لجماله وكماله.
{ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ } أي : فامتنع. قال بعضهم :
لما رأين جماله الظاهر ، أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن ، وهي (3) العفة مع
هذا الجمال ، ثم قالت تتوعد (4) { وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ
لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ } فعند ذلك استعاذ يوسف ، عليه
السلام ، من شرهن وكيدهن ، وقال : { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا
يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } أي : من الفاحشة ، { وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ
أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي : إن وكلتني إلى نفسي ، فليس لي من نفسي قدرة ، ولا أملك
لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك ، أنت المستعان وعليك التكلان ، فلا تكلني إلى
نفسي.
{ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ
فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } وذلك أن يوسف ،
عليه السلام ، عَصَمه الله عصمة عظيمة ، وحماه فامتنع منها أشد الامتناع ، واختار
السجن
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (16/80) والحاكم في المستدرك (2/570) وابن عدي في
الكامل (5/385) من طريق عفان عن حماد بن سلمة به ، وقال الحاكم : "هذا حديث
صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". قال ابن عدي : "وهذا الحديث ما أعلم
رفعه أحد غير عفان ، وغيره أوقفه عن حماد بن سلمة ، وعفان أشهر وأوثق وأصدق من أن
يقال فيه شيء مما ينسب إلى الضعف".
(2) رواه الطبري في تفسيره (16/80).
(3) في ت : "عليهن وهو".
(4) في ت ، أ : "تتوعده".
(4/386)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
على
ذلك ، وهذا في غاية مقامات الكمال : أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته ، وهي
امرأة عزيز مصر ، وهي مع هذا في (1) غاية الجمال والمال ، والرياسة ويمتنع من ذلك
، ويختار السجن على ذلك ، خوفا من الله ورجاء ثوابه.
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "سبعة يظلهم
الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله (2) ورجل
قلبه معلق بالمسجد (3) إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا
عليه وافترقا (4) عليه ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت
يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات جمال ومنصب ، فقال
: إني أخاف الله" (5)
{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى
حِينٍ (35) }
يقول تعالى : ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين ، أي : إلى
مدة ، وذلك بعدما عرفوا براءته ، وظهرت الآيات - وهي الأدلة - على صدقه في عفته
ونزاهته. فكأنهم - والله أعلم - إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاما (6) أن هذا
راودها عن نفسها ، وأنهم سجنوه على ذلك. ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة
، امتنع من الخروج حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة ، فلما تقرر ذلك خرج
وهو نَقِيّ العرض ، صلوات الله عليه وسلامه.
وذكر السُّدِّي : أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها (7) في حقه ، ويبرأ عرضه
فيفضحها.
{ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي
أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي
خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (36) }
قال قتادة : كان أحدهما ساقي الملك ، والآخر خبازه.
قال محمد بن إسحاق : كان اسم الذي على الشراب "نبوا" ، والآخر
"مجلث".
قال السدي : وكان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالآ على سمه في طعامه
وشرابه.
وكان (8) يوسف ، عليه السلام ، قد اشتهر في السجن بالجود (9) والأمانة وصدق الحديث
، وحسن السّمت وكثرة العبادة ، صلوات الله عليه وسلامه ، ومعرفة التعبير والإحسان
إلى أهل السجن وعيادة
__________
(1) في ت : "إلى".
(2) في ت : "في طاعة الله عز وجل".
(3) في ت ، أ : "في المسجد".
(4) في ت ، أ : "وتفرقا".
(5) صحيح البخاري برقم (1423) وصحيح مسلم برقم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه.
(6) في ت : "اتهاما".
(7) في أ : "منهما".
(8) في ت : "فكان".
(9) في أ : "بالجودة".
(4/387)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
مرضاهم
والقيام بحقوقهم. ولما دخل هذان (1) الفتيان إلى السجن ، تآلفا به وأحباه حبا
شديدا ، وقالا له : والله لقد أحببناك حبا زائدا. قال (2) بارك الله فيكما ، إنه
ما أحبني أحد إلا دخل عليّ من محبته ضرر ، أحبتني عمتي فدخل علي الضرر بسببها ،
وأحبني أبي فأوذيت بسببه ، وأحبتني امرأة العزيز فكذلك ، فقالا والله ما نستطيع
إلا ذلك ، ثم إنهما رأيا مناما ، فرأى الساقي أنه يعصر خمرا - يعني عنبا - وكذلك
هي في قراءة عبد الله بن مسعود : "إني أراني أعصر عنبا". ورواه ابن أبي
حاتم ، عن أحمد بن سِنَان ، عن يزيد بن هارون ، عن شَرِيك ، عن الأعمش ، عن زيد بن
وهب ، عن ابن مسعود : أنه قرأها : "أعصر عنبا".
وقال الضحاك في قوله : { إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } يعني : عنبا. قال :
وأهل عمان يسمُّون العنب خمرا.
وقال عكرمة : رأيت (3) فيما يرى النائم أني غرست حَبَلة من عنب ، فنبتت. فخرج فيه
عناقيد ، فعصرتهن ثم سقيتهن الملك. قال (4) تمكث في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج
فتسقيه خمرا.
وقال الآخر - وهو الخباز - : { إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا
تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ }
والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه ، وأنهما رأيا مناما وطلبا تعبيره.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن عمارة بن
القعقاع ، عن إبراهيم ، عن عبد الله قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئا ، إنما كانا
تحالما ليجربا عليه.
{ قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ
قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ
مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
}
__________
(1) في ت : "هذا".
(2) في ت ، أ : "فقال".
(3) في ت : "وقال عكرمة : قال له رأيت".
(4) في ت ، أ : "فقال".
(4/388)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
{
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ
لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا
وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) }
يخبرهما يوسف ، عليه السلام ، أنهما (1) مهما رأيا في نومهما من حلم ، فإنه عارف
(2) بتفسيره ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه ؛ ولهذا قال : { لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ
تُرْزَقَانِهِ إِلا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا }
__________
(1) في ت : "أنه".
(2) في أ : "عالم".
(4/388)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
قال
مجاهد : يقول : { لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } [في نومكما] (1) { إِلا
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } وكذا قال السدي.
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن العلاء ،
حدثنا محمد بن يزيد - شيخ له - حدثنا رشدين ، عن الحسن بن ثوبان ، عن عِكْرِمة ،
عن ابن عباس قال : ما أدري لعل يوسف ، عليه السلام ، كان يعتاف وهو كذلك ، لأني
أجد في كتاب الله حين قال للرجلين : { لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلا
نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } قال : إذا جاء الطعام حلوا أو مرا أعتاف عند ذلك.
ثم قال ابن عباس : إنما علم فعلم. وهذا أثر (2) غريب.
ثم قال : وهذا إنما هو من تعليم الله إياي ؛ لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله
واليوم الآخر ، فلا يرجون ثوابا ولا عقابا في المعاد. { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ
آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } يقول : هجرت طريق الكفر والشرك ،
وسلكت طريق هؤلاء المرسلين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهكذا يكون حال من
سلك طريق الهدى ، واتبع المرسلين ، وأعرض عن طريق الظالمين (3) فإنه يهدي قلبه
ويعلّمه ما لم يكن يعلمه ، ويجعله إماما يقتدى (4) به في الخير ، وداعيا إلى سبيل
الرشاد.
{ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ } هذا التوحيد - وهو الإقرار بأنه لا إله إلا
هو وحده لا شريك له ، { مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا } أي : أوحاه إلينا ،
وأمرنا به { وَعَلَى النَّاسِ } إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } (5) أي : لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم
، بل { بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ } [ إبراهيم : 28].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا حجاج ، عن
عطاء ، عن ابن عباس ؛ أنه كان يجعل الجد أبا ، ويقول : والله فمن (6) شاء لاعناه
عند الحجْر ، ما ذكر الله جدا ولا جدة ، قال الله تعالى - يعني إخبارا عن يوسف : {
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ }
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ
الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً
سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ
إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ
الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) }
ثم إن يوسف ، عليه السلام ، أقبل على الفتيين بالمخاطبة ، والدعاء لهما إلى عبادة
الله وحده لا شريك له وَخَلْع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما ، فقال : {
أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "أمر".
(3) في ت ، أ : "الضالين".
(4) في ت : "يهتدي".
(5) في أ : "لا يعلمون".
(6) في ت ، أ : "لمن".
(4/389)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
[أي]
(1) الذي وَلِى (2) كل شيء بِعزّ جلاله ، وعظمة (3) سلطانه.
ثم بين لهما أنَّ التي يعبدونها ويسمّونها آلهة ، إنما هو جَهْلُ (4) منهم ،
وتسمية من تلقاء أنفسهم ، تلقاها خَلَفهم عن سَلَفهم ، وليس لذلك مستند من عند
الله ؛ ولهذا قال : { مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } أي : حجة ولا
برهان.
ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كلَّه لله ، وقد أمر عباده قاطبة ألا
يعبدوا إلا إياه ، ثم قال : ذلك الدين القيم أي : هذا الذي أدعوكم إليه من تَوحيد
الله ، وإخلاص العمل له ، هو الدين المستقيم ، الذي أمر الله به وأنزل به الحجة
والبرهان الذي يحبه ويرضاه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي :
فلهذا كان أكثرهم مشركين. { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ
بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103].
وقد قال ابن جريج : إنما عَدَلَ بهم يوسف عن تعبير الرؤيا إلى هذا ، لأنه عَرَف
أنها ضارّة لأحدهما ، فأحب أن يشغلهما بغير ذلك ، لئلا يعاودوه فيها ، فعاودوه ،
فأعاد عليهم الموعظة. (5)
وفي هذا الذي قاله نظر ؛ لأنه قد وَعَدَهما أولا بتعبيرها (6) ولكن جعل سؤالهما له
على وجه التعظيم والاحترام وُصْلة وسببا إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام ، لما
رأى في سجيتهما من قبول الخير والإقبال عليه ، والإنصات إليه ، ولهذا لما فرغ من
دعوتهما ، شرع في تعبير رؤياهما ، من غير تكرار سؤال فقال :
{ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا
الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي
فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) }
يقول لهما : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ
خَمْرًا } وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ، ولكنه لم يعينِّه لئلا يحزن ذاك ، ولهذا
أبهمه في قوله : { وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ
رَأْسِهِ } وهو في نفس الأمر الذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا.
ثم أعلمهما أن هذا قد فُرغ منه ، وهو واقع لا محالة ؛ لأن الرؤيا على رجل طائر ما
لم تُعَبر ، فإذا عُبِّرَت وَقَعت.
وقال الثوري ، عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم ، عن عبد الله قال : لما قالا ما
قالا وأخبرهما ، قالا ما رأينا شيئا. فقال : { قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ
تَسْتَفْتِيَانِ }
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "دل".
(3) في ت ، أ : "وعظيم".
(4) في ت ، أ : "جعل".
(5) تفسير الطبري (16/102).
(6) في أ : "بتعبيرهما".
(4/390)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
ورواه
محمد بن فضيل (1) عن عمارة ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن ابن مسعود به ، وكذا فسره
مجاهد ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم. وحاصله أن من تحلَّم بباطل وفَسّره
، فإنه يُلزَم بتأويله ، والله أعلم ، وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ،
عن معاوية بن حَيْدة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "الرؤيا على رجل طائر
ما لم تُعَبر (2) فإذا عُبِّرت وقعت" (3)
وفي مسند أبي يَعْلَى ، من طريق يزيد الرَّقاشي ، عن أنس مرفوعا : "الرؤيا
لأول عابر" (4)
{ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ
فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
(42) }
لما ظن (5) يوسف ، عليه السلام ، نجاة أحِدهما - وهو الساقي - قال له يوسف خفية عن
الآخر والله أعلم ، لئلا يشعره أنه المصلوب قال له : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ
} يقول : اذكر قصتي عند ربك (6) - وهو الملك - فنسى ذلك الموصَى أن يُذَكِّر مولاه
بذلك ، وكان من جملة مكايد الشيطان ، لئلا يطلع نبي الله من السجن.
هذا هو الصواب أن الضمير في قوله : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ }
عائد على الناجي ، كما قال مجاهد ، ومحمد بن إسحاق وغير واحد. ويقال : إن الضمير
عائد على يوسف ، عليه السلام ، رواه ابن جرير ، عن ابن عباس ، ومجاهد أيضا ،
وعِكْرِمة ، وغيرهم. وأسند ابن جرير هاهنا حديثا فقال :
حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا عَمْرو بن محمد ، عن إبراهيم بن يزيد (7) عن عمرو بن
دينار ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لو
لم يقل - يعني : يوسف - الكلمة التي قال : ما لبث في السجن طول ما لبث. حيث يبتغي
الفرج من عند غير الله" (8).
وهذا الحديث ضعيف جدا ؛ لأن سفيان بن وَكِيع ضعيف ، وإبراهيم بن يزيد - هو الخُوزي
- أضعف منه أيضا. وقد رُوي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما ، وهذه المرسَلات
هاهنا لا تقبل لو قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن ، والله أعلم.
وأما "البضع" ، فقال مجاهد وقتادة : هو ما بين الثلاث إلى التسع. وقال
وهب بن مُنَبَّه : مكث
__________
(1) في ت : "فضل".
(2) في ت : "يعبر".
(3) سبق تخريجه عند تفسير الآية : "5" من هذه السورة.
(4) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3915) من طريق عبد الله بن نمير ، عن الأعمش ، عن
يزيد الرقاشي ، عن أنس موقوفا ، وقال البوصيري في الزوائد (3/216) : "هذا
إسناد فيه يزيد وهو ضعيف".
(5) في ت ، أ : "علم".
(6) في ت ، أ : "الملك".
(7) في ت : "عن يزيد".
(8) تفسير الطبري (16/112).
(4/391)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
أيوب
في البلاء سبعًا ويوسف في السجن سبعًا ، وعذاب (1) بختنصر سبعا.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : فلبث في السجن بضع سنين قال : ثنتا
(2) عشرة سنة. وقال الضحاك : أربع عشرة سنة.
{ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ
عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأ
أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) }
__________
(1) في ت ، أ : "وعذب".
(2) في ت ، أ : "ثنتى".
(4/392)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
{
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ (44)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ
بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي
سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ
خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ
فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا
قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ
يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) }
هذه الرؤيا من مَلك مصر مما قَدّر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسفَ ، عليه
السلام ، من السجن مُعزَّزًا مكرما ، وذلك أن المَلك رأى هذه الرؤيا ، فهالته
وتَعجَّب من أمرها ، وما يكون تفسيرها ، فجمع الكهنة والحُزَاة وكبراء دولته
وأمراءه وقَصَّ عليهم ما رأى ، وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ، واعتذروا
إليه بأن هذه { أَضْغَاثُ أَحْلامٍ } أي : أخلاط اقتضت رؤياك هذه (1) { وَمَا
نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحْلامِ بِعَالِمِينَ } أي : ولو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط ،
لما كان لنا معرفة بتأويلها ، وهو تعبيرها. فعند ذلك تَذَكَّرَ ذلك الذي نجا من
ذينك الفتيين اللذين (2) كانا في السجن مع يوسف ، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه
به يوسف ، من ذكر أمره للملك ، فعند ذلك تذكر { بَعْدَ أُمَّةٍ } أي : مدة - وقرأ
بعضهم : "بعد أَمِةٍ" أي : بعد نسيان ، فقال للملك والذين جمعهم لذلك :
{ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي : بتأويل هذا المنام ، { فَأَرْسِلُونِ
} أي : فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن. ومعنى الكلام : فبعثوا (3) فجاء. فقال
: { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا } وذكر المنام الذي رآه الملك ، فعند
ذلك ذكر له يوسف ، عليه السلام ، تعبيرها من غير تعنيف لذلك الفتى في نسيانه ما
وصاه به ، ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك ، بل قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ
دَأَبًا } أي (4) يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ، ففسر البقر بالسنين ؛
لأنها تثير الأرض التي تُسْتغل منها الثمرات والزروع ، وهن السنبلات
__________
(1) في ت ، أ : "رؤيا في هذا".
(2) في ت : "الذي".
(3) في ت : "فبعثوه".
(4) في ت : "إذ".
(4/392)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
الخضر
، ثم أرشدهم إلى ما يعتمدونه في تلك السنين فقال : { فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ
فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ } أي : مهما استغللتم (1) في هذه
السبع السنين الخصب فاخزنوه في سنبله ، ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه
، إلا المقدار الذي تأكلونه ، وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه ، لتنتفعوا في
السبع الشداد ، وهن السبع السنين المُحْل التي تعقب هذه السبع متواليات ، وهن
البقرات العجاف اللاتي يأكلن السِّمان ؛ لأن سنى (2) الجَدْب يؤكل فيها ما
جَمَعَوه في سنى (3) الخصب ، وهن السنبلات اليابسات.
وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا ، وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ؛ ولهذا قال : {
يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ }
ثم بشرهم بعد الجَدْب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ
النَّاسُ } أي : يأتيهم الغيث ، وهو المَطرُ ، وتُغل البلاد ، ويَعصرُ الناس ما
كانوا يعصرون على عادتهم ، من زيت ونحوه ، وسكر ونحوه حتى قال بعضهم : يدخل (4)
فيه حلب اللبن أيضًا.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يحلبون.
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ
إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ
يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ
قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ
نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ
أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) }
__________
(1) في ت ، أ : "استغليتم".
(2) في ت ، أ : "سنين".
(3) في ت ، أ : "سنين".
(4) في ت ، أ : "ويدخل".
(4/393)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
{
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ
رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) }
يقول تعالى إخبارًا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه ، التي كان رآها ، بما
أعجبه وأينقه ، فعرف فضل يوسف ، عليه السلام ، وعلمه [وحسن اطلاعه على رؤياه] (1)
وحسن أخلاقه على من ببلده من رعاياه ، فقال { ائْتُونِي بِهِ } أي : أخرجوه من
السجن وأحضروه. فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته
براءة ساحته ، ونزاهة عرضه ، مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز ، وأن هذا السجن لم
يكن على أمر يقتضيه ، بل كان ظلما وعدوانا ، قال : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ
فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي
بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }
وقد وردت السنة بمدحه على ذلك ، والتنبيه على فضله وشرفه ، وعُلُوّ قدره وصبره ،
صلوات الله
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(4/393)
وسلامه
عليه ، ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري ، عن سعيد وأبي سلمة ، عن أبي هريرة ،
رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نحن أحق بالشك من
إبراهيم إذ قال { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ
قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [البقرة : 260] ويرحم الله لوطا لقد
كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي" (1)
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، حدثنا محمد بن عمرو ،
عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : {
فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي
بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كنت أنا
لأسرعت الإجابة ، وما ابتغيت العذر" (2).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عُيَيْنَة ، عن عمرو بن دينار ، عن عِكْرِمة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله
يغفر له ، حين سُئل عن البقرات العِجاف والسِّمان ، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى
أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له ، حين أتاه
الرسول ، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ، َ ولكنه أراد أن يكون له العذر".
هذا حديث مرسل (3)
وقوله تعالى : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ }
إخبار عن الملك حين جمع النّسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز ، فقال مخاطبا
لهن كلهن - وهو يريد امرأة وزيره ، وهو العزيز - : { مَا خَطْبُكُنَّ } أي : شأنكن
وخبركن { إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ } يعني : يوم الضيافة ؟ {
قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ } أي : قالت النسوة جوابا
للملك : حاش لله أن يكون يوسف مُتَّهَمَا ، والله ما علمنا عليه من سوء. فعند ذلك
{ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ }
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : تقول الآن : تبين الحق وظهر وبرز.
{ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : في قوله
: { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي } { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ
بِالْغَيْبِ } تقول : إنما اعترفت بهذا على نفسي ، ذلك ليعلم زوجي أن لم أخنه في
نفس الأمر ، ولا وقع المحذور الأكبر ، وإنما راودت هذا الشاب مراودة ، فامتنع ؛
فلهذا اعترفتُ ليعلم أني بريئة ، { وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ
الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي } تقول المرأة : ولست أبرئ نفسي ، فإن
النفس تتحدث (4) وتتمنى ؛ ولهذا راودته لأنها أمارة بالسوء ، { إِلا مَا (5)
رَحِمَ رَبِّي } أي : إلا من عصمه الله تعالى ، { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ }
(6).
__________
(1) المسند (2/326) وصحيح البخاري برقم (4694) وصحيح مسلم برقم (151).
(2) المسند (2/347) وقال الهيثمي في المجمع (7/40) : "وفيه محمد بن عمرو ،
وهو حسن الحديث".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/281 ، 282) وقد وصله إسحاق بن راهويه في مسنده ومن طريقه
الطبراني في المعجم الكبير (11/249) من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن عمرو بن
دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مرفوعا بنحوه. وفيه إبراهيم بن يزيد وهو متروك.
(4) في ت ، أ : "تحدث".
(5) في ت أ : "عن" وهو خطأ.
(6) في ت : "لغفور" وهو خطأ.
(4/394)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
وهذا
القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في
تفسيره ، وانتدب لنصره الإمام العلامة أبو العباس ابن تَيميَّة ، رحمه الله ،
فأفرده بتصنيف على حدة (1)
وقد قيل : إن ذلك من كلام يوسف ، عليه السلام ، من قوله : { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ
أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ } في زوجته { بِالْغَيْبِ } الآيتين أي : إنما رَدَدْتُ
الرسول ليعلم الملك براءتي وليعلم العزيز { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ } في زوجته {
بِالْغَيْبِ } { وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ
نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } [الآية] (2) وهذا القول هو الذي
لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن
عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما جمع الملك النسوة فسألهن : هل راودتن يوسف عن
نفسه ؟ { قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ
امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ
وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } قَالَ يُوسُفُ { ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ
أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ] } (3)
قال : فقال له جبريل ، عليه السلام : ولا يوم هممت بما هممت به. فقال : { وَمَا
أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } (4)
وهكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعكرمة ، وابن أبي الهُذَيل ، والضحاك ،
والحسن ، وقتادة ، والسُّدي. والقول الأول أقوى وأظهر ؛ لأن سياق الكلام كله من
كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ، ولم يكن يوسف ، عليه السلام ، عندهم ، بل بعد ذلك
أحضره الملك.
{ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ
قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى
خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) }
يقول تعالى إخبارًا عن الملك حين تحقق براءة يوسف ، عليه السلام ، ونزاهة عرْضه
مما نسب إليه ، قال : { ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } أي : أجعله من
خاصّتي وأهل مشورتي { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } أي : خاطبه الملك وعرفه ، ورأى فضله
وبراعته ، وعلم ما هو عليه من خَلْق وخُلُق وكمال قال له الملك : { إِنَّكَ
الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } أي : إنك عندنا قد بقيت ذا مكانة وأمانة ،
فقال يوسف ، عليه السلام : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ } مدح نفسه ، ويجوز للرجل ذلك إذا جُهِل أمره ، للحاجة. وذكر أنه {
حَفِيظٌ } أي : خازن أمين ، { عَلِيمٌ } ذو علم وبصرَ بما يتولاه (5).
قال شيبة بن نعامة : حفيظ لما استودعتني ، عليم بِسِني الجَدْب. رواه ابن أبي
حاتم.
وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه ، ولما في ذلك من المصالح للناس (6) وإنما سأل أن
يُجْعَل على
__________
(1) انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/298).
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) تفسير الطبري (16/143).
(5) في ت : "نتولاه".
(6) في ت : "مصالح الناس".
(4/395)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
خزائن
(1) الأرض ، وهي الأهرام التي (2) يجمع فيها الغلات ، لما يستقبلونه من السنين
التي أخبرهم بشأنها ، ليتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد ، فأجيب إلى
ذلك رغبةً فيه ، وتكرِمَةً له ؛ ولهذا قال تعالى :
{ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) }
يقول تعالى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ } أي : أرض مصر ، {
يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ }
قال السُّدِّي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يتصرف فيها كيف يشاء.
وقال ابن جرير : يتخذ منها منزلا حيث يشاء (3) بعد الضيق والحبس والإسار. {
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } أي :
وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته ، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز ؛ فلهذا
أعقبه الله عز وجل السلامة والنصر والتأييد ، { وَلا نُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا
يَتَّقُونَ } يخبر تعالى أن ما ادخره (4) الله لنبيه يوسف ، عليه السلام ، في
الدار الآخرة أعظم وأكثر (5) وأجل ، مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا كما قال
تعالى في حق سليمان ، عليه السلام : { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ
بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } [ص : 39 ،
40].
والغرض أن يوسف ، عليه السلام ، ولاه مَلك مصر الريانُ بن الوليد الوزارة في بلاد
مصر ، مكان الذي اشتراه من مصر زوج التي راودته ، وأسلم الملك على يدي يوسف ، عليه
السلام.
قاله مجاهد. وقال محمد بن إسحاق لما قال يوسف للملك : { اجْعَلْنِي عَلَى
خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } قال الملك : قد فعلت. فولاه فيما
ذكروا عمل إطفير (6) وعزل إطفير (7) عما كان عليه ، يقول الله عز وجل : {
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ
نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فذكر لي
- والله أعلم - أن إطفير (8) هَلك في تلك الليالي ، وأن الملك الريان بن الوليد
زوَّج يوسف امرأة إطفير (9) راعيل ، وأنها حين دخلت عليه قال : أليس هذا خيرا مما
كنت تريدين ؟ قال : فيزعمون أنها قالت : أيها الصديق ، لا تلمني ، فإني كنت امرأة
كما ترى حسناء جميلة ، ناعمة في ملك ودنيا ، وكان صاحبي لا يأتي النساء ، وكنت كما
جعلك الله في حسنك وهيئتك (10) على ما رأيت ، فيزعمون أنه وجدها عذراء ، فأصابها
فولدت له رجلين أفرائيم بن يوسف ، وميشا بن
__________
(1) في ت : "خزان"
(2) في ت : "الذي".
(3) في ت : "شاء".
(4) في ت : "ذخره".
(5) في ت : "وأكبر".
(6) في ت : "إظفير".
(7) في ت : "إظفير".
(8) في ت : "إظفير".
(9) في ت : "إظفير".
(10) في ت : "وهيبتك".
(4/396)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
يوسف
(1) وولد لأفرائيم نون ، والد يوشع بن نون ، ورحمة امرأة أيوب ، عليه السلام.
وقال الفضيل بن عياض : وقفت امرأة العزيز على ظهر الطريق ، حتى مَرّ يوسف ، فقالت
: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته ، والملوك عبيدا بمعصيته.
{ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ
لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ
الْمُنزلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا
تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
}
ذكر السُّدي ، ومحمد بن إسحاق ، وغيرهما من المفسرين : أن السبب الذي أقدم إخوة
يوسف بلاد مصر ، أن يوسف ، عليه السلام ، لما باشر الوزارة بمصر ، ومضت السبع
السنين المخصبة ، ثم تلتها سنينُ الجدب ، وعمّ القحط بلاد مصر بكمالها ، ووصل إلى
بلاد كنعان ، وهي التي فيها يعقوب ، عليه السلام ، وأولاده. وحينئذ احتاط يوسف ،
عليه السلام ، للناس في غلاتهم ، وجمعها أحسن (2) جمع ، فحصل من ذلك مبلغ عظيم ،
وأهراءَ متعددة هائلة ، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم والمعاملات ، يمتارون
لأنفسهم وعيالهم ، فكان لا يعطى الرجل أكثر من حمل بعير في السنة. وكان ، عليه
السلام ، لا يشبع نفسه ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار
، حتى يتكفى الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين. وكان رحمة من الله على أهل مصر.
وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة الأولى بالأموال ، وفي الثانية
بالمتاع ، وفي الثالثة بكذا ، وفي الرابعة بكذا ، حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم
بعدما تَمَلَّك عليهم جميع ما يملكون ، ثم أعتقهم وردّ عليهم أموالهم كلها ، الله
(3) أعلم بصحة ذلك ، وهو من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب.
والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوةُ يوسف ، عن أمر أبيهم لهم في ذلك ،
فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه ، فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها
طعاما ، وركبوا عشرة نفر ، واحتبس يعقوب ، عليه السلام ، عنده بنيامين شقيق يوسف ،
عليهما (4) السلام ، وكان أحب ولده إليه بعد يوسف. فلما دخلوا على يوسف ، وهو جالس
في أبهته ورياسته وسيادته ، عرفهم حين نظر إليهم ، { وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ } أي
: لا يعرفونه ؛ لأنهم فارقوه وهو صغير حدث فباعوه (5) للسيارة ، ولم يدروا أين
يذهبون به ، ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه ، فلهذا لم
يعرفوه ، وأما هو فعرفهم.
__________
(1) وهذا مما لم يرد به الكتاب ولا السنة ، فمثله لا يعتمد فيه على رواية ابن
إسحاق رحمه الله.
(2) في ت : "أتم".
(3) في ت : "والله".
(4) في ت : "عليه".
(5) في ت : "وباعوه".
(4/397)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
فذكر
السدي وغيره : أنه شرع يخاطبهم ، فقال لهم كالمنكر عليهم : ما أقدمكم بلادي ؟
قالوا : أيها العزيز ، إنا قدمنا للميرة. قال : فلعلكم عيون ؟ قالوا : معاذ الله.
قال : فمن أين أنتم ؟ قالوا : من بلاد كنعان ، وأبونا يعقوب نبي الله. قال : وله
أولاد غيركم ؟ قالوا : نعم ، كنا اثني عشر ، فذهب أصغرنا ، هلك في البَرِيَّة ،
وكان أحبنا إلى أبيه ، وبقي شقيقه فاحتبسه (1) أبوه ليتسلى به عنه. فأمر بإنزالهم
وإكرامهم.
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي : وَفَّاهم كيلهم ، وحمل لهم أحمالهم
قال : ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم ، لأعلم صدقكم فيما ذكرتم ، { أَلا تَرَوْنَ
أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنزلِينَ } يرغبهم في الرجوع إليه ،
ثم رَهَّبَهم فقال : { فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي
وَلا تَقْرَبُونِ } أي : إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية ، فليس لكم عندي
ميرة ، { وَلا تَقْرَبُونِ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا
لَفَاعِلُونَ } أي : سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا
فيما قلناه.
وذكر السدي : أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم. وفي هذا نظر ؛ لأنه أحسن
إليهم ورغبهم كثيرا ، وهذا لحرصه (2) على رجوعهم.
{ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ } أي : غلمانه { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } وهي التي
قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها { فِي رِحَالِهِمْ } أي : في أمتعتهم من حيث لا
يشعرون ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } بها.
قيل : خشي يوسف ، عليه السلام ، ألا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها.
وقيل : تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام. وقيل : أراد أن يردهم إذا
وجدوها في متاعهم تحرجًا وتورعًا لأنه يعلم ذلك منهم (3) والله أعلم.
{ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا
الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
}
__________
(1) في ت : "فاحبسوه".
(2) في ت : "ولهذا بحرصه" وفي أ : "ولهذا يحرضهم".
(3) في ت ، أ : "منهم ذلك".
(4/398)
قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
{
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) }
يخبر تعالى عنهم إنهم رجعوا إلى أبيهم { قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا
الْكَيْلُ } يعنون بعد هذه المرة ، إن لم ترسل معنا أخانا بنيامين ، فأرسله معنا
نكتل.
وقرأ بعضهم : [يكتل] (1) بالياء ، أي يكتل هو ، { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } أي
: لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك. وهذا كما قالوا له في يوسف : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا
غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (2) ؛ ولهذا قال لهم : {
هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ } أي
: هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل ، تغيبونه عني ، وتحولون بيني
وبينه ؟ { فَاللَّهُ خَيْرٌ حفظًا } وقرأ بعضهم : "حَافِظًا"
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "نرتع ونلعب".
(4/398)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
{
وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أي : هو أرحم الراحمين بي ، وسيرحم كبري وضعفي
ووجدي بولدي ، وأرجو من الله أن يرده علي ، ويجمع شملي به ، إنه أرحم الراحمين.
{ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا
وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ
يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ
اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ
مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) }
يقول تعالى : ولما فتح إخوة يوسف متاعهم ، وجدوا بضاعتهم ردّت إليهم ، وهي التي كان
أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم ، فلما وجدوها في متاعهم { قَالُوا يَا أَبَانَا
مَا نَبْغِي } ؟ أي : ماذا نريد ؟ { هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } كما
قال قتادة. ما نبغي وراء هذا (1) ؟ إن بضاعتنا ردت إلينا وقد أوفي لنا الكيل.
{ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي : إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا ، {
وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنزدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } وذلك أن يوسف ، عليه السلام ، كان
يعطي كل رجل حمل بعير. وقال مجاهد : حمل حمار. وقد يسمى في بعض اللغات بعيرا ، كذا
قال.
{ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } هذا من تمام الكلام وتحسينه ، أي : إن هذا يسير في
مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا.
{ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } أي :
تحلفون (2) بالعهود والمواثيق ، { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ }
إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه.
{ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } أكده عليهم فقال : { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ
وَكِيلٌ }
قال ابن إسحاق : وإنما فعل ذلك ؛ لأنه لم يجد بدا من بعثهم لأجل الميرة ، التي لا
غنى لهم عنها ، فبعثه معهم.
{ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ
أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ
الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ
يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ
قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يَعْلَمُونَ (68) }
__________
(1) في أ : "هذه".
(2) في ت : "تحلفوا".
(4/399)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
يقول
تعالى ، إخبارا عن يعقوب ، عليه السلام : إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين
إلى مصر ، ألا يدخلوا كلهم من باب واحد ، وليدخلوا من أبواب متفرقة ، فإنه كما قال
ابن عباس ، ومحمد بن كعب ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّي : إنه خشي
عليهم العين ، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة ، ومنظر وبهاء ، فخشي عليهم أن
يصيبهم الناس بعيونهم ؛ فإن العين حق ، تستنزل الفارس عن فرسه.
وروى ابن أبي حاتم ، عن إبراهيم النَّخّعي في قوله : { وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ
مُتَفَرِّقَةٍ } قال : علم أنه سيلقى إخوته في بعض الأبواب.
وقوله : { وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : هذا الاحتراز
لا يرد قدر الله وقضاءه (1) ؛ فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع (2) {
إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ
يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا
} قالوا : هي دفع إصابة العين لهم ، { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ
} قال قتادة والثوري : لذو عمل بعلمه. وقال ابن جرير : لذو علم لتعليمنا إياه ، {
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
{ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا
أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) }
يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين ، فأدخلهم
دار كرامته ومنزل ضيافته ، وأفاض عليهم الصلة والإلطاف والإحسان ، واختلى بأخيه
فأطلعه على شأنه ، وما جرى له ، وعَرّفه أنه أخوه ، وقال له : "لا
تبتئس" أي : لا تأسف على ما صنعوا بي ، وأمره بكتمان ذلك عنهم ، وألا يطلعهم
على ما أطلعه عليه من أنه أخوه ، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده ،
مُعزّزًا مكرما معظما.
__________
(1) في ت : "قضاء الله وقدره".
(2) في ت : "لا يمانع ولا يخالف".
(4/400)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
{
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا
وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ
الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) }
لما جهزهم وحَمَّل لهم أبعرتهم طعاما ، أمر بعض فتيانه أن يضع "السقاية"
، وهي : إناء من فضة في قول الأكثرين. وقيل : من ذهب - قاله ابن زيد - كان يشرب
فيه ، ويكيل للناس به من عزَّة الطعام إذ ذاك ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ،
والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد.
وقال شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { صُوَاعَ الْمَلِكِ }
قال : كان من
(4/400)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
فضة
يشربون فيه ، وكان مثل المكوك ، وكان للعباس مثلُه في الجاهلية ، فوضعها في متاع
بنيامين من حيث لا يشعر أحد ، ثم نادى مناد بينهم : { أَيَّتُهَا الْعِيرُ
إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } فالتفتوا إلى المنادي وقالوا : { مَاذَا تَفْقِدُونَ
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ } أي : صاعه الذي يكيل به ، { وَلِمَنْ جَاءَ
بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } وهذا من باب الجُعَالة ، { وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } وهذا من
باب الضمان والكفالة.
{ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا
كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ
اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ
لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ
دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) }
لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة ، قال لهم إخوة يوسف : { تَاللَّهِ لَقَدْ
عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي :
لقد تحققتم وعلمتم منذ (1) عرفتمونا ، لأنهم (2) شاهدوا منهم سيرة حسنة ، أنَّا ما
جئنا للفساد في الأرض ، وما كنا سارقين ، أي : ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة ،
فقال (3) لهم الفتيان : { فَمَا جَزَاؤُهُ } أي : السارق ، إن كان فيكم { إِنْ
كُنْتُمْ كَاذِبِينَ } أي : أي شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه (4) ؟ {
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ }
وهكذا كانت شريعة إبراهيم : أن السارق يدفع إلى المسروق منه. وهذا هو الذي أراد
يوسف ، عليه السلام ؛ ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، أي فتشها قبله ، تورية ،
{ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ } فأخذه منهم بحكم اعترافهم
والتزامهم وإلزاما لهم بما يعتقدونه ؛ ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ كِدْنَا
لِيُوسُفَ } وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه ، لما فيه من
الحكمة والمصلحة المطلوبة.
وقوله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } أي : لم يكن له
أخذه في حكم ملك مصر ، قاله الضحاك وغيره.
وإنما قيض الله له أن (5) التزم له إخوته بما التزموه ، وهو كان يعلم ذلك من
شريعتهم ؛ ولهذا مدحه تعالى فقال : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ } كما قال
تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } [المجادلة : 11].
{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم
، حتى ينتهي إلى الله عز وجل. وكذا رَوَى عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد
الأعلى الثعلبي ، عن سعيد بن جبير
__________
(1) في ت : "مذ".
(2) في ت : "لا لأنهم".
(3) في أ : "فقالت".
(4) في أ : "فيهم من أخذها".
(5) في ت : "أنه".
(4/401)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
قال
كنا عند ابن عباس فتحدث بحديث عجيب ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله فوق كل ذي علم
عليم [فقال ابن عباس : بئس ما قلت ، الله العليم ، وهو فوق كل عالم] (1) وكذا روى
سماك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال :
يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم. وهكذا (2) قال
عكرمة.
وقال قتادة : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } حتى ينتهي العلم إلى الله ،
منه بُدئ وتعلمت العلماء ، وإليه يعود ، وفي قراءة عبد الله "وَفَوْقَ كُلِّ
عالم عليم".
{ قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا
يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) }
وقال (3) إخوة يوسف لما رأوا الصّواع قد أخرج من متاع بنيامين : { إِنْ يَسْرِقْ
فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } يتنصلون إلى العزيز من التشبه (4) به ،
ويذكرون أن هذا فعل كما فَعَل أخ له من قبل ، يعنون به يوسف ، عليه السلام.
قال سعيد بن جبير ، عن قتادة (5) كان يوسف قد سرق صنما لجده ، أبي أمه ، فكسره.
وقال محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قال : كان أول ما دخل
على يوسف من البلاء ، فيما بلغني ، أن عمته ابنة إسحاق ، وكانت أكبر ولد إسحاق ،
وكانت إليها منطقة إسحاق ، وكانوا يتوارثونها بالكبر ، فكان من اختباها (6) ممن
وليها كان له سَلَما لا ينازع فيه ، يصنع فيه ما يشاء (7) وكان يعقوب حين ولُد له
يوسف قد حضنته عمته ، فكان منها وإليها ، فلم يُحب أحدٌ شيئا من الأشياء حبها إياه
، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات وقعت نفس يعقوب عليه فأتاها ، فقال : يا أخيَّه (8)
سلّمى إليّ يوسف ، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة. قالت : فوالله ما أنا
بتاركته. ثم قالت : فدعه عندي أياما أنظر إليه وأسكن عنه ، لعل ذلك يسلّيني عنه -
أو كما قالت. فلما خرج من عندها يعقوب ، عمدت إلى منطقة إسحاق ، فحزمتها على يوسف
من تحت ثيابه ، ثم قالت : فقدت منطقة إسحاق ، عليه السلام ، فانظروا من أخذها ومن
أصابها ؟ فالتمست ثم قالت : اكشفوا أهل البيت. فكشفوهم فوجدوها مع يوسف. فقالت :
والله إنه لي لسَلَمٌ ، أصنع فيه ما شئت. فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر. فقال لها :
أنت وذاك ، إن كان فعل ذلك فهو سَلَم لك ما أستطيع غير ذلك. فأمسكته فما قدر عليه
يعقوب حتى ماتت. قال : فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه : {
إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ } (9).
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "وكذا".
(3) في ت ، أ : "فقال".
(4) في أ : "الشبه".
(5) في ت ، أ : "وقتادة".
(6) في أ : "اختانها".
(7) في ت ، أ : "ما شاء".
(8) في ت ، أ : "يا أخته".
(9) رواه الطبري في تفسير (16/196).
(4/402)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
وقوله
: { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ } (1) يعني : الكلمة التي بعدها ، وهي قوله
: { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ } (2) أي :
تذكرون. قال هذا في نفسه ، ولم يبده لهم ، وهذا من باب الإضمار قبل الذكر ، وهو
كثير ، كقول الشاعر : (3)
جَزَى بَنُوه أبا الغيلان عن كبَرٍ... وحسْن فعل (4) كما يُجزَى سنمّار
وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة ، في منثورها وأخبارها وأشعارها.
قال العوفي ، عن ابن عباس : { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ } قال : أسر في
نفسه : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ }
{ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)}
__________
(1) في ت : "فأسر هذا".
(2) في ت : "يصفون".
(3) هو سليط بن سعد ، والبيت من شواهد ابن عقيل في شرحه على الألفية لابن مالك
برقم (153).
(4) في ت ، أ : "ظن".
(4/403)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
{
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا
إِذًا لَظَالِمُونَ (79) }
لما تعين أخْذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم ، شرعوا يترققون له
ويعطفونه عليهم ، ف { قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا
كَبِيرًا } يعنون : وهو يحبه حبا شديدا ويتسلى به عن ولده الذي فقده ، { فَخُذْ
أَحَدَنَا مَكَانَهُ } أي : بدله ، يكون عندك عِوَضًا عنه ، { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ } (1) أي : من العادلين المنصفين القابلين للخير. { قَالَ مَعَاذَ
اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ } أي : كما قلتم
واعترفتم ، { إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ } [أي] (2) إن أخذنا بريئا بسقيم.
{ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ
تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ
قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي
أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا
إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا
إِلا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا
وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) }
يخبر تعالى عن إخوة يوسف : أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين ، الذي قد
التزموا لأبيهم برده إليه ، وعاهدوه على ذلك ، فامتنع عليهم ذلك ، { خَلَصُوا } أي
: انفردوا عن الناس { نَجِيًّا } يتناجون فيما بينهم.
{ قَالَ كَبِيرُهُمْ } وهو رُوبيل ، وقيل : يهوذا ، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه
في البئر عندما همّوا
__________
(1) في أ : "لنراك" وهو خطأ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(4/403)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
بقتله
، قال لهم : { أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ
مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } لتردنَّه إليه ، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما
تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه ، { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ } أي : لن أفارق هذه
البلدة ، { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي } في الرجوع إليه راضيًا عني ، { أَوْ
يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } قيل : بالسيف. وقيل : بأن يمكنني من أخذ أخي ، { وَهُوَ
خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } (1).
ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع ، حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه ،
ويبرءوا مما وقع بقولهم.
وقوله : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } قال عكرمة وقتادة : ما [كنا] (2)
نعلم أن ابنك سرق (3).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما علمنا في الغيب أنه يسرق (4) له شيئا ، إنما
سألنا (5) ما جزاء السارق ؟
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } قيل : المراد مصر. قاله قتادة ،
وقيل : غيرها ، { وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي : التي رافقناها ،
عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا ، { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فيما أخبرناك به ،
من أنه سرق وأخذوه بسرقته.
{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
(83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ
عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ
تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ
مَا لا تَعْلَمُونَ (86) }
قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ
أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ }
قال محمد بن إسحاق : لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما يجري اتهمهم ، وظن أنها كفعلتهم
بيوسف { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ }
(6).
وقال بعض الناس : لما كان صنيعهم (7) هذا مرتبا على فعلهم الأول ، سُحب (8) حكم
الأول عليه ، وصح قوله : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ
جَمِيلٌ }
ثم ترجى (9) من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة : يوسف وأخاه بنيامين ، وروبيل
الذي أقام بديار
__________
(1) في ت ، أ : "أحكم الحاكمين" وهو خطأ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت : "يسرق".
(4) في ت ، أ : "سرق".
(5) في ت ، أ : "سألناه".
(6) في ت ، أ : "فقال" وهو خطأ.
(7) في ت : "صبرنا".
(8) في ت : "اسحب" ، وفي أ : "استحب".
(9) في ت : "يرجى".
(4/304)
مصر
ينتظر أمر الله فيه ، إما أن يرضى عنه أبوه فيأمره بالرجوع إليه ، وإما أن يأخذ
أخاه خفية ؛ ولهذا قال : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا
إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } أي : العليم بحالي ، { الْحَكِيمُ } في أفعاله وقضائه
وقدره.
{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } أي : أعرض عن بنيه
وقال متذكرا حُزنَ يوسف القديم الأول : { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } جَدَّد له
حزنُ الابنين (1) الحزن الدفين.
قال عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري ، عن سفيان العُصْفُريّ ، عن سعيد بن جبير أنه قال
: لم يعط أحد غيرَ هذه الأمة الاسترجاع ، ألا تسمعون إلى قول يعقوب ، عليه السلام
: { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ
كَظِيمٌ } أي : ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق (2) قاله قتادة وغيره.
وقال الضحاك : { فَهُوَ كَظِيمٌ } كميد حزين.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حماد بن سلمة [حدثنا أبو موسى] ، عن علي بن
زيد (3) عن الحسن ، عن الأحنف بن قيس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"إن داود عليه السلام ، قال : يا رب ، إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم
وإسحاق ويعقوب ، فاجعلني لهم رابعا. فأوحى الله تعالى إليه أن يا داود ، إن
إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن إسحاق بذل مهجة (4)
دمه في سببي فصبر ، وتلك بلية لم تنلك ، وإن يعقوب أخذت منه حبيبه حتى ابيضت عيناه
من الحزن ، فصبر ، وتلك بلية لم تنلك".
وهذا مرسل ، وفيه نكارة (5) ؛ فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح ، ولكن علي بن زيد
بن جُدْعَان له مناكير وغرائب كثيرة ، والله أعلم.
وأقرب ما في هذا أن يكون قد حكاه الأحنف بن قيس ، رحمه الله ، عن بني (6) إسرائيل
ككعب ووهب ونحوهما ، والله أعلم ، فإن الإسرائيليين ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف
لما احتبس أخاه بسبب السرقة يتلطف له في رده ، ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون
بالبلاء ، فإبراهيم ابتلي بالنار ، وإسحاق بالذبح ، ويعقوب بفراق يوسف ، في حديث
طويل لا يصح ، والله أعلم ، فعند ذلك رق له بنوه ، وقالوا له على سبيل الرفق به
والشفقة عليه : { قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أي : لا تفارق
تَذَكُّر يوسف ، { حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا } أي : ضعيف الجسم ، ضعيف القوة ، {
أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ } يقولون : وإن استمر بك هذا الحال خشينا عليك
الهلاك والتلف.
{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } أي : أجابهم عما قالوا
بقوله : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي }
__________
(1) في ت : "الاثنين".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/284) وروى موصولا ولا يصح.
(3) في ت : "يزيد".
(4) في ت : "مهجته"
(5) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (11/554) عن عفان ، عن حماد بن سلمة به.
(6) في ت : "عن بعض بني".
(4/405)
أي :
همي وما أنا فيه { إِلَى اللَّهِ } وحده { وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ } أي : أرجو منه كل خير.
وعن ابن عباس : { وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [يعني رؤيا يوسف
أنها صدق وأن الله لا بد أن يظهرها وينجزها. وقال العوفي عن ابن عباس : {
وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } (1) أعلم أن رؤيا يوسف صادقة ، وأني
سوف أسجد له.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي
غَنَيَّة ، عن حفص بن عمر بن أبي الزبير ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كان ليعقوب النبي ، عليه السلام ، أخ
مُؤاخ له ، فقال له ذات يوم : ما الذي أذهب بصرك وقوّس ظهرك ؟ قال : الذي (2) أذهب
بصري البكاء (3) على يوسف ، وأما الذي قوس ظهري فالحزن على بنيامين ، فأتاه جبريل
، عليه السلام ، فقال : يا يعقوب ، إن الله يُقرئك السلام ويقول لك : أما تستحيي
أن تشكوني إلى غيري ؟ فقال يعقوب : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله. فقال جبريل ،
عليه السلام : الله أعلم بما تشكو" (4).
وهذا حديث غريب ، فيه نكارة.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في أ : "أما الذي".
(3) في ت ، أ : "فالبكاء".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (2/348) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يحيى بن
عبد الملك بن أبي غنية ، عن حفص بن عمر ابن الزبير ، عن أنس بنحوه ، وقال الحاكم :
"حفص بن عمر بن الزبير ، وأظن الزبير وهما من الراوي فإنه حفص بن عمر بن عبد
الله بن أبي طلحة الأنصاري". ورواه إسحاق بن راهويه ومن طريقه الحاكم في
المستدرك (2/348) من طريق يحيى بن عبد الملك ، عن أنس بن مالك مرسلا. ورواه ابن
أبي الدنيا في "الفرج بعد الشدة" برقم (47) من طريق زافر بن سليمان عن
يحيى بن عبد الملك عن رجل ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا. ورواه الطبراني
في الأوسط برقم (3341) "مجمع البحرين" من طريق وهب بن بقية عن يحيى بن
عبد المطلب عن حصين بن عمر الأحمسي عن أبي الزبير عن أنس مرفوعا. وبهذا يتبين أن
الحديث مضطرب.
(4/406)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
{
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ
رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ
مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا
الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) }
يقول تعالى مخبرا عن يعقوب ، عليه السلام ، إنه ندب بنيه على (1) الذهاب في الأرض
، يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين.
والتحسس (2) يكون في الخير ، والتجسس يستعمل في الشر.
ونَهّضهم وبشرهم وأمرهم ألا ييأسوا من روح الله ، أي : لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من
الله فيما يرومونه ويقصدونه (3) فإنه لا يقطع الرجاء ، ويقطع الإياس من الله إلا
القوم الكافرون (4).
وقوله : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ } تقدير الكلام : فذهبوا فدخلوا بلد (5) مصر
، ودخلوا على يوسف ،
__________
(1) في أ : "إلى".
(2) في ت : "والتجسس".
(3) في ت ، أ : "ويقصدون له".
(4) في ت : "الكافرين".
(5) في أ : "بلاد".
(4/406)
{
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ } يعنون من الجدب
والقحط وقلة الطعام ، { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ } أي : ومعنا ثمن الطعام
الذي تمتاره ، وهو ثمن قليل. قاله مجاهد ، والحسن ، وغير واحد.
وقال ابن عباس : الرديء (1) لا يَنفُق ، مثل خَلَق الغِرارة ، والحبل ، والشيء ،
وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان. وكذا قال قتادة ،
والُّسدي.
وقال سعيد بن جبير [وعكرمة] (2) هي الدراهم الفُسُول.
وقال أبو صالح : هو الصنوبر وحبة الخضراء.
وقال الضحاك : كاسدة لا تنفق.
وقال أبو صالح : جاءوا بحَبِّ البُطْم الأخضر والصنوبر.
وأصل الإزجاء : الدفع لضعف الشيء ، كما قال حاتم الطائي :
ليَبْك عَلى مِلْحَانَ ضَيفٌ مُدَفَّعٌ... وَأرمَلَةٌ تُزْجي مَعَ الليل أرمَلا
(3)
وقال أعشى بني ثعلبة :
الوَاهبُ المائةِ الهجَان وعَبدِها... عُوذًا تُزَجِّي خَلْفَها أطْفَالَها (4)
وقوله إخبارا عنهم : { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ } أي : أعطنا بهذا الثمن القليل
ما كنت تعطينا قبل ذلك. وقرأ ابن مسعود : "فأوقرْ ركابنا وتصدق علينا".
وقال ابن جريج : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } برَدِّ أخينا إلينا.
وقال سعيد بن جبير والسدي : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } يقولون : تصدق علينا بقبض
هذه البضاعة المزجاة ، وتجوز فيها.
وسئل سفيان بن عُيُيْنَة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء قبل النبي صلى الله
عليه وسلم ؟ فقال : ألم تسمع قوله : { فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ
عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ } رواه ابن جرير عن الحارث ،
عن القاسم ، عنه (5) (6).
وقال ابن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا القاسم ، حدثنا مروان بن معاوية ، عن عثمان
بن الأسود : سمعت مجاهدا وسئل : هل يكره أن يقول الرجل في دعائه : اللهم تصدق علي
؟ فقال : نعم ، إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب.
__________
(1) في ت ، أ : "الردي الذي لا ".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) البيت في تفسير الطبري (16/235).
(4) البيت في تفسير الطبري (16/235).
(5) في أ : "به".
(6) تفسير الطبري (16/242).
(4/407)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
{
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ
جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا
أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ
اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ
اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) }
يقول تعالى مخبرا عن يوسف ، عليه السلام : أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من
الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب ، وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد
ولديه ، مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة ، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة
وشفقة على أبيه وإخوته ، وبدره البكاء ، فتعرف إليهم ، يقال (1) إنه رفع التاج عن
جبهته ، وكان فيها شامة ، وقال : { هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ
وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ } ؟ يعني : كيف فرقوا بينه وبينه { إِذْ
أَنْتُمْ جَاهِلُونَ } أي : إنما حملكم على هذا (2) الجهل بمقدار هذا الذي
ارتكبتموه ، كما قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل ، وقرأ : { ثُمَّ إِنَّ
رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } إلى قوله : { إِنَّ رَبَّكَ
مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [النحل : 119].
والظاهر - والله أعلم - أن يوسف ، عليه السلام ، إنما تعرف إليهم بنفسه ، بإذن
الله له في ذلك ، كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين (3) بأمر الله
تعالى له في ذلك ، والله أعلم ، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر ، فَرَّج الله
تعالى من ذلك الضيق ، كما قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } (4) [الشرح : 5 ، 6] ، فعند ذلك قالوا : { أَئِنَّكَ
لأنْتَ يُوسُفُ } ؟
وقرأ أبيّ بن كعب : "أو أنت (5) يُوسُفُ" ، وقرأ ابن مُحَيْصِن :
"إنَّك لأنتَ (6) يُوسُفُ". والقراءة المشهورة هي الأولى ؛ لأن
الاستفهام يدل على الاستعظام ، أي : إنهم تَعجَّبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من
سنتين وأكثر ، وهم لا يعرفونه ، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه ، فلهذا قالوا على
سبيل الاستفهام : { أَئِنَّكَ لأنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي }
{ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } أي : بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة ، {
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا
لَخَاطِئِينَ } يقولون معترفين له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق ، والسعة
والملك ، والتصرف والنبوة أيضا - على قول من لم يجعلهم أنبياء - وأقروا له بأنهم
أساءوا إليه وأخطئوا في حقه.
{ قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } يقول : لا تأنيب عليكم ولا عَتْب
عليكم اليوم ، ولا أعيد (7) ذنبكم في حقي بعد اليوم.
__________
(1) في ت ، أ : "فيقال".
(2) في أ : "ذلك".
(3) في ت ، أ : "الأولتين".
(4) في ت ، أ : "إن" وهو خطأ.
(5) في أ : "أو إنك".
(6) في ت ، أ : "وأنت".
(7) في ت ، أ : "ولا أعيد عليكم".
(4/408)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
ثم
زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال : { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ }
قال السدي : اعتذروا إلى يوسف ، فقال : { لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ }
يقول : لا أذكر لكم ذنبكم.
وقال ابن إسحاق والثوري : { لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ [الْيَوْمَ] } (1) أي : لا
تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } أي : يستر الله
عليكم فيما فعلتم ، { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
{ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ
أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا
تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) }
يقول : اذهبوا بهذا القميص ، { فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا }
وكان قد عَميَ من كثرة البكاء ، { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي :
بجميع بني يعقوب.
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } أي : خرجت من مصر ، { قَالَ أَبُوهُمْ } يعني :
يعقوب ، عليه السلام ، لمن بقي عنده من بنيه : { إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ
لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ } تنسبوني إلى الفَنَد والكِبَر.
قال عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل ، عن أبي سِنَان ، عن عبد الله بن أبي الهُذَيْل
قال : سمعت ابن عباس يقول : { وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } قال : لما خرجت العير
، هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال : { إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ
لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ } قال : فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام (2).
وكذا رواه سفيان الثوري ، وشعبة ، وغيرهما عن أبي سِنَان ، به.
وقال الحسن وابن جُرَيْج : كان بينهما ثمانون فرسخا ، وكان بينه وبينه منذ افترقا
ثمانون سنة.
وقوله : { لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وقتادة ،
وسعيد بن جُبَيْر : تُسَفّهون.
وقال مجاهد أيضا ، والحسن : تُهرّمون.
وقولهم : { إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ } قال ابن عباس : لفي خطئك القديم.
وقال قتادة : أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه ، قالوا لوالدهم كلمةً غليظة ، لم
يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ، ولا لنبي الله صلى الله عليه وسلم (3) وكذا
قال السدي ، وغيره.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) تفسير عبد الرزاق (1/286).
(3) في أ : "عليه السلام".
(4/409)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
{
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (96)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
}
قال ابن عباس والضحاك : { الْبَشِيرُ } البريد.
وقال مجاهد والسدي : كان يهوذا بن يعقوب.
قال السدي : إنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كَذب ، فأراد (1)
أن يغسل ذلك بهذا ، فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه ، فرجع بصيرا.
وقال لبنيه عند ذلك : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ } أي : أعلم أن الله سيرده إليَّ ، وقلت لكم : { إِنِّي لأجِدُ رِيحَ
يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ } ؟. فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له : { يَا
أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ
أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } أي : من تاب
إليه تاب عليه.
قال ابن مسعود ، وإبراهيم التَّيْمِيّ ، وعمرو بن قيس ، وابن جُرَيْج وغيرهم :
أرجأهم إلى وقت السَّحَر.
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس ، سمعت عبد الرحمن بن إسحاق
يذكر عن محارب بن دثار قال : كان عمر ، رضي الله عنه ، يأتي المسجد فيسمع (2)
إنسانا يقول : "اللهم دعوتني فأجبت ، وأمرتني فأطعت ، وهذا السَّحَرُ فاغفر
لي". قال : فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود. فسأل عبد الله عن
ذلك فقال : إن يعقوب أخَّر بنيه إلى السحر بقوله : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ
رَبِّي } (3)
وقد ورد في الحديث أن ذلك كان ليلة جمعة ، كما قال ابن جرير : أيضا : حدثني المثنى
، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن أبو (4) أيوب الدمشقي ، حدثنا الوليد ، أنبأنا ابن
جُرَيْج ، عن عطاء وعِكْرِمة ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : {
سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } يقول : حتى تأتي ليلة الجمعة ، وهو قول أخي
يعقوب لبنيه (5).
وهذا غريب من هذا الوجه ، وفي رفعه نظر ، والله أعلم.
__________
(1) في ت ، أ : "فأحب".
(2) في أ : "فسمع".
(3) تفسير الطبري (16/261).
(4) في ت : "بن".
(5) تفسير الطبري (16/262) وهذا إسناد فيه ثلاث علل : الأولى : عنعنه ابن جريج وهو
مدلس لم يصرح بالسماع. الثانية : الوليد بن مسلم القرشي كان يهم في رفع الأحاديث
ويدلس تدليس التسوية. الثالثة : سليمان بن عبد الرحمن تكلم فيه من جهة حفظه وبمثل
هذا السند روي حديث دعاء نسيان القرآن ، وسبق الكلام عليه في فضائل القرآن.
(4/410)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
{
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا
مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ
وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ
قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ
السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نزغَ الشَّيْطَانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) }
يخبر تعالى عن ورود يعقوب ، عليه السلام ، على يوسف ، عليه السلام ، وقدومه بلاد
(1) مصر ، لما كان يوسف قد تقدم إلى إخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين ، فتحملوا عن
آخرهم وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد (2) مصر ، فلما أخبر يوسف ، عليه السلام
، باقترابهم خرج لتلقيهم ، وأمر [الملك] (3) أمراءه وأكابر الناس بالخروج [مع
يوسف] (4) لتلقي نبي الله يعقوب ، عليه السلام ، ويقال : إن الملك خرج أيضا لتلقيه
، وهو الأشبه.
وقد أشكل قوله : { آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ } على كثير
(5) من المفسرين ، فقال بعضهم : هذا من المقدم والمؤخر ، ومعنى الكلام : { وَقَالَ
ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } وآوى إليه أبويه ، ورفعهما على
العرش.
وقد رد ابن جرير هذا. وأجاد في ذلك. ثم اختار ما حكاه عن السٌّدِّي : أن يوسف آوى
إليه أبويه لما تلقاهما ، ثم لما وصلوا باب البلد قال : { ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ
شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ }
وفي هذا نظر أيضا ؛ لأن الإيواء إنما يكون في المنزل ، كقوله : { آوَى إِلَيْهِ
أَخَاهُ } وفي الحديث : "من أوى محدثا" وما المانع أن يكون قال لهم
بعدما دخلوا عليه وآواهم إليه : { ادْخُلُوا مِصْرَ } وضمَّنه : اسكنوا مصر { إِنْ
شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } أي : مما كنتم فيه من الجهد والقحط ، ويقال - والله أعلم
- : إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم ،
كما رفع بقية السنين التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة حين
قال : "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف" ، ثم لما تضرعوا إليه واستشفعوا
لديه ، وأرسلوا أبا سفيان في ذلك ، فدعا لهم ، فَرُفِعَ عنهم بقية ذلك ببركة دعائه
، عليه السلام (6).
وقوله : { آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } قال السدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم :
إنما كان أباه (7) وخالته ، وكانت أمه قد ماتت قديما.
وقال محمد بن إسحاق وابن جرير : كان أبوه وأمه يعيشان.
قال ابن جرير : ولم يقم دليل على موت أمه ، وظاهر القرآن يدل على حياتها. وهذا
الذي نصره
__________
(1) في أ : "على".
(2) في ت ، أ : "ديار".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "كثيرين".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (1007) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(7) في ت : "أبوه".
(4/411)
هو
المنصور الذي يدل عليه السياق.
وقوله : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير
واحد : يعني السرير ، أي : أجلسهما معه على سريره.
{ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا } أي : سجد له أبواه وإخوته الباقون ، وكانوا أحد عشر
رجلا { وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ } أي : التي كان
قصها على أبيه { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف : 4]
وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له ، ولم يزل هذا
جائزًا من لدن آدم إلى شريعة عيسى ، عليه السلام ، فحرم هذا في هذه الملة ، وجُعل
السجود مختصا بجناب الرب سبحانه وتعالى.
هذا مضمون قول قتادة وغيره.
وفي الحديث أن معاذا قدم الشام ، فوجدهم يسجدون لأساقفتهم ، فلما رجع سجد لرسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "ما هذا يا معاذ ؟" فقال : إني رأيتهم
يسجدون لأساقفتهم ، وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله فقال : "لو كنت آمرًا
أحدًا أن يسجد لأحد ، لأمرت الزوجة (1) أن تسجد لزوجها من عِظم (2) حقه
عليها" (3)
وفي حديث آخر : أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طُرُق المدينة ،
وكان سلمان حديث عهد بالإسلام ، فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "لا
تسجد لي يا سلمان ، واسجد للحي الذي لا يموت" (4).
والغرض أن هذا كان جائزا في شريعتهم ؛ ولهذا خروا له سُجَّدًا ، فعندها قال يوسف :
{ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا
} أي : هذا ما آل إليه الأمر ، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر ، كما قال
تعالى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ }
[الأعراف : 53] أي : يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا من خير وشر.
وقوله : { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا } أي : صحيحة صِدْقا ، يذكر نعم الله عليه
، { وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ
الْبَدْوِ } أي : البادية.
قال ابن جُرَيْج وغيره : كانوا أهل بادية وماشية. وقال : كانوا يسكنون بالعَربَات
من أرض فلسطين ، من غور الشام. قال : وبعض يقول : كانوا بالأولاج من ناحية شعب
أسفل من حسمَى ، وكانوا أصحاب بادية وشاء (5) وإبل.
__________
(1) في ت ، أ : "المرأة"
(2) في ت : "عظيم".
(3) رواه أحمد في المسند (4/381) وابن ماجه في السنن برقم (1853) من حديث معاذ رضي
الله عنه ، وصححه ابن حبان.
(4) رواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/103) من طريق شهر بن حوشب ، عن سلمان رضي
الله عنه ، وسيأتي عند تفسير الآية : 58 من سورة الفرقان.
(5) في أ : "وماشية".
(4/412)
رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
{
مِنْ بَعْدِ أَنْ نزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } [ثم قال] (1) {
إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } أي : إذا أراد أمرا قيض له أسبابا ويسره
وقدره ، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } بمصالح عباده { الْحَكِيمُ } في أفعاله
وأقواله ، وقضائه وقدره ، وما يختاره ويريده.
قال أبو عثمان النهدي ، عن سليمان (2) كان بين رؤيا يوسف وتأويلها أربعون سنة.
قال عبد الله بن شداد : وإليها (3) ينتهي أقصى الرؤيا. رواه ابن جرير.
وقال أيضا : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا هشام ، عن الحسن
قال : كان منذ (4) فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ، ثمانون سنة ، لم يفارق في
الحزن قلبه ، ودموعه تجري على خديه ، وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب
(5).
وقال هُشَيْم ، عن يونس ، عن الحسن : ثلاث وثمانون سنة.
وقال مبارك بن فضالة ، عن الحسن : ألقي يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، فغاب
عن أبيه ثمانين (6) سنة ، وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ، فمات وله عشرون ومائة
سنة.
وقال قتادة : كان بينهما خمس وثلاثون سنة.
وقال محمد بن إسحاق : ذُكر - والله أعلم - أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة
سنة - قال : وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين (7) سنة أو نحوها ، وأن يعقوب ،
عليه السلام ، بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ، ثم قبضه الله إليه.
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : دخل بنو
إسرائيل مصر ، وهم ثلاثة وستون إنسانا ، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا.
وقال أبو إسحاق ، عن مسروق : دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون من بين رجل وامرأة. والله
(8) أعلم.
وقال موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، عن عبد الله بن شداد : اجتمع آل
يعقوب إلى يوسف بمصر. وهم ستة وثمانون إنسانا ، صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ،
وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف.
{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ
الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) }
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في أ : "عن سلمان قال".
(3) في ت : "وإليه".
(4) في ت : "مذ".
(5) تفسير الطبري (1/273).
(6) في أ : "ثمانون".
(7) في أ : أربعون".
(8) في ت ، أ : "فالله".
(4/413)
هذا
دعاء من يوسف الصديق ، دعا به ربه عز وجل ، لما تمت النعمة عليه ، باجتماعه بأبويه
وإخوته ، وما مَنَّ الله به عليه من النبوة والملك ، سأل ربه عز وجل ، كما أتم
نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة ، وأن يتوفاه مسلما حين يتوفاه.
قاله الضحاك ، وأن يلحقه بالصالحين ، وهم إخوانه من النبيين والمرسلين ، صلوات
الله وسلامه [عليه و] (1) عليهم أجمعين.
وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف ، عليه السلام ، قاله عند احتضاره ، كما ثبت في
الصحيحين عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يرفع
أصبعه عند الموت ، ويقول : "اللهم في الرفيق الأعلى ، اللهم في الرفيق الأعلى
، اللهم في الرفيق الأعلى" (2).
ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا حان أجله ، وانقضى عمره
؛ لا أنه سأل ذلك منجزا ، كما يقول الداعي لغيره : "أماتك الله على
الإسلام". ويقول الداعي : "اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا
بالصالحين".
ويحتمل أنه سأل ذلك منجزًا ، وكان ذلك سائغا في ملتهم ، كما قال قتادة : قوله : {
تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } لما جمع الله شمله وأقر
عينه ، وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها وغضارتها ، فاشتاق (3) إلى الصالحين قبله
، وكان ابن عباس يقول : ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف ، عليه السلام.
وكذا ذكر ابن جرير (4) والسدي عن ابن عباس : أنه أول نبي دعا بذلك. وهذا يحتمل أنه
أول من سأل الوفاة على الإسلام. كما أن نوحا أول من قال : { رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا } [نوح : 28] ويحتمل أنه أول
من سأل نجاز ذلك ، وهو ظاهر سياق قتادة ، ولكن هذا لا يجوز (5) في شريعتنا.
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا عبد
العزيز بن صهيب ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا يتمنين أحدكم الموت لضُرٍّ نزل به ، فإن كان لا بدّ (6) متمنيا الموت
فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا
لي" (7).
[ورواه البخاري ومسلم ، وعندهما : " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما
محسنا فيزداد ، وإما مسيئا فلعله يستعتب ، ولكن ليقل : اللهم ، أحيني ما كانت
الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4437) وصحيح مسلم برقم (2444).
(3) في ت ، أ : "واشتاق".
(4) في ت ، أ : "جريج".
(5) في ت ، أ : "لا يجوز هذا".
(6) في ت ، أ : "كان ولا بد".
(7) المسند (3/101).
(4/414)
خيرًا
لي" (1) ] (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا مُعُان بن رفاعة ، حدثني علي بن
يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكَّرنا ورقَّقنا ، فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء ، فقال : يا ليتني مت!
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا سعد أعندي تتمنى الموت ؟" فردَّد
ذلك [ثلاث] (3) مرات ثم قال : "يا سعد ، إن كنت خلقت للجنة ، فما طال (4)
عمرك ، أو حَسُن من عملك ، فهو خير لك" (5)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا أبو يونس - هو سُلَيم
بن جُبير - عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : "لا
يتمنين أحدكم الموت ولا يدعوَن (6) به من قبل أن يأتيه ، إلا أن يكون قد وَثق
بعمله ، فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمله ، وإنه لا يزيد المؤمن عمره (7) إلا
خيرًا" تفرد به أحمد (8)
وهذا فيما إذا كان الضر خاصا به ، أما إذا كان (9) فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت
، كما قال الله تعالى إخبارًا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن دينهم وتهدَّدهم
بالقتل قالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ }
[الأعراف : 126] وقالت مريم لما أجاءها المخاض ، وهو الطلق ، إلى جذع النخلة { يَا
لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } [مريم : 23] لما تعلم
من أن الناس يقذفونها بالفاحشة ؛ لأنها لم تكن ذات زوج وقد حملت وولدت ، فيقول
القائل أنى لها هذا ؟ ولهذا واجهوها أولا بأن قالوا : { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ
جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ
وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } [مريم : 27 ، 28] فجعل الله لها من ذلك الحال
فرجا ومخرجا ، وأنطق الصبي في المهد بأنه عبد الله ورسوله ، وكان (10) آية عظيمة
ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه (11) وفي حديث معاذ ، الذي رواه الإمام أحمد
والترمذي ، في قصة المنام والدعاء الذي فيه : "وإذا أردت بقوم فتنة ، فتوفني
إليك غير مفتون" (12).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سلمة ، أنا عبد العزيز بن محمد ، عن عمرو عن (13)
عاصم عن (14) عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: "اثنتان يكرههما ابن آدم الموت ، والموت خير
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6351) وصحيح مسلم برقم (2680).
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(4) في ت ، أ : "فأطال".
(5) المسند (5/266).
(6) في ت ، أ : "لا يدعو".
(7) في ت ، أ : "عمله".
(8) المسند (2/350).
(9) في أ : "كان فيه".
(10) في ت : "فكان".
(11) في ت : "عليه السلام".
(12) المسند (5/243) وسنن الترمذي برقم (3235). وقال الترمذي : "هذا حديث حسن
صحيح ، سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال : هذا حديث حسن
صحيح".
(13) في ت : "ابن".
(14) في ت : "ابن".
(4/415)
للمؤمن
[من الفتنة] (1) ويكره قلة المال ، وقلة المال أقل للحساب" (2).
فعند حُلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت ؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب ، رضي
الله عنه ، في آخر إمارته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له ، ولا يزداد الأمر إلا
شدة قال : اللهمَّ ، خذني إليك ، فقد سئمتهم وسئموني.
وقال البخاري ، رحمه الله ، لما وقعت له تلك المحن وجرى له ما جرى مع أمير خراسان
: اللهم توفني إليك.
وفي الحديث : "إن الرجل ليمر بالقبر - أي في زمان الدجال - فيقول : يا ليتني
مكانك" (3) لما يرى من الفتن والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة
لكل مفتون.
قال أبو جعفر بن جرير : وذُكِرَ أن بني يعقوب الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا ، استغفر
لهم أبوهم ، فتاب الله عليهم وعفا عنهم ، وغفر لهم ذنوبهم.
[ذكر من قال ذلك] (4) :
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسن ، حدثني حجاج ، عن صالح المري ، عن يزيد الرَّقاشي ،
عن أنس بن مالك قال : إن الله تعالى لما جمع ليعقوب شمله ، وأقر عينه (5) خلا
ولدُه نجيًا ، فقال بعضهم لبعض : ألستم قد علمتم ما صنعتم ، وما لقي منكم الشيخ ،
وما لقي منكم يوسف ؟ قالوا : بلى. قال : فيغرّكم عفوهما عنكم ، فكيف لكم بربكم ؟
فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ، ويوسف إلى جنب أبيه قاعدًا ،
قالوا : يا أبانا ، إنا أتيناك في أمر ، لم نأتك في مثله قط ، ونزل بنا أمر لم
ينزل بنا مثله. حتى حَرَّكوه ، والأنبياء ، عليهم السلام ، أرحم البرية ، فقال :
ما لكم يا بَنيّ ؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منا إليك ، وما كان منا إلى أخينا
يوسف ؟ قال : بلى. قالوا : أو لستما قد عَفَوتما ؟ قالا بلى. قالوا : فإن عفوكما
لا يغني عنا شيئا ، إن كان الله لم يعف عنا. قال : فما تريدون يا بني ؟ قالوا :
نُريدُ أن تدعوَ الله لنا ، فإذا جاءك الوحي من الله بأنه قد عفا عما صنعنا قرّت
أعيننا ، واطمأنت قلوبنا ، وإلا فلا قُرّة عين في الدنيا أبدًا لنا. قال : فقام
الشيخ فاستقبل القبلة ، وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلَّة خاشعين. قال :
فدعا وأمَّن يوسف ، فلم يُجبْ فيهم عشرين سنة - قال صالح المري (6) يخيفهم - قال :
حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل ، عليه السلام ، على يعقوب فقال : إن الله
بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك ، وأنه قد عفا عما
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(2) المسند (5/427).
(3) رواه مسلم في صحيح برقم (157/54) من حديث أبي هريرة بلفظ "والذي نفسي
بيده لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر فيتمرغ عليه ويقول : يا ليتني كنت
مكان صاحب هذا القبر ، وليس به الدين إلا البلاء".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في هـ ، ت ، أ : "شمله بعينه" والمثبت من الطبري".
(6) في ت : المزى".
(4/416)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
صنعوا
، وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة (1).
هذا الأثر موقوف عن أنس ، ويزيد الرقاشي وصالح المري (2) ضعيفان جدا.
وذكر السدي : أن يعقوب ، عليه السلام ، لما حضره الموت ، أوصى إلى يوسف بأن يدفن عند
إبراهيم وإسحاق ، فلما مات صَبَّره وأرسله إلى الشام ، فدفن عندهما ، عليهم (3)
السلام.
{ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ
وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) }
__________
(1) تفسير الطبري (16/281).
(2) في ت : "المزي".
(3) في ت : "عليهما".
(4/417)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
{
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ
(104) }
يقول تعالى لعبده ورسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ، لما قص عليه نبأ إخوة
يوسف ، وكيف رفعه الله عليهم ، وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم ، مع ما
أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام : هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة
، { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } ونعلمك به لما فيه من العبرة لك والاتعاظ لمن خالفك ، {
وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ } حاضرا عندهم ولا مشاهدا لهم { إِذْ أَجْمَعُوا
أَمْرَهُمْ } أي : على إلقائه في الجب ، { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } به ، ولكنا
أعلمناك به وحيا إليك ، وإنزالا عليك ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [آل عمران : 44]وقال تعالى : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ
الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ
الشَّاهِدِينَ } [القصص : 44]إلى أن قال : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ
نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [القصص : 46] وقال { وَمَا كُنْتَ
ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ } [القصص : 45] وقال { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإ الأعْلَى
إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِ } [ص :
69 ، 70]
يقرر تعالى أنه رسوله ، وأنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس
ونجاة لهم في دينهم ودنياهم ؛ ومع هذا ما آمن أكثر الناس ؛ ولهذا قال : { وَمَا
أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } وقال { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ
مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [الأنعام : 116] إلى غير ذلك
من الآيات.
وقوله : { وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي : وما تسألهم يا محمد على
هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من أجر ، أي : من جُعَالة ولا أجرة على ذلك ،
بل تفعله ابتغاء وجه الله ، ونصحا لخلقه.
{ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } أي : يتذكرون به ويهتدون ، وينجون به في
الدنيا والآخرة.
(4/417)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
{
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ
عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ
أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) }
يخبر تعالى عن [غفلة] (1) أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده ، بما
خلقه الله في السموات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت ، وسيارات وأفلاك دائرات ،
والجميع مسخرات ، وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات وجبال راسيات ، وبحار
زاخرات ، وأمواج متلاطمات ، وقفار شاسعات ، وكم من أحياء وأموات ، وحيوان ونبات ،
وثمرات متشابهة ومختلفات ، في الطعوم والروائح والألوان والصفات ، فسبحان الواحد
الأحد ، خالق أنواع المخلوقات ، المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية ذي الأسماء
والصفات.
وقوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } قال
ابن عباس : من إيمانهم ، إذا قيل لهم : من خلق السموات ؟ ومن خلق الأرض ؟ ومن خلق
الجبال ؟ قالوا : "الله" ، وهم مشركون به. وكذا قال مجاهد ، وعطاء
وعكرمة ، والشعبي ، وقتادة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وهكذا في الصحيحين (2) أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ،
إلا شريكًا هو لك ، تملكه وما ملك. وفي الصحيح : أنهم كانوا إذا قالوا :
"لبيك لا شريك لك" يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قَدْ
قَدْ" ، أي حَسْبُ حَسْبُ ، لا تزيدوا على هذا (3).
وقال الله تعالى : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13] وهذا هو
الشرك الأعظم الذي يعبد مع الله غيره ، كما في الصحيحين. عن ابن مسعود قلت : يا
رسول الله ، أيّ الذنب أعظم ؟ قال : "أن تجعل لله ندا وهو خَلَقَك" (4).
وقال الحسن البصري في قوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ } قال : ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس ، وهو مشرك بعمله ذاك ،
يعني قوله تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ
النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } [النساء : 142].
وثمَّ شرك آخر خفي لا يشعر به غالبًا فاعله ، كما روى حماد بن سلمة ، عن عاصم بن
أبي النَّجُود ، عن عُرْوَة قال : دخل حذيفة على مريض ، فرأى في عضده سيرًا فقطعه
- أو : انتزعه - ثم قال : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ }
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "في صحيح مسلم".
(3) صحيح مسلم برقم (1185/22).
(4) صحيح البخاري برقم (4477) وصحيح مسلم برقم (68).
(4/418)
وفي
الحديث : "من حلف بغير الله فقد أشرك". رواه الترمذي وحسنَّهَ من رواية
ابن عمر (1)
وفي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيره ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرُّقَى والتَّمائِم والتِّوَلة
شرْك" (2).
وفي لفظ لهما : "[الطيَرة شرك] (3) وما منَّا إلا ولكن الله يذهبه
بالتوكل" (4).
ورواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو
بن مُرّة ، عن يحيى الجزار (5) عن ابن أخي ، زينب [عن زينب] (6) امرأة عبد الله بن
مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح (7) وبزق
كراهية أن يهجم منا على أمر يكرهه ، قالت : وإنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز
ترقيني من الحُمْرَة فأدخلتها تحت السرير ، قالت : فدخل فجلس إلى جانبي ، فرأى في
عنقي خيطا ، قال : ما هذا الخيط ؟ قالت : قلت : خيط رُقِى لي فيه. قالت : فأخذه
فقطعه ، ثم قال : إن آل عبد الله لأغنياءٌ عن الشرك ، سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : "إن الرقى والتمائم والتِّوَلة شرك". قالت ، قلت له :
لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف ، فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها ، فكان إذا
رقاها سكنت ؟ قال : إنما ذاك من الشيطان. كان ينخسها بيده ، فإذا رقيتها كف عنها :
إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أذهب البأس
رب الناس ، اشف وأنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك ، شفاء لا يغادر سَقَمًا"
(8).
وفي حديث آخر رواه الإمام أحمد ، عن وَكِيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن عيسى بن عبد
الرحمن قال : دخلنا على عبد الله بن عُكَيْم (9) وهو مريض نعوده ، فقيل له :
تَعَلَّقت شيئا ؟ فقال : أتعلق شيئا! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من تَعَلَّق شيئا وُكِلَ إليه" (10) ورواه النسائي عن أبي هريرة (11).
وفي مسند الإمام أحمد ، من حديث عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "من علَّق تميمة
__________
(1) سنن الترمذي برقم (1535).
(2) المسند (1/381) وسنن أبي داود برقم (3883) ورواه ابن ماجه في السنن برقم
(3530).
(3) زيادة من ت ، أ ، والمسند وسنن أبي داود.
(4) المسند (1/389) وسنن أبي داود برقم (3910).
(5) في ت ، أ : "يحيى بن الجزار".
(6) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(7) في ت : "تنجيح".
(8) المسند (1/381).
(9) في ت : "حكيم".
(10) المسند (4/310) ورواه الترمذي في السنن برقم (2072) من طريق عبد الرحمن بن
أبي ليلى به ، وقال الترمذي : "وحديث عبد الله بن حكيم إنما نعرفه من حديث
عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وعبد الله بن حكيم لم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم ،
وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "كتب إلينا رسول الله صلى الله
عليه وسلم".
(11) سنن النسائي (7/112).
(4/419)
فقد
أشرك" وفي رواية : "من تَعَّلق تميمة فلا أتم الله له ، ومن تعلق
ودَعَةً فلا ودع الله له" (1)
وعن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول : "قال الله : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، ومن عمل عملا
أشرك فيه معي غيري تركته وشِرْكه". رواه مسلم (2).
وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ، ينادي مناد : من كان أشرك
في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن
الشرك". رواه أحمد (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا لَيْث ، عن يزيد - يعني : ابن الهاد - عن
عمرو ، عن محمود بن لبيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أخْوَف
ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال :
"الرياء ، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين
كنتم تراءون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" (4).
وقد رواه إسماعيل بن جعفر ، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ، عن عاصم بن عمر بن
قتادة ، عن محمود بن لَبِيد ، به (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، أنبأنا ابن لَهِيعة ، أنبأنا ابن هُبَيْرة ، عن
أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "من ردته الطيرة عن حاجة ، فقد أشرك". قالوا : يا رسول الله ، ما
كفارة ذلك ؟ قال : "أن يقول أحدهم : اللهم لا خير إلا خيرك (6) ولا طير إلا
طيرك ، ولا إله غيرك" (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان
العَرْزَمي ، عن أبي علي - رجل من بني كاهل - قال : خطبنا أبو موسى الأشعري فقال :
يا أيها الناس ، اتقوا هذا الشرك ، فإنه أخفى من دَبِيب النمل. فقام عبد الله بن
حَزْن وقيس بن المضارب فقالا والله لتخرجن (8) مما قلت أو لنأتين عمر مأذونا لنا
أو غير مأذون ، قال : بل أخرج مما قلت ، خطبنا رسول
__________
(1) المسند (4/156) وقال المنذري في الترغيب (4/307) : "رجاله ثقات".
(2) صحيح مسلم برقم (2985).
(3) المسند (4/215).
(4) المسند (5/428) وحسنه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام.
(5) رواه البغوي في شرح السنة (14/333) من طريق علي بن حجر ، عن إسماعيل بن جعفر
به.
(6) في ت : "لا غير إلا غيرك".
(7) المسند (2/220) ورواه ابن السنى في عمل اليوم والليلة (ص 293) من طريق ابن وهب
، عن ابن لهيعة به ، فصح الحديث بحمد الله.
(8) في ت : "ليخرجن".
(4/420)
الله
صلى الله عليه وسلم [ذات يوم] (1) فقال : "يا أيها الناس ، اتقوا هذا الشرك
فإنه أخفى من دبيب النمل". فقال له من شاء الله أن يقول : فكيف نتقيه وهو
أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال : "قولوا : اللهم إنا نعوذ بك [من]
(2) أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه" (3).
وقد روي من وجه آخر ، وفيه أن السائل في ذلك هو الصّدّيق ، كما رواه الحافظ أبو
يعلى الموصلي ، من حديث عبد العزيز بن مسلم ، عن لَيْث بن أبي سليم ، عن أبي محمد
، عن مَعْقِل بن يَسَار قال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم - أو قال : حدثني أبو
بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الشرك أخفى فيكم من
دبيب النمل". فقال أبو بكر : وهل الشرك إلا من دعا مع الله إلها آخر ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل". ثم
قال : "ألا أدلّك على ما يُذهب عنك صَغِير ذلك وكبيره ؟ قل : اللهم ، أعوذ بك
أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك مما لا أعلم" (4).
وقد رواه الحافظ أبو القاسم البغوي ، عن شيبان بن فَرُّوخ ، عن يحيى بن كثير ، عن
الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، عن أبي بكر الصديق قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على
الصفا". قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله ، فكيف النجاة والمخرج من ذلك ؟
فقال : "ألا أخبرك بشيء إذا قلته برئتَ من قليله وكثيره وصغيره وكبيره
؟". قال : بلى ، يا رسول الله ، قال : "قل : اللهم ، إني أعوذ بك أن
أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم" (5).
قال الدارقطني : يحيى بن كثير هذا يقال له : "أبو النضر" ، متروك
الحديث.
وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وصححه ، والنسائي ، من حديث يعلى بن
عطاء ، سمعت عمرو بن عاصم (6) سمعت أبا هريرة قال : قال أبو بكر الصديق ، رضي الله
عنه : يا رسول الله ، علمني شيئا أقوله إذا أصبحتُ ، وإذا أمسيتُ ، وإذا أخذت
مضجعي. قال : "قل : اللهم ، فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، ربّ
كل شيء ومليكه ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شر الشيطان
وشركه" (7).
وزاد أحمد في رواية له من حديث ليث من أبي سليم ، [عن مجاهد] (8) عن أبي بكر
الصديق قال :
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(2) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(3) المسند (4/403).
(4) مسند أبي يعلى (1/62) ورواه ابن جريج عن ليث ، عن أبي محمد ، عن حذيفة نحوه ،
وأخرجه أبو يعلى في المسند (1/60) وأبو محمد مجهول ، وليث بن أبي سليم ضعيف.
(5) ورواه أبو نعيم في الحلية (7/112) من طريق يحيى بن محمد البختري ، عن شيبان بن
فروخ به نحوه ، وقال : "تفرد به عن الثوري يحيى بن كثير".
(6) في هـ ، أ : "عاص" والمثبت من ت والمسند.
(7) المسند (1/9) وسنن أبي داود برقم (5067) وسنن الترمذي برقم (3392) والنسائي في
السنن الكبرى برقم (7691).
(8) زيادة من ت ، أ.
(4/421)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
أمرني
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول... فذكر هذا الدعاء وزاد في آخره :
"وأن أقترف على نفسي سُوءًا أو أجُرّه إلى مسلم" (1).
وقوله : { أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ
تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي : أفأمن هؤلاء
المشركون [بالله] (2) أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون ، كما قال تعالى : {
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ
الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ
يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى
تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [النحل : 45 - 47] وقال تعالى :
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ
نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ
يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا
الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف : 97 - 99 ].
{ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) }
يقول [الله] (3) تعالى لعبد ورسوله إلى الثقلين : الإنس والجن ، آمرًا له أن يخبر
الناس : أن هذه سبيله ، أي طريقه ومسلكه وسنته ، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له ، يدعو إلى الله بها على بَصِيرة من ذلك ، ويقين وبرهان
، هو وكلّ من اتبعه ، يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على
بصيرة ويقين وبرهان شرعي وعقلي.
وقوله : { وَسُبْحَانَ اللَّهِ } أي : وأنزه الله وأجلّه وأعظّمه وأقدّسه ، عن أن
يكون له شريك أو نظير ، أو عديل أو نديد ، أو ولد أو والد أو صاحبة ، أو وزير أو
مشير ، تبارك وتعالى وتقدس وتنزه عن ذلك كله علوا كبيرا ، { تُسَبِّحُ لَهُ
السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا
غَفُورًا } [الإسراء : 44].
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا
أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) }
يخبر تعالى أنه إنما أرسلَ رسُلَه من الرجال لا من النساء. وهذا قول جمهور العلماء
، كما دل عليه سياق هذه الآية الكريمة : أن الله تعالى لم يُوحِ إلى امرأة من بنات
بني آدم وَحي تشريع.
وزعم بعضهم : أن سارة امرأة الخليل ، وأم موسى ، ومريم أم عيسى نبيات ، واحتجوا
بأن الملائكة
__________
(1) المسند (1/14).
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) زيادة من أ.
(4/422)
بشرت
سارة بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، وبقوله : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ
مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } الآية. [القصص : 7] ، وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها
بعيسى ، عليه السلام ، وبقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا
مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ
الْعَالَمِينَ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ
الرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 42 ، 43].
وهذا القدر حاصل لهن ، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك ، فإن أراد القائل
بنبوتهن هذا القدر من التشريف ، فهذا لا شك فيه ، ويبقى الكلام معه في أن هذا : هل
يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا ؟ الذي عليه [أئمة] (1) أهل السنة
والجماعة ، وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عنهم : أنه ليس
في النساء نبية ، وإنما فيهن صديقات ، كما قال تعالى مخبرا عن أشرفهن مريمَ بنت
عمران حيث قال : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } [المائدة
: 75] فوصفها في أشرف مقاماتها بالصدّيقية ، فلو كانت نبيّة لذكر ذلك في مقام
التشريف والإعظام ، فهي صديقة بنص القرآن.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا
نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } (2) أي : ليسوا من أهل السماء كما قلتم.
وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي
الأسْوَاقِ } الآية [الفرقان : 20] وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا
لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ
الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ }
[الأنبياء : 8 ، 9] وقوله تعالى : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ }
الآية [الأحقاف : 9].
وقوله : { مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } المراد بالقرى : المدن ، لا أنهم من أهل البوادي
، الذين هم أجفى الناس طباعا وأخلاقا. وهذا هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرقّ
طباعا ، وألطف من أهل سوادهم ، وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين يسكنون في
البوادي ؛ ولهذا قال تعالى : { الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ
أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } [التوبة : 97].
وقال قتادة في قوله : { مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } لأنهم أعلم وأحلم من أهل العمود.
وفي الحديث الآخر : أن رجلا من الأعراب أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة ،
فلم يزل يعطيه ويزيده حتى رضي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد
هممت ألا أَتَّهِبَ هِبَةً إلا من قرشي ، أو أنصاري ، أو ثقفي ، أو دَوْسِي".
(3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن
شيخ
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "يوحى".
(3) رواه أحمد في المسند (1/295) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(4/423)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الأعمش : هو [ابن] (1) عمر ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ،
خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم". (2)
وقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ } [يعني : هؤلاء المكذبين لك يا محمد في
الأرض ، ] (3) { فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }
أي : من الأمم المكذبة للرسل ، كيف دمر الله عليهم ، وللكافرين أمثالها ، كقوله :
{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا
أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج : 46] ، فإذا استمعوا (4) خبر ذلك ،
رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجى المؤمنين ، وهذه كانت سنته تعالى في خلقه ؛
ولهذا قال تعالى : { وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا } (5) أي :
وكما أنجينا المؤمنين في الدنيا ، كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة أيضًا ،
وهي خير لهم من الدنيا بكثير ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ
سُوءُ الدَّارِ } [غافر : 50 ، 51].
وأضاف الدار إلى الآخرة فقال : { وَلَدَارُ الآخِرَةِ } كما يقال : "صلاة
الأولى" و"مسجد الجامع" و"عام الأول" و "بارحة
الأولى" و"يوم الخميس". قال الشاعر : أَتَمْدَحُ فَقْعَسًا وَتذمّ
(6) عَبْسًا... ألا لله أمَّكَ من هَجين...
وَلو أقْوتْ عَلَيك ديارُ عَبْسٍ... عَرَفْتَ الذّلّ عرْفانَ اليَقين (7)
{ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا
جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ
الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) }
يخبر تعالى أن نصره ينزل على رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، عند ضيق
الحال وانتظار الفرج من الله تعالى في أحوج الأوقات إلى ذلك ، كما في قوله تعالى :
{ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى
نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة : 214] ، وفي قوله : {
كُذِبُوا } قراءتان ، إحداهما بالتشديد : "قد كُذِّبُوا" ، وكذلك كانت
عائشة ، رضي الله عنها ، تقرؤها ، قال البخاري :
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، بن صالح ، عن ابن شهاب قال
:
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(2) المسند (2/43).
(3) زيادة من ت.
(4) في ت ، أ : "استعملوا".
(5) في ت ، أ : "يتقون" وهو خطأ.
(6) في ت : "وتمدح".
(7) البيتان في تفسير الطبري (16/295).
(4/424)
أخبرني
عروة بن الزبير ، عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله : { حَتَّى إِذَا
اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } قال : قلت : أكُذِبوا أم كُذِّبوا ؟ فقالت عائشة :
كُذِّبوا. فقلت : فقد استيقنوا أن قومهم قد كَذَّبوهم فما هو بالظن ؟ قالت : أجل ،
لعمري لقد استيقنوا بذلك. فقلت لها : وظنوا أنهم قد كذبوا ؟ قالت (1) معاذ الله ،
لم تكن (2) الرسل تظن ذلك بربها. قلت : فما هذه الآية ؟ قالت : هم أتباع الرسل
الذين آمنوا بربهم وصدقوهم ، فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر ، { حَتَّى
إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ } ممّن كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد
كذَّبوهم ، جاءهم نصر الله عند ذلك.
حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري قال : أخبرنا عُرْوَة ، فقلت : لعلها
قد كُذِبوا مخففة ؟ قالت : معاذ الله. انتهى ما ذكره. (3)
وقال ابن جُرَيْج أخبرني ابن أبى مُلَيْكة : أن ابن عباس قرأها : { وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } خفيفة - قال عبد الله هو ابن مُلَيْكة : ثم قال لي ابن
عباس : كانوا بشرًا (4) وتلا ابن عباس : { حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ } [البقرة
: 214] ، قال ابن جريج : وقال لي ابن أبي مليكة : وأخبرني عروة عن عائشة : أنها
خالفت ذلك وأبته ، وقالت : ما وعد الله محمدًا صلى الله عليه وسلم من شيء إلا قد
علم أنه سيكون حتى مات ، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أنَّ من معهم من
المؤمنين قد كذَّبوهم. قال ابن أبي مليكة في حديث عروة : كانت عائشة تقرؤها
"وظنوا أنهم قد كُذِّبوا" مثقلة ، للتكذيب.
وقال ابن أبي حاتم : أنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنا ابن وهب ، أخبرني سليمان
بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال : إن محمد بن
كعب القرظي يقول (5) هذه الآية : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } فقال القاسم : أخبره عني أني سمعت عائشة زوج النبي صلى
الله عليه وسلم تقول : { حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا } تقول : كذبتهم أتباعهم. إسناد صحيح أيضا.
والقراءة الثانية بالتخفيف ، واختلفوا في تفسيرها ، فقال ابن عباس ما تقدم ، وعن ابن
مسعود ، فيما رواه سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحى ، عن مسروق ، عن عبد
الله أنه قرأ : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُوا } مخففة ، قال عبد الله : هو الذي تكره. (6)
وهذا عن ابن مسعود وابن عباس ، رضي الله عنهما ، مخالف لما رواه آخرون عنهما. أما
ابن عباس فروى الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس في قوله : { حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } قال : لما أيست الرسل
أن يستجيب لهم قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كَذَّبوهم ،
__________
(1) في ت ، أ : "فقالت".
(2) في ت : "يكن".
(3) صحيح البخاري برقم (4695 ، 4696).
(4) في أ : "بشروا".
(5) في ت ، أ : "يقرأ".
(6) في أ : "يكره".
(4/425)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
جاءهم
النصر على ذلك ، { فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ } (1)
وكذا روي عن سعيد بن جبير ، وعمران بن الحارث السلمي ، وعبد الرحمن بن معاوية وعلي
بن أبي طلحة ، والعوفي عن ابن عباس بمثله.
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عارم (2) أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ،
حدثنا شعيب (3) حدثنا إبراهيم بن أبي حُرة (4) الجزرِيّ قال : سأل فتى من قريش
سعيد بن جبير فقال له : يا أبا عبد الله ، كيف هذا الحرف ، فإني إذا أتيت عليه
تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة : { حَتَّى إِذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن
يصدِّقوهم ، وظن المرسَلُ إليهم أن الرسل كَذَبوا. فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت
كاليوم قط رجل يدعى إلى علم فيتلكأ! لو رحلت في هذه إلى اليمن كان قليلا.
ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر : أن مسلم بن يَسَار سأل سعيد بن جبير عن ذلك ،
فأجابه بهذا الجواب ، فقام إلى سعيد فاعتنقه ، وقال : فرَّج الله عنك كما فَرجت
عني.
وهكذا روي من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك ، وكذا فسرها مجاهد بن جَبْر
، وغير واحد من السلف ، حتى إن مجاهدا قرأها : "وظنوا أنهم قد كَذَبوا"
، بفتح الذال. رواه ابن جرير ، إلا أن بعض من فسرها كذلك يعيد الضمير في قوله : {
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا } إلى أتباع الرسل من المؤمنين ، ومنهم من يعيده
إلى الكافرين منهم ، أي : وظن الكفار أن الرسل قد كَذبوا - مخففة - فيما وعدوا به
من النصر.
وأما ابن مسعود فقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن فضيل
(5) عن جَحش (6) بن زياد الضبي ، عن تميم بن حَذْلَم قال : سمعت عبد الله بن مسعود
يقول في هذه الآية : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ } من إيمان قومهم أن
يؤمنوا بهم (7) وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كَذَبوا ، بالتخفيف. (8)
فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس ، وقد أنكرت ذلك عائشة على من
فسرها بذلك ، وانتصر لها ابن جرير ، ووجه المشهور عن الجمهور ، وزيف القول الآخر
بالكلية ، وردَّهُ وأبَاه ، ولم يقبله ولا ارتضاه ، والله أعلم. (9)
{ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا
يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) }
__________
(1) في ت : "فننجي".
(2) في ت : "غارم".
(3) في أ : "شعبة".
(4) في ت ، أ : "أبي حمزة".
(5) في أ : "فضل".
(6) في ت ، أ : "محسن".
(7) في ت ، أ : "لهم".
(8) في ت ، أ : "مخففة".
(9) انظر ما قالته عائشة في : تفسير الطبري (16/307 ، 308) ورد الطبري لقول ابن
عباس (16/306).
(4/426)
يقول
تعالى : لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم ، وكيف أنجينا (1) المؤمنين وأهلكنا
الكافرين { عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ } وهي العقول ، { مَا كَانَ حَدِيثًا
يُفْتَرَى } أي : وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله ، أي : يكذب ويُختلق ،
{ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب المنزلة من السماء
، وهو يصدق ما فيها من الصحيح ، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، ويحكم
عليها بالنسخ أو التقرير ، { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } من تحليل وتحريم ، ومحبوب
ومكروه ، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات ، والنهي عن المحرمات
وما شاكلها من المكروهات ، والإخبار عن الأمور على الجلية ، وعن الغيوب المستقبلة
المجملة والتفصيلية ، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات ، وتنزيهه
عن مماثلة المخلوقات ، فلهذا كان : { هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد ، ومن الضلالة إلى السداد ، ويبتغون به الرحمة
من رب العباد ، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد. فنسأل الله العظيم أن يجعلنا
منهم في الدنيا والآخرة ، يوم يفوز بالربح المُبْيَضَّة وجوههم الناضرة ، ويرجع
(2) المسودَّة وجوهُهم بالصفقة الخاسرة.
آخر تفسير سورة يوسف ، ولله الحمد والمنة وبه المستعان وعليه التكلان ، وهو حسبنا
ونعم الوكيل.
__________
(1) في ت ، أ : "نجينا".
(2) في ت : "وترجع".
(4/427)
المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
تفسير
سورة الرعد
[وهي مكية] (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
{ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) } (2)
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور ، فقد تقدم (3) في أول سورة البقرة
، وقَدَّمنا أن كل سورة تَبتدأ بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن ، وتبيان أن
نزوله (4) من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب ؛ ولهذا قال : { تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ } أي : هذه آيات الكتاب ، وهو القرآن ، وقيل : التوارة
والإنجيل. قاله مجاهد وقتادة ، وفيه نظر (5) بل هو بعيد.
ثم عطف على ذلك عطف صفات قوله : { وَالَّذِي أُنزلَ إِلَيْكَ } أي : يا محمد ، {
مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ } خبر تقدم مبتدؤه ، وهو قوله : { وَالَّذِي أُنزلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد وقتادة. واختار ابن
جرير أن تكون الواو زائدة أو عاطفة صفة (6) على صفة كما قدمنا ، واستشهد بقول
الشاعر :
إلى المَلك القَرْمِ وابن الهُمَام... وَلَيث الكتيبة في المُزْدَحَمْ (7)
وقوله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ } كقوله : { وَمَا أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103] أي : مع هذا البيان
والجلاء والوضوح ، لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق.
{ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ
مُسَمًّى يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ
تُوقِنُونَ (2) }
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه : أنه الذي بإذنه وأمره رَفَع
السماوات بغير عمَد ، بل بإذنه وأمره (8) وتسخيره رفعها عن الأرض بُعدًا لا تنال
ولا يدرك مداها ، فالسماء الدنيا محيطة
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في أ : "تقدم الكلام عليها".
(4) في ت ، أ : "أنه نزل".
(5) في ت ، أ : "وفيه تطويل".
(6) في ت ، أ : "لصفة".
(7) البيت في تفسير الطبري (16/321).
(8) في ت ، أ : "بل بأمره وبإذنه".
(4/428)
بجميع
الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها (1) وأرجائها ، مرتفعة
عليها من كل جانب على السواء ، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة
خمسمائة عام ، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام. ثم السماء الثانية محيطة
بالسماء الدنيا وما حوت ، وبينها وبينها من البعد مسيرة خمسمائة عام ، وسمكها
خمسمائة عام ، ثم السماء الثالثة محيطة (2) بالثانية ، بما فيها ، وبينها (3)
وبينها خمسمائة عام ، وسمكها خمسمائة عام ، وكذا الرابعة والخامسة والسادسة
والسابعة ، كما قال [الله] (4) تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق : 12] وفي الحديث : "ما السماواتُ السبع وما فيهنّ
وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة ، والكرسي في العرش كتلك (5)
الحلقة في تلك الفلاة (6) وفي رواية : "والعرش لا يقدر قدره إلا الله ، عز
وجل ، وجاء عن بعض السلف أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة ،
وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة ، وهو من ياقوتة حمراء.
وقوله : { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة
: أنهم : قالوا : لها عَمَد ولكن لا ترى.
وقال إياس بن معاوية : السماء على الأرض مثل القبة ، يعني بلا عمد. وكذا روي عن
قتادة ، وهذا هو اللائق بالسياق. والظاهر من قوله تعالى : { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ
أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } [الحج : 65] فعلى هذا يكون قوله : {
ترونها } تأكيدا لنفي ذلك ، أي : هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها. هذا هو الأكمل في
القدرة. وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه ، كما ورد في الحديث
(7) ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل ، رحمه الله ورضي عنه :
وأنتَ الذي مِنْ فَضْل مَنٍّ وَرَحْمَة... بَعَثتَ إلى مُوسَى رَسُولا مُنَاديا...
فقلت له : فاذهَبْ وهارونَ فادعُوَا... إلى الله فرْعَونَ الذي كانَ طَاغيا...
وَقُولا له : هَلْ أنتَ سَوّيت هَذه... بلا [وتَد حَتَّى اطمأنت (8) كَمَا هيا
وقُولا له : أأنتَ رَفَّعتَ هَذه... بلا] (9) عَمَد أرْفِقْ إذَا بَِك بانيَا ؟...
وَقُولا لَه : هَل أنتَ سَوَّيت وَسْطَهَا... مُنيرًا إذا ما جَنَّك الليَّل هاديا
__________
(1) في ت ، أ : "جهاتها ونواحيها".
(2) في ت : "تحيط".
(3) في أ : "بينهما".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "كمثل".
(6) سبق الكلام على هذا الحديث والذي بعده مفصلا عند تفسير الآية : 255 من سورة
البقرة.
(7) رواه ابن عبد البر في التمهيد (4/7) من طريق أبي بكر الهذلي عن عكرمة قال :
قلت لابن عباس : أرأيت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت :
"آمن شعره وكفر قلبه ؟" قال : هو حق فما أنكرتم من ذلك ؟... الحديث.
(8) في ت أ : "استقلت" ، والمثبت من سيرة ابن هشام.
(9) زيادة من ت ، أ ، وسيرة ابن هشام.
(4/429)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
وقُولا
له : مَنْ يُرْسِلُ الشَّمس غُدوةً... فيُصبحَ ما مَسَّتْ مِنَ الأرضِ ضَاحيا?...
وَقُولا له : مَن يُنْبِت الحَبَّ في الثَّرَى... فيُصبحَ مِنْه العُشب يَهَْتُّز
رَابيا?...
وَيُْخِرجُ منْه حَبَّه في رءوسه... فَفِي ذَاكَ آياتٌ لِمنْ كَانَ وَاعيَا (1)
وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } تقدم تفسير ذلك في سورة
"الأعراف" (2) وأنه يُمَرَّر (3) كما جاء من غير تكييف ، ولا تشبيه ،
ولا تعطيل ، ولا تمثيل ، تعالى الله علوا كبيرا.
وقوله : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى } قيل :
المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة ، كما في قوله تعالى : {
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
} [يس : 38].
وقيل : المراد إلى مستقرهما ، وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الآخر ،
فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك ، يكونون أبعد ما يكون (4) عن العرش ؛ لأنه
على الصحيح الذي تقومُ عليه الأدلة ، قبة مما يلي العالم من هذا الوجه ، وليس
بمحيط كسائر الأفلاك ؛ لأنه (5) له قوائم وحملة يحملونه. ولا يتصوّر هذا في الفلك
المستدير ، وهذا واضح لمن تَدَبَّر ما وَرَدَتْ به الآيات والأحاديث الصحيحة ،
ولله الحمد والمنة.
وذكر الشمس والقمر ؛ لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة ، التي هي أشرف وأعظم.
من الثوابت ، فإذا كان قد سخر هذه ، فَلأن يدخل في التسخير سائرُ الكواكب بطريق
الأولى والأحرى ، كما نبه (6) بقوله تعالى : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ } [فصلت : 37] مع أنه قد صرح بذلك بقوله (7) { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف : 54].
وقوله : { يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } أي :
يوضح (8) الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو ، وأنه يعيد الخلق إذا
شاء كما ابتدأ خلقه.
{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ
كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأرْضِ
قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ
وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ
فِي الأكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) }
__________
(1) الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(2) انظر : تفسير الآية : 54.
(3) في ت : "يمر".
(4) في ت ، أ : "ما يكون".
(5) في ت ، أ : "لآن".
(6) في ت : "بينه".
(7) في ت : "في قوله".
(8) في ت ، أ : "نوضح".
(4/430)
لما
ذكر تعالى العالم العلوي ، شرع في ذكر قدرته وحكمته وأحكامه للعالم السفلي ، فقال
: { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرْضَ } أي : جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض ،
وأرساها بجبال راسيات شامخات ، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون لسقي ما جعل
فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح ، من كل زوجين اثنين
، أي : من كل شكل صنفان.
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ } أي : جعل كلا منهما (1) يطلب الآخر طلبا حثيثا ،
فإذا ذهب هذا غَشيه هذا ، وإذا انقضى هذا جاء الآخر ، فيتصرف أيضا في الزمان كما
تصرف في المكان والسكان.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : في آلاء الله وحكمته
(2) ودلائله.
وقوله : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ } أي : أراضٍ تجاور (3) بعضها بعضا
، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينتفع به الناس ، وهذه سَبَخة مالحة لا تنبت شيئا. هكذا
روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وغيرهم.
وكذا يدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض ، فهذه تربة حمراء ، وهذه بيضاء ،
وهذه صفراء ، وهذه سوداء ، وهذه محجرة (4) وهذه سهلة ، وهذه مرملة ، وهذه سميكة ،
وهذه رقيقة ، والكل متجاورات. فهذه بصفتها ، وهذه بصفتها الأخرى ، فهذا كله مما يدل
على الفاعل المختار ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه.
وقوله : { وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } (5) يحتمل (6) أن تكون
عاطفة على { جنات } فيكون { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } (7) مرفوعين. ويحتمل أن يكون
معطوفا على أعناب ، فيكون مجرورا ؛ ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة.
وقوله : { صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } الصنوان : هي الأصول المجتمعة في منبت
واحد ، كالرمان والتين وبعض النخيل ، ونحو ذلك. وغير الصنوان : ما كان على أصل
واحد ، كسائر الأشجار ، ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه ، كما جاء في الحديث الصحيح :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر : "أما شعرت (8) أن عم الرجل صنو
أبيه ؟" (9).
وقال سفيان الثوري ، وشعبة ، عن أبى إسحاق ، عن البراء ، رضي الله عنه : الصنوان :
هي النخلات في أصل واحد ، وغير الصنوان : المتفرقات. وقاله ابن عباس ، ومجاهد ،
والضحاك ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
__________
(1) في ت : "منها".
(2) في ت ، أ : "وحكمه".
(3) في ت : "يجاورها".
(4) في ت : "محجر".
(5) في ت : "وزروع" وهو خطأ.
(6) في ت : "تحتمل".
(7) في ت : "وزروع" وهو خطأ.
(8) في أ : "أما علمت".
(9) رواه مسلم في صحيحه برقم (983) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(4/431)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
وقوله
: { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ }
قال الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم : { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ } قال : "الدَّقَل
والفارسي ، والحُلْو والحامض". رواه الترمذي وقال : حسن غريب (1).
أي : هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع ، في أشكالها وألوانها ، وطعومها
وروائحها ، وأوراقها وأزهارها.
فهذا في غاية الحلاوة وذا في غاية الحموضة ، وذا (2) في غاية المرارة وذا عَفِص ،
وهذا عذب وهذا (3) جمع هذا وهذا ، ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى. وهذا
أصفر وهذا أحمر ، وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق. وكذلك الزهورات مع أن كلها يستمد
(4) من طبيعة واحدة ، وهو الماء ، مع هذا الاختلاف الكبير الذي لا ينحصر ولا ينضبط
، ففي ذلك آيات لمن كان واعيا ، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار ، الذي
بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }
{ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي
خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأغْلالُ
فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) }
يقول تعالى لرسوله محمد ، صلوات الله وسلامه عليه : { وَإِنْ تَعْجَبْ } من تكذيب
هؤلاء المشركين بأمر المعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلالاته في خلقه
على أنه القادر على ما يشاء ، ومع ما يعترفون (5) به من أنه ابتدأ خلق الأشياء ،
فكونها بعد أن لم تكن شيئا مذكورا ، ثم هم بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد
العالمين خلقا جديدا ، وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو أعجب مما كذبوا به ، فالعجب من
قولهم : { أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } وقد علم كل
عالم وعاقل أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، وأن من بدأ الخلق فالإعادة
سهلة عليه ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
ثم نعت المكذبين بهذا فقال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
وَأُولَئِكَ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ } أي : يسحبون بها في النار ، {
وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي : ماكثون فيها أبدا ،
لا يحولون عنها ولا يزولون.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3118). والدقل : الرديء واليابس من التمر. والفارسي : نوع
من التمر.
(2) في ت : "وهذا".
(3) في ت ، أ : "وهذا قد جمع".
(4) في ت : "تستمد".
(5) في ت ، أ : "يعرفون".
(4/432)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) }
(4/432)
يقول
تعالى : { ويستعجلونك } (1) أي : هؤلاء المكذبون { بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ
الْحَسَنَةِ } أي : بالعقوبة ، كما أخبر عنهم في قوله : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا
الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَوْ مَا تَأْتِينَا
بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا
بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ } [الحجر : 6 - 8] وقال تعالى : {
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ
الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [العنكبوت : 53 ،
54] وقال : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [المعارج : 1] وقال : {
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } [الشورى : 18]{ وَقَالُوا
رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } [ص : 16] أي : حسابنا
وعقابنا ، كما قال مخبرا عنهم : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا
هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ
ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال : 32] فكانوا (2) يطلبون من الرسول أن
يأتيهم بعذاب الله ، وذلك من شدة تكذيبهم وكفرهم وعنادهم.
قال الله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ } أي : قد أوقعنا
نقمتنا بالأمم الخالية وجعلناهم مثلة وعبرة وعظة لمن اتعظ بهم.
ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه [وغفره] (3) لعالجهم بالعقوبة ، كما قال تعالى
: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا
مِنْ دَابَّةٍ } [فاطر : 45] (4).
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ
عَلَى ظُلْمِهِمْ } أي : إنه ذو عفو وصفح (5) وستر للناس مع أنهم يظلمون ويخطئون
بالليل والنهار. ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ، ليعتدل الرجاء والخوف ، كما
قال تعالى : { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا
يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام : 147] وقال : { إِنَّ
رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [الأعراف : 167] وقال
: { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ
الْعَذَابُ الألِيمُ } [الحجر : 49 ، 50] إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع
الرجاء والخوف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن علي بن
زيد ، عن سعيد بن المسَيَّب قال : لما نزلت هذه الآية : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ }
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لولا عفوُ الله وتجاوُزه ، ما هنأ أحدا
العيش (6) ولولا وعيده (7) وعقابه ، لاتكل كل أحد" (8).
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن عثمان أبي حسان الزيادي : أنه رأى رب
العزة في
__________
(1) في ت ، أ : "ويستعجلك" وهو خطأ.
(2) في ت : "وكانوا".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت : "الناس بظلمهم" وهو خطأ.
(5) في ت : "ذو صفح وغفر".
(6) في ت : "العريش".
(7) في ت : "وعده".
(8) ورواه الواحدي في الوسيط (3/6) من طريق محمد بن أيوب ، عن موسى بن إسماعيل ،
به مرسلا.
(4/433)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
النوم
، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين يديه يشفع في رجل من أمته ، فقال له :
ألم يكفك أني أنزلت عليك في سورة الرعد : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ
لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } ؟ قال : ثم انتبهت. (1)
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) }
يقول تعالى إخبارًا عن المشركين أنهم يقولون كفرا وعنادا : لولا يأتينا بآية من
ربه كما أرسل الأولون ، كما تعتنوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن يزيل (2)
عنهم الجبال ، ويجعل مكانها مروجا وأنهارا ، قال الله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا
أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا
تَخْوِيفًا } [الإسراء : 59].
قال الله تعالى : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ } أي : إنما عليك أن تبلغ رسالة الله
التي أمرك بها ، { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ } [البقرة : 272].
وقوله : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، أي :
ولكل قوم داع.
وقال العوفي ، عن ابن عباس في تفسيرهما : يقول الله تعالى : أنت يا محمد منذر ،
وأنا هادي كل قوم ، وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك.
وعن مجاهد : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } أي : نبي. كما قال : { وَإِنْ مِنْ
أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر : 24] وبه قال قتادة ، وعبد الرحمن بن
زيد.
وقال أبو صالح ، ويحيى بن رافع : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } أي : قائد.
وقال أبو العالية : الهادي : القائد ، والقائد : الإمام ، والإمام : العمل.
وعن عِكْرِمة ، وأبي الضحى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } قالا هو محمد [رسول الله]
(3) صلى الله عليه وسلم.
وقال مالك : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } من يدعوهم إلى الله ، عز وجل.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني أحمد بن يحيى الصوفي ، حدثنا الحسن بن الحسين
الأنصاري ، حدثنا معاذ بن مسلم بياع الهروي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير
، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : لما نزلت : { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ
وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } قال : وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره ،
وقال : "أنا المنذر ، ولكل قوم هاد". وأومأ بيده إلى منكب علي ، فقال :
"أنت الهادي يا علي ، بك يهتدي المهتدون من بعدي".
وهذا الحديث فيه نكارة شديدة (4).
__________
(1) تاريخ دمشق (4/471) "المخطوط").
(2) في ت ، أ : "يزيح".
(3) زيادة من أ.
(4) تفسير الطبري (16/357) ، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (1/484) بعد أن ساقه
في ترجمة الحسن بن الحسين. "رواه ابن جرير في تفسيره ، عن أحمد بن يحيى ، عن
الحسن ، عن معاذ ، ومعاذ نكرة ، فلعل الآفة منه".
(4/434)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا المطلب بن
زياد ، عن السدي ، عن عبد خير ، عن علي : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } قال : الهادي
: رجل من بني هاشم : قال الجنيد (1) هو علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، في إحدى الروايات ، وعن أبي جعفر محمد بن
علي ، نحو ذلك.
{ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا
تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) }
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء ، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من
كل إناث الحيوانات ، كما قال تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ } [لقمان :
34] أي : ما حملت من ذكر أو أنثى ، أو حسن أو قبيح ، أو شقي أو سعيد ، أو طويل
العمر أو قصيره ، كما قال تعالى : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ
الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم : 32].
وقال تعالى : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ
خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ } [الزمر : 6] أي : خلقكم طورا من بعد طور ، كما قال
تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ
جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً
فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا
الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ
أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون : 12 : 14] وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال :
قال رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم : "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه
أربعين يوما ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه ملك
فيؤمر بأربع كلمات : يَكْتب رزقه ، وعمره ، وعمله ، وشقي أو سعيد" (3).
وفي الحديث الآخر : "فيقول الملك : أيْ رب ، أذكر أم أنثى ؟ أي رب ، أشقي أم
سعيد ؟ فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فيقول الله ، ويكتب الملك" (4).
وقوله : { وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } قال البخاري : حدثنا
إبراهيم بن المنذر ، حدثنا مَعْن ، حدثنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن
عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها
(5) إلا الله : لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ،
ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى
تقوم الساعة إلا الله" (6).
__________
(1) في أ : "ابن الجنيد".
(2) في ت : "النبي".
(3) صحيح البخاري برقم (3208) وصحيح مسلم برقم (2643).
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (2645) من حديث حذيفة بن أسيد ، رضي الله عنه.
(5) في ت : "لا يعلمهن".
(6) صحيح البخاري برقم (4697).
(4/435)
وقال
العوفي ، عن ابن عباس : { وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ } يعني : السَقْط { وَمَا
تَزْدَادُ } يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما. وذلك أن
من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ، ومنهن من تزيد في الحمل
، ومنهن من تنقص ، فذلك الغيض (1) والزيادة التي ذكر الله تعالى ، وكل ذلك بعلمه
تعالى.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ
} قال : ما نقصت من تسعة وما زاد عليها.
وقال الضحاك : وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين ، وولدتني وقد نبتت ثنيَّتي.
وقال ابن جُرَيْج ، عن جميلة بنت سعد ، عن عائشة قالت : لا يكون الحمل أكثر من
سنتين ، قدر ما يتحرك ظِل مغْزَل.
وقال مجاهد : { وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } قال : ما ترى من الدم
في حملها ، وما تزداد على تسعة أشهر. وبه قال عطية العوفي وقتادة ، والحسن البصري
، والضحاك.
وقال مجاهد أيضا : إذا رأت المرأة الدم دون التسعة زاد على التسعة ، مثل أيام
الحيض. وقاله عِكْرِمة ، وسعيد بن جبير ، وابن زيد.
وقال مجاهد أيضا : { وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ } إراقة المرأة حتى يخس الولد {
وَمَا تَزْدَادُ } إن لم تهرق المرأة تم الولد وعظم.
وقال مكحول : الجنين في بطن أمه لا يطلب ، ولا يحزن ولا يغتم ، وإنما يأتيه رزقه
في بطن أمه من دم حيضتها (2) فمن ثم لا تحيض الحامل. فإذا وقع إلى الأرض استهل ،
واستهلاله استنكار (3) لمكانه ، فإذا قطعت سرته حول الله رزقه إلى ثديي أمه حتى لا
يطلب ولا يحزن ولا يغتم ، ثم يصير طفلا يتناول الشيء بكفه فيأكله ، فإذا هو بلغ
قال : هو الموت أو القتل ، أنَّى لي بالرزق ؟ فيقول مكحول : يا ويلك (4) ! غَذاك
وأنت في بطن أمك ، وأنت طفل صغير ، حتى إذا اشتددت وعقلت قلت : هو الموت أو القتل
، أنى لي بالرزق ؟ ثم قرأ مكحول : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى
وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }
وقال قتادة : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } أي : بأجل ، حفظ أرزاق خلقه
وآجالهم ، وجعل لذلك أجلا معلومًا.
وفي الحديث الصحيح : أن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إليه : أن ابنا
لها في الموت ، وأنها تحب أن يحضره. فبعث إليها يقول : "إن لله ما أخذ ، وله
ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ، فمروها
__________
(1) في ت : "الغيظ".
(2) في ت : "حيضها".
(3) في ت : "استشكار".
(4) في ت : "يا ويحك".
(4/436)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
فلتصبر
ولتحتسب" الحديث بتمامه (1)
وقوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي : يعلم كل شيء مما يشاهده العباد
ومما يغيب عنهم ، ولا يخفى (2) عليه منه شيء. { الكبير } الذي هو أكبر من كل شيء ،
{ المتعال } أي : على كل شيء ، قد أحاط بكل شيء علما ، وقهر كل شيء ، فخضعت له
الرقاب ودان له العباد ، طوعا وكرها.
{ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ
مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ
(11) }
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه ، سواء (3) منهم من أسر قوله أو جهر به ،
فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء كما قال : { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [طه : 7] وقال : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا
تُعْلِنُونَ } [النمل : 25] وقالت عائشة ، رضي الله عنها : سبحان الذي وسع سمعه
الأصوات ، والله لقد جاءت المجادلة تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
، وأنا في جنب البيت ، وإنه ليخفى عليَّ بعض كلامها ، فأنزل الله : { قَدْ سَمِعَ
اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ
وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [المجادلة :
1].
وقوله : { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ } أي : مختف في قعر بيته في ظلام
الليل ، { وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } أي : ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه ، فإن
كليهما (4) في علم الله على السواء ، كما قال تعالى : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ
ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } [هود : 5] وقال تعالى :
{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ
مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا
يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ
وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [يونس : 61].
وقوله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ
مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } أي : للعبد ملائكة يتعاقبون عليه ، حَرَس بالليل وحَرَس
بالنهار ، يحفظونه من الأسواء (5) والحادثات ، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ
الأعمال من خير أو شر ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، فاثنان عن اليمين و[عن]
(6) الشمال يكتبان الأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب
السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحدا (7) من ورائه وآخر من قدامه ،
فهو بين أربعة أملاك بالنهار ، وأربعة آخرين بالليل بدلا حافظان وكاتبان ، كما جاء
في الصحيح : "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في
صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بكم :
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت : "لا يخفى".
(3) في ت : "وأنه سواء".
(4) في ت : "كلاهما".
(5) في ت : "الأنواء".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت : "وآخر".
(4/437)
كيف
تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ، وتركناهم وهم يصلون" (1) وفي
الحديث الآخر : "إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ،
فاستحيوهم وأكرموهم" (2).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } والمعقبات من أمر الله ، وهي
الملائكة.
وقال عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قال :
ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خَلَّوا عنه.
وقال مجاهد : ما من عبد إلا له (3) مَلَك موكل ، يحفظه في نومه ويقظته من الجن
والإنس والهوام ، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال الملك : وراءك إلا شيء يأذن
الله فيه فيصيبه.
وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } قال : ذلك (4) ملك من ملوك الدنيا ، له
حرس من دونه حرس.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ } يعني : ولي الشيطان ، يكون عليه الحرس. وقال عِكْرِمة في تفسيرها : هؤلاء
الأمراء : المواكب من بين يديه ومن خلفه.
وقال الضحاك : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قال : هو السلطان (5) المحترس (6) من أمر
الله ، وهم أهل الشرك.
والظاهر ، والله أعلم ، أن مُرَاد ابن عباس وعِكْرِمة والضحاك بهذا أن حرس
الملائكة للعبيد (7) يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم.
وقد روى الإمام أبو جعفر ابن جرير هاهنا حديثًا غريبا جدا فقال :
حدثني المثنى ، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح القشيري ، حدثنا علي بن جرير
، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي قال : دخل عثمان بن
عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العبد ،
كم معه من ملك (8) ؟ فقال : "ملك على يمينك على حسناتك ، وهو آمر (9) على
الذي على الشمال ، إذا عملت حسنة كتبت عشرا ، فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال
للذي على اليمين : اكتب ؟ قال : لا لعله يستغفر الله ويتوب. فإذا قال ثلاثا قال :
__________
(1) صحيح البخاري برقم (555 ، 7429) وصحيح مسلم برقم (632).
(2) رواه الترمذي في السنن برقم (2800) من طريق ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، رضي
الله عنه ، مرفوعا ، وأوله : "إياكم والتحري فإن معكم". الحديث. وقال
الترمذي : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
(3) في ت ، أ : "به".
(4) في ت ، أ : "ذكر".
(5) في ت : "الشيطان".
(6) في أ : "المحروس".
(7) في ت ، أ : "للعبد".
(8) في ت ، أ : "كم ملك معه".
(9) في ت ، أ : "وهو أمين".
(4/438)
نعم
، اكتب أراحنا الله منه ، فبئس القرين. ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه
منا". يقول الله : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ
} [ق : 18] وملكان من بين يديك ومن خلفك ، يقول الله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } وملك قابض
على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك ، وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك
، ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ، وملك قائم على فيك لا
يَدَع الحية أن تدخل في فيك ، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي (1)
ينزلون (2) ملائكة الليل على ملائكة النهار ؛ لأن ملائكة الليل سوى ملائكة النهار
، فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل" (3).
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا سفيان ، حدثني منصور ،
عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من
الملائكة". قالوا : وإياك يا رسول الله ، قال : "وإياي ، ولكن أعانني
الله عليه (4) فلا يأمرني إلا بخير".
انفرد بإخراجه مسلم (5).
وقوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قيل : المراد حفظُهم له من أمر
الله. رواه علي بن أبي طلحة ، وغيره ، عن ابن عباس. وإليه ذهب مجاهد ، وسعيد بن
جبير ، وإبراهيم النَّخَعي ، وغيرهم.
وقال قتادة : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } قال : وفي بعض القراءات :
"يحفظونه بأمر الله".
وقال كعب الأحبار : لو تجلَّى لابن آدم كل سهل وحزن ، لرأى كل شيء من ذلك شياطين
(6) لولا أن الله وكَّل بكم ملائكة عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم ، إذا
لتُخُطّفتم.
وقال أبو أمامة (7) ما من آدمي إلا ومعه ملك يَذُود عنه ، حتى يسلمه للذي قدر له.
وقال أبو مِجْلَز : جاء رجل من مُرَاد إلى علي ، رضي الله عنه ، وهو يصلي ، فقال :
احترس ، فإن ناسًا من مراد يريدون قتلك. فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم
يقدّر ، فإذا جاء القَدَرُ خَليا بينه وبينه ، وإن الأجل جنة حَصِينة. (8)
وقال بعضهم : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } بأمر الله ، كما جاء في
الحديث أنهم قالوا : يا رسول الله ، أرأيت رُقَى نسترقي بها ، هل ترد من قَدَر
الله شيئا ؟ فقال : "هي من قَدَر الله" (9).
__________
(1) في ت ، أ : "على كل بني آدم".
(2) في ت ، أ : "يبدلون".
(3) تفسير الطبري (16/370).
(4) في ت ، أ : "ولكن الله أعانني عليه".
(5) المسند (1/397) وصحيح مسلم برقم (2814)
(6) في ت ، أ : "من ذلك ساء نفسه".
(7) في أ : "أبو أسامة".
(8) رواه الطبري في تفسيره (16/378).
(9) رواه الترمذي في السنن برقم (2065) من حديث أبي خزامة وقال : "حديث
حسن".
(4/439)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن جَهْم ،
عن إبراهيم قال : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل : أن قل لقومك : إنه
ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله ،
إلا تحول لهم مما يحبون إلى ما يكرهون ، ثم قال : إن مصداق (1) ذلك في كتاب الله :
{ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
}
وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه
"صفة العرش" : حدثنا الحسن بن علي ، حدثنا الهيثم بن الأشعث السلمي ،
حدثنا أبو حنيفة اليمامي (2) الأنصاري ، عن عمير بن عبد الله (3) قال : خطبنا علي
بن أبي طالب على منبر الكوفة ، قال : كنت إذا سكتُّ عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم ابتدأني ، وإذا سألته عن الخبر أنبأني ، وإنه حدثني عن ربه ، عز وجل ، قال :
"قال الرب : وعزتي وجلالي ، وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قرية ولا أهل بيت
كانوا على ما كرهتُ من معصيتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحولت
لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي" (4).
وهذا غريب ، وفي إسناده من لا أعرفه.
{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ
الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ
وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي
اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) }
يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق ، وهو ما يرى (5) من النور اللامع ساطعا من خلل
السحاب.
وروى ابن جرير أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق ، فقال : البرق :
الماء.
وقوله : { خَوْفًا وَطَمَعًا } قال قتادة : خوفا للمسافر ، يخاف أذاه ومشقته ،
وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ، ويطمع في رزق الله.
{ وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ } أي : ويخلقها منشأة جديدة ، وهي لكثرة مائها
ثقيلة قريبة إلى الأرض.
قال مجاهد : والسحاب الثقال : الذي فيه الماء.
__________
(1) في ت ، أ : "تصديق".
(2) في هـ ، ت ، أ : "اليماني" والصواب ما أثبتناه.
(3) في هـ ، ت ، أ : "عبد الملك" ، والصواب ما أثبتناه.
(4) صفة العرش برقم (19) والهيثم مجهول وشيخه لم أجد له ترجمة.
(5) في ت : "ما ترى".
(4/440)
{
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } كما قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الإسراء : 44].
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، أخبرني أبي قال : كنت
جالسًا إلى جنب حُمَيْد بن عبد الرحمن في المسجد ، فمر شيخ من بني غفار ، فأرسل
إليه حميد ، فلما أقبل قال : يا ابن أخي ، وسع (1) له فيما بيني وبينك ، فإنه قد
صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه ، فقال له حميد :
ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال الشيخ : سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله ينشئ السحاب ، فينطق أحسن النطق ،
ويضحك أحسن الضحك" (2).
والمراد - والله أعلم - أن نطقَها الرعدُ ، وضحكها البرقُ.
وقال موسى بن عبيدة ، عن سعد بن إبراهيم قال : يبعث الله الغيث ، فلا أحسن منه
مضحكا ، ولا آنس منه منطقا ، فضحكه البرق ، ومنطقه الرعد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي ، عن محمد بن
مسلم قال : بلغنا أن البرق مَلكٌ له أربعة وجوه : وجه إنسان ، ووجه ثور ، ووجه نسر
، ووجه أسد ، فإذا مَصَع (3) بذنبه فذاك البرق. (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا الحجاج ، حدثني
أبو مطر ، عن سالم ، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سَمع
الرعْد والصواعق قال : "اللهم ، لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ،
وعافنا قبل ذلك".
ورواه الترمذي ، والبخاري في كتاب الأدب ، والنسائي في اليوم والليلة ، والحاكم في
مستدركه ، من حديث الحجاج بن أرطاة ، عن أبي مطر - ولم يسم به. (5)
وقال [الإمام] (6) أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ،
حدثنا إسرائيل ، عن أبيه (7) عن رجل ، عن أبي هريرة ، رفع الحديث قال : إنه كان
إذا سمع الرعد قال : "سبحان من يُسبّح الرعْد بحمده". (8)
وروي عن علي ، رضي الله عنه ، أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال : سبحان من سَبَّحت
له.
__________
(1) في ت : "أوسع".
(2) المسند (5/435).
(3) في ت : "قصع".
(4) وهذا لا أصل له من كتاب ولا سنة ، وهو من الخيال.
(5) المسند (2/100) وسنن الترمذي (3450) والأدب المفرد برقم (722) والنسائي في
السنن الكبرى برقم (10764) ، وأما الحاكم فرواه في المستدرك (4/286) من طريق عبد
الواحد بن زياد ، عن أبي مطر ، به. ولم يذكر الحجاج بن أرطاة ، وقال : "صحيح
الإسناد ولم يخرجاه" وأقره الذهبي ، وضعف النووي هذا الحديث في الأذكار (ص
164).
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت ، أ : "عن ليث".
(8) تفسير الطبري (16/389) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف
(2/184) من طريق محمد بن يحيى ، عن أحمد ابن إسحاق عن أبي أحمد ، عن عتاب بن زياد
، عن رجل ، عن أبي هريرة رفع الحدث... إلى آخره.
(4/441)
وكذا
روي عن ابن عباس ، والأسود بن يزيد ، وطاوس : أنهم كانوا يقولون كذلك.
وقال الأوزاعي : كان ابن أبي زكريا يقول : من قال حين يسمع الرعد : سبحان الله
وبحمده ، لم تصبه صاعقة.
وعن عبد الله بن الزبير (1) أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال : سبحان الذي
يسبّح الرعدُ بحمده والملائكة من خيفته ، ويقول : إن هذا لوعيد (2) شديدٌ لأهل
الأرض. رواه مالك في الموطأ ، والبخاري في كتاب الأدب. (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الطيالسي ، حدثنا صَدَقة بن موسى ، حدثنا
محمد بن واسع ، عن شتيز (4) بن نهار ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "قال ربكم عز وجل : لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل ،
وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولما أسمعتهم (5) صوت الرعد". (6)
وقال الطبراني : حدثنا زكريا بن يحيى الساجي ، حدثنا أبو كامل الجَحْدري ، حدثنا
يحيى بن كثير أبو النضر ، حدثنا عبد الكريم ، حدثنا عطاء ، عن ابن عباس قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله ؛ فإنه لا
يصيب ذاكرا". (7)
وقوله : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } أي : يرسلها
نقمَةً ينتقم بها ممن يشاء ، ولهذا تكثر في آخر الزمان ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا عمارة (8) عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي
الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تكثر الصواعق عند اقتراب
الساعة ، حتى يأتي الرجل القوم فيقول : من صعق تلكم (9) الغداة ؟ فيقولون صعِق
فلان وفلان وفلان". (10)
وقد روي في سبب نزولها ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي :
حدثنا إسحاق ، حدثنا علي بن أبي سارة الشَّيباني ، حدثنا ثابت ، عن أنس : أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا مرة إلى رجل من فراعنة العرب فقال : "اذهب
فادعه لي". قال : فذهب إليه فقال : يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال
له : من رسول الله ؟ وما الله ؟ أمِن ذهب هو ؟ أم من فضة هو ؟ أم من نحاس هو ؟ قال
: فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : يا رسول الله ، قد
أخبرتك أنه أعتى من ذلك ،
__________
(1) في ت ، أ : "بن عمرو".
(2) في ت ، أ : "الوعيد".
(3) الموطأ (2/992) والأدب المفرد برقم (724).
(4) في ت : "عن شمس" ، وفي أ : "شمير".
(5) في ت : "استمعتهم".
(6) المسند (2/359).
(7) المعجم الكبير (11/164) وقال الهيثمي في المجمع (10/136) : "فيه يحيى بن
كثير وهو ضعيف".
(8) في أ : "حماد".
(9) في ت ، أ : "قبلكم".
(10) المسند (3/64).
(4/442)
قال
لي كذا وكذا. فقال : "ارجع إليه الثانية". أراه ، فذهب فقال له مثلها.
فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، قد أخبرتك أنه أعتى
من ذلك. قال : "ارجع إليه فادعه". فرجع إليه الثالثة. قال : فأعاد عليه
ذلك الكلام. فبينا هو يكلمه ، إذ بعث الله ، عز وجل ، سحابة حيال رأسه ، فرعدت ،
فوقعت منها صاعقة ، فذهب بقحف رأسه فأنزل الله : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ
فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ
الْمِحَالِ }
ورواه ابن جرير ، من حديث علي بن أبي سارة ، به (1) ورواه الحافظ أبو بكر البزار ،
عن عبدة بن عبد الله ، عن يزيد بن هارون ، عن ديلم بن غَزْوان ، عن ثابت ، عن أنس
، فذكر نحوه. (2)
وقال : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا عفان ، حدثنا أبان بن يزيد ، حدثنا أبو عمران
الجوقي ، عن عبد الرحمن بن صُحَار العبدي : أنه بلغه أن نبي الله بعثه (3) إلى
جَبَّار يدعوه ، فقال : أرأيتم (4) ربكم ، أذهب هو ؟ أو فضة هو ؟ ألؤلؤ هو ؟ قال :
فبينا هو يجادلهم ، إذ بعث الله سحابة فرعدت فأرسل عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه ،
ونزلت هذه الآية.
وقال أبو بكر بن عياش ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد قال : جاء يهودي فقال : يا
محمد ، أخبرني عن ربك ، [من أي شيء هو] (5) من نحاس هو ؟ من لؤلؤ ؟ أو ياقوت ؟ قال
: فجاءت صاعقة فأخذته ، وأنزل الله : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا
مَنْ يَشَاءُ }
وقال قتادة : ذُكر لنا أنَّ رجلا أنكر القرآن ، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم ،
فأرسل الله صاعقة فأهلكته وأنزل : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ } الآية.
وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد (6) بن ربيعة لما قدما على رسول
الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عامر بن الطفيل - لعنه الله : أما والله
لأملأنَّهَا عليك خيلا جَرْدا ورجالا مردا. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
: يأبى الله عليك ذلك وأبناء قَيْلة (7) يعني : الأنصار ، ثم إنهما هما بالفتك (8)
بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وجعل أحدهما يخاطبه ، والآخر يستل سيفه ليقتله من
ورائه ، فحماه الله منهما وعصمه ، فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب ،
يجمعان الناس لحربه ، عليه السلام (9) فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة
فأحرقته. وأما عامر بن الطفيل فأرسل الله عليه الطاعون ، فخرجت فيه غُدّة عظيمة ،
فجعل يقول : يا آل عامر ، غُدَّة كغدَّة البكر ، وموت في بيت سَلُولية (10) ؟ حتى
ماتا (11) لعنهما الله ، وأنزل الله في مثل ذلك :
__________
(1) مسند أبي يعلى (6/183) وتفسير الطبري (16/392) وعلي بن أبي سارة ضعيف.
(2) مسند البزار برقم (2221) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(7/42) : "رجال البزار ، رجال الصحيح غير ديلم بن غزوان وهو ثقة".
(3) في ت ، أ : "بعث".
(4) في أ : "أرأيتكم".
(5) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(6) في ت : "وأزيد".
(7) في ت ، أ : "قبيلة".
(8) في أ : "بالقتل".
(9) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(10) في ت : "سلولته".
(11) في أ : "مات".
(4/443)
{
وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } وفي ذلك يقول لبيد بن
ربيعة ، أخو أربد يرثيه :
أخشَى عَلَى أَرْبَدَ الحُتُوفَ وَلا... أرْهَب نَوء السّماك والأسَد...
فَجَعني الرّعْدُ والصّواعِقُ بالـ... فارس يَوم الكريهَة النَّجُدِ (1)
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا مَسْعَدة بن سعد (2) العطار ، حدثنا
إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثني عبد العزيز بن عمران ، حدثني عبد الرحمن وعبد
الله ابنا زيد بن أسلم ، عن أبيهما ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ، أن أربد بن
قيس بن جَزْء بن جليد (3) بن جعفر بن كلاب ، وعامر بن الطفيل بن مالك ، قدما
المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتهيا إليه وهو جالس ، فجلسا بين
يديه ، فقال عامر بن الطفيل : يا محمد ، ما تجعل لي إن أسلمتُ ؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "لك ما للمسلمين ، وعليك ما عليهم". قال عامر بن
الطفيل : أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ليس ذلك لك ولا لقومك ، ولكن لك أعنَّة الخيل". قال : أنا الآن في
أعنَّة خيل نجد ، اجعل لي الوبَرَ ولك المدَرَ. قال رسول الله : "لا".
فلما قفلا من عنده قال عامر : أما والله لأملأنَّهَا عليك خيلا ورجالا فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "يمنعك الله". فلما خرج أربد وعامر ، قال
عامر : يا أربد ، أنا أشغل عنك محمدا صلى الله عليه وسلم بالحديث ، فاضربه بالسيف
، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يَرضَوا بالدية ، ويكرهوا الحرب ،
فنعطيهم (4) الدية. قال أربد : أفعل. فأقبلا راجعين إليه ، فقال عامر : يا محمد ،
قم معي أكلمك. فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلسا إلى الجدار ، ووقف
معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه ، وسَلّ أربدُ السيف ، فلما وضع يده على
السيف يبست يده على قائم السيف ، فلم يستطع سل السيف ، فأبطأ أربد على عامر بالضرب
، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد ، وما يصنع ، فانصرف عنهما. فلما
خرج عامر وأربد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحَرّة ،
حَرّة واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسَيد بن حضير فقالا اشخصا يا عدوّي
الله ، لعنكما الله. فقال عامر : من هذا يا سعد ؟ قال : هذا أسَيد بن حُضَير
الكتائب (5) فخرجا حتى إذا كانا بالرَّقم ، أرسل الله على أربدَ صاعقة فقتلته ،
وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم ، أرسل الله قرحة فأخذته فأدركه الليل في بيت امرأة
من بني سلول ، فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول : غدة كغدة الجمل في بيت سَلُولية (6)
ترغب أن يموت في بيتها! ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعا ، فأنزل الله فيهما
: { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ } إلى
قوله : { وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } [الرعد : 8 - 11] - قال :
المعقبات من أمر الله يحفظون محمدًا صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر أربد وما قتله به
، فقال : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } الآية (7).
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (16/379 - 382) عن ابن زيد.
(2) في هـ ، ت : "سعيد" وما أثبتناه هو الصواب ؛ لوقوعه في المعجم
الكبير والصغير هكذا ، ولم أجد له ترجمة.
(3) في أ : "خالد".
(4) في ت ، أ : "فستعطيهم".
(5) في ت ، أ : "الكاتب".
(6) في ت : "سلولته".
(7) المعجم الكبير (10/379 - 381) وفيه عبد العزيز بن عمران ، وعبد الرحمن وعبد
الله ابنا زيد بن أسلم ، وكلهم ضعاف.
(4/444)
وقوله
: { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ } أي : يَشُكّون في عظمته ، وأنه لا إله إلا
هو ، { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }
قال ابن جرير : شديدة مماحَلَته في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في كفره.
وهذه الآية شبيهة بقوله : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } [النمل : 50 ، 51].
وعن علي ، رضي الله عنه : { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } أي : شديد الأخذ. وقال
مجاهد : شديد القوة.
(4/445)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ
لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا
هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (14) }
قال علي بن أبى طالب ، رضي الله عنه : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ } قال : التوحيد.
رواه ابن جرير.
وقال ابن عباس ، وقتادة ، ومالك عن محمد بن المنْكَدِر : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ
} [قال] (1) لا إله إلا الله.
{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } (2) أي : ومثل الذين يعبدون آلهة غير
الله. { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ } قال علي بن أبي
طالب : كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده ، وهو لا يناله أبدا بيده ، فكيف
يبلغ فاه ؟.
وقال مجاهد : { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ } يدعو الماء بلسانه ، ويشير إليه [بيده] (3)
فلا يأتيه أبدا.
وقيل : المراد كقابض يده على الماء ، فإنه لا يحكم منه على شيء ، كما قال الشاعر :
(4)
فَإنّي وَإيَّاكُمْ وَشَوْقًا إليكمُ... كَقَابض مَاء لَم تَسْقه (5) أناملُه...
وقال الآخر : (6)
فأصْبَحتُ ممَّا كانَ بَيْنِي وَبَيْنَها... مِن الوُدّ مِثْلَ القابضِ المَاءَ
بِاليَد...
ومعنى الكلام : أن هذا الذي يبسط يده إلى الماء ، إما قابضا وإما متناولا له من
بُعد ، كما أنه لا
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت : "تدعون".
(3) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(4) هو ضابئ بن الحارث البرجمي ، والبيت في تفسير الطبري (16/399) وأورده البغدادي
في خزانة الأدب (4/80) من أبيات سبعة قالها في الحبس. اهـ مستفادا من حاشية الشعب.
(5) في ت : "يسقه".
(6) هو الأحوص بن محمد الأنصاري ، والبيت في تفسير الطبري (16/400).
(4/445)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
ينتفع
بالماء الذي لم يصل إلى فيه ، الذي جعله محلا للشرب ، فكذلك هؤلاء المشركون الذين
يعبدون مع الله إلها غيره ، لا ينتفعون بهم أبدا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ ولهذا
قال : { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ }
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا
وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) }
يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء ، ودان له كل شيء. ولهذا يسجُد له
كلّ شيء طوعا من المؤمنين ، وكرها من المشركين ، { وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ } أي
: البُكر (1) والآصال ، وهو جمع أصيل وهو آخر النهار ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ
الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [النحل : 48].
{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ
مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ
هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ
وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ
الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ
الْقَهَّارُ (16) }
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو ؛ لأنهم معترفون (2) أنه هو الذي خلق السموات والأرض
، وهو ربها ومدبرها ، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم ، وأولئك
الآلهة لا تملك لنفسها (3) ولا لعابديها بطريق الأولى { نَفْعًا وَلا ضَرًّا } أي
: لا تحصل منفعة ، ولا تدفع مضرة. فهل يَستَوي من عبد هذه الآلهة مع الله ، ومن
عبد الله وحده لا شريك له ، وهو على نور من ربه ؟ ولهذا قال : { قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ
عَلَيْهِمْ } (4) أي : أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في
الخلق ، فخلقوا كخلقه ، فتشابه الخلق عليهم ، فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره
؟ أي : ليس الأمر كذلك ، فإنه لا يشابهه شيء ولا يماثله ، ولا ندّ له ولا عدْل (5)
له ، ولا وزير له ، ولا ولد ولا صاحبة ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وإنما عبد
هؤلاء المشركون معه آلهة هم يعترفون (6) أنها مخلوقة له عبيد له ، كما كانوا
يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك. وكما
أخبر تعالى عنهم في قوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى } [الزمر : 3] (7) فأنكر تعالى ذلك عليهم ، حيث اعتقدوا
__________
(1) في أ : بالبكرات".
(2) في ت : "يعرفون".
(3) في ت : "لأنفسها".
(4) في ت : "يستوى".
(5) في أ : "ولا عديل".
(6) في ت ، أ : "يعرفون".
(7) في ت : "إنما".
(4/446)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
ذلك
، وهو تعالى لا يشفع عنده أحدإلا بإذنه ، { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ
إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ : 23] ، { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ
لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم : 26] وقال : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم : 93 - 95] فإذا كان
الجميع عبيدا ، فلم يعبد بعضهم بعضا بلا دليل ولا برهان ، بل بمجرد الرأي
والاختراع والابتداع ؟ ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك ،
وتنهاهم عن عبادة من سوى الله ، فكذبوهم وخالفوهم ، فحقت عليهم كلمة العذاب لا
محالة ، { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف : 49].
{ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ
زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ
أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ (17) }
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه ، والباطل في
اضمحلاله وفنائه ، فقال تعالى : { أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي : مطرا ، {
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } أي : أخذ كل واد بحسبه ، فهذا كبير وسع كثيرا
من الماء ، وهذا صغير فوسع بقدره ، وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها ، فمنها ما يسع
علما كثيرا ، ومنها ما لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها ، { فَاحْتَمَلَ
السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا } أي : فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زَبَدٌ
عال عليه ، هذا مثل ، وقوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ } هذا
هو المثل الثاني ، وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة { ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ } أي
: ليجعل حلية أو نحاسا أو حديدًا ، فيجعل متاعا فإنه يعلوه زبد منه ، كما يعلو ذلك
(1) زبد منه. { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } أي : إذا
اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام له ، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ، ولا مع
الذهب ونحوه مما يسبك في النار ، بل يذهب ويضمحل ؛ ولهذا قال : { فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً } أي : لا ينتفع به ، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في
جانبي الوادي ، ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح. وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد
والنحاس يذهب ، لا يرجع (2) منه شيء ، ولا يبقى إلا الماء (3) وذلك الذهب ونحوه
ينتفع به ؛ ولهذا قال : { وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ } كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا
لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ } [العنكبوت : 43].
قال بعض السلف : كنت إذا قرأتُ مثلا من القرآن فلم أفهمه بَكَيت على نفسي ؛ لأن
الله تعالى يقول : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله تعالى : { أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا }
__________
(1) في ت : "ذاك".
(2) في ت ، أ : "منه إلى شيء".
(3) في ت ، أ : "ويبقى الماء".
(4/447)
هذا
مثل ضربه الله ، احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها ، فأما الشك فلا ينفع معه
العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله. وهو قوله : { فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً } [وهو الشك] (1) { وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
فِي الأرْضِ } وهو اليقين ، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خَبَثه في
النار ؛ فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك.
وقال العوفي عن ابن عباس قوله : { أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ
أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا } يقول : احتمل
السيل ما في الوادي من عود ودِمْنَة (2) { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي
النَّارِ } فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، فللنحاس والحديد
خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء ، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة ، وأما
ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت. فجعل ذاك (3) مثل العمل الصالح يبقى
لأهله ، والعمل السيئ يضمحل عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، فكذلك الهدى والحق
جاءا من عند الله ، فمن عمل بالحق كان له ، ويبقى كما يبقى ما ينفع الناس في
الأرض. وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل
خبَثَه ، ويخرج جيده فينتفع به. كذلك يضمحل الباطل إذا كان يوم القيامة ، وأقيم
الناس ، وعرضت الأعمال ، فيزيغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحق بالحق.
وكذلك رُوي في تفسيرها عن مجاهد ، والحسن البصري ، وعطاء ، وقتادة ، وغير واحد من
السلف والخلف.
وقد ضرب الله ، سبحانه وتعالى ، في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين ناريا ومائيا
، وهما قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا
أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } الآية [البقرة : 17] ، ثم قال : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ
السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } الآية [ البقرة : 19]. وهكذا ضرب
للكافرين في سورة النور مثلين ، أحدهما : قوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً } [ النور : 39]
الآية ، والسراب إنما يكون في شدة الحر ؛ ولهذا جاء في الصحيحين : "فيقال
لليهود يوم القيامة : فما تريدون ؟ فيقولون : أيْ رَبَّنا ، عطشنا فاسقنا. فيقال :
ألا تردون ؟ فيردون النار فإذا هي كالسراب يَحْطِم بعضها بعضا".
ثم قال في المثل الآخر : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ
مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ } الآية [النور : 40]. وفي الصحيحين
عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن مثل ما
بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل غيث أصاب أرضا ، فكان منها طائفة قبلت الماء
فأنبتت (4) الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها
الناس ، فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا ، وأصابت طائفة منها [أخرى] (5) إنما هي قيعان
لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في أ : "ورمة".
(3) في ت ، أ : "ذلك".
(4) في ت : "وأنبتت".
(5) زيادة من ت ، أ ، والصحيحين.
(4/448)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
فَقه
في دين الله ونَفَعه الله بما بعثني (1) ونفع به ، فَعَلِم وَعَلَّم ، ومثل من لم
يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هُدَى الله الذي أرسلت به". (2)
فهذا مثل مائي ، وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو
هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "مثلي ومثلكم ، كمثل رجل
استوقد نارًا ، فلما أضاءت ما حوله (3) جعل الفراش وهذه (4) الدواب التي يقعن في
النار يقعن فيها ، وجعل يحجُزُهُنَّ ويغلبنه فيقتحمن فيها". قال :
"فذلكم مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحُجزكم عن النار ، هَلُمّ عن النار [هَلُمّ عن
النار ، هَلُمّ] (5) فتغلبوني فتقتحمون فيها". وأخرجاه في الصحيحين أيضا (6)
فهذا مثل ناري.
{ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا
بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ (18) }
يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال : { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا
لِرَبِّهِمُ } أي : أطاعوا الله ورسوله ، وانقادوا لأوامره ، وصدقوا أخباره
الماضية والآتية ، فلهم { الحسنى } وهو الجزاء الحسن (7) كما قال تعالى مخبرًا عن
ذي القرنين أنه قال : { قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ
يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا وَأَمَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا
يُسْرًا } [الكهف : 87 ، 88] وقال تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى
وَزِيَادَةٌ } [يونس : 26].
وقوله : { وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ } أي لم : يطيعوا الله { لَوْ
أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا } أي : في الدار الآخرة ، لو أن يمكنهم أن
يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهبا ومثله معه لافتدوا به ، ولكن لا يتقبل منهم ؛
لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا { أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ
الْحِسَابِ } أي : في الدار الآخرة ، أي : يناقشون على النقير والقطمير ، والجليل
والحقير ، ومن نوقش الحساب عذب ؛ ولهذا قال : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمِهَادُ }
__________
(1) في ت ، أ : "بعثني به".
(2) صحيح البخاري برقم (79) وصحيح مسلم برقم (2282).
(3) في ت : "ما حولها".
(4) في أ : "وهذا".
(5) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(6) المسند (2/312) وصحيح البخاري برقم (6482) وصحيح مسلم برقم (2284) وهو عنده من
هذا الطريق.
(7) في ت : "الخير".
(4/449)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
{ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ (19) }
(4/449)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
يقول
تعالى : لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي { أُنزلَ إِلَيْكَ } يا محمد { مِنْ
رَبِّكَ } هوَ { الحق } أي : الذي لا شك فيه ولا مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه
، بل هو كله (1) حق يصدق بعضه بعضا ، لا يضاد شيء منه شيئا آخر ، فأخباره كلها حق
، وأوامره ونواهيه عدل ، كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا
وَعَدْلا } [الأنعام : 115] أي : صدقا في الإخبار ، وعدلا في الطلب ، فلا يستوي من
تحقق صدق (2) ما جئت به يا محمد ، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه ، ولو
فهمه ما انقاد له ، ولا صدقه ولا اتبعه ، كما قال تعالى : { لا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ } [الحشر : 20] وقال في هذه الآية الكريمة : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } أي : أفهذا
كهذا ؟ لا استواء. (3)
وقوله : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ } أي : إنما يتعظ ويعتبر ويعقل
أولو العقول السليمة الصحيحة (4) جعلنا الله منهم [بفضله وكرمه]. (5)
{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ
وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا
وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى
الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ
كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
(24) }
يقول تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة ، بأن لهم { عُقْبَى الدَّارِ }
وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ } وليسوا
كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر ، وإذا خاصم فجر ، وإذا حدث كذب ، وإذا ائتمن
خان.
{ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } من صلة الأرحام ،
والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج ، وبذل المعروف ، { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
} أي : فيما يأتون وما يذرون من الأعمال ، يراقبون الله في ذلك ، ويخافون سوء
الحساب في الدار الآخرة. فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم
وسكناتهم وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية.
{ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } أي : عن المحارم والمآثم ،
ففطموا (6) نفوسهم عن ذلك لله عز
__________
(1) في ت ، أ : "كلمة".
(2) في ت ، أ : "صحة".
(3) في ت ، أ : "لا سواء".
(4) في ت : "الصحيحة السليمة".
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "فعظموا".
(4/450)
وجل
؛ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ } بحدودها ومواقيتها وركوعها
وسجودها (1) وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي ، { وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ } أي : على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم من زوجات وقرابات وأجانب ،
من فقراء ومحاويج ومساكين ، { سِرًّا وَعَلانِيَةً } أي : في السر والجهر ، لم
يمنعهم من ذلك حال من الأحوال ، في آناء الليل وأطراف النهار ، { وَيَدْرَءُونَ
بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } أي : يدفعون القبيح بالحسن ، فإذا آذاهم أحد قابلوه
بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا ، كما قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت : 34 ، 35] ؛ ولهذا قال مخبرًا عن هؤلاء السعداء المتصفين
بهذه الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار ، ثم فسر ذلك بقوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ }
والعدن : الإقامة ، أي : جنات إقامة يخلدون (2) فيها.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال : إن في الجنة قصرا يقال له : "عدن" ،
حوله البروج والمروج ، فيه خمسة آلاف باب ، على كل باب خمسة آلاف حِبْرة (3) لا
يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقال الضحاك في قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } مدينة الجنة ، فيها الرسل والأنبياء
والشهداء وأئمة الهدى ، والناس حولهم بعد والجنات حولها. رواهما ابن جرير.
وقوله : { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي
: يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ، ممن هو صالح لدخول
الجنة من المؤمنين ؛ لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه (4) ترفع (5) درجة الأدنى إلى درجة
الأعلى ، من غير تنقيص لذلك الأعلى عن درجته ، بل امتنانًا من الله وإحسانا ، كما
قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ
أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ
شِيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [الطور : 21]. (6) (7)
وقوله : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } أي : وتدخل عليهم
الملائكة من هاهنا وهاهنا للتهنئة بدخول الجنة ، فعند (8) دخولهم إياها تفد عليهم
الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام ، والإقامة
في دار السلام ، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل الكرام.
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثني سعيد بن أبي أيوب ،
حدثنا (9) معروف بن سُوَيْد الجذامي عن أبي عشانة المعافري ، عن عبد الله بن عمرو
بن العاص ، رضي الله عنهما (10) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟" قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : "أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون (11) الذين تُسدُّ
بهم الثغور ،
__________
(1) في ت : "وسجودها وركوعها".
(2) في ت : "تخلدون".
(3) في أ : "حرة".
(4) في أ : "إنهم".
(5) في أ : "ترفع من".
(6) في ت : "واتبعتهم".
(7) في أ : "ذرياتهم".
(8) في ت ، أ : "عند".
(9) في ت ، أ : "حدثني".
(10) في ت : "عنه".
(11) في ت : "المهاجرين".
(4/451)
وتُتَّقَى
بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله تعالى
لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم. فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك ، وخيرتك
من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ قال : إنهم كانوا عبادا يعبدونني
لا (1) يشركون بي شيئًا ، وتُسَد (2) بهم الثغور ، وتتقى (3) بهم المكاره ، ويموت
أحدهم وحاجته في صدره فلا يستطيع لها قضاء". قال : "فتأتيهم الملائكة
عند ذلك ، فيدخلون عليهم من كل باب ، { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ
فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } (4)
ورواه أبو القاسم الطبراني ، عن أحمد بن رشدين ، عن أحمد بن صالح ، عن عبد الله بن
وهب ، عن عَمْرو بن الحارث ، عن أبي عُشَّانة سمع عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين ، الذين تتقى
بهم المكاره ، وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا ، وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم
تُقْضَ حتى يموت وهي في صدره ، وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها
وزينتها ، فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي ، وجاهدوا
في سبيلي ؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب ، وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون :
ربنا نحن نسبحك الليل والنهار ، ونُقدس لك ، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ؟ فيقول الرب
عز وجل : هؤلاء عبادي الذين جاهدوا (5) في سبيلي ، وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم
الملائكة من كل باب : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى
الدَّارِ } (6)
وقال عبد الله بن المبارك ، عن بَقِيَّة بن الوليد ، حدثنا أرطاة بن المنذر ، سمعت
رجلا من مشيخة الجند ، يقال له "أبو الحجاج" يقول : جلست إلى أبي أمامة
فقال : إن المؤمن ليكون متكئًا على أريكته إذا دخل الجنة ، وعنده سماطان من خدم ،
وعند طرف السماطين باب مبوب ، فيقبل الملك فيستأذن ، فيقول [أقصى الخدم] (7) للذي
يليه : "مَلك يستأذن" ، ويقول الذي يليه للذي يليه : "ملك
يستأذن" ، حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا. فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا
، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب ، فيفتح له
، فيدخل فيسلم ثم ينصرف. رواه ابن جرير. (8)
ورواه ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش ، عن أرطاة بن المنذر ، عن أبي الحجاج
(9)
__________
(1) في ت ، أ : "ولا".
(2) في ت ، أ : "ويسد".
(3) في ت ، أ : "ويتقى".
(4) المسند (2/168) وقال الهيثمي في المجمع (10/259) : "رجاله ثقات".
(5) في ت : "قاتلوا".
(6) المعجم الكبير للطبراني برقم (152) "القطعة المفقودة" ورواه الحاكم
في المستدرك (2/71) من طريق محمد بن عبد الله عن ابن وهب ، به نحوه ، وقال :
"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(7) زيادة من ت ، أ ، والطبري".
(8) تفسير الطبري (16/425).
(9) كذا وقع في تفسير الطبري ، ونقله أيضا ابن القيم في +حادى الأرواح (2/38)
"أبو الحجاج" وفي ترجمته في الجرح والتعديل (9/235) والتاريخ الكبير
(4/2/376) والثقات لابن حبان (5/552) : "يوسف الألهاني ، أبو الضحاك الحمصي ،
سمع أبا أمامة وابن عمر ، وروي عنه أرطاة بن المنذر". وانظر حاشية الأستاذ
محمود شاكر على تفسير الطبري (16/426).
(4/452)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
يوسف
الألهاني قال : سمعت أبا أمامة ، فذكر نحوه.
وقد جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس
كل حول ، فيقول لهم : { سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى
الدَّارِ } وكذا أبو بكر ، وعمر وعثمان. (1)
{ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ
مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) }
هذا حال الأشقياء وصفاتهم ، وذكر مآلهم في الدار الآخرة ومصيرهم إلى خلاف ما صار
إليه المؤمنون ، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا ، فأولئك كانوا يوفون
بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وهؤلاء { يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ
مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ
وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ } كما ثبت في الحديث : "آية المنافق ثلاث : إذا
حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان" وفي رواية : "وإذا عاهد غدر
، وإذا خاصم فَجر".
ولهذا قال : { أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ } وهي الإبعاد عن الرحمة ، { وَلَهُمْ
سُوءُ الدَّارِ } وهي سوء العاقبة والمآل ، ومأواهم جهنم وبئس القرار. (2)
وقال أبو العالية في قوله : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ } الآية ،
قال : هي ست خصال في المنافقين إذا كان فيهم الظَّهرة على الناس أظهروا هذه الخصال
: إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله من
بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض. وإذا كانت
الظَّهرة عليهم أظهروا الثلاث الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ،
وإذا ائتمنوا خانوا.
{ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ (26) }
يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ، ويقتره على من يشاء ، لما له في
ذلك من الحكمة والعدل. وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا في الحياة الدنيا استدراجا لهم
وإمهالا كما قال تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ
وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ } [المؤمنون : 55
، 56].
ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة
فقال : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ }
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (16/426) عن سهيل عن محمد بن إبراهيم التيمي مرسلا ،
وهذا معضل.
(2) في ت ، أ : "المهاد".
(4/453)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
كما
قال : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا
تُظْلَمُونَ فَتِيلا } [النساء : 77] وقال { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى : 16 ، 17].
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ويحيى بن سعيد قالا حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ،
عن قيس ، عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم
ترجع" وأشار بالسبابة. ورواه مسلم في صحيحه. (1)
وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بِجَدْيٍ أسكَّ (2) ميتٍ -
والأسك (3) الصغير الأذنين - فقال : "والله للدنيا أهون على الله من هذا على
أهله حين ألقوه". (4)
{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ
إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ
اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) }
__________
(1) المسند (4/228) وصحيح مسلم برقم (2858).
(2) في ت ، أ : "أشك".
(3) في ت ، أ : "والأشك".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (2957) من حديث جابر ، رضي الله عنه.
(4/454)
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ (29)
{
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) }
يخبر تعالى عن قيل (1) المشركين : { لَوْلا } أي : هلا { أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ
مِنْ رَبِّهِ } كما قالوا : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ }
[الأنبياء : 5] وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة ، وإن الله قادر على إجابة ما
سألوا. وفي الحديث : أن الله أوحى إلى رسوله لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبًا ،
وأن يجري لهم ينبوعًا ، وأن يزيح الجبال من حول مكة فيصير مكانها مروج وبساتين :
إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك ، فإن كفروا فإني أعذبهم عذابًا لا أعذبه أحدًا من
العالمين ، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة ، فقال : "بل تفتح لهم باب
التوبة والرحمة" (2) ؛ ولهذا قال لرسوله : { قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أي : هو المضل والهادي ، سواء بعث
الرسول بآية على وفق ما اقترحوا ، أو لم يجبهم إلى سؤالهم ؛ فإن الهداية والإضلال
ليس منوطا بذلك ولا عدمه ، كما قال : { وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ
قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [يونس : 101] وقال { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96 ، 97] وقال { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا
إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ
شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَجْهَلُونَ } [الأنعام : 111] ؛ ولهذا قال : { قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أي : ويهدي من أناب إلى الله ، ورجع
إليه ، واستعان به ، وتضرع لديه.
__________
(1) في ت : "قتل".
(2) رواه أحمد في المسند (1/242) من حديث ابن عباس ، رضي الله عنهما.
(4/454)
{
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } أي : تطيب وتركن
إلى جانب (1) الله ، وتسكن عند ذكره ، وترضى به مولى ونصيرًا ؛ ولهذا قال : { أَلا
بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } أي : هو حقيق بذلك.
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } قال
ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : فرح وقُرة عين. وقال عِكْرِمة : نعم مالهم.
وقال الضحاك : غبطة لَهُم. وقال إبراهيم النَّخعي : خير لهم.
وقال قتادة : هي كلمة عربية (2) يقول الرجل : "طوبى لك" ، أي : أصبت
خيرًا. وقال في رواية : { طُوبَى لَهُمْ } حسنى لهم.
{ وَحُسْنُ مَآبٍ } أي : مرجع.
وهذه الأقوال شيء واحد لا منافاة بينها.
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { طُوبَى لَهُمْ } قال : هي أرض الجنة
بالحبشية.
وقال سعيد بن مَسْجُوح : طوبى اسم الجنة بالهندية. وكذا روى السدي ، عن عِكْرِمة :
{ طُوبَى لَهُمْ } أي : الجنة. وبه قال مجاهد.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : لما خلق الله الجنة وفرغ منها قال : { الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } وذلك حين أعجبته.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن شَهْر بن حَوْشَب
قال : { طُوبَى } شجرة في الجنة ، كل شجر الجنة منها ، أغصانها من وراء سور الجنة.
وهكذا رُوي عن أبي هريرة ، وابن عباس ، ومغيث بن سُمَىّ ، وأبي إسحاق السَّبِيعي
وغير واحد من السلف : أن طوبى شجرة في الجنة ، في كل دار منها غصن منها.
وذكر بعضهم أن الرحمن ، تبارك وتعالى ، غرسها بيده من حبة لؤلؤة ، وأمرها أن تمتد
، فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى ، وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة ،
من عسل وخمر وماء ولبن. (3)
وقد قال عبد الله بن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث ، أن درَّاجا أبا السَّمْح حدثه ،
عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، [مرفوعا : "طوبى : شجرة
في الجنة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها". (4)
__________
(1) في ت ، أ : "جناب".
(2) في ت ، أ : "غريبة".
(3) في ت : "ولبن وماء".
(4) رواه الطبري في تفسيره (16/443) قال أحمد ، رحمه الله : "أحاديث دراج عن
أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف".
(4/455)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، سمعت عبد الله بن لَهِيعة ، حدثنا دَرَّاج أبو
السمح ، أن أبا الهيثم حدثه ، عن أبي سعيد الخدري] (1) عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم : أن رجلا قال : يا رسول الله ، طوبى لمن رآك وآمن بك. قال : "طوبى لمن
رآني وآمن بي ، ثم طوبى ، ثم طوبى ، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني". قال له
رجل : وما طوبى ؟ قال : "شجرة في الجنة مسيرة مائة عام ، ثياب أهل الجنة تخرج
من أكمامها". (2)
وروى البخاري ومسلم جميعًا ، عن إسحاق بن راهويه ، عن مغيرة المخزومي ، عن وَهيب ،
عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن
في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها" قال : فحدثت به النعمان
بن أبي عياش الزّرَقي ، فقال : حدثني أبو سعيد الخُدْري ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجَوَاد المضمَّرَ السريع مائة
عام ما يقطعها". (3)
وفي صحيح البخاري ، من حديث يزيد بن زُرَيع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ
} [الواقعة : 30] قال : "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا
يقطعها". (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيْج ، حدثنا فُلَيْح ، عن هلال بن علي ، عن عبد
الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة (5) اقرءوا إن شئتم { وَظِلٍّ
مَمْدُودٍ } أخرجاه في الصحيحين. (6)
وقال [الإمام] (7) أحمد أيضًا : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا حدثنا شعبة ، سمعت
أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن
في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين - أو : مائة - سنة هي شجرة الخلد".
(8)
وقال محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن أسماء
بنت أبي بكر ، رضي الله عنها ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر
سدرة المنتهى ، قال : "يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة - أو : قال - :
يستظل في الفنن منها مائة راكب ، فيها فراش الذهب ، كأن ثمرها القلال". رواه
الترمذي. (9)
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) المسند (3/71).
(3) صحيح البخاري برقم (6552) وصحيح مسلم برقم (2827).
(4) صحيح البخاري برقم (3251).
(5) في أ : "عام".
(6) المسند (2/482).
(7) زيادة من أ.
(8) المسند (2/455).
(9) سنن الترمذي برقم (2541) وقال الترمذي : "حديث حسن غريب" وفي بعض
النسخ : "حسن صحيح غريب".
(4/456)
وقال
إسماعيل بن عياش ، عن سعيد بن يوسف ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلام الأسود
قال : سمعت أبا أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما
منكم من أحد يدخل الجنة إلا انطلق به إلى طوبى ، فتفتح له أكمامها ، فيأخذ من أي
ذلك شاء ، إن شاء أبيض ، وإن شاء أحمر ، وإن شاء أصفر ، وإن شاء أسود ، مثل شقائق
النعمان وأرق وأحسن". (1)
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ،
عن مَعْمَر ، عن أشعث بن عبد الله ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أبي هريرة ، رضي
الله عنه ، قال : طوبى شجرة في الجنة ، يقول الله لها : "تَفَتَّقي لعبدي
عَمّا شاء ؛ فتفتق له عن الخيل بسروجها ولجمها ، وعن الإبل بأزمتها ، وعما شاء من
الكسوة". (2)
وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهنا أثرًا غريبًا عجيبا ، قال وهب ، رحمه الله
: إن في الجنة شجرة يقال لها : "طوبى" ، يسير الراكب في ظلها مائة عام
لا يقطعها ، زهرها رياط ، وورقها برود ، وقضبانها عنبر ، وبطحاؤها ياقوت ، وترابها
كافور ، وَوحَلها مسك ، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل ، وهي مجلس لأهل
الجنة ، فبينا هم في مجلسهم إذ أتتهم ملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة بسلاسل من
ذهب وجوهها كالمصابيح حسنا (3) ووبرها كخز المْرعِزّي (4) من لينه ، عليها رحال
ألواحها من ياقوت ، ودفوفها (5) من ذهب ، وثيابها من سندس وإستبرق ، فينيخونها
ويقولون : إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه قال : فيركبونها ، فهي أسرع من
الطائر ، وأوطأ من الفراش ، نجيا من غير مَهَنَة ، يسير الرجل إلى جنب أخيه وهو
يكلمه ويناجيه ، لا تصيب (6) أذن راحلة منها أذن الأخرى ، ولا بَرك راحلة برك
الأخرى ، حتى إن شجرة لتتنحَّى عن طريقهم ، لئلا تفرق بين الرجل وأخيه. قال :
فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه ، فإذا رأوه
قالوا : اللهم ، أنت السلام ومنك السلام ، وحق لك الجلال والإكرام. قال : فيقول
تعالى [عند ذلك] (7) أنا السلام ومني السلام ، وعليكم حقت رحمتي ومحبتي ، مرحبا
بعبادي الذين خشوني بغيب وأطاعوا أمري".
قال : فيقولون : ربنا لم نعبدك حق عبادتك ، ولم نقدرك حق قدرك ، فأذن لنا في
السجود قُدامك قال : فيقول الله : "إنها ليست بدار نصب ولا عبادة ، ولكنها
دار مُلْك ونعيم ، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة ، فسلوني ما شئتم ، فإن لكل رجل
منكم أمنيته" فيسألونه ، حتى أن أقصرهم أمنية ليقول : رب ، تنافس (8) أهل
الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها ، رب فآتنى مثل كل شيء كانوا فيه من
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة برقم (146) من طريق أبي عتبة ، عن إسماعيل
بن عياش ، به.
(2) تفسير الطبري (16/438) ورواه ابن المبارك في الزهد برقم (265) من طريق معمر عن
الأشعث ، به. وشهر بن حوشب ضعيف.
(3) في ت ، أ : "من حسنها".
(4) في ت : "الرعزى".
(5) في أ : "ورفرفها".
(6) في ت ، أ : "لا يصيب".
(7) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(8) في أ : "يتنافس".
(4/457)
يوم
خلقتها إلى أن انتهت الدنيا. فيقول الله تعالى : "لقد قصرت بك أمنيتك ، ولقد
سألت دون منزلتك ، هذا لك مني ، [وسأتحفك بمنزلتي] (1) ؛ لأنه ليس في عطائي نكد
ولا تَصريد". قال : ثم يقول : "اعرضوا على عبادي ما لم يبلغ أمانيهم ،
ولم يخطر لهم على بال". قال : فيعرضون عليهم حتى تَقْصر بهم أمانيهم التي في
أنفسهم ، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مُقْرنة ، على كل أربعة منها سرير من
ياقوتة واحدة ، على كل سرير منها قبة من ذهب مُفرَّغة ، في كل قبة منها فرش من
فُرش الجنة مُتظاهرة ، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين ، على كل جارية منهن
ثوبان من ثياب الجنة ، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما (2) ولا ريح طيبة إلا قد
عبقتا به (3) ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة ، حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة ،
يرى مخهما من فوق سوقهما ، كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء ، يريان له من الفضل على
صاحبته (4) كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل ، ويرى هو لهما مثل ذلك ، ويدخل إليهما
فيحييانه ويقبلانه ويعتنقانه (5) به ، ويقولان له : والله ما ظننا أن الله يخلق
مثلك. ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة ، حتى ينتهى بكل رجل
منهم إلى منزلته التي أعدت له. (6)
وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده ، عن وهب بن منبه ، وزاد : فانظروا إلى
موهوب ربكم الذي وهب لكم ، فإذا هو بقباب في الرفيق الأعلى ، وغرف مبنية من الدر
والمرجان ، وأبوابها من ذهب ، وسررها من ياقوت ، وفرشها من سندس وإستبرق ،
ومنابرها من نور ، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس عنده مثل الكوكب
الدري (7) في النهار المضيء ، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو
نورها ، فلولا أنه مُسَخر ، إذًا لالتمع الأبصارَ ، فما كان من تلك القصور من
الياقوت [الأبيض ، فهو مفروش بالحرير (8) الأبيض ، وما كان منها من الياقوت الأحمر
فهو مفروش بالعبقري الأحمر ، وما كان منها من الياقوت الأخضر] (9) فهو مفروش
بالسندس الأخضر ، وما كان منها من الياقوت الأصفر ، فهو مفروش بالأرجوان الأصفر
منزه (10) بالزمرد الأخضر ، والذهب الأحمر ، والفضة البيضاء ، قوائمها وأركانها من
الجوهر ، وشُرُفها قباب من لؤلؤ ، وبروجها غُرَف من المرجان. فلما انصرفوا إلى ما
أعطاهم ربهم ، قُرّبت لهم براذين من ياقوت أبيض ، منفوخ فيها الروح ، تَجنَبها
الولدان المخلدون بيد كل وليد منهم حكمة بِرْذَون من تلك البراذين ، ولجمها
وأعنتها من فضة بيضاء ، منظومة بالدر والياقوت ، سُرُوجها سُرُرٌ موضونة ، مفروشة
بالسندس والإستبرق. فانطلقت بهم تلك البراذين تَزَف بهم ببطن (11) رياض الجنة.
فلما انتهوا إلى
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(2) في أ : "فيها".
(3) في ت ، أ : "عبقا بهما".
(4) في أ : "صاحبه".
(5) في ت ، أ : "ويعلقانه".
(6) تفسير الطبري (16/439).
(7) في ت ، أ : "الذي".
(8) في أ : "من الحرير".
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) في أ : "مبوبة".
(11) في أ : "وبطن".
(4/458)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
منازلهم
، وجدوا الملائكة قُعُودًا على منابر من نور ، ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم
ويهنئوهم كرامَةَ ربهم. فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تَطَاول به عليهم
(1) وما سألوا وتمنوا ، وإذا على باب كلّ قصر من تلك القصور أربعة جنان ، [جنتان]
(2) ذواتا أفنان ، وجنتان مُدْهامتان ، وفيهما عينان نضاختان ، وفيهما من كل فاكهة
زوجان ، وحور مقصورات في الخيام ، فلما تَبَيَّنُوا (3) منازلهم واستقروا قرارهم
قال لهم ربهم : هل وجدتم ما وعدتكم (4) حقا ؟ قالوا : نعم ورَبِّنَا. قال : هل
رضيتم ثواب ربكم ؟ قالوا : ربنا ، رضينا فارض عنا قال : برضاي (5) عنكم حللتم داري
، ونظرتم إلى وجهي ، وصافحتكم ملائكتي ، فهنيئًا هنيئًا لكم ، { عَطَاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ } [هود : 108] ليس فيه تنغيص ولا تصريد. فعند ذلك قالوا : الحمد لله
الذي أذهب عنا الحزن ، وأدخلنا (6) دار المقامة من فضله ، لا يمسنا فيها نصب ولا
يمسنا فيها لغوب ، إن ربنا لغفور شكور.
وهذا سياق غريب ، وأثر عجيب ولبعضه شواهد ، ففي الصحيحين : أن الله تعالى يقول
لذلك الرجل الذي يكون آخر أهل الجنة دخولا الجنة : تمن" ، فيتمنى (7) حتى إذا
انتهت به الأماني يقول الله تعالى : "تمن من كذا وتمن من كذا" ، يذكره ،
ثم يقول : "ذلك لك ، وعشرة أمثاله". (8)
وفي صحيح مسلم ، عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله ، عز وجل (9)
يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ،
فأعطيت كل إنسان (10) مسألته ، ما نقص ذلك من ملكي شيئا ، إلا كما ينقص المخيط إذا
أدخل في البحر" ، الحديث بطوله. (11)
وقال خالد بن مَعْدَان : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ، لها ضروع ، كلها ترضع
صِبيَان أهل الجنة ، وإن سَقَط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة ، يتقلب فيه حتى
تقوم القيامة ، فيبعث ابن أربعين سنة. رواه ابن أبي حاتم.
{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ
لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ
بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) }
يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة : { لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ
الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي : تبلغهم
__________
(1) في أ : "عليهم ربهم".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت ، أ : "تبوءوا".
(4) في ت : "ما وعد ربكم".
(5) في ت : "فبرضاى".
(6) في أ : "وأحلنا".
(7) في ت : "فيمن".
(8) صحيح البخاري برقم (6573) وصحيح مسلم برقم (182) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد
، رضي الله عنهما.
(9) في ت : "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن جبريل ، عن الله عز
وجل".
(10) في ت : "إنسان منهم".
(11) صحيح مسلم برقم (2577).
(4/459)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
رسالة
الله إليهم ، كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله ، وقد كُذّب الرسل من
قبلك ، فلك بهم أسوة ، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك ، فليحذر هؤلاء من حلول
النقم بهم ، فإن تكذيبهم لك أشدّ من تكذيب غيرك من المرسلين ، قال الله تعالى : {
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ
لَهُمُالشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ } [النحل : 63] وقال تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا
مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ }
[الأنعام : 34] أي : كيف نصرناهم ، وجعلنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا
والآخرة.
وقوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ } أي : هذه الأمة التي بعثناك فيهم
يكفرون بالرحمن ، لا يقرون به ؛ لأنهم كانوا يأنفون من وصف الله بالرحمن الرحيم ؛
ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا "بسم الله الرحمن الرحيم" وقالوا :
ما ندري ما الرحمن الرحيم. قاله قتادة ، والحديث في صحيح البخاري (1) وقد قال الله
تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا
فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء : 110] وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أحب الأسماء إلى الله عبد الله
وعبد الرحمن (2) (3).
{ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ } أي : هذا الذي تكفرون به أنا مؤمن به ،
معترف مقر له بالربوبية والإلهية ، هو ربي لا إله إلا هو ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
} أي : في جميع أموري ، { وَإِلَيْهِ مَتَابِ } أي : إليه أرجع وأنيب ، فإنه لا
يستحق ذلك أحد (4) سواه.
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ
أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا
يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ
قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) }
يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، ومفضلا له على
سائر الكتب المنزلة قبله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ }
أي : لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها ، أو تقطع به الأرض
وتنشق (5) أو تكلم (6) به الموتى في قبورها ، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون
غيره ، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك ؛ لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنس
والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ، ولا بسورة من مثله ، ومع هذا فهؤلاء
المشركون كافرون به ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2731 ، 2732) عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة في قصة
غزوة الحديبية.
(2) في أ زيادة : و"عبد الرحيم".
(3) صحيح مسلم برقم (2132).
(4) في ت : "أحد ذلك".
(5) في أ : "وتشقق".
(6) في ت : "وتشقق وتكلم".
(4/460)
جاحدون
له ، { بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا } (1) أي : مرجع الأمور كلها إلى الله ، عز
وجل ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ومن يضلل فلا هادي له ، ومن يهد (2)
الله فلا مضل له.
وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة ؛ لأنه مشتق من الجميع ، قال الإمام
أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خُفِّفَت (3) على داود القراءة ،
فكان يأمر بدابته أن تسرج ، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تُسرج دابته ، وكان لا
يأكل إلا من عمل يديه". انفرد بإخراجه البخاري. (4)
والمراد بالقرآن هنا الزبور.
وقوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا } أي : من إيمان جميع الخلق
ويعلموا أو يتبينوا (5) { أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا }
فإنه ليس ثم (6) حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن ،
الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. وثبت في الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله
البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا
يوم القيامة" (7) معناه : أن معجزة كل نبي انقرضت بموته ، وهذا القرآن حجة
باقية على الآباد ، لا تنقضي عجائبه ، ولا يَخْلَقُ عن كثرة الردّ ، ولا يشبع منه
العلماء ، هو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من
غيره أضله الله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، أنبأنا بشر بن
عمارة ، حدثنا عمر بن حسان ، عن عطية العوفي قال : قلت له : { وَلَوْ أَنَّ
قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ } الآية ، قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم :
لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا (8) الأرض كما كان سليمان
يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه فأنزل
الله هذه الآية. قال : قلت : هل تروون هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم ؟ قال : نعم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (9)
وكذا روي عن ابن عباس ، والشعبي ، وقتادة ، والثوري ، وغير واحد في سبب نزول هذه
الآية ، فالله أعلم.
وقال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم ، فُعل بقرآنكم.
وقوله : { بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا } قال ابن عباس : [أي] (10) لا يصنع من
ذلك إلا ما يشاء ، ولم
__________
(1) في ت ، أ : "فلله" وهو خطأ.
(2) في ت ، أ : "يهده".
(3) في ت ، أ : "خفف".
(4) المسند (2/314) وصحيح البخاري برقم (3417).
(5) في أ : "ويعلموا ويتيقنوا".
(6) في أ : "ثمت".
(7) صحيح البخاري برقم (4981) وصحيح مسلم برقم (152) من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه.
(8) في ت ، أ : "بنا".
(9) ورواه ابن مردويه في تفسيرة كما في تخريج الكشاف (2/191) من طريق بشر بن عمارة
به ، وإسناده ضعيف جدا.
(10) زيادة من أ.
(4/461)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
يكن
ليفعل ، رواه ابن إسحاق بسنده عنه ، وقاله ابن جرير أيضًا.
وقال غير واحد من السلف في قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا } أفلم
يعلم الذين آمنوا. وقرأ (1) آخرون : "أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله
لهدى الناس جميعا".
وقال أبو العالية : قد يئس (2) الذين آمنوا أن يهدوا ، ولو يشاء الله لهدى الناس
جميعا.
وقوله : { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ
أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } أي : بسبب تكذيبهم ، لا تزال القوارع
تصيبهم في الدنيا ، أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا ، كما قال تعالى : {
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأحقاف : 27] وقال { أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي
الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الأنبياء : 44].
(3)
قال قتادة ، عن الحسن : { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } أي : القارعة.
وهذا هو الظاهر من السياق.
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا المسعودي ، عن قتادة ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن
عباس في قوله : { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا
قَارِعَةٌ } (4) قال : سرية ، { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } قال :
محمد صلى الله عليه وسلم ، { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ } قال : فتح مكة. (5)
وهكذا قال عِكْرِمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، في رواية.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ } (6) قال :
عذاب من السماء ينزل عليهم { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ } (7) يعني :
نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله إياهم.
وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وقال عِكْرِمة في رواية عنه ، عن ابن عباس : {
قَارِعَةٌ } أي : نكبة.
وكلهم قال : { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ } يعني : فتح مكة. وقال الحسن
البصري : يوم القيامة.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي : لا ينقض وعده لرسله
بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة ، { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ
وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [إبراهيم : 47].
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) }
يقول تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه : {
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ } أي : فلك فيهم أسوة ، {
فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : أنظرتهم وأجلتهم ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ
} أخذةً رابية ، فكيف بلغك ما صنعت بهم وعاقبتهم ؟ كما قال تعالى : { وَكَأَيِّنْ
مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ
الْمَصِيرُ } [الحج : 48]
__________
(1) في ت : "وقرأها".
(2) في ت ، أ : "أيس".
(3) في ت ، أ : "أفلم يروا" وهو خطأ.
(4) في ت : "يصيبهم".
(5) ومن طريق الطيالسي رواه الطبري في تفسيره (16/456).
(6) في ت : "يصيبهم".
(7) في ت : "أو يحل".
(4/462)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
وفي
الصحيحين : "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ، ثم قرأ رسول
الله صلى الله عليه وسلم : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى
وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود : 102]. (1)
{ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ
أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ
وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) }
يقول تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } أي :
حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة ، يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر ، ولا يخفى
عليه خافية ، { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا
تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ }
[يونس : 61] وقال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا }
[الأنعام : 59] وقال { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
} [هود : 6] وقال { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ
وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد : 10] وقال {
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [طه : 7] وقال { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا
كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد[4] أفمن هو هكذا كالأصنام
التي يعبدونها (2) لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ، ولا تملك نفعا لأنفسها ولا
لعابديها ، ولا كشف ضر عنها ولا عن عابديها ؟ وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة
السياق عليه ، وهو قوله : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ } أي : عبدوها معه ، من
أصنام وأنداد وأوثان.
{ قُلْ سَمُّوهُمْ } أي : أعلمونا بهم ، واكشفوا عنهم حتى يُعرَفوا ، فإنهم لا
حقيقة لهم ؛ ولهذا قال : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ }
أي : لا وجود له ؛ لأنه لو كان له (3) وجود في الأرض لعلمها ؛ لأنه لا تخفى عليه
خافية.
{ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ } قال مجاهد : بظن من القول.
وقال الضحاك وقتادة : بباطل من القول.
أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر ، وسميتموها آلهة ، { إِنْ
هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ
بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنْفُسُ
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [النجم : 23].
{ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ } قال مجاهد : قولهم ، أي : ما هم
عليه من الضلال والدعوة إليه
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى ، رضي الله
عنه.
(2) في ت ، أ : "عبدوها".
(3) في ت ، أ : "لها".
(4/463)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
آناء
الليل وأطراف النهار ، كما قال تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ
فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ
إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } [فصلت : 25].
"وصَدُّوا عن السَّبِيل" : من قرأها بفتح الصاد ، معناه : أنهم لما زين
لهم ما فيه وأنه حق ، دَعَوا إليه وصَدّوا الناس عن اتباع طريق الرسل. ومن قرأها {
وَصُدُّوا } (1) أي : بما زين لهم من صحة ما هم عليه ، صدوا به عن سبيل الله ؛
ولهذا قال : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } كَمَا قَالَ {
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا }
[المائدة : 41] وقال { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [النحل : 37].
{ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا
لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) }
__________
(1) في ت : "فصدوا عن السبيل".
(4/464)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
{
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا
وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) }
ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار : فقال بعد ، إخباره عن حال (1) المشركين وما
هم عليه من الكفر والشرك : { لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي :
بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا ، { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ } أي : المدّخَر [لهم] (2)
مع هذا الخزي في الدنيا ، " أشق " أي : من هذا بكثير ، كما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين : "إن عذاب الدنيا أهون من عذاب
الآخرة" (3) وهو كما قال ، صلوات الله وسلامه عليه ، فإن عذاب الدنيا له
انقضاء ، وذاك دائم أبدا في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفا ، ووثاق لا يتصور
كثافته وشدته ، كما قال تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ
وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [الفجر : 25 ، 26] وقال تعالى : { بَلْ كَذَّبُوا
بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا
رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا
أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا
تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا قُلْ أَذَلِكَ
خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ
جَزَاءً وَمَصِيرًا } [الفرقان : 11 - 15].
ولهذا قرن هذا بهذا ؛ فقال : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ }
أي : صفتها ونعتها ، { تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : سارحة في أرجائها
وجوانبها ، وحيث شاء أهلها ، يفجرونها تفجيرًا ، أي : يصرفونها كيف شاءوا وأين
شاءوا ، كما قال تعالى : { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا
أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ
مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ
أَمْعَاءَهُمْ } [محمد : 15].
__________
(1) في ت : "أحوال".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (1493) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(4/464)
وقوله
: { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا } أي : فيها المطاعم (1) والفواكه والمشارب ، لا
انقطاع [لها] (2) ولا فناء.
وفي الصحيحين ، من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف ، وفيه قالوا : يا رسول الله ،
رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ، ثم رأيناك تَكعْكعت فقال : "إني رأيت
الجنة - أو : أريت الجنة - فتناولت منها عنقودا ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت
الدنيا". (3)
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا
عبيد الله ، حدثنا أبو عَقيل ، عن جابر قال : بينما نحن في صلاة الظهر ، إذ تقدم
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا ، ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر. فلما قضى
الصلاة قال له أبي بن كعب : يا رسول الله ، صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك
كنت تصنعه. فقال : "إني عرضت علي الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة ، فتناولت
منها قِطْفًا من عنب لآتيكم به ، فحيل بيني وبينه ، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين
السماء والأرض لا يَنْقُصونَه". (4)
وروى مسلم من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، شاهدا لبعضه. (5)
وعن عتبة بن عبد السلمي : أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة ،
فقال : فيها عنب ؟ قال : "نعم". قال : فما عِظَم العنقود ؟ قال :
"مسيرة شهر للغراب الأبقع (6) ولا يفتر". رواه أحمد. (7)
وقال الطبراني : حدثنا معاذ بن المثنى ، حدثنا علي بن المديني ، حدثنا ريحان بن
سعيد ، عن عبادة بن منصور ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثَوْبان
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة
عادت مكانها أخرى". (8)
وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يأكل أهل
الجنة ويشربون ، ولا يمتخطون ولا يتغوّطون ولا يبولون ، طعامهم (9) جُشَاء كريح
المسك ، ويلهمون التسبيح والتقديس (10) كما يلهمون النفس". رواه مسلم. (11)
وروى الإمام أحمد والنسائي ، من حديث الأعمش ، عن ثمامة (12) بن عقبة (13) سمعت
زيد بن أرقم قال : جاء رجل من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم ، تزعم أن أهل
الجنة يأكلون ويشربون ؟ قال :
__________
(1) في ت ، أ : "الطعام".
(2) زيادة من ت.
(3) صحيح البخاري برقم (748) وصحيح مسلم برقم (907).
(4) ورواه أحمد في المسند (3/352) من طريق عبيد الله وحسين بن محمد ، عن عبيد الله
به نحوه.
(5) صحيح مسلم برقم (904).
(6) في أ : "لا يقع".
(7) المسند (4/184).
(8) المعجم الكبير (2/102) وعباد بن منصور متكلم فيه.
(9) في ت ، أ : "طعامهم ذلك".
(10) في ت ، أ : "التسبيح والتكبير".
(11) صحيح مسلم برقم (2835).
(12) في هـ ، ت ، أ : "تمام" والتصويب من المسند.
(13) في ت : "عقبة بن منبه".
(4/465)
نعم
، والذي نفس محمد بيده ، [إن الرجل من أهل الجنة] (1) ليعطى قوة مائة رجل في الأكل
والشرب والجماع والشهوة". قال : فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة ، وليس
في الجنة أذى ؟ قال : "حاجة أحدهم رشح يفيض من جلودهم ، كريح المسك ، فيضمر
بطنه". (2)
وقال الحسن بن عرفة : حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن
الحارث ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إنك لتنظر إلى الطير في الجنة ، فيخر بين يديك مشويا (3) (4).
وجاء في بعض الأحاديث : أنه إذا فُرغ منه عاد طائرًا كما كان بإذن الله تعالى.
وقد قال تعالى : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ }
[الواقعة : 32 ، 33] وقال { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُهَا تَذْلِيلا } [الإنسان : 14].
وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص ، كما قال تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ
ظِلا ظَلِيلا } [النساء : 57].
وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن
في الجنة شجرة ، يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا
يقطعها" ، ثم قرأ : { وَظِلٍّ مَمْدُودٍ } [الواقعة : 30].
وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ، ليرغب في الجنة ويحذّر من
النار ؛ ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر ، قال بعده : { تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } كما قال تعالى : { لا يَسْتَوِي
أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ
الْفَائِزُونَ } [الحشر : 20].
وقال بلال بن سعد خطيب دمشق في بعض خطبه : عباد الله (5) هل جاءكم مخبر يخبركم أن
شيئا من عبادتكم (6) تقبلت منكم ، أو أن شيئا من خطاياكم غفرت لكم ؟ {
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا
تُرْجَعُونَ } [المؤمنون : 115] (7) والله لو عُجِّل لكم الثواب في الدنيا
لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم ، أو ترغبون (8) في طاعة الله لتعجيل دنياكم ، ولا
تنافسون في جنة { أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(2) المسند (4/367).
(3) في ت : "مستويا".
(4) جزء الحسن بن عرفة برقم (22) وحميد الأعرج ضعيف وأورد الذهبي هذا الحديث في
الميزان (1/614) من جملة مناكيره.
(5) في أ : "الرحمن".
(6) في ت ، أ : "أعمالكم".
(7) في ت : "أم حسبتم" وهو خطأ.
(8) في ت ، أ : "أترغبون".
(4/466)
وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
{
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمِنَ
الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ
وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ
أَنزلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ (37) }
يقول تعالى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } وهم قائمون بمقتضاه {
يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ } أي : من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على
صدقه والبشارة به ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ
يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [البقرة : 121] وقال تعالى : { قُلْ آمِنُوا
بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا
يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ
رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [الإسراء : 107 ، 108] أي : إن
كان ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لحقا وصدقا
مفعولا لا محالة ، وكائنا ، فسبحانه ما أصدق وعده ، فله الحمد وحده ، {
وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء : 109].
وقوله : { وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ } أي : ومن الطوائف من يكذّب
ببعض ما أنزل إليك.
وقال مجاهد : { وَمِنَ الأحْزَابِ } اليهود والنصارى ، من ينكر بعضه ما جاءك من
الحق. وكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وهذا كما قال تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا
يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران : 199].
{ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ } أي : إنما
بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له ، كما أرسل الأنبياء من قبلي ، { إِلَيْهِ
أَدْعُو } أي : إلى سبيله أدعو الناس ، { وَإِلَيْهِ مَآبِ } أي : مرجعي ومصيري.
وقوله : { وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا } أي : وكما أرسلنا قبلك
المرسلين ، وأنزلنا عليهم الكتب من السماء ، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكما معربا
، شرّفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي { لا
يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 11].
وقوله : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ } أي : آراءهم ، { بَعْد مَا جَاءَكَ
مِنَ الْعِلْمِ } أي : من الله تعالى { مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
وَاقٍ } أي : من الله تعالى. وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا (1) سبل أهل الضلالة
بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية ، على من جاء بها أفضل
الصلاة والسلام
__________
(1) في ت : "يبتغوا".
(4/467)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
[والتحية
والإكرام]. (1)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا
وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ
لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ
أُمُّ الْكِتَابِ (39) }
يقول تعالى : وكما أرسلناك ، يا محمد ، رسولا بشريا (2) كذلك [قد] (3) بعثنا
المرسلين قبلك بَشَرًا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ويأتون الزوجات ، ويولد
لهم ، وجعلنا لهم أزواجا وذرية ، وقد قال [الله] (4) تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم :
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [الكهف : 110].
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أما أنا فأصوم وأفطر
، وأقوم وأنام ، وآكل الدسم (5) وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني".
(6)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أنبأنا الحجاج بن أرطاة عن مكحول قال : قال أبو
أيوب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربع من سنن المرسلين : التعطر ،
والنكاح ، والسواك ، والحناء" (7).
وقد رواه أبو عيسى الترمذي ، عن سفيان بن وَكِيع عن حفص بن غِياث ، عن الحجاج ، عن
مكحول ، عن أبى الشمال (8) عن أبي أيوب... فذكره ، ثم قال : وهذا أصح من الحديث
الذي لم يذكر فيه أبو الشمال (9) (10).
وقوله : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ }
أي : لم يكن يأتي قومَه بخارق إلا إذا أُذِنَ له فيه ، ليس ذلك إليه ، بل إلى الله
، عز وجل ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.
{ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها ، وكل شيء عنده
بمقدار ، { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ
إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج : 70] (11).
وكان الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل كتاب
أجل يعني (12) لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين ، فلهذا
يمحو (13) ما يشاء منها ويثبت ، يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على
رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه.
وقوله : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } اختلف المفسرون في ذلك ،
فقال الثوري ، ووَكِيع ، وهُشَيْم ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "بشرا".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت ، أ : "اللحم".
(6) صحيح البخاري برقم (5063) وصحيح مسلم برقم (1401) وليس فيهما : "وآكل
الدسم".
(7) المسند (5/421).
(8) في أ : "أبي السماك".
(9) في أ : "أبو السماك".
(10) سنن الترمذي برقم (1080).
(11) في ت ، أ : "السموات" وهو خطأ.
(12) في ت ، أ : "بمعنى".
(13) في ت : "يمحى".
(4/468)
عن
ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : يدبر أمر
السنة ، فيمحو ما يشاء ، إلا الشقاء والسعادة ، والحياة والموت. وفي رواية : {
يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } قال : كل شيء إلا الحياة والموت ،
والشقاء والسعادة فإنهما قد فرغ منهما.
وقال مجاهد : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } إلا الحياة والموت ،
والشقاء والسعادة ، فإنهما لا يتغيران.
وقال منصور : سألت مجاهدا فقلت : أرأيت دعاء أحدنا يقول : اللهم ، إن كان اسمي في
السعداء فأثبته فيهم ، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم واجعله في السعداء. فقال :
حسن. ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر ، فسألته عن ذلك ، فقال : { إِنَّا
أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ
كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [الدخان : 3 ، 4] قال : يقضي في ليلة القدر ما يكون في
السَّنة من رزق أو مصيبة ، ثم يقدم ما (1) يشاء ويؤخر ما (2) يشاء ، فأما كتاب الشقاوة
(3) والسعادة فهو ثابت لا يُغير (4).
وقال الأعمش ، عن أبي وائل شَقِيق بن سلمة : إنه كان يكثر أن يدعو بهذا الدعاء :
اللهم ، إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه ، واكتبنا سعداء ، وإن كنت كتبتنا سعداء
فأثبتنا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. رواه ابن جرير (5).
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن
أبي حكيمة (6) عصمة ، عن أبي عثمان النَّهْدي ؛ أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ،
قال وهو يطوف بالبيت وهو يبكي : اللهم ، إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبًا فامحه ،
فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أم الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة. (7)
وقال حماد عن خالد الحذَّاء ، عن أبي قلابة عن ابن مسعود أنه كان يدعو بهذا الدعاء
أيضا.
ورواه شريك ، عن هلال بن حميد ، عن عبد الله بن عُكَيْم ، عن ابن مسعود ، بمثله.
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا حجاج ، حدثنا خصاف ، عن أبي حمزة ، عن
إبراهيم ؛ أن كعبا قال لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين ، لولا آية في كتاب الله
لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال : وما هي ؟ قال : قول الله تعالى : {
يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } (8).
ومعنى هذه الأقوال : أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ، ويثبت منها ما يشاء ،
وقد يستأنس لهذا القول (9) بما رواه الإمام أحمد :
__________
(1) في ت : "من".
(2) في ت : "من".
(3) في ت : "الشقاء".
(4) رواه الطبري في تفسيره (16/480).
(5) رواه الطبري في تفسيره (16/481).
(6) في أ : "أبي حكيم".
(7) تفسير الطبري (16/481).
(8) تفسير الطبري (16/484).
(9) في أ : "الأقوال".
(4/469)
حدثنا
وَكِيع ، حدثنا سفيان ، وهو الثوري ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي
الجَعْد ، عن ثَوْبَان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل
ليحرم الرزق بالذنب يُصِيبه ، ولا يرد القَدَر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا
البر".
ورواه النسائي وابن ماجه ، من حديث سفيان الثوري ، به (1).
وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر (2) وفي الحديث الآخر : "إن
الدعاء والقضاء ليعتلجان (3) بين السماء والأرض" (4).
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سهل بن عسكر ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن
جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام ، من
درة بيضاء لها دَفَّتَان من ياقوت - والدفتان : لوحان - لله ، عز وجل [كل يوم
ثلاثمائة] (5) وستون لحظة ، يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. (6)
وقال الليث بن سعد ، عن زياد بن محمد ، عن محمد بن كعب القُرظي ، عن فُضَالة بن
عُبَيد ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "[إن
الله] (7) يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل ، في الساعة الأولى منها ينظر
في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت". وذكر تمام
الحديث. رواه ابن جرير. (8)
وقال الكلبي : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } قال : يمحو من الرزق
ويزيد فيه ، ويمحو من الأجل ويزيد فيه. فقيل له : من حدثك بهذا ؟ فقال : أبو صالح
، عن جابر بن عبد الله بن رئاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم سئل بعد ذلك عن
هذه الآية فقال : يكتب القول كله ، حتى إذا كان يوم الخميس ، طرح منه كل شيء ليس
فيه ثواب ولا عقاب ، مثل قولك : أكلت وشربت ، دخلت وخرجت ونحوه من الكلام ، وهو
صادق ، ويثبت ما كان فيه الثواب ، وعليه العقاب. (9)
وقال عِكْرِمة ، عن ابن عباس : الكتاب كتابان : فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت
وعنده أم الكتاب.
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } يقول : هو
__________
(1) المسند (5/227) وسنن ابن ماجة برقم (90).
(2) صحيح مسلم برقم (2557) من حديث أنس ولفظه : "من سره أن يبسط عليه رزقه ،
أو ينسأ في أثره ، فليصل رحمه".
(3) في ت ، أ : "ليتعلجان".
(4) لم أعثر عليه بهذا اللفظ.
(5) زيادة من تفسير الطبري ، ومكانه في هـ ، ت ، أ : "ثلاث".
(6) تفسير الطبري (16/489).
(7) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(8) تفسير الطبري (16/488).
(9) رواه الطبري في تفسيره (16/484).
(4/470)
الرجل
يعمل الزمان بطاعة الله ، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة ، فهو الذي يمحو -
والذي يثبت : الرجل يعمل بمعصية الله ، وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة
الله ، وهو الذي يثبت.
وروي عن سعيد بن جُبَير : أنها بمعنى : { فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة : 284].
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ
} يقول : يبدل ما يشاء فينسخه ، ويثبت ما يشاء فلا يبدله ، { وَعِنْدَهُ أُمُّ
الْكِتَابِ } يقول : وجملة ذلك عنده في أم الكتاب ، الناسخ ، والمنسوخ ، وما يبدل
، وما يثبت كل ذلك في كتاب.
وقال قتادة في قوله : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } كقوله { مَا
نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا }
[البقرة : 106]
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ } قال : قالت كفار قريش حين أنزلت : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ
يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } ما نراك يا محمد تملك من شيء ، ولقد
فُرغ من الأمر. فأنزلت هذه الآية تخويفا ، ووعيدًا لهم : إنا إن شئنا أحدثنا له من
أمرنا ما شئنا ، ونحدث في كل رمضان ، فنمحو ونثبت (1) ما نشاء من أرزاق الناس
ومصائبهم ، وما نعطيهم ، وما نقسم لهم.
وقال الحسن البصري : { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ } قال : من جاء أجله ،
فَذَهَب ، ويثبت الذي هو حيّ يجري إلى أجله.
وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله.
وقوله : { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } قال : الحلال والحرام.
وقال قتادة : أي جملة الكتاب وأصله.
وقال الضحاك : { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } قال : كتاب عند رب العالمين.
وقال سُنَيد بن داود ، حدثني معتمر ، عن أبيه ، عن سَيَّار ، عن ابن عباس ؛ أنه
سأل كعبًا عن "أم الكتاب" ، فقال : عَلِم الله ، ما هو خالق ، وما
خَلْقُه عاملون ، ثم قال (2) لعلمه : "كن كتابا". فكانا (3) كتابا.
وقال ابن جرير ، عن ابن عباس : { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } قال : الذكر ،
[والله أعلم]. (4)
__________
(1) في ت ، أ : "فيمحو ويثبت".
(2) في ت ، أ : "فقال".
(3) في ت ، أ : "فكان".
(4) زيادة من أ.
(4/471)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
{
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ
فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) }
يقول تعالى لرسوله : { وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ } يا محمد { بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ } أي : نعد أعداءك من الخزي (1) والنكال في الدنيا ، { أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ } [أي] (2) قبل ذلك ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ } أي :
إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة الله وقد بلغت (3) ما أمرت به ، { وَعَلَيْنَا
الْحِسَابُ } أي : حسابهم وجزاؤهم ، كما قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ
مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ
فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [الغاشية : 21 - 26].
وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا
} قال ابن عباس : أو لم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض ؟
وقال في رواية : أو لم يروا إلى القرية تخرب ، حتى يكون العمران في ناحية ؟
وقال مجاهد وعِكْرِمة : { نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } قال : خرابها.
وقال الحسن والضحاك : هو ظهور المسلمين على المشركين.
وقال العوفي عن ابن عباس : نقصان أهلها وبركتها.
وقال مجاهد : نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض.
وقال الشعبي : لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حُشُّك ، ولكن تنقص الأنفس والثمرات.
وكذا قال عِكْرِمة : لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكانا تقعد فيه ، ولكن هو الموت.
وقال ابن عباس في رواية : خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها. وكذا قال
مجاهد أيضا : هو موت العلماء.
وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز أبي القاسم
المصري الواعظ (4) سكن أصبهان ، حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المرئي بدمشق ، أنشدنا
أبو بكر الآجرى بمكة قال : أنشدنا أحمد بن غزال لنفسه :
الأرض تحيَا إذا ما عَاش عالمها... مَتَى يمُتْ عَالم منها يمُت طَرفُ...
كالأرض تحْيَا إذا ما الغيث حَل بها... وإن أبى عَاد في أكنافهَا التَّلَفُ...
__________
(1) في ت : "الحزن".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت ، أ : "فعلت".
(4) لم أعثر على ترجمته في المخطوط من تاريخ دمشق ولا في المختصر لابن منظور.
(4/472)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
والقول
الأول أولى ، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية ، [وكَفْرًا بعد كَفْر ،
كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى } [الأحقاف
: 27] الآية ، وهذا اختيار ابن جرير ، رحمه الله] (1)
{ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ
مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
}
يقول : { وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } برسلهم ، وأرادوا إخراجهم من
بلادهم ، فمكر الله بهم ، وجعل العاقبة للمتقين ، كما قال تعالى : { وَإِذْ
يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ
يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
[الأنفال : 30] وقال تعالى : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ
وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } الآية
[النمل : 50 - 52].
وقوله : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } أي : إنه تعالى عالم بجميع
السرائر والضمائر ، وسيجزي كل عامل بعمله.
{ وَسَيَعْلَمُ الْكَافِرُ } وقرئ : { الكُفَّارُ } { لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ }
أي : لمن تكون الدائرة والعاقبة ، لهم أو لأتباع الرسل ؟ كلا بل هي لأتباع الرسل
في الدنيا والآخرة ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(4/473)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا
بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) }
يقول : ويكذبك هؤلاء الكفار ويقولون : { لَسْتَ مُرْسَلا } أي : ما أرسلك الله ، {
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : حسبي الله ، وهو
الشاهد علي وعليكم ، شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة ، وشاهد عليكم أيها
المكذبون فيما تفترونه من البهتان.
وقوله : { وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } قيل : نزلت في عبد الله بن سلام
قاله مجاهد.
وهذا القول غريب ؛ لأن هذه الآية مكية ، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. والأظهر في هذا ما قاله العوفي ، عن ابن
عباس قال : هم من (1) اليهود والنصارى.
وقال قتادة : منهم ابن سلام ، وسلمان ، وتميم الداري.
وقال مجاهد - في رواية - عنه : هو الله تعالى.
__________
(1) في ت : "في".
(4/473)
وكان
سعيد بن جُبَيْر ينكر أن يكون المراد بها عبد الله بن سلام ، ويقول : هي مكية ،
وكان يقرؤها : "ومن عنده عُلِمَ الكتابُ" ، ويقول : من عند الله.
وكذا قرأها مجاهد والحسن البصري.
وقد روى ابن جرير من حديث ، هارون الأعور ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر ؛ أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها : ""ومن عنده عُلِمَ الكتابُ"
، ثم قال : لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات. (1)
قلت : وقد رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده ، من طريق هارون بن موسى هذا ، عن سليمان
بن أرقم - وهو ضعيف - عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه مرفوعا كذلك. ولا يثبت. (2)
والله أعلم
والصحيح في هذا : أن { وَمَنْ عِنْدَهُ } اسم جنس يشمل علماء أهل الكتاب الذين
يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة ، من بشارات الأنبياء
به ، كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا
يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي
يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } الآية[الأعراف
: 156 ، 157] وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ
عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } الآية : [الشعراء : 197]. وأمثال ذلك مما فيه
الإخبار عن علماء بني إسرائيل : أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة. وقد ورد في
حديث الأحبار ، عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة. قال الحافظ أبو
نعيم الأصبهاني في كتاب "دلائل النبوة" ، وهو كتاب جليل :
حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني ، حدثنا عَبْدان بن أحمد ، حدثنا محمد بن مصفى ،
حدثنا الوليد بن مسلم ، عن محمد بن حمزة بن يوسف ، بن عبد الله بن سلام ، عن أبيه
، أن عبد الله بن سلام قال لأحبار اليهود : إني أردت أن أجَدد (3) بمسجد أبينا
إبراهيم وإسماعيل عهدا (4) فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ،
فوافاهم وقد انصرفوا من الحج ، فوجد رسول الله ، بمنى ، والناس حوله ، فقام مع
الناس ، فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أنت عبد الله بن
سلام ؟" قال : قلت : نعم. قال : "ادن". فدنوت منه ، قال :
"أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام ، أما تجدني في التوراة رسول الله ؟"
فقلت له : انعت ربنا. قال : فجاء جبريل حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال له : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [سورة الإخلاص] فقرأها علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن سلام : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول
الله. ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة فكتم إسلامه. فلما هاجر رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجُدُّها ، فألقيت نفسي ، فقالت
__________
(1) تفسير الطبري (16/506).
(2) مسند أبي يعلى (9/424) وقد وقع فيه : "عبد الرحيم بن موسى" بدلا من
"هارون بن موسى".
(3) في هـ ، ت ، أ : "أحدث" والمثبت من دلائل النبوة.
(4) في هـ ، ت ، أ. "عيدا" والمثبت من دلائل النبوة.
(4/474)
أمي
: [لله] (1) أنت ، لو كان موسى بن عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة.
فقلت : والله لأني أسر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من موسى بن عمران إذ
بُعث. (2)
وهذا حديث غريب جدا.
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والدلائل.
(2) دلائل النبوة (1/125) وهو في المعجم الكبير برقم (372) "القطعة
المفقودة" وأعله الهيثمي بالانقطاع.
(4/475)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
تفسير
سورة إبراهيم عليه السلام
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ
مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى
الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ
فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) }
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور.
{ كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ } أي : هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد ، وهو
القرآن العظيم ، الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء ، على أشرف رسول بعثه
الله في الأرض ، إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم (1).
{ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : إنما بعثناك يا
محمد بهذا الكتاب ؛ لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد ،
كما قال : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ
مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } الآية[البقرة : 257] ، وقال تعالى : { هُوَ
الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [الحديد : 9].
وقوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : هو الهادي لمن قَدر له الهداية على يدي رسوله
المبعوث عن أمره يهديهم { إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ } أي : العزيز الذي لا يمانع
ولا يغالب ، بل هو القاهر لكل ما سواه ، "الحميد" أي : المحمود في جميع
أفعاله وأقواله ، وشرعه وأمره ونهيه ، الصادق في خبره.
وقوله : { اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } قرأه
بعضهم مستأنفا مرفوعا ، وقرأه آخرون على الإتباع صفة للجلالة ، كما قال تعالى : {
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [الأعراف : 158].
وقوله : { وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي : ويل لهم يوم
القيامة إذ خالفوك يا محمد
__________
(1) في ت ، أ : "عربيهم وعجميهم".
(4/476)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
وكذبوك.
ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، أي : يقدمونها ويُؤثرونها
عليها ، ويعملون للدنيا ونَسُوا الآخرة ، وتركوها وراء ظهورهم ، { وَيَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وهي اتباع الرسل { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي : ويحبون
أن تكون سبيل الله عوجًا مائلة عائلة (1) وهي مستقيمة في نفسها ، لا يضرها من
خالفها ولا من خذلها ، فهم (2) في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق ، لا
يرجى لهم - والحالة هذه - صلاح.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (4) }
هذا من لطفه تعالى بخلقه : أنه يرسل إليهم رسلا (3) منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما
يريدون وما أرسلوا به إليهم ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع ، عن عمر (4) بن ذر قال : قال مجاهد : عن أبي ذر قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "لم يبعث الله ، عز وجل ، نبيا إلا بلغة قومه"
(5).
وقوله : { فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أي : بعد
البيان وإقامة الحجة عليهم يضل تعالى من يشاء عن وجه الهدى ، ويهدي من يشاء إلى
الحق ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، { الحكيم }
في أفعاله ، فيضل من يستحق الإضلال ، ويهدي من هو أهل لذلك.
وقد كانت هذه سنة الله في خلقه : أنه ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم ،
فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم ، واختص محمد بن عبد الله رسول
الله بعموم الرسالة إلى سائر الناس ، كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خمسًا لم يُعطَهُن أحد من الأنبياء قبلي :
نُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطَهُورًا ، وأحلَّت لي
الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت
إلى الناس عامة" (6).
وله شواهد من وجوه كثيرة ، وقال تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي
رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف : 158].
__________
(1) عائلة : أي جائزة.
(2) في ت : "ففهم".
(3) في أ : "رسولا".
(4) في أ : "عمرو".
(5) المسند (5/158) ومجاهد لم يسمع من أبي ذر.
(6) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(4/477)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) }
يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب ، لتخرج الناس كلهم ،
تدعوهم إلى الخروج من الظلمات إلى النور ، كذلك أرسلنا موسى في بني إسرائيل
بآياتنا.
قال مجاهد : وهي التسع الآيات.
{ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ } أي : أمرناه قائلين له : { أَخْرِجْ
قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } أي : ادعهم إلى الخير ، ليخرجوا من
ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان.
{ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } أي : بأياديه ونعَمه عليهم ، في إخراجه
إياهم من أسر فرعون.
وقهره وظلمه وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر ، وتظليله إياهم
بالغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى ، إلى غير ذلك من النعم. قال ذلك مجاهد ،
وقتادة ، وغير واحد.
وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند
أبيه حيث (1) قال : حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم ، حدثنا محمد بن أبان
الجعفي ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير [عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ }
قال : "بنعم الله تبارك وتعالى]" (2).
[ورواه ابن جرير] (3) وابن أبي حاتم ، من حديث محمد بن أبان ، به (4) ورواه عبد
الله ابنه (5) أيضا موقوفا (6) وهو أشبه.
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : إن فيما
صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون ، وأنجيناهم مما كانوا فيه
من العذاب المهين ، لعبرة لكل صَبَّار ، أي : في الضراء ، شكور ، أي : في السراء ،
كما قال قتادة : نعم العبد ، عبد إذا ابتُلِي صَبَر ، وإذا أعطي شكر.
وكذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن أمر
المؤمن كُلَّه عَجَب ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له ، إن أصابته ضراء
صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شَكر فكان خيرا له" (7).
__________
(1) في هـ : "في مسنده حديث قال" والمثبت من ت ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زوائد المسند (5/122) وتفسير الطبري (16/522).
(5) في ت : "بن أحمد".
(6) زوائد المسند (5/122).
(7) صحيح مسلم برقم (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه.
(4/478)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
{
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ
أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ
عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ
وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا
أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) }
يقول تعالى مخبرا عن موسى ، حين ذَكَّر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم ، إذ
أنجاهم من آل فرعون ، وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال ، حين (1) كانوا
يذبحون من وجد من أبنائهم ، ويتركون إناثهم فأنقذ الله بني إسرائيل من ذلك ، وهذه
نعمة عظيمة ؛ ولهذا قال : { وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ } أي :
نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك ، أنتم عاجزون عن القيام بشكرها.
وقيل : وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل { بلاء } أي : اختبار عظيم.
ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا ، والله أعلم ، كما قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ
بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأعراف : 168].
وقوله : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } أي : آذنكم وأعلمكم بوعده لكم. ويحتمل أن
يكون المعنى : وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه كما قال : { وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [مَنْ
يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ] (2) } [الأعراف : 167].
وقوله (3) { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ } (4) أي : لئن شكرتم نعمتي (5)
عليكم لأزيدنكم منها ، { وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ } أي : كفرتم النعم وسترتموها
وجحدتموها ، { إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } وذلك بسلبها عنهم ، وعقابه إياهم على
كفرها.
وقد جاء في الحديث : "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه" (6).
وفي المسند : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ به سائل فأعطاه تمرة ،
فَتَسَخَّطها ولم يقبلها ، ثم مر به آخر فأعطاه إياها ، فقبلها وقال : تمرة من
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر له بأربعين درهما ، أو كما قال.
قال الإمام أحمد : حدثنا أسود ، حدثنا عمارة الصَّيدلاني ، عن ثابت ، عن أنس قال :
أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها - أو : وحش بها - قال
: وأتاه آخر فأمر له بتمرة ، فقال : سبحان الله! تمرة من رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فقال للجارية : "اذهبي إلى أم سلمة ، فأعطيه الأربعين درهما التي
__________
(1) في ت ، أ : "حيث".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في ت ، أ : "وقال ها هنا".
(4) في ت ، أ : "وإذ تأذن ربكم لئن".
(5) في ت : "نعمة الله".
(6) رواه أحمد في المسند (5/80) وابن ماجة في السنن برقم (90) من حديث ثوبان رضي
الله عنه ، وحسنه العراقي كما في الزوائد للبوصيري (1/61).
(4/479)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
عندها".
تفرد به الإمام أحمد (1).
وعمارة بن زاذان وثقه ابن حبَّان ، وأحمد ، ويعقوب بن سفيان (2) وقال ابن معين :
صالح. وقال أبو زُرْعَة : لا بأس به. وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ،
ليس بالمتين. وقال البخاري : ربما يضطرب في حديثه. وعن أحمد أيضا أنه قال : روي
عنه أحاديث منكرة. وقال أبو داود : ليس بذاك. وضعفه الدارقطني ، وقال ابن عدي : لا
بأس به ممن يكتب حديثه.
وقوله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ
جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : هو غني عن شكر عباده ، وهو
الحميد المحمود ، وإن كفره من كفره ، كما قال : { إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ
لَكُمْ } [الزمر : 7] وقال تعالى : { فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى
اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [التغابن : 6].
وفي صحيح مسلم ، عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه ،
عز وجل ، أنه قال : "يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، كانوا
على أتقى قلب رجل منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم
، وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ، ما نقص ذلك في (3) ملكي شيئا. يا
عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ،
فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا ، إلا كما ينقُص المخْيَط إذا
أدخل في البحر". فسبحانه وتعالى الغني الحميد (4).
{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ
وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا
إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا
تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) }
قال ابن جرير : هذا من تمام قيل (5) موسى لقومه (6).
يعني : وتذكاره إياهم بأيام الله ، بانتقامه من الأمم المكذبة للرسل.
وفيما قال (7) ابن جرير نظر ؛ والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ،
فإنه قد قيل :
__________
(1) المسند (3/154).
(2) في ت : "أحمد ويعقوب بن سفيان وابن حبان".
(3) في ت ، أ : "من".
(4) صحيح مسلم برقم (2577).
(5) في أ : "قول".
(6) تفسير الطبري (16/529).
(7) في ت ، أ : "قاله".
(4/480)
إن
قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقَصَه عليهم ذلك
فلا شك (1) أن تكون هاتان القصتان في "التوراة" ، والله أعلم. وبالجملة
فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل ،
مما لا يحصي عددهم (2) إلا الله عز وجل أتتهم رسلهم بالبينات ، أي : بالحجج
والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات.
وقال ابن (3) إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عبد الله أنه قال في قوله : { لا
يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ } كذب النسابون.
وقال عروة بن الزبير : ما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان.
وقوله : { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } اختلف المفسرون في معناه ،
فقيل : معناه : أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم (4) بالسكوت عنهم ، لما
دعوهم إلى الله ، عز وجل.
وقيل : بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبًا لهم.
وقيل : بل هو عبارة عن سكوتهم عن جواب الرسل.
وقال مجاهد ، ومحمد بن كعب ، وقتادة : معناه : أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم
بأفواههم.
قال ابن جرير : وتوجيهه (5) أن "في" ها هنا بمعنى "الباء" ،
قال : وقد سمع من العرب : "أدخلك الله بالجنة" يعنون : في الجنة ، وقال
الشاعر :
وَأَرْغَبُ فِيهَا عَن لَقيطٍ ورهْطه... عَن سِنْبس لَسْتُ أرْغَب...
يريد : أرغب بها (6).
قلت : ويؤيد قول مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام : { وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا
بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ
مُرِيبٍ } فكأن هذا [والله أعلم] (7) تفسير لمعنى رَدِّ أيديهم في أفواههم.
وقال سفيان الثوري ، وإسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله
: { فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } قال : عضوا عليها غيظا.
وقال شعبة ، عن أبي إسحاق ، أبي هُبَيرَْة ابن مريم ، عن عبد الله أنه قال ذلك
أيضا. وقد اختاره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ووجهه ابن جرير مختارًا له ، بقوله
تعالى عن المنافقين : { وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ
الْغَيْظِ } [آل عمران : 119].
وقال العوفي ، عن ابن عباس : لما سمعوا كتاب (8) الله عَجبوا ، ورجعوا بأيديهم إلى
أفواههم.
__________
(1) في ت ، أ : "لأوشك".
(2) في ت ، أ : "عدده".
(3) في ت : "أبو".
(4) في ت : "يأمروهم".
(5) في ت : "ويوجهه"
(6) تفسير الطبري (16/534).
(7) زيادة من ت ، أ.
(8) في ت : "كلام".
(4/481)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
وقالوا
: { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا
تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } يقولون : لا نصدقكم فيما جئتم به ؛ فإن عندنا فيه
شكا قويا.
{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ
تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
}
(4/482)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
{
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ
بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا
سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) }
يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة ، وذلك أن أممهم لما
واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له ، قالت الرسل : {
أَفِي اللَّهِ شَكٌّ }
وهذا يحتمل شيئين ، أحدهما : أفي وجوده شك ، فإن الفطر شاهدة بوجوده ، ومجبولة على
الإقرار به ، فإن الاعتراف به ضروري في الفطَر السليمة ، ولكن قد يعرض (1) لبعضها
شك واضطراب ، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ؛ ولهذا قالت لهم الرسل
ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } الذي خلقها
وابتدعها على غير مثال سبق ، فإن شواهد الحدوث (2) والخلق والتسخير ظاهر عليها ،
فلا بد لها من صانع ، وهو الله لا إله إلا هو ، خالق كل شيء وإلهه ومليكه.
والمعنى الثاني في قولهم : { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } أي : أفي إلهيته وتفرده بوجوب
العبادة له شك ، وهو الخالق لجميع الموجودات ، ولا (3) يستحق العبادة إلا هو ،
وحده لا شريك له ؛ فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ، ولكن تعبد (4) معه غيره من
الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى.
وقالت لهم الرسل : ندعوكم (5) ليغفر لكم من ذنوبكم ، أي : في الدار الآخرة ، {
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : في الدنيا ، كما قال تعالى : { وَأَنِ
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } الآية [هود : 3] ،
فقالت لهم الأمم محاجين في مقام الرسالة ، بعد تقدير تسليمهم للمقام الأول ، وحاصل
ما قالوه : { إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا } أي : كيف نتبعكم بمجرد قولكم
، ولما نر منكم معجزة ؟ { فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : خارق نقترحه
عليكم.
__________
(1) في ت : "تعرض".
(2) في ت ، أ : "الحدث".
(3) في ت ، أ : "فلا".
(4) في ت ، أ : "يعبد".
(5) في هـ : "وقالت لهم رسلهم : الرسل يدعوكم" ، والمثبت من ت ، أ.
(4/482)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
قالت
لهم رسلهم : { إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } أي : صحيح أنا بشر مثلكم في
البشرية { وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي :
بالرسالة والنبوة { وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ } على وفق ما
سألتم { إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : بعد سؤالنا إياه ، وإذنه لنا في ذلك ، {
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } أي : في جميع أمورهم.
ثم قالت الرسل : { وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ } أي : وما يمنعنا
من التوكل عليه ، وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها ، { وَلَنَصْبِرَنَّ
عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا } أي : من الكلام السيئ ، والأفعال السخيفة ، { وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ
لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ
الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ
خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ
عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) }
يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم ، من الإخراج من أرضهم ، والنفي من
بين أظهرهم ، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به : { لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا }
[الأعراف : 88] ، وقال قوم لوط : { أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ
إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [النمل : 56] ، وقال تعالى إخبارا عن مشركي
قريش : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا
وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 76] ، وقال تعالى : {
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ
يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ }
[الأنفال : 30].
وكان (1) من صنعه تعالى : أنه أظهر رسوله ونصره ، وجعل له بسبب خروجه من مكة
أنصارًا وأعوانًا وجندا ، يقاتلون في سبيل الله ، ولم يزل يرقيه [الله] (2) تعالى
من شيء إلى شيء ، حتى فتح له مكة التي أخرجته ، ومكن له فيها ، وأرغم آناف أعدائه
منهم ، و[من] (3) سائر [أهل] (4) الأرض ، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا ،
وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان ، في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان ؛
ولهذا قال تعالى : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ } كما قال تعالى : { وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات : 171 - 173]
، وقال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ
قَوِيٌّ (5) عَزِيزٌ } [المجادلة : 21] ، وقال : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ } [الأنبياء : 105] ،
__________
(1) في ت ، أ : "فكان".
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "لقوى" وهو خطأ.
(4/483)
{
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ
لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }
[الأعراف : 128] ، وقال تعالى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا
يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ
} [الأعراف : 137].
وقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } أي : وعيدي (1) هذا لمن
خاف مقامي بين يدي يوم القيامة ، وخشي من وعيدي ، وهو تخويفي وعذابي ، كما قال
تعالى : { فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ
هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ
الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات : 37 - 41] ، وقال : {
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن : 46].
وقوله : { واستفتحوا } أي : استنصرت الرسل ربها على قومها. قاله ابن عباس ، ومجاهد
، وقتادة.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : استفتحت الأمم على أنفسها ، كما قالوا : {
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال : 32].
ويحتمل أن يكون هذا مرادًا وهذا مرادًا ، كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر ،
واستفتح رسول الله واستنصر ، وقال الله تعالى للمشركين : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا
فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } الآية
[الأنفال : 19] ، والله أعلم.
{ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } أي : متجبر في نفسه معاند للحق ، كما قال
تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ
مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي
الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } [ق : 24 - 26].
وفي الحديث : "إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة ، فتنادي الخلائق فتقول : إني وُكلت
بكل جبار عنيد" الحديث (2).
خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.
وقوله : { مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } و"وراء" ها هنا بمعنى
"أمام" ، كما قال تعالى : { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ غَصْبًا } [الكهف : 79] ، وكان ابن عباس يقرؤها "وكان أمامهم
ملك".
أي : من وراء الجبار العنيد جهنم ، أي : هي له بالمرصاد ، يسكنها مخلدا يوم المعاد
، ويعرض عليها غدوا وعشيا إلى يوم التناد.
__________
(1) في ت : "وعدى".
(2) رواه أحمد في المسند (3/40) من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، ورواه
الترمذي في السنن برقم (2574) من طريق الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي
الله عنه ، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب صحيح".
(4/484)
{
وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ } أي : في النار ليس له شراب إلا من حميم أو غساق ،
فهذا (1) في غاية الحرارة ، وهذا في غاية البرد والنتن ، كما قال : { هَذَا
فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ص : 57 ،
58].
وقال مجاهد ، وعكرمة : الصديد : من القيح والدم.
وقال قتادة : هو ما يسيل من لحمه وجلده. وفي رواية عنه : الصديد : ما يخرج من جوف
الكافر ، قد خالط القيح والدم.
ومن حديث شَهْر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : قلت : يا رسول
الله ، ما طينة الخبال ؟ قال : "صديد أهل النار" (2) وفي رواية :
"عُصَارة أهل النار" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله ، أنا صفوان بن عمرو ،
عن عبيد الله بن بُرْ ، عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم في قوله : { وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ } قال :
"يُقَرَّبُ إليه فيتكرهه ، فإذا أدنى منه شَوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه ، فإذا
شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره. يقول الله تعالى (4) { وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا
فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [محمد : 15] ، ويقول : { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا
يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ } (5) [الكهف
: 29].
وهكذا رواه ابن جرير ، من حديث عبد الله بن المبارك ، به (6) ورواه هو وابن أبي
حاتم : من حديث بَقِيَّة ابن الوليد ، عن صفوان بن عمرو ، به (7).
وقوله : { يتجرعه } أي : يتغصصه ويتكرهه ، أي : يشربه قهرا وقسرا ، لا يضعه في فيه
(8) حتى يضربه الملك بمطراق من حديد ، كما قال تعالى : { وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ
حَدِيدٍ } [الحج : 21].
{ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي : يزدرده لسوء لونه وطعمه وريحه ، وحرارته أو برده
الذي لا يستطاع.
{ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } أي : يألم له جميع بدنه وجوارحه
وأعضائه.
قال ميمون بن مِهْرَان : من كل عظم ، وعرق ، وعصب.
وقال عكرمة : حتى من أطراف شعره.
__________
(1) في ت ، أ : "فهذا حار".
(2) رواه أحمد في المسند (6/460).
(3) وهي رواية أبي ذر ، رضي الله عنه ، رواها أحمد في المسند (5/171).
(4) في أ : "عز وجل".
(5) المسند (5/265).
(6) تفسير الطبري (16/549) ورواه الترمذي في السنن برقم (2583) من طريق عبد الله
بن المبارك به ، وقال : "هذا حديث غريب ، وهكذا قال محمد بن إسماعيل عن عبيد
الله بن بسر ، ولا نعرف عبيد الله بن بسر إلا في هذا الحديث".
(7) ورواه الطبري في تفسيره (16/551) من طريق حيوة بن شريح عن بقية به.
(8) في ت : "لا يضعه في فمه" وفي أ : "لا يضيعه في فمه".
(4/485)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
وقال
إبراهيم التيمي : من موضع كل شعرة ، أي : من جسده ، حتى من أطراف شعره.
وقال ابن جرير : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } أي : من أمامه
وورائه ، وعن يمينه وشماله ، ومن فوقه (1) ومن تحت أرجله (2) ومن سائر أعضاء جسده.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ } قال :
أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم ، وليس منها نوع إلا
الموت يأتيه منه لو كان يموت ، ولكن لا يموت ؛ لأن الله تعالى قال : { لا يُقْضَى
عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [كَذَلِكَ
نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ] (3) } [فاطر : 36].
ومعنى كلام ابن عباس ، رضي الله عنه : أنه ما من نوع من هذه الأنواع من [هذا] (4)
العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت ، ولكنه لا يموت ليخلد في
دوام العذاب والنكال ؛ ولهذا قال : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ }
وقوله : { وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي : وله من بعد هذا الحال عذاب آخر
غليظ ، أي : مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر. وهذا كما قال تعالى عن
شجرة الزقوم : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا
كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ
مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ
إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ } [الصافات : 64 - 68] ، فأخبر أنهم تارة
يكونون في أكل زقوم ، وتارة في شرب حميم ، وتارة يردون إلى الجحيم (5) عياذا بالله
من ذلك ، وهكذا قال تعالى : { هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا
الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [الرحمن : 43 ، 44] ،
وقال تعالى : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي
فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ
الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ }
[الدخان : 43 - 50] ، وقال : { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ
فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ } [الواقعة
: 41 - 44] ، وقال تعالى : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } [ص : 55 - 58] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة
على تنوع العذاب عليهم ، وتكراره وأنواعه وأشكاله ، مما لا يحصيه إلا الله ، عز
وجل ، جزاء وفاقا ، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } [فصلت : 46].
{ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ
الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ
هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) }
هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا مع الله غيره ، وكذبوا رسله ،
وبنوا أعمالهم
__________
(1) في ت : "فوقهم".
(2) في ت : "أرجلهم".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "جحيم".
(4/486)
على
غير أساس صحيح ؛ فانهارت وعَدِمُوها أحوج ما كانوا إليها ، فقال تعالى : { مَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ } أي : مثل أعمال الذين كفروا يوم
القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى ؛ لأنهم كانوا يحسبون أنهم على شيء ، فلم
يجدوا شيئًا ، ولا ألفوا حاصلا إلا كما يتحصَّل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة
{ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } أي : ذي ريح عاصفة قوية ، فلا [يقدرون على شيء من أعمالهم
التي كسبوها في الدنيا إلا كما] (1) يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم ، كما
قال تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً
مَنْثُورًا } [الفرقان : 23] ، وقال تعالى : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } [آل عمران : 117] ، وقال تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى
كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ
فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } [البقرة : 264].
وقال في هذه الآية : { ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ } أي : سعيهم وعملهم على
غير أساس ولا استقامة حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما هم إليه ، { ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ } (2).
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في ت ، أ : "هذا" وهو خطأ.
(4/487)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
{
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
بِعَزِيزٍ (20) }
يقول تعالى مخبرًا عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة ، بأنه خلق السموات
والأرض التي هي أكبر من خلق الناس ، أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات ، في
ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات ، والحركات
المختلفات ، والآيات الباهرات ، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد ،
وبرارى وصحارى وقفار ، وبحار وأشجار ، ونبات وحيوان ، على اختلاف أصنافها ومنافعها
، وأشكالها وألوانها ؛ { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأحقاف : 33] ،
وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ (1) أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ
فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ
يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ
الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ } [يس : 77 - 83].
وقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ بِعَزِيزٍ } أي : بعظيم ولا ممتنع ، بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره ، أن
يذهبكم ويأتي بآخرين على غير صفتكم ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ
يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
بِعَزِيزٍ } [فاطر : 15 - 17] ،
__________
(1) في ت ، أ : "ولقد خلقنا الإنسان" وهو خطأ.
(4/487)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
وقال
: { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا
أَمْثَالَكُمْ } [محمد : 38] ، وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة : 54] ، وقال : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا
النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا } [النساء :
133].
{ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ
عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) }
يقول : { وَبَرَزُوا [لِلَّهِ] (1) } أي : برزت الخلائق كلها ، برها وفاجرها لله
وحده الواحد القهار ، أي : اجتمعوا له في براز (2) من الأرض ، وهو المكان الذي ليس
فيه شيء يستر أحدا.
{ فَقَالَ الضُّعَفَاءُ } وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم الذين استكبروا عن
عبادة.
الله وحده لا شريك له ، وعن موافقة الرسل ، فقالوا لهم : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعًا } أي : مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا ، { فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ
عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : فهل تدفعون عنا شيئًا من عذاب
الله ، كما كنتم تعدوننا وتمنوننا ؟ فقالت القادة لهم : { لَوْ هَدَانَا اللَّهُ
لَهَدَيْنَاكُمْ } ولكن حق علينا قول ربنا ، وسبق فينا وفيكم قدر الله ، وحقت كلمة
العذاب على الكافرين.
{ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } أي :
ليس لنا خَلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا ، فإنما
أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله ، عز وجل ، تعالوا نبك ونتضرع إلى
الله فبكوا وتضرعوا ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : تعالوا ، فإنما أدرك أهل
الجنة الجنة بالصبر ، تعالوا حتى نصبر فصبروا صبرا لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك ،
فعند ذلك قالوا (3) { سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا
مِنْ مَحِيصٍ }
قلت : والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها ، كما قال تعالى : {
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا
نَصِيبًا مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ
اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } [غافر : 47 ، 48] ، وقال تعالى : { قَالَ
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي
النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا
فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا
فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ (4) النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا
تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ
فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } [الأعراف : 38 ، 39] ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "برار".
(3) في أ : "فقالوا".
(4) في ت : "في".
(4/488)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
وقال
تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا
أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا
سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ
مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا } [الأحزاب : 66 - 68].
وأما تخاصمهم في المحشر ، فقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ (1)
مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ
يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ
مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ
مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ
لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا (2) النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ
وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } [سبأ : 31 - 33].
{ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ
الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ
سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا
أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي
كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ (23) }
يخبر تعالى عما خطب به إبليس [لعنه الله] (3) أتباعه ، بعدما قضى الله بين عباده ،
فأدخل المؤمنين الجنات ، وأسكن الكافرين الدركات ، فقام فيهم إبليس - لعنه الله -
حينئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم (4) وغَبنا إلى غبْنهم ، وحسرة إلى حسرتهم ،
فقال : { إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } أي : على ألسنة رسله ،
ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة ، وكان وعدًا حقا ، وخبرا صدقا ، وأما أنا
فوعدتكم وأخلفتكم ، كما قال الله تعالى : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا
يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [النساء : 120].
ثم قال : { وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي : ما كان لي عليكم
فيما دعوتكم إليه من دليل ولا حجة على صدق ما وعدتكم به ، { إِلا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } بمجرد ذلك ، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج
والأدلة الصحيحة على صدق ما جاءوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه ، {
فَلا تَلُومُونِي } اليوم ، { وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } فإن الذنب لكم ، لكونكم
خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد
__________
(1) في ت ، أ : "المجرمون" وهو خطأ.
(2) في ت : "وأسر وهو خطأ.
(3) زيادة من أ.
(4) في ت : "خزيا إلى خزيهم".
(4/489)
ما
دعوتكم إلى الباطل ، { مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ } أي : بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم
مما أنتم فيه ، { وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أي : بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه
من العذاب والنكال ، { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ }
قال قتادة : أي بسبب ما أشركتمون من قبل.
وقال ابن جرير : يقول : إني جحدت أن أكون شريكا لله ، عز وجل.
وهذا الذي قال هو الراجح (1) كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو
مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ
عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً
وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف : 5 ، 6] ، وقال : { كَلا
سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم : 82].
وقوله : { إِنَّ الظَّالِمِينَ } أي : في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل {
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
والظاهر من سياق الآية : أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار ، كما
قدمنا. ولكن قد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم - وهذا لفظه - وابن جرير من رواية
عبد الرحمن بن زياد : حدثني دخين (2) الحَجْري ، عن عقبة بن عامر ، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا جمع الله الأولين والآخرين ، فقضى بينهم ،
ففرغ من القضاء ، قال المؤمنون : قد قضى بيننا ربنا ، فمن يشفع لنا ؟ فيقولون :
انطلقوا بنا إلى آدم - وذكر نوحا ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى - فيقول عيسى : أدلكم
على النبي الأمي. فيأتوني ، فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور (3) [من] (4) مجلسي
من أطيب ريح شمها أحد قط ، حتى آتي ربي فيشفعني ، ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى
ظفر قدمي ، ثم يقول الكافرون هذا : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فمن يشفع لنا ؟
ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا ، فيأتون إبليس فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع
لهم ، فقم أنت فاشفع لنا ، فإنك أنت أضللتنا. فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح
شمها أحد قط ، ثم يعظم نحيبهم (5) { وَقَالَ (6) الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ
الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ } (7).
وهذا سياق ابن أبي حاتم ، ورواه ابن المبارك عن رِشْدين بن سعد ، عن عبد الرحمن بن
زياد بن أنعم ، عن دُخَيْن (8) عن عُقْبَة ، به مرفوعا (9).
__________
(1) في أ : "الأرجح".
(2) في ت ، أ : "دجين".
(3) في ت ، أ : "فيفور".
(4) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(5) في ت ، أ : "بجهنم".
(6) في ت ، أ : "ويقول" وهو خطأ.
(7) تفسير الطبري (16/562) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/320) من طريق ابن
وهب : أخبرني ابن نعيم (كذا في المعجم) عن دخين ، عن عقبة مرفوعا. وقال الهيثمي في
المجمع (10/376) : "فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، وهو ضعيف" وضعف
السيوطي إسناده أيضا.
(8) في أ : "دجين".
(9) ورواه الطبري في تفسيره (16/562) من طريق سويد بن نصر ، عن ابن المبارك به.
(4/490)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
وقال
محمد بن كعب القُرظي ، رحمه الله : لما قال أهل النار : { سَوَاءٌ عَلَيْنَا
أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ } قال لهم إبليس : { إِنَّ
اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } الآية ، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم ،
فنودوا : { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ
إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } [غافر : 10].
وقال عامر الشعبي : يقوم خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس ، يقول الله لعيسى ابن
مريم : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ
اللَّهِ } إلى قوله : { قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ
صِدْقُهُمْ } [المائدة : 116 ، 119] ، قال : ويقوم إبليس - لعنه الله - فيقول : {
وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ
فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } الآية.
ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنَّكَال. وأن خطيبهم
إبليس ، عطف بحال السعداء وأنهم يدخلون يوم القيامة جنات تجري من تحتها الأنهار
سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا (1) { خَالِدِينَ فِيهَا } ماكثين أبدا لا يحولون
ولا يزولون ، { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ } كما قال تعالى :
{ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا
سَلامٌ عَلَيْكُمْ } [الزمر : 73] ، وقال تعالى : { وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ
عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ } [الرعد : 23 ، 24] وقال تعالى :
{ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا } [الفرقان : 75] ، وقال : {
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ
دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس : 10].
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ
طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) }
__________
(1) في ت : "شاءوا أين شاءوا" وفي أ : "شاءوا حيث شاءوا".
(4/491)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
{
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
}
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً } شهادة
أن لا إله إلا الله ، { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ } وهو المؤمن ، { أَصْلُهَا ثَابِتٌ
} يقول : لا إله إلا الله في قلب المؤمن ، { وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } يقول :
يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.
وهكذا قال الضحاك ، وسعيد بن جُبَير ، وعِكْرِمة وقتادة وغير واحد : إن ذلك عبارة
عن المؤمن ، وقوله الطيب ، وعمله الصالح ، وإن المؤمن كالشجرة من النخل ، لا يزال
يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت ، وصباح ومساء.
وهكذا رواه السُّدِّي ، عن مُرَّة ، عن ابن مسعود قال : هي النخلة.
وشعبة ، عن معاوية بن قُرَة ، عن أنس : هي النخلة.
(4/491)
وحماد
بن سلمة ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي
بقناع بُسْر فقال : (1) "ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة" قال : "هي
النخلة" (2).
وروي من هذا الوجه ومن غيره ، عن أنس موقوفا (3) وكذا نص عليه مسروق ، ومجاهد ،
وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة وغيرهم.
وقال البخاري : حدثنا عُبَيدُ بن إسماعيل ، عن أبي أسامة ، عن عبيد الله ، عن نافع
، عن ابن عمر قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أخبروني عن
شجرة تشبه - أو : كالرجل - المسلم ، لا يتحات ورقها [ولا ولا ولا] (4) تؤتي أكلها
كل حين". قال ابن عمر : فوقع في نفسي أنها النخلة ، ورأيت أبا بكر وعمر لا
يتكلمان ، فكرهت أن أتكلم ، فلما لم يقولوا شيئا ، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "هي النخلة". فلما قمنا قلت لعمر : يا أبتا ، والله لقد كان وقع
في نفسي أنها النخلة. قال : ما منعك أن تكلم ؟ قال : لم أركم تتكلمون ، فكرهت أن أتكلم
أو أقول شيئا. قال عمر : لأن تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا (5).
وقال أحمد : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : صحبت ابن عمر إلى المدينة
، فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا واحدا - قال : كنا
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بجمار. فقال : "من الشجر شجرة مثلها
مثل الرجل المسلم". فأردت أن أقول : هي النخلة ، فنظرت فإذا أنا أصغر القوم ،
[فسكت] (6) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هي النخلة" أخرجاه
(7).
وقال مالك وعبد العزيز ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه : "إن من الشجر شجرة لا يطرح ورقها ، مثل
المؤمن". قال : فوقع الناس في شجر البوادي ، ووقع في قلبي أنها النخلة [فاستحييت
، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هي النخلة]" (8) أخرجاه أيضا
(9).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبان - يعني ابن
زيد العطار - حدثنا قتادة : أن رجلا قال : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالأجور!
فقال : "أرأيت لو عمد إلى متاع
__________
(1) في هـ ، ت ، أ : "فقرأ" والمثبت من الطبري والترمذي.
(2) رواه الطبري في تفسيره (16/570) والترمذي في السنن برقم (3119) من طريق حماد
بن سلمة به ، وقال الترمذي : "وروى غير واحد مثل هذا موقوفا ، ولا نعلم أحدا
رفعه غير حماد بن سلمة ، ورواه معمر وحماد بن زيد وغير واحد ولم يرفعوه".
(3) رواه أبو بكر بن شعيب بن الحبحاب ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك نحوه موقوفا ،
أخرجه الترمذي في السنن برقم (3119) ورواه حماد بن زيد ، عن شعيب بن الحبحاب ، عن
أنس موقوفا ، أخرجه الترمذي في السنن برقم (3119).
(4) زيادة من ت ، أ ، والبخاري.
(5) صحيح البخاري برقم (4698).
(6) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(7) المسند (2/12) وصحيح البخاري برقم (72) وصحيح مسلم برقم (2811).
(8) زيادة من ت ، أ ، والصحيحين.
(9) صحيح البخاري برقم (131) وصحيح مسلم برقم (2811).
(4/492)
الدنيا
، فركب بعضها على بعض أكان يبلغ السماء ؟ أفلا أخبرك بعمل أصله في الأرض وفرعه في
السماء ؟". قال : ما هو يا رسول الله ؟ قال : "تقول : لا إله إلا الله ،
والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله" ، عشر مرات في دبر كل صلاة ، فذاك
أصله في الأرض وفرعه في السماء" (1).
وعن ابن عباس { كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ } قال : هي شجرة في الجنة.
وقوله : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } قيل : غُدوة وعَشيا. وقيل : كل شهر.
وقيل : كل شهرين.
وقيل : كل ستة أشهر. وقيل : كل سبعة أشهر. وقيل : كل سنة.
والظاهر من السياق : أن المؤمن مثله كمثل شجرة ، لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت
من صيف أو شتاء ، أو ليل أو نهار ، كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء
الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين.
{ بِإِذْنِ رَبِّهَا } أي : كاملا حسنا كثيرا طيبا ، { وَيَضْرِبُ اللَّهُ
الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }
وقوله : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } هذا مثل كفر الكافر
، لا أصل له ولا ثبات ، وشبه بشجرة الحنظل ، ويقال لها : "الشريان".
[رواه شعبة ، عن معاوية بن قُرَّة ، عن أنس بن مالك : أنها شجرة الحنظل] (2).
وقال أبو بكر البزار الحافظ : حدثنا يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا أبو زيد سعيد
بن الربيع ، حدثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس - أحسَبه رفعه - قال :
"مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة" ، قال : هي النخلة ، { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } قال : هي الشّرْيان (3).
ثم رواه عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن معاوية ، عن أنس موقوفا
(4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد - هو ابن
سلمة - عن شعيب بن الحَبْحاب عن أنس بن مالك ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة" هي الحنظلة". فأخبرت بذلك أبا
العالية فقال : هكذا كنا نسمع.
ورواه ابن جرير ، من حديث حماد بن سلمة ، به (5) ورواه أبو يعلى في مسنده بأبسط من
هذا فقال :
__________
(1) أورده السيوطي في الدر المنثور (5/22) وعزاه لابن أبي حاتم ، وهو مرسل.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) ورواه حماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس مرفوعا مثله رواه الطبري في
تفسيره (16/570 ، 585).
(4) ورواه الطبري في تفسيره (16/583) عن محمد بن المثنى به موقوفا ، ورواه شبابة
وعمرو بن الهيثم ، عن شعبة فأوقفوه. انظر : تفسير الطبري (16/583).
(5) تفسير الطبري (16/585).
(4/493)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
حدثنا
غسان ، عن حماد ، عن شعيب ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع
عليه بُسْر ، فقال : ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، أصلها ثابت وفرعها في السماء.
تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فقال : "هي النخلة" { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ
} قال : "هي الحنظل" (1) قال شعيب : فأخبرت بذلك أبا العالية فقال :
كذلك كنا نسمع (2).
وقوله : { اجْتُثَّتْ } أي : استؤصلت { مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ
قَرَارٍ } أي : لا أصل لها ولا ثبات ، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ، ولا يصعد
للكافر عمل ، ولا يتقبل منه شيء.
{ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ
مَا يَشَاءُ (27) }
قال البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أخبرني علقمة بن مَرْثَد قال :
سمعت سعد بن عبيدة ، عن البراء بن عازب ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : "المسلم إذا سئل في القبر ، شهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله ، فذلك قوله : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (3).
ورواه مسلم أيضا وبَقِيَّة الجماعة كلهم ، من حديث شعبة ، به (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن
زاذان ، عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة
رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه
وسلم وجلسنا حوله ، كأن على رءوسنا الطير ، وفي يده عود يَنْكت به في الأرض ، فرفع
رأسه فقال : "استعيذوا بالله من عذاب القبر" ، مرتين أو ثلاثا ، ثم قال
: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه
ملائكة من السماء ، بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة
وحَنُوط من حَنُوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر. ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس
عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الطيبة ، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان".
قال : "فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فِي السِّقَاء فيأخذها ، فإذا أخذها لم
يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنُوط ،
ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها ، فلا يمرون - يعني
بها - على ملأ من الملائكة
__________
(1) في أ : "الحنظلة".
(2) ورواه الترمذي في السنن برقم (3119) عن عبد بن حميد ، عن أبي الوليد ، عن حماد
بن سلمة به نحوه ، وقد سبق الكلام عليه.
(3) صحيح البخاري برقم (4699).
(4) صحيح مسلم برقم (2871) وسنن أبي داود برقم (4750) وسنن الترمذي برقم (3120)
وسنن النسائي (4/101) وسنن ابن ماجة برقم (4269).
(4/494)
إلا
قالوا : ما هذا الروح [الطيب] (1) ؟ فيقولون : فلان ابن فلان ، بأحسن أسمائه التي
[كانوا] (2) يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا ، فيستفتحون
له ، فيفتح له ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهى بها
إلى السماء السابعة ، فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عِليين ، وأعيدوه إلى
الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى".
قال : "فتُعَاد روحه [في جسده] (3) فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من
ربك ؟ فيقول : ربي الله. فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام. فيقولان له
: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله. فيقولان له : وما علمك ؟
فيقول : قرأت كتاب الله ، فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ،
فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له بابًا إلى الجنة - قال : فيأتيه
من رَوْحِها وطيبها ، ويفسح له في قبره مد بصره. ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن
الثياب ، طيب الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له
من أنت ؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول : أنا عملك الصالح. فيقول : رب أقم
الساعة. رب ، أقم الساعة ، حتى أرجع إلى أهلي ومالي".
قال : "وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل
إليه من السماء ملائكة سود الوجوه ، معهم المُسُوح ، فجلسوا منه مد البصر. ثم يجيء
ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى سَخَط من
الله وغَضَب". قال : "فتَفرق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود
من الصوف المبلول ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها (4) في يده طرفة عين ، حتى
يجعلوها في تلك المسوح. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون
بها فلا يمرون بها على مَلأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟
فيقولون : فلان ابن فلان ، بأقبح أسمائه التي كان يسمونه بها في الدنيا [حتى ينتهى
به إلى السماء الدنيا] (5) فيستفتح له فلا يفتح له". ثم قرأ رسول الله صلى
الله عليه وسلم : { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } [الأعراف : 40] ،
فيقول الله : "اكتبوا كتابه في سجين ، في الأرض السفلى ، فتطرح روحه
طرحا". ثم قرأ : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ
السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ
سَحِيقٍ } [الحج : 31].
"فتعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له : من ربك ؟ فيقول :
هاه هاه ، لا أدري. فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري. فيقولان له
: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري. فينادي مناد من السماء
: أن كذب فأفرشوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار. فيأتيه من حرها وسمومها ،
ويضيق عليه قبره ، حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(2) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(3) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(4) في أ : "لم يدعها".
(5) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(4/495)
قبيح
الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوءك ، هذا يومك الذي كنت
توعد. فيقول : ومن أنت فوجهك [الوجه] (1) يجيئ بالشر. فيقول : أنا عملك الخبيث ،
فيقول : رب ، لا تقم الساعة".
ورواه أبو داود من حديث الأعمش ، والنسائي وابن ماجة من حديث المنهال بن عمرو ، به
(2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن يونس بن خباب (3) عن
المِنْهَال بن عمرو ، عن زاذان ، عن البراء بن عازب ، رضي الله عنه ، قال : خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة ، فذكر نحوه.
وفيه : "حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض ، [وكل ملك في
السماء] (4) وفتحت أبواب السماء ، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ، عز وجل ،
أن يعرج بروحه من قبلهم".
وفي آخره : "ثم يقيض له أعمى أصم أبكم ، وفي يده مرزبَّة لو ضرب بها جبل لكان
ترابا ، فيضربه ضربة فيصير ترابا. ثم يعيده الله ، عز وجل ، كما كان ، فيضربه ضربة
أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين". قال البراء : ثم يفتح له باب
إلى النار ، ويمهد من فرش النار (5).
وقال سفيان الثوري ، عن أبيه ، عن خَيْثَمَة ، عن البراء في قوله تعالى : {
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا } قال : عذاب القبر.
وقال المسعودي ، عن عبد الله بن مُخَارق ، عن أبيه ، عن عبد الله قال : إن المؤمن
إذا مات أجلس في قبره ، فيقال له : من ربك ؟ ما دينك ؟ من نبيك ؟ فيثبته الله ،
فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم. وقرأ عبد الله
: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (6).
وقال الإمام عبد بن حميد ، رحمه الله ، في مسنده : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا
شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "إن العبد إذا وضع في قبره ، وتولى عنه أصحابه ، إنه ليسمع قرع
نعالهم". قال : "فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له : ما كنت تقول في هذا
الرجل ؟" قال : "فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله".
قال : "فيقال له : انظر إلى مقعدك من النار ، قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة".
قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : "فيراهما جميعا". قال
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(2) المسند (4/287) وسنن أبي داود برقم (4753) وسنن النسائي برقم (4/78) وسنن ابن
ماجة برقم (1548).
(3) في هـ ، أ : "يونس بن حبيب" والمثبت من ت والمسند.
(4) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(5) المسند (4/295).
(6) رواه الطبري في تفسيره (16/597).
(4/496)
قتادة
: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ، ويملأ عليه خَضِرًا إلى يوم
القيامة.
رواه مسلم عن عبد بن حميد ، به (1) وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب ،
به (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جُرَيْج ، أخبرني أبو الزبير ،
أنه سأل جابر بن عبد الله عن فَتَّاني القبر فقال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول : "إن هذه الأمة تُبْتَلَى في قبورها ، فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه
أصحابه ، جاء ملك شديد الانتهار ، فيقول له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول
المؤمن : أقول : إنه رسول الله وعبده. فيقول له الملك : انظر إلى مقعدك الذي كان
لك في النار ، قد أنجاك الله منه ، وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار مقعدك الذي
ترى من الجنة ، فيراهما كليهما. فيقول المؤمن : دعوني أبشر أهلي. فيقال له : اسكن.
وأما المنافق فيقعد إذا تولى عنه أهله ، فيقال له : ما كنت تقول في هذا الرجل ؟
فيقول : لا أدري ، أقول كما يقول الناس. فيقال له : لا دريت ، هذا مقعدك الذي كان
لك في الجنة ، قد أبدلت مكانه مقعدك من النار".
قال جابر : فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "يبعث كل عبد في القبر على
ما مات ، المؤمن على إيمانه ، والمنافق على نفاقه".
إسناده (3) صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه (4) (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عباد بن راشد ، عن داود بن أبي هند ،
عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري قال : شَهِدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
جنازة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أيها الناس ، إن هذه الأمة
تُبتَلى في قبورها ، فإذا الإنسان دفن وتفرق عنه أصحابه ، جاءه ملك في يده مطراق
فأقعده ، قال : ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمنا قال : أشهد أن لا إله إلا
الله ، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله (6) فيقول له : صدقت. ثم يفتح له بابا إلى
النار ، فيقول : هذا كان منزلك لو كفرت بربك ، فأما إذ آمنت فهذا منزلك. فيفتح له
بابا إلى الجنة ، فيريد أن ينهض إليه ، فيقول له : اسكن. ويفسح له في قبره".
"وإن كان كافرا أو منافقا يقول (7) له : ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا
أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا (8) فيقول : لا دريت ولا تليت ولا اهتديت. ثم يفتح
له بابا إلى الجنة ، فيقول له : هذا
__________
(1) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1178) وصحيح مسلم برقم (2870).
(2) سنن النسائي (4/97).
(3) في ت : "إسناد".
(4) في ت : "ولم يخرجوه".
(5) الذي في المسند (3/346) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي
الزبير به ، وكذا في أطراف المسند لابن حجر (2/110).
(6) في أ : "وأن محمدا رسول الله".
(7) في ت ، أ : "فيقول".
(8) في أ : "شيئا فقلته".
(4/497)
منزلك
لو آمنت بربك ، فأما إذ كفرت به فإن الله ، عز وجل ، أبدلك به هذا. فيفتح (1) له
بابا إلى النار ، ثم يقمَعه قمعةً بالمطراق يسمعها خَلْقُ الله ، عز وجل ، كلهم
غير الثقلين". فقال بعض القوم : يا رسول الله ، ما أحد يقوم عليه ملك في يده
مطراق (2) إلا هيل عند ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يُثَبِّتُ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ } (3).
وهذا أيضا إسناد لا بأس به ، فإن عباد بن راشد التميمي روى له البخاري مقرونا ،
ولكن ضعفه بعضهم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، عن ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن
عطاء ، عن سعيد بن يَسَار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم (4) إن
الميت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس المطمئنة
(5) كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان".
قال : "فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يُعْرَج بها إلى السماء ،
فيستفتح لها فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان. فيقولون : مرحبا بالروح الطيبة كانت
في الجسد الطيب ، ادخلي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ، ورب غير غضبان" قال :
فلا يزال يقال لها ذلك ، حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل.
وإذا كان الرجل السوء قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ،
اخرجي ذميمة ، وأبشري بحميم وغَسَّاق ، وآخر من شكله أزواج. فلا يزال يقال لها ذلك
حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان ،
فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، ارجعي ذميمة ، فإنه لا
تفتح (6) لك أبواب السماء. فيرسل (7) من السماء ، ثم يصير (8) إلى القبر" ،
فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول ، ويجلس الرجل السوء
فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول.
ورواه النسائي وابن ماجة ، من طريق ابن أبي ذئب (9) بنحوه (10).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : إذا خرجت روح العبد المؤمن ،
تلقاها ملكان يصعدان بها. قال حماد : فذكر من طيب ريحها وذكر المسك. قال : ويقول
أهل السماء : روح طيبة جاءت من قِبَل الأرض ، صَلَّى الله عليك وعلى جَسَد كنت
تَعْمُرينه ، فيُنطَلَقُ به إلى ربه عز وجل ، فيقول : انطلقوا به إلى آخر الأجل.
وإن الكافر إذا خرجت روحه. قال حماد : وذكر من
__________
(1) في ت : "ففتح".
(2) في ت : "مطرقة".
(3) المسند (3/3).
(4) في ت ، أ : "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال".
(5) في ت ، أ : "الطيبة".
(6) في ت ، أ : "يفتح".
(7) في ت : "فترسل".
(8) في ت : "تصير".
(9) في ت : "ابن أبي ذهاب" وفي أ : "ابن أبي ذر".
(10) المسند (2/364) وسنن ابن ماجة برقم (4262) وقال البوصيرى في الزوائد (3/311)
: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(4/498)
نَتْنها
وذكر مقتا ، ويقول أهل السماء : روح خبيثة جاءت من قبل الأرض. قال : فيقال :
انطلقوا به إلى آخر الأجل. قال أبو هريرة : فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رَبْطَةً
كانت عليه على أنفه ، هكذا (1).
وقال ابن حبان في صحيحه : حدثنا عمر بن محمد الهمداني ، حدثنا زيد بن أخزم ، حدثنا
معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن قسامة بن زهير ، عن أبي هريرة ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن المؤمن إذا قُبض ، أتته ملائكة الرحمة
بحريرة بيضاء ، فيقولون : اخرجي إلى روح الله. فتخرج كأطيب ريح مسك ، حتى إنه
ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به باب السماء ، فيقولون ما هذا الريح الطيبة
التي جاءت من قِبل الأرض ؟ ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك ، حتى يأتوا به أرواح
المؤمنين ، فَلهُم أشدّ فرحًا به من أهل الغائب بغائبهم ، فيقولون : ما فعل فلان ؟
فيقولون : دعوه حتى يستريح ، فإنه كان في غمّ! فيقول : قد مات ، أما أتاكم ؟
فيقولون : ذُهب به إلى أمه الهاوية. وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسْح
فيقولون : اخرجي إلى غضب الله ، فتخرج كأنتن ريح جيفة ، فَيُذْهَب به إلى باب
الأرض" (2).
وقد روي أيضا من طريق هَمَّام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أبي الجوزاء ، عن أبي هريرة
، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. قال : "فَيُسأل : ما فعل فلان ، ما فعل
فلان ؟ ما فعلت فلانة ؟" قال : "وأما الكافر فإذا قُبضت نفسه ، وذُهب
بها إلى باب الأرض تقول خزنة الأرض : ما وجدنا ريحا أنتن من هذه. فَيُبْلَغُ بها
الأرض السفلى" (3).
قال قتادة : وحدثني رجل ، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو قال : أرواح
المؤمنين تجمع بالجابية. وأرواح الكفار تجمع ببرهوت ، سبخة بحضرموت.
وقال الحافظ أبو عيسى الترمذي ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن خلف ، حدثنا بشر بن
المفضل ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد المقْبرُِي ، عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا قبر الميت - أو قال : أحدكم -
أتاه ملكان أسودان أزرقان (4) يقال لأحدهما : المنكر ، والآخر : النكير ، فيقولان
: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول ما كان يقول : هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن
لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فيقولان : قد كنا نعلم أنك تقول
هذا. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين. ثم ينوّر له فيه ، ثم يقال له :
نَمْ. فيقول : أرجع إلى أهلي فأخبرهم ، فيقولان : نَمْ نومةَ العروس الذي لا يوقظه
إلا أحَبَّ أهله إليه ، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقا قال : سمعت
الناس يقولون فقلت مثلهم ، لا أدري. فيقولان : قد كنا نعلم أنك
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2872).
(2) صحيح ابن حبان برقم (733) "موارد".
(3) صحيح ابن حبان برقم (731) "موارد" ورواه الحاكم في المستدرك (1/351)
من طريق همام به نحوه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) في ت : "أزراق".
(4/499)
تقول
ذلك ، فيقال (1) للأرض : التئمي عليه. فتلتئم عليه ، فتختلف أضلاعه ، فلا يزال
فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك" (2).
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.
وقال حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } قال : "ذاك إذا قيل
له في القبر : من ربك ؟ وما دينك ؟ فيقول : ربي الله ، وديني الإسلام ، ونبيي محمد
، جاءنا بالبينات من عند الله ، فآمنت به وصدّقت. فيقال له : صَدَقْتَ ، على هذا عشت
، وعليه مت ، وعليه تبعث" (3).
وقال ابن جرير : حدثنا مجاهد بن موسى والحسن بن محمد قالا حدثنا يزيد ، أنبأنا
محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة (4) إن الميت ليسمع خفق نعالهم حين
يولون عنه مدبرين ، فإذا كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه ، والزكاة عن يمينه ،
والصيام عن يساره ، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى
الناس عند رجليه ، فيؤتى من عند رأسه فتقول الصلاة : ما قبلي مدخل ، فيؤتى من عن
يمينه فتقول الزكاة : ما قبلي مدخل. فيؤتى عن يساره فيقول الصيام : ما قِبَلي
مَدخَلٌ. فيؤتى من عند رجليه فيقول (5) فعل الخيرات : ما قِبَلي مدخل. فيقال له
اجلس.
فيجلس ، قد تَمثّلت (6) له الشمس ، قد دنت للغروب ، فيقال له أخبرنا عما (7)
نسألك. فيقول : دعوني (8) حتى أصلي. فيقال : إنك ستفعل ، فأخبرنا عما نسألك. فيقول
: وعَمَّ تسألوني ؟ فيقال : أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ، ماذا تقول فيه ،
وماذا تشهد به عليه ؟ فيقول : أمحمد ؟ فيقال له : نعم. فيقول : أشهد أنه رسول الله
، وأنه جاءنا (9) بالبينات من عند الله ، فصدقناه. فيقال له : على ذلك حَييتَ ،
وعلى ذلك متّ ، وعلى ذلك تبعث إن شاء الله. ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا
ويُنَوَّر له فيه ، ويفتح له باب إلى الجنة ، فيقال له : انظر إلى ما أعد الله لك
فيها. فيزداد غبطة [وسرورا] (10) ثم يجعل نسمه في النسم الطيب ، وهي طير خضر تعلق
بشجر الجنة ، ويعاد الجسد إلى ما بدئ منه من التراب" ، وذلك قول الله : {
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } (11).
ورواه ابن حبّان ، من طريق المعتمر بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، وذكر جواب
الكافر
__________
(1) في ت : "ويقال".
(2) سنن الترمذي برقم (1071).
(3) رواه الطبري في تفسيره (16/596).
(4) في ت ، أ : "عن أبي هريرة قال".
(5) في ت : "فتقول".
(6) في ت ، أ : "مثلت".
(7) في ت : "كما".
(8) في ت ، أ : "دعني".
(9) في ت ، أ : "جاء".
(10) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(11) تفسير الطبري (16/596 ، 597).
(4/500)
وعذابه
(1).
وقال البزار : حدثنا سعيد بن بحر القراطيسي ، حدثنا الوليد بن القاسم ، حدثنا يزيد
بن كَيْسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة - أحسَبه رفعه - قال : "إن المؤمن
ينزل به الموت ، ويعاين ما يعاين ، فيودّ (2) لو خرجت - يعني نفسُه - والله يحب
لقاءه ، وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء ، فتأتيه أرواح المؤمنين ، فتستخبره (3)
عن معارفهم من أهل الأرض ، فإذا قال : تركت فلانا في الأرض (4) أعجبهم ذلك. وإذا
قال : إن فلانا قد مات ، قالوا : ما جيء به إلينا. وإن المؤمن يجلس في قبره ،
فيسأل : من ربك ؟ فيقول : ربي الله (5) ويسأل : من نبيك ؟ فيقول : محمد نبيي (6)
فيقال : ماذا دينك ؟ قال : ديني الإسلام. فيفتح له باب في قبره ، فيقول - أو :
يقال - انظر إلى مجلسك. ثم يرى القبر فكأنما كانت رَقْدَة. وإذا كان عَدُو الله
نزل به الموت وعاين ما عاين ، فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبدا ، والله يبغض لقاءه ،
فإذا جلس في قبره - أو : أجلس - يقال له : من ربك ؟ فيقول : لا أدري. فيقال : لا
دريت. فيفتح له باب من جهنم ، ثم يضرب (7) ضربة يسمعها (8) كل دابة إلا الثقلين ،
ثم يقال له : نم كما ينام المنهوش". قلت لأبي هريرة : ما المنهوش ؟ قال :
الذي تنهشه الدواب والحيات ، ثم يضيق عليه قبره.
ثم قال : لا نعلم رواه إلا الوليد بن القاسم (9).
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا حُجَين بن المثنى ، حدثنا عبد العزيز بن أبي
سلمة الماجشون ، عن محمد بن المُنكَدِر قال : كانت أسماء - يعني بنت الصديق - رضي
الله عنها ، تحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت : قال : "إذا دخل الإنسان
قبره ، فإن كان مؤمنا أحَفّ به عملُه : الصلاةُ والصيام" ، قال :
"فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده ، ومن نحو الصيام فيرده" ، قال :
"فيناديه : اجلس. فيجلس. فيقول له : ماذا تقول في هذا الرجل ؟ يعني النبي صلى
الله عليه وسلم ، قال : من ؟ قال : محمد. قال أشهد أنه رسول الله ، قال : يقول :
وما يدريك ؟ أدركته ؟ قال : أشهد أنه رسول الله. قال : يقول : على ذلك عشتَ ،
وعليه متّ ، وعليه تبعثُ. وإن (10) كان فاجرًا أو كافرًا ، جاءه الملك ليس بينه
وبينه شيء يَرُدّه ، فأجلسه يقول : اجلس ، ماذا تقول في هذا الرجل ؟ قال : أي رجل
؟ قال : محمد ؟ قال : يقول : والله ما أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. قال
له الملك : على ذلك عشتَ ، وعليه متَ ، وعليه
__________
(1) صحيح ابن حبان برقم (781) "موارد".
(2) في ت : "فود".
(3) في ت : "فيستخبرونه".
(4) في أ : "في الدنيا".
(5) في ت : "الله ربي".
(6) في ت ، أ : "نبيي محمد".
(7) في ت ، أ : "يضربه".
(8) في ت ، أ : "يسمع".
(9) مسند البزار برقم (874) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(3/52) : "في الصحيح طرف منه رواه البزار ورجاله ثقات خلا سعيد بن بحر
القراطيسى +فإني لم أعرفه".
(10) في ت : "قال : وإن".
(4/501)
تبعثُ.
قال : وتسلَّط عليه دابة في قبره ، معها سوط تَمْرَته (1) جَمرةٌ مثل غَرْب (2)
البعير ، تضربه ما شاء الله ، صماء لا تسمع صوتَه فترحَمه" (3).
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في هذه الآية قال : إن المؤمن إذا
حَضرَه الموت شهدته الملائكة ، فسلموا عليه وبشروه بالجنة ، فإذا مات مَشَوا مع
جنازته ، ثم صَلَّوا عليه مع الناس ، فإذا دفن أجلس في قبره فيقال له : من ربك ؟
فيقول : ربي الله. فيقال له : من رسولك ؟ فيقول : محمد صلى الله عليه وسلم. فيقال
له : ما شهادتك ؟ فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله.
فيوسَّع له في قبره مد بَصَره. وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة ، فيبسطون أيديهم
- "والبسط" : هو الضرب - يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت. فإذا أدخل
قبره أقعد ، فقيل له : من ربك ؟ فلم يَرْجع إليهم شيئا ، وأنساه الله ذكر ذلك.
وإذا قيل : من الرسول الذي بُعثَ إليك ؟ لم يهتد له ، ولم يرجع إليه شيئًا ، كذلك
يضل الله الظالمين.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي ، حدثنا شريح بن مسلمة
حدثنا إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه ، عن أبي إسحاق ، عن عامر بن سعد البجلي ، عن أبي
قتادة الأنصاري في قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } الآية ، قال
: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره ، فيقال (4) له : من ربك ؟ فيقول : الله. فيقال
له : من نبيك ؟ فيقول : محمد بن عبد الله. فيقال له في ذلك مرات. ثم يفتح له باب
إلى النار ، فيقال له : انظر إلى منزلك في النار لو زُغْت (5) ثم يفتح له باب إلى
الجنة ، فيقال له : انظر إلى منزلك [من الجنة إذ ثبت. وإذا مات الكافر أجلس في
قبره ، فيقال له : من ربك ؟ من نبيك ؟ فيقول : لا أدري ، كنت أسمع الناس يقولون.
فيقال له : لا دريت. ثم يفتح له باب إلى الجنة ، فيقال له : انظر إلى منزلك] (6)
لو ثبت ، ثم يفتح له باب إلى النار ، فيقال له : انظر إلى منزلك إذ زغت (7) فذلك
قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ }
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : { يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال : لا
إله إلا الله ، { وَفِي الآخِرَةِ } المسألة في القبر (8).
وقال قتادة : أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ، { وَفِي الآخِرَةِ
} في القبر. وكذا روي عن غير واحد من السلف.
وقال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في كتابه "نوادر الأصول" : حدثنا أبي
، حدثنا عبد الله بن
__________
(1) في ت ، أ : "تمر به".
(2) في ت ، أ : "عرف".
(3) المسند (6/352).
(4) في ت : "يقال".
(5) في ت : "لو رغبت".
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت ، أ : "إذ رغبت".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/296).
(4/502)
نافع
، عن ابن أبي فُدَيْك ، عن عبد الرحمن بن عبد الله (1) عن سعيد بن المسيب ، عن عبد
الرحمن بن سمرة قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، ونحن في
مسجد المدينة ، فقال : "إني رأيت البارحة عجبًا ، رأيت رجلا من أمتي [جاءه
ملك الموت ليقبض روحه ، فجاءه برُّه بوالديه (2) فرد عنه. ورأيت رجلا من أمتي] (3)
قد بسط عليه عذاب القبر ، فجاءه وُضوءه فاستنقذه من ذلك. ورأيت رجلا من أمتي [قد]
(4) احتوشته الشياطين ، فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم. ورأيت رجلا من أمتي قد
احتوشته ملائكة العذاب ، فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم. ورأيت رجلا من أمتي
يلهث عطشا ، كلما ورد حوضا مُنع منه ، فجاءه صيامه فسقاه وأرواه. ورأيت رجلا من
أمتي والنبيون قعود حلَقا حلقا ، وكلما دنا لحقة طردوه ، فجاءه اغتساله من الجنابة
، فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي. ورأيت رجلا من أمتي [من] (5) بين يديه ظلمة ، ومن
خلفه ظلمة ، وعن يمينه ظلمة ، وعن شماله ظلمة ، ومن فوقه ظلمة ، ومن تحته ظلمة ،
وهو متحير فيها ، فجاءته حجته وعمرته ، فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه النور ، ورأيت
رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه ، فجاءته صلَة الرحم ، فقالت : يا معشر
المؤمنين ، كلموه ، فكلموه. ورأيت رجلا من أمتي يتقي وَهَج النَّار أو شَررهَا
بيده عن وجهه ، فجاءته صدقته فصارت سترا على وجهه وظلا على رأسه. ورأيت رجلا من
أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان ، فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ،
فاستنقذاه من أيديهم ، وأدخلاه مع ملائكة الرحمة. ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على
ركبتيه ، بينه وبين الله حجاب ، فجاءه حسن خُلُقه ، فأخذ بيده فأدخله على الله ،
عز وجل. ورأيت رجلا من أمتي قد هَوت صحيفته من قبل شماله ، فجاءه خوفه من الله
فأخذ صحيفته ، فجعلها في يمينه. [ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه ، فجاءته أفراطه
فثقلوا ميزانه] (6) ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم ، فجاءه وجَله من الله
، فاستنقذه من ذلك ومضى. ورأيت رجلا من أمتي هوى في النار ، فجاءته دموعه التي بكى
من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار ، [ورأيت رجلا من أمتي قائما على
الصراط يُرعَد كما ترعد السَّعَفة ، فجاء حسن ظنه بالله ، فسكَّن رِعْدَته ، ومضى]
(7) ورأيت رجلا من أمتي على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا ، فجاءته صلاته عليَّ
، فأخذت بيده فأقامته ومضى على الصراط. ورأيت رجلا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة
، فغلقت الأبواب دونه ، فجاءته شهادة : أن لا إله إلا الله ، ففتحت له الأبواب وأدخلته
الجنة" (8).
قال القرطبي بعد إيراده هذا الحديث من هذا الوجه : هذا حديث عظيم ، ذكرَ فيه
أعمالا خاصة تنجي من أهوال خاصة. أورده هكذا في كتابه "التذكرة" (9).
__________
(1) في التذكرة : "عبد الرحمن بن أبي عبد الله".
(2) في ت : "بوالدته".
(3) زيادة من ت ، أ ، والتذكرة.
(4) زيادة من ت ، أ ، والتذكرة.
(5) زيادة من ت ، أ ، والتذكرة.
(6) زيادة من ت ، أ ، والتذكرة.
(7) زيادة من ت ، أ ، والتذكرة.
(8) ذكره الزبيدي في الإتحاف وعزاه للحكيم في النوادر وضعفه ، ورواه الخرائطي في
مكارم الأخلاق برقم (49) من طريق سعيد بن عبد الله ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن
المسيب ، عن عبد الرحمن بن سمرة مرفوعا بأخصر منه ، وذكر أن ابن تيمية كان يعظم
شأن هذا الحديث ويقول : "شواهد الصحة عليه".
(9) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص 240 - 242).
(4/503)
وقد
روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في هذا حديثا غريبا مطولا فقال : حدثنا أبو عبد الله
(1) أحمد بن إبراهيم النُّكْرِي ، حدثنا محمد بن بكر البرساني أبو عثمان ، حدثنا
أبو عاصم الحبطي - وكان من خيار أهل البصرة ، وكان من أصحاب حزم ، وسلام بن أبي
مطيع - حدثنا بكر بن خنيس ، عن ضرار بن عمرو ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ،
عن تميم الداري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يقول الله ، عز وجل ،
لملك الموت : انطلق إلى وليي فأتني به ، فإني قد ضَربته بالسراء والضراء ، فوجدته
حيث أحب. ائتني به فَلأريحنَّه (2).
فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة ، معهم أكفان وحَنُوط من الجنة ،
ومعهم ضبائر الريحان ، أصل الريحانة واحد وفي رأسها عشرون لونا ، لكل لون منها ريح
سوى ريح صاحبه ، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر. فيجلس (3) ملك الموت عند
رأسه ، وتحف به الملائكة. ويضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ويَبْسط ذلك
الحرير الأبيض والمسك الأذفَر تحت ذقنه ، ويفتَح له بابٌ إلى الجنة ، فإن نفسه
لَتَعلَّلُ عند ذلك بطرف الجنة تارة ، وبأزواجها (4) [مرة] (5) ومرَّةً بكسواتها
ومرة بثمارها ، كما يُعَلّل الصبي أهله إذا بكى". قال : "وإن أزواجه
ليبتهشن عند ذلك ابتهاشًا".
قال : "وتنزو الروح". قال البُرْسَاني : يريد أن تخرج من العَجَل إلى ما
تحب. قال : "ويقول مَلَك الموت : اخرجي يا أيتها الروح الطيبة ، إلى سدر
مخضود ، وطلح منضود ، وظل ممدود ، وماء مسكوب". قال : "ولَمَلَك الموت
أشدّ به لطفا من الوالدة بولدها ، يعرف أن ذلك الروح حبيب لربه ، فهو يلتمس بلطفه
تحببا لديه رضاء للرب عنه ، فتُسَلُّ روحه كما تسل الشعرة من العجين". قال :
"وقال الله ، عز وجل : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ
} [النحل : 32] ، وقال { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ
وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } [الواقعة : 88 ، 89] ، قال : "روح من جهة
الموت ، وريحان يتلقى به ، وجنة نعيم تقابله". قال : "فإذا قَبض ملك
الموت روحه ، قالت الروح للجسد : جزاك الله عني خيرا ، فقد كنت سريعا بي إلى طاعة
الله ، بطيئا بي عن معصية الله ، فقد نجيت وأنجيت". قال : "ويقول الجسد
للروح مثل ذلك".
قال : "وتبكي (6) عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله فيها ، وكل باب من
السماء يصعد منه عمله. وينزل منه رزقه أربعين ليلة".
قال : "فإذا قَبَض ملك الموت روحه ، أقامت الخمسمائة من الملائكة عند جسده ،
فلا يقلبه (7) بنو آدم لشق إلا قلبته الملائكة قبلهم ، وغسلته وكفنته بأكفان قبل
أكفان بني آدم ، وحنوط قبل حنوط
__________
(1) في أ : "أبو عبد الرحمن".
(2) في ت ، أ : "فلأريحه".
(3) في أ : "قال : . فيجلس".
(4) في ت ، أ : "مرة بأزواجها".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) في ت : "ويبكي".
(7) في ت ، أ : "فلا تقلبه".
(4/504)
بني
آدم ، ويقوم من بين باب بيته إلى باب قبره صفّان من الملائكة ، يستقبلونه
بالاستغفار ، فيصيح عند ذلك إبليس صيحة تتصدع (1) منها عظام (2) جسده". قال :
"ويقول لجنوده : الويل لكم. كيف خَلَص هذا العبد منكم ، فيقولون إن هذا كان
عبدا معصوما".
قال : "فإذا صعد ملك الموت بروحه ، يستقبله جبريل في سبعين ألفا من الملائكة
، كل يأتيه ببشارة من ربه سوى بشارة صاحبه". قال : "فإذا انتهى ملك
الموت بروحه إلى العرش ، خَرّ الروح ساجدا". قال : "يقول الله ، عز وجل
، لملك الموت : انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود ، وطلح منضود ، وظل ممدود ،
وماء مسكوب".
قال : "فإذا وضع في قبره ، جاءته الصلاة فكانت عن يمينه ، وجاءه الصيام فكان
عن يساره ، وجاءه القرآن فكان عند رأسه ، وجاءه مشيه إلى الصلاة فكان عند رجليه ،
وجاءه الصبر فكان ناحية القبر". قال : "فيبعث الله ، عز وجل ، عُنُقًا
من العذاب". قال : "فيأتيه عن يمينه" قال : "فتقول الصلاة :
وراءك والله ما زال دائبا عمره كله وإنما استراح الآن حين وضع في قبره". قال
: "فيأتيه عن يساره ، فيقول الصيام مثل ذلك". قال : "ثم يأتيه من
عند رأسه ، فيقول القرآن والذكر مثل ذلك". قال : "ثم يأتيه من عند رجليه
، فيقول مشيه إلى الصلاة مثل ذلك. فلا يأتيه العذاب من ناحية يلتمس هل يجد مساغًا
إلا وجَد ولي الله قد أخذ جنته". قال : "فينقمع العذاب عند ذلك
فيخرج". قال : "ويقول الصبر لسائر الأعمال : أما إنه لم يمنعني أن أباشر
أنا بنفسي إلا أني نظرت ما عندكم ، فإن عجزتم كنت أنا صاحبه ، فأما إذ أجزأتم عنه
فأنا له ذخر عند الصراط والميزان".
قال : "ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف ، وأصواتهما كالرعد القاصف ،
وأنيابهما كالصياصي ، وأنفاسهما كاللهب ، يطآن في أشعارهما ، بين مَنْكِب كل واحد
مسيرة كذا وكذا ، وقد نزعت منهما الرأفة والرحمة ، يقال لهما : منكر ونكير ، في يد
كل واحد منهما مطرقة ، لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يُقلّوها". قال :
"فيقولان له : اجلس". قال : "فيجلس فيستوي جالسا". قال :
"وتقع أكفانه في حقويه". قال : "فيقولان له : من ربك ؟ وما دينك ؟
ومن نبيك ؟".
قال : قالوا : يا رسول الله ، ومن يطيق الكلام عند ذلك ، وأنت تصف من المَلَكَين
ما تصف ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ }
قال : "فيقول : ربي الله وحده لا شريك له ، وديني الإسلام الذي دانت به
الملائكة ، ونبيي محمد خاتم النبيين". قال : "فيقولان : صدقت". قال
: فيدفعان القبر ، فيوسعان من بين يديه أربعين ذراعا ، وعن يمينه أربعين ذراعا ،
وعن شماله (3) أربعين ذراعا ، ومن خلفه أربعين ذراعا ، ومن عند رأسه
__________
(1) في ت ، أ : "يتصدع".
(2) في أ : "بعض عظام".
(3) في أ : "وعن يساره".
(4/505)
أربعين
ذراعا ، ومن عند رجليه أربعين ذراعا". قال : "فيوسعان له مائتي ذراع".
قال البرساني : فأحسبه : وأربعين ذراعا تحاط به (1).
قال : "ثم يقولان له : انظر فوقك ، فإذا باب مفتوح إلى الجنة". قال :
"فيقولان له : وليَّ الله ، هذا منزلك إذ أطعت الله". فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "والذي نفس محمد بيده (2) إنه يصل إلى قلبه عند ذلك
فرحة ، ولا ترتد أبدًا ، ثم يقال له : انظر تحتك". قال : "فينظر تحته
فإذا باب مفتوح إلى النار قال : "فيقولان : ولي الله نجوت آخر ما عليك".
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك فرحة
لا ترتد أبدا". قال : فقالت عائشة : يفتح له سبعة وسبعون بابا إلى الجنة ،
يأتيه ريحها وبردها ، حتى يبعثه الله ، عز وجل.
وبالإسناد المتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ويقول الله تعالى
لملك (3) الموت : انطلق إلى عدوي فأتني به ، فإني قد بسطت له رزقي ، ويَسّرت له
نعمتي ، فأبى إلا معصيتي ، فأتني به لأنتقم منه".
قال : "فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة ما رآها أحد من الناس قَطّ ، له
اثنتا عشرة (4) عينا ، ومعه سَفُود من النار كثير الشوك ، ومعه خمسمائة من
الملائكة ، معهم نحاس وجمر من جمر جهنم ، ومعهم سياط من نار ، لينها لين السياط
وهي نار تأجج". قال : "فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربة يغيبُ كل أصل
شوكة من ذلك السفّود في أصل كل شعرة وعرق وظفر". قال : "ثم يلويه ليا
شديدا". قال : "فينزع روحه من أظفار قدميه". قال :
"فيلقيها" في عقبيه (5) ثم يسكر (6) عند ذلك عدو الله (7) سكرة ، فيرفه
ملك الموت عنه". قال : "وتضرب (8) الملائكة وجهه ودُبُره بتلك
السياط". [قال : "فيشده ملك الموت شدة ، فينزع روحه من عقبيه ، فيلقيها
في ركبتيه ، ثم يسكر عدو الله عند ذلك سكرة ، فيرفه ملك الموت عنه". قال :
"فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط"] (9) قال : "ثم ينتره
(10) ملك الموت نَتَرة ، فينزع روحه من ركبتيه فيلقيها في حقويه". قال :
"فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة ، فيرفّه ملك الموت عنه". قال :
"وتضرب الملائكة (11) وجهه ودُبُره بتلك السياط". قال : "كذلك إلى
صدره ، ثم كذلك إلى حلقه". قال : ثم تبسط الملائكة ذلك النحاس وجمر جهنم تحت
ذقنه". قال : "ويقول ملك الموت : اخرجي أيتها الروح اللعينة الملعونة
إلى سَمُوم وحميم ، وظل من يحموم ، لا بارد ولا كريم".
قال : "فإذا قبض ملك الموت روحه قال الروح للجسد : جزاك الله عني شرا ، فقد
كنت سريعا بي
__________
(1) في أ : "محاط".
(2) في أ : "والذي نفسي بيده".
(3) في أ : "إلى ملك".
(4) في أ : "اثني عشر".
(5) في هـ : "ركبتيه" والمثبت من ت ، أ.
(6) في أ : "قال : فيسكر".
(7) في ت : "قال فيسكر عدو الله عند ذلك".
(8) في ت : "ويضرب".
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) في ت ، أ : "فينتره".
(11) في ت : "فيضرب" ، وفي أ : "فتضرب".
(4/506)
إلى
معصية الله ، بطيئا بي عن طاعة الله ، فقد هلكت وأهلكت" قال : "ويقول
الجسد للروح مثل ذلك ، وتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله عليها ، وتنطلق جنود
إبليس إليه فيبشرونه بأنهم قد أوردوا عبدا من ولد آدم النار".
قال : فإذا وضع في قبره ضُيق عليه قبره حتى تختلف (1) أضلاعه ، حتى تدخل اليمنى في
اليسرى ، واليسرى في اليمنى" قال : "ويبعث الله إليه أفاعي دُهمًا
كأعناق الإبل يأخذن (2) بأرنبته وإبهامي قدميه فيقرضنه حتى يلتقين في وسطه".
قال : "ويبعث الله ملكين أبصارهما (3) كالبرق الخاطف ، وأصواتهما كالرعد
القاصف ، وأنيابهما كالصياصي ، وأنفاسهما كاللهب (4) يطآن في أشعارهما ، بين منكبي
كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا ، قد نزعت منهما الرأفة والرحمة يقال لهما : منكر
ونكير ، في يد كل واحد منهما مطرقة ، لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها"
قال : "فيقولان له : اجلس". قال : "فيستوي جالسا" قال :
"وتقع أكفانه في حقويه" قال : "فيقولان له : من ربك ؟ وما دينك ؟
ومن نبيك ؟ فيقول : لا أدري. فيقولان : لا دريت ولا تَليّت". [قال] (5)
فيضربانه ضربة يتطاير شررها في قبره ، ثم يعودان". قال : "فيقولان :
انظر فوقك. فينظر ، فإذا باب مفتوح من الجنة ، فيقولان : هذا - عدو الله (6) -
منزلك لو أطعت الله".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، إنه ليصل إلى قلبه
عند ذلك حسرة لا ترتد أبدًا".
قال : "ويقولان له : انظر تحتك فينظر تحته ، فإذا باب مفتوح إلى النار ،
فيقولان : عدو الله ، هذا منزلك إذ عصيت الله".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، إنه ليصل إلى قلبه
عند ذلك حسرة لا ترتد أبدا".
قال : وقالت عائشة : ويفتح له سبعة وسبعون بابًا إلى النار ، يأتيه [من] (7) حرها
وسمومها حتى يبعثه الله إليها (8).
هذا حديث غريب جدًا ، وسياق عجيب ، ويزيد الرقاشي - راويه عن أنس - له غرائب
ومنكرات ، وهو ضعيف الرواية عند الأئمة ، والله أعلم.
ولهذا قال أبو داود : حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي ، حدثنا هشام - هو ابن يوسف -
عن عبد الله بن بَحير ، عن هانئ مولى عثمان ، عن عثمان ، رضي الله عنه ، قال : كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه فقال : "استغفروا
لأخيكم ، واسألوا له بالتثبيت ، فإنه الآن يسأل" ، انفرد به أبو
__________
(1) في ت : "يختلف".
(2) في أ : "يأخذونه".
(3) في أ : "أيضا وهما".
(4) في ت : "كاللهيب".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) في ت ، أ : "عدو الله هذا".
(7) زيادة من أ.
(8) أورده ابن حجر في المطالب العالية (4/382) وعزاه لأبي يعلى قال : "هذا
حديث عجيب السياق ، وهو شاهد لكثير مما ثبت في حديث البراء الطويل المشهور ، ولكن
إسناده غريب وفيه ضعف".
(4/507)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
داود
(1).
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مَردُويه عند قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ
الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ }
الآية [الأنعام : 93] حديثا مطولا جدا ، من طريق غريب ، عن الضحاك ، عن ابن عباس
مرفوعا ، وفيه غرائب أيضا (2).
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا
قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ
(29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا
فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) }
(3) قال البخاري : قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ كُفْرًا } ألم تعلم ؟ كقوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ } [إبراهيم : 24] {
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا } [البقرة : 243] البوار : الهلاك ، بار
يبور بَورًا ، و { قَوْمًا بُورًا } [الفرقان : 18 ، الفتح : 12] هالكين.
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء سمع ابن عباس : { أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } قال : هم كفار أهل مكة
(4).
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : هو جبلة بن الأيهم ، والذين اتبعوه من
العرب ، فلحقوا بالروم. والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول الأول ، وإن كان
المعنى يعم جميع الكفار ؛ فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة
للعالمين ، ونعمة للناس ، فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة ، ومن ردها وكفرها دخل
النار.
وقد روي عن علي نحو قول ابن عباس الأول ، قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا شعبة ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي
الطفيل : أن ابن الكواء سأل عليا عن { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } قال : كفار قريش يوم بدر.
حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا بسام - هو الصيرفي (5) - عن
أبي الطفيل قال : جاء رجل إلى علي فقال : يا أمير المؤمنين ، من الذين بدلوا نعمة
الله كفرا وأحلوا قومهم دار
__________
(1) سنن أبي داود برقم (3221).
(2) ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/318) وقال : "أخرج ابن مردويه بسند ضعيف
عن ابن عباس فذكره".
(3) تنبيه : من هذه الآية يبتدئ الاعتماد في تخريج الأحاديث والآثار في تفسير
الطبري على الطبعة المصورة عن الطبعة الأميرية بعد أن كان الاعتماد على الطبعة
التي حققها الفاضلان الشيخ أحمد شاكر والأستاذ محمود شاكر في ستة عشر مجلدا وطبعت
في دار المعارف ، والله أسأل أن يقيض لهذا الكتاب من يكمل تحقيقه فهو من أعظم كتب
التفسير وأجلها ، والله المستعان.
(4) صحيح البخاري برقم (4700).
(5) في ت : "الصرفي".
(4/508)
البوار
؟ قال : منافقو قريش.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل قال : قرأت على مَعْقِل ، عن ابن
أبي حسين (1) قال : قام علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، فقال : ألا أحد يسألني
عن القرآن ، فوالله لو أعلم اليوم أحدا أعلم مني به (2) وإن كان من وراء البحار
لأتيته. فقام عبد الله بن الكواء (3) فقال : من الذين بدلوا نعمة الله كفرًا
وأحلوا قومهم دار البوار ؟ فقال : مشركو قريش ، أتتهم نعمة (4) الله : الإيمان ،
فبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار.
وقال العدوي في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ
كُفْرًا } الآية ، ذكر مسلم المستوفي (5) عن علي أنه قال : هم الأفجران من قريش :
بنو أمية ، وبنو المغيرة ، فأما بنو المغيرة فأحلوا قومهم دار البوار يوم بدر ،
وأما بنو أمية فأحلوا قومهم دار البوار يوم أحد. وكان أبو جهل يوم بدر ، وأبو
سفيان يوم أحد. وأما دار البوار فهي جهنم.
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا الحارث بن منصور ، عن
إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن مرة قال : سمعت عليا قرأ هذه الآية : {
وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } قال : هم الأفجران من قريش : بنو أمية
وبنو المغيرة ، فأما بنو المغيرة فأهلكوا يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتِّعوا إلى
حين.
ورواه أبو إسحاق ، عن عمرو بن مرة ، عن علي ، نحوه ، وروي من غير وجه عنه.
وقال سفيان الثوري ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن سعد ، عن عمر بن الخطاب ، في قوله
: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا } قال : هم
الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكُفيتمُوهُم يوم
بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
وكذا رواه حمزة الزيات ، عن عمرو بن مرة قال : قال ابن عباس لعمر بن الخطاب : يا
أمير المؤمنين ، هذه الآية : { الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا
وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } قال : هم الأفجران من قريش : أخوالي
وأعمامك فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر ، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى
حين.
وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة بن زيد (6) هم كفار قريش الذين قتلوا يوم
بدر وكذا رواه مالك في تفسيرة عن نافع ، عن ابن عمر.
وقوله : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ } أي : جعلوا
له (7) شركاء عبدوهم معه ، ودَعَوُا الناس إلى ذلك.
ثم قال تعالى مهدِّدًا لهم (8) ومتوعدا لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : {
قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }
__________
(1) ت ، أ : : حنين".
(2) في ت ، أ : "به مني".
(3) في ت : "الكراء".
(4) في ت ، أ : "نعم".
(5) في أ : "المسوف".
(6) في ت : "وقتادة وابن زيد".
(7) في ت : "جعلوا لله".
(8) في ت : "له".
(4/509)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
أي :
مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا ، فمهما يكن من شيء { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ
إِلَى النَّارِ } أي : مرجعكم وموئلكم إليها ، كما قال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان : 24] ، وقال تعالى :
{ مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ
الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس : 70].
{ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ
فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) }
يقول تعالى آمرًا العباد (1) بطاعته والقيام بحقه ، والإحسان إلى خلقه ، بأن
يقيموا الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء
الزكوات ، والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب.
والمراد بإقامتها هو : المحافظة على وقتها وحدودها ، وركوعها وخشوعها وسجودها.
وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر ، أي : في الخفية ، والعلانية وهي : الجهر ،
وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ } وهو يوم القيامة
، وهو يوم { لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ } أي : لا يقبل من أحد فدية بأن تباع (2)
نفسه ، كما قال تعالى : { فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ
الَّذِينَ كَفَرُوا } [الحديد : 15].
وقوله : { وَلا خِلالٌ } قال ابن جرير : يقول : ليس هناك مُخَالَّة (3) خليل ،
فيصفح (4) عمن استوجب العقوبة ، عن العقاب لمُخَالَّته ، بل هنالك العدل والقسط ،
فالخلال مصدر ، من قول القائل : "خاللت فلانا ، فأنا أخاله مخالة وخلال"
، ومنه قول امرئ القيس :
صَرَفتُ الهَوَى عَنْهُنَّ من خَشْيَة الرَّدَى... وَلَسْتُ بمقْلى الخلال ولا
قَال (5)
وقال قتادة : إن الله قد علم أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالون بها في الدنيا ،
فينظر رجل من يخالل وعلام صاحب ، فإن كان لله فليداوم ، وإن كان لغير الله فسيقطع
عنه.
قلت : والمراد من هذا أنه يخبر تعالى أنه لا ينفع أحدا بيع ولا فدية ، ولو افتدى
بملء الأرض ذهبا لو وجده ، ولا ينفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافرا
، قال الله تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً
وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ }
[البقرة : 123] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [البقرة : 254].
__________
(1) في ت ، أ : "لعباده".
(2) في ت : "يباع".
(3) في ت : "مخالطة".
(4) في ت : "فصفح".
(5) البيت في تفسير الطبري (13/149).
(4/510)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) }
(4/511)
وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا
تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) }
يعدد تعالى نعمه على خلقه ، بأن خلق لهم السماوات سقفا محفوظًا (1) والأرض فراشًا
، وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى ، ما بين ثمار وزروع ، مختلفة
الألوان والأشكال ، والطعوم والروائح والمنافع ، وسخر الفلك بأن جعلها طافية على
تيار ماء البحر ، تجري عليه بأمر الله تعالى ، وسخر البحر يحملها ليقطع المسافرون
بها من إقليم إلى إقليم آخر ، لجلب ما هنا إلى هناك ، وما هناك إلى هاهنا ، وسخر
الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر ، رزقا للعباد من شرب وسقي وغير ذلك من أنواع
المنافع.
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ } أي : يسيران لا يقران (2)
ليلا ولا نهارا ، { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا
اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس : 40] ، {
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف : 54] ، فالشمس والقمر يتعاقبان ، والليل
والنهار عارضان (3) فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول ، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر ، {
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (4) } [لقمان : 29] ، وقال تعالى : { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى } [الزمر : 5].
وقوله : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } يقول : هيأ لكم كل ما
تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم (5) وقالكم.
وقال بعض السلف : من كل ما سألتموه وما لم تسألوه.
وقرأ بعضهم : "وأتاكم من كل ما سألتموه".
وقوله : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا } يخبر عن عجز العباد
عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب ، رحمه الله : إن حق
الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر (6) من أن يحصيها (7) العباد
، ولكن أصبحوا توابين وامسُوا توابين.
__________
(1) في أ : "مرفوعا".
(2) في أ : "لا يفتران".
(3) في ت ، أ : "يتعارضان".
(4) في هـ ، ت ، أ : "ألا وهو العزيز الغفار" والصواب ما أثبتناه.
(5) في ت ، أ : "لحالكم".
(6) في أ : "أكبر".
(7) في ت ، أ : "تحصيها".
(4/511)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
وفي
صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "اللهم ، لك
الحمد غير مَكْفِيّ ولا مودَع ، ولا مستغنى عنه ربَّنا" (1).
وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث ، حدثنا داود
بن المُحبّر ، حدثنا صالح المرْيّ عن جعفر بن زيد العَبْدِي ، عن أنس ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة (2) دواوين ،
ديوان ، فيه العمل الصالح ، وديوان فيه ذنوبه ، وديوان فيه النعم من الله تعالى
عليه ، فيقول الله لأصغر (3) نعمه - أحسبَه. قال : في ديوان النعم : خذي ثمنك من
عمله الصالح ، فتستوعب عمله الصالح كله ، ثم تَنَحّى وتقول : وعزتك ما استوفيت.
وتبقى الذنوب والنعم (4) فإذا أراد الله أن يرحم قال : يا عبدي ، قد ضاعفتُ لك
حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك - أحسبه قال : ووهبت لك نعمي" (5) غريب ، وسنده
ضعيف.
وقد روي في الأثر : أن داود ، عليه السلام ، قال : يارب ، كيف أشكرك وشكري لك نعمة
منك علي ؟ فقال الله تعالى : الآن شكرتني يا داود ، أي : حين اعترفت بالتقصير عن
أداء شكر النعم.
وقال الشافعي ، رحمه الله : الحمد لله الذي لا يؤدى شكر نعمة من نعمه ، إلا بنعمة
(6) تُوجِب على مُؤدى ماضي نعَمه بأدائها ، نعمة حادثةَ توجب عليه شكره بها (7).
وقال القائل في ذلك :
لو كل جَارِحَة مني لهَا لُغَةٌ... تُثْنيِ عَلَيكَ بما أولَيتَ مِنْ حَسنِ...
لَكَانَ ما زَادَ شُكري إذ شَكَرت به... إليكَ أبلغَ في الإحسَان والمننِ...
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا
مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) }
يذكر تعالى في هذا المقام محتجا على مشركي العرب ، بأن البلد الحرام مكة إنما وضعت
أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه
، آهلة تبرأ ممن عبد غير الله ، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال : { رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } وقد استجاب الله له ، فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ }
[العنكبوت : 67] ، وقال تعالى :
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5458) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
(2) في أ : "ثلاث" وهو خطأ.
(3) في ت ، أ : "لأصغرهم".
(4) في ت ، أ : "والنعم والعمل الصالح فيستوعب عمله الصالح كله".
(5) مسند البزار برقم (3444) "كشف الأستار" وفيه داود بن المحبر وصالح
المرى وهما ضعفيان.
(6) في هـ ، ت ، أ : "بنعمة حادثة" والمثبت من الرسالة.
(7) الرسالة للشافعي (ص 7 ، 8).
(4/512)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
{
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي (1) بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى
لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ
كَانَ آمِنًا } [آل عمران : 96 ، 97] ، وقال في هذه القصة : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا
الْبَلَدَ آمِنًا } فعرفه كأنه دعا به بعد بنائها ؛ ولهذا قال : { الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [إبراهيم
: 39] ، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة ، فأما حين ذهب بإسماعيل
وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة ، فإنه دعا أيضا فقال : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا
آمِنًا } [البقرة : 126] ، كما ذكرناه هنالك في سورة البقرة مستقصى مطولا.
وقال : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ } ينبغي لكل داع أن
يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته.
ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس وأنه برئ ممن عبدها ، ورد أمرهم (2) إلى
الله ، إن شاء عذبهم (3) وإن شاء غفر لهم (4) كما قال عيسى ، عليه السلام : { إِنْ
تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة : 118] ، وليس في هذا أكثر من الرد إلى مشيئة
الله تعالى ، لا تجويز (5) وقوع ذلك.
قال عبد الله بن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث ، أن بكر بن سَوَادة حدثه ، عن عبد
الرحمن بن جُبَير (6) عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا
قول إبراهيم : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وقول (7)
عيسى عليه السلام : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ
لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ورفع يديه ، [ثم] (8) قال :
"اللهم أمتي ، اللهم أمتي ، اللهم أمتي" ، وبكى فقال الله : [يا جبريل]
(9) اذهب إلى محمد - وربك أعلم وسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل ، عليه السلام ، فسأله
، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ، [قال] (10) فقال الله : اذهب إلى
محمد ، فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك (11).
{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ
النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ (37) }
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر
وولدها ، وذلك قبل بناء البيت ، وهذا كان بعد بنائه ، تأكيدًا ورغبة إلى الله ، عز
وجل ؛ ولهذا قال : { عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ }
وقوله : { رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ } قال ابن جرير : هو متعلق بقوله :
"المحرم" أي : إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده.
__________
(1) في أ : "للتي" وهو خطأ.
(2) في أ : "أمره".
(3) في أ : "عذبه".
(4) في أ : "له".
(5) في ت : "لا تحرير".
(6) في أ : "ابن جرير".
(7) في ت ، أ : "وقال".
(8) زيادة من ت ، أ.
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) زيادة من ت.
(11) رواه الطبري في تفسيره (13/151).
(4/513)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
{
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد ،
وسعيد بن جبير : لو قال : "أفئدة الناس" لازدحم عليه فارس والروم
واليهود (1) والنصارى والناس كلهم ، ولكن قال : { مِنَ النَّاسِ } فاختص به
المسلمون.
وقوله : { وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ } أي : ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك
وكما أنه { وَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } فاجعل لهم ثمارا يأكلونها. وقد استجاب الله
ذلك ، كما قال : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ
ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } [القصص : 57] وهذا من لطفه تعالى
وكرمه ورحمته وبركته : أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة ، وهي تجبى إليها
ثمرات ما حولها ، استجابة لخليله إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام.
{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى
اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي
لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي
رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) }
قال ابن جرير : يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم خليله أنه قال : { رَبَّنَا إِنَّكَ
تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } أي : أنت تعلم قصدي في دعائي وما أردت
بدعائي لأهل هذا البلد ، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك ، فإنك تعلم الأشياء
كلها ظاهرها وباطنها ، ولا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم حمد ربه ، عز وجل ، على ما رزقه من الولد بعد الكبر ، فقال : { الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ
رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } أي : إنه ليستجيب لمن دعاه ، وقد استجاب لي فيما
سألته (2) من الولد.
ثم قال : { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ } أي : محافظا عليها مقيما لحدودها
{ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } أي : واجعلهم كذلك مقيمين (3) الصلاة { رَبَّنَا
وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ } أي : فيما سألتك فيه كله.
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } وقرأ بعضهم : "ولوالدي" ، على
الإفراد وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه (4) لما تبين له عداوته (5) لله ، عز وجل ،
{ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } أي : كلهم { يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } أي : يوم تحاسب
عبادك فتجزيهم (6) بأعمالهم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، [والله أعلم] (7).
__________
(1) في ت : "واليهود والروم".
(2) في ت : "فيما سألت".
(3) في ت ، أ : "مقيمي".
(4) في ت : "ابنه".
(5) في أ : "أنه عدو".
(6) في ت : "فيجزيهم".
(7) زيادة من أ.
(4/514)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
{ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ (42) }
(4/515)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
{
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ
هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ }
يقول [تعالى شأنه] (1) { وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ } يا محمد { غَافِلا عَمَّا
يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } أي : لا تحسبه إذ (2) أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم مهمل
لهم ، لا يعاقبهم على صنعهم (3) بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عدا ، أي : { إِنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } أي : من شدة الأهوال يوم
القيامة.
ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم ومجيئهم إلى قيام المحشر فقال : {
مُهْطِعِينَ } أي : مسرعين ، كما قال تعالى : { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ
[يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ] (4) } [القمر : 8] ، وقال تعالى : {
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ
لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } إلى قوله : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ
الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } [طه : 198 - 111] ، وقال تعالى :
{ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ } [المعارج : 43].
وقوله : { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد وغير واحد : رافعي
رءوسهم.
{ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي : [بل] (5) أبصارهم طائرة شاخصة ،
يديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة (6) لما
يحل بهم ، عياذًا بالله العظيم من ذلك ؛ ولهذا قال : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ }
أي : وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة [الفزع و] (7) الوجل والخوف. ولهذا
قال قتادة وجماعة : إن أمكنة أفئدتهم خالية لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من
أماكنها من شدة الخوف. وقال بعضهم : { هَوَاءٌ } خراب لا تعي (8) شيئا.
ولشدة ما أخبر الله تعالى [به] (9) عنهم ، قال لرسوله : { وَأَنْذِرِ النَّاسَ
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ }.
{ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ
دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ
مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ
الأمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ
كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "إذا".
(3) في ت ، أ : "صنيعهم".
(4) زيادة من ت ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) زيادة من أ.
(6) في ت : "والمخافة والفكرة".
(7) زيادة من ت ، أ.
(8) في أ : "لا يعي".
(9) زيادة من ت.
(4/515)
يقول
تعالى مخبرًا عن قيل الذين ظلموا أنفسهم ، عند معاينة العذاب : { رَبَّنَا
أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ } كما
قال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ
قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون :
99 ، 100] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى
أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ (1) مِنَ الصَّالِحِينَ } [المنافقون : 9 ،
10] ، وقال تعالى مخبرا عنهم في حال محشرهم : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا
فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة : 12] ، وقال تعالى :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ
وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا
لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا
عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام : 27 ، 28] ، وقال تعالى : { وَهُمْ
يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ
وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [فاطر :
37].
وقال تعالى رادا عليهم في قولهم هذا : { أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ
قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } أي : أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحال :
أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه ، وأنه لا معاد ولا جزاء ، فذوقوا هذا بذاك.
قال مجاهد وغيره : { مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } أي : ما لكم من انتقال من الدنيا
إلى الآخرة ، كما أخبر عنهم تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا }
[النحل : 38].
{ وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ
كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ } أي : قد رأيتم وبلغكم ما
أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ، ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ، ولم يكن فيما
أوقعنا بهم مزدجر لكم (2) { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } [القمر :
5].
وقد روى شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن [بن دابيل] (3) أن عليا ، رضي الله
عنه ، قال في هذه الآية : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ
} قال : أخذ ذاك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين ، فرباهما حتى استغلظا
واستعلجا وشبا (4).
قال : فأوثق رِجْل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوعهما ، وقعد هو ورجل آخر في
التابوت قال : - ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم - قال : فطارا [قال] (5) وجعل
يقول لصاحبه : انظر ، ما (6) ترى ؟ قال : أرى كذا وكذا ، حتى قال : أرى الدنيا
كلها كأنها ذباب. قال : فقال : صوب العصا ،
__________
(1) في أ : "وأكون".
(2) في ت : "لكم مزدجر".
(3) زيادة من ت ، وفي أ : "بن دنيال".
(4) في ت : "فشبا".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) في ت : "ماذا".
(4/516)
فصوبها
، فهبطا. قال : فهو قول الله ، عز وجل : "وإن كاد مكرهم لتزول منه
الجبال". قال أبو إسحاق : وكذلك هي في قراءة عبد الله : "وإن كاد
مكرهم" (1).
قلت : وكذا رُوي عن أبي بن كعب ، وعمر بن الخطاب ، رضي الله عنهما ، أنهما قرآ :
"وإن كاد" ، كما قرأ علي. وكذا رواه سفيان الثوري ، وإسرائيل ، عن أبي
إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أذنان (2) عن علي ، فذكر نحوه.
وكذا رُوي عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمرود ملك كنعان : أنه رام أسباب السماء
بهذه الحيلة والمكر ، كما رام ذلك بعده فرعون ملك القبط في بناء الصرح ، فعجزا
وضعفا. وهما أقل وأحقر ، وأصغر وأدحر.
وذكر مجاهد هذه القصة عن بختنصر ، وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها ، نودي
أيها الطاغية : أين تريد ؟ فَفَرق ، ثم سمع الصوت فوقه فصوب الرماح ، فصَوبت
النسور ، ففزعت الجبال من هدتها ، وكادت الجبال أن تزول من حس (3) ذلك ، فذلك قوله
: { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }
ونقل ابن جُريج (4) عن مجاهد أنه قرأها : "لَتَزُولُ منه الجبال" ، بفتح
اللام الأولى ، وضم (5) الثانية.
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبَالُ } يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال. وكذا قال الحسن البصري ،
ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من كفرهم بالله وشركهم به ، ما ضر ذلك
شيئا من الجبال ولا غيرها ، وإنما عاد وبال ذلك على أنفسهم.
قلت : ويشبه هذا إذا قوله تعالى : { وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ
تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } [الإسراء : 37].
والقول الثاني في تفسيرها : ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ
كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } يقول شركهم ، كقوله : { تَكَادُ
السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ
هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } [مريم : 90 - 91] ، وهكذا قال الضحاك
وقتادة.
__________
(1) تفسير الطبري (13/160) ، وصوب العصا : خفضها وأنزلها أ. هـ. مستفادا من حاشية
الشعب.
(2) في ت : "أرباب" ، وفي أ : "أريان".
(3) في ت : "من حين".
(4) في أ : "ابن جرير".
(5) في ت ، أ : "ورفع".
(4/517)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو
انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ
وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) }
يقول تعالى مقررًا لوعده ومؤكدًا : { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ
رُسُلَهُ } أي : من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
ثم أخبر أنه ذو عزة لا يمتنع (1) عليه شيء أراده ، ولا يغالب ، وذو انتقام ممن (2)
كفر به وجحده { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ } [الطور : 11] ؛ ولهذا قال :
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } أي : وعده هذا حاصل
يوم تبدل الأرض غير الأرض ، وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة ، كما جاء في
الصحيحين ، من حديث أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء ، كقرصة النقي ، ليس
فيها معلم لأحد" (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن
عائشة أنها قالت : أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية :
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ
الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } قالت : قلت : أين الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال :
"على الصراط".
رواه مسلم منفردًا به دون البخاري ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث داود بن أبي
هند ، به (4) وقال الترمذي : حسن صحيح.
ورواه أحمد أيضا ، عن عفان ، عن وهيب (5) عن داود ، عن الشعبي ، عنها (6) ولم يذكر
مسروقًا (7).
وقال قتادة ، عن حسان بن بلال المزني ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ
وَالسَّمَاوَاتُ } قال : قالت (8) يا رسول الله ، فأين الناس يومئذ ؟ قال : "لقد
سألتني (9) عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي ، ذاك أن الناس على جسر جهنم (10)
(11).
وروى الإمام أحمد ، من حديث حبيب بن أبي عمرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، حدثتني
عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن قوله تعالى : { وَالأرْضُ
جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
} [الزمر : 67] ،
__________
(1) في ت : "تمتنع".
(2) في ت : "بمن".
(3) صحيح البخاري برقم (6521) وصحيح مسلم برقم (2790).
(4) المسند (6/35) وصحيح مسلم برقم (2791) وسنن الترمذي برقم (3121) وابن ماجة
برقم (4279).
(5) في ت : "وهب".
(6) في ت : "عنهما".
(7) المسند (6/134).
(8) في ت ، أ : "قلت".
(9) في ت : "سألتني".
(10) في ت : "على حشرهم".
(11) رواه الطبري في تفسيره (13/166).
(4/518)
فأين
الناس يومئذ يا رسول الله ؟ قال : "هم على متن جهنم" (1).
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرني القاسم ، سمعت الحسن
قال : قالت عائشة : يا رسول الله ، { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ }
فأين الناس يومئذ ؟ قال : "إن هذا شيء ما سألني عنه أحد" ، قال :
"على الصراط يا عائشة".
ورواه أحمد ، عن عفان (2) عن القاسم بن الفضل ، عن الحسن ، به (3).
وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثني الحسن بن علي الحلواني ، حدثنا أبو
تَوْبة الربيع بن نافع ، حدثنا معاوية بن سلام ، عن زيد - يعني : أخاه - أنه سمع
أبا سلام ، حدثني أبو أسماء الرَّحَبِي ؛ أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه
وسلم حدثه قال : كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه (4) حَبر من
أحبار اليهود ، فقال : السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يُصرَع منها ، فقال :
لم تدفعني ؟ فقلت : ألا تقول : يا رسول الله ؟! فقال اليهودي : إنما ندعوه باسمه
الذي سَمّاه به أهله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن اسمي محمد
الذي سماني به أهلي". فقال اليهودي : جئت أسألك. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "أينفعك شيء إن حدثتك ؟" فقال : أسمع بأذني. فنكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعود معه ، فقال : "سل". فقال اليهودي : أين يكون
الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"هم في الظلمة دون الجسر" (5) قال : فمن أول الناس إجازة ؟ قال : فقال :
"[فقراء] (6) المهاجرين". قال اليهودي : فما تُحْفَتهُم حين يدخلون
الجنة ؟ قال : "زيادة كبد النون" قال : فما غذاؤهم في أثرها ؟ قال :
"ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها". قال : فما شرابهم عليه
؟ قال : "من عين فيها تسمى سلسبيلا". قال : صدقت. قال : وجئت أسألك عن
شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان ؟ قال : "أينفعك إن
حدثتك ؟" قال : أسمع بأذني. قال : جئت أسألك عن الولد. قال : "ماء الرجل
أبيض وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعا فَعَلا منيُّ الرجل منيَّ المرأة أذكرا (7)
بإذن الله - تعالى - وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنَّثا بإذن الله" قال
اليهودي : لقد صدقت ، وإنك لنبي. ثم انصرف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه ، وما لي علم بشيء منه ، حتى أتاني الله
به" (8).
[و] (9) قال أبو جعفر بن جرير الطبري : حدثني ابن عوف ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا
ابن أبي
__________
(1) المسند (6/117).
(2) في ت ، أ : "عثمان".
(3) تفسير الطبري (13/166) والمسند (6/101).
(4) في ت : "فجاء".
(5) في ت : "الحشر".
(6) زيادة من ت ، أ ، ومسلم.
(7) في أ : "ذكرا".
(8) صحيح مسلم برقم : (315).
(9) زيادة من ت.
(4/519)
مريم
، حدثنا سعيد بن ثوبان الكَلاعي ، عن أبي أيوب الأنصاري ، قال : أتى النبيَّ صلى
الله عليه وسلم حَبْر من اليهود فقال : أرأيت إذ يقول الله في كتابه : { يَوْمَ
تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } فأين الخَلْق عند ذلك ؟ فقال
: "أضياف الله ، فلن يعجزهم ما لديه" (1).
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم ، به.
وقال شعبة : أخبرنا أبو إسحاق ، سمعت عمرو بن ميمون - وربما قال : قال عبد الله ،
وربما لم يقل - فقلت له : عن عبد الله ؟ فقال : سمعت عمرو بن ميمون يقول : {
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ } قال : أرض كالفضة البيضاء نقية ، لم
يسفك فيها دم ، ولم يعمل عليها (2) خطيئة ، ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي ، حفاةً
عراة كما خلقوا. قال : أراه قال : قياما حتى يُلجِمَهم العرق (3).
وروي من وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن ابن
مسعود ، بنحوه. وكذا رواه عاصم ، عن زرّ ، عن ابن مسعود ، به.
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، لم يخبر به. أورد ذلك كله
ابن جرير (4).
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الله بن عُبَيد بن عَقِيل ،
حدثنا سهل بن حماد أبو عتاب ، حدثنا جرير بن أيوب ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن
ميمون ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله ، عز وجل : {
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ } قال : "أرض بيضاء لم يسقط عليها
دم (5) ولم يعمل عليها خطيئة". ثم قال : لا نعلم رفعه إلا جرير بن أيوب ، وليس
بالقوي (6).
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثا معاوية بن هشام ، عن سنان (7) عن جابر
الجُعْفي ، عن أبي جُبَيرة (8) عن زيد قال : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى اليهود فقال : "هل تدرون لم أرسلت إليهم ؟" قالوا : الله ورسوله
أعلم. قال : "أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ
غَيْرَ الأرْضِ } إنها تكون يومئذ بيضاء مثل الفضة". فلما جاءوا سألهم فقالوا
: تكون بيضاء مثل النَّقِي (9).
وهكذا رَوى عن علي ، وابن عباس ، وأنس بن مالك ، ومجاهد بن جبير : أنها تبدل يوم
القيامة بأرض من فضة.
وعن علي ، رضي الله عنه ، أنه قال : تصير الأرض فضة ، والسموات ذهبا.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (13/164).
(2) في ت ، أ : "فيها".
(3) تفسير الطبري (13/164).
(4) تفسير الطبري (13/164).
(5) في ت : "دما".
(6) مسند البزار برقم (3431) "كشف الأستار" وجرير بن أيوب ضعفه الأئمة.
(7) في ت ، أ : "شيبان".
(8) في أ : "عن ابن حبرة".
(9) تفسير الطبري (13/164).
(4/520)
وقال
الربيع : عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : تصير السموات جنانا.
وقال أبو مِعْشر ، عن محمد بن كعب القرظي ، أو عن محمد بن قيس في قوله : { يَوْمَ
تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ } قال : [تبدل] (1) خبزة يأكل منها المؤمنون (2)
من تحت أقدامهم (3).
وكذا رَوَى وَكِيع ، عن عمر بن بشير الهمداني ، عن سعيد بن جبير في قوله : {
يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ } قال : تبدل خبزة بيضاء ، يأكل المؤمن
من تحت قدميه.
وقال الأعمش ، عن خَيْثَمة قال : قال عبد الله - هو ابن مسعود - : الأرض كلها يوم
القيامة (4) نار ، والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها ، ويُلجِمُ الناس العرقُ
، أو يبلغ منهم العرق ، ولم يبلغوا الحساب.
وقال الأعمش أيضًا ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن قيس بن السكن (5) قال : قال عبد
الله : الأرض كلها نار يوم القيامة ، [و] (6) الجنة من ورائها ، ترى أكوابها
وكواعبها ، والذي نفس عبد الله بيده ، إن الرجل ليفيض عرقا حتى ترسخ (7) في الأرض
قدمه ، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه ، وما مسه الحساب. قالوا (8) مم ذاك يا أبا عبد الرحمن
؟ قال : مما يرى الناس يلقون (9).
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن كعب في قوله : { يَوْمَ تُبَدَّلُ
الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } قال : تصير السموات جنانا ، ويصير مكان
البحر نارًا ، وتبدل الأرض غيرها.
وفي الحديث الذي رواه أبو داود : "لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر ،
فإن تحت البحر نارا - أو : تحت النار بحرا". (10)
وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال : "تبدل الأرض غير الأرض والسموات ، فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي ،
لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ثم يزجر الله الخلق زجرة ، فإذا هم في هذه
المبدلة" (11).
وقوله : { وَبَرَزُوا لِلَّهِ } أي : خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله {
الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } أي : الذي
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت ، أ : "المؤمن"
(3) في أ : "قدميه".
(4) في ت : "يوم القيامة كلها".
(5) في ت : "ابن سكن".
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت : "يرسخ" ، وفي أ : "يرشح".
(8) في ت : "فقالوا".
(9) تفسير الطبري (13/164 ، 165).
(10) سنن أبي داود برقم (2489) ولفظه : "فإن تحت البحر نارا ، وتحت النار
بحرا" رواه من طريق بشر أبي عبد الله ، عن بشير بن مسلم ، عن عبد الله بن
عمرو مرفوعا ، وقد ضعف هذا الحديث جماعة من الأئمة. انظر أقوالهم في : السلسلة
الضعيفة برقم (478).
(11) سبق تخريج الحديث عند تفسير سورة الأنعام.
(4/521)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
قهر
كل شيء وغلبه ، ودانت له الرقاب ، وخضعت له الألباب.
{ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ (49)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ
اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) }
يقول تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } وتبرز الخلائق
لديَّانها ، ترى يا محمد يومئذ المجرمين ، وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم ، {
مقرنين } أي : بعضهم إلى بعض ، قد جمع بين النظراء أو الأشكال (1) منهم ، كل صنف
إلى صنف ، كما قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ }
[الصافات : 22] ، وقال : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [التكوير : 7] ، وقال :
{ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ
ثُبُورًا } [الفرقان : 13] ، وقال : { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصْفَادِ } [ص : 37 ، 38].
والأصفاد : هي القيود ، قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والأعمش ، وعبد الرحمن بن
زيد. وهو مشهور في اللغة ، قال عمرو بن كلثوم.
فَآبُوا (2) بالثياب وبالسّبايا وأُبْنَا بالمُلُوك (3) مُصَفّدينا (4)
وقوله : { سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ } أي : ثيابهم التي يلبسونها عليهم من
قطران ، وهو الذي تُهنأ به الإبل ، أي : تطلى ، قاله قتادة. وهو ألصق شيء بالنار.
ويقال فيه : "قَطِران" ، بفتح القاف وكسر الطاء ، وبفتح القاف وتسكين
الطاء ، وبكسر القاف وتسكين الطاء ، ومنه قول أبي النجم.
كأنّ قِطْرانًا إذَا تَلاهَا... تَرْمي (5) به الرّيح إلى مَجْراها (6)
وكان ابن عباس يقول : القَطران هو : النحاس المذاب ، وربما قرأها :
"سَرَابيلهم من قَطِران" أي : من نحاس حار قد انتهى حره. وكذا روي عن
مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جُبَير ، والحسن ، وقتادة.
وقوله : { وَتَغْشَى (7) وُجُوهَهُمُ النَّارُ } كقوله : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [المؤمنون : 104].
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أنبأنا أبان بن يزيد ، عن
يحيى بن أبي
__________
(1) في ت : "النظر والأشكال".
(2) في ت : "فأتوا".
(3) في ت : "وابنا الملوك" ، وفي أ : "وأبناء الملوك".
(4) البيت في تفسير الطبري (13/167).
(5) في ت : "يرمى".
(6) البيت في تفسير الطبري (13/167).
(7) في ت : "ويغشى".
(4/522)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
كثير
، عن زيد ، عن أبي سلام ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أربع من أمر الجاهلية لا يُتْرَكن (1) الفخر بالأحساب ، والطعن في
الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة ، والنائحة (2) إذا لم تتب قبل موتها ،
تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرْع من جَرَب". انفرد بإخراجه
مسلم (3).
وفي حديث القاسم ، عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "النائحة إذا لم تتب ، توقف في طريق (4) بين الجنة والنار ، وسرابيلها
من قطران ، وتغشى وجهها النار" (5).
وقوله : { لِيَجْزِيَ اللَّهُ } أي : يوم (6) القيامة ، كما قال : { لِيَجْزِيَ
الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
} [النجم : 31].
{ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } يحتمل أن يكون كقوله (7) تعالى : {
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } ويحتمل أنه في
حال محاسبته (8) لعبده سريع النَّجاز ؛ لأنه يعلم كل شيء ، ولا يخفى عليه خافية ،
وإن جميع الخلق (9) بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم ، كقوله تعالى : { مَا
خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28] ، وهذا معنى
قول مجاهد : { سَرِيعُ الْحِسَابِ } [إحصاء] (10).
ويحتمل أن يكون المعنيان مرادين ، والله أعلم.
{ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ (52) }
يقول تعالى : هذا القرآن بلاغ للناس ، كقوله : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
} [الأنعام : 19] ، أي : هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجان ، كما قال في أول السورة
: { الر كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ }
{ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ } أي : ليتعظوا (11) به ، { وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ
إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو
(12) { وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبَابِ } أي : ذوو العقول.
__________
(1) في ت : "لا بد لهن" ، وفي أ : "لا يزكهن".
(2) في أ : "والنابحة".
(3) المسند (5/342) وصحيح مسلم برقم (934).
(4) في ت : "الطريق".
(5) رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/238) من طريق عبيد الله بن زحر ، عن علي بن
يزيد ، عن القاسم ، وكلهم ضعفاء - عن أبي أمامة به. وقد قال ابن حبان : "إذا
جاء الحديث من طريق عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، فهو مما صنعته
أيديهم".
(6) في ت ، أ : "أي يقسم يوم".
(7) في ت : "قوله".
(8) في ت : "محسباته".
(9) في ت : "الخلائق".
(10) زيادة من ت ، أ.
(11) في ت ، أ : "يتعظوا".
(12) في ت ، أ : "إلا الله".
(4/523)
الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
تفسير
سورة الحجر
وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) }
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقوله : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } إخبار
عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر ، ويتمنون لو كانوا مع المسلمين في
الدار الدنيا. (1)
ونقل (2) السُّدِّيّ في تفسيره بسنده المشهور عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وغيرهما
من الصحابة : أن الكفار (3) لما عُرضوا على النار ، تمنوا أن لو كانوا مسلمين.
وقيل : المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا.
وقيل : هذا إخبار عن يوم القيامة ، كما في قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ
وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ
رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنعام : 27]
وقال سفيان الثوري : عن سلمة بن كُهَيْل ، عن أبي الزعراء ، عن عبد الله في قوله :
{ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } قال : هذا في
الجُهنَمين إذ رأوهم يخرجون من النار.
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا مسلم ، حدثنا القاسم ، حدثنا ابن أبي فَرْوة
العَبْدي ؛ أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية : { رُبَمَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } يتأولانها : يوم يحبس الله أهل
الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار. قال : فيقول لهم المشركون : ما أغنى
عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا. قال : فيغضب الله لهم بفضل رحمته ، فيخرجهم ، فذلك
حين يقول : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ }
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن خصيف ، عن مجاهد
قالا يقول أهل النار للموحدين : ما أغنى عنكم إيمانكم ؟ فإذا (4) قالوا ذلك. قال :
أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة. قال : فعند ذلك قوله : { [رُبَمَا] يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } (5) (6)
وهكذا روي عن الضحاك ، وقتادة ، وأبي العالية ، وغيرهم. وقد ورد في ذلك أحاديث
مرفوعة ، فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني.
__________
(1) في ت : "في الدار الدنيا مع المسلمين"
(2) في أ : "وقال".
(3) في ت ، أ : "أن كفار بدر".
(4) في ت ، أ : "قال : فإذا".
(5) زيادة من ت ، أ.
(6) تفسير عبد الرزاق (1/299).
(4/524)
حدثنا
محمد بن العباس ، هو الأخرم ، حدثنا محمد بن منصور الطوسي ، حدثنا صالح بن إسحاق
الجهبذ (1) دلني عليه يحيى بن معين (2) حدثنا مُعَرّف (3) بن واصل ، عن يعقوب بن
أبي نباتة (4) عن عبد الرحمن الأغر ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن ناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون
النار بذنوبهم ، فيقول لهم أهل اللات والعزى : ما أغنى عنكم قولكم : لا إله إلا الله
وأنتم معنا في النار ؟. فيغضب الله لهم ، فيخرجهم ، فيلقيهم في نهر الحياة ،
فيبرءون من حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه ، فيدخلون الجنة ، ويسمَّون فيها
الجهنميين" (5) فقال رجل : يا أنس ، أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله
عليه وسلم ؟ فقال أنس : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من كذب
علي متعمدًا ، فليتبوأ مقعده من النار". نعم ، أنا سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول هذا.
ثم قال الطبراني : تفرد به الجهبذ (6) (7)
الحديث الثاني : وقال الطبراني أيضا : حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبو
الشعثاء (8) علي بن حسن الواسطي ، حدثنا خالد بن نافع الأشعري ، عن سعيد بن أبي
بردة ، عن أبيه ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إذا اجتمع أهل النار في النار ، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ،
قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين ؟ قالوا : بلى. قالوا : فما أغنى عنكم
الإسلام! فقد صرتم (9) معنا في النار ؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها. فسمع
(10) الله ما قالوا ، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا ، فلما رأى ذلك
من بقي من الكفار قالوا : يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا". قال : ثم
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، { الر تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِين رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ
كَانُوا مُسْلِمِينَ } (11)
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث خالد بن نافع ، به ، وزاد فيه : (بسم الله الرحمن
الرحيم) ، عوض الاستعاذة.
الحديث الثالث : وقال الطبراني (12) أيضا : حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا إسحاق بن
راهويه قال : قلت لأبي أسامة : أحدثكم أبو روق (13) - واسمه عطية بن الحارث - :
حدثني صالح بن أبي طريف قال : سألت أبا سعيد الخدري فقلت له : هل سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية : { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } ؟ قال : نعم ، سمعته يقول : "يُخرج الله ناسا من
المؤمنين من
__________
(1) في ت : "الجهذ".
(2) في هـ : "رأى علية بن موسى" والمثبت من المعجم.
(3) في ت ، لأ : "معروف".
(4) في ت ، أ ، هـ : "يعقوب بن نباتة" والصواب ما أثبتناه من المعجم
والتهذيب.
(5) في ت ، أ : "الجهنميون".
(6) في ت : "الجهبذ".
(7) المعجم الأوسط برقم (4821) "مجمع البحرين" وقال الهيثمي في المجمع
(10/380) : "فيه من لم أعرفهم".
(8) في ت : "أبو السقا".
(9) في ت ، أ : "حشرتم".
(10) في أ : "فيسمع".
(11) قال الهيثمي في المجمع (7/45) : "رواه الطبراني ، وفيه خالد بن نافع
الأشعري ، قال أبو داود : متروك. وقال الذهبي : هذا تجاوز في الحد فلا يستحق الترك
، فقد حدث عنه أحمد بن حنبل وغيره ، وبقية رجاله ثقات" ورواه ابن أبي عاصم في
السنة برقم (843) والحاكم في المستدرك (2/242) عن أبي الشعثاء به ، وقال الحاكم :
"صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(12) في ت : "وقال الطبراني الحديث الثالث".
(13) في ت : "أبو أروق".
(4/525)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
النار
بعد ما يأخذ نقمته منهم" ، وقال : "لما أدخلهم الله النار مع المشركين
قال لهم المشركون : تزعمون أنكم أولياء الله في الدنيا ، فما بالكم معنا في النار
؟ فإذا سمع الله ذلك منهم ، أذن في الشفاعة لهم فتشفع (1) الملائكة والنبيون ،
ويشفع (2) المؤمنون ، حتى يخرجوا بإذن الله ، فإذا رأى المشركون ذلك ، قالوا : يا
ليتنا كنا مثلهم ، فتدركنا الشفاعة ، فنخرج معهم". قال : "فذلك قول الله
: { رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } فيسمون في
الجنة الجُهَنَّمِيِّين (3) من أجل سَواد في وجوههم ، فيقولون : يا رب ، أذهب عنا
هذا الاسم ، فيأمرهم فيغتسلون في نهر الجنة ، فيذهب ذلك الاسم عنهم" ، فأقر
به أبو أسامة ، وقال : نعم. (4)
الحديث الرابع (5) وقال (6) ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا العباس بن
الوليد النرسي (7) حدثنا مسكين أبو فاطمة ، حدثني اليمان بن يزيد ، عن محمد بن
حِمْير (8) عن محمد بن علي ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "منهم من تأخذه النار إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ،
ومنهم من تأخذه النار إلى عنُقه ، على قدر ذنوبهم وأعمالهم ، ومنهم من يمكث فيها
شهرا ثم يخرج منها ، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها ، وأطولهم فيها مكثا
بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى ، فإذا أراد الله أن يخرجوا منها قالت اليهود
والنصارى ومن في النار من أهل (9) الأديان والأوثان ، لمن في النار من أهل التوحيد
: آمنتم بالله وكتبه ورسله ، فنحن وأنتم اليوم في النار سواء ، فيغضب الله لهم
غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى ، فيخرجهم إلى عين في الجنة ، وهو قوله : { رُبَمَا
يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } (10).
وقوله : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا } تهديد لهم شديد ، ووعيد أكيد ،
كقوله تعالى : { قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } [إبراهيم
: 30] وقوله : { كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ } [المرسلات
: 46] ولهذا قال : { وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ } أي : عن التوبة والإنابة ، { فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ } أي : عاقبة أمرهم.
{ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا
تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) }
يقول تعالى : إنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها ، وإنه لا
يؤخر أمة حان هلاكها (11) عن ميقاتها ولا يتقدمون عن مدتهم. وهذا تنبيه لأهل مكة ،
وإرشاد لهم إلى الإقلاع عما
__________
(1) في ت ، أ : "فيشفع".
(2) في ت : "وشفع".
(3) في ت ، أ : "الجهنمية"
(4) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2599) "موارد" من طريق عمر بن محمد
بن أبان ، عن أبي أسامة به نحوه.
(5) في ت : "وقال الحديث الرابع".
(6) في ت : "وحدثنا".
(7) في ت : "الزيني" ، وفي أ : "الزينبي".
(8) في ت ، أ : "جبير" ، وفي هـ : "جبر".
(9) في ت ، أ : "وأهل".
(10) ورواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/457) من طريق البغوي عن عباس بن
الوليد النرسي به ، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (6/156) وابن الجوزي في العلل
المتناهية (2/456) من طريق إبراهيم بن محمد السامري ، عن عباد بن الوليد الغبري ،
عن أبي فاطمة ، عن اليمان بن يزيد به نحوه ، وقال ابن الجوزي : "هذا حديث لا
يصح وفيه جماعة مجاهيل".
(11) في ت : "هلاكهم".
(4/526)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
هم
فيه من الشرك والعناد والإلحاد ، الذي يستحقون به الهلاك.
{ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ
(6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا
نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا
نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }
يخبر تعالى عن كفرهم وعتوهم وعنادهم في قولهم : { يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ } أي : الذي يدعي ذلك { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } أي : في دعائك
إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا. { لَوْ مَا } أي : هلا { تَأْتِينَا
بِالْمَلائِكَةِ } أي : يشهدون لك بصحة ما جئت به { إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ } كما قال فرعون : { فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ مِنْ
ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } [الزخرف : 53] { وَقَالَ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ
نَرَى رَبَّنَا لَقَدْ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا
كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ
وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } [الفلاقان : 21 ، 22]
وكذا (1) قال في هذه الآية : { مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا
كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ }
وقال مجاهد في قوله : { مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ } بالرسالة
والعذاب.
ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل الذكر ، وهو القرآن ، وهو الحافظ له من التغيير
والتبديل.
ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى : { لَهُ لَحَافِظُونَ } على النبي صلى الله
عليه وسلم ، كقوله : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة : 67]
والمعنى الأول أولى ، وهو ظاهر السياق ، [والله أعلم] (2)
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ (10) وَمَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ
نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ
سُنَّةُ الأوَّلِينَ (13) }
يقول تعالى مسليًا لرسوله في تكذيب من كذَّبه من كفار قريش : إنه أرسل من قَبْله
في الأمم الماضية ، وإنه ما أتى أمة رسول إلا كذبوه واستهزؤوا به.
ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى.
قال أنس ، والحسن البصري : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ }
يعني : الشرك.
وقوله : { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } أي : قد علم ما فعل تعالى بمن كذب
رسله من الهلاك والدمار ، وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) في ت ، أ : "وهكذا".
(2) زيادة من أ.
(4/527)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
{
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ
(14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ
(15) }
يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق : أنه لو فتح لهم بابًا من السماء
، فجعلوا يصعدون فيه ، لما صدّقوا بذلك ، بل قالوا : { سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا }
قال مجاهد وابن كثير ، والضحاك : سدت أبصارنا.
وقال قتادة ، عن ابن عباس : أخذت أبصارنا.
وقال العوفي عن ابن عباس : شُبه علينا ، وإنما سحرنا.
وقال الكلبي : عَميت أبصارنا.
وقال ابن زيد : { سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } السكران (1) الذي لا يعقل.
__________
(1) في أ : "السكر".
(4/528)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ
فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا
رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا
لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) }
يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زَيَّنَها به من الكواكب الثواقب ، لمن
تأملها ، وكرر النظر (1) فيها ، يرى فيها من العجائب والآيات الباهرات ، ما يحار
نظره فيه. ولهذا قال مجاهد وقتادة : البروج هاهنا هي : الكواكب.
قلت : وهذا كقوله تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا
وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا } [الفرقان : 61] ومنهم من قال :
البروج هي : منازل الشمس والقمر.
وقال عطية العوفي : البروج هاهنا : هي قصور الحرس (2)
وجعل الشُهب حرسًا لها من مَرَدة الشياطين ، لئلا يسمعوا (3) إلى الملأ الأعلى ،
فمن تمرد منهم [وتقدم] (4) لاستراق السمع ، جاءه { شِهَابٌ مُبِينٌ } فأتلفه ،
فربما يكون قد ألقى الكلمة التي سمعها قبل أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه ،
فيأخذها الآخر ، ويأتي بها إلى وليه ، كما جاء مصرحا به في الصحيح ، كما قال
البخاري في تفسير هذه الآية :
حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان (5) عن عمرو ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ،
يبلُغُ به النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : "إذا قضى الله الأمر في السماء ،
ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعانًا لقوله كأنه سلسلة على صَفوان". قال علي ،
وقال غيره : صفوان يَنفُذهم ذلك ، فإذا فُزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟
قالوا : الذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو
السمع ،
__________
(1) في ت : "نظره".
(2) في ت : "الحرس فيها".
(3) في أ : "لئلا يسمعوا".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "حدثنا ابن سفيان".
(4/528)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
هكذا
واحد فوق آخر - ووصف سفيان بيده فَفَرَّج بين أصابع يده اليمنى ، نَصبَها بعضها
(1) فوق بعض - فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يَرْمي بها إلى صاحبه فيحرقَه ،
وربما لم يدركه [حتى] (2) يَرْمي بها إلى الذي يليه ، [إلى الذي] (3) هو أسفل منه
، حتى يلقوها إلى الأرض - وربما قال سفيان : حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى (4) على فم
الساحر - أو : الكاهن - فيكذب معها مائة كذبة (5) فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا
وكذا يكون كذا وكذا ، فوجدناه حقًّا ؟ للكلمة التي سمعت من السماء" (6)
ثم ذكر ، تعالى ، خلقه الأرض ، ومده إياها وتوسيعها وبسطها ، وما جعل فيها من
الجبال الرواسي ، والأودية والأراضي والرمال ، وما أنبت فيها من الزروع والثمار
المتناسبة.
وقال ابن عباس : { مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ } أي : معلوم. وكذا قال سعيد بن
جبير ، وعكرمة ، وأبو مالك ، ومجاهد ، والحكم بن عُتَيبة (7) والحسن بن محمد ،
وأبو صالح ، وقتادة.
ومنهم من يقول : مقدر بقدر.
وقال ابن زيد : من كل شيء يُوزَن (8) ويقدر بقدر. وقال ابن زيد : ما تزنه [أهل]
(9) الأسواق.
وقوله : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ
} يذكر ، تعالى ، أنه صرفهم في الأرض في صنوف [من] (10) الأسباب والمعايش ، وهي
جمع معيشة.
وقوله : { وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } قال مجاهد : وهي الدواب والأنعام.
وقال ابن جرير : هم العبيد والإماء والدواب والأنعام.
والقصد أنه ، تعالى ، يمتن (11) عليهم بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب
وصنوف المعايش ، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها والأنعام التي يأكلونها ،
والعبيد والإماء التي يستخدمونها ، ورزْقهم على خالقهم لا عليهم فلهم هم المنفعة ،
والرزق على الله تعالى.
[وقوله] (12) { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ
إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزلْنَا
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ
(22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ
عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ
(24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) }
يخبر ، تعالى ، أنه مالك كل شيء ، وأن كل شيء سهل عليه ، يسير لديه ، وأن (13)
عنده خزائن
__________
(1) في أ : "بعضا".
(2) زيادة من ت ، أ ، والبخاري.
(3) زيادة من ت ، أ ، والبخاري.
(4) في ت ، أ : "فيلقى".
(5) في ت ، أ : "كذبة فيصدق".
(6) صحيح البخاري برقم (4701).
(7) في أ : "موزون".
(8) في أ : "موزون".
(9) زيادة من ت ، أ.
(10) زيادة من أ.
(11) في ت : "يمتن تعالى".
(12) زيادة من أ.
(13) في ت ، أ : "وأنه".
(4/529)
الأشياء
من جميع الصنوف ، { وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } كما يشاء وكما يريد
، ولما لَهُ في ذلك من الحكمة البالغة ، والرحمة بعباده ، لا على [وجه] (1) الوجوب
، بل هو كتب على نفسه الرحمة.
قال يزيد بن أبي زياد ، عن أبي جحيفة ، عن عبد الله : ما من عام بأمطر من عام ،
ولكن الله يقسمه حيث شاء (2) عامًا هاهنا ، وعامًا هاهنا. ثم قرأ : { وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } رواه
ابن جرير (3)
وقال أيضا : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسن (4) حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا إسماعيل بن
سالم ، عن الحكم بن عُتَيْبَة (5) في قوله : { وَمَا نُنزلُهُ إِلا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ } قال : ما (6) عام بأكثر مطرًا من عام ولا أقل ، ولكنه يُمطر قوم ويحرم
آخرون وربما (7) كان في البحر. قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر
من عدد ولد إبليس وولد آدم ، يُحصُون كل قطرة حيث تقع وما تنبت (8) (9)
وقال البزار : حدثنا داود - وهو ابن بكر (10) التُّسْتُري - حدثنا حبَّان (11) بن
أغلب بن تميم ، حدثني أبي ، عن هشام ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خزائن الله الكلام ، فإذا
أراد شيئا قال له : كن ، فكان" (12)
ثم قال : لا يرويه إلا أغلب ، ولم يكن بالقوي ، وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين
، ولم يروه عنه إلا ابنه.
وقوله : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } أي : تلقح السحاب فتدر ماء ،
وتلقح الشجر فتتفتح عن أوراقها وأكمامها.
هذه "الرياح" ذكرها بصيغة الجمع ، ليكون منها الإنتاج ، بخلاف الريح
العقيم فإنه أفردها ، ووصفها بالعقيم ، وهو عدم الإنتاج ؛ لأنه لا يكون إلا من
(13) شيئين فصاعدا.
وقال الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن قيس بن السكن ، عن عبد الله بن مسعود في
قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } قال : ترسل الرياح ، فتحمل الماء
من السماء ، ثم تَمْرى السحاب ، حتى تدر كما تَدر اللَّقحَة.
وكذا قال ابن عباس ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة.
وقال الضحاك : يبعثها الله على السحاب ، فتُلقحه ، فيمتلئ (14) ماء.
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) في أ : "يشاء".
(3) تفسير الطبري (14/14).
(4) في ت : "الحسين".
(5) في أ : "عيينة".
(6) في أ : "من".
(7) في هـ ، ت ، أ : "بما" والمثبت من الطبري.
(8) في ت : "ينبت".
(9) تفسير الطبري (14/14).
(10) وفي مخطوطة مسند البزار : "داود ، وهو ابن بكير".
(11) في هـ ، وفي مخطوطة مسند البزار : "حيان" ، والمثبت من ت ، أ.
(12) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (155) من طريق محمد بن عبد العزيز ، عن حبان
عن أبيه به.
(13) في ت ، أ : "بين".
(14) في ت : "فتمتلئ".
(4/530)
وقال
عُبَيْد بن عُمَير الليثي : يبعث الله المُبشرّة فتَقمُّ الأرض قَمًّا ثم بعث الله
المثيرة (1) فتثير السحاب ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب ، ثم يبعث الله
اللواقح فتلقح الشجر ، ثم تلا { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ }
وقد روى ابن جرير ، من حديث عُبَيْس (2) بن ميمون ، عن أبي المُهَزَّم ، عن أبي
هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الريح الجنوب من الجنة ، وهي
[الريح اللواقح ، وهي التي] (3) ذكر الله في كتابه ، وفيها منافع للناس" (4)
وهذا إسناد ضعيف.
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده : حدثنا سفيان ، حدثنا
عمرو بن دينار ، أخبرني يزيد بن جُعْدبة الليثي : أنه سمع عبد الله بن مِخْراق ،
يحدث عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله خلق في
الجنة ريحا بعد الريح بسبع سنين ، وإن من دونها بابا مغلقا ، وإنما يأتيكم الريح
من ذلك الباب ، ولو فتح لأذرت ما بين السماء والأرض من شيء ، وهي عند الله
الأزَيبُ ، وهي فيكم الجنوب" (5)
وقوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } أي : أنزلناه لكم عَذْبًا يُمكنكم أن تشربوا منه
، ولو نشاء لجعلناه أجاجًا. كما ينبه الله (6) على ذلك في الآية الأخرى في سورة
"الواقعة" ، وهو (7) قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي
تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزلُونَ
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ } [الواقعة : 68 - 70]
وفي قوله : { هُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ
وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } [النمل : 10]
وقوله : { وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } قال سفيان الثوري : بمانعين.
ويحتمل أن المراد : وما أنتم له بحافظين ، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ، ونجعله
معينا وينابيع (8) في الأرض ، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به ، ولكن من رحمته أنزله
وجعله عذبا ، وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك. ليبقى لهم في طول السنة
، يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم.
وقوله : { وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } إخبار عن قدرته تعالى على بدء
الخلق وإعادته ، وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم ، ثم يميتهم ثم يبعثهم (9) كلهم
ليوم الجمع.
وأخبر أنه ، تعالى ، يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون.
ثم قال مخبرًا عن تمام علمه بهم ، أولهم وآخرهم : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ }
__________
(1) في ت : "الميثرة".
(2) في ت : "عنبس".
(3) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(4) تفسير الطبري (14/15).
(5) مسند الحميدي (1/71) وفي إسناده يزيد بن جعدبة كذبه مالك وغيره.
(6) في ت ، أ : "تعالى".
(7) في ت : "وهي".
(8) في ت : "وينابع".
(9) في ت : "يبعث".
(4/531)
قال
ابن عباس ، رضي الله عنهما (1) المستقدمون : كل من هلك من لدن آدم ، عليه السلام ،
والمستأخرون : من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة.
وروي نحوه عن عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، والشعبي ،
وغيرهم. وهو اختيار ابن جرير ، رحمه الله (2)
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ،
عن رجل (3) عن مَرْوان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل
النساء فأنزل الله : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ
عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } (4)
وقد ورد في هذا حديث غريب جدا ، فقال ابن جرير :
حدثني (5) محمد بن موسى الحَرَشِي ، حدثنا نوح بن قيس ، حدثنا عمرو بن مالك ، عن
أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : كانت تصلي خلف رسول الله صلى
الله عليه وسلم امرأة - قال ابن عباس : لا والله ما إنْ رأيت مثلها قط ، وكان بعض
المسلمين إذا صلوا استقدموا يعني : لئلا يراها - وبعض يستأخرون ، فإذا سجدوا نظروا
إليها من تحت أيديهم!! فأنزل الله : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ
مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ }
وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره ، والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من
سننيهما (6) وابن ماجة من طرق عن نوح بن قيس الحُداني (7) وقد وثقه أحمد وأبو داود
وغيرهما ، وحكي عن ابن معين تضعيفه ، وأخرج له مسلم وأهل السنن.
وهذا الحديث فيه نكارة شديدة ، وقد رواه عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن عمرو
بن مالك وهو النكري (8) أنه سمع أبا الجوزاء يقول في قوله : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ } في الصفوف في الصلاة { وَالْمُسْتَأْخِرِينَ }
فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ، ليس فيه لابن عباس ذكر (9) وقد قال الترمذي
: هذا أشبه من رواية نوح بن قيس (10) والله أعلم.
وهكذا روى ابن جرير عن محمد بن أبي معشر ، عن أبيه : أنه سمع عون بن عبد الله
يُذاكر محمد بن كعب في قوله : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } وأنها في صفوف
__________
(1) في ت : "عنه".
(2) انظر : تفسير الطبري (14/16 ، 17).
(3) في هـ ، ت ، أ : "عن أبيه أخبرنا" والمثبت من الطبري.
(4) تفسير الطبري (14/18).
(5) في أ : "حدثنا".
(6) في أ : "سننهما"
(7) تفسير الطبري (14/18) والمسند (1/305) وسنن الترمذي برقم (3122) والنسائي في
السنن الكبرى برقم (11273) وسنن ابن ماجة برقم (1046).
(8) في ت ، أ : "البكري".
(9) تفسير عبد الرزاق (1/301).
(10) سنن الترمذي برقم (3122) وعبارته : "وروى جعفر بن سليمان هذا الحديث ،
عن عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء نحوه ، ولم يذكر فيه عن ابن عباس ، وهذا أشبه أن
يكون أصح من حديث نوح".
(4/532)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
الصلاة
، فقال محمد بن كعب : ليس هكذا ، { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ
مِنْكُمْ } الميت والمقتول و { الْمُسْتَأْخِرِينَ } من يُخلقُ بَعْدُ ، { وَإِنَّ
رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } فقال عون بن عبد الله : وفقك
الله وجزاك خيرًا (1)
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) }
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : المراد بالصلصال هاهنا : التراب اليابس.
والظاهر أنه كقوله تعالى : { خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ
وَخَلَقَ الْجَانَّ مَن مَّارِجٍ مِّنْ نَّارٍ } [الرحمن : 14 - 15]
وعن مجاهد أيضا : الصلصال : المنتن.
وتفسير الآية بالآية أولى (2)
وقوله : { مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ } أي : الصلصال من حمأ ، وهو : الطين. والمسنون :
الأملس ، كما قال الشاعر (3) ثم خاصرتها إلى القبة الخضراءتمشي في مرمر مسنون
أي : أملس صقيل.
ولهذا روي عن ابن عباس : أنه قال : هو التراب الرطب. وعن ابن عباس ، ومجاهد ،
والضحاك أيضا : أن الحمأ المسنون هو المنتن. وقيل : المراد بالمسنون هاهنا :
المصبوب.
وقوله : { وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ } أي : من قبل الإنسان { مِنْ
نَارِ السَّمُومِ } قال ابن عباس : هي السموم التي تقتل.
وقال بعضهم : السموم بالليل والنهار. ومنهم من يقول : السموم بالليل ، والحرور
بالنهار.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : دخلت على عَمْرو الأصم
أعوده ، فقال : ألا أحدّثك حديثا سمعته من عبد الله بن مسعود ، يقول : هذه السموم
جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق (4) منها الجان ، ثم قرأ : { وَالْجَانَّ
خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ } (5)
وعن ابن عباس : أن الجان خُلق من لهب النار ، وفي رواية : من أحسن النار.
وعن عمرو بن دينار : من نار الشمس ، وقد ورد في الصحيح : "خُلقت الملائكة من
نور ،
__________
(1) تفسير الطبري (14/16).
(2) في أ : "الأولى".
(3) هو عبد الرحمن بن حسان ، والبيت في اللسان ، مادة (سنن).
(4) في ت ، أ : "خلق الله منها".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (16/21) من طريق شعبة به نحوه.
(4/533)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
وخُلقت
الجان من مارج من نار ، وخُلق بنو آدم مما وصِف لكم" (1) ومقصود الآية :
التنبيه على شرف آدم ، عليه السلام ، وطيب عنصره ، وطهارة مَحْتده (2)
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ
مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي
فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2996) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
(2) في ت : "محقده".
(4/534)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ
أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) }
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه له ، وتشريفه إياه بأمره الملائكة
بالسجود له. ويذكر تخلف إبليس عدوّه عن السجود له من بين سائر الملائكة ، حَسَدًا
وكفرًا ، وعنادًا واستكبارًا ، وافتخارًا بالباطل ، ولهذا قال : { لَمْ أَكُنْ
لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ } كما قال في
الآية الأخرى : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ
طِينٍ } [الأعراف : 12] وقوله : (1) { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ
عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 62]
وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا ، من حديث شبيب بن بشر ، عن عِكْرمة ،
عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا
سويته (2) فاسجدوا له. قالوا : لا نفعل. فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم خلق
ملائكة فقال لهم مثل ذلك ، [فقالوا : لا نفعل. فأرسل عليهم نارًا فأحرقتهم. ثم خلق
ملائكة أخرى فقال : إني خالق بشرًا من طين ، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فأبوا ،
فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم. ثم خلق ملائكة فقال : إني خالق بشرا من طين ، فإذا أنا
خلقته فاسجدوا له] (3) قالوا (4) سمعنا وأطعنا ، إلا إبليس كان من الكافرين
الأولين (5)
وفي ثبوت هذا عنه بعد ، والظاهر أنه إسرائيلي ، والله أعلم.
{ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ
إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
(36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ
(38) }
يقول آمرًا لإبليس أمرًا كونيًّا لا يخالف ولا يمانع ، بالخروج من المنزلة التي
كان فيها من الملأ الأعلى ، وإنه { رَجِيمٌ } أي : مرجوم. وإنه قد أتبعه لعنةً لا
تزال متصلة به ، لاحقةً له ، متواترة عليه إلى يوم القيامة.
وعن سعيد بن جبير أنه قال : لما لعن الله إبليس ، تغيرت صورته عن صورة الملائكة ،
ورن رنةً ،
__________
(1) في ت ، أ : "وقال في الآية الأخرى".
(2) في ت ، أ : "خلقته".
(3) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(4) في ت : "فقالوا".
(5) تفسير الطبري (14/22).
(4/534)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
فكل
رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها. رواه ابن أبي حاتم.
وإنه لما تحقق الغضب الذي لا مَرَدَّ له ، سأل من تمام حسده لآدم وذريته النظرة إلى
يوم القيامة ، وهو يوم البعث وأنه أجيب إلى ذلك استدراجًا له وإمهالا فلما تحقق
النظرة قبحه الله :
{ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ
وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ
جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ
بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) }
يقول تعالى مخبرًا عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب : { بِمَا أَغْوَيْتَنِي }
قال بعضهم : أقسم بإغواء الله له.
قلت : ويحتمل أنه بسبب ما أغويتني وأضللتني { لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ } أي : لذرية
آدم ، عليه السلام { فِي الأرْضِ } أي : أحبب إليهم المعاصي وأرغّبهم فيها ، وأؤزّهم
إليها ، وأزعجهم إزعاجًا ، { وَلأغْوِيَنَّهُمْ } أي : كما أغويتني ونَدَّرت على
ذلك ، { أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } كَمَا قَالَ {
أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 62]
قال الله تعالى له متهددًا ومتوعدًا (1) { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } أي
: مرجعكم كلكم إلي ، فأجازيكم بأعمالكم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًّا فشر ، كما قال
تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } [الفجر : 14]
وقيل : طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى ، وإليه تنتهي. قاله مجاهد ، والحسن ،
وقتادة كما قال : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } [النحل : 9]
وقرأ قيس بن عُبَاد ، ومحمد بن سيرين ، وقتادة : "هذا صراط علي مستقيم"
، كقوله : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ }
[الزخرف : 4] أي : رفيع. والمشهور القراءة الأولى.
وقوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أي : الذين قدرت لهم
(2) الهداية ، فلا سبيل لك عليهم ، ولا وصول لك إليهم ، { إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْغَاوِينَ } استثناء منقطع.
وقد أورد ابن جَرير هاهنا من حديث عبد الله بن المبارك ، عن عبد الله بن موهب (3)
حدثنا يزيد بن قُسَيْط قال : كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجةً من قراهم ، فإذا
أراد النبي أن يستنبئ ربه عن شيء ، خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله له ، ثم سأل ما
بدا له ، فبينا نبي في مسجده إذ جاء عدو الله - يعني : إبليس - حتى جلس بينه وبين
القبلة ، فقال النبي : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. [فقال
__________
(1) في ت ، أ : "متوعدا ومهددا".
(2) في أ : "عليهم".
(3) في أ : "وهب".
(4/535)
عدو
الله : أرأيت الذي تَعَوّذ منه ؟ فهو هو. فقال النبي : أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم] (1) قال : فَردّد (2) ذلك ثلاث مرات ، فقال عدو الله : أخبرني بأي شيء
تنجو مني ؟ فقال النبي : بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم ؟ مرتين ، فأخذ كل [واحد]
(3) منهما على صاحبه ، فقال النبي : إن الله تعالى يقول : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } قال عدو الله
: قد سمعت هذا قبل أن تولد. قال النبي : ويقول الله : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ
الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف :
200] وإني (4) والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك. قال عدو الله : صدقت ،
بهذا تنجو مني. فقال النبي : "أخبرني بأي شيء تغلبُ ابن آدم" ؟ قال :
آخذه عند الغضب والهوى (5)
وقوله : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : جهنم موعد جميع من
اتبع إبليس ، كما قال عن القرآن : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود : 17]
ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب : { لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } أي :
قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه ، لا محيد لهم عنه - أجارنا الله
منها - وكل يدخل من باب بحسب عمله ، ويستقر في دَرَك بقدر فعله.
قال إسماعيل بن عُلَيَّة وشعبة كلاهما ، عن أبي هارون الغَنَويّ ، عن حطان بن عبد
الله أنه قال : سمعت علي بن أبي طالب وهو يخطب قال : إن أبواب جهنم هكذا - قال أبو
هارون : أطباقًا بعضها فوق بعض (6)
وقال إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن هُبَيْرة بن يريم (7) عن علي ، رضي الله عنه ،
قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض ، فيمتلئ الأول ، ثم الثاني ، ثم الثالث ،
حتى تُمْلأ كلها (8)
وقال عِكْرمة : { سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } سبعة أطباق.
وقال ابن جريج : { سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } أولها جهنم ، ثم لظَى ، ثم الحُطَمَة ، ثم
سعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية.
وروى (9) الضحاك عن ابن عباس ، نحوه. وكذا [روي] عن الأعمش بنحوه أيضًا.
وقال قتادة : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ
} وهي والله منازل بأعمالهم. رواهن ابن جرير.
وقال جويبر ، عن الضحاك : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ
جُزْءٌ مَقْسُومٌ } قال : باب لليهود ،
__________
(1) زيادة من ت ، أ ، والطبري.
(2) في أ : "فرد".
(3) زيادة من ت ، والطبري.
(4) في أ : "وأنا".
(5) تفسير الطبري (14/24).
(6) رواه الطبري في تفسيره (14/24).
(7) في ت : "مريم".
(8) رواه الطبري في تفسيره (14/24).
(9) في أ : "ورواه".
(4/536)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
وباب
للنصارى ، وباب للصابئين ، وباب للمجوس ، وباب للذين أشركوا - وهم كفار العرب -
وباب للمنافقين ، وباب لأهل التوحيد ، فأهل التوحيد يُرجى لهم ولا يُرجى لأولئك
أبدًا.
وقال الترمذي : حدثنا عبد بن حُمَيْد ، حدثنا عثمان بن عمر ، عن مالك بن مِغْوَل ،
عن جُنَيْد (1) عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لجهنم سبعة
أبواب : باب منها لمن سلَّ السيف على أمتي - أو قال : على أمة محمد.
ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث مالك بن مِغْوَل (2)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ، عباس بن الوليد الخلال ، حدثنا زيد -
يعني : ابن يحيى - حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن سَمُرَة بن
جُنْدَب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ
مَقْسُومٌ } قال : "إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه ، وإن منهم من
تأخذه النار إلى حُجزته ، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه ، منازل بأعمالهم ،
فذلك قوله : { لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } (3)
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ
(46) وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ
(47) لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ
عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ
الْعَذَابُ الألِيمُ (50) }
لما ذكر تعالى حال أهل النار ، عطف على ذكر أهل الجنة ، وأنهم في جنات وعيون.
وقوله : { ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ } أي : سالمين من الآفات ، مسلمًا عليكم ، {
آمِنِينَ } من كل خوف وفزع ، ولا تخشوا من إخراج ، ولا انقطاع ، ولا فناء.
وقوله : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ } روى القاسم ، عن أبي أمامة قال : يدخل أهل الجنة الجنة على ما في
صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن ، حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في
صدورهم في الدنيا من غل ، ثم قرأ : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ }
(4)
هكذا في هذه الرواية ، والقاسم بن عبد الرحمن - في روايته (5) عن أبي أمامة -
ضعيف.
وقد روى سُنَيْد في تفسيره : حدثنا ابن فضالة ، عن لقمان ، عن أبي أمامة قال : لا
يدخل مؤمن الجنة حتى ينزع الله ما في صدرهم من غل ، حتى ينزع منه مثل السبع الضاري
(6)
وهذا موافق لما في الصحيح ، من رواية قتادة ، حدثنا أبو المتوكل الناجي : أن أبا
سعيد الخدري
__________
(1) في هـ ، ت ، أ : "حميد" والمثبت من الترمذي.
(2) سنن الترمذي برقم (3123) وقال : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث
مالك بن مغول".
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (5/82) مطولا ، وأصل الحديث في صحيح مسلم برقم
(2845) دون ذكر الآية إلى قوله : "تأخذه النار إلى حجزته".
(4) رواه الطبري في تفسيره (14/25) من طريق إسرائيل ، عن بشر البصري ، عن القاسم
به.
(5) في ت : "رواية".
(6) رواه الطبري في تفسيره (14/25).
(4/537)
حدثهم
: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يَخْلُص المؤمنون من النار ،
فيُحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ، فيُقتص لبعضهم من بعضهم ، مظالم كانت بينهم
في الدنيا ، حتى إذا هُذِّبوا ونُقّوا ، أذن لهم في دخول الجنة" (1)
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا هشام ، عن محمد - هو
ابن سيرين - قال : استأذن الأشتر على عليٍّ ، رضي الله عنه ، وعنده ابن لطلحة ،
فحبسه ثم أذن له. فلما دخل قال : إني لأراك إنما احتبستني لهذا ؟ قال : أجل. قال :
إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني ؟ قال : أجل إني (2) لأرجو أن أكون أنا
وعثمان ممن قال الله تعالى : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ
[إِخْوَانًا]عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } (3) (4)
وحدثنا الحسن : حدثنا أبو معاوية الضرير ، حدثنا أبو مالك الأشجعي ، عن أبي حبيبة
- مولى لطلحة - قال : دخل عمران بن طلحة على عليٍّ ، رضي الله عنه ، بعدما فرغ من
أصحاب الجمل ، فرحب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله :
{ وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ } - قال : ورجلان جالسان على ناحية البساط ، فقالا الله أعدل من
ذلك ، تقتلهم بالأمس ، وتكونون إخوانا! فقال علي ، رضي الله عنه : قُوما أبعد أرض
وأسحقها! فمن هو إذا إن لم أكن أنا وطلحة ، وذكر أبو معاوية الحديث بطوله (5)
وروى وَكِيع ، عن أبان بن عبد الله البجلي ، عن نُعَيْم بن أبي هند ، عن رِبْعِي
بن خِرَاش ، عن علي ، نحوه ، وقال فيه : فقام رجل من هَمْدان فقال : الله أعدل من
ذاك يا أمير المؤمنين. قال : فصاح به علي صيحة ، فظننت أن القصر تَدهدَه لها ، ثم
قال : إذا لم نكن نحن فمن هو ؟ (6)
وقال سعيد بن مسروق ، عن أبي طلحة - وذكره - فيه : فقال الحارث الأعور ذلك ، فقام
إليه علي ، رضي الله عنه ، فضربه بشيء كان في يده في رأسه ، وقال : فمن هم (7) يا
أعور إذا لم نكن نحن ؟
وقال سفيان الثوري : عن منصور ، عن إبراهيم قال : جاء ابن جرموز قاتل الزبير
يستأذن على عليٍّ ، رضي الله عنه فحجبه طويلا ثم أذن له ، فقال له : أما أهل
البلاء فتجفوهم. فقال علي : بفيك التراب ، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ،
ممن قال الله : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى
سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6535).
(2) في أ : "أجل ، قال : إني".
(3) زيادة من ت.
(4) تفسير الطبري (14/26).
(5) تفسير الطبري (14/25).
(6) رواه الطبري في تفسيره (14/25) من طريق وكيع.
(7) في أ : "فمن هو".
(4/538)
وكذا
روى الثوري ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ، بنحوه.
وقال سفيان بن عُيَيْنة ، عن إسرائيل ، عن أبي موسى ، سمع الحسن البصري يقول : قال
علي : فينا والله - أهل بدر - نزلت هذه الآية : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ
مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ }
وقال كثير النَّواء : دخلت على أبي جعفر محمد بن علي فقلت : وليي وليكم ، وسلمي
سلمكم ، وعدوي عدوكم ، وحربي حربكم. إني أسألك بالله : أتبرأ من أبي بكر وعمر ؟
فقال : { قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } [الأنعام : 56]
تولهما (1) يا كثير ، فما أدركك فهو في رقبتي هذه ، ثم تلا هذه الآية : {
إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } قال : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، رضي الله
عنهم أجمعين.
وقال الثوري ، عن رجل ، عن أبي صالح في قوله : { إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ
مُتَقَابِلِينَ } قال : هم عشرة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ،
والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وعبد الله بن
مسعود ، رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله : { مُتَقَابِلِينَ } قال مجاهد : لا ينظر بعضهم في قفا بعض.
وفيه حديث مرفوع ، قال ابن أبي حاتم.
حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا حسان بن حسان ، حدثنا إبراهيم بن بشر (2)
حدثنا يحيى بن معين ، عن إبراهيم القرشي ، عن سعيد بن شرحبيل ، عن زيد بن أبي أوفى
قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلا هذه الآية : { إِخْوَانًا
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ } في الله ، ينظر بعضهم إلى بعض (3)
وقوله : { لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } يعني : المشقة والأذى ، كما جاء في
الصحيحين : "إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصَب ، لا صخب فيه
ولا نصب" (4)
وقوله : { وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ } كما جاء في الحديث : "يقال (5)
يا أهل الجنة ، إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدًا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا
أبدا ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا ، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا
أبدا" ، وقال الله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا
} [الكهف : 108]
وقوله : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي
هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } أي : أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عقاب أليم.
وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة ، وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف ، وذكر
في سبب
__________
(1) في ت : "برهما" وفي أ" : "برها".
(2) في هـ ، ت ، أ : "بشر" والمثبت عن الجرح والتعديل 1/1/60 مستفادا من
حاشية الشعب.
(3) ورواه البخاري في التاريخ الكبير (3/386) في ترجمة زيد بن أبي أوفى ومن طريق
حسان بن حسان به ، وقال : "لا يتابع عليه".
(4) صحيح البخاري برقم (3820) وصحيح مسلم برقم (2432) من حديث أبي هريرة ، رضي
الله عنه.
(5) في أ : "فقال".
(4/539)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
نزولها
ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على
ناس من أصحابه يضحكون ، فقال : "اذكروا الجنة ، واذكروا النار". فنزلت :
{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ
الْعَذَابُ الألِيمُ } رواه ابن أبي حاتم. وهو مرسل (1)
وقال ابن جرير ، حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، أخبرنا ابن المكي ، أخبرنا ابن
المبارك ، أخبرنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عاصم بن عبيد الله ، عن ابن أبي رباح ، عن
رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : طلع علينا رسول الله صلى الله عليه
وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ، فقال : "ألا أراكم تضحكون ؟" ثم
أدبر ، حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى ، فقال : "إني لما خرجت جاء
جبريل ، عليه السلام ، فقال : يا محمد ، إن الله يقول (2) لم تقنط (3) عبادي ؟ {
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ
الْعَذَابُ الألِيمُ } (4)
وقال سعيد ، عن قتادة في قوله تعالى : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ } قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو يعلم
العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام ، ولو يعلم قدر عقابه لبخع نفسه" (5)
{ وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) }
__________
(1) أورده السيوطي في الدر المنثور (5/86) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. وموسى
بن عبيدة الربذي ضعيف.
(2) في أ : "يقول الله".
(3) في ت : "يقنط".
(4) تفسير الطبري (14/27).
(5) رواه الطبري في تفسيره (14/27) وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله برقم (64)
من طريق سعيد به مرسلا ، وروى موصولا نحوه عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري ، أما حديث
ابن عمر ، فرواه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله برقم (63) من طريق موسى عن عطية
، عن ابن عمر مرفوعا : "لو تعلمون قدر رحمة الله عز وجل لا تكلتم وما عملتم
من عمل ، ولو علمتم قدر غضبه ما نفعكم شيء" ، وحديث أبي سعيد ، رواه البزار
في مسنده ولفظه : "لو تعلمون قدر رحمة الله لا تكلتم - أحسبه قال :
عليها". وقال الهيثمي في المجمع (10/384) : "إسناده حسن".
(4/540)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
{
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي
عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ
بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ (56) }
يقول (1) تعالى : وخبرهم يا محمد عن قصة { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } والضيف : يطلق
على الواحد والجمع ، كالزور والسُّفْر - وكيف { دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا
سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي : خائفون.
وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه لهم (2) ضيافة ، وهو
العجل السمين الحنيذ.
{ قَالُوا لا تَوْجَلْ } أي : لا تخف ، { وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ }
[الذاريات : 28] وهو إسحاق ، عليه السلام ، كما تقدم في سورة هود.
__________
(1) في أ : "يخبر".
(2) في ت ، أ : "إليهم".
(4/540)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آَلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آَلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
ثم
قال (1) متعجبًا من كبره وكبر زوجته ومتحققًا للوعد : { أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى
أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون } فأجابوه مؤكدين لما بشروه به
تحقيقًا وبشارة بعد بشارة ، { قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ
الْقَانِطِينَ } وقرأ بعضهم : "القنطين" (2) - فأجابهم بأنه ليس يقنط ،
ولكن يرجو من الله الولد ، وإن كان قد كبر وأسنَّت امرأته ، فإنه يعلم من قدرة
الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك.
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ
أَجْمَعِينَ (59) إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
}
يقول تعالى إخبارًا عن إبراهيم ، عليه السلام ، لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى :
إنه شرع يسألهم عما جاؤوا له ، فقالوا : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ } يعنون : قوم لوط. وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته
فإنها من المهلكين ؛ ولهذا قالوا : { إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ
الْغَابِرِينَ } أي : الباقين المهلكين.
{ فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ
مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) }
يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه ، فدخلوا عليه
داره ، قال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنْكَرُونَ قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا
كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ } يعنون : بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في
وقوعه بهم ، وحلوله بساحتهم ، { وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ } كما قال تعالى : { مَا
نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ } [الحجر : 8]
وقوله : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } تأكيد لخبرهم (3) إياه بما أخبروه به ، من
نجاته وإهلاك قومه ، [والله أعلم] (4)
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا
يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا
إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) }
يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يَسري بأهله بعد مضي جانب من الليل ، وأن
يكون لوط ، عليه السلام ، يمشي وراءهم ، ليكون أحفظ لهم.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الغَزاة بما كان يكون (5) ساقة ،
يُزجي الضعيف ، ويحمل المنقطع (6)
وقوله : { وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ } أي : إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا
تلتفتوا إليهم ، وذروهم فيما
__________
(1) في ت ، أ : "فقال".
(2) في ت ، أ : "المقنطين".
(3) في ت : "بخبرهم".
(4) زيادة من أ.
(5) في ت : "في الغزو إنما كان" ، وفي أ : "في الغزو وإنما
يكون".
(6) رواه أبو داود في السنن برقم (2639) من حديث جابر ولفظه : "كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتخلف في المسير ، فيزجي الضعيف ، ويردف ، ويدعو لهم".
(4/541)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
حل
بهم من العذاب والنكال ، { وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } كأنه كان معهم من
يهديهم السبيل.
{ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ } أي : تقدمنا إليه في هذا { أَنَّ
دَابِرَهَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } أي : وقت : الصباح كما قال في الآية الأخرى
: { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } [هود : 81]
{ وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي
فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ
نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) }
(4/542)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
{
قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ
لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) }
يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه (1) وصباحة وجوههم ، وأنهم جاءوا
مستبشرين بهم فرحين ، { قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا
اللهَ وَلا تُخْزُونِ }
وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم بأنهم رسل الله كما قال في سياق (2) سورة هود ،
وأما هاهنا فتقدم ذِكرُ أنهم رسل الله ، وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم. ولكن
الواو لا تقتضي الترتيب ، ولا سيما إذا دل دليل (3) على خلافه ، فقالوا له مجيبين
: { أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ } أي : أو ما نهيناك أن تضيف أحدًا ؟
فأرشدهم إلى نسائهم ، وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة. وقد تقدم أيضا
القول في ذلك ، بما أغنى عن إعادته.
هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم ، وما قد أحاط بهم من البلاء ، وماذا يُصبحهم من
العذاب المستقر ؛ ولهذا قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { لَعَمْرُكَ
إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } أقسم تعالى بحياة نبيه ، صلوات الله
وسلامه عليه ، وفي هذا تشريف عظيم ، ومقام رفيع وجاه عريض.
قال عمرو بن مالك النُّكْري (4) عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، أنه قال : ما خلق
الله وما ذرأ وما برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سمعت الله
أقسم بحياة أحد غيره ، قال الله تعالى : (5) { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [يقول : وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا " إنهم
لفي سكرتهم يعمهون] (6) رواه ابن جرير.
وقال قتادة : { فِي سَكْرَتِهِمْ } أي : في ضلالتهم ، { يَعْمَهُونَ } أي :
يلعبون.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { لَعَمْرُكَ } لعيشك ، { إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال : يتحيرون (7)
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) }
__________
(1) في ت : "بضيفانه".
(2) في ت : "سياقة".
(3) في ت : "دليله".
(4) في ت : "البكري".
(5) في أ : "عز وجل".
(6) زيادة من ت ، أ.
(7) في ت ، أ : "يتمادون".
(4/542)
يقول
: تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق
الشمس ، وهو طلوعها ، وذلك مع رفع (1) بلادهم إلى عَنان السماء ثم قلْبها ، وجعل
عاليها سافلها ، وإرسال حجارة السجيل عليهم. وقد تقدم الكلام على السجيل في [سورة]
(2) هود بما فيه كفاية.
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } أي : إن آثار هذه النقم
ظاهرة (3) على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسَّمه بعين بصره وبصيرته ، كما قال
مجاهد في قوله : { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } قال : المتفرسين.
وعن ابن عباس ، والضحاك : للناظرين. وقال قتادة : للمعتبرين. وقال مالك عن بعض أهل
المدينة : { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } للمتأملين.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا محمد بن كثير العَبْدي ، عن عمرو
بن قيس ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"اتقوا فِرَاسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله". ثم قرأ النبي صلى الله
عليه وسلم : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ }
رواه الترمذي ، وابن جرير ، من حديث عمرو بن قيس الملائي (4) وقال الترمذي : لا
نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا
الفرات بن السائب ، حدثنا ميمون بن مِهْران ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "اتقوا فِرَاسَة المؤمن ؛ فإن المؤمن ينظر (5) بنور
الله" (6)
وقال ابن جرير : حدثني أبو شرحبيل الحِمْصِيّ ، حدثنا سليمان بن سلمة ، حدثنا
المُؤَمَّل بن سعيد بن يوسف الرحبي ، حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي ،
حدثنا وهب بن مُنَبِّه ، عن طاوس بن كَيْسَان ، عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "احذروا فراسة المؤمن ؛ فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق
الله" (7)
وقال أيضًا : حدثنا عبد الأعلى بن واصل ، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ، حدثنا عبد
الواحد بن واصل ، حدثنا أبو بشر المزلق ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : قال
النبي (8) صلى الله عليه وسلم : "إن لله عبادًا
__________
(1) في ت : "رفيع".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "الظاهرة".
(4) سنن الترمذي برقم (3127) وتفسير الطبري (14/31).
(5) في ت ، أ : "يبصر".
(6) تفسير الطبري (14/32) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/94) من طريق فرات بن السائب
به ، وقال : "غريب من حديث ميمون لم نكتبه إلا من هذا الوجه". والفرات
متروك".
(7) تفسير الطبري (14/32) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/81) من طريق سليمان بن سلمة
به ، وقال : "غريب من حديث وهيب ، تفرد به مؤمل عن أسد". وسليمان بن
سلمة وشيخه المؤمل ضعيفان.
(8) في أ : "رسول الله".
(4/543)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
يعرفون
الناس بالتوسم" (1)
ورواه الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا سهل بن بحر ، حدثنا سعيد بن محمد الجرمي ،
حدثنا أبو بشر - يقال له : ابن المزلق ، قال : وكان ثقة - عن ثابت ، عن أنس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لله عبادًا يعرفون الناس
بالتوسم" (2)
وقوله : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } أي : وإن قرية سدوم التي أصابها ما
أصابها من القلب الصوري والمعنوي ، والقذف بالحجارة ، حتى صارت بحيرة (3) منتنة
خبيثة لبطريق مَهْيَع مسالكه (4) مستمرة إلى اليوم ، كما قال تعالى : {
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ وَبِالَّليْلِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ } [الصافات : 137 ، 138]
وقال مجاهد ، والضحاك : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } قال : مُعَلَّم. وقال
قتادة : بطريق واضح. وقال قتادة أيضًا : بصقع من الأرض واحد.
وقال السدي : بكتاب مبين ، يعني كقوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي
إِمَامٍ مُبِينٍ } [يس : 12] ولكن ليس المعنى على ما قال هاهنا ، والله أعلم.
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : إن الذي صنعنا بقوم لوط
من الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله ، لدلالة واضحة جلية (5) للمؤمنين بالله
ورسله.
{ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ
وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) }
أصحاب الأيكة : هم قوم شعيب.
قال الضحاك ، وقتادة ، وغيرهما : الأيكة : الشجر الملتف.
وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق ، ونقصهم المكيال والميزان. فانتقم الله
منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة ، وقد كانوا قريبًا من قوم لوط ، بَعْدَهم في
الزمان ، ومسامتين لهم في المكان ؛ ولهذا قال تعالى : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ
مُبِينٍ } أي : طريق مبين.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : طريق ظاهر ؛ ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في
نذارته إياهم : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ }
{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ
آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) }
__________
(1) تفسير الطبري (14/32) ورواه القضاعي في مسند الشهاب برقم (1005) والطبراني في
المعجم الأوسط برقم (5004) "مجمع البحرين" من طريق أبي بشر المزلق به ،
وقال الهيثمي في المجمع (10/268) : "إسناده حسن". وقال الذهبي في ترجمة
أبي بشر المزلق : "روى خبرا منكرا فذكره" وهذا أقرب.
(2) مسند البزار برقم (3632) "كشف الأستار" وقال : "لا نعلم رواه
عن ثابت ، عن أنس إلا أبو بشر".
(3) في ت : "بخرة" ، وفي أ : "بخرة".
(4) في ت ، أ : "سالكة".
(5) في أ : "جليلة".
(4/544)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
أصحاب
الحجر هم : ثمود الذين كذبوا صالحا نبيهم ، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين
؛ ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين.
وذكر تعالى أنه آتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح ، كالناقة التي
أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء فكانت (1) تسرح في بلادهم ، لها شرب ولهم
شرب يوم معلوم. فلما عَتَوا وعقروها قال لهم : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ
ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [هود : 65] وقال تعالى : {
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [فصلت
: 17]
وذكر تعالى : أنهم { كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ } أي
: من غير خوف ولا احتياج إليها ، بل أشرا وبطرا وعبثا ، كما هو المشاهد من صنيعهم
في بيوتهم بوادي الحجر ، الذي مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى
تبوك فَقَنَّع رأسه وأسرع دابته ، وقال لأصحابه : "لا تدخلوا بيوت القوم
المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما
أصابهم" (2)
وقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } أي : وقت الصباح من (3) اليوم
الرابع ، { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : ما كانوا
يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضَنُّوا بمائها عن الناقة ، حتى عقروها لئلا تضيق
عليهم في المياه ، فما دفعت عنهم تلك الأموال ، ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك.
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ
وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (86) }
يقول تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا
بِالْحَقِّ } أي : بالعدل ؛ { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم : 31] وقال تعالى : {
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ص : 27] وقال {
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا
تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ
الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [المؤمنون : 115 - 116]
ثم أخبر نبيه بقيام الساعة ، وأنها كائنة لا محالة ، ثم أمره بالصفح الجميل عن
المشركين ، في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم (4) به ، كما قال تعالى : { فَاصْفَحْ
عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } (5) [الزخرف : 89]
وقال مجاهد وقتادة وغيرهما : كان هذا قبل القتال. وهو كما قالا فإن هذه مكية ،
والقتال إنما
__________
(1) في ت : "وكانت".
(2) جاء من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما ، رواه البخاري في صحيحه برقم (3380)
ومسلم في صحيحه برقم (298) ولفظه : "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا
أنفسهم.." الحديث. ورواه البخاري في صحيحه برقم (4702) بلفظ : "لا
تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا
عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم".
(3) في أ : "في".
(4) في ت ، أ : "ما جاء".
(5) في ت : "تعلمون".
(4/545)
وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
شرع
بعد الهجرة.
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ } تقرير للمعاد ، وأنه تعالى
قادر على إقامة الساعة ، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق ما يشاء ، وهو العليم بما
تمزق (1) من الأجساد ، وتفرق (2) في سائر أقطار الأرض ، كما قال تعالى : {
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ
كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [يس : 81 - 83].
{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا
تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) }
يقول تعالى لنبيه : كما آتيناك القرآن العظيم ، فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها ،
وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه ، فلا تغبطهم بما هم فيه ، ولا
تذهب نفسك عليهم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك ، ومخالفتهم دينك. { وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 215] أي : ألِن لهم
جانبك (3) كما قال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ
عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }
[التوبة : 128]
وقد اختلف في السبع المثاني : ما هي ؟
فقال ابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والضحاك وغير
واحد : هي السبع الطُّوَل. يعنون : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ،
والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، نص عليه ابن عباس ، وسعيد بن جبير.
وقال سعيد : بيَّن (4) فيهن الفرائض ، والحدود ، والقصص ، والأحكام.
وقال ابن عباس : بين (5) الأمثال والخَبَر والعِبَر (6)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر قال : قال سفيان : {
الْمَثَانِي } الْمُثَنَّى : (7) البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ،
والأنعام ، والأعراف ، والأنفال وبراءة (8) سورة واحدة.
قال ابن عباس : ولم يُعْطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعطي موسى منهن
ثنتين. رواه هُشَيْم ، عن الحجاج ، عن الوليد بن العيزار (9) عن سعيد بن جبير عنه.
[و] (10) قال الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أوتي
النبي صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطُّوَل ، وأوتي موسى ، عليه السلام ،
ستًّا ، فلما ألقى الألواح ارتفع (11) اثنتان وبقيت أربع.
__________
(1) في ت ، أ : "يمزق".
(2) في ت ، أ : "ويفرق"
(3) في ت : "جنابك".
(4) في ت ، أ : "ثنى".
(5) في ت ، أ : "ثنى".
(6) في ت : "الخير والشر".
(7) في ت : "المبين".
(8) في ت : "وبراءة والأنفال".
(9) في ت : "العيزان".
(10) زيادة من ت ، أ :
(11) في ت ، أ : "رفعت".
(4/546)
وقال
مجاهد : هي السبع الطُوَل. ويقال : هي القرآن العظيم.
وقال خَصِيف ، عن زياد بن أبي مريم في قوله تعالى : { سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي }
قال : أعطيتك سبعة أجزاء : آمر ، وأنهى ، وأبشر (1) وأنذر ، وأضرب الأمثال ، وأعدد
النعم ، وأنبئك بنبأ (2) القرآن. رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
والقول الثاني : أنها الفاتحة ، وهي سبع آيات. رُوي ذلك عن عمر وعلي ، وابن مسعود
، وابن عباس. قال ابن عباس : والبسملة هي (3) الآية السابعة ، وقد خصكم الله بها.
وبه قال إبراهيم النخعي ، وعبد الله بن عبيد بن عُمَيْر ، وابن أبي مليكة ، وشَهْر
بن حَوْشَب ، والحسن البصري ، ومجاهد.
وقال قتادة : ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب ، وأنهن يثنين (4) في كل قراءة. وفي رواية
: في كل ركعة مكتوبة أو تطوع.
واختاره ابن جرير ، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك ، وقد قدمناها في فضائل سورة
"الفاتحة" في أول التفسير ، ولله الحمد.
وقد أورد البخاري ، رحمه الله ، هاهنا حديثين :
أحدهما : قال : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غُنْدر ، حدثنا شعبة ، عن خبيب بن عبد
الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المعلى قال : مر بي النبي صلى الله عليه
وسلم وأنا أصلي ، فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : "ما (5) منعك أن
تأتيني (6) ؟". فقلت : كنت أصلي. فقال : "ألم يقل الله : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [الأنفال
: 24] ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ؟" فذهب النبي
صلى الله عليه وسلم ليخرج ، فذكرته (7) فقال : " { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ } [الفاتحة : 2] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته"
(8)
[و] (9) الثاني : قال : حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، حدثنا المقبري ، عن أبي
هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أم القرآن
هي : السبع المثاني والقرآن العظيم" (10)
فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم ، ولكن لا ينافي (11) وصف
غيرها من السبع الطُّوَل بذلك ، لما فيها من هذه الصفة ، كما لا ينافي وصف القرآن
بكماله بذلك أيضًا ، كما قال تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا
مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } [الزمر : 23] فهو مثاني من وجه ، ومتشابه من وجه ، وهو
القرآن العظيم
أيضًا ، كما أنه ، عليه السلام (12) لما سُئل عن المسجد الذي أسس على التقوى ،
فأشار إلى مسجده ، والآية نزلت في مسجد قُباء ، فلا تنافي ، فإن (13) ذكر الشيء لا
ينفي (14)
__________
(1) في أ : "وبشر".
(2) في أ : "نبأ".
(3) في أ : "على".
(4) في ت : "يتبين" وفي أ : "تثنى".
(5) في أ : "ماذا".
(6) في ت ، أ : "تأتي".
(7) في ت ، أ : "فذكرت".
(8) صحيح البخاري برقم (4703).
(9) زيادة من أ.
(10) صحيح البخاري برقم (4704).
(11) في ت : "لا تنافي".
(12) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(13) في ت : "لأن".
(14) في ت : "ينافي".
(4/547)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
ذكر
ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة ، والله أعلم.
وقوله : { لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا
مِنْهُمْ } أي : استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع
والزهرة الفانية.
ومن هاهنا ذهب ابن عُيَيْنَة إلى تفسير الحديث الصحيح : "ليس منا من لم
يتغَنَّ بالقرآن" (1) إلى أنه يُستغنى به عما عداه ، وهو تفسير صحيح ، ولكن
ليس هو المقصود من الحديث ، كما تقدم في أول التفسير.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن وَكِيع بن الجراح ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن يزيد بن
عبد الله بن قسيط ، عن أبي رافع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال : أضاف النبي
صلى الله عليه وسلم ضيف (2) ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء (3) يصلحه ،
فأرسل إلى رجل من اليهود : يقول لك محمد رسول الله : أسلفني دقيقا إلى هلال رجب.
قال : لا إلا بِرَهْن. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم [فأخبرته] (4) فقال :
"أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين
إليه". فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية : { لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى
مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهَرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } إلى
آخر الآية. [طه : 131] كأنه (5) يعزيه عن الدنيا (6)
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } قال : نهي الرجل أن
يتمنى مال صاحبه.
وقال مجاهد : { إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } هم الأغنياء.
{ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزلْنَا عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ (90) }
__________
(1) وانظر فيما تقدم في فضائل القرآن ، باب : من لم يتغن بالقرآن.
(2) في ت : "ضيفا" وهو الصواب".
(3) في ت ، أ : "أمرا".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) في ت : "كما".
(6) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/331) من طريق عبد الله بن نمير ، عن موسى
بن عبيدة به نحوه ، وقال العراقي : "إسناده ضعيف" وذلك لأجل موسى بن
عبيدة الربذي.
(4/548)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
{
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) }
يأمر تعالى نبيه ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن (1) يقول للناس : إنه { النَّذِيرُ
الْمُبِينُ } البين النذارة ، نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم على تكذيبه كما
حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها ، وما أنزل الله عليهم من العذاب
والانتقام.
وقوله : { الْمُقْتَسِمِينَ } أي : المتحالفين ، أي : تحالفوا على مخالفة الأنبياء
وتكذيبهم وأذاهم ، كما قال تعالى إخبارًا عن قوم صالح أنهم : { قَالُوا
تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [النمل : 46] أي : نقتلهم
ليلا قال مجاهد : تقاسموا : تحالفوا.
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ
} [النحل : 38]{ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ
زَوَالٍ } [إبراهيم : 44]{ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ
بِرَحْمَةٍ } [الأعراف : 49] فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه ، فسموا
مقتسمين.
__________
(1) في ت ، أ : "بأن".
(4/548)
قال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : المقتسمون أصحاب صالح ، الذين تقاسموا بالله لنبيتنه
وأهله.
وفي الصحيحين ، عن أبي موسى [الأشعري] (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به ، كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم ، إني
رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ، فالنجاء النجاء! فأطاعه طائفة من
قومه فأدلجوا ، وانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ،
فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ، ومثل من
عصاني وكَذب ما جئت به من الحق" (2)
وقوله : { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } أي : جَزَّؤوا كتبهم المنزلة
عليهم ، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض.
قال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم ، أنبأنا أبو بشر ، عن سعيد بن
جُبير ، عن ابن عباس : { جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } قال : هم أهل الكتاب ،
جَزَّؤوه أجزاء ، فآمنوا ببعضه ، وكفروا ببعضه (3) (4)
حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن الأعمش ، عن أبي (5) ظَبْيان ، عن ابن عباس : {
كَمَا أَنزلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ } قال : آمنوا ببعض ، وكفروا ببعض :
اليهُود والنصارى (6)
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، والضحاك
، مثل ذلك.
وقال الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ }
قال : السحر (7) وقال عكرمة : العَضْه : السحر بلسان قريش ، تقول (8) للساحرة :
إنها العاضهة (9)
وقال مجاهد : عَضوه أعضاء ، قالوا : سحر ، وقالوا : كهانة ، وقالوا : أساطير
الأولين.
وقال عطاء : قال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : مجنون. وقال بعضهم كاهن. فذلك
العضين (10) وكذا روي عن الضحاك وغيره.
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس : أن
الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا شرف (11) فيهم ، وقد حضر
الموسم فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم
عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر
__________
(1) زيادة من ت ، أ.
(2) صحيح البخاري برقم (6482 ، 7283) وصحيح مسلم برقم (2283).
(3) صحيح البخاري برقم (4705).
(4) في هـ بعد قوله "وكفروا ببعضه" ما يلي : "حدثنا عبيد الله بن
موسى ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس : (جعلوا القرآن عضين) قال : هم
أهل الكتاب ، +جزءوه أجزاء ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه" وليس في صحيح
البخاري ولا في باقي النسخ ، وهو خطأ.
(5) في ت : "ابن".
(6) صحيح البخاري برقم (4706).
(7) في ت ، أ : "سحر".
(8) في ت : "يقول".
(9) في ت : "الكاهنة".
(10) في ت : "الحضين".
(11) في ت ، أ : "ذا سن".
(4/549)
صاحبكم
هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه
بعضًا. فقالوا : وأنت يا أبا عبد شمس ، فقل (1) وأقم لنا رأيا نقول به. قال : بل
أنتم قولوا (2) لأسمع. قالوا : نقول (3) كاهن". قال : ما هو بكاهن. قالوا :
فنقول : "مجنون". قال : ما هو بمجنون! قالوا (4) فنقول :
"شاعر". قال : ما هو بشاعر! قالوا : فنقول : "ساحر". قال : ما
هو بساحر! قالوا : فماذا نقول ؟ قال : والله إن لقوله حلاوة ، فما أنتم بقائلين من
هذا شيئًا إلا عُرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا : هو ساحر. فتفرقوا عنه
بذلك ، وأنزل الله فيهم : { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } أصنافا (5) {
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } دُوينك
(6) النفر الذين قالوا : ذلك لرسول الله.
وقال عطية العوفي ، عن ابن عمر (7) في قوله : { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال : عن لا إله إلا الله.
وقال عبد الرزاق. أنبأنا الثوري ، عن ليث - هو ابن أبي سليم - عن مجاهد ، في قوله
: { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال : عن (8) لا
إله إلا الله (9)
وقد روى الترمذي ، وأبو يعلى الموصلي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من حديث شريك
القاضي ، عن ليث بن أبي سليم ، عن بَشِير (10) بن نَهِيك ، عن أنس ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [قال] (11) عن لا
إله إلا الله (12)
ورواه ابن إدريس ، عن ليث ، عن بشير (13) عن أنس موقوفا (14)
وقال ابن جرير : حدثنا أحمد ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا شريك ، عن هلال ، عن عبد
الله بن عُكَيم قال : قال عبد الله - هو ابن مسعود - : والذي لا إله غيره ، ما
منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ،
فيقول : ابن آدم ، ماذا (15) غرك مني بي ؟ ابن آدم ، ماذا عملتَ فيما علمت ؟ ابن
آدم ، ماذا أجبت المرسلين (16) ؟
وقال أبو جعفر : عن الربيع ، عن أبي العالية : قال : يسأل العباد كلهم عن خُلَّتين
يوم القيامة ، عما كانوا يعبدون ، وماذا أجابوا المرسلين.
__________
(1) في ت : "فقيل".
(2) في ت ، أ : "تقولوا".
(3) في ت : "فنقول".
(4) في أ : "قال".
(5) في ت : "أضيافا".
(6) في ت ، أ : "أولئك".
(7) في أ : "عن ابن عباس".
(8) في أ : "عن قول".
(9) تفسير عبد الرزاق (1/303).
(10) في ت ، أ : "بشر".
(11) زيادة من ت ، أ.
(12) سنن الترمذي برقم (3126) ومسند أبي يعلى (7/111) وهو عندهما من طريق ليث بن
أبي سليم ، عن بشر ، عن أنس ، وفي تفسير الطبري (14/46) رواه من طريق شريك عن بشر
عن أنس ، وقال الترمذي : "هذا حديث غريب إنما نعرفه من حديث ليث ابن أبي سليم
، وقد روى عبد الله بن أدريس ، عن ليث بن أبي سليم ، عن بشر ، عن أنس نحوه ولم
يرفعه".
(13) في أ : "بشر".
(14) أشار إليه الترمذي كما تقدم ، ورواه الطبري في تفسيره (14/46) من طريق أبي
كريب وأبي السائب ، عن ابن إدريس به موقوفا.
(15) في ت : "ما".
(16) تفسير الطبري (14/46).
(4/550)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
وقال
ابن عيينة عن عملك ، وعن مالك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحُوَّاري ، حدثنا يونس
الحذاء ، عن أبي حمزة الشيباني ، عن معاذ بن جبل قال : قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "يا معاذ ، إن المؤمن ليسأل (1) يوم القيامة عن جميع سعيه ، حتى
كحل عينيه ، وعن (2) فتات الطينة بأصبعيه ، فلا ألفينك يوم القيامة (3) وأحد أسعد
بما آتى (4) الله منك" (5)
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ثُمَّ قَالَ { فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ
عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ } [الرحمن : 39] قال : لا يسألهم : هل عملتم كذا
؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول : لم عملتم كذا وكذا ؟
{ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا
كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ
بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) }
يقول تعالى آمرًا رسوله ، صلوات الله وسلامه عليه ، بإبلاغ ما بعثه به وبإنفاذه (6)
والصَّدع به ، وهو مواجهة المشركين به ، كما قال ابن عباس : { فَاصْدَعْ بِمَا
تُؤْمَرُ } أي : أمضه. وفي رواية : افعل ما تؤمر.
وقال مجاهد : هو الجهر بالقرآن في الصلاة.
وقال أبو عبيدة ، عن (7) عبد الله بن مسعود : ما زال النبي صلى الله عليه وسلم
مستخفيا ، حتى نزلت : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } فخرج هو وأصحابه (8)
وقوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
} أي : بلغ ما أنزل إليك من ربك ، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك
عن آيات الله. { وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [القلم : 9] ولا تخفْهم ؛
فإن الله كافيك إياهم ، وحافظك منهم ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ
بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة : 67]
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يحيى بن محمد بن السكن ، حدثنا إسحاق بن إدريس
، حدثنا عون بن كَهْمَس ، عن يزيد بن درهم ، قال : سمعت أنسًا (9) يقول في هذه
الآية : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ
اللهِ إِلَهًا آخَرَ }
__________
(1) في أ : "يسأل".
(2) في أ : "وحتى".
(3) في أ : "فلا ألفينك تأتي يوم القيامة".
(4) في ت ، أ : "أتاك".
(5) ورواه أبو نعيم في الحلية (10/31) من طريق إسحاق بن أبي حسان ، عن أحمد بن أبي
الحوارى به نحوه ، وسيأتي مطولا عند تفسير الآية : 14 من سورة الفجر ، وقد علق
الحافظ ابن كثير : "حديث غريب جدا في إسناده نظر وفي صحته".
(6) في أ : "وإنفاذه".
(7) في ت ، أ : "ابن".
(8) رواه الطبري في تفسيره (14/47).
(9) في ت ، أ ، هـ : "عن أنس قال : "سمعت أنسا" وهو تحريف وقد وقع
مثله في كشف الأستار للهيثمي.
(4/551)
قال
: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغمزه بعضهم ، فجاء جبريل - أحسبه قال :
فغمزهم فوقع في أجسادهم - كهيئة الطعنة حتى ماتوا (1)
وقال محمد بن إسحاق : كان عظماء المستهزئين - كما حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة
بن الزبير - خمسة نفر ، كانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم ، من بني أسد بن عبد العزى
بن قُصي : الأسود بن المطلب أبو (2) زمعة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فيما بلغني - قد دعا عليه ، لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه [به] (3) فقال :
اللهم ، أعم بصره ، وأثكله ولده. ومن بني زهرة : الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد
مناف بن زُهرة. ومن بني مخزوم : الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عُمَر بن مخزوم.
ومن بني سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي : العاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن
سعد. ومن خزاعة : الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد عمرو بن ملكان -
فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء ، أنزل الله
تعالى : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا
كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } إلى قوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }
وقال ابن إسحاق : فحدث يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، أو غيره (4) من
العلماء ، أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت ، فقام وقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فمر به الأسود [ابن المطلب فرمى في وجهه
بورقة خضراء ، فعمى ، ومر به الأسود] (5) بن عبد يغوث ، فأشار إلى بطنه ، فاستسقى
(6) بطنه ، فمات منه حَبَنَا ، ومر به الوليد بن المغيرة ، فأشار إلى أثر جُرح
بأسفل كعب رجله - كان أصابه قبل ذلك بسنتين وهو يجر إزاره ، وذلك أنه مر برجل من
خزاعة يريش نبلا له ، فتعلق سهم من نبله بإزاره ، فخدش رجله ذلك الخدش ، وليس بشيء
، فانتقض به فقتله. ومر به العاص بن وائل ، فأشار إلى أخمص قدمه ، فخرج على حمار
له يريد الطائف ، فربض (7) على شِبْرِقَةٍ فدخلت في أخمص رجله منها شوكة فقتلته.
ومر به الحارث بن الطلاطلة ، فأشار إلى رأسه ، فامتخط قيحا ، فقتله (8)
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : كان
رأسُهم الوليد بن المغيرة ، وهو الذي جمعهم.
وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة ، نحو سياق محمد بن إسحاق ، عن يزيد ، عن عروة ،
بطوله ، إلا أن سعيدًا يقول : الحارث بن غيطلة. وعكرمة يقول : الحارث بن قيس.
قال الزهري : وصدقا ، هو الحارث بن قيس ، وأمه غيطلة.
وكذا روي عن مجاهد ، ومقسم ، وقتادة ، وغير واحد ، أنهم كانوا خمسة.
__________
(1) مسند البزار برقم (2222) "كشف الأستار" ونقل عنه الهيثمي قوله :
"تفرد به يزيد بن درهم ، عن أنس ولا أعلم له عن أنس غيره" ، وقال
الهيثمي في المجمع (7/46) : "فيه يزيد بن درهم ، ضعفه ابن معين ، ووثقه
الفلاس".
(2) في ت : "ابن".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت : "وغيره".
(5) زيادة من ت ، أ ، وابن هشام والطبري.
(6) في أ : "فاستقى".
(7) في ت ، أ : "فربض به".
(8) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/409 ، 410 ) وتفسير الطبري (14/48).
(4/552)
وقال
الشعبي : كانوا سبعة.
والمشهور الأول.
وقوله : { الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ
} تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، لمن جعل مع الله معبودا آخر.
وقوله : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } أي : وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل
لك من أذاهم لك انقباض وضيق صدر. فلا يهيدنك ذلك ، ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة
الله ، وتوكل على الله فإنه كافيك وناصرك عليهم ، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه
وعبادته التي هي الصلاة ؛ ولهذا قال : { وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } كما جاء في
الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير
بن مُرَّة ، عن نعيم بن هَمَّار (1) أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"قال الله : يا ابن آدم ، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره..
ورواه أبو داود (2) من حديث مكحول ، عن كثير بن مرة ، بنحوه (3)
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزبه أمر صلَّى.
وقوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } قال البخاري : قال
سالم : الموت (4)
وسالم هذا هو : سالم بن عبد الله بن عمر ، كما قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن سفيان ، حدثني طارق بن عبد الرحمن ،
عن سالم بن عبد الله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } قال :
الموت (5)
وهكذا قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيره (6)
والدليل على ذلك قوله تعالى إخبارًا عن أهل النار أنهم قالوا : { لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ
وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } [المدثر : 43
- 47]
وفي الصحيح (7) من حديث الزهري ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أم العلاء - امرأة
من الأنصار - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون - وقد
مات - قلت : رحمة الله عليك (8) أبا السائب ، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما يدريك أن الله أكرمه ؟"
__________
(1) في ت ، أ : "عمار".
(2) في ت ، أ : "أبو داود والنسائي".
(3) المسند (5/286) وسنن أبي داود برقم (1289).
(4) صحيح البخاري (8/383) "فتح".
(5) تفسير الطبري (14/51).
(6) في ت : "وغيرهم".
(7) في أ : "الصحيحين".
(8) في ت ، أ : "رحم الله قلبك".
(4/553)
فقلت
: بأبي وأمي يا رسول الله ، فمن ؟ فقال : "أما هو فقد جاءه اليقين ، وإني
لأرجو له الخير" (1)
ويستدل من هذه الآية الكريمة وهي قوله : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ } - على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله
ثابتا فيصلي بحسب حاله ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن عمران بن حصين ، رضي الله
عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "صَلِّ قائمًا ، فإن لم تستطع
فقاعدًا ، فإن لم تستطع فعلى جَنْب" (2)
ويستدل بها (3) على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة ،
فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم. وهذا كفر وضلال وجهل ، فإن
الأنبياء ، عليهم السلام ، كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه
وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أعبد الناس وأكثر الناس عبادة
ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. وإنما المراد باليقين هاهنا الموت ، كما
قدمناه. ولله الحمد والمنة ، والحمد لله على الهداية ، وعليه الاستعانة والتوكل ،
وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها [فإنه جواد كريم] (4)
[وحسبنا الله ونعم الوكيل] (5)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1243).
(2) صحيح البخاري برقم (1117).
(3) في أ : "بهذا".
(4) زيادة من ت ، أ.
(5) زيادة من أ.
(4/554)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
تفسير
سورة النحل
وهي مكية.
{ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ (1) }
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبرًا بصيغة الماضي الدال على التحقق (1)
والوقوع لا محالة [كما قال تعالى] (2) : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ
فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } [الأنبياء : 1] ، وقال : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [القمر : 1].
وقوله : { فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } أي : قرب ما تباعد فلا تستعجلوه.
يحتمل أن يعود الضمير على الله ، ويحتمل أن يعود على العذاب ، وكلاهما متلازم ،
كما قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى
لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }
[العنكبوت : 53 ، 54].
وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب ، فقال في قوله : { أَتَى أَمْرُ
اللَّهِ } أي : فرائضه وحدوده.
وقد رده ابن جرير فقال : لا نعلم أحدًا استعجل الفرائض (3) والشرائع قبل وجودها
(4) بخلاف العذاب فإنهم استعجلوه قبل كونه ، استبعادًا وتكذيبًا.
قلت : كما قال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا
إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } [الشورى : 18].
وقال ابن أبي حاتم : ذُكر عن يحيى بن آدم ، عن أبي بكر بن عياش ، عن محمد بن عبد
الله - مولى المغيرة بن شعبة - عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن حُجيرة ، عن
عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تطلع عليكم عند الساعة
سحابة سوداء من المغرب مثل الترس ، فما تزال ترتفع في السماء ، ثم ينادي مناد فيها
: يا أيها الناس. فيقبل الناس بعضهم على بعض : هل سمعتم ؟ فمنهم من يقول : نعم.
ومنهم من يشك. ثم ينادي (5) الثانية : يا أيها الناس. فيقول الناس بعضهم لبعض : هل
سمعتم ؟ فيقولون : نعم. ثم ينادي الثالثة : يا أيها الناس ، أتى أمر الله فلا
تستعجلوه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فوالذي نفسي بيده ، إن
الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا ، وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه (6)
شيئًا أبدًا ، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدًا - قال - ويشتغل (7)
الناس" (8).
__________
(1) في أ : "التحقيق".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) في ف ، أ : "بالفرائض".
(4) في أ : "وجودهما".
(5) في ت ، أ : "ينادي مناد".
(6) في ف : "منه".
(7) في ت : "ويستعمل".
(8) ورواه الحاكم في المستدرك (4/539) : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا
الحسن بن علي بن عفان ، حدثنا يحيى بن آدم به ، وقال : "صحيح الإسناد على شرط
مسلم ولم يخرجاه". ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/325) : حدثنا الحسين
التستري ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا يحيى بن آدم به ، وقال المنذري في الترغيب
والترهيب (4/382) : "رواه الطبراني بإسناد جيد رواته ثقات مشهورون".
(4/555)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
ثم
إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره ، وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد
، تعالى وتقدس علوًا كبيرًا ، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة ، فقال : { سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
{ يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) }
يقول تعالى : { يُنزلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ } أي : الوحي كما قال تعالى : {
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ
مِنْ عِبَادِنَا } [الشورى : 52].
وقوله : { عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهم الأنبياء ، كما قال : {
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام : 124] ، وقال : {
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ } [الحج : 75] ،
وقال : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ
مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }
[غافر : 15 ، 16 ].
وقوله : { أَنْ أَنْذِرُوا } أي : لينذروا { أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } [كما
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ
أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } ] (1) { فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] ، وقال في
هذه [الآية] (2) : { فَاتَّقُونِ } أي : فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) }
يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السماوات ، والعالم السفلي وهو الأرض بما
حوت ، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث (3) ، بل { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا
بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم : 31].
ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره [من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهم يخلقون
فكيف ناسب أن يعبد معه غيره] (4) ، وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له ، فلهذا
يستحق (5) أن يعبد وحده لا شريك له.
ثم نبه على خلق جنس الإنسان { مِنْ نُطْفَةٍ } أي : ضعيفة مهينة ، فلما استقل
ودَرَج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ، ويحارب رسله ، وهو إنما خلق ليكون عبدًا
لا ضدًا ، كما قال تعالى :
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) زيادة من ت ، أ.
(3) في أ : "لا للعب".
(4) زيادة من ت ، ف.
(5) في أ : "استحق".
(4/556)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
{
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا
وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا * وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُهُمْ
وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا } [الفرقان : 54 ،
55] ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ
فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ
يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس : 77 ، 79].
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجه عن بُسْر بن جَحَّاش قال : بصق رسول
الله في كفه ، ثم قال : "يقول الله : ابن آدم ، أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من
مثل هذه ، حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ،
حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : أتصدقُ. وأنى أوان الصدقة ؟" (1).
{ وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ
(5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) }
__________
(1) المسند (4/210) وسنن ابن ماجه برقم (2707) وقال البوصيري في الزوائد (2/365) :
"إسناد صحيح رجاله ثقات ، ورواه أحمد في مسنده من حديث بسر ، وأصله في
الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة".
(4/557)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
{
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ
الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) }
يمتن تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم ، كما
فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج ، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع
، من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون ، ومن ألبانها يشربون ، ويأكلون
من أولادها ، وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة ؛ ولهذا قال : { وَلَكُمْ فِيهَا
جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ } وهو وقت رجوعها عشيًا من المرعى (1) فإنها تكون أمَدّه
(2) خواصر ، وأعظمه ضروعًا ، وأعلاه أسنمة ، { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي : غُدوة
حين تبعثونها إلى المرعى.
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وهي الأحمال المثقلة (3) التي تَعجزُون عن نقلها
وحملها ، { إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ } وذلك
في الحج والعمرة والغزو والتجارة ، وما جرى مجرى ذلك ، تستعملونها في أنواع
الاستعمال ، من ركوب وتحميل ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ
لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }
[المؤمنون : 21 ، 22] ، وقال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ
لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ
وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُون } [غافر : 79
، 81] ؛ ؛ ولهذا قال هاهنا بعد تعداد هذه النعم : { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ
رَحِيمٌ } أي : ربكم الذي قيَّض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم ، كما قال : { أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ
لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا
يَأْكُلُونَ } [يس : 71 ، 72] ، وقال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ
وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا
نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي
سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا
لَمُنْقَلِبُونَ } [الزخرف : 12 - 14].
__________
(1) في ت : "الرعى".
(2) في ت ، ف : "أعده".
(3) في ت ، ف ، أ : "الثقيلة".
(4/557)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
قال
ابن عباس : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } أي : ثياب ، والمنافع : ما تنتفعون به من الأطعمة
والأشربة.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : {
دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } نسل كل دابة.
وقال مجاهد : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } قال : لباس ينسج ، ومنافع تُركَبُ ، ولحم
ولبن.
وقال قتادة : { دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } يقول : لكم فيها لباس ، ومنفعة ، وبُلْغة.
وكذا قال غير واحد من المفسرين ، بألفاظ متقاربة.
{ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا
لا تَعْلَمُونَ (8) }
هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده ، يمتن به عليهم ، وهو : الخيل والبغال
والحمير ، التي جعلها للركوب والزينة بها ، وذلك أكبر المقاصد منها ، ولما فَصَلها
من الأنعام وأفردها بالذكر استدل من استدل من العلماء - ممن ذهب إلى تحريم لحوم
الخيل - بذلك على ما ذهب إليه فيها ، كالإمام أبي حنيفة ، رحمه الله (1) ومن وافقه
من الفقهاء (2) ؛ لأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير ، وهي حرام ، كما ثبتت به
السنة النبوية ، وذهب إليه أكثر العلماء.
وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، أنبأنا
هشام الدَّسْتُوَائي ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن مولى نافع بن علقمة ، أن ابن
عباس كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكان يقول : قال الله : {
وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }
فهذه للأكل ، { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } فهذه
للركوب (3).
وكذا روي من طريق سعيد بن جُبَير وغيره ، عن ابن عباس ، بمثله. وقال مثل ذلك الحكم
بن عتيبة (4) رضي الله عنه (5) أيضا ، واستأنسوا بحديث رواه الإمام أحمد في مسنده
:
حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن صالح
بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب ، عن أبيه ، عن جده ، عن خالد بن الوليد ، رضي
الله عنه ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل ، والبغال ،
والحمير.
وأخرجه أبو داود والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث صالح بن يحيى بن المقدام - - وفيه
كلام - به (6).
ورواه أحمد أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال :
__________
(1) في ف ، أ : "رحمة الله عليه".
(2) في ت : "العلماء".
(3) تفسير الطبري (14/57).
(4) في ت ، ف ، أ : "عيينة".
(5) في ت : "رحمه الله".
(6) المسند (4/89) وسنن أبي داود برقم (3790) وسنن النسائي (7/202) وسنن ابن ماجة
برقم (3198).
(4/558)
حدثنا
أحمد بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا سليمان بن سليم ، عن صالح بن يحيى
بن المقدام ، عن جده المقدام بن معد يكرب قال : غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة ،
فقَرِم (1) أصحابنا إلى اللحم ، فسألوني رَمَكة ، فدفعتها إليهم فَحبَلوها وقلت
(2) : مكانكم حتى آتي خالدًا فأسأله. فأتيته فسألته ، فقال : غزونا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر ، فأسرع الناس في حظائر يهود ، فأمرني أن أنادي :
"الصلاة جامعة ، ولا يدخل الجنة إلا مسلم" ثم قال : "أيها الناس ،
إنكم قد أسرعتم في حظائر يهود ، ألا لا تحل (3) أموال المعاهدين إلا بحقها ، وحرام
عليكم لحوم الأتن (4) الأهلية وخيلها وبغالها ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي
مخلب من الطير" (5).
والرمكة : هي الحِجْرَة. وقوله : حَبَلوها ، أي : أوثقوها في الحبل ليذبحوها.
والحظائر : البساتين القريبة من العمران.
وكأن هذا الصنيع وقع بعد إعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر ، والله أعلم.
فلو صحّ هذا الحديث لكان نصًا في تحريم لحوم الخيل ، ولكن لا يقاوِمُ ما ثبت في
الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم
الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل (6).
ورواه الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين ، كل منهما على شرط مسلم ، عن جابر قال :
ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
البغال والحمير ، ولم ينهنا عن الخيل (7).
وفي صحيح مسلم ، عن أسماء بنت أبي بكر ، رضي الله عنهما ، قالت : نحرنا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة (8).
فهذه أدل وأقوى وأثبت ، وإلى ذلك صار جمهورُ العلماء : مالك ، والشافعي ، وأحمد ،
وأصحابهم ، وأكثر السلف والخلف ، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن ابن عباس قال :
كانت الخيل وحشية ، فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم ، عليهما السلام.
وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته : أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب ، والله (9)
أعلم.
فقد دل النص على جواز ركوب هذه الدواب ، ومنها البغال. وقد أهديت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بغلة ، فكان يركبها ، مع أنه قد نَهَى عن إنزاء الحمر على
الخيل لئلا ينقطع النسل.
قال الإمام أحمد : حدثني محمد بن عبيد ، حدثنا عمر من آل حذيفة ، عن الشعبي ، عن
دَحْية الكلبي قال : قلت : يا رسول الله ، ألا أحمل لك حمارًا على فرس ، فتنتج لك
بغلا فتركبها ؟ قال : "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون" (10).
__________
(1) في ت : "فغرم".
(2) في أ : "فقلت".
(3) في ف : "لا يحل".
(4) في ت ، ف : "الحمر".
(5) المسند (4/89).
(6) صحيح البخاري برقم (4219 ، 5524). وصحيح مسلم برقم (1941).
(7) المسند (3/356) وسنن أبي داود برقم (3789).
(8) صحيح مسلم برقم (1942).
(9) في ت : "فالله".
(10) المسند (4/311).
(4/559)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
{
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ
أَجْمَعِينَ (9) }
لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يُسَار عليه في السبل الحسية ، نبه على الطرق
المعنوية الدينية ، وكثيرًا ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور
المعنوية النافعة الدينية ، كما قال تعالى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَى } [البقرة : 197] ، وقال : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ
خَيْرٌ } [الأعراف : 26].
ولما ذكر في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها ، التي يركبونها (1) ويبلغون
عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار
الشاقة - شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه ، فبين أن الحق منها ما هي
موصلة إليه ، فقال : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } كما قال : { وَأَنَّ
هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام : 153] ، وقال : { هَذَا (2)
صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } [الحجر : 41].
قال مجاهد : في [قوله] (3) : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } قال : طريق
الحق على الله.
وقال السدي : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } قال : الإسلام.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ } يقول :
وعلى الله البيان ، أي : تبين (4) الهدى والضلال (5).
وكذا روى علي بن أبي طلحة ، عنه ، وكذا قال قتادة ، والضحاك. وقولُ مجاهد هاهنا
أقوى من حيث السياق ؛ لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقًا تسلك إليه ، فليس يصل إليه منها
إلا طريقُ الحق ، وهي الطريق (6) التي شَرَعها ورضيها وما عداها مسدودة (7) ،
والأعمال فيها مردودة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَمِنْهَا جَائِرٌ } أي : حائد (8)
مائل زائغ عن الحق.
قال ابن عباس وغيره : هي الطرق المختلفة ، والآراء والأهواء المتفرقة ، كاليهودية
والنصرانية والمجوسية ، وقرأ ابن مسعود : "ومنكم جائر".
ثم أخبر أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته ، فقال : { وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ
أَجْمَعِينَ } كما قال : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ
كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [يونس : 99] ، وقال : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ
النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ
رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود : 118 ، 119].
{ هُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ
شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ
وَالنَّخِيلَ وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) }
__________
(1) في ت : "تركبونها".
(2) في ف : "وقال : قال هذا".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) في ت ، ف : "يبين".
(5) في ت ، ف : "الضلالة".
(6) في ت : "الطرق".
(7) في أ : "مسدود".
(8) في ت : "جائر".
(4/560)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
لما
(1) ذكر سبحانه ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب ، شرع في ذكر نعمته عليهم ،
في إنزال (2) المطر من السماء - وهو العلو - مما لهم فيه بُلْغَة ومتاع لهم
ولأنعامهم ، فقال : { لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ } أي : جعله عذبًا زلالا يسوغ لكم
شرابه ، ولم يجعله ملحا أجاجا.
{ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } أي : وأخرج لكم به شجرًا ترعون فيه أنعامكم.
كما قال ابن عباس ، وعكرمة والضحاك ، وقتادة وابن زيد ، في قوله : { فِيهِ
تُسِيمُونَ } أي : ترعون.
ومنه الإبل السائمة ، والسوم : الرعي.
وروى ابن ماجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السوم قبل طلوع الشمس
(3).
وقوله : { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالأعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } أي : يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد
، على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها ؛ ولهذا قال : { إِنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : دلالة وحجة على أنه لا إله إلا
الله ، كما قال تعالى : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزلَ لَكُمْ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ
لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ
يَعْدِلُونَ } [النمل : 60]
ثم قال (4) تعالى :
{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ
مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) } ينبه تعالى عباده على آياته العظام ، ومننه الجسام
، في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان ، والشمس والقمر يدوران ، والنجوم الثوابت
والسيارات ، في أرجاء السموات نورا وضياء لمهتدين بها في الظلمات ، وكل منها يسير
في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه ، يسير بحركة مُقدرة ، لا يزيد عليها ولا ينقص
منها ، والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسييره ، كما قال : { إِنَّ
رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ
الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف : 54] ؛
ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : لدلالات على
قدرته الباهرة وسلطانه العظيم ، لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه.
وقوله : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } لما نبه
سبحان على معالم السماوات (5) ، نبه على
__________
(1) في ف : "كما".
(2) في ت : "إنزاله".
(3) سنن ابن ماجة برقم (2206) ورواه الحاكم في المستدرك (4/234) كلاهما من طريق
الربيع بن حبيب ، عن نوفل بن عبد الملك ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب قال : نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السوم... فذكر الحديث. وقال البوصيري في الزوائد
(2/177) "هذا إسناد ضعيف لضعف ابن نوفل بن عبد الملك والربيع بن حبيب".
(4) في أ : "وقال".
(5) في ت ، ف ، أ : "السماء".
(4/561)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
ما
خلق في الأرض من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة ، من الحيوانات والمعادن
والنباتات (1) [والجمادات] (2) على اختلاف ألوانها وأشكالها ، وما فيها من المنافع
والخواص { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } أي : آلاء الله ونعمه
فيشكرونها.
{ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ
فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) }
__________
(1) في أ : "والنبات".
(2) زيادة من ف ، أ.
(4/562)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
{
وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) }
يخبر تعالى عن تسخيره (1) البحر المتلاطم الأمواج ، ويمتن على عباده بتذليله لهم ،
وتيسيره للركوب فيه ، وجعله السمك والحيتان فيه ، وإحلاله (2) لعباده لحمها حيها
وميتها ، في الحل والإحرام (3) وما يخلقه فيه من اللآلئ والجواهر النفيسة ، وتسهيله
للعباد استخراجها من قرارها حلية يلبسونها ، وتسخيره البحر لحمل (4) السفن التي
تمخره ، أي : تشقه.
وقيل : تمخر الرياح ، وكلاهما صحيح بجؤجئها وهو صدرها المسنَّم - الذي أرشد العباد
إلى صنعتها ، وهداهم إلى ذلك ، إرثا عن أبيهم نوح ، عليه السلام ؛ فإنه أول من ركب
السفن ، وله كان تعليم صنعتها ، ثم أخذها الناس عنه قرنًا بعد قرن ، وجيلا بعد جيل
، يسيرون من قطر إلى قطر ، وبلد إلى بلد ، وإقليم إلى إقليم ، تجلب ما هنا إلى
هنالك ، وما هنالك إلى هنا (5) ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : نعمه وإحسانه.
وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية (6)
البغدادي : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن [عمر ، عن] (7) سُهَيل بن أبى صالح ،
عن أبيه ، عن أبي هريرة [رفعه] (8) قال : كلم الله هذا البحر الغربي ، وكلم البحر
الشرقي ، فقال للبحر الغربي : إني حامل فيك عبادًا من عبادي ، فكيف أنت صانع فيهم
(9) ؟ قال : أغرقهم. فقال : بأسك في نواحيك. وأحملهم على يدي. وحَرّمه الحلية
والصيد. وكلم هذا البحر الشرقي فقال : إني حامل فيك عبادًا من عبادي ، فما أنت
صانع بهم ؟ فقال : أحملهم على يدي ، وأكون لهم (10) كالوالدة لولدها. فأثابه
الحلية والصيد (11).
__________
(1) في أ : : تسخير".
(2) في ت : "وإجلاله".
(3) في أ : "والحرم".
(4) في ت : "كحمل".
(5) في ف ، أ : "تجلب ما هاهنا إلى هناك وما هناك إلى هاهنا".
(6) في ت : "معاوية بن محمد".
(7) زيادة من ف ، أ ، ومسند البزار.
(8) زيادة من مسند البزار.
(9) في ت ، ف ، أ : "بهم".
(10) في ف : "بهم".
(11) مسند البزار برقم (1669) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(5/281) : "رواه البزار وجادة ، وفيه عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر العمري وهو
متروك". ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه (10/233 ، 234) من هذا الطريق قال :
"وتابعه أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، فرواه عن عمه عبد الله بن
وهب ، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن سهيل عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن
العاص عن كعب الأحبار ، وخالفهما خالد بن عبد الله الواسطي ، فرواه عن سهيل عن
النعمان بن أبي عياش الزرقي عن عبد الله بن عمرو موقوفا لم يجاوزه ، ورفعه غير
ثابت".
(4/562)
ثم
قال البزار : لا نعلم من رواه عن سهيل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر (1) وهو
منكر الحديث. وقد رواه سهيل عن النعمان بن أبي عياش (2) عن عبد الله بن عمرو (3)
موقوفا (4).
ثم ذكر تعالى الأرض ، وما جعل فيها من الرواسي الشامخات والجبال الراسيات ، لتقر
الأرض ولا تميد ، أي : تضطرب بما عليها من الحيوان فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك ؛
ولهذا قال : { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } [النازعات : 32].
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن قتادة ، سمعت الحسن يقول : لما خُلقت الأرض
كانت تميد ، فقالوا ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدًا فأصبحوا وقد خُلقت الجبال ، لم
(5) تدر الملائكة مِمّ خلقت الجبال (6).
وقال سعيد عن قتادة ، عن الحسن ، عن قيس بن عُبَادة : أن الله تعالى لما خلق الأرض
، جعلت تمور ، فقالت الملائكة : ما هذه بمقرّة على ظهرها أحدًا ، فأصبحت صبحا
وفيها رواسيها.
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا حجاج بن مِنْهَال ، حدثنا حماد ، عن عطاء بن
السائب ، عن عبد الله بن حَبِيب ، عن علي بن أبي طالب (7) ، رضي الله عنه ، قال :
لما خلق الله الأرض قمصت وقالت : أي رَب ، تجعل عليَّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا
ويجعلون عليّ الخبث ؟ قال : فأرسى الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان
إقرارها كاللحم يترجرج. (8) (9).
وقوله : { وَأَنْهَارًا وَسُبُلا } أي : وجعل فيها أنهارًا تجري من مكان إلى مكان
آخر ، رزقًا للعباد ، ينبع في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر ، فيقطع البقاع والبراري
والقفار ، ويخترق (10) الجبال والآكام ، فيصل إلى البلد الذي سُخِّر لأهله. وهي
سائرة في الأرض يمنة ويسرة ، وجنوبًا وشمالا وشرقًا وغربًا ، ما بين صغار وكبار ،
وأودية تجري حينًا وتنقطع (11) في وقت ، وما بين نبع وجمع ،
__________
(1) في ف : "عمرو".
(2) في أ : "عباس".
(3) في ت ، أ ، هـ : "عمر" وهو خطأ.
(4) رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (10/234) من طريق سعيد بن منصور ، عن خالد بن
عبد الله ، عن سهيل بن أبي صالح به. وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية
(1/20) : "قلت : الموقوف على عبد الله بن عمرو بن العاص أشبه ، فإنه قد كان
وجد يوم اليرموك زاملتين مملوءتين كتبا من علوم أهل الكتاب ، فكان يحدث منهما
بأشياء كثيرة من الإسرائيليات منها المعروف والمشهور والمنكور والمردود ، فأما
المعروف فتفرد به عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب
أبو القاسم المدني قاضيها. قال فيه الإمام أحمد : ليس بشيء وقد سمعته منه ، ثم
مزقت حديثه كان كذابا وأحاديثه مناكير. وكذا ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم
والجوزجاني والبخاري وأبو داود والنسائي. وقال ابن عدي : عامة أحاديثه مناكير
وأفظعها حديث البحر".
(5) في ت ، ف : "فلم".
(6) تفسير عبد الرزاق (1/306).
(7) في أ : "طلحة".
(8) في أ : "ترجرج".
(9) تفسير الطبري (14/62).
(10) في ت ، ف : "ويخرق".
(11) في ت : "وتقطع".
(4/563)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
وقوي
السير وبطيئه ، بحسب ما أراد وقدر ، وسخر ويسر فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه.
وكذلك جعل فيها سبلا أي : طرقًا يسلك فيها من بلاد إلى بلاد ، حتى إنه تعالى ليقطع
الجبل حتى يكون (1) ما بينهما ممرًا ومسلكًا ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا
فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا } [الأنبياء : 31].
وقوله : { وَعَلامَاتٍ } أي : دلائل من جبال كبار وآكام صغار ، ونحو ذلك ، يستدل
بها المسافرون برًا وبحرًا إذا ضلوا الطريق [بالنهار] (2).
وقوله : { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } أي : في ظلام الليل ، قاله ابن عباس.
وعن مالك في قوله : { وَعَلامَاتٍ } يقولون : النجوم ، وهي الجبال.
ثم قال تعالى منبها على عظمته ، وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من
الأوثان ، التي لا تخلق شيئًا بل هم يخلقون ؛ ولهذا قال : { أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ }
ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم ، فقال : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : يتجاوز عنكم ، ولو
طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك ، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم ، ولو
عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم ، ولكنه غفور رحيم ، يغفر الكثير ، ويجازي على (3)
اليسير.
وقال ابن جرير : يقول : { إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } لما كان منكم من
تقصير في شكر بعض ذلك ، إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته ، { رَحِيمٌ }
بكم أن يعذبكم ، [أي] (4) : بعد الإنابة والتوبة (5).
{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) }
يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر ، وسيجزي كل عامل بعمله
يوم القيامة ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر.
ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها (6) من دون الله لا يخلقون شيئًا وهم يخلقون ،
كما قال الخليل : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا
تَعْمَلُونَ } [الصافات : 95 ، 96].
وقوله : { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } أي : هي جمادات لا أرواح فيها (7) فلا
تسمع ولا تبصر ولا تعقل.
{ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي : لا يدرون متى تكون الساعة ، فكيف
يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء ؟ إنما يرتجى (8) ذلك من الذي يعلم كل شيء ،
وهو خالق كل شيء.
__________
(1) في أ : "ليكون".
(2) زيادة من ت ، ف.
(3) في ت : "ويتجاوز عن".
(4) زيادة من ت ، ف.
(5) تفسير الطبري (14/64).
(6) في ت : "تدعونها".
(7) في ت ، ف ، أ : "لها".
(8) في ت ، ف ، أ : "يرجى".
(4/564)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ
وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) }
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، وأخبر أن الكافرين تُنكر
(1) قلوبهم ذلك ، كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا
وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص : 5] ، وقال تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ
وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الزمر :
45].
وقوله : { وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ } أي : عن عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده ،
كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : 60] ؛ ولهذا قال هاهنا : { لا جَرَمَ } أي : حقًا
{ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي : وسيجزيهم على
ذلك أتم الجزاء ، { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ
(24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ
الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) }
يقول تعالى : وإذا قيل لهؤلاء المكذبين : { مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا }
معرضين عن الجواب : { أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } أي : لم ينزل شيئًا ، إنما هذا
الذي يتلى علينا أساطير الأولين ، أي : مأخوذ من كتب المتقدمين ، كما قال تعالى :
{ وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ
بُكْرَةً وَأَصِيلا } [الفرقان : 5] أي : يفترون على الرسول ، ويقولون [فيه] (2)
أقوالا مختلفة متضادة (3) ، كلها باطلة (4) كما قال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [الفرقان : 9]
، وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ ، وكانوا يقولون : ساحر ، وشاعر ،
وكاهن ، ومجنون. ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد المسمى بالوليد بن
المغيرة المخزومي ، لما { فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ
فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [المدثر : 18 - 24] أي : ينقل ويحكى ،
فتفرقوا عن قوله ورأيه ، قبحهم الله.
قال الله تعالى : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : إنما قدرنا
عليهم أن يقولوا ذلك فيتحملوا (5) أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم ،
أي : يصير (6) عليهم خطيئة ضلالهم (7) في أنفسهم ، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء
أولئك بهم ، كما جاء في الحديث : "من دعا إلى هُدى كان له من الأجر مثل أجور
من اتبعه ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم
مثلُ آثام من اتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا".
__________
(1) في ت : "ينكر".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) في ت ، ف ، : "متضادة مختلفة".
(4) في ت ، ف ، أ : "باطل".
(5) في ت ، ف ، أ : "ليتحملوا".
(6) في ف : "تصير".
(7) في ف : "عنادهم".
(4/565)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
وقال
[الله] (1) تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ
أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ }
[العنكبوت : 13].
وهكذا (2) روى العوفي عن ابن عباس في قوله : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ
كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ
بِغَيْرِ عِلْمٍ } إنها كقوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ
أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت : 13].
وقال مجاهد : يحملون أثقالهم : ذنوبهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف عمن أطاعهم من
العذاب شيئًا.
{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ
الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ
الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) }
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت ، أ : "لهذا".
(4/566)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
{
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ
الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) }
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ }
قال : هو نمرود الذي (1) بنى الصرح.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد نحوه.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم : أولُ جبار كان في الأرض نمرود ،
فبعث الله عليه بَعُوضة ، فدخلت في منخرة ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق
، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه
الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله. وهو الذي كان بنى صرحًا إلى السماء ،
وهو الذي قال الله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ }
وقال آخرون : بل هو بختنصر. وذكروا من المكر الذي حكى الله هاهنا ، كما قال في
سورة إبراهيم : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [إبراهيم
: 46].
وقال آخرون : هذا من باب المثل ، لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا
في عبادته غيره ، كما قال نوح ، عليه السلام : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا }
[نوح : 22] أي : احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ،
كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ
تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } [الآية] (2)
[سبأ : 33].
وقوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } أي : اجتثه من أصله
، وأبطل عملهم ، وأصلها (3) كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا
لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [المائدة : 64].
وقوله : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } [الحشر : 2].
وقال هاهنا : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ }
__________
(1) في ت ، ف : أ : "حين".
(2) زيادة من ف.
(3) في ت ، ف ، أ : "وأصله".
(4/566)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
أي :
يظهر فضائحهم ، وما كانت تُجنّه ضمائرهم ، فيجعله علانية ، كما قال تعالى : {
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [الطارق : 9] أي : تظهر وتشتهر (1) ، كما في
الصحيحين (2) عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ينصب لكل
غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غَدْرَته ، فيقال : هذه غَدْرَة فلان بن
فلان" (3).
وهكذا هؤلاء ، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ، ويخزيهم الله على رءوس
الخلائق ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ
الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } تحاربون وتعادون في سبيلهم ، [أي] (4) :
أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا ؟ { هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ }
[الشعراء : 93] ، { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [الطارق : 10]. فإذا
توجهت عليهم الحجة ، وقامت عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة ، وأسكتوا عن
الاعتذار حين لا فرار (5) { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } - وهم السادة في
الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : { إِنَّ
الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : الفضيحة والعذاب اليوم
[محيط] (6) بمن كفر بالله ، وأشرك به ما لا يضره ولا ينفعه.
{ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا
السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا
فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) }
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمي أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم
لقبض أرواحهم : { فَأَلْقَوُا السَّلَمَ } أي : أظهروا السمع والطاعة والانقياد
قائلين : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ } كما يقولون يوم المعاد : { وَاللَّهِ
رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام : 23]{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ
جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [المجادلة : 18].
قال الله مكذبا لهم في قيلهم ذلك : { بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } (7) أي : بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان ،
لمن كان متكبرًا عن آيات الله واتباع رسله.
وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، ويأتي (8) أجسادهم في قبورها من حرِّها
وسمومها ، فإذا كان يوم القيامة سلكت (9) أرواحهم في أجسادهم ، وخلدت في نار جهنم
، { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا }
[فاطر : 36] ، كما قال الله تعالى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا
وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذَابِ } [غافر : 46].
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ
وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ
الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ
سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) }
__________
(1) في ت : "يظهر ويستتر".
(2) في ت : "الصحيح".
(3) صحيح البخاري برقم (3188) وصحيح مسلم برقم (1735).
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) في ت ، ف ، أ : "لا قرار".
(6) زيادة من ف.
(7) في ت : "فبئس".
(8) في ت ، أ : "وينال".
(9) في ت : "سالت".
(4/567)
هذا
خبر عن السعداء ، بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء ، فإن أولئك قيل لهم : { مَاذَا
أَنزلَ رَبُّكُمْ } فقالوا معرضين عن الجواب : لم (1) ينزل شيئًا ، إنما هذا (2)
أساطير الأولين. وهؤلاء { قَالُوا خَيْرًا } أي : أنزل خيرا ، أي : رحمة وبركة
وحسنًا لمن اتبعه وآمن به.
ثم أخبروا عما وعد الله [به] (3) عباده فيما أنزله على رسله فقالوا : { لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } كما قال
تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل : 97] ، أي : من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله
إليه في الدنيا والآخرة.
ثم أخبر بأن دار الآخرة خير ، أي : من الحياة الدنيا ، والجزاء فيها أتم من الجزاء
في الدنيا ، كما قال تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ
ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ } [القصص : 80] (4) وقال تعالى : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ
خَيْرٌ لِلأبْرَارِ } [آل عمران : 198] وقال تعالى { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
} [الأعلى : 17] ، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم (5) : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ
لَكَ مِنَ الأولَى } [الضحى : 4].
ثم وصفوا الدار الآخرة فقالوا (6) : { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ }
وقوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } بدل من [قوله] (7) : { دَارُ الْمُتَّقِينَ } أي :
لهم في [الدار] (8) الآخرة { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي : إقامة (9) يدخلونها { تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : بين أشجارها وقصورها ، { لَهُمْ فِيهَا مَا
يَشَاءُونَ } كما قال تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ (10) الأنْفُسُ
وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [الزخرف : 71] ، وفي الحديث :
"إن السحابة لتمر بالملأ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم (11) ، فلا يشتهي
أحد منهم شيئًا إلا أمطرته عليهم ، حتى إن منهم لمن يقول : أمطرينا كواعب أترابًا
، فيكون ذلك (12) " (13).
{ َ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ } أي : كذلك (14) يجزي الله كل من آمن
به واتقاه وأحسن عمله.
ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار ، أنهم (15) طيبون ، أي : مخلصون من الشرك
والدنس
__________
(1) في أ : "أي : لم".
(2) في أ : "هو".
(3) زيادة من ت ، أ.
(4) في ت ، ف ، أ : "وقال الذين أوتوا العلم والإيمان" وهو خطأ.
(5) في ت ، أ : "صلوات الله عليه وسلامه" ، وفي ف : "صلوات الله
عليه".
(6) في ت ، ف ، أ : "ثم وصف الدار الآخرة فقال".
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في أ : "مقامة".
(10) في ت ، أ : "تشتهي" وهو خطأ.
(11) في أ : "سرائرهم".
(12) في ف : "كذلك".
(13) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ، وسيأتي
بإسناده عند تفسير الآية : 33 من سورة النبأ.
(14) في ف ، أ : "هكذا".
(15) في ت ، ف ، أ : "وهم".
(4/568)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
وكل
سوء ، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم (1) بالجنة ، كما قال تعالى : { إِنَّ
الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي
كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا
تَدَّعُونَ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت : 30 - 32].
وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى : {
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ
مَا يَشَاءُ } [إبراهيم : 27].
{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ
رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا
عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) }
يقول تعالى متهددًا للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا : هل ينتظر
هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم بقبض أرواحهم ، قاله قتادة.
{ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } (2) أي : يوم القيامة وما يعاينونه (3) من
الأهوال.
وقوله : { كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : هكذا تمادى في شركهم
أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى (4) ذاقوا بأس الله ، وحلوا فيما هم
فيه من العذاب والنكال. { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ } ؛ لأنه تعالى أعذر إليهم ،
وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ } أي : بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به ، فلهذا أصابتهم (5)
عقوبة الله على ذلك ، { وَحَاقَ بِهِمْ } أي : أحاط بهم من العذاب الأليم { مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي : يَسْخَرون من الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله ؛
فلهذا يقال يوم القيامة : { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ
} [الطور : 14].
__________
(1) في أ : "ويبشرونهم".
(2) في أ : "أو يأتيهم" وهو خطأ.
(3) في أ : "وما يعاينون".
(4) في ت : "حين".
(5) في ت ، ف : "أصابهم".
(4/569)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
{ وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) }
(4/569)
يخبر
تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الشرك واعتذارهم محتجين بالقدر ، في قولهم
: { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا
آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ } أي : من البحائر والسوائب
والوصائل وغير ذلك ، مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء (1) أنفسهم ، ما لم ينزل
الله به سلطانا.
ومضمون كلامهم : أنه لو كان تعالى كارهًا لما فعلنا ، لأنكره علينا بالعقوبة ولما
مكنا (2) منه. قال الله رادًا عليهم شبهتهم : { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ } أي : ليس الأمر كما تزعمون أنه لم يعيره عليكم (3) ولم (4)
ينكره ، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ، ونهاكم عنه آكد النهي ، وبعث في كل أمة
رسولا أي : في كل قرن من الناس وطائفة رسولا وكلهم يدعو (5) إلى عبادة الله ،
وينهى (6) عن عبادة ما سواه : { أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ } فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك ، منذ حدث الشرك في بني
آدم ، في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح ، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض
إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق
والمغارب ، وكلهم كما قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ }
[الأنبياء : 25] ، وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف :
45] ، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ
رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } فكيف يسوغ لأحد من
المشركين بعد هذا أن يقول : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ
شَيْءٍ } فمشيئته تعالى الشرعية منتفية (7) ؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله ،
وأما مشيئته الكونية ، وهي (8) تمكينهم من ذلك قدرا ، فلا حجة لهم فيها (9) لأنه
تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة ، وهو لا يرضى لعباده الكفر ، وله في
ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة.
ثم إنه تعالى قد أخبر أنه عير (10) عليهم ، وأنكر (11) عليهم بالعقوبة في الدنيا
بعد إنذار الرسل ؛ فلهذا قال : { فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أي : اسألوا (12) عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب
الحق كيف { دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [محمد :
10] ، { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ }
[الملك : 18].
ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم ، إذا
كان الله قد أراد إضلالهم ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ
فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } [المائدة : 41] ، وقال نوح لقومه : {
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ
يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ } [هود : 34] ، وقال في هذه الآية
__________
(1) في ف : "من قبل".
(2) في ت : "ولما مكننا" ، وفي ف : "ولا مكننا".
(3) في ت ، أ : "لم يعير".
(4) في أ : "ولا".
(5) في ف" "يدعون".
(6) في ف : "وينهون".
(7) في ف : "منفية".
(8) في ف : "فهي".
(9) في ت ، ف ، أ : "فيه".
(10) في أ : "عيره".
(11) في أ : "وأنكره".
(12) في أ : "فاسألوا".
(4/570)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
الكريمة
: { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } كما
قال تعالى : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ (1) فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأعراف : 186] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ
حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ
آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96 ، 97].
فقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ } أي : شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ؛
فلهذا قال : { لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } أي : من أضله فمن الذي يهديه من بعد الله
؟ أي : لا أحد { وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } أي : ينقذونهم (2) من عذابه
ووثاقه ، { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
} [الأعراف : 54].
{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ
بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ
أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) }
يقول تعالى مخبرا عن المشركين : أنهم حلفوا فأقسموا { بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ } أي : اجتهدوا في الحلف وغلظوا الأيمان على أنه { لا يَبْعَثُ
اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ } أي : استبعدوا ذلك ، فكذبوا (3) الرسل في إخبارهم لهم بذلك
، وحلفوا على نقيضه. فقال تعالى مكذبا لهم وردا عليهم : { بَلَى } أي : بلى سيكون
ذلك ، { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا } (4) أي : لا بد منه ، { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } أي : فَلِجَهْلهم (5) يخالفون الرسل ويقعون في الكفر.
ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد ، فقال : { لِيُبَيِّنَ
لَهُمُ } أي : للناس { الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي : من كل شيء ، و {
لِيَجْزِيَ (6) الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [النجم : 31] ، { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا
أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ } أي : في أيمانهم وأقسامهم : لا يبعث الله من يموت
؛ ولهذا يدعون يوم القيامة إلى نار جهنم دعا ، وتقول (7) لهم الزبانية : { هَذِهِ
النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا
تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور : 14 - 16].
ثم أخبر تعالى عن قدرته (8) على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في
السماء ، وإنما أمره إذا (9) أراد شيئًا أن يقول له : "كن" ، فيكون ،
والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة ، فيكون كما يشاء ، كما قال
(10) { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر : 50] وقال
: { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28] ،
وقال في هذه الآية الكريمة : { إِنَّمَا قَوْلُنَا (11) لِشَيْءٍ إِذَا
أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل : 40] ، أي : أن يأمر به
دفعة (12) واحدة فإذا هو كائن ،
__________
(1) في ت : "ويمدهم" وهو خطأ.
(2) في ت ، ف ، أ : "ينقذهم".
(3) في ت ، ف ، أ : "وكذبوا".
(4) في أ : "عليهم" وهو خطأ.
(5) في أ : "فبجهلهم".
(6) في ت ، ف ، أ : "ويجزى" وهو خطأ".
(7) في ف ، أ : "فيقول".
(8) في ت : "عن قدرة".
(9) في ف : "وأنه إذا".
(10) في ف ، أ : "وقال".
(11) في ت : "أمرنا" وهو خطأ.
(12) في أ : "مرة".
(4/571)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
كما
قال الشاعر (1) :
إذا ما أراد الله أمرًا فإنما... يقول له : "كن" ، قولة فيكون...
أي : أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به ، فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف
، لأنه [هو] (2) الواحد القهار العظيم ، الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء ،
فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر (3) الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن
جُرَيْج ، أخبرني عطاء : أنه سمع أبا هريرة يقول : قال الله تعالى : سَبَّني ابن
آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني ، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني ، فأما تكذيبه
إياي فقال : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ
مَنْ يَمُوتُ } قال : وقلت : { بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } وأما سبه إياي فقال : { إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ
} [المائدة : 73] ، وقلت : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ
يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [سورة الإخلاص] (4).
هكذا (5) ذكره موقوفا ، وهو في الصحيحين مرفوعا ، بلفظ آخر (6).
{ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
(41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) }
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته ، الذين فارقوا الدار
والإخوان والخلان ، رجاء ثواب الله وجزائه.
ويحتمل أن يكون سبب نزول هذه الآية الكريمة في مُهاجرة الحبشة الذي اشتد أذى قومهم
لهم بمكة ، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبشة ، ليتمكنوا من عبادة ربهم ،
ومن أشرافهم : عثمان بن عفان ، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
، وجعفر بن أبي طالب ، ابن عم الرسول (7) وأبو سلمة بن عبد الأسد (8) في جماعة
قريب من ثمانين ، ما بين رجل وامرأة ، صديق وصديقة ، رضي الله عنهم وأرضاهم. وقد
فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } قال ابن عباس والشعبي ، وقتادة : المدينة. وقيل : الرزق
الطيب ، قاله مجاهد.
ولا منافاة بين القولين ، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرًا منها
(9) في الدنيا ، فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله بما هو خير له منه (10) وكذلك وقع
فإنهم مكن الله لهم في البلاد
__________
(1) مضى البيت عند تفسير الآية : 117 من سورة البقرة.
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) في ت : "ذكره".
(4) ورواه الطبري في تفسيره (14/73) من طريق حجاج به موقوفا.
(5) في ت : "هذا".
(6) صحيح البخاري برقم (4974) ولفظه : "قال الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم
يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي ، فقوله : لن يعيدني كما بدأني
، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولدا
وأنا الأحد الصمد ، لم ألد ولم أولد ، ولم يكن لي كفوا أحد".
(7) في ف ، أ : "ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(8) في ف ، أ : "عبد الأسود".
(9) في ت ، ف ، أ : "منه".
(10) في ت ، ف ، أ : "منه في الدنيا".
(4/572)
وحكمهم
على رقاب العباد ، فصاروا أمراء حكاما ، وكل منهم للمتقين إماما ، وأخبر أن ثوابه
للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا ، فقال : { وَلأجْرُ
الآخِرَةِ أَكْبَرُ } أي : مما أعطيناهم في الدنيا { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
أي : لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله
؛ ولهذا قال هُشَيْم ، عن العوام ، عمن حدثه ؛ أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ،
كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه (1) يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما
وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر (2) لك في الآخرة أفضل ، ثم قرأ (3) هذه الآية : {
لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ } (4).
ثم وصفهم تعالى فقال : { الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }
أي : صبروا على أقل (5) من آذاهم من قومهم ، متوكلين على الله الذي أحسن لهم
العاقبة في الدنيا والآخرة.
__________
(1) في أ : "عطاء".
(2) في ف : "وما دخره".
(3) في أ : "يقرأ".
(4) رواه الطبري في تفسيره (14/74).
(5) في ت ، ف ، أ : "أذى".
(4/573)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ
وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) }
قال الضحاك ، عن ابن عباس : لما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت
العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا. فأنزل
الله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ }
[يونس : 2] ، وقال { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي
إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } يعني :
أهل الكتب الماضية : أبشر كانت الرسل التي أتتكم (1) أم ملائكة ؟ فإن كانوا ملائكة
أنكرتم ، وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا ؟ [و]
(2) قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي
إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } (3) ليسوا من أهل السماء كما قلتم.
وهكذا روي عن مجاهد ، عن ابن عباس ، أن المراد بأهل الذكر : أهل الكتاب. وقاله
مجاهد ، والأعمش.
وقول عبد الرحمن بن زيد - الذكر : القرآن واستشهد بقوله : { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا
الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9] - صحيح ، [و] (4) لكن ليس هو
المراد هاهنا ؛ لأن المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه.
وكذا قول أبي جعفر الباقر : "نحن أهل الذكر" - ومراده أن هذه الأمة أهل
الذكر - صحيح ، فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة ، وعلماء أهل بيت الرسول
، عليهم (5) السلام والرحمة ، من
__________
(1) في هـ ، ت ، أ : "إليهم" والمثبت من الطبري. مستفاد من حاشية الشعب.
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) في ف ، أ : "نوحي".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ت : "عليه".
(4/573)
خير
العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة ، كعلي ، وابن عباس ، وبني علي : الحسن
والحسين ، ومحمد بن الحنفية ، وعلي بن الحسين زين العابدين ، وعلي بن عبد الله بن
عباس ، وأبي جعفر الباقر - وهو محمد بن علي بن الحسين - وجعفر ابنه ، وأمثالهم
وأضرابهم وأشكالهم ، ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم ، وعرف لكل ذي
حق حقه ، ونزل كل المنزل الذي أعطاه الله ورسوله واجتمع إليه قلوب عباده المؤمنين.
والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت أن (1) الرسل الماضين (2) قبل محمد صلى الله
عليه وسلم كانوا بشرًا كما هو بشر ، كما قال تعالى : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ
كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ
جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا }
[الإسراء : 93 ، 94] وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ
الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي
الأسْوَاقِ } [الفرقان : 20] وقال { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ
الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ
فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ] } [الأنبياء : 8
، 9] ، (3) وقال : { قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ } [الأحقاف : 9] ،
وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ } [الكهف :
110].
ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشرًا ، إلى سؤال أصحاب الكتب
المتقدمة عن الأنبياء (4) الذين سلفوا : هل كان أنبياؤهم بشرًا أو ملائكة ؟
ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم { بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالدلالات والحجج ، {
وَالزُّبُرِ } وهي الكتب. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وغيرهم.
والزبر : جمع زبور ، تقول العرب : زبرت الكتاب إذا كتبته ، وقال تعالى : { وَكُلُّ
شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } [القمر : 52] وقال : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ
الصَّالِحُونَ } [الأنبياء : 105].
ثم قال تعالى : { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ } يعني : القرآن ، { لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ } من ربهم ، أي : لعلمك (5) بمعنى ما أنزل عليك ،
وحرصك عليه ، واتباعك له ، ولعلمنا بأنك (6) أفضل الخلائق وسيد ولد آدم ، فتفصل
(7) لهم ما أجمل ، وتبين لهم ما أشكل : { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي :
ينظرون لأنفسهم فيهتدون ، فيفوزون (8) بالنجاة في الدارين.
__________
(1) في ت ، ف : "بأن".
(2) في أ : "الماضية".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "بشر أن يسألوا أهل الذكر عن الأنبياء".
(5) في ت : "يعلمك".
(6) ف أ : "بأنه".
(7) في أ : "تفصل".
(8) في ت ، ف : "فيفوزوا".
(4/574)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ
الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ
يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ
عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) }
يخبر تعالى عن حلمه [وإمهاله] (1) وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون
إليها ، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها ، مع قدرته على { أَنْ
يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ } أي : من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم ، كما قال تعالى : {
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ
تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا
فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [الملك : 16 ، 17] ، وقوله { أَوْ يَأْخُذَهُمْ
فِي تَقَلُّبِهِمْ } أي : في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها ، من أسفار (2)
ونحوها من الأشغال الملهية.
قال قتادة والسدي : { تَقَلُّبِهِمْ } أي : أسفارهم.
وقال مجاهد ، والضحاك : { فِي تَقَلُّبِهِمْ } في الليل والنهار ، كما قال تعالى :
{ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ
نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ
يَلْعَبُونَ } [الأعراف : 97 ، 98]. وقوله { فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : لا
يُعجزون الله على أي حال كانوا عليه.
وقوله : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } أي : أو يأخذهم الله في حال خوفهم
من أخذه لهم ، فإنه يكون أبلغ وأشد حالة الأخذ ؛ فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد
؛ ولهذا قال العوفي ، عن ابن عباس : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } يقول :
إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك. وكذا روي عن مجاهد ، والضحاك ،
وقتادة وغيرهم.
ثم قال تعالى : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } أي : حيث لم يعاجلكم
بالعقوبة ، كما ثبت في الصحيحين "[لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم
يجعلون له ولدًا وهو يرزقهم ويعافيهم " (3) ، وفي الصحيحين] (4) إن الله
ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ
أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود : 102] (5) وقال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ }
[الحج : 48].
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ
عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ
وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) }
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء ، ودانت له الأشياء
والمخلوقات بأسرها : جمادها وحيواناتها ، ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة ،
فأخبر (6) أن كل ما له ظل يتفيأ
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "بما في أسفارهم".
(3) صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804).
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري ،
رضي الله عنه.
(6) في ت : "والمخبر".
(4/575)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
ذات
اليمين وذات الشمال ، أي : بكرة وعشيا ، فإنه ساجد بظله لله تعالى.
قال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كلُّ شيء لله عز وجل. وكذا قال قتادة ، والضحاك ،
وغيرهم.
وقوله : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } أي : صاغرون.
وقال مجاهد أيضًا : سجود كل شيء فيه. وذكر الجبال قال : سجودها فيها.
وقال أبو غالب الشيباني : أمواج البحر صلاته.
ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم.
ثم قال : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مِنْ
دَابَّةٍ } كما قال : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [الرعد : 15] ، وقوله :
{ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } أي : تسجد لله أي غير مستكبرين عن
عبادته ، { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } أي : يسجدون خائفين وجلين من
الرب جل جلاله ، { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي : مثابرين على طاعته (1)
تعالى ، وامتثال أوامره ، وترك زواجره.
{ وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
(53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ (54) }
__________
(1) في ف : "طاعة الله".
(4/576)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) }
يُقرر تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ،
فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه.
{ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا } قال ابن عباس ، ومجاهد وعِكْرِمة (1) وميمون بن
مِهْران ، والسدي ، وقتادة ، وغير واحد : أي دائما.
وعن ابن عباس أيضًا : واجبًا. وقال مجاهد : خالصا. أي : له العبادة وحده ممن في
السماوات والأرض ، كقوله : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ
مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا } [آل عمران : 83]. هذا على
قول ابن عباس وعكرمة ، فيكون من باب الخبر ، وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب
الطلب ، أي : ارهبوا أن تشركوا به (2) شيئا ، وأخلصوا له الطلب (3) ، كما في قوله
تعالى : { أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } [الزمر : 3].
ثم أخبر أنه مالك النفع والضر ، وأن ما بالعبد من رزق ونعمة (4) وعافية ونصر فمن
فضله
__________
(1) في ت ، ف : "وعكرمة ومجاهد".
(2) في أ : "بي".
(3) في أ : "الطاعة".
(4) في ت ، ف : "بالعباد من نعمة ورزق".
(4/576)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
عليه
(1) وإحسانه إليه.
{ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي : لعلمكم أنه لا
يقدر على إزالته إلا هو ، فإنكم عند الضرورات تلجئون إليه ، وتسألونه وتلحون في
الرغبة مستغيثين به (2) كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي
الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ
أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } [الإسراء : 67] ، وقال هاهنا : {
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ }
قيل : "اللام" هاهنا لام العاقبة. وقيل : لام التعليل ، بمعنى : قيضنا
لهم ذلك (3) ليكفروا ، أي : يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم ، وأنه المسدي إليهم
النعم ، الكاشف عنهم النقم.
ثم توعدهم قائلا { فَتَمَتَّعُوا } أي : اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه
قليلا { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي : عاقبة ذلك.
{ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ
لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ
سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى
ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ
سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ
أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ
السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) }
يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان
والأنداد ، وجعلوا لها نصيبا مما رزقهم الله فقالوا : { هَذَا لِلَّهِ
بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ
إِلَى اللَّهِ [بغير علم] (4) وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى
شُرَكَائِهِمْ } [الأنعام : 136] أي : جعلوا لآلهتهم نصيبًا مع الله وفضلوهم (5)
أيضًا على جانبه ، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه ،
وائتفكوه ، وليقابلنهم (6) عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم ، فقال : {
تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ }
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، وجعلوها
بنات الله ، وعبدوها معه ، فأخطؤوا خطأ كبيرًا في كل مقام من هذه المقامات الثلاث
، فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ، ولا ولد له! ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد
وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ، كما قال : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ
الأنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [النجم : 21 ، 22] وقال هاهنا : {
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ } أي : عن قولهم وإفكهم { أَلا
إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [الصافات
: 151 - 154].
__________
(1) في أ : "عليهم".
(2) في ت : "وتلجئون في الرغبة إليه".
(3) في أ : "قيضناهم لذلك".
(4) زيادة من "ف".
(5) في ف : "وفضلوها".
(6) في أ : "وليقابلهم".
(4/577)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
وقوله
: { وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } أي : يختارون لأنفسهم الذكور ويأنَفُون لأنفسهم من
البنات التي نسبوها إلى الله ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا ، فإنه { وَإِذَا
بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا } أي : كئيبا من الهم ،
{ وَهُوَ كَظِيمٌ } ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن ، { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ
} أي : يكره أن يراه الناس { مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى
هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } أي : إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ،
ولا يعتني بها ، ويفضل أولاده الذكور عليها ، { أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ }
أي : يئدها : وهو : أن يدفنها فيه حية ، كما كانوا يصنعون في الجاهلية ، أفمن
يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله ؟ { أَلا سَاءَ مَا
يَحْكُمُونَ } أي : بئس ما قالوا ، وبئس ما قسموا ، وبئس ما نسبوا إليه ، كما قال
تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلا ظَلَّ
وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } [الزخرف : 17] ، وقال هاهنا : { لِلَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } أي : النقص إنما ينسب إليهم ، {
وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى } أي : الكمال المطلق من كل وجه ، وهو منسوب إليه ،
{ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ
دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ
لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا
يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ
أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُون (62) }
يخبر تعالى عن حلمه (1) بخلقه مع ظلمهم ، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على
ظهر الأرض من دابة ، أي : لأهلك جميع دواب الأرض تبعًا لإهلاك بني آدم ، ولكن الرب
، جل جلاله ، يحلم ويستر ، وينظر { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } أي : لا يعاجلهم
بالعقوبة ؛ إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدًا.
قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص أنه قال : كاد الجُعَل أن يعذب
بذنب بني آدم ، وقرأ : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا
تَرَكَ عَلَيْهَا (2) مِنْ دَابَّةٍ } (3).
وكذا رَوَى الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عُبَيدة قال : قال عبد الله : كاد
الجُعَل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن المثنى ، حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي ، حدثنا
محمد بن جابر الحنفي (4) ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة قال : سمع أبو هريرة
رجلا وهو يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه (5). قال : فالتفت إليه فقال : بلى
والله ، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها [هُزالا] (6) بظلم الظالم (7).
__________
(1) في ت : "علمه".
(2) في ف ، أ : "على ظهرها" وهو خطأ.
(3) رواه الطبري في تفسيره (14/85).
(4) في ت : "الجعفي".
(5) في ف : "بنفسه".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(7) تفسير الطبري (14/85) وقال ابن حجر : "في إسناده محمد بن جابر اليمامي ،
وهو متروك".
(4/578)
وقال
ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، أنبأنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله
(1) بن مسرح ، حدثنا سليمان (2) بن عطاء ، عن مسْلَمة (3) بن عبد الله ، عن عمه
أبي مَشْجَعة بن رِبْعي ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : ذكرنا عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله ، وإنما
زيادة العمر بالذرية الصالحة ، يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده ، فيلحقه
دعاؤهم في قبره ، فذلك زيادة العمر" (4).
وقوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } أي : من البنات ومن الشركاء
الذين هم [من] (5) عبيده ، وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله.
وقوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } إنكار
عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا ، وإن كان ثمَّ معاد ففيه أيضا
لهم الحسنى ، وإخبار عن قيل من قال منهم ، كقوله : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا
الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ
السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [هود : 9 ، 10] ، وكقوله (6) : {
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ
لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ
إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [فصلت : 50] ، وقوله :
{ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ (7) بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا
وَوَلَدًا [أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ] }
[مريم : 77 ، 78] (8) وقال إخبارا عن أحد الرجلين : أنه { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ (9) مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا
أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا
مِنْهَا مُنْقَلَبًا } [الكهف : 35 ، 36] - فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل
، بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل ، كما ذكر ابن إسحاق : أنه وُجد حجر في
أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حِكَم ومواعظ ، فمن (10) ذلك : تعملون
السيئات (11) ويجزون الحسنات ؟ أجل كما يجتنى (12) من الشوك العنب (13).
وقال مجاهد ، وقتادة : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ
الْحُسْنَى } أي (14) الغلمان.
وقال ابن جرير : { أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } أي : يوم القيامة ، كما قدمنا بيانه
، وهو الصواب ، ولله الحمد.
ولهذا قال الله تعالى رادا عليهم في تمنيهم [ذلك] (15) { لا جَرَمَ } أي : حقا لا
بد منه { أَنَّ لَهُمُ النَّارَ } أي : يوم القيامة ، { وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ }
__________
(1) في ت : "الوليد بن عبد الله بن عبد الله".
(2) في ت : "سفيان".
(3) في ت ، ف ، أ : "سلمة".
(4) ورواه ابن عدي في الكامل (3/285) من طريق الوليد بن عبد الملك به نحوه ، وفيه
سليمان بن عطاء مجمع على ضعفه.
(5) زيادة من "ت".
(6) في أ : "وقال".
(7) في ت : "الذين كفروا" وهو خطأ.
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ت ، ف ، أ : "فقال".
(10) في ت : "في".
(11) في ف : "السوء"
(12) في ف ، أ : "يجني".
(13) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/196).
(14) في أ : "إلي".
(15) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4/579)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
قال
مجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وقتادة وغيرهم : منسيون فيها مضيعون.
وهذا كقوله تعالى : { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ
هَذَا } [الأعراف : 51]. (1)
وعن قتادة أيضا : { مُفْرَطُونَ } أي : معجلون إلى النار ، من الفَرَط وهو السابق
إلى الوِرْد ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار ، وينسون فيها ، أي
: يخلدون.
{ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) }
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "ننساكم كما نسيتم" وهو خطأ.
(4/580)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
{
وَاللَّهُ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) }
يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رُسُلا فكُذِّبت الرسل ، فلك يا محمد في
إخوانك من المرسلين أسوة ، فلا يهيدنَّك تكذيب قومك لك ، وأما المشركون الذين
كذبوا الرسل ، فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه ، { فَهُوَ
وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ } أي : هم تحت العقوبة والنكال ، والشيطان وليهم ، ولا يملك
لهم خلاصا ؛ ولا صريخ لهم ولهم عذاب أليم.
ثم قال (1) تعالى لرسوله : أنه إنما أنزل (2) عليه الكتاب ليبين للناس الذي
يختلفون فيه ، فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه { وَهُدًى } أي :
للقلوب ، { وَرَحْمَةً } أي : لمن تمسك به ، { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
وكما جعل تعالى القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها ، كذلك يحيي [الله] (3) الأرض
بعد موتها بما ينزله (4) عليها من السماء من ماء ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : يفهمون الكلام ومعناه.
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ
مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ
ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) }
يقول تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ } أيها الناس { فِي الأنْعَامِ } وهي : الإبل
والبقر والغنم ، { لَعِبْرَةً } أي : لآية ودلالة على قدرة خالقها وحكمته ولطفه
ورحمته ، { نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ } وأفرد هاهنا [الضمير] (5) عودًا
على معنى النعم ، أو الضمير (6) عائد على الحيوان ؛ فإن الأنعام حيوانات ، أي
نسقيكم مما في بطن (7) هذا الحيوان.
__________
(1) في أ : "وقال".
(2) في أ : "نزل".
(3) زيادة من ت.
(4) في أ : "نزله".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) في ف ، أ : "والضمير".
(7) في ف ، أ : "بطون".
(4/580)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
وفي
الآية الأخرى : { مِمَّا فِي بُطُونِهَا } [المؤمنون : 21] ، ويجوز هذا وهذا ، كما
في قوله تعالى : { كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ } [المدثر : 54
، 55] ، وفي قوله تعالى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ
فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ } [النمل :
35 ، 36] أي : المال.
وقوله : { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا } أي : يتخلص الدم بياضه
وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان ، فيسري كلٌ إلى موطنه ، إذا نضج
الغذاء في معدته تصرف (1) منه دم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع (2) وبول إلى
المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ،
ولا يتغير به.
وقوله : { لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } أي : لا يغص به أحد (3).
ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا (4) ، ثَنَّى بذكر ما يتخذه
الناس من الأشربة ، من ثمرات النخيل والأعناب ، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر
قبل تحريمه ؛ ولهذا امتن به عليهم فقال : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ
وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } دل على إباحته شرعا قبل تحريمه ، ودل
على التسوية بين السَّكَر المتخذ من العنب ، والمتخذ من النخل كما هو مذهب مالك
والشافعي وأحمد وجمهور العلماء ، وكذا حُكْم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة
والشعير والذرة والعسل ، كما جاءت السنة بتفصيل ذلك ، وليس هذا موضع بسط ذلك ، كما
قال (5) ابن عباس في قوله : { سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } قال : السَّكَر : ما
حرم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما. وفي رواية : السَّكر حرامه ،
والرزق الحسن حلاله. يعني : ما يبس منهما من تمر وزبيب ، وما عمل منهما من طلاء -
وهو الدِّبس (6) - وخل ونبيذ ، حلال يشرب قبل أن يشتد ، كما وردت السنة بذلك.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ناسب ذكر العقل هاهنا ، فإنه
أشرف ما في الإنسان ؛ ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها
؛ قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ
وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ
أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا
مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [يس : 34
- 36].
{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا
وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ (69) }
المراد بالوحي هاهنا : الإلهام والهداية والإرشاد إلى النحل أن تتخذ من الجبال
بيوتا تأوي إليها ، ومن الشجر ، ومما يعرشون. ثم هي محكمة في غاية الإتقان في
تسديسها ورصها ، بحيث لا يكون بينها خلَل.
__________
(1) في ت ، ف : "يصرف".
(2) في أ : "الضروع".
(3) في ت ، ف ، أ : "أحد به".
(4) في ف : "وسائغا".
(5) في ف : "قاله".
(6) الطلاء : الشراب المطبوخ من عصير العنب ، وأما الدبس : فهو عسل التمر وعصارته.
(4/581)
ثم
أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تسلك الطرق التي
جعلها الله تعالى لها مذللة ، أي : سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم
والبراري الشاسعة ، والأودية والجبال الشاهقة ، ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها
وبيتها ، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة ، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل ،
فتبني الشمع من أجنحتها ، وتقيء العسل من فيها (1) وتبيض الفراخ من دبرها ، ثم
تصبح إلى مراعيها.
وقال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا }
أي : مطيعة. فجعلاه حالا من السالكة. قال ابن زيد : وهو كقول الله تعالى : {
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [يس : 72]
قال : ألا ترى أنهم ينقلون النحل (2) من بيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم.
والقول الأول أظهر ، وهو أنه حال من الطريق ، أي : فاسلكيها مذلَّلةً لك ، نص عليه
مجاهد. وقال ابن جرير : كلا القولين صحيح (3).
وقد قال أبو يعلى الموصلي : حدثنا شيبان بن فَرُّوخ ، حدثنا سُكَيْن (4) بن عبد
العزيز ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عُمْرُ الذباب
أربعون يوما ، والذباب كله في النار إلا النحل" (5).
وقوله تعالى { يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أي : ما
بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة ، على اختلاف مراعيها ومأكلها
منها (6).
وقوله : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } أي : في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم.
قال بعض من تكلم على الطب النبوي : لو قال فيه : "الشفاء للناس" لكان
دواء لكل داء ، ولكن قال { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } أي : يصلح لكل أحد من أدواء
باردة ، فإنه حار ، والشيء يداوى بضده.
وقال مجاهد بن جَبْر (7) في قوله : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } يعني : القرآن.
وهذا قول صحيح في نفسه ، ولكن ليس هو الظاهر هاهنا من سياق الآية ؛ فإن الآية إنما
ذكر فيها العسل ، ولم يتابع مجاهد على قوله هاهنا ، وإنما الذي قاله ذكروه في قوله
تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ
} الآية [الإسراء : 82]. وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ } [يونس : 57].
والدليل على أن المراد بقوله تعالى : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } هو العسل -
الحديثُ الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما (8) من رواية قتادة ، عن أبي المتوكل
علي بن داود الناجي ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : جاء رجل إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استَطْلَق بطنُه. فقال : "اسقه
عسلا". فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا
استطلاقا! قال : "اذهب فاسقه عسلا". فذهب فسقاه ، ثم جاء فقال : يا رسول
الله ، ما زاده إلا استطلاقا! فقال رسول
__________
(1) في ت : "فمها".
(2) في ت ، ف ، أ : "ينتقلون بالنحل".
(3) في ت ، ف : "متجه".
(4) في ت ، ف : "مسكين".
(5) مسند أبي يعلى (7/231) وحسنه البوصيري كما في حاشية المطالب العالية (2/ 296).
(6) في أ : "منه".
(7) في أ : "جبير".
(8) في ف : "صحيحيهما".
(4/582)
الله
صلى الله عليه وسلم : "صدق الله ، وكذب بطن أخيك! اذهب فاسقه عسلا".
فذهب فسقاه فبرئ (1).
قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات ، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت
، فأسرعت في الاندفاع ، فزاد إسهاله ، فاعتقد (2) الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة
لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات
الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه ، وصلح مزاجه ، واندفعت الأسقام والآلام ببركة
إشارته ، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام (3).
وفي الصحيحين ، من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل. هذا (4) لفظ البخاري (5).
وفي صحيح البخاري : من حديث سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشفاء في ثلاثة : في شَرْطةِ مِحْجَم ،
أو شربة عسل ، أو كيَّةٍ بنار ، وأنهى أمتي عن الكي" (6).
وقال البخاري : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل ، عن عاصم بن عمر
بن قتادة ، سمعت جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"إن كان في شيء من أدويتكم ، أو يكونُ في شيء من أدويتكم خير : ففي شرطة
مِحْجَم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي".
ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة ، عن جابر ، به (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، أنبأنا عبد الله ، أنبأنا سعيد بن أبي
أيوب ، حدثنا عبد الله بن الوليد ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر الجُهَني قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث إن كان في شيء شفاء : فشَرْطة
مِحْجَم ، أو شربة عسل ، أو كيَّة تصيب ألما ، وأنا أكره الكي ولا أحبه" (8).
ورواه الطبراني عن هارون بن مَلّول (9) المصري ، عن أبي عبد الرحمن المقرئ ، [عن
حيوة بن شريح] (10) عن عبد الله بن الوليد ، به. ولفظه : "إن كان في شيء شفاء
: فشرطة محجم"... وذكره (11) وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد (12) بن ماجه القزويني في سننه : حدثنا علي
بن سلمة
__________
(1) صحيح البخاري برقم (5716) وصحيح مسلم برقم (2217).
(2) في ف : "واعتقد".
(3) انظر : زاد المعاد لابن القيم (4/33 - 36) وفتح الباري لابن حجر (10/169 ،
170).
(4) في ف : "وهذا".
(5) صحيح البخاري برقم (5682) وصحيح مسلم برقم (1474).
(6) صحيح البخاري برقم (5680 ، 5681).
(7) صحيح البخاري برقم (5683) وصحيح مسلم برقم (2205).
(8) المسند (4/146).
(9) في هـ ، ف : "مملول" وفي أ : "سلول" والمثبت من المعجم
للطبراني.
(10) زيادة من المعجم الكبير للطبراني.
(11) المعجم الكبير (17/188) والمعجم الأوسط برقم (9335) ومجمع البحرين برقم (4165).
تنبيه : وقع في المعجم الأوسط عن أبي عبد الرحمن المقري ، عن سعيد بن أبي أيوب ،
عن عبد الله بن الوليد به ، وقال : "لم يروه عن عبد الله بن الوليد إلا
سعيد" وقد رايته في المعجم الكبير رواه عنه شريح ، فلا أدري هل هو خطأ أم لا
؟ والله أعلم.
(12) في ت ، ف : "يزيد".
(4/583)
- هو
اللبقي - حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن
عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليكم
بالشفاءين : العسل والقرآن" (1).
وهذا إسناد جيد ، تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعًا ، وقد رواه ابن جرير ، عن سفيان
بن وَكِيع ، عن أبيه ، عن سفيان - هو الثوري - به موقوفا (2) : وَلَهو (3) أشبه.
وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : إذا أراد
أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صَحْفَة ، وليغسلها بماء السماء ، وليأخذ
من امرأته درهما عن طيب نفس منها ، فليشتر به عسلا فليشربه بذلك ، فإنه شفاء (4).
أي : من وجوه ، قال الله : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ }
[الإسراء : 82] وقال : { وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا } [ق : 9]
وقال : { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا
مَرِيئًا } [النساء : 4] ، وقال في العسل : { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ }
وقال ابن ماجه أيضًا : حدثنا محمود بن خِدَاش ، حدثنا سعيد بن زكريا القرشي ،
حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي ، عن عبد الحميد بن سالم ، عن أبي هريرة قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لَعِق العسل ثلاث غَدَوَاتٍ في كل شهر لم
يصبه عظيم من البلاء" (5).
الزبير بن سعيد متروك.
وقال ابن ماجه أيضًا : حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سَرْح الفريابي ، حدثنا
عمرو بن بكر (6) السَّكْسَكي ، حدثنا إبراهيم بن أبي عبَلة. سمعت أبا أبي ابن أم
حَرَام - وكان قد صلى القبلتين - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"عليكم بالسَّنَى والسَّنُّوت ، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام".
قيل : يا رسول الله ، وما السام ؟ قال : "الموت".
قال عمرو : قال ابن أبي عبلة : "السَّنُّوت" : الشِّبْتُ. وقال آخرون :
بل هو العسل الذي [يكون] (7) في زِقَاق السمن ، وهو قول الشاعر :
هُمُ السَّمْنُ بالسَّنُّوت لا ألْسَ فيهم... وَهُمْ يَمنَعُونَ الجارَ أنْ
يُقَرَّدا...
كذا رواه ابن ماجه (8). وقوله : "لا ألْسَ فيهم" أي : لا خلط. وقوله :
"يمنعون الجار أن يقَرَّدا" ، [أي يضطهد ويظلم] (9).
وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : إن في إلهام
الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه والاجتناء من سائر
الثمار ، ثم جمعها للشمع والعسل ، وهو من أطيب
__________
(1) سنن ابن ماجه رقم (3452).
(2) تفسير الطبري (14/ 94) وقال الدارقطني في العلل : "الموقوف أصح".
(3) في ت ، ف : "وهو".
(4) قال ابن حجر في الفتح (10/ 170) : "أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير بسند
حسن".
(5) سنن ابن ماجة برقم (3450) وهو منقطع أيضًا ، عبد الحميد بن سالم لم يسمعه من
أبي هريرة.
(6) في ف : "بكير".
(7) زيادة من ت ، ف ، أ ، وسنن ابن ماجة.
(8) سنن ابن ماجه برقم (3457) وقال البوصيري في الزوائد (3/123) : "إسناده
ضعيف" ثم أعله بعمرو السكسكي.
(9) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4/584)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
الأشياء
، { لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها ،
فيستدلون بذلك على أنه [الفاعل] (1) القادر ، الحكيم العليم ، الكريم الرحيم.
{ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) }
يخبر تعالى عن تصرفه في عباده ، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ، ثم بعد ذلك
يتوفاهم ، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهَرَم - وهو الضعف في الخلقة - كما قال الله
تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ
ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا
يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } [الروم : 54].
وقد روي عن علي ، رضي الله عنه ، في أرذل العمر [قال] (2) خمس وسبعون سنة. وفي هذا
السن يحصل له ضعف القوى والخرف وسوء الحفظ وقلة العلم ؛ ولهذا قال : { لِكَيْ لا
يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } (3) أي : بعد ما كان عالمًا أصبح لا يدري شيئًا
من الفَنَد والخرف ؛ ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية :
حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور ، عن شُعَيب ،
عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو : "أعوذ بك من
البخل والكسل ، والهرم وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا
والممات".
ورواه مسلم ، من حديث هارون الأعور ، به (4).
وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته (5) المشهورة :
سَئمتُ تَكَاليفَ الحيَاة ومَنْ يعشْ... ثمانينَ عاما - لا أبَالك - يَسْأم...
رَأيتُ المَنَايا خَبط عَشْواء من تصِبْ... تمتْه ومَنْ تُخْطئ يُعَمَّرْ
فَيهْرَمِ (6)
{ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ
فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ
سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) }
يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه (7) لله من الشركاء ، وهم يعترفون
(8) أنها عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبياتهم في حجهم : "لبيك لا شريك لك
، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك". فقال تعالى منكرا عليهم : إنكم (9) لا
ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم ، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيده له في
الإلهية والتعظيم ، كما قال في الآية الأخرى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ
أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا
رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ
أَنْفُسَكُمْ } (10) الآية [الروم : 28].
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) في ت : "من بعد" وهو خطأ.
(4) صحيح البخاري برقم (4707) وصحيح مسلم برقم (2706) وليس في الصحيح :
"والهرم".
(5) في ف : "قصيدته".
(6) ديوان زهير بن أبي سلمي (ص 29).
(7) في ت ، ف : "يزعمون".
(8) في ت ، ف ، أ : "يعرفون".
(9) في ت ، ف ، أ : "أنتم".
(10) في ت : "فيما".
(4/585)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
قال
العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : يقول : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم
ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ، فذلك قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ
اللَّهِ يَجْحَدُونَ }
وقال في الرواية الأخرى ، عنه : فكيف ترضون لي مالا ترضون (1) لأنفسكم.
وقال مجاهد في هذه الآية : هذا مثل الآلهة الباطلة (2).
وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله ، فهل منكم من أحد شارك (3) مملوكه في زوجته وفي
فراشه ، فتعدلون بالله خلقه وعباده ؟ فإن لم ترض لنفسك هذا ، فالله (4) أحق أن
ينزه منك.
وقوله : { أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي : أنهم جعلوا لله مما ذرأ من
الحرث والأنعام نصيبا ، فجحدوا نعمته (5) وأشركوا معه غيره.
وعن الحسن البصري قال : كتب عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، هذه الرسالة إلى أبي
موسى الأشعري : واقنع برزقك من الدنيا ، فإن الرحمن فَضَّل بعض عباده على بعض في
الرزق ، بل (6) يبتلي به كلا فيبتلي من بَسَط له ، كيف شُكره لله وأداؤه الحق الذي
افترض عليه فيما رزقه وخوله ؟ رواه ابن أبي حاتم.
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ
أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) }
يذكر تعالى نعمه (7) على عبيده ، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجًا من جنسهم وشكلهم
[وزيهم] (8) ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر لما حصل ائتلاف ومودة ورحمة ، ولكن من
رحمته خلق من بني آدم ذكورًا وإناثا ، وجعل الإناث أزواجا للذكور.
ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة ، وهم أولاد البنين. قاله ابن
عباس ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، وابن زيد.
قال شعبة ، عن أبى بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس : { بَنِينَ وَحَفَدَةً }
هم الولد وولد الولد.
وقال سُنَيْد : حدثنا حجاج عن أبي بكر ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، قال : بنوك
حين يحفدونك ويرفدونك ويعينونك ويخدمونك. قال جميل :
حفَد الولائد حَوْلهُن وأسلمت... بِأكُفِّهن أزِمَّةَ الأجْمَال (9)
__________
(1) في ت : "ترضوه".
(2) في ت ، ف ، أ : "الباطل".
(3) في ف : "يشارك".
(4) في ف : "فإن الله".
(5) في ف ، أ : "بنعمة الله".
(6) في ت ، ف ، أ : "بلاء".
(7) في ف ، أ : "نعمته".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.
(9) البيت في تفسير الطبري (14/ 98) ونسبه لحميد.
(4/586)
وقال
مجاهد : { بَنِينَ وَحَفَدَةً } ابنه وخادمه. وقال في رواية : الحفدة : الأنصار
والأعوان والخدام.
وقال طاوس : الحفدة : الخدم (1) وكذا قال قتادة ، وأبو مالك ، والحسن البصري.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة أنه قال : الحفدة
: مَنْ خَدَمَك من ولدك وولد ولدك (2).
قال الضحاك : إنما كانت العرب يخدمها بنوها.
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ
وَحَفَدَةً } يقول : بنو امرأة الرجل ، ليسوا منه. ويقال : الحفدة : الرجل يعمل
بين يدي الرجل ، يقال : فلان يحفد لنا قال : ويزعم (3) رجال أن الحفدة أخْتَان
الرجل.
وهذا [القول] (4) الأخير الذي ذكره ابن عباس قاله ابن مسعود ، ومسروق ، وأبو
الضُّحى ، وإبراهيم النَّخَعيّ ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، والقُرَظي. ورواه
عكرمة ، عن ابن عباس.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هم الأصهار.
قال ابن جرير : وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى : "الحَفْد" وهو الخدمة
، الذي منه قوله في القنوت : "وإليك نسعى ونحفد" ، ولما كانت الخدمة قد
تكون من الأولاد والأصهار والخدم (5) فالنعمة حاصلة بهذا كله ؛ ولهذا (6) قال : {
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً }
قلت : فمن جعل { وَحَفَدَةً } متعلقا بأزواجكم فلا بد أن يكون المراد الأولاد ،
وأولاد الأولاد ، والأصها ر ؛ لأنهم أزواج البنات ، وأولاد الزوجة ، وكما قال (7)
الشعبي والضحاك ، فإنهم غالبا يكونون تحت كنف الرجل وفي حجْره وفي خدمته. وقد يكون
هذا هو المراد من قوله [عليه الصلاة ] (8) والسلام في حديث بَصرة بن أكثم :
"والولد عبد لك" رواه أبو داود (9).
وأما من جعل الحَفَدة هم الخدم فعنده أنه معطوف على قوله : { وَاللَّهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي : وجعل لكم الأزواج والأولاد (10).
{ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } من المطاعم والمشارب.
ثم قال تعالى منكرا على من أشرك في عبادة المنعم غيره : { أَفَبِالْبَاطِلِ
يُؤْمِنُونَ } وهم (11) : الأصنام والأنداد ، { وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ
} أي : يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره.
وفي الحديث الصحيح : "إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه"
ألم أزوجك ؟ ألم
__________
(1) في ت : "الخدام".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/ 309).
(3) في ف : "وزعم".
(4) زيادة من أ.
(5) في ت ، ف : "والخدم".
(6) في ف : "لهذا".
(7) في ت ، ف : "قاله".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) سنن أبي داود برقم (2131).
(10) في أ : "وجعل لكم خدامًا".
(11) في ت : "وهو".
(4/587)
أكرمك
؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتَرْبع (1) ؟" (2).
__________
(1) في ت ، ف : "وترتع".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2968) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4/588)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
{
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الأمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) }
يقول تعالى إخبارا عن المشركين الذين عبدوا معه غيره ، مع أنه هو المنعم المتفضل
الخالق الرازق وحده لا شريك له ، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد
والأوثان { مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ شَيْئًا
} أي : لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر ، ولا يملكون ذلك ، أي : ليس
لهم (1) ذلك ولا يقدرون عليه لو أرادوه ، ولهذا قال تعالى { فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الأمْثَالَ } أي : لا تجعلوا (2) له أندادًا وأشباها (3) وأمثالا { إِنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا
الله (4) وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ
رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ
يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) }
قال العوفي ، عن ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن : وكذا قال قتادة ،
واختاره ابن جرير.
والعبد (5) المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر والمرزوق الرزق الحسن ، فهو
ينفق منه سرا وجهرا ، هو (6) المؤمن.
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى ، فهل يستوي هذا
وهذا ؟
ولما كان الفرق ما بينهما بينا واضحا ظاهرًا لا يجهله إلا كل غبي ، قال [الله] (7)
تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ } [ثم قال الله
تعالى] (8)
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى
شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ
هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (76) }
قال مجاهد : وهذا أيضًا المراد به الوثن والحق تعالى ، يعني : أن الوثن أبكم لا
يتكلم ولا ينطق
__________
(1) في ت ، ف : "إليهم".
(2) في ت : "أي تجعلون" ،
(3) في ف : "أشباحًا وأندادًا".
(4) في ف : "إلا هو".
(5) في ت ، ف : "فالعبد".
(6) في ت : "فهو".
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(8) زيادة من "أ".
(4/588)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
بخير
ولا بشيء (1) ، ولا يقدر على شيء بالكلية ، فلا مقال ، ولا فعال ، وهو مع هذا {
كَلٌّ } أي : عيال وكلفة على مولاه ، { أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ } أي : يبعثه { لا
يَأْتِ بِخَيْرٍ } ولا ينجح مسعاه { هَلْ يَسْتَوِي } من هذه صفاته ، { وَمَنْ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } أي : بالقسط ، فقاله حق وفعاله مستقيمة (2) { وَهُوَ عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وبهذا قال السدي ، وقتادة وعطاء الخراساني. واختار هذا
القول ابن جرير.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هو مثل للكافر والمؤمن أيضًا ، كما تقدم.
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن الصباح البزار ، حدثنا يحيى بن إسحاق ،
السَّيْلحيني (3) ، حدثنا حماد ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم (4) عن
إبراهيم ، عن (5) عِكْرِمة ، عن يَعْلَى بن أمية ، عن ابن عباس في قوله : { ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } نزلت في رجل من
قريش وعبده. وفي قوله : { [وَضَرَبَ اللَّهُ] مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَبْكَمُ [لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ] } (6) (7) إلى قوله : { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ } قال : هو عثمان بن عفان. قال : والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت
بخير قال هو : مولى لعثمان بن عفان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله (8) ويكفيه المئونة
، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما (9).
{ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا
كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا
وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا
يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) }
يخبر تعالى عن كماله وقدرته على الأشياء ، في علمه غيب السماوات والأرض ، واختصاصه
بذلك ، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه [الله] (10) تعالى على ما يشاء - وفي
قدرته التامة (11) التي لا تخالف ولا تمانع ، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له
كن ، فيكون ، كما قال : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }
[القمر : 50] أي : فيكون ما يريد كطرف العين. وهكذا قال هاهنا : { وَمَا أَمْرُ
السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ } كما قال : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ
وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28].
ثم ذكر تعالى منَّتَه على عباده ، في إخراجه (12) إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون
شيئًا ، ثم بعد
__________
(1) في ت ، أ : "
ولا بشر".
(2) في ت : "مستقيم".
(3) في أ : "السلحييني".
(4) في ت : "خيثم".
(5) في ف : "ابن".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ.
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(8) في ت ، ف :
"ويكلفه".
(9) تفسير الطبري (14/ 101).
(10) زيادة من ت.
(11) في ف : "العامة".
(12) في ت : "إخراجهم".
(4/589)
هذا
يرزقهم (1) تعالى السمع الذي به يدركون الأصوات ، والأبصار اللاتي بها يحسون
المرئيات ، والأفئدة - وهي العقول - التي مركزها القلب على الصحيح ، وقيل : الدماغ
والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها. وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على
التدريج قليلا قليلا كلما كبر زِيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده.
وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ، ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى ، فيستعين بكل
جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه ، كما جاء في صحيح البخاري ، عن أبي هريرة ، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يقول تعالى : من عادى لي وليا فقد
بارزني بالحرب ، وما تقرب إليّ عبدي بمثل (2) أداء ما افترضت عليه. ولا يزال عبدي
يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي
يبصر به ، ويده التي (3) يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطيته ،
ولئن دعاني لأجيبنه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي
في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه" (4).
فمعنى الحديث : أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عز وجل ، فلا يسمع
إلا الله ، ولا يبصر إلا الله ، أي : ما شرعه الله له ، ولا يبطش ولا يمشي إلا في
طاعة الله عز وجل ، مستعينا بالله في ذلك كله ؛ ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في
غير الصحيح ، بعد قوله : "ورجله التي يمشي بها" : "فبي يسمع ، وبي
يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي" ؛ ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ
وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } كما قال في الآية الأخرى :
{ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ
وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأرْضِ
وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الملك : 23 ، 24].
ثم نبه تعالى عباده إلى (5) النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض ، كيف جعله
يطير بجناحيه بين السماء والأرض ، في جو السماء ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته
تعالى ، الذي جعل فيها قوًى تفعل ذلك ، وسخر الهواء يحملها ويسر الطير لذلك ، كما
قال تعالى في سورة الملك : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ
صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ بَصِيرٌ } [الملك : 19 ]. وقال هاهنا : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
__________
(1) في ت : "يرزقهم الله".
(2) في ت ، ف ، أ : "بأفضل".
(3) في ت : "الذي".
(4) صحيح البخاري برقم (6502).
(5) في ف : "على".
(4/590)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) }
(4/590)
يذكر
تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده ، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم ،
يأوون إليها ، ويستترون بها ، وينتفعون بها سائر (1) وجوه الانتفاع ، وجعل لهم
أيضًا { مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا } أي : من الأدم ، يستخفون حملها في
أسفارهم ، ليضربوها (2) لهم في إقامتهم في السفر والحضر ولهذا قال : {
تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا
} أي : الغنم ، { وَأَوْبَارِهَا } أي : الإبل ، { وَأَشْعَارِهَا } أي : المعز -
والضمير عائد على الأنعام - { أَثَاثًا } أي : تتخذون منه أثاثا ، وهو المال. وقيل
: المتاع. وقيل : الثياب والصحيح أعم من هذا كله ، فإنه يتخذ من (3) الأثاث البسط
والثياب وغير ذلك ، ويتخذ مالا وتجارة.
وقال ابن عباس : الأثاث : المتاع. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ،
والحسن ، وعطية العوفي ، وعطاء الخراساني ، والضحاك ، وقتادة.
وقوله : { إِلَى حِينٍ } أي : إلى أجل مسمى ووقت (4) معلوم.
وقوله : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا } قال قتادة : يعني :
الشجر.
{ وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا } أي : حصونا ومعاقل ، كما { جَعَلَ
لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } وهي الثياب من القطن والكتان والصوف ، {
وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ } كالدروع من الحديد المصفَّح والزَّرد وغير
ذلك ، { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي : هكذا يجعل لكم ما تستعينون
به على أمركم ، وما تحتاجون إليه ، ليكون - عونًا لكم على طاعته وعبادته ، {
لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ }
هكذا فسره الجمهور ، وقرؤوه بكسر اللام من " تسلمون " أي : من الإسلام.
وقال قتادة في قوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [لَعَلَّكُمْ
تُسْلِمُونَ ] } (5) هذه السورة تسمى سورة النِّعَم.
وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام ، عن حَنْظَلة السدوسي ، عن شَهْر بن
حَوْشَب ، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها "تَسلَمون" بفتح اللام ، يعني من
الجراح (6). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام ، عن عباد ، وأخرجه ابن جرير من الوجهين
، وردَّ هذه القراءة (7).
وقال عطاء الخراساني : إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب ، ألا ترى إلى قوله
تعالى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْجِبَالِ أَكْنَانًا } وما جعل [لكم] (8) من السهل أعظم وأكثر (9) ، ولكنهم
كانوا أصحاب جبال (10) ؟ ألا ترى إلى قوله : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ }
__________
(1) في ف : "سرائر".
(2) في ت : "لتضربونها".
(3) في ت ، ف : "منه".
(4) في ت ، ف ، أ : "أي إلى وقت".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) في ت ، ف : "يعني من الجراح بفتح اللام".
(7) تفسير الطبري (14/ 104).
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ت ، ف : "واكبر".
(10) في ف : "جبل".
(4/591)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
وما
جعل لكم من غير ذلك أعظم منه وأكثر (1) ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشَعَر ، ألا ترى
إلى قوله : { وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ } [النور
: 43] ، لعجبهم من ذلك ، وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر (2) ، ولكنهم كانوا لا
يعرفونه ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } وما بقي من
البرد أعظم وأكثر (3) ولكنهم كانوا أصحاب حر.
وقوله { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : بعد هذا البيان وهذا الامتنان ، فلا عليك منهم ،
{ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } وقد أديته إليهم.
{ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا } أي : يعرفون أن الله تعالى
هو المسدي إليهم ذلك ، وهو المتفضل به عليهم ، ومع هذا ينكرون ذلك ، ويعبدون معه
غيره ، ويسندون النصر والرزق (4) إلى غيره ، { وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } -
كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد حدثنا عبد
الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن مجاهد ؛ أن أعرابيًا أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فسأله ، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ
مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } قال الأعرابي : نعم. قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ
إِقَامَتِكُمْ } قال الأعرابي : نعم. ثم قرأ عليه ، كل ذلك يقول الأعرابي : نعم ،
حتى بلغ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ }
فولى الأعرابي ، فأنزل الله : { يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ
يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } (5).
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى
الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا
الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ
إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) }
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "أكبر".
(2) في ف : "وأكبر".
(3) في ف : "وأكبر".
(4) في ف : "الرزق والنصر".
(5) أورده السيوطي في الدر المنثور (5/ 155) وعزاه لابن أبي حاتم وهو مرسل.
(4/592)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ
الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) }
يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة ، وأنه يبعث من كل أمة
شهيدا ، وهو نبيها ، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى ، { ثُمَّ لا
يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : في الاعتذار ؛ لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه ،
كما قال : { هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ }
[المرسلات : 35 ، 36]. ولهذا قال : { وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : أشركوا { الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ } أي : لا
يفتر عنهم ساعة واحدة ، { وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } أي : [و] (1) لا يؤخر عنهم ، بل
يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب ، فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام ، مع
كل زمام سبعون ألف
__________
(1) زيادة من ت.
(4/592)
ملك
، فيشرف عُنُق منها على الخلائق ، وتزفر زفرة لا (1) يبقى أحد إلا جثا لركبتيه ،
فتقول : إني وكلت بكل جبار عنيد ، الذي جعل مع الله إلهًا آخر ، وبكذا وكذا (2)
وتذكر (3) أصنافا من الناس ، كما جاء في الحديث. ثم تنطوي (4) عليهم وتتلقطهم من
الموقف كما يتلقط الطائر الحب قال الله تعالى : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ
بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا
ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا
وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا } [الفرقان : 12 - 14] ، وقال تعالى : {
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ
يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } [الكهف : 53]. وقال تعالى : { لَوْ يَعْلَمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ
ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا
يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } [الأنبياء : 39 ، 40].
ثم أخبر تعالى عن تبرئ آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها ، فقال : { وَإِذَا رَأَى
الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ } أي : الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، {
قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون
} أي : قالت لهم الآلهة : كذبتم ، ما نحن أمرناكم (5) بعبادتنا. كما قال تعالى : {
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ
النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ }
[الأحقاف : 5 ، 6] وقال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً
لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ
عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم : 81 ، 82]. وقال الخليل عليه الصلاة والسلام : { ثُمَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ (6) يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ
بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [العنكبوت : 25]
وقال تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ (7)
فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا }
[الكهف : 52] والآيات في هذا كثيرة.
وقوله : { وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ } - قال قتادة ، وعكرمة
: ذلوا واستسلموا يومئذ ، أي : استسلموا لله جميعهم ، فلا أحد إلا سامع مطيع ، كما
قال : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم : 38] أي : ما
أسمعهم وما أبصرهم يومئذ! وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ
نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا
فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة : 12] ، وقال : {
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه : 111] أي : خضعت وذلت واستكانت
وأنابت واستسلمت.
{ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَفْتَرُونَ } أي : ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا
معين ولا مجيز.
ثم قال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ
عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } أي : عذابا على كفرهم ،
وعذابًا على صدهم الناس عن اتباع الحق ، كما قال تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ
عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [الأنعام : 26] أي : ينهون الناس ، عن اتباعه ،
ويبتعدون هم منه أيضًا { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
} [الأنعام : 26]
__________
(1) في ف : "فلا".
(2) في ت ، ف : "وبكذا".
(3) في ف : "ويذكر".
(4) في ف : "ينطوي".
(5) في ف : "نحن ما أمرناكم".
(6) في ت : "وقال الخليل ويوم" ، وفي ف : "وقال الخليل عليه السلام
ويوم".
(7) في ت ، ف ، أ ، هـ : "وقيل ادعوا شركاءكم" والصواب ما أثبتناه.
(4/593)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
وهذا
دليل على تفاوت الكفار في عذابهم ، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة
ودرجاتهم ، كما قال [الله] (1) تعالى : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا
تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 38].
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا سُرَيْح بن يونس ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا
الأعمش ، عن عبد الله بن مُرَّة ، عن مسروق ، عن عبد الله في قول الله : {
زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } قال : زيدوا عقارب أنيابها كالنخل
الطوال (2).
وحدثنا سريج بن يونس ، حدثنا إبراهيم بن سليمان ، حدثنا الأعمش ، عن الحسن ، عن
ابن عباس أنه قال : { زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } قال : هي خمسة
أنهار
فوق (3) العرش يعذبون ببعضها بالليل وببعضها بالنهار (4).
{ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا
لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) }
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ
فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا
عَلَى هَؤُلاءِ } (5) يعني أمته.
أي : اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع.
وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول
الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة "النساء" فلما وصل إلى قوله تعالى : {
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء : 41]. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"حسبك". قال ابن مسعود ، رضي الله عنه : فالتفت فإذا عيناه تذرفان (6).
وقوله : { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } قال ابن
مسعود : [و] (7) قد بين لنا في هذا القرآن كل علم ، وكل شيء.
وقال مجاهد : كل حلال وحرام.
وقول ابن مسعود : أعم وأشمل ؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق ،
وعلم ما سيأتي ، وحكم كل حلال وحرام ، وما الناس إليه محتاجون (8) في أمر دنياهم
ودينهم ، ومعاشهم
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) مسند أبي يعلى (5/ 66) ورواه الطبري في تفسيره (14/ 107) من طريق أبي معاوية
عن الأعمش به.
(3) في ت ، ف ، "تحت".
(4) مسند أبي يعلى (5/ 66) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 390) : "رجاله رجال
الصحيح".
(5) في ت : "يبعث".
(6) تقدم تخريج الحديث عند تفسير الآية : 41 من سورة النساء.
(7) زيادة من ف.
(8) في ف : "محتاجون إليه".
(4/594)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
ومعادهم.
{ وَهُدًى } أي : للقلوب ، { وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }
وقال الأوزاعي : { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } أي
: بالسنة.
ووجه اقتران قوله : { وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ } مع قوله : { وَجِئْنَا بِكَ
شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ } أن المراد - والله أعلم - : إن الذي فرض عليك تبليغ
الكتاب الذي أنزله عليك ، سائلك عن ذلك يوم القيامة ، { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ
أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [الأعراف : 6] ، {
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر :
92 ، 93] ، { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ
قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [المائدة : 109] ،
وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى
مَعَادٍ } [القصص : 85] أي : إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ، ومعيدك
يوم القيامة ، وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال ، وهو مُتَّجه حسن.
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (90) }
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل ، وهو القسط والموازنة ، ويندب إلى الإحسان ،
كما قال تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ } [النحل : 126] ، وقال {
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ } [الشورى : 40] ، وقال { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ
بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [المائدة : 45] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على
هذا ، من (1) شرعية العدل والندب إلى الفضل.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } قال
: شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال سفيان بن عيينة : العدل في هذا الموضع : هو استواء السريرة والعلانية من كل
عامل لله عملا. والإحسان : أن تكون (2) سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء والمنكر
: أن تكون (3) علانيته أحسن من سريرته.
وقوله : { وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } أي : يأمر بصلة الأرحام ، كما قال : {
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ
تَبْذِيرًا } [الإسراء : 26].
وقوله : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } فالفواحش : المحرمات.
والمنكرات : ما ظهر منها من فاعلها ؛ ولهذا قيل في الموضع الآخر : { قُلْ إِنَّمَا
حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [الأعراف : 33].
وأما البغي فهو : العدوان على الناس. وقد جاء في الحديث : "ما من ذنب أجدر أن
يعجل الله
__________
(1) في ف : "في".
(2) في ف : "يكون".
(3) في ف : "يكون".
(4/595)
عقوبته
في الدنيا ، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم" (1).
وقوله { يَعِظُكُمْ } أي : يأمركم بما يأمركم به من الخير ، وينهاكم عما (2)
ينهاكم عنه من الشر ، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
قال الشعبي ، عن شُتَيْر بن شَكَل : سمعت ابن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن
في سورة النحل : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } الآية. رواه
ابن جرير (3).
وقال سعيد عن قتادة : قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ }
الآية ، ليس من خُلُق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به
، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن
سفاسف الأخلاق ومذامها.
قلت : ولهذا جاء في الحديث : "إن الله يحب معالي الأخلاق ، ويكره
سَفْسافها" (4).
وقال الحافظ أبو نُعَيم في كتابه "كتاب معرفة الصحابة" : حدثنا أبو بكر
محمد بن الفتح الحنبلي ، حدثنا يحيى (5) بن محمد مولى بني هاشم ، حدثنا الحسن بن
داود المنْكَدري ، حدثنا عمر بن علي المقدمي ، عن علي بن عبد الملك بن عمير (6) عن
أبيه قال : بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يأتيه فأبى
قومه أن يدعوه وقالوا : أنت كبيرنا ، لم تكن لتخف إليه! قال : فليأته من يبلغه عني
ويبلغني عنه. فانتدب رجلان فأتيا النبي (7) صلى الله عليه وسلم فقالا نحن رسل أكثم
بن صيفي ، وهو يسألك : من أنت ؟ وما أنت (8) ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
"أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله ، وأما ما أنا فأنا عبد الله
ورسوله". قال : ثم تلا عليهم هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } قالوا : اردد
علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه. فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه ،
فسألنا عن نسبه ، فوجدناه زاكي النسب ، وسطا في مضر ، وقد رمى إلينا بكلمات قد
سمعناها ، فلما سمعهن أكثم قال : إني قد أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن
ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رءوسا ، ولا تكونوا فيه أذنابا (9).
__________
(1) رواه أحمد في المسند (5/ 36) وأبو داود في السنن برقم (4902) والترمذي في
السنن برقم (2511) وابن ماجه في السنن برقم (4211) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه
، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
(2) في ف : "عن الذي".
(3) تفسير الطبري (14/ 109).
(4) رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق برقم (3) وأبو نعيم في الحلية (8/ 255) من
طريق معمر ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد مرفوعًا ، وقال أبو نعيم : "غريب من
حديث أبي حازم وسهل تفرد به عن أبي حازم معمر".
(5) في ف : "حدثنا محمد بن يحيى".
(6) في هـ ، ت ، أ : "علي بن عبد الله بن عمير" وهو خطأ ، وانظر : معرفة
الصحابة (2/ 420) والثقات لابن حبان (7/ 207) والإصابة (1/ 118).
(7) في أ : "رسول الله".
(8) في ف : "من أنت وصفاتك وما جئت به".
(9) معرفة الصحابة (2/ 420) قال ابن حجر : "وهو مرسل" وأورده ابن عبد
البر في الاستيعاب (1/ 146) وأنكر كون أكثم بن صيفي من الصحابة وانظر : الإصابة
(1/ 119).
(4/596)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
وقد
ورد في نزول هذه الآية الكريمة حديث حَسن ، رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثني عبد الله بن عباس قال :
بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس ، إذ مر به عثمان بن مظعون ،
فكشر (1) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "ألا تجلس ؟" فقال : بلى. قال : فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
مستقبله ، فبينما هو يحدثه إذ شَخَص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره في السماء
، فنظر ساعة إلى [السماء] (2) فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يَمْنته في الأرض ،
فتحرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض
رأسه كأنه يستفقه ما يقال له ، وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له
، شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة. فأتبعه بصره
حتى توارى في السماء. فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال : يا محمد ، فيما كنت
أجالسك ؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة! قال : "وما رأيتني فعلت ؟" قال :
رأيتك شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك ، فتحرفت إليه وتركتني ،
فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك. قال : "وفطنت لذلك ؟" فقال
عثمان : نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتاني رسول الله آنفا وأنت
جالس". قال : رسولُ الله ؟ قال : "نعم". قال : فما قال لك ؟ قال :
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ } قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي ، وأحببت محمدًا صلى
الله عليه وسلم (3).
إسناد جيد متصل حسن ، قد (4) بُيِّن فيه السماع المتصل. ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث
عبد الحميد بن بَهرام مختصرًا.
حديث آخر : عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك ، قال الإمام أحمد :
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا هُرَيْم ، عن لَيْث ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن عثمان
بن أبي العاص قال : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا ، إذ شَخَصَ بَصره
فقال : "أتاني جبريل ، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة :
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ ] } (5) (6).
وهذا إسناد لا بأس به ، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين ، والله أعلم.
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ
بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ
بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ أَنْ
تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ
وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
(92) }
__________
(1) في ف : "فكر".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(3) المسند (1/ 318).
(4) في ف : "وقد".
(5) زيادة من ف ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) المسند (4/ 218).
(4/597)
وهذا
مما يأمر الله تعالى به (1) وهو الوفاء بالعهود والمواثيق ، والمحافظة على الأيمان
المؤكدة ؛ ولهذا قال : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا }
ولا تعارض بين هذا وبين قوله : { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ
أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا [وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ] } [البقرة : 224] (2)
وبين قوله تعالى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } [المائدة : 89] أي : لا تتركوها بلا تكفير ، وبين
قوله ، عليه السلام (3) فيما ثبت عنه في الصحيحين (4) : إني والله إن شاء الله ،
لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها".
وفي رواية : "وكفرت عن يميني" لا تعارض بين هذا كله ، ولا بين الآية
المذكورة هاهنا وهي قوله : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا
[وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا] } (5) ؛ لأن هذه الأيمان ، المراد
بها الداخلة في العهود والمواثيق ، لا الأيمان التي هي واردة على حَثّ أو منع ؛
ولهذا قال مجاهد في قوله : { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا }
يعني : الحِلْف ، أي : حلْفَ الجاهلية ؛ ويؤيده ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - حدثنا ابن نُمَيْر وأبو أسامة ، عن
زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جُبَيْر بن مطعم قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا حِلْف في الإسلام ، وأيما حلف كان
في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة".
وكذا رواه مسلم ، عن ابن أبي شيبة ، به (6).
ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلْف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه ، فإن
في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وأما ما ورد في الصحيحين ، عن عاصم الأحول ، عن أنس ، رضي الله عنه ، أنه قال :
حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا (7) - فمعناه
: أنه آخى بينهم ، فكانوا يتوارثون به ، حتى نسخ الله ذلك والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، حدثنا عبيد الله (8) بن موسى ،
أخبرنا أبن أبي ليلى ، عن مَزِيدة (9) في قوله : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ
إِذَا عَاهَدْتُمْ } قال : نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ، كان من أسلم
بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فقال : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ } هذه البيعة التي بايعتم
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "به تعالى".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(4) في ت : "الصحيح".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) المسند (4/ 83) وصحيح مسلم برقم (2530).
(7) صحيح البخاري برقم (2294) وصحيح مسلم برقم (2529).
(8) في ت : "عبد الله".
(9) في ف : "بريدة".
(4/598)
على
الإسلام ، { وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } البيعة ، لا
يحملنكم قلة محمد [وأصحابه] (1) وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي تبايعتم على
الإسلام.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا صخر بن جُوَيرية ، عن نافع قال : لما
خلع الناس يزيد بن معاوية ، جمع ابن عمر بنيه وأهله ، ثم تشهد ، ثم قال : أما بعد
، فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : "إن الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة ، فيقال (2) هذه
غَدْرة فلان وإن من أعظم الغَدْر - إلا أن يكون الإشراك بالله - أن يبايع رجل رجلا
على بيعة الله ورسوله ، ثم ينكث بيعته ، فلا يخلعن أحد منكم يزيد ولا يسرفن أحد
منكم في هذا الأمر ، فيكون صَيْلم بيني وبينه" (3).
المرفوع منه في الصحيحين (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا حجاج ، عن عبد الرحمن بن عابس ، عن أبيه ،
عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من شرط لأخيه
شرطًا ، لا يريد أن يفي له به ، فهو كالمدلي جاره إلى غير مَنْعَة" (5).
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان
بعد توكيدها.
وقوله : { وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ
أَنْكَاثًا } قال عبد الله بن كثير ، والسدّي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة ، كلما
غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه.
وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده.
وهذا القول أرجح وأظهر ، وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا.
وقوله : { أَنْكَاثًا } يحتمل أن يكون اسم مصدر : نقضت غزلها أنكاثا ، أي :
أنقاضا. ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان ، أي : لا تكونوا أنكاثا ، جمع نكث من
ناكث ؛ ولهذا قال بعده : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ } أي :
خديعة ومكرًا ، { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي : يحلفون
للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غَدَرتم. فنهى
الله عن ذلك ، لينبه بالأدنى على الأعلى ؛ إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه ،
فلأن ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق الأولى.
وقد قدمنا - ولله الحمد - في سورة "الأنفال" (6) قصة معاوية لما كان
بينه وبين ملك الروم أمَدٌ ، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل ، حتى إذا انقضى وهو
قريب من بلادهم ، أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون ، فقال له عمرو بن عَبْسَة :
الله أكبر يا معاوية ، وفاء لا غدرًا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) في ت ، ف : "يقال".
(3) المسند (2/ 48).
(4) صحيح البخاري برقم (3188) وصحيح مسلم برقم (1735).
(5) المسند (5/ 404).
(6) عند تفسير الآية : 58.
(4/599)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
يقول
: "من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عُقدة حتى ينقضي أمَدها". فرجع
معاوية بالجيش ، رضي الله عنه وأرضاه.
قال ابن عباس : { أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي : أكثر.
وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ، فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء
ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز. فنهوا عن ذلك. وقال الضحاك ، وقتادة ، وابن زيد
نحوه.
وقوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } قال سعيد بن جُبَير : يعني
بالكثرة. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : أي : بأمره إياكم بالوفاء والعهد.
{ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
} فيجازى كل عامل بعمله ، من خير وشر.
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ
يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
}
(4/600)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
{
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ
ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا إِنَّمَا
عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) }
يقول تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ } أيها الناس { أُمَّةً
وَاحِدَةً } (1) ، كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي
الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [يونس : 99] أي : لوفق بينكم. ولما جعل اختلافا ولا
تباغُضَ ولا شحناء { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً
وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ }
[هود : 118 ، 119] ، وهكذا قال هاهنا : { وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ } ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم ، فيجازيكم عليها على
الفتيل والنقير والقطْمير.
ثم حذر تعالى عباده عن (2) اتخاذ الأيمان دخلا أي خديعة ومكرًا ، لئلا تَزل قدم
بعد ثبوتها : مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها وزل عن طريق الهدى ، بسبب
الأيمان الحانثة (3) المشتملة على الصد عن سبيل الله ، لأن الكافر إذا رأى أن
المؤمن قد عاهده ثم غدر به ، لم يبق له وثوق بالدين ، فانصد بسببه عن الدخول في
الإسلام ؛ ولهذا قال : { وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }
ثم قال تعالى : { وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } أي : لا
تعتاضوا عن الأيمان بالله عَرَض الحياة الدنيا وزينتها ، فإنها قليلة ، ولو حيزت
لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له ، أي : جزاء الله وثوابه
خير لمن رجاه وآمن به (4) وطلبه ، وحفظ عهده (5) رجاء موعوده ؛ ولهذا قال : { إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ }
__________
(1) في ت : "أمة واحدة أيها الناس".
(2) في ت ، ف : "من".
(3) في ت : "الحادثة".
(4) في ف : "خير لمن آمن به ورجاه".
(5) في ف ، أ : "عهد الله".
(4/600)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
أي :
يفرغ وينقضي ، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدَّر مُتَناه ، { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ
بَاقٍ } أي : وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له فإنه دائم لا يحول
ولا يزول ، { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ } قسم من الرب عز وجل (1) مُتَلقى باللام ، أنه يجازي
الصابرين بأحسن أعمالهم ، أي : ويتجاوز عن سيئها.
{ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) }
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا - وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة
نبيه (2) من ذكر أو أنثى من بني آدم ، وقلبه مؤمن بالله ورسوله ، وإن هذا العمل
المأمور به مشروع من عند الله - بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه (3)
بأحسن ما عمله في الدار الآخرة.
والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت. وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم
فسروها بالرزق الحلال الطيب.
وعن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه فسرها بالقناعة. وكذا قال ابن عباس ،
وعِكْرِمة ، ووهب بن منبه.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أنها (4) السعادة.
وقال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة : لا يطيب لأحد حياة إلا في الجنة.
وقال الضحاك : هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا ، وقال الضحاك أيضا : هي (5)
العمل بالطاعة والانشراح بها.
والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني شرحبيل بن شريك ، عن
أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عَمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافا ، وقَنَّعه الله بما آتاه".
ورواه مسلم ، من حديث عبد الله بن يزيد المقرئ به (6)
وروى الترمذي والنسائي ، من حديث أبي هانئ ، عن أبي علي الجنبي (7) عن فضالة بن
عُبَيد ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "قد أفلح من هُدي إلى
الإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقنع (8) به". وقال
__________
(1) في ف : "جل شأنه".
(2) في ت : "رسوله".
(3) في ت : "يجزى".
(4) في ت ، ف : "هي".
(5) في ت ، ف : "هو".
(6) المسند (2/ 168) وصحيح مسلم برقم (1054).
(7) في ت ، ف ، أ : "الحسبي".
(8) في ت : "ومنع".
(4/601)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
الترمذي
: هذا حديث صحيح (1).
وقال الإمام أحمد ، حدثنا يزيد ، حدثنا هَمَّام ، عن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن
مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة
يعطى بها في الدنيا [ويثاب عليها في الآخرة وأما الكافر فيعطيه حسناته في الدنيا]
(2) حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرًا". انفرد
بإخراجه مسلم (3).
{ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ
يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) }
هذا أمر من الله تعالى لعباده (4) على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم : إذا أرادوا
قراءة القرآن ، أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم. وهو أمرُ ندبٍ ليس بواجب ،
حكى الإجماع على ذلك (5) الإمام أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة. وقد قدمنا
الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير ، ولله الحمد والمنة.
والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة ، لئلا يلبس (6) على القارئ قراءته ويخلط
عليه ، ويمنعه من التدبر والتفكر ، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون
قبل التلاوة (7) وحكي عن حمزة وأبي حاتم السجستاني : أنها تكون بعد التلاوة ،
واحتجا بهذه الآية. ونقل النووي في شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضًا ، ومحمد
بن سيرين ، وإبراهيم النَّخَعي. والصحيح الأول ، لما تقدم من الأحاديث الدالة على
تقدمها على التلاوة ، والله أعلم.
وقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } قال الثوري : ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا
يتوبون منه.
وقال آخرون : معناه لا حجة له عليهم. وقال آخرون : كقوله : { إِلا عِبَادَكَ
مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ص : 83].
{ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } قال مجاهد : يطيعونه.
وقال آخرون : اتخذوه وليًا من دون الله.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (2349).
(2) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(3) المسند (3/ 123) وصحيح مسلم برقم (2818).
(4) في ت ، ف : "عباده".
(5) في ت ، ف : "وحكى على ذلك الإجماع".
(6) في ف : "تلتبس".
(7) في ف : "القراءة".
(4/602)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
{
وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } أي : أشركوا في عبادة الله تعالى. ويحتمل أن
تكون الباء سببية ، أي : صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى.
وقال آخرون : معناه : أنه شركهم في الأموال والأولاد.
{ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنزلُ
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ
نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) }
يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم ، وأنه لا يتصور منهم
الإيمان وقد كتب عليهم الشقاوة ، وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الأحكام ناسخها
بمنسوخها قالوا للرسول : { إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ } أي : كذاب وإنما هو الرب تعالى
يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.
وقال مجاهد : { بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } أي : رفعناها وأثبتنا غيرها.
وقال قتادة : هو كقوله تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا }
[البقرة : 106].
فقال تعالى مجيبا لهم : { قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ } أي : جبريل ، { مِنْ
رَبِّكَ بِالْحَقِّ } أي : بالصدق والعدل ، { لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا }
فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا وتخبت له قلوبهم ، { وَهُدًى وَبُشْرَى
لِلْمُسْلِمِينَ } أي : وجعله هاديا [مهديا] (1) وبشارة للمسلمين الذين آمنوا
بالله ورسله.
__________
(1) زيادة من ت.
(4/603)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ
(103) }
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت : أن
محمدًا إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر ، ويشيرون إلى رجل أعجمي
كان بين أظهرهم ، غلام لبعض بطون قريش ، وكان بياعا يبيع عند الصفا ، فربما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء ، وذاك كان أعجمي اللسان
لا يعرف العربية ، أو أنه كان يعرف الشيء اليسير بقدر ما يَرُد جواب الخطاب فيما
لا بد منه ؛ فلهذا قال الله تعالى رادًا عليهم في افترائهم ذلك : { لِسَانُ
الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ }
يعني : القرآن أي : فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن ، في فَصَاحته وبلاغته ومعانيه
التامة الشاملة ، التي هي أكمل من (1) معاني كل كتاب نزل على نبي أرسل ، كيف يتعلم
من رجل أعجمي ؟! لا يقول هذا من له أدنى مُسْكة (2) من العقل.
قال محمد بن إسحاق بن يَسَار في السيرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما
بلغني - كثيرًا ما يجلس
__________
(1) في ت : "هي من أكمل".
(2) في ت : "مسلة".
(4/603)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
عند
المروة إلى مَبيعة غلام نصراني يقال له جبر ، عبد لبعض بني الحضرمي ، [فكانوا
يقولون : والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني ، غلام بن
الحضرمي] (1) فأنزل الله : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا
يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا
لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (2)
وكذا قال عبد الله بن كثير : وعن عِكْرِمة وقتادة : كان اسمه يعيش.
وقال ابن جرير : حدثني أحمد بن محمد الطوسي ، حدثنا أبو عامر ، حدثنا إبراهيم بن
طَهْمَان ، عن مسلم بن عبد الله الملائي ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعلم قَينًا بمكة ، وكان اسمه بلغام ، وكان أعجمي اللسان
، وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده ،
قالوا : إنما يعلمه بلغام ، فأنزل الله هذه الآية : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } (3).
وقال الضحاك بن مزاحم : هو سلمان الفارسي ، وهذا القول ضعيف ؛ لأن هذه الآية مكية
، وسلمان إنما أسلم بالمدينة وقال عبيد الله (4) بن مسلم : كان لنا غلامان روميان
يقرآن كتابا لهما بلسانهما ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهما (5) ، فيقوم
فيسمع منهما فقال المشركون : يتعلم منهما ، فأنزل الله هذه الآية.
وقال الزهري ، عن سعيد بن المسيب : الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فارتد بعد ذلك عن الإسلام ، وافترى هذه المقالة ،
قبحه الله!.
{ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) }
يخبر تعالى أنه لا يهدي (6) من أعرض عن ذكره وتَغَافل عما أنزله على رسوله ، ولم
يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله ، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله
إلى الإيمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا ، ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة.
ثم أخبر تعالى أن رسوله ليس بمفتر ولا كَذَّاب ؛ لأنه { إِنَّمَا يَفْتَرِي
الْكَذِبَ } على الله وعلى رسوله شِرارُ الخلق ، { الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ } من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس. والرسول محمد
صلى الله عليه وسلم ، كان (7) أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا
وإيقانا ، معروفًا بالصدق في قومه ، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدْعى بينهم
إلا بالأمين محمد ؛ ولهذا لما
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ ، وابن هشام.
(2) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/ 393).
(3) تفسير الطبري (14/ 119).
(4) في ت ، ف : "عبد الله".
(5) في أ : "عليهما".
(6) في أ : "لا يهتدي".
(7) في ت : "كان من".
(4/604)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
سأل
هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، كان فيما قال له : أو كنتم (1) تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟
قال : لا. فقال : هرقل فما كان ليَدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز
وجل.
{ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ
اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي
الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) }
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر ، وشرح صدره بالكفر واطمأن به : أنه قد
غَضب عليه ، لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه ، وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة
؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدموا (2) على ما أقدموا عليه من
الردة لأجل (3) الدنيا ، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق ، فطبع على
قلوبهم فلا (4) يعقلون بها شيئا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ،
ولا أغنت عنهم شيئا ، فهم غافلون عما يراد بهم.
{ لا جَرَمَ } أي : لا بد ولا عجب أن من هذه صفته ، { أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ
هُمُ الْخَاسِرُونَ } أي : الذين خسروا أنفسهم وأهاليهم (5) يوم القيامة.
وأما قوله : { إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ } فهو
استثناء ممن (6) كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى ،
وقلبه يأبى ما يقول ، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله.
وقد روى العَوفِيّ عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في عمَّار بن ياسر ، حين عذبه
المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فوافقهم على ذلك مُكرَها (7) وجاء
معتذرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله هذه الآية ، وهكذا قال الشعبي
، وأبو مالك وقتادة.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثَور ، عن مَعْمَر ، عن عبد
الكريم الجَزَريّ ، عن أبي عبيدة [بن] (8) محمد بن عمار (9) بن ياسر قال : أخذ
المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "كيف تجد قلبك ؟"
قال : مطمئنا بالإيمان قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن عادوا فعد"
(10).
ورواه البيهقي بأبسط من ذلك ، وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم
بخير ، وأنه قال : يا رسول
__________
(1) في ف : "أفكنتم".
(2) في ت : "فما قدموا".
(3) في ت : "الردة إلا لأجل".
(4) في أ : "فهم لا".
(5) في ت : "وأهليتهم".
(6) في ت : "فمن".
(7) في ف ، أ : "مستكرهًا".
(8) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(9) في ت : "على".
(10) تفسير الطبري (14/ 122).
(4/605)
الله
، ما تُركتُ حتى سَببتك وذكرت آلهتهم بخير! قال : "كيف تجد قلبك ؟" قال
: مطمئنا بالإيمان. فقال : "إن عادوا فعد". وفي ذلك أنزل الله : { إِلا
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ } (1).
ولهذا اتفق العلماء على أنه يجوز أن يُوَالى المكرَه على الكفر ، إبقاءً لمهجته ،
ويجوز له أن يستقتل ، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به
الأفاعيل ، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدَّة الحر ، ويأمرونه أن
يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول : أحَد ، أحَد. ويقول : والله لو أعلم كلمة هي
(2) أغيظ لكم منها لقلتها ، رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد (3) الأنصاري
لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدًا رسول الله ؟ فيقول : نعم. فيقول :
أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرْبًا إرْبًا وهو ثابت على
ذلك (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن عِكْرِمة ، أن عليا ، رضي
الله عنه ، حَرَّق ناسا ارتدوا عن الإسلام ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال : لم أكن
لأحرقهم بالنار ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تعذبوا بعذاب
الله". وكنت قاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من بدل دينه
فاقتلوه" فبلغ ذلك عليا فقال : ويح أم ابن (5) عباس. رواه البخاري (6).
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن
حُمَيْد بن هلال العَدَويّ ، عن أبي بردة قال : قدم على أبي موسى معاذُ بن جبل
باليمن ، فإذا رجل عنده ، قال : ما هذا ؟ قال (7) رجل كان يهوديا فأسلم ، ثم تهود
، ونحن نريده على الإسلام منذ - قال : أحسب - شهرين فقال : والله لا أقعد (8) حتى
تضربوا عنقه. فضربت عنقه. فقال : قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه - أو
قال : من بدل دينه فاقتلوه (9).
وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر (10).
والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ، ولو أفضى إلى قتله ، كما قال (11)
الحافظ ابن عساكر ، في ترجمة عبد الله بن حُذَافة السهمي أحد الصحابة : أنه أسرته
الروم ، فجاءوا به إلى (12) ملكهم ، فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك
ابنتي. فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب ، على أن أرجع عن
دين محمد طرفة عين ، ما فعلت! فقال : إذا أقتلك. قال : أنت وذاك! فأمر به فصلب ،
وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه ، وهو يعرض عليه دين
__________
(1) سنن البيهقي الكبرى (8/ 209).
(2) زيادة من ت ، ف ، أ.
(3) في ف : "يزيد".
(4) انظر : الاستيعاب لابن عبد البر (1/ 327) وأسد الغابة لابن الأثير (1/ 443).
(5) في ت ، ف : "ابن أم".
(6) المسند (1/ 217) وصحيح البخاري برقم (6922).
(7) في ت : "فقال".
(8) في ف : "قعدتك".
(9) المسند (5/ 231)
(10) صحيح البخاري برقم (6923) وصحيح مسلم برقم (1733).
(11) في ف ، أ : "كما ذكر".
(12) في ف : "عند".
(4/606)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
النصرانية
، فيأبى (1) ثم أمر به فأنزل ، ثم أمر بِقِدْر. وفي رواية : ببقرة من نحاس ،
فأحميت ، وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر ، فإذا هو عظام تلوح. وعرض عليه
فأبى ، فأمر به أن يلقى فيها ، فرفع في البَكَرَة ليلقى فيها ، فبكى فطمع فيه
ودعاه فقال له : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة ، تُلْقى في هذه القدر
الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في
الله. وفي بعض الروايات : أنه سجنه ومنع عنه الطعام والشراب أياما ، ثم أرسل إليه
بخمر ولحم خنزير ، فلم يقربه ، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما
إنه قد حَلَّ لي ، ولكن لم أكن لأشمتك فيّ. فقال له الملك : فَقَبِّلْ رأسي وأنا
أطلقك. فقال : وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ؟ قال : نعم. فقبل رأسه ، فأطلقه
وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده ، فلما رجع قال عمر بن الخطاب : حَقّ على كل
مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ. فقام فقبل رأسه (2).
{ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ
جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) }
__________
(1) في ف : "فأبي".
(2) تاريخ دمشق (9/116 "المخطوط").
(4/607)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
{
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) }
هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم قد واتوهم على الفتنة ، ثم
إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله
وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا ، فأخبر
الله تعالى أنه { مِنْ بَعْدِهَا } أي : تلك الفعلة ، وهي الإجابة إلى الفتنة
لغفور لهم ، رحيم بهم يوم معادهم.
{ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ } أي : تحاج { عَنْ نَفْسِهَا } ليس أحد
يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة { وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ
} أي : من خير وشر ، { وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ } أي : لا ينقص من ثواب الخير ولا
يزاد على ثواب الشر (1) ولا يظلمون نقيرًا.
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا
رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا
اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ
جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ
ظَالِمُونَ (113) }
هذا مثل أريد به أهل مكة ، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يُتخطَّف الناس من حولها
، ومن دخلها آمن لا يخاف ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى
مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا
يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا } [القصص : 57]
__________
(1) في ت : "المسيء".
(4/607)
وهكذا
(1) قال هاهنا : { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا } أي : هنيئها سهلا { مِنْ كُلِّ
مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } أي : جحدت آلاء الله عليها وأعظم ذلك
بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [إبراهيم : 28 ، 29].
(2) ولهذا بدَّلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما ، فقال : { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ
لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } أي : ألبسها وأذاقها (3) الجوع بعد أن كان يُجبى
إليهم ثمرات كل شيء ، ويأتيها رزقها رغدًا من كل مكان ، وذلك لما استعصوا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه ، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابتهم
سنة (4) أذهبت كل شيء لهم ، فأكلوا العِلْهِز - وهو : وبر البعير ، يجعل بدمه إذا
نحروه.
وقوله : { وَالْخَوْفِ } وذلك بأنهم (5) بُدِّلوا بأمنهم خوفًا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه ، حين هاجروا إلى المدينة ، من سطوة سراياه وجُيوشه ،
وجعلوا كل ما لهم في سَفَال ودمار ، حتى فتحها الله عليهم (6) وذلك بسبب صنيعهم
وبغيهم وتكذيبهم الرسول الذي بعثه الله فيهم منهم ، وامتن به عليهم في قوله : {
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ
أَنْفُسِهِمْ } [آل عمران : 164] ، وقال تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي
الألْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولا
[يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] } [الطلاق : 10 ، 11]
(7) الآية وقوله (8) : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو
عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ }
إلى قوله (9) : { وَلا تَكْفُرُونِ } [البقرة : 151 ، 152].
وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم ، فخافوا بعد الأمن ، وجاعوا بعد الرغد ،
بَدَّل (10) الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا ، ورزقهم بعد العَيْلَة ، وجعلهم
أمراء الناس وحكامهم ، وسادتهم وقادتهم (11) وأئمتهم.
وهذا (12) الذي قلناه من أن هذا المثل مضروب لمكة ، قاله العوفي ، عن ابن عباس.
وإليه ذهب مجاهد ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وحكاه مالك عن الزهري ،
رحمهم الله.
وقال ابن جرير : حدثني ابن عبد الرحيم البَرْقي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع
بن زيد ، حدثنا عبد الرحمن بن شُرَيْح ، أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه ،
أنه سمع مشْرَح بن هاعان يقول : سمعت سليم بن عتر (13) يقول : صدرنا من الحج مع
حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وعثمان ، رضي
__________
(1) في ف : "ولكن".
(2) في ت : "فبئس" وهو خطأ.
(3) في ت : "فأذاقها".
(4) في ت ، ف ، أ : "سنة جائحة".
(5) في ت ، ف : "أنهم".
(6) في ت ، ف : "على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(8) في ف : "وقال".
(9) في ت ، ف ، أ : "ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. فاذكروني أذكركم واشكروا
لي".
(10) في ف : "فبدل".
(11) في ت ، ف : "وقادتهم وسادتهم".
(12) في أ : "وهكذا"
(13) في ت : "عمير".
(4/608)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
الله
عنه ، محصور بالمدينة ، فكانت تسأل عنه : ما فعل ؟ حتى رأت راكبين ، فأرسلت إليهما
تسألهما ، فقالا قتل. فقالت حفصة : والذي نفسي بيده ، إنها القرية التي قال الله :
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا
رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ } قال أبو
شريح : وأخبرني عبيد الله بن المغيرة ، عمن حدثه : أنه كان يقول : إنها المدينة
(1).
{ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا
حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(117) }
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب ، وبشكره على ذلك ، فإنه
المنعم المتفضل به ابتداء ، الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له.
ثم ذكر ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم ، من الميتة والدم ، ولحم
الخنزير.
{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي : ذبح على غير اسم الله ، ومع هذا {
فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : احتاج في غير بغي ولا عدوان ، { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ }
وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة "البقرة" (2) بما فيه كفاية
عن إعادته ، ولله الحمد [والمنة] (3).
ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين ، الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وضعوه واصطلحوا
عليه من الأسماء بآرائهم ، من البَحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وغير ذلك مما
كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم ، فقال : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللَّهِ الْكَذِبَ } ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس [له] (4) فيها مستند شرعي
، أو حلل شيئا مما حرم الله ، أو حرم شيئا مما أباح الله ، بمجرد رأيه وتشهِّيه.
و "ما" في قوله : { لِمَا } مصدرية ، أي : ولا تقولوا الكذب لوصف
ألسنتكم.
ثم توعد على ذلك فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا
يُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا فمتاع (5) قليل ، وأما
في الآخرة فلهم عذاب أليم ، كما قال : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ
نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان : 24]
__________
(1) تفسير الطبري (14/ 125).
(2) عند تفسير الآية : 137.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) في ت ، ف : "متاع".
(4/609)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
وقال
: { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ
فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ
الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس : 69 ، 70].
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا
ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) }
(4/610)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ
بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
}
لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة (1) والدم ولحم الخنزير ، وما أهل لغير
الله به ، وأنه (2) أرخص فيه عند الضرورة - وفي ذلك توسعة لهذه الأمة ، التي يريد
الله بها اليسر ولا يريد بها العسر - ذكر سبحانه وتعالى ما كان حَرَّمه على اليهود
في شريعتهم قبل أن ينسخها ، وما كانوا فيه من الآصار والأغلال والحرج والتضييق ،
فقال : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ
قَبْلُ } يعني : في "سورة الأنعام" في قوله : { وَعَلَى الَّذِينَ
هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا [أَوِ الْحَوَايَا أَوْ
مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ]
} [الأنعام : 146] (3) ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } أي : فيما
ضيقنا عليهم ، { وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : فاستحقوا ذلك ،
كما قال : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ
أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } [النساء : 160].
ثم أخبر تعالى تكرمًا وامتنانًا في حق العصاة المؤمنين : أن من تاب منهم إليه تاب
عليه ، فقال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ }
قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل.
{ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } أي : أقلعوا عما كانوا فيه من
المعاصي ، وأقبلوا على فعل الطاعات ، { إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا } أي : تلك
الفعلة والذلة { لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) }
يمدح [تبارك و] (4) تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم ، إمام الحنفاء ووالد
الأنبياء ، ويبرئه من المشركين ، ومن اليهودية والنصرانية فقال : { إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } فأما "الأمة" ،
فهو
__________
(1) في ت : "المدينة".
(2) في ف : "وإنما".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ ، وفي هـ : "إلى قوله : وإنا لصادقون".
(4) زيادة من ف ، أ.
(4/610)
الإمام
الذي يقتدى به. والقانت : هو الخاشع المطيع. والحنيف : المنحرف قصدًا عن الشرك إلى
التوحيد ؛ ولهذا قال : { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قال سفيان الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مسلم البَطِين ، عن أبي العبيدين :
أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت ، فقال : الأمة : معلم الخير ، والقانت
: المطيع لله ورسوله.
وعن مالك قال : قال ابن عمر : الأمة الذي يعلم الناس دينهم.
وقال الأعمش ، [عن الحكم] (1) عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العُبَيدين ؛ أنه جاء
إلى عبد الله فقال : مَنْ نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له ، فقال :
أخبرني عن الأمة (2) فقال : الذي يعلم الناس الخير.
وقال الشعبي : حدثني فروَة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود : إن معاذًا كان
أمة قانتا لله حنيفا ، فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله : {
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } فقال : أتدري ما الأمة وما القانت ؟ قلت :
الله [ورسوله] (3) أعلم. قال : الأمة الذي يعلم [الناس] (4) الخير. والقانت :
المطيع لله ورسوله. وكذلك كان معاذ معلم الخير. وكان مطيعا لله ورسوله.
وقد روي من غير وجه ، عن ابن مسعود ؛ حرره ابن جرير (5).
وقال مجاهد : { أُمَّةً } أي : أمة وحده ، والقانت : المطيع. وقال مجاهد أيضًا :
كان إبراهيم أمة ، أي : مؤمنا وحده ، والناس كلهم إذ ذاك كفار.
وقال قتادة : كان إمام هُدى ، والقانت : المطيع لله.
وقوله : { شَاكِرًا لأنْعُمِهِ } أي : قائما بشكر (6) نعم الله عليه ، كما قال : {
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم : 37] ، أي : قام بجميع ما أمره الله
تعالى به.
وقوله : { اجْتَبَاهُ } أي : اختاره واصطفاه ، كما قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا
إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [الأنبياء : 51].
ثم قال : { وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وهو عبادة الله وحده لا شريك له
على شرع مرضي.
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } أي : جمعنا له خير الدنيا من
جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة ، { وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ }
وقال مجاهد في قوله : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } أي : لسان صدق.
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(2) في ف ، أ : "أمة".
(3) زيادة من أ.
(4) زياد من ف ، أ.
(5) تفسير الطبري (14/ 128 ، 129).
(6) في ت : "يشكر".
(4/611)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
وقوله
: { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } أي
: ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه ، أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد
الأنبياء : { أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ } كما قال : في "الأنعام" : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي
رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 161] ، ثم قال تعالى منكرا على
اليهود.
{ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ
لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
(124) }
لا شك أن الله تعالى شرَع في كل ملة يوما من الأسبوع ، يجتمع الناس فيه للعبادة ،
فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة ؛ لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة
، واجتمعت [الناس] (1) فيه وتمت النعمة على عباده. ويقال : إنه تعالى شرع ذلك لبني
إسرائيل على لسان موسى ، فعدلوا عنه واختاروا السبت ؛ لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه
الرب شيئًا من المخلوقات الذي (2) كمل خلقها يوم الجمعة ، فألزمهم (3) تعالى به في
شريعة التوراة ، ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه ، مع أمره إياهم بمتابعة
محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه. وأخذه (4) مواثيقهم وعهودهم على ذلك ؛ ولهذا
قال تعالى : { إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ }
قال مجاهد : اتبعوه وتركوا الجمعة.
ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به ، حتى بعث الله عيسى ابن مريم ، فيقال : إنه حوَّلهم
إلى يوم الأحد. ويقال إنه : لم [يترك (5) شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها
وإنه لم] (6) يزل محافظًا على السبت حتى رفع ، وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم
الذين تحولوا إلى يوم الأحد ، مخالفة لليهود ، وتحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة
، والله (7) أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين ، من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة
، رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "نحن الآخرون
السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي فرض
الله عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا ،
والنصارى بعد غد". لفظ البخاري (8).
وعن أبي هريرة ، وحذيفة ، رضي الله عنهما ، قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى
يوم الأحد ، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم
__________
(1) زيادة من ت ، ف.
(2) في أ : "التي".
(3) في أ : "وألزمهم".
(4) في أ : "وأخذ".
(5) في أ : "يزل على".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ.
(7) في ت : "فالله".
(8) صحيح البخاري برقم (6624) وصحيح مسلم برقم (855).
(4/612)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
الجمعة
، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل
الدنيا والأولون يوم القيامة ، والمقضي بينهم قبل الخلائق". رواه مسلم [والله
أعلم] (1) (2).
{ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ
عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) }
يقول تعالى آمرًا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله {
بِالْحِكْمَةِ }
قال ابن جرير : وهو ما أنزله عليه (3) من الكتاب والسنة { وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ } أي : بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم (4) بها ، ليحذروا
بأس الله تعالى.
وقوله : { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } أي : من احتاج منهم إلى مناظرة
وجدال ، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب ، كما قال : { وَلا تُجَادِلُوا
أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ
} [العنكبوت : 46] فأمره تعالى بلين الجانب ، كما أمر موسى وهارون ، عليهما السلام
، حين بعثهما إلى فرعون فقال : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه : 44].
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } أي : قدم علم الشقي منهم والسعيد ، وكتب ذلك عنده
وفرغ منه ، فادعهم إلى الله ، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم (5) حسرات ، فإنه ليس
عليك هداهم إنما أنت نذير ، عليك البلاغ ، وعلينا الحساب ، { إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص : 56] ، (6) و { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } [البقرة :
272].
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ
صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا
بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ
(127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
}
يأمر تعالى بالعدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق ، كما قال عبد الرزاق ،
عن الثوري ، عن خالد ، عن ابن سيرين : أنه قال في قوله تعالى : { فَعَاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } إن أخذ منكم رجل شيئًا ، فخذوا منه مثله.
وكذا قال مجاهد ، وإبراهيم ، والحسن البصري ، وغيرهم. واختاره ابن جرير.
وقال ابن زيد : كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين ، فأسلم رجال ذوو منعةٍ ،
فقالوا : يا رسول
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) صحيح مسلم برقم (856).
(3) في ف ، أ : "عليك".
(4) في ت ، ف : "يذكرهم".
(5) في ت : "عليهم".
(6) في ف : "وإنك" وهو خطأ.
(4/613)
الله
، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب! فنزلت هذه الآية ، ثم نسخ ذلك
بالجهاد.
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يَسَار قال : نزلت سورة
"النحل" كلها بمكة ، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد
أحد ، حيث قتل حمزة ، رضي الله عنه ، ومثل به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلا منهم" فلما سمع المسلمون ذلك
قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط.
فأنزل الله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }
إلى آخر السورة (1).
وهذا مرسل ، وفيه [رجل] (2) مبهم لم يسم ، وقد روي هذا من وجه (3) آخر متصل ، فقال
الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عمرو بن عاصم ، حدثنا صالح المري (4) ، عن سليمان
التيمي ، عن أبي عثمان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب ، رضي الله عنه ، حين استشهد ، فنظر إلى
منظر لم ينظر أوجع للقلب منه. أو قال : لقلبه [منه] (5) فنظر (6) إليه وقد مُثِّل
به فقال : "رحمة الله عليك ، إن كنت - لما علمتُ - لوصولا للرحم ، فعولا
للخيرات ، والله لولا حزن من بعدك عليك ، لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون
السباع - أو كلمة نحوها - أما والله على ذلك ، لأمثلن بسبعين كمثلتك (7). فنزل
جبريل ، عليه السلام ، على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة (8) وقرأ : {
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } إلى آخر الآية ،
فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني : عن يمينه - وأمسك عن ذلك (9).
وهذا إسناد فيه ضعف ؛ لأن صالحا - هو ابن بشير المري - ضعيف عند الأئمة ، وقال
البخاري : هو منكر الحديث.
وقال الشعبي وابن جُرَيْج : نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم : لنمثلن
بهم. فأنزل الله فيهم ذلك.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا هدِيَّة (10) بن عبد الوهاب
المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، حدثنا عيسى بن عبيد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي
العالية ، عن أبي بن كعب قال : لما كان يوم أحد ، قتل من الأنصار ستون رجلا ومن
المهاجرين ستة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل
هذا من المشركين لَنُرْبِيَنَّ عليهم. فلما كان يوم الفتح قال رجل : لا
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (14/ 132).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "من غير وجه".
(4) في ت : "حدثنا صالح حدثنا المرى".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت : "ونظر".
(7) في ف ، أ : "كمثلك".
(8) في ت : "الآية".
(9) مسند البزار برقم (1795) "كشف الأستار".
(10) في ت ، ف ، أ : "هدية".
(4/614)
تعرف
(1) قريش بعد اليوم. فنادى مناد : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن الأسود
والأبيض إلا فلانا وفلانا - ناسا سماهم - فأنزل الله تبارك وتعالى : { وَإِنْ
عَاقَبْتُمْ [فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ] } (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"نصبر ولا نعاقب" (3).
وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن ، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب
إلى الفضل ، كما في قوله : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } ثُمَّ
قَالَ { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [الشورى : 40]. وقال
{ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } ثُمَّ قَالَ { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ
لَهُ } [المائدة : 45] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ثُمَّ قَالَ { وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ }
وقوله : { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ } تأكيد للأمر بالصبر ، وإخبار
بأن ذلك إنما ينال بمشيئة الله وإعانته ، وحوله وقوته.
ثم قال تعالى : { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي : على من خالفك ، لا تحزن عليهم ؛
فإن الله قدر ذلك ، { وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ } أي : غم { مِمَّا يَمْكُرُونَ } أي :
مما يجهدون [أنفسهم] (4) في عداوتك وإيصال الشر إليك ، فإن الله كافيك وناصرك ،
ومؤيدك ، ومظهرك ومظفرك بهم.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ }
أي : معهم بتأييده ونصره ومعونته وهذه معية خاصة ، كقوله : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ
إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } [الأنفال :
12] ، وقوله لموسى وهارون : { لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى }
[ طه : 46] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار : { لا تَحْزَنْ
إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا } [التوبة : 40] وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم
، كقوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الحديد : 4] ، وكقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى
ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى
مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة :
7] ، وكما قال تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ
قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا [إِذْ
تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرْضِ
وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ
مُبِينٍ ] } [يونس : 61]. (5)
ومعنى : { الَّذِينَ اتَّقَوْا } أي : تركوا المحرمات ، { وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ } أي : فعلوا الطاعات ، فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم ، وينصرهم ويؤيدهم
، ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ،
حدثنا
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "يعرف".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) زوائد المسند (5/135).
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) زيادة من ت ، ف ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4/615)
مِسْعر
، عن ابن عون ، عن محمد بن حاطب قال : كان عثمان ، رضي الله عنه ، من الذين آمنوا
، والذين اتقوا ، والذين هم محسنون.
[آخر تفسير سورة النحل ولله الحمد أجمعه والمنة ، وبه المستعان وهو حسبنا ونعم
الوكيل] (1)
__________
(1) ما بين المعقوفين من "هـ".
(4/616)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
[
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ] (1)
تفسير سورة الإسراء (2)
وهي مكية
قال الإمام [الحافظ المتقن أبو عبد الله محمد بن إسماعيل] (3) البخاري : حدّثنا
آدم بن أبي إياس ، حدّثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت عبد الرحمن بن يزيد ،
سمعت ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال في بني إسرائيل والكهف ومريم : إنهن من
العتاق الأول وهن من تلادي (4).
وقال الإمام أحمد : حدّثنا عبد الرحمن ، حدثنا حماد بن زيد ، عن مروان ، عن أبي
لبابة ، سمعت عائشة تقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول : ما
يريد أن يفطر ، ويفطر حتى نقول : ما يريد أن يصوم ، وكان يقرأ كل ليلة " بني
إسرائيل " ، و " الزمر " (5).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا
إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) }
يمجد تعالى نفسه ، ويعظم شأنه ، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه ، فلا إله
غيره { الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } يعني محمدًا ، صلوات الله وسلامه عليه (6) {
لَيْلا } أي في جنح الليل { مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وهو مسجد مكة { إِلَى
الْمَسْجِدِ الأقْصَى } وهو بيت المقدس الذي هو إيلياء (7) ، معدن الأنبياء من لدن
إبراهيم الخليل ؛ ولهذا جمعوا له هنالك كلهم ، فَأمّهم في مَحِلّتهم (8) ، ودارهم
، فدل على أنه هو الإمام الأعظم ، والرئيس المقدم ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم
أجمعين.
وقوله : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } أي : في الزروع والثمار { لِنُرِيَهُ }
أي : محمدًا { مِنْ آيَاتِنَا } أي : العظام كما قال تعالى : { لَقَدْ رَأَى مِنْ
آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } [ النجم : 18 ].
وسنذكر من ذلك ما وردت به السنة من الأحاديث عنه ، صلوات الله عليه وسلامه.
وقوله : { إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } أي : السميع لأقوال عباده ، مؤمنهم
وكافرهم ، مصدقهم
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت ، ف ، أ : "سورة سبحان".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (4708).
(5) المسند (6/189) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (1163) وقال : "إن كان أبو
لبابة هذا يجوز الاحتجاج بخبره وفإني لا أعرفه بعدالة ولا حرج". وقد وثقه ابن
معين.
(6) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(7) في ت ، ف ، أ : "بإيلياء"
(8) في ت : "محلهم".
(5/5)
ومكذبهم
، البصير بهم فيعطي كلا ما يستحقه في الدنيا والآخرة.
ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء
رواية أنس بن مالك :
قال الإمام أبو عبد الله البخاري : حدثني عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا سليمان -
هو ابن بلال - عن شريك بن عبد الله (1) قال : سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري
برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة : إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى
إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم : أيهم هو ؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم ،
فقال آخرهم : خذوا خيرهم. فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى
قلبه ، وتنام عيناه ولا ينام قلبه - وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم -
فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبريل ، فشق جبريل ما
بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم ، بيده حتى أنقي
جوفه ، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوًا إيمانًا وحكمة ، فحشا به صدره
ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه. ثم عرج به إلى السماء الدنيا ، فضرب بابًا
من أبوابها ، فناداه أهل السماء : من هذا ؟ فقال : جبريل. قالوا : ومن معك ؟ قال :
معي محمد. قالوا : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم. قالوا : مرحبًا به وأهلا به ، يستبشر
به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يُعْلِمهم.
ووجد في السماء الدنيا آدم ، فقال له جبريل : هذا أبوك آدم فسلِّم عليه ، فسلَّم
عليه ، وردّ عليه آدم فقال : مرحبًا وأهلا بابني ، نعم (2) الابن أنت ، فإذا هو في
السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال : "ما هذان النهران يا جبريل ؟" قال :
هذا النيل والفرات عنصرهما ، ثم مضى به في (3) السماء ، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر
من لؤلؤ وزبرجد ، فضرب يده فإذا هو مسك أذْفر فقال : "ما هذا يا جبريل
؟" قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك.
ثم عرج إلى السماء الثانية ، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى : مَنْ هذا
؟ قال : جبريل. قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد. قالوا : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم.
قالوا : مرحبًا (4) وأهلا وسهلا.
ثم عرج به إلى السماء الثالثة ، فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية. ثم عرج به
إلى السماء الرابعة ، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء الخامسة ، فقالوا
له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السادسة ، فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى
السماء السابعة ، فقالوا له مثل ذلك. كل سماء فيها أنبياء قد سماهم ، قد وعيت (5)
منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة ، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه ،
وإبراهيم في السادسة ، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله. فقال موسى : "رب
لم أظن أن يرفع عليّ أحد" (6) ثم علا به فوق ذلك ، بما لا يعلمه إلا الله ، عز
وجل ، حتى جاء سِدْرَة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى ، حتى كان منه قاب
قوسين أو أدنى ، فأوحى الله إليه فيما
__________
(1) في ف : "عبد الله يعني ابن أبي نمر أنه".
(2) في ف : "فنعم".
(3) في ت ، ف : "إلى".
(4) في ف : "مرحبا به".
(5) في أ : "عينهم".
(6) في ت : "أنه عليَّ أحد".
(5/6)
يوحى
: خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة. ثم هبط به حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال :
"يا محمد ، ماذا عهد إليك ربك ؟" قال : "عهد إليّ خمسين صلاة كل
يوم وليلة" قال : " إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك
وعنهم". فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك ،
فأشار إليه جبريل : أن نعم ، إن شئت. فعلا (1) به إلى الجبار تعالى ، فقال وهو في
مكانه : "يا رب ، خفف عنا ، فإن أمتي لا تستطيع هذا" فوضع عنه عشر صلوات
، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه ، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات.
ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال : "يا محمد ، والله لقد راودت بني إسرائيل
قومي على أدنى من هذا ، فضعفوا فتركوه ، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا
وأبصارًا وأسماعًا ، فارجع فليخفف عنك ربك" كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه
وسلم إلى جبريل ليشير عليه ، ولا يكره ذلك جبريل ، فرفعه عند الخامسة فقال :
"يا رب ، إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم (2) وأبدانهم فخفف
عنا" فقال : الجبار : "يا محمد ، قال : "لبيك وسعديك" قال :
إنه لا يبدل القول لديّ ، كما فرضت عليك في أم الكتاب : "كل حسنة بعشر
أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك" ، فرجع إلى موسى فقال :
"كيف فعلت ؟" فقال : "خفف عنا ، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها"
قال : موسى : "قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ، فارجع
إلى ربك فليخفف عنك أيضًا". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا
موسى قد - والله - استحييت من ربي مما أختلف إليه" (3) قال : "فاهبط
باسم الله" ، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام.
هكذا ساقه البخاري في "كتاب التوحيد" (4) ، ورواه في "صفة النبي
صلى الله عليه وسلم" ، عن إسماعيل بن أبي أُوَيْس عن أخيه أبي بكر عبد الحميد
، عن سليمان بن بلال (5).
ورواه مسلم ، عن هارون بن سعيد ، عن ابن وَهْب ، عن سليمان (6) قال : "فزاد
ونقص ، وقدم وأخر" (7).
وهو كما قاله (8) مسلم ، رحمه الله ، فإن شريك بن عبد الله بن أبي نَمِر اضطرب في
هذا الحديث ، وساء حفظه ولم يضبطه ، كما سيأتي بيانه في الأحاديث الأخر.
ومنهم من يجعل هذا منامًا توطئة لما وقع بعد ذلك ، والله أعلم.
[وقال] (9) البيهقي : في (10) حديث "شريك" زيادة تفرد بها ، على مذهب من
زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه ، يعني قوله : "ثم دنا الجبار رب العزة
فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى" قال : وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في
حملهم هذه الآيات على رؤيته جبريل - أصح (11).
__________
(1) في ف : "ثم علا".
(2) في ف ، أ : "وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم".
(3) في ف : "عليه".
(4) صحيح البخاري برقم (7517).
(5) صحيح البخاري برقم (3570).
(6) في ف ، أ : "سليمان به".
(7) صحيح مسلم برقم (162).
(8) في أ : "قال".
(9) زيادة من ت.
(10) في ف ، أ : "وفي".
(11) دلائل النبوة للبيهقي (2/385).
(5/7)
وهذا
الذي قاله البيهقي هو الحق في هذه المسألة ، فإن أبا ذر قال : يا رسول الله ، هل
رأيت ربك ؟ قال : "نور أنى أراه". وفي رواية "رأيت نورا".
أخرجه مسلم ، رحمه الله (1).
وقوله : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } [ النجم : 8 ] ، إنما هو جبريل ، عليه السلام
، كما ثبت ذلك في الصحيحين ، عن عائشة أمّ المؤمنين ، وعن ابن مسعود ، وكذلك هو في
صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنهم ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في
تفسير هذه الآية بهذا (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا ثابت
البُناني ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
: "أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى
طرفه ، فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس ، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط (3)
فيها الأنبياء ، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت. فأتاني (4) جبريل بإناء من
خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن. قال جبريل : أصبت الفطرة" قال : "ثم
عرج بي إلى السماء الدنيا ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل. فقيل :
(5) ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : وقد أرسل إليه ؟ [قال : قد أرسل إليه] (6). ففتح
لنا ، فإذا أنا بآدم ، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عَرَج بنا إلى السماء الثانية ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل.
فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد. فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه. ففتح
لنا ، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ، فرحبا بي ودعوا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل.
فقيل : ومن معك ؟ فقال : محمد. فقيل : وقد أرسل إليه ؟ قال : قد أرسل إليه. ففتح
لنا ، فإذا أنا بيوسف ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل.
فقيل : ومن معك ؟ قال : محمد. فقيل : قد أرسل إليه ؟ قال : قد بعث إليه. ففتح
الباب ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب ودعا لي بخير. ثم قال : يقول الله : {
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } [ مريم : 57 ].
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل.
فقيل : [و] (7) من معك ؟ فقال : محمد. فقيل : قد أرسل إليه ؟ قال : قد بعث إليه.
ففتح لنا ، فإذا أنا بهارون ، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ فقال : جبريل.
قيل (8) ومن معك ؟ قال : محمد. فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه. ففتح لنا
، فإذا أنا بموسى فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت ؟ قال : جبريل.
قيل : (9) ومن
__________
(1) صحيح مسلم برقم (178).
(2) حديث عائشة : رواه البخاري في صحيحه برقم (3235) ومسلم في صحيحه برقم (177)
وحديث ابن مسعود : رواه البخاري في صحيحه برقم (4856) ومسلم في صحيحه برقم (174)
وحديث أبي هريرة : رواه مسلم في صحيحه برقم (175).
(3) في ت ، ف ، أ : "تربط".
(4) في ف ، أ : "فجاءني".
(5) في ت ، ف ، أ : "قيل".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ ، هـ المسند.
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(8) في ف ، أ : "فقيل".
(9) في ف : "فقيل".
(5/8)
معك
؟ قال : محمد. فقيل : وقد بعث إليه ؟ قال : قد بعث إليه. ففتح لنا ، فإذا أنا
بإبراهيم (1) ، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف
ملك ثم لا يعودون إليه.
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، فإذا ورقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال. فلما
غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت ، فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من
حسنها. قال : "فأوحى الله إليّ ما أوحى ، وفرض عليّ في كل يوم وليلة خمسين
صلاة ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى". قال : "ما فرض ربك على أمّتك ؟ (2)
قال : "قلت : خمسين صلاة في كل يوم وليلة". قال : ارجع (3) إلى ربك
فاسأله التخفيف ؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك ، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم".
قال (4) : " فرجعت إلى ربي ، فقلت : أي رب ، خفف عن أمّتي ، فحطّ عني خمسًا.
فرجعت إلى موسى فقال : ما فعلت ؟ قلت : (5) قد حطّ عني خمسًا". قال :
"إن أمّتك لا تطيق ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك" قال :
"فلم (6) أزل أرجع بين ربي وبين موسى ، ويحط عني خمسًا خمسًا حتى قال : يا
محمد ، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة ، بكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، ومن همّ
بحسنة فلم يعملها كتبت [له] (7) حسنة ، فإن عملها كتبت عشرًا. ومن همّ بسيئة ولم
يعملها لم تكتب ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة. فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته ،
فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمّتك ، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك". فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت".
ورواه مسلم عن شَيْبَان بن فَرُّوخ ، عن حماد بن سلمة بهذا السياق (8) ، وهو أصح
من سياق شَريك.
قال البيهقي : وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به ، عليه الصلاة
والسلام ، من مكة إلى بيت المقدس (9). وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا
مرية.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر ، عن قتادة ، عن أنس ، رضي الله
عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مُسْرَجًا ملجمًا
ليركبه ، فاستصعب عليه ، فقال له جبريل : ما يحملك على هذا ؟ فوالله ما ركبك قط
أكرم على الله منه. قال : فارفضَّ عرقًا.
ورواه الترمذي عن إسحاق بن منصور ، عن عبد الرزاق ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من
حديثه (10).
وقال أحمد أيضًا : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان ، حدثني راشد بن سعد وعبد
الرحمن بن جبير ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما عرج
بي ربي ، عز وجل ، مررت بقوم لهم أظفار من نحاس ، يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت :
من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون
__________
(1) في ت : "بإبراهيم عليه وسلم" وفي ف : "بإبراهيم عليه
السلام".
(2) في ت : "ما فرض عليك على أمتك".
(3) في ت : "فارجع".
(4) في أ : "ثم قال".
(5) في ف ، أ : "فقلت".
(6) في ف : "فقال : لم".
(7) في ف ، أ : "كتبت له".
(8) المسند (3/148) ، وصحيح مسلم برقم (162).
(9) دلائل النبوة للبيهقي (2/385).
(10) المسند (3/164) وسنن الترمذي برقم (3131).
(5/9)
لحوم
الناس ، ويقعون في أعراضهم".
وأخرجه أبو داود ، من حديث صفوان بن عمرو ، به (1). ومن وجه آخر ليس فيه أنس (2) ،
فالله أعلم.
وقال أيضًا : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن سليمان التّيْمِي ، عن أنس قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مررت ليلة أسري بي على موسى ، عليه السلام ،
قائمًا يصلي في قبره" (3).
ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة ، عن سليمان بن طرخان التيمي وثابت البناني ،
كلاهما عن أنس (4).
قال النسائي : وهذا أصح من رواية من قال : سليمان عن ثابت ، عن أنس.
وقال [الحافظ] (5) أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا وهب بن بقيَّة ، حدثنا خالد
، عن التيمي ، عن أنس قال : أخبرني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن النبي
صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرّ على موسى وهو يصلي في قبره (6).
وقال أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة ، حدثنا معتمر ، عن أبيه قال :
سمعت أنسًا : أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مرّ بموسى (7) وهو يصلي في
قبره - قال أنس : ذكر أنه حمل على البراق - فأوثق الدابة - أو قال : الفرس - قال
أبو بكر : صفها لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر كلمة (8) فقال :
أشهد أنك رسول الله ، وكان أبو بكر ، رضي الله عنه ، قد رآها (9).
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده : حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا
سعيد بن منصور ، حدثنا الحارث بن عبيد ، عن أبي عمران الجوني ، عن أنس بن مالك ،
رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بينا أنا قاعد
(10) إذ جاء جبريل عليه السلام ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير
، فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر فسمت (11) وارتفعت حتى سدت الخافقين وأنا أقلب
طرفي ، ولو شئت أن أمس السماء لمسست ، فالتفت إلى جبريل ، عليه السلام ، كأنه حِلْس
(12) لاط فعرفت فضل علمه بالله علي ، وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور
الأعظمَ ، وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت ، وأوحى إليَّ ما شاء الله أن
يوحى" ثم قال : هذا الحديث لا نعلم رواه إلا أنس ، ولا نعلم رواه عن أبي
عمران الجوني إلا الحارث بن عبيد ، وكان رجلا مشهورًا من أهل البصرة (13).
__________
(1) المسند (3/224) وسنن أبي داود برقم (4878).
(2) سنن أبي داود برقم (4878).
(3) المسند (3/120).
(4) صحيح مسلم برقم (2375).
(5) زيادة من أ.
(6) مسند أبي يعلى (7/117).
(7) في ف : "مر على موسى".
(8) في هـ : "هي كذه وذه" والتصويب من مسند البزار و "ت".
(9) مسند أبي يعلى (7/126).
(10) في هـ : "نائم" والتصويب من مسند البزار.
(11) في أ : "فسميت".
(12) في ت ، أ : "جلس".
(13) مسند البزار برقم (58) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (59) عن محمد بن
علي الصائغ عن سعيد بن منصور به. وقال الهيثمي في المجمع (1/75) : "رجاله
رجال الصحيح". وقال الحافظ ابن حجر في زوائد البزار (1/95) : "الحارث
أخرج له الشيخان ، وهو مع ذاك له مناكير هذا منها".
(5/10)
ورواه
الحافظ البيهقي في "الدلائل" ، عن أبي بكر القاضي ، عن أبي جعفر محمد بن
علي بن دُحَيْم ، عن محمد بن الحسين بن أبي الحُنَيْن ، عن سعيد بن منصور ، فذكر
بسنده مثله ، ثم قال : وقال غيره في هذا الحديث في آخره : "ولُطّ دوني - أو
قال : دون الحجاب - رفرف الدر والياقوت". ثم قال : هكذا (1) رواه الحارث بن
عبيد. ورواه حماد (2) بن سلمة ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن محمد بن عمير بن عطارد
: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ملإ من أصحابه ، فجاءه (3) جبريل ، فنكت في
ظهره فذهب به إلى الشجرة وفيها مثل وَكْري الطير ، فقعد في أحدهما وقعد جبريل في
الآخر ، فنشأت بنا حتى بلغت (4) الأفق ، فلو بسطت يدي إلى السماء لنلتها ، فدلي
بسبب وهبط النور ، فوقع جبريل مغشيًا عليه كأنه حِلْس ، فعرفت فضل خشيته على
خشيتي. فأوحي إلي : نبيًا ملكًا أو نبيًا عبدًا ؟ وإلى الجنة ما أنت ؟ فأومَأ (5)
إلي جبريل وهو مضطجع : أن تواضع. قال : قلت : لا. بل نبيًا عبدًا (6).
قلت : وهذا إن صح يقتضي أنها واقعة غير ليلة الإسراء ، فإنه لم يذكر فيها بيت
المقدس ، ولا الصعود إلى السماء ، فهي كائنة غير ما نحن فيه ، والله أعلم.
وقال البزار أيضًا : حدثنا عمرو بن عيسى ، حدثنا أبو بحر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة
، عن أنس ، رضي الله عنه ، أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ، عز وجل ، هذا
غريب.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا يونس ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثنا يعقوب بن عبد
الرحمن الزهري ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، عن أنس بن
مالك قال : لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فكأنها
أَمَرَّت ذنبها ، فقال لها جبريل : مه يا براق ، فوالله إن ركبك (7) مثله. وسار
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو بعجوز على جانب الطريق ، فقال : "ما
هذه يا جبريل ؟" قال : سر يا محمد. قال : فسار ما شاء الله أن يسير ، فإذا
شيء يدعوه متنحيًا عن الطريق يقول : هلم يا محمد فقال له جبريل : سر يا محمد فسار
ما شاء الله أن يسير ، قال : فلقيه خلق من الخلق فقالوا : السلام عليك يا أول ،
السلام عليك يا آخر ، السلام عليك يا حاشر ، فقال له جبريل : اردد السلام يا محمد.
فرد السلام ، ثم لقيه الثانية فقال له مثل مقالته الأولى ، ثم الثالثة كذلك ، حتى
انتهى إلى بيت المقدس. فعرض عليه الماء والخمر واللبن ، فتناول رسول الله صلى الله
عليه وسلم اللبن ، فقال له جبريل : أصبت الفطرة ، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك
، ولو شربت الخمر لغويت ولغوت (8) أمتك. ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء ،
عليهم السلام ، فأمَّهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة. ثم قال له جبريل
: أما العجوز التي (9) رأيت على جانب الطريق ، فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من
عمر تلك العجوز ، وأما الذي أراد أن تميل إليه ، فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل
إليه ، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى ، عليهم الصلاة والسلام.
وهكذا رواه الحافظ البيهقي في "دلائل النبوة" من حديث ابن وهب (10) ،
وفي بعض ألفاظه نكارة
__________
(1) في ت : "هذا".
(2) في ت : "ابن حماد" وهو خطأ.
(3) في ف ، أ : "فجاء".
(4) في ت : "بلغنا".
(5) في أ : "فأوحى".
(6) دلائل النبوة للبيهقي (2/369).
(7) في ت ، أ : "فواللله ما ركبك".
(8) في ف : "وغويت".
(9) في ت ، أ : "الذي".
(10) تفسير الطبري (15/5) ، ودلائل النبوة للبيهقي (2/362).
(5/11)
وغرابة.
طريق أخرى عن أنس بن مالك :
وفيها غرابة ونكارة جدًا ، وهي في سنن النسائي المجتبى ، ولم أرها في الكبير قال :
أخبرنا عمرو (1) بن هشام ، حدثنا مَخْلَد - هو ابن الحسين - عن سعيد بن عبد العزيز
، حدثنا يزيد بن أبي مالك ، حدثنا أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل ، خطوها عند منتهى طرفها ، فركبت
ومعى جبريل عليه السلام فسرت فقال : انزل فصل. فصليت ، فقال : أتدري أين صليت ؟
[صليت بطيبة وإليها المهاجر ، ثم قال : انزل فصل. فصليت ، فقال : أتدري أين صليت
؟] (2) صليت بطور سيناء ، حيث كلم الله موسى ، ثم قال : انزل فصل. فصليت ، فقال :
أتدري أين صليت. صليت ببيت لحم ، حيث ولد عيسى ، عليه السلام ، ثم دخلت بيت المقدس
فجمع لي الأنبياء عليهم السلام ، فقدمني جبريل حتى أممتهم [ثم صعد بي إلى السماء
الدنيا ، فإذا فيها آدم ، عليه السلام] (3) ثم صعد بي إلى السماء الثانية ، فإذا
فيها ابنا الخالة : عيسى ويحيى ، عليهما السلام ، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة ،
فإذا فيها يوسف عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء الرابعة ، فإذا فيها هارون ،
عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء الخامسة ، فإذا فيها إدريس عليه السلام. ثم صعد
بي إلى السماء السادسة ، فإذا فيها موسى ، عليه السلام. ثم صعد بي إلى السماء
السابعة ، فإذا فيها إبراهيم عليه السلام ، ثم صعد بي فوق سبع سموات وأتيت سدرة
المنتهى ، فغشيتني ضبابة فخررت (4) ساجدًا فقيل لي : إني يوم خلقت السموات والأرض
، فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة ، فقم بها أنت وأمتك [فرجعت إلى إبراهيم فلم
يسألني ، عن شيء. ثم أتيت موسى فقال : كم فرض الله عليك وعلى أمتك ؟] (5) قلت :
خمسين صلاة. قال : فإنك لا تستطيع أن تقوم بها ، لا أنت ولا أمتك ، فارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف (6) فرجعت إلى ربي فخفف عني عشرًا. ثم أتيت موسى فأمرني بالرجوع ،
فرجعت فخفف عني عشرًا ، ثم ردت إلى خمس صلوات ، قال : فارجع إلى ربك فاسأله
التخفيف ، فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين ، فما قاموا بهما. فرجعت إلى ربي ، عز
وجل ، فسألته التخفيف ، فقال : إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك
خمسين صلاة ، فخمس بخمسين ، فقم بها أنت وأمتك. فعرفت أنها من الله عز وجل (7)
صِرَّى فرجعت إلى موسى ، عليه السلام (8) فقال : ارجع ، فعرفت أنها من الله صِرَّى
- يقول : أي حتم - فلم أرجع" (9).
طريق أخرى :
وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي
مالك ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لما كان ليلة أسري برسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، أتاه جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل
، حمله جبريل عليها ، ينتهي خفها حيث ينتهي
__________
(1) في ت : "عمر".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ والنسائي.
(3) زيادة من ت ، ف ، أ والنسائي.
(4) في ت : "خررت".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ ، والنسائي.
(6) في ف : "تخفيفها".
(7) في ف ، أ : "من الله تعالى".
(8) في ت : "فرجعت إليه عليه السلام".
(9) سنن النسائي (1/221).
(5/12)
طرفها.
فلما بلغ بيت المقدس وبلغ (1) المكان الذي يقال له : "باب محمد صلى الله عليه
وسلم" أتى إلى الحجر الذي ثمة ، فغمزه جبريل بأصبعه فثقبه ، ثم ربطها. ثم صعد
فلما استويا في صَرْحَة المسجد ، قال جبريل : يا محمد ، هل سألت ربك أن يريك الحور
العين ؟ فقال : نعم. فقال : فانطلق إلى أولئك النسوة ، فسلم عليهن وهن جلوس عن
يسار الصخرة ، قال : فأتيتهن فسلمت عليهن ، فرددن عليّ السلام ، فقلت : من أنتن ؟
فقلن : نحن خيرات حسان ، نساء قوم أبرار ، نقوا فلم يدرنوا ، وأقاموا فلم يظعنوا ،
وخلدوا فلم يموتوا". قال : "ثم انصرفت (2) ، فلم ألبث إلا يسيرًا حتى
اجتمع ناس كثير ، ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة". قال : "فقمنا صفوفًا
ننتظر من يؤمنا ، فأخذ بيدي جبريل عليه السلام ، فقدمني فصليت بهم. فلما انصرفت
قال جبريل : يا محمد ، أتدري من صلى خلفك ؟" قال : "قلت : لا. قال : صلى
خلفك كل نبي بعثه الله عز وجل".
قال : "ثم أخذ بيدي جبريل فصعد بي إلى السماء ، فلما انتهينا إلى الباب
استفتح فقالوا : من أنت ؟ قال : أنا جبريل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد. قالوا
: وقد بعث ؟ قال : نعم". قال : "ففتحوا له وقالوا : مرحبًا بك وبمن
معك". قال : "فلما استوى على ظهرها إذا فيها آدم ، فقال لي جبريل : يا
محمد ، ألا تسلم على أبيك آدم ؟" قال : "قلت : بلى. فأتيته فسلمت عليه ،
فرد عليّ وقال : مرحبًا بابني والنبي الصالح". قال : "ثم عرج بي إلى
السماء الثانية فاستفتح ، قالوا : من أنت ؟ قال : جبريل. قالوا : ومن معك ؟ قال :
محمد. قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم" : "ففتحوا (3) له وقالوا : مرحبًا
بك وبمن معك ، فإذا فيها عيسى وابن خالته يحيى عليهما السلام (4). قال : "ثم
عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح ، قالوا : من أنت ؟ قال : جبريل. قالوا : ومن
معك ؟ قال : محمد. قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم" (5). ففتحوا (6) وقالوا :
مرحبًا بك وبمن معك ، فإذا فيها يوسف ، عليه السلام ، ثم عرج بي إلى السماء
الرابعة فاستفتح ، قالوا : من أنت ؟ قال : جبريل ؟ قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد.
قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم. ففتحوا وقالوا : مرحبًا بك وبمن معك. فإذا فيها
إدريس عليه السلام". قال : "فعرج بي إلى السماء الخامسة ، فاستفتح ،
قالوا : من أنت ؟ قال : جبريل. قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد. قالوا : وقد بعث ؟
قال : نعم. قال : ففتحوا وقالوا : مرحبًا بك وبمن معك فإذا فيها هارون ، عليه
السلام". قال : "ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح ، قالوا : من أنت
؟ قال : جبريل. قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد. قالوا : وقد بعث ؟ قال : نعم.
ففتحوا وقالوا : مرحبًا بك وبمن معك ، فإذا فيها موسى ، عليه السلام. ثم عرج بي
إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، فقالوا (7) من أنت ؟ قال : جبريل. قالوا :
ومن معك ؟ قال : محمد. قالوا : وقد بعث إليه ؟ قال : نعم. ففتحوا له وقالوا :
مرحبًا بك وبمن معك ، فإذا فيها إبراهيم ، عليه السلام. فقال جبريل : يا محمد ،
ألا تسلم على أبيك إبراهيم ؟ قال : قلت : بلى. فأتيته فسلمت عليه ، فرد عليّ
السلام وقال : مرحبًا بك يا بني (8) والنبي الصالح.
ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة ، حتى انتهى بي إلى نهر عليه خيام الياقوت
واللؤلؤ والزبرجد وعليه طير خضر أنعم طير رأيت. فقلت : يا جبريل ، إن هذا الطير
لناعم قال (9) : يا محمد ، آكله أنعم منه ثم قال : يا محمد ، أتدري أي نهر هذا ؟
قال : "قلت : لا. قال : هذا الكوثر الذي أعطاك
__________
(1) في ت : "فبلغ".
(2) في ف : "قال : وانصرفت".
(3) في ف : "قال : ففتحوا".
(4) في ت : "عليهما الصلاة والسلام".
(5) في ف ، أ : "قال : ففتحوا".
(6) في ت ، ف ، أ : "ففتحوا له".
(7) في ف : "قالوا".
(8) في ف : "مرحبا بابني".
(9) في ف : "فقال".
(5/13)
الله
إياه. فإذا فيه آنية الذهب والفضة ، يجري (1) على رَصْرَاض من الياقوت والزمرد ،
ماؤه ، (2) أشد بياضًا من اللبن" قال : "فأخذت منه آنية (3) من الذهب ،
فاغترفت من ذلك الماء فشربت ، فإذا هو أحلى من العسل ، وأشد (4) رائحة من المسك.
ثم انطلق بي حتى انتهيت (5) إلى الشجرة ، فغشيتني سحابة فيها من كل لون ، فرفضني
جبريل ، وخررت ساجدًا لله ، عز وجل ، فقال الله لي : يا محمد ، إني يوم خلقت
السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة ، فقم بها أنت وأمتك". قال :
"ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل ، فانصرفت سريعًا فأتيت على إبراهيم
فلم يقل لي شيئًا ، ثم أتيت على موسى فقال : ما صنعت يا محمد ؟ فقلت : فرض ربي
عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة. قال : فلن تستطيعها أنت ولا أمتك ، فارجع إلى ربك
فاسأله أن يخفف عنك. فرجعت سريعًا حتى انتهيت إلى الشجرة ، فغشيتني السحابة ،
ورفضني جبريل وخررت ساجدًا وقلت : رب ، إنك فرضت عليّ وعلى أمتي خمسين صلاة ، ولن
أستطيعها أنا ولا أمتي ، فخفف عنا. قال : قد وضعت عنكم عشرًا. قال : ثم انجلت عني
السحابة ، وأخذ (6) بيدي جبريل وانصرفت (7) سريعًا حتى أتيت على إبراهيم فلم يقل
لي شيئًا ، ثم أتيت على موسى ، فقال لي : ما صنعت يا محمد ؟ فقلت : وضع ربي عني
عشرًا فقال : أربعون صلاة! لن تستطيعها أنت ولا أمتك ، فارجع إلى ربك فاسأله أن
يخفف عنكم - فذكر الحديث كذلك إلى خمس صلوات ، وخمس بخمسين ثم أمره (8) موسى أن
يرجع فيسأل التخفيف ، فقلت : "إني قد استحييت منه تعالى".
قال : ثم انحدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل : "ما لي لم آت
على (9) سماء إلا رحبوا بي وضحكوا إليّ ، غير رجل واحد ، فسلمت عليه فردّ عليّ
السلام فرحب بي ولم يضحك إليّ. قال : يا محمد ، ذاك مالك خازن جهنم لم يضحك منذ
خلق (10) ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك".
قال : ثم ركب منصرفًا ، فبينا هو في بعض طريقه مرّ بعير لقريش تحمل طعامًا ، منها
جمل عليه غرارتان : غرارة سوداء ، وغرارة بيضاء ، فلما حاذى بالعير نفرت منه
واستدارت ، وصرع ذلك البعير وانكسر.
ثم إنه مضى فأصبح ، فأخبر عما كان ، فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا :
يا أبا بكر ، هل لك في صاحبك ؟ يخبر (11) أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ، ثم رجع
في ليلته. فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : إن كان قاله فقد صدق ، وإنا لنصدقه فيما
هو أبعد من هذا ، نصدقه على خبر السماء.
فقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما علامة ما تقول ؟ قال :
"مررت بعير لقريش ، وهي في مكان كذا وكذا ، فنفرت العير (12) منا واستدارت ،
[وفيها بعير عليه] (13) غرارتان : غرارة سوداء ، وغرارة بيضاء ، فصرع
فانكسر".
فلما قدمت العير سألوهم ، فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم النبي صلى الله عليه
وسلم (14) ومن (15) ذلك سمي أبو (16) بكر الصديق.
__________
(1) في ف ، أ : "تجري".
(2) قي ف ، أ : "وماؤه".
(3) في ف ، أ : "من آنيته".
(4) في ت : "وألد".
(5) في ت ، ف ، أ : "انتهى".
(6) في ت : "فأخذ".
(7) في ت ، ف ، أ : "فانصرفت".
(8) في ت : "أمر".
(9) في أ : "أهل".
(10) في ت : "خلقت".
(11) في ت : "يزعم".
(12) في ف : "الإبل".
(13) زيادة من ف ، أ ، وفي ت : "جمل عليه".
(14) في ف : "رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(15) في ف ، أ : "وفي".
(16) في ف : "أبا".
(5/14)
وسألوه
وقالوا (1) : هل كان معك فيمن حضر موسى وعيسى ؟ قال : "نعم". قالوا :
فصفهم. قال : "نعم" ، أما موسى فرجل آدم ، كأنه من رجال أزْدِ عمان ،
وأما عيسى فرجل ربعة ، سَبْط ، تعلوه (2) حمرة كأنما يتحادر من شعره
الجُمَان" (3).
هذا سياق فيه غرائب عجيبة.
رواية أنس ، رضي الله عنه ، عن مالك بن صَعْصَعَة :
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا هَمَّام ، قال : سمعت قتادة يحدث عن أنس بن
مالك : أن مالك بن صعصعة حدثه : أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة
أسري به ، قال : "بينما أنا في الحطيم (4) - وربما قال قتادة : في الحجر - مضطجعًا
إذ أتاني آت" فجعل يقول لصاحبه الأوسط بين الثلاثة ، قال : "فأتاني فقدّ
- وسمعت قتادة يقول : فشق - ما بين هذه إلى هذه". وقال قتادة : فقلت للجارود
وهو إلى جنبي : ما يعني ؟ قال : من ثغرة نحره إلى شِعْرته ، وقد سمعته يقول : من
قَصَّته إلى شِعْرَته قال : "فاستخرج قلبي" قال : "فأتيت بطست من
ذهب مملوء إيمانًا وحكمة فغسل قلبي ثم حشى ، ثم أعيد. ثم أتيت بدابة دون البغل
وفوق الحمار أبيض" قال : فقال الجارود : وهو البراق يا أبا حمزة ؟ قال : نعم
، يقع خطوه عند أقصى طرفه. قال : "فحملت عليه ، فانطلق بي جبريل ، عليه السلام
، حتى أتى بي إلى السماء الدنيا ، فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل. قيل : ومن
معك ؟ قال : محمد. قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم. فقيل : مرحبًا به ، ولنعم
المجيء جاء" قال : "ففتح (5) فلما خلصت ، فإذا فيها آدم ، عليه السلام ،
فقال : هذا أبوك آدم ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ، ثم قال : مرحبًا
بالابن الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد حتى أتى السماء الثانية ، فاستفتح فقيل : من هذا ؟ قال (6) : جبريل. قيل :
ومن معك ؟ قال : محمد قيل (7) : أوقد (8) أرسل إليه ؟ قال : نعم. قيل : مرحبًا به
ولنعم المجيء جاء" ، قال : "ففتح ، فلما خلصت ، فإذا يحيى (9) وعيسى
وهما ابنا الخالة. قال : هذا (10) يحيى وعيسى ، فسلم عليهما. قال : فسلمت فردا
السلام ثم قالا (11) مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل. قيل : ومن
معك ؟ قال : محمد. قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم. قيل : مرحبًا به ولنعم
المجيء جاء". قال : ففتح (12) فلما خلصت ، فإذا يوسف (13) ، عليه السلام ،
قال : هذا يوسف (14) قال : "فسلمت عليه ، فرد السلام ثم قال : مرحبًا بالأخ
الصالح والنبي الصالح.
ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة ، فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال : جبريل. قيل :
ومن معك ؟
__________
(1) في ت ، ف : "فقالوا".
(2) في ت : "يعلوه".
(3) وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك ضعفه أحمد وابن معين والنسائي والدارقطني
ولم يوثقه إلا أبو زرعة الدمشقي.
(4) في ف : "بالحطيم".
(5) في ت ، أ : "ففتح لنا".
(6) في ت ، ف : "فقال".
(7) في ت : "قال".
(8) في ت : "وقد".
(9) في ف ، أ : "بيحيى".
(10) في ف ، أ : "وهذان".
(11) في ف ، أ : "وقالا".
(12) في ف ، أ : "ففتح الباب".
(13) في ت : "فإدريس" ، وفي ف ، أ : "إذا بيوسف".
(14) في ت : "إدريس".
(5/15)
قال
: محمد. قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم. قيل : مرحبًا به ، ولنعم المجيء
جاء" قال : "ففتح فلما خلصت فإذا إدريس ، قال : هذا إدريس فسلم
عليه". قال : "فسلمت عليه. فرد السلام (1) ، ثم قال : مرحبًا بالأخ
الصالح والنبي الصالح".
قال : "ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال :
جبريل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم. قيل :
مرحبًا به ولنعم المجيء جاء". قال : "ففتح ، فلما خلصت ، فإذا هارون ،
عليه السلام ، قال : هذا هارون فسلم عليه. قال : فسلمت عليه فرد السلام (2) ، ثم
قال : مرحبًا بالأخ والنبي الصالح".
قال : "ثم صعد حتى أتى السماء السادسة فاستفتح ، فقيل : من هذا ؟ قال :
جبريل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم. قيل :
مرحبًا به ولنعم المجيء جاء. ففتح ، فلما خلصت ، فإذا أنا بموسى ، قال : هذا موسى
، عليه السلام ، فسلم عليه ، فسلمت عليه ، فرد السلام ثم قال : مرحبًا بالأخ
الصالح والنبي الصالح". قال : "فلما تجاوزته بكى. قيل له : ما يبكيك ؟
قال : أبكي لأن غلامًا بعث بعدي ، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي".
قال : "ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فاستفتح ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل.
قيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم. قيل : مرحبًا به
ولنعم المجيء جاء". قال : "ففتح ، فلما خلصت ، فإذا إبراهيم ، عليه
السلام. فقال : هذا إبراهيم ، فسلم عليه". قال : "فسلمت عليه ، فرد
السلام (3) ، ثم قال : مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح".
قال : ثم رفعت إلي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قِلال هَجر ، وإذا ورقها مثل آذان
الفيلة ، فقال : هذه سدرة المنتهى". قال : "وإذا أربعة أنهار : نهران
باطنان ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : أما الباطنان فنهران في
الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات".
قال : ثم رفع إلي البيت المعمور.
قال قتادة : وحدثني الحسن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى
البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون فيه.
ثم رجع إلى حديث أنس [قال : "ثم] (4) أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء
من عسل". قال : "فأخذت اللبن ، قال : هذه الفطرة وأنت (5) عليها
وأمتك".
قال : "ثم فرضت الصلاة خمسين صلاة كل يوم". قال : "فنزلت حتى
انتهيت إلى (6) موسى ، قال (7) ما فرض ربك على أمتك ؟" قال : "قلت (8)
خمسين صلاة كل يوم. قال : إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة ، وإني قد خبرت الناس قبلك
وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى
__________
(1) في ف ، أ : "فرد علي السلام".
(2) في ف ، أ : "فرد علي السلام".
(3) في ف ، أ : "فرد علي السلام".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(5) في ت ، ف ، أ : "أنت".
(6) في أ : "أتيت".
(7) في أ : "فقال".
(8) في ف ، أ : "فقلت".
(5/16)
ربك
فاسأله التخفيف ، عن أمتك (1) ". قال : "فرجعت فوضع عني عشرًا ، قال :
فرجعت إلى موسى ، فقال : بم أمرت ؟ قلت : بأربعين صلاة كل يوم. قال : إن أمتك لا
تستطيع أربعين صلاة كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد
المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال : فرجعت فوضع عني عشرًا أخر.
فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ فقلت : أمرت بثلاثين صلاة. قال : إن أمتك لا
تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد
المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال : "فرجعت فوضع عني
عشرًا أخر ، فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ قلت : بعشرين (2) صلاة كل يوم. فقال
: إن أمتك لا تستطيع لعشرين صلاة كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك ، وعالجت بني
إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال :
"فرجعت فوضع عني عشرًا أخر ، فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ فقلت : أمرت
بعشر صلوات في كل يوم. فقال : إن أمتك (3) لا تستطيع لعشر صلوات كل يوم ، وإني قد
خبرت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله
التخفيف لأمتك". قال : "فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم ، فرجعت إلى موسى
فقال : بم أمرت ؟ فقلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم. فقال : إن أمتك (4) لا تستطيع
لخمس صلوات كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ،
فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك". قال : "قلت : لقد (5) سألت ربي
[عز وجل] (6) حتى استحييت ، ولكن أرضى وأسلم. فنفذت ، فناداني مناد : قد أمضيت
فريضتي وخففت عن عبادي".
وأخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة ، بنحوه (7).
"رواية أنس ، عن أبي ذر :
قال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَيْر ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن
أنس بن مالك قال : كان أبو ذر ، رضي الله عنه ، يحدث أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "فرج سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج [صدري ثم غسله بماء
زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا ، فأفرغه] (8) في صدري ، ثم أطبقه.
ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء ، فلما جئت إلى السماء [الدنيا] (9) قال جبريل
لخازن السماء : افتح. قال : من هذا ؟ قال : جبريل. قال : هل معك أحد ؟ قال : نعم ،
معي محمد. قال : أرسل إليه ؟ قال : نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا وإذا رجل
قاعد على يمينه أَسْوِدَة وعلى يساره أسودة ، فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر
قبل شماله بكى. فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت : لجبريل : من هذا
؟ قال : هذا آدم. وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نَسَم (10) بنيه فأهل اليمين
منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار. فإذا نظر ، عن يمينه ضحك ، وإذا
نظر ، عن شماله بكى.
"ثم عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها : افتح. فقال له خازنها مثل ما
قال له الأول ،
__________
(1) في ف ، أ : "لأمتك".
(2) في ف : "فقلت أمرت بعشرين".
(3) في ف : "قال : أمتك".
(4) في ف : "قال : أمتك".
(5) في ف ، أ : "قد".
(6) زيادة من "أ".
(7) المسند (4/208) وصحيح البخاري برقم (3393) ومعلقا برقم (3207) وصحيح مسلم برقم
(164).
(8) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
(9) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
(10) في ت : "نطف".
(5/17)
ففتح".
قال أنس : فذكر أنه وجد في السموات آدم ، وإدريس ، وموسى ، وعيسى ، وإبراهيم ، ولم
يثبت كيف منازلهم ، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا ، وإبراهيم في
السماء السادسة. قال أنس : فلما مرّ جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال :
"مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. فقلت : من هذا ؟ فقال : هذا إدريس. ثم
مررت بموسى فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت : (1) من هذا ؟ قال :
موسى (2) ثم مررت بعيسى فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. قلت : من هذا ؟
قال : عيسى (3) ابن مريم. ثم مررت بإبراهيم فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والابن
الصالح. قلت : من هذا ؟ قال : هذا إبراهيم". قال الزهري : فأخبرني ابن حزم :
أن ابن عباس وأبا حَبَّة (4) الأنصاري كانا يقولان : قال النبي صلى الله عليه وسلم
: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام". قال ابن حزم وأنس
بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ففرض الله على أمتي خمسين
صلاة ، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى ، فقال : ما فرض الله على أمتك ؟ قلت : فرض
خمسين صلاة. قال : فارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فرجعت [فوضع شطرها ،
فرجعت إلى موسى ، قلت : وضع شطرها. فقال : ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك.
فرجعت فوضع شطرها. فرجعت إليه فقال : ارجع إلى ربك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك.
فراجعته] (5) فقال : هي خمس وهي خمسون ، لا يبدل القول لديّ. فرجعت إلى موسى فقال
: ارجع إلى ربك. قلت : قد استحييت من ربي. ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى
فغشيها ألوان (6) لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جَنَابذ (7) اللؤلؤ
وإذا ترابها المسك".
هذا لفظ البخاري في "كتاب الصلاة" (8) ورواه في ذكر بني إسرائيل ، وفي
الحج وفي أحاديث الأنبياء من طرق أخر ، عن يونس ، به (9) ورواه مسلم في صحيحه في
"كتاب الإيمان" منه ، عن حَرْملة ، عن ابن وهب ، عن يونس به نحوه. (10).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شَقِيق
قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. قال : وما كنت
تسأله ؟ قال : كنت أسأله : هل رأى ربه ؟ فقال : إني قد سألته فقال : "إني قد
رأيته (11) نورا أنى أراه" (12).
هكذا قد وقع في رواية الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة
، عن وكيع ، عن يزيد بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق ، [عن أبي ذر
قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك ؟ قال : "إني نور أنى
أراه".
وعن محمد بن بَشَّار ، عن معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن عبد الله بن
شقيق] (13) قال : قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته.
فقال (14) عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال :
__________
(1) في ف : "فقلت".
(2) في ف ، أ : "هذا موسى".
(3) في ف ، أ : "هذا عيسى".
(4) في ت : "حية".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
(6) في ف : "الألوان".
(7) في ف : "جبال" ، وفي أ : "حبائل".
(8) صحيح البخاري برقم (349).
(9) صحيح البخاري برقم (1636 ، 3342).
(10) صحيح مسلم برقم (163).
(11) في ت ، ف ، أ : "رأيت".
(12) المسند (5/147).
(13) زيادة من ت ، ف ، أ ، ومسلم.
(14) في ف : "قال".
(5/18)
كنت
أسأله : هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر : قد سألت فقال : "رأيت نورًا" (1).
رواية أنس ، عن أبي بن كعب الأنصاري ، رضي الله عنه :
قال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن إسحاق بن محمد بن المسيبي (2) حدثنا
أنس بن عياض ، عن يونس بن يزيد قال : قال ابن شهاب : قال أنس بن مالك : كان أبي بن
كعب يحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "فرج سقف بيتي وأنا بمكة ،
فنزل جبريل ففرج صدري ، ثم غسله من ماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة
وإيمانًا ، فأفرغها (3) في صدري ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء. فلما
جاء السماء [فافتتح فقال : من هذا ؟ قال : جبريل. قال : هل معك أحد ؟ قال : نعم ،
معي محمد. قال : أرسل إليه ؟ قال : نعم ، فافتح. فلما علونا السماء الدنيا] (4)
إذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة ، فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل
شماله بكى قال : مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح". قال : "قلت لجبريل
: من هذا ؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة (5) عن يمينه وعن شماله نسم بنيه ، فأهل
اليمين هم أهل الجنة ، والأسودة التي عن شماله هم أهل النار. فإذا نظر قبل يمينه
ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى" قال : "ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء
الثانية ، فقال لخازنها : افتح. فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا
ففتح له". قال أنس : فذكر أنه وجد في السموات : آدم ، وإدريس ، وموسى ، وعيسى
، وإبراهيم ، ولم يثبت لي كيف منازلهم ؟ غير أنه ذكر أنه وجد آدم ، عليه السلام ،
في السماء الدنيا ، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس : فلما مرّ جبريل عليه
السلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس قال : "مرحبا بالنبي الصالح
والأخ الصالح". قال : "قلت : من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا إدريس" ،
قال : "ثم مررت بموسى ، فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح. فقلت : من
هذا ؟ قال : هذا موسى ، ثم مررت بعيسى فقال : مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح.
قلت : من هذا. قال : هذا عيسى ابن مريم" قال : "ثم مررت بإبراهيم فقال :
مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت : من هذا ؟ قال : هذا إبراهيم". قال
ابن شهاب : وأخبرني ابن حزم : أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع صريف
الأقلام" قال ابن حزم وأنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"فرض الله على أمتي خمسين صلاة" قال : "فرجعت بذلك حتى أمر (6) على
موسى ، فقال موسى : ماذا فرض ربك على أمتك ؟ قلت : فرض عليهم خمسين صلاة. فقال لي
موسى : راجع ربك ؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك" قال : "فراجعت ربي فوضع شطرها
، فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك (7) فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فرجعت
(8) فقال : هي خمس وهي خمسون ، لا يبدل القول لدي". قال : "فرجعت إلى موسى
فقال : راجع ربك. فقلت (9) قد استحييت من ربي" قال : "ثم انطلق بي حتى
أتى سدرة المنتهى. قال : "فغشيها ألوان ما أدري (10) ما هي ؟" قال :
"ثم أدخلت الجنة ، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك".
هكذا رواه عبد الله بن [الإمام] (11) أحمد في مسند أبيه (12). وليس هو في شيء من
الكتب
__________
(1) صحيح مسلم برقم (178).
(2) في ف ، أ : "بن محمد بن المثنى".
(3) في ت : "ففرغهما".
(4) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5) في ت ، ف : "الأسودة التي".
(6) في ت ، ف ، أ : "حتى أتى".
(7) في ف : "راجع ربك".
(8) في ف ، أ : "فرجعت ربي".
(9) في ت : "قلت".
(10) في ف : "لا أدري".
(11) زيادة من : ف ، أ.
(12) زوائد المسند (5/143) وقال الهيثمي في المجمع (1/66) : "رجاله رجال
الصحيح".
(5/19)
الستة
، وقد تقدم في الصحيحين من طريق يونس ، عن الزهري (1) ، عن أبي ذر ، مثل هذا
السياق سواء ، فالله أعلم (2).
رواية بريدة بن الحصيب الأسلمي :
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عبد الرحمن بن المتوكل ويعقوب بن إبراهيم -
واللفظ له - قالا حدثنا أبو نُميلَة ، أخبرنا الزبير بن جنادة ، عن عبد الله بن
بُرَيْدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما كان ليلة
أسري به (3) قال : فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس ، فوضع إصبعه فيها فخرقها
فشد بها البراق".
ثم قال البزار : لا نعلم رواه عن الزبير بن جنادة إلا أبو نُميلَة ، ولا نعلم (4)
هذا الحديث [يروى] (5) إلا عن بريدة. وقد رواه الترمذي في التفسير من جامعه ، عن
يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقِي به (6) وقال : غريب.
رواية جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه (7) :
قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب قال : قال أبو
سلمة : سمعت جابر بن عبد الله يحدث : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(8) : " لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ، قمت في الحجر فَجَلَّى
الله لي بيت المقدس ، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه".
أخرجاه في الصحيحين من طرق ، عن الزهري به ، (9).
وقال البيهقي : أخبرنا أحمد بن الحسن (10) القاضي ، حدثنا أبو العباس الأصم ،
حدثنا العباس بن محمد الدوري ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، عن صالح بن
كَيْسَان ، عن ابن شهاب قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس ، لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى ، وإنه أتي
بقدحين : قدح من لبن وقدح خمر ، فنظر إليهما ، ثم أخذ قدح اللبن. فقال جبريل (11)
: أصبت ، هديت للفطرة (12) ، لو اخترت الخمر لغوت أمتك. ثم رجع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى مكة ، فأخبر أنه أسري به ، فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه.
قال ابن شهاب : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : فتجهز - أو كلمة نحوها - ناس من قريش
إلى أبي بكر فقالوا : هل لك في صاحبك ؟ يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى
مكة في ليلة واحدة! فقال أبو بكر : أوقال ذلك ؟ قالوا : نعم. قال : فأشهد لئن كان
قال ذلك لقد صدق. قالوا : فتصدقه بأن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة
قبل أن يصبح ؟ قال : نعم ، إني أصدقه بأبعد من ذلك (13) أصدقه بخبر السماء. قال
أبو سلمة : فبها سمي أبو بكر : الصديق.
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "عن الزهري ، عن أنس".
(2) في ت : "والله أعلم".
(3) في ف : "أسري بي".
(4) في ت : "يعلم".
(5) زيادة من أ.
(6) سنن الترمذي برقم (3132).
(7) في ف ، أ : "عنهما".
(8) في ت ، ف ، أ : "قال".
(9) المسند (3/377) ، وصحيح البخاري برقم (4710) وصحيح مسلم برقم (170).
(10) في ت ، ف : "الحسين".
(11) في ف ، أ : "فقال له جبريل عليه السلام".
(12) في ف : "الفطرة".
(13) في ت : "من هذا".
(5/20)
قال
أبو سلمة : فسمعت جابر بن عبد الله يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ، قمت في الحجر ، فجلى
الله لي بيت المقدس ، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه" (1).
رواية حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : ثنا أبو النضر ، ثنا شيبان ، عن عاصم ، عن زِرَّ بن حُبَيْش ،
قال : أتيت على حذيفة بن اليمان وهو يحدث ، عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم
، وهو يقول : "فانطلقنا (2) حتى أتينا (3) بيت المقدس". فلم يدخلاه. قال
: قلت : بل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ وصلى فيه. قال : ما اسمك يا
أصلع ؟ فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك ؟ قال : قلت : أنا زر بن حُبَيْش. قال :
فما علمك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه ليلتئذ ؟ قال : قلت : القرآن
يخبرني بذلك. قال : من تكلم بالقرآن فلج (4) ، اقرأ. قال : فقلت : { سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الأقْصَى } قال : يا أصلع ، هل تجد "صلى فيه" ؟ قلت : لا. قال : والله
ما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ ، ولو صلى فيه لكتب عليكم صلاة
فيه ، كما كتب عليكم صلاة في البيت العتيق ، والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما
أبواب السماء ، فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع ، ثم عادا عودهما على بدئهما.
قال : ثم ضحك حتى رأيت نواجذه. قال : وتحدثوا (5) أنه ربطه لا يفر منه ، وإنما
سخره له عالم الغيب والشهادة. قلت : أبا عبد الله (6) أي دابة البراق ؟ قال : دابة
أبيض طويل هكذا ، خطوه مد البصر.
ورواه أبو داود الطيالسي ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم ، به. ورواه الترمذي
والنسائي في التفسير من حديث عاصم - وهو ابن أبي النجود - به (7) ، وقال الترمذي :
حسن صحيح.
وهذا الذي قاله حذيفة ، رضي الله عنه ، نفي ، وما أثبته غيره ، عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم من ربط الدابة بالحلقة ومن الصلاة بالبيت المقدس ، مما سبق وما
سيأتي مقدم على قوله ، والله أعلم بالصواب.
رواية أبي سعيد - سعد بن مالك بن سنان الخدري :
قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب "دلائل النبوّة" :
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ،
حدثنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، أخبرنا أبو محمد
راشد الحماني ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له أصحابه : يا رسول الله ، أخبرنا عن ليلة أسري
بك فيها ، قال : قال الله عز وجل : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا
حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }
__________
(1) دلائل النبوة (2/359).
(2) في ف : "فانطلقا".
(3) في ف : "أتيا".
(4) في ت ، ف ، أ : "فلح".
(5) في ت : "ويحدثون" وفي ف ، أ : "وتحدثون".
(6) في ت : "يا عبد الله".
(7) المسند (5/387) ومسند الطيالسي برقم (411) ، وسنن الترمذي برقم (3147) وسنن
النسائي الكبرى برقم (11280).
(5/21)
قال
: فأخبرهم فقال : "فبينا أنا نائم عشاء في المسجد الحرام ، إذ أتاني آت
فأيقظني ، فاستيقظت فلم أر شيئًا ، وإذا أنا بكهيئة خيال ، فأتبعته بصري حتى خرجت
من المسجد (1) فإذا أنا بدابة أدنى في شبهه بدوابكم هذه ، بغالكم هذه ، مضطرب (2)
الأذنين يقال له : البراق. وكانت الأنبياء تركبه قبلي ، يقع حافره عند مَدِّ بصره
، فركبته ، فبينما أنا أسير عليه ، إذ دعاني داع ، عن يميني : يا محمد ، انظرني
أسألك ، يا محمد ، انظرني أسألك ، فلم أجبه ولم أقم عليه ، [فبينما أنا أسير عليه
، إذ دعاني داع ، عن يساري : يا محمد ، انظرني أسألك ، فلم أجبه ولم أقم عليه] (3)
، فبينما أنا أسير ، إذ أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها ، وعليها من كل زينة خلقها
الله ، فقالت : يا محمد ، انظرني أسألك. فلم ألتفت إليها ولم أقم عليها. حتى أتيت
بيت المقدس ، فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها بها. فأتاني (4)
جبريل ، عليه السلام بإناءين : أحدهما خمر ، والآخر لبن ، فشربت اللبن ، وتركت
الخمر ، فقال جبريل : أصبت الفطرة (5) فقلت : الله أكبر ، الله أكبر. فقال : جبريل
: ما رأيت في وجهك هذا ؟" قال : "فقلت : بينما أنا أسير ، إذ دعاني داع
، عن يميني : يا محمد ، انظرني أسألك. فلم أجبه ولم أقم عليه. قال : ذاك داعي
اليهود ، أما إنك لو أجبته - أو : وقفت عليه - لتهودت أمتك". قال : (6) : فبينما
أنا أسير ، إذ دعاني داع عن يساري قال : يا محمد ، انظرني أسألك. فلم ألتفت إليه
ولم أقم عليه. قال : ذاك داعي النصارى ، أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك". قال
: "فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها
الله تقول : يا محمد ، انظرني أسألك. فلم أجبها ولم أقم عليها". قال : تلك
الدنيا ، أما إنك لو أجبتها أو أقمت عليها ، لاختارت أمتك الدنيا على
الآخرة".
قال : "ثم دخلت أنا وجبريل بيت المقدس ، فصلى كل واحد منا ركعتين.
ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج (7) عليه أرواح بني آدم (8) ، فلم ير الخلائق أحسن من
المعراج ، أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحًا إلى السماء ، فإنما يشق بصره طامحًا
إلى السماء عجبه بالمعراج". قال : "فصعدت أنا وجبريل ، فإذا أنا بملك
يقال : له : إسماعيل. وهو صاحب السماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك ، مع كل ملك
جُنْده مائة ألف ملك". قال : "وقال : الله [عز وجل] (9) { وَمَا
يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } [ المدثر : 31 ] فاستفتح (10) جبريل باب
السماء ، قيل : من هذا ؟ قال : جبريل. قيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قيل : أوقد بعث
إليه ؟ قال : نعم. فإذا أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله ، عز وجل على صورته (11) ،
هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين ، فيقول : روح طيبة ، ونفس طيبة ، اجعلوها في
عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول : روح خبيثة ، ونفس خبيثة ، اجعلوها
في سجين.
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "المسجد الحرام".
(2) في ف ، أ : "غير أنه مضطرب".
(3) زيادة من ف ، أ والدلائل.
(4) في ت : "أتاني" وفي ف : "ثم أتاني"
(5) في ف ، أ : "أصبت الفطرة ، أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك".
(6) في ف : "قلت".
(7) في ت : "يعرج".
(8) في أ : "الأنبياء".
(9) زيادة من : ف ، أ.
(10) في ف ، أ : "قال : فاستفتح".
(11) في أ : "على صورته لم يتغير منه شيء".
(5/22)
ثم
مضيت هنية (1) ، فإذا أنا بأخونة عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد ، وإذا أنا
بأخْوِنَة أخرى عليها لحم قد أروح وأنتن ، عندها أناس يأكلون منها ، قلت : يا
جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون (2) الحرام."
قال : "ثم مضيت هنية (3) ، فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت ، كلما نهض
أحدهم خرّ يقول : اللهم ، لا تقم الساعة" ، قال : "وهم على سابلة آل
فرعون". قال : "فتجيء السابلة فتطؤهم". قال : "فسمعتهم يضجون
إلى الله عز وجل". قال : "قلت : يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من
أمتك { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [ البقرة : 275 ].
قال : "ثم مضيت هنية (4) ، فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل". قال
: "فتفتح على أفواههم ويلقمون من ذلك الجمر ، ثم يخرج من أسافلهم. فسمعتهم
يضجون إلى الله ، عز وجل ، فقلت (5) : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء من أمتك {
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [ النساء : 10 ].
قال : "ثم مضيت هنية ، فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن (6) فسمعتهن يضججن إلى
الله عز وجل قلت : يا جبريل من هؤلاء النساء ؟ قال : هؤلاء الزناة من أمتك".
قال : "ثم مضيت هنية (7) فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم ، فيلقمونه ،
فيقال له : كل كما كنت تأكل من لحم أخيك. قلت : يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء
الهمازون من أمتك اللمازون".
قال : "ثم صعدنا إلى السماء الثانية ، فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله ، عز
وجل ، قد فضل الناس في الحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، قلت : يا جبريل
، من هذا ؟ قال : هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه وسلم عليّ.
ثم صعدت (8) إلى السماء الثالثة ، فإذا أنا بيحيى وعيسى ، عليهما السلام ، ومعهما
نفر من قومهما ، فسلمت عليهما وسلما عليّ.
ثم صعدت (9) إلى السماء الرابعة ، فإذا أنا بإدريس قد رفعه الله مكانًا عليًا ،
فسلمت عليه وسلم عليّ".
قال : "ثم صعدت (10) إلى السماء الخامسة ، فإذا [أنا] (11) بهارون ونصف لحيته
بيضاء ونصفها سوداء ، تكاد لحيته تصيب سرته من طولها ، قلت : يا جبريل ، من هذا ؟
قال : هذا المحبب في قومه ، هذا هارون بن عمران ، ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه
وسلم عليّ.
ثم صعدت (12) إلى السماء السادسة ، فإذا أنا بموسى بن عمران ، رجل آدم كثير الشعر
، لو كان
__________
(1) في ف ، أ : "هنيهة".
(2) في أ : "ويأكلون".
(3) في ف ، أ : "هنيهة".
(4) في ف ، أ : "هنيهة".
(5) في ف : "قلت".
(6) في ت ، أ : "بأيديهن".
(7) في ف ، أ : "هنيهة".
(8) في ف ، أ : "صعدنا".
(9) في ف ، أ : "صعدنا".
(10) في ف ، أ : "صعدنا".
(11) زيادة من ت ، ف ، أ.
(12) في ت : "صعد بي".
(5/23)
عليه
قميصان لنفذ شعره دون القميص ، فإذا (1) هو يقول : يزعم الناس أني أكرم على الله
من هذا ، بل هذا أكرم على الله تعالى مني". قال : "قلت : يا جبريل ، من
هذا ؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران ، عليه السلام ، ومعه نفر من قومه ، فسلمت
عليه وسلم علي.
ثم صعدت إلى السماء السابعة ، فإذا أنا بأبينا إبراهيم (2) خليل الرحمن ساند ظهره
إلى البيت المعمور كأحسن الرجال ، قلت : يا جبريل ، من هذا ؟ قال : هذا أبوك (3)
خليل الرحمن ومعه نفر من قومه ، فسلمت عليه فسلم عليّ ، وإذا [أنا] (4) بأمتي
شطرين : شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس. وشطر عليهم ثياب رُمْد". قال :
"فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض ، وحجب الآخرون
الذين عليهم ثياب رمد ، وهم على خير. فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور ، ثم
خرجت أنا ومن معي". قال : "والبيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف
ملك ، لا (5) يعودون فيه إلى يوم القيامة".
قال : "ثم دفعت لي سدرة المنتهى ، فإذا كل ورقة منها تكاد أن تغطي هذه الأمة
، وإذا فيها عين تجري يقال لها : سلسبيل ، فينشق منها نهران ، أحدهما : الكوثر ،
والآخر : يقال له : نهر الرحمة. فاغتسلت فيه ، فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر.
ثم إني دفعت إلي الجنة ، فاستقبلتني جارية ، فقلت : لمن أنت يا جارية ؟ فقالت (6)
لزيد بن حارثة ، وإذا [أنا] (7) بأنهار من [ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم يتغير
طعمه ، وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من] (8) عسل مصفى ، وإذا رمانها كأنه
الدلاء عظمًا ، وإذا أنا بطيرها كأنها بختيكم هذه". فقال عندها صلى الله عليه
وسلم : "إن الله تعالى قد أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت
، ولا خطر على قلب بشر".
قال : "ثم عرضت علي النار ، فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته ، لو طرح فيها
الحجارة والحديد لأكلتها ، ثم أغلقت (9) دوني.
ثم إني دفعت (10) إلى سدرة المنتهى ، فتغشاني فكان بيني وبينه قاب قوسين أو
أدنى". قال : "ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة". قال :
"وفرضت علي خمسون (11) وقال : لك بكل حسنة عشر ، إذا هممت بالحسنة فلم تعملها
كتبت لك حسنة ، فإذا عملتها كتبت لك عشرًا ، وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب
عليك شيء ، فإن (12) عملتها كتبت عليك سيئة واحدة.
ثم دفعت إلى موسى فقال : بما أمرك ربك ؟ قلت : بخمسين صلاة. قال : ارجع إلى ربك
فاسأله التخفيف لأمتك ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك ، ومتى لا [تطيقه] (13) تكفر (14)
فرجعت إلى ربي [عز. وجل] (15) فقلت : يا رب ، خفف عن أمتي ، فإنها أضعف الأمم.
فوضع عني عشرًا ، وجعلها
__________
(1) في ت ، ف : "وإذا".
(2) في ت : "فإذا أنا بإبراهيم".
(3) في ف ، أ : "أبوك إبراهيم".
(4) زيادة من ف ، أ ، والدلائل.
(5) في ت ، ف ، أ : "ثم لا".
(6) في ف : "قالت".
(7) زيادة من ف ، أ ، والدلائل.
(8) زيادة من ف ، أ ، والدلائل.
(9) في ف : "غلقت".
(10) في ف : "رفعت".
(11) في أ : "خمسون صلاة".
(12) في ف : "فإذا".
(13) زيادة من ف ، أ ، والدلائل.
(14) في ت : "يكفر".
(15) زيادة من ف ، أ.
(5/24)
أربعين.
فما زلت أختلف بين موسى وربي (1) كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته ، حتى رجعت
إليه فقال لي : بم أمرت ؟ فقلت : أمرت بعشر صلوات. قال : ارجع إلى ربك [عز وجل]
(2) فاسأله التخفيف لأمتك. فرجعت إلى ربي [سبحانه وتعالى] (3) فقلت : أي رب ، خفف
عن أمتي ، فإنها أضعف الأمم. فوضع عني خمسًا ، وجعلها خمسًا. فناداني ملك عندها :
تممت فريضتي ، وخففت عن عبادي ، وأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها.
ثم رجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ؟ فقلت : بخمس صلوات. قال : ارجع إلى ربك فاسأله
التخفيف ، فإنه لا يؤوده شيء ، فاسأله التخفيف لأمتك". "فقلت (4) : رجعت
إلى ربي حتى استحييته" ثم أصبح بمكة يخبرهم بالأعاجيب : "إني أتيت
البارحة بيت المقدس ، وعرج بي إلى السماء ، ورأيت كذا وكذا (5) ". فقال أبو
جهل - يعني ابن هشام - : ألا تعجبون مما يقول محمد ؟ يزعم أنه أتى البارحة بيت
المقدس ، ثم أصبح فينا. وأحدنا يضرب مطيته مصعدة شهرًا ، ومقفلة شهرًا ، فهذا
مسيرة شهرين في ليلة واحدة! قال : فأخبرهم بعير لقريش : "لما كنت (6) في مصعدي
رأيتها في مكان كذا وكذا ، وأنها نفرت ، فلما رجعت رأيتها عند العقبة".
وأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا وكذا ، ومتاعه كذا وكذا. فقال أبو جهل : يخبرنا (7)
بأشياء. فقال رجل من المشركين : أنا أعلم الناس ببيت المقدس ، وكيف بناؤه ؟ وكيف
هيئته ؟ وكيف قربه من الجبل ؟ [فإن يك محمد صادقا فسأخبركم ، وإن يك كاذبًا
فسأخبركم. فجاء ذلك المشرك فقال : يا محمد ، أنا أعلم الناس ببيت المقدس ، فأخبرني
كيف بناؤه ؟ وكيف هيئته ؟ وكيف قربه من الجبل] (8). قال : فرفع لرسول الله صلى
الله عليه وسلم بيت المقدس من مقعده ، فنظر إليه كنظر أحدنا إلى بيته : بناؤه كذا
وكذا ، وهيئته كذا وكذا ، وقربه من الجبل كذا وكذا. فقال الآخر : صدقت. فرجع إلى
أصحابه فقال : صدق محمد فيما قال أو نحو هذا (9) الكلام (10).
وكذا رواه الإمام أبو جعفر بن جرير بطوله ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن محمد بن
ثور ، عن معمر ، عن أبي هارون العبدي ، وعن الحسن بن يحيى ، عن عبد الرزاق ، عن
معمر ، عن أبي هارون العبدي ، به. ورواه ، أيضًا ، من حديث محمد بن إسحاق : حدثني
روح بن القاسم ، عن أبي هارون ، به نحو سياقه المتقدم (11).
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أحمد بن عبدة ، عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن
عبد الصمد ، عن أبي هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، فذكره (12) بسياق طويل
حسن أنيق ، أجود مما ساقه غيره ، على غرابته وما فيه من النكارة.
__________
(1) في ف ، أ : "بين موسى وبين ربي عز وجل".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من : ت.
(4) في ف ، أ : "قال : فقلت".
(5) في ف ، أ : "ورأيت كذا ورأيت كذا".
(6) في ت ، ف ، أ : "كانت".
(7) من ف ، أ : "تخبرنا".
(8) زيادة من ف ، أ ، والدلائل.
(9) في ت : "أو نحوه من هذا".
(10) دلائل النبوة (2/390).
(11) تفسير الطبري (15/10).
(12) في ف ، أ : "فذكر".
(5/25)
ثم
ذكره (1) البيهقي ، أيضًا ، من رواية نوح بن قيس الحُدَّاني وهُشَيم ومعمر ، عن
أبي هارون العبدي - واسمه عمارة بن جوين (2) وهو مضعف عند الأئمة (3).
وإنما سقنا حديثه هاهنا لما في حديثه (4) من الشواهد لغيره ، ولما رواه البيهقي :
أخبرنا [الإمام] (5) أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن (6) ، أنبأنا أبو نعيم أحمد
بن محمد بن إبراهيم البزاز ، حدثنا أبو حامد (7) بن بلال ، حدثنا أبو الأزهر ،
حدثنا يزيد بن أبي حكيم قال : رأيت في النوم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت :
يا رسول الله ، رجل من أمتك يقال له : "سفيان الثوري" لا بأس به ؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا بأس به" ، حدثنا عن أبي هارون
العبدي ، عن أبي سعيد الخدري ، عنك (8) ليلة أسري بك ، قلت (9) "رأيت في
السماء" فحدثه بالحديث ؟ فقال لي : "نعم". فقلت له : يا رسول الله
، إن ناسًا من أمتك يحدثون عنك في السرى بعجائب ؟ فقال لي : "ذلك (10) حديث
القصاص" (11).
رواية شداد بن أوس :
قال الإمام أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن
العلاء بن الضحاك الزَّبيدي ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن عبد الله بن سالم (12)
الأشعري ، عن محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي ، حدثنا الوليد (13) بن عبد الرحمن ،
عن جبير (14) بن نفير : حدثنا (15) شداد بن أوس قال : قلنا : يا رسول الله ، كيف
أسري بك ؟ قال : "صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتمًا". قال :
"فأتاني جبريل ، عليه السلام ، بدابة أبيض - أو قال : بيضاء - فوق الحمار
ودون البغل ، فقال : اركب. فاستصعبت علي ، فرازها (16) بأذنها ، ثم حملني عليها.
فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ، حتى بلغنا أرضًا ذات نخل (17)
فأنزلني فقال : صل. فصليت ، ثم ركبنا (18) فقال : أتدري أين صليت ؟ قلت : الله
أعلم. قال : صليت بيثرب صليت بطيبة. فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها.
ثم بلغنا أرضًا فقال : انزل. [فنزلت] (19) ثم قال : صل. فصليت ثم ركبنا ، فقال :
أتدري أين صليت ؟ قلت : الله أعلم. قال : صليت بمدين ، صليت عند شجرة موسى. ثم
انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ، ثم بلغنا أرضًا ، بدت لنا قصور ،
فقال : انزل. فنزلت ، فقال (20) صل فصليت ثم ركبنا فقال : أتدري أين صليت ؟ قلت :
الله أعلم. قال : صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى المسيح ابن مريم. ثم انطلق بي حتى
دخلنا المدينة من بابها اليماني ، فأتى قبلة المسجد ، فربط فيه دابته ودخلنا
المسجد من باب فيه تميل الشمس والقمر ، فصليت من المسجد حيث شاء الله ، وأخذني من
العطش أشد ما أخذني ، فأتيت بإناءين (21) ، في أحدهما لبن وفي الآخر
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "ذكر".
(2) في ت ، أ : "جرين" ، وفي ف : "جرير".
(3) دلائل النبوة (2/396).
(4) في أ : "سياقه".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) في ف ، أ : "أبو عثمان علي بن عبد الرحمن".
(7) في ف : "حدثنا أحمد".
(8) في ف ، أ : "عنك يا رسول الله".
(9) في أ : "أنك قلت".
(10) في ت ، ف ، أ : "ذاك".
(11) دلائل النبوة (2/405).
(12) في ت : "سلام".
(13) في ت ، ف : "أبو الوليد".
(14) في ت ، ف : "أن جبير".
(15) في ت ، ف ، أ : "قال : حدثنا".
(16) في أ : "مزارها".
(17) في ت : "نخيل".
(18) في ف ، أ : "ركبت".
(19) زيادة من الدلائل.
(20) في ت : "قال".
(21) في ت : "بإناءات".
(5/26)
عسل
، أرسل إليّ بهما جميعًا ، فعدلت بينهما ، ثم هداني الله عز وجل (1) ، فأخذت اللبن
فشربت (2) حتى قَرَعت به جبيني ، وبين يدي شيخ متكئ على مثواة له ، فقال : أخذ
صاحبك الفطرة ، إنه ليهدى. ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي فيه المدينة ، فإذا
جهنم [تنكشف] (3) عن مثل الزرابي ، قلت : يا رسول الله ، كيف وجدتها ؟ قال : مثل
الحمة السخنة. ثم انصرف بي (4) فمررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا ، قد أضلوا
بعيرًا لهم ، قد جمعه فلان ، فسلمت عليهم ، فقال بعضهم : هذا صوت محمد. ثم أتيت
أصحابي قبل الصبح بمكة" ، فأتاني أبو بكر ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول
الله ، أين كنت الليلة ؟ فقد التمستك في مظانك (5). فقال : "علمت أني أتيت
بيت المقدس الليلة ؟". فقال : يا رسول الله ، إنه مسيرة شهر ، فصفه لي. قال :
"ففتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه". قال
أبو بكر : أشهد أنك رسول الله. فقال المشركون : انظروا إلى ابن أبي كَبْشَة يزعم
أنه أتى بيت المقدس الليلة!. قال : فقال : "إن من آية ما أقول لكم أني مررت
بعير لكم بمكان كذا وكذا ، قد أضلوا بعيرًا لهم ، فجمعه فلان ، وإن مسيرهم ينزلون
بكذا ثم بكذا ، ويأتونكم يوم كذا وكذا ، يقدمهم جمل آدم ، عليه مسح أسود وغرارتان
سوداوان". فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون (6) حتى كان قريب من نصف
النهار حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي ، به (7). ثم قال بعد تمامه :
"هذا إسناد صحيح ، وروى ذلك مفرقًا في أحاديث غيره ، ونحن نذكر من ذلك إن شاء
الله ما حضرنا". ثم ساق أحاديث كثيرة في الإسراء كالشاهد لهذا الحديث. وقد
روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في
تفسيره ، عن أبيه ، عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، به. ولا شك أن هذا
الحديث - أعني الحديث المروي عن شداد بن أوس - مشتمل (8) على أشياء منها ما هو
صحيح كما ذكره البيهقي ، ومنها ما هو منكر ، كالصلاة في بيت لحم ، وسؤال الصديق عن
نعت بيت المقدس ، وغير ذلك. والله أعلم.
رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما :
قال الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد ، حدثنا جرير ، عن قابوس ، عن أبيه قال :
حدثنا ابن عباس قال : ليلة أسري بنبي الله صلى الله عليه وسلم دخل الجنة ، فسمع في
جانبها وَجْسًا (9) فقال : "يا جبريل ، ما هذا ؟" قال : "هذا بلال
المؤذن". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى الناس : "قد
أفلح بلال ، قد رأيت له كذا وكذا". قال : فلقيه موسى ، عليه السلام ، فرحب به
، وقال : "مرحبًا بالنبي الأمي" ، قال : "وهو رجل آدم طويل ، سبط
شعره مع أذنيه أو فوقهما" ، فقال : "من هذا يا جبريل ؟" قال :
"هذا موسى. [قال : فمضى ، فلقيه عيسى فرحب به ، وقال : "من هذا يا جبريل
؟" قال : "هذا عيسى". قال] (10) فمضى فلقيه شيخ جليل متهيب فرحب به
وسلم عليه وكلهم يسلم عليه ، قال : "من هذا يا جبريل ؟" قال : "هذا
أبوك إبراهيم" ، قال : ونظر في النار ، فإذا قوم يأكلون الجيف ، قال :
"من هؤلاء يا جبريل ؟" قال : "هؤلاء الذين يأكلون لحم (11)
الناس" ، ورأى رجلا أحمر أزرق جدًا ، قال : "من هذا يا جبريل ؟"
__________
(1) في أ : "تعالى".
(2) في ت : "فشربت اللبن".
(3) زيادة من ف ، أ ، والدلائل.
(4) في أ : "بنا".
(5) في ف ، أ : "منامك".
(6) في ت : "ينتظرون".
(7) دلائل النبوة (2/355).
(8) في ف ، أ : "يشتمل".
(9) في ت ، ف ، أ : "وخشا".
(10) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(11) في أ : "لحوم".
(5/27)
قال
: "هذا عاقر الناقة" ، قال : فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
المسجد الأقصى قام يصلي ، [فالتفت ثم التفت] (1) فإذا النبيون أجمعون يصلون معه.
فلما انصرف جيء بقدحين ، أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال ، في أحدهما لبن وفي
الآخر عسل ، فأخذ اللبن فشرب منه ، فقال الذي كان معه القدح : أصبت الفطرة. إسناد
صحيح ولم يخرجوه (2).
طريق أخرى :
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ثابت أبو زيد ، حدثنا هلال ، حدثني عكرمة ،
عن ابن عباس قال : أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، ثم جاء من
ليلته فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم ، فقال ناس : نحن لا نصدق محمدًا
بما يقول! فارتدوا كفارًا ، فضرب الله رقابهم مع أبي جهل (3) وقال أبو جهل (4)
يخوفنا محمد بشجرة الزقوم ، هاتوا تمرا وزبدا فتزقموا ، ورأى الدجال في صورته رؤيا
عين ليس برؤيا منام ، وعيسى وموسى وإبراهيم. فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن
الدجال فقال : "رأيته فيلمانيًا أقمر هجانا ، إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب
دري ، كأن شعر رأسه أغصان شجرة. ورأيت عيسى أبيض ، جعد الرأس ، حديد البصر ، مبطن
الخلق. ورأيت موسى أسحم آدم ، كثير الشعر ، شديد الخلق. ونظرت إلى إبراهيم فلم
أنظر إلى إرب منه إلا نظرت إليه مني ، حتى كأنه صاحبكم. قال جبريل : سلم على مالك
فسلمت عليه".
ورواه النسائي من حديث أبي زيد ثابت بن يزيد (5) عن هلال - وهو ابن خباب - به ،
وهو (6) إسناد صحيح.
طريق أخرى :
وقال البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو بكر الشافعي ، أنبأنا
إسحاق بن الحسن ، حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا شيبان ، عن قتادة ، عن أبي العالية
قال : حدثنا ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم ابن عباس قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران ، رجلا طوالا جعدًا ،
كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق ، إلى الحمرة والبياض ، سبط
الرأس". وأرى مالكًا خازن جهنم والدجال ، في آيات أراهن الله إياه ، قال : {
فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ } [ السجدة : 23 ] فكان قتادة يفسرها :
أن نبي الله [صلى الله عليه وسلم] (7) قد لقي موسى [عليه السلام] (8) {
وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } قال : جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل
(9).
رواه مسلم في الصحيح عن عبد بن حميد ، عن يونس بن محمد ، عن شيبان (10). وأخرجاه
من حديث شعبة عن قتادة مختصرًا (11).
__________
(1) زيادة من المسند مستفاد من هامش ط. الشعب.
(2) المسند (1/257) وفيه قابوس بن أبي ظبيان وقد تكلم فيه خاصة روايته عن أبيه ،
وقال ابن عدي : "أحاديثه متقاربة ، وأرجو أنه لا بأس" فمثل حديثه أقرب
درجاته التحسين.
(3) في ف ، أ : "أبي جهل قبحهم الله".
(4) في ف ، أ : "أبو جهل قبحه الله".
(5) في ت ، ف : "أبي يزيد ثابت بن زيد".
(6) المسند (1/374) وسنن النسائي الكبرى برقم (11484).
(7) زيادة من ت ، أ.
(8) زيادة من أ.
(9) دلائل النبوة (2/386).
(10) صحيح مسلم برقم (165).
(11) صحيح البخاري برقم (3239) وصحيح مسلم برقم (165).
(5/28)
طريق
أخرى :
قال [البيهقي : أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أنبأنا أحمد بن عبيد الصفَّار ،
حدثنا دُبَيْس المُعدَّل ، حدثنا عفان قال : حدثنا] (1) حماد بن سلمة ، عن عطاء بن
السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لما أسري بي ، مرت بي رائحة طيبة ، فقلت : ما هذه الرائحة ؟ قالوا : ماشطة
بنت فرعون وأولادها ، سقط مُشْطُهَا من يدها فقالت : باسم الله : فقالت ابنة فرعون
: أبي ؟ قالت : ربي وربك ورب أبيك. قالت : أولك رب غير أبي ؟ قالت : نعم ، ربي
وربك ورب أبيك الله". قال : "فدعاها فقال : ألك رب غيري ؟ قالت : نعم ،
ربي وربك الله ، عز وجل". قال : "فأمر بنقرة (2) من نحاس فأحميت ، ثم
أمر بها لتلقى فيها ، قالت : إن لي [إليك] (3) حاجة. قال : ما هي ؟ قالت : تجمع
عظامي وعظام ولدي في موضع ، قال (4) ذاك لك ، لما لك علينا من الحق" ، قال :
"فأمر بهم فألقوا واحدًا واحدًا ، حتى بلغ رضيعًا فيهم ، فقال : يا أمه ، قعي
ولا تقاعسي ، فإنك (5) على الحق". قال : "وتكلم أربعة وهم صغار : هذا ،
وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم ، عليه السلام" (6).
إسناد لا بأس به ، ولم يخرجوه.
طريق أخرى :
وقال الإمام أحمد [أيضًا] (7) حدثنا محمد بن جعفر وروح المعنى (8) قالا حدثنا عوف
، عن زُرَارة بن أوفى ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لما كان ليلة أسري بي وأصبحت بمكة ، فظعت [بأمري] (9) وعرفت أن الناس
مكذبي" فقعد (10) معتزلا حزينًا ، فمرّ به عدو الله أبو جهل (11) فجاء حتى
جلس إليه ، فقال له كالمستهزئ : هل كان من شيء ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "نعم" قال : وما هو ؟ قال "إني أسري بي الليلة" : قال
إلى أين ؟ قال : "إلى بيت المقدس" قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟! قال :
"نعم". قال : فلم يره أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه
، فقال : أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "نعم". قال : هيا (12) معشر بني كعب بن لؤي ، قال : فانتفضت (13)
إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما. قال : حدث قومك بما حدثتني. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "إني أسري بي الليلة". فقالوا : إلى أين ؟ قال :
"إلى بيت المقدس" قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال :
"نعم". قال : فمن بين مصفق ، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبًا للكذب -
زعم - قالوا : وتستطيع أن تنعت [لنا] (14) المسجد - وفي القوم من قد سافر إلى ذلك
البلد ورأى المسجد - قال (15) رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فذهبت أنعت ،
فما زلت أنعت حتى التبس عليّ بعض النعت" قال : "فجيء بالمسجد وأنا أنظر
إليه ، حتى وضع دون دار عقيل - أو عقال - فَنَعتُّه
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والدلائل.
(2) في ت ، ف ، أ : "ببقرة".
(3) زيادة من أ ، والدلائل.
(4) في ف : "فقال".
(5) في ف : "فأنا".
(6) دلائل النبوة (2/389) ورواه البزار في مسنده برقم (54) "كشف
الأستار" من طريق عفان به وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط.
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف ، أ : "وروح بن المعين".
(9) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(10) في ت ، ف : "فقعدت" ، وفي أ : "فعدت".
(11) في ف ، أ : "أبو جهل قبحه الله".
(12) في ف ، أ : "فيا".
(13) في ت ، ف : "فانقضت".
(14) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(15) في ف : "فقال".
(5/29)
وأنا
أنظر إليه". قال : وكان مع هذا نعت لم أحفظه - يقول عوف - : قال : فقال القوم
: أما النعت فوالله لقد أصاب.
وأخرجه (1) النسائي من حديث عوف بن أبي جميلة - وهو الأعرابي ، به. ورواه البيهقي
من حديث النضر بن شميل وهوذة ، عن عوف وهو ابن أبي جميلة الأعرابي ، أحد الأئمة
الثقات ، به (2).
رواية عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه :
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو عبد الله
محمد بن يعقوب ، حدثنا السري بن خزيمة ، حدثنا يوسف بن بُهلول ، حدثنا عبد الله بن
نمير ، عن مالك بن مِغْوَل ، عن الزبير بن عدي ، عن طلحة بن مُصَرِّف ، عن مرة
الهَمْدَاني ، عن عبد الله بن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم
، فانتهى إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ، وإليها ينتهي ما يصعد به حتى
يقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط [به] (3) من فوقها حتى يقبض [منها] (4) { إِذْ
يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } [ النجم : 16 ] قال : غشيها فراش من ذهب ، وأعطي
رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) الصلوات الخمس ، وخواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن
لا يشرك بالله (6) المقحمات ، يعني الكبائر.
ورواه مسلم في صحيحه ، عن محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب ، كلاهما عن عبد
الله بن نمير ، به (7). ثم قال البيهقي : "وهذا الذي ذكره عبد الله بن مسعود
طرف من حديث المعراج ، وقد رواه أنس بن مالك ، عن مالك بن صَعْصَعَة ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، ثم عن أبي ذر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رواه مرة
مرسلا دون ذكرهما" (8) ثم إن البيهقي ساق الأحاديث الثلاثة كما تقدّم.
قلت : وقد روي عن ابن مسعود بأبسط من هذا ، وفيه غرابة ، وذلك فيما رواه
"الحسن بن عرفة" في جزئه المشهور. حدثنا مروان بن معاوية ، عن قنان بن
عبد الله النهمي (9) ، حدثنا أبو ظبيان الجنبي قال : كنا جلوسًا عند أبي عبيدة بن
عبد الله - يعني ابن مسعود - ومحمد بن سعد بن أبي وقاص ، وهما جالسان ، فقال محمد
بن سعد لأبي عبيدة : حدثنا عن أبيك ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال أبو
عبيدة : لا بل حدثنا أنت عن أبيك. فقال محمد : لو سألتني قبل أن أسألك لفعلت! قال
: فأنشأ أبو عبيدة يحدث يعني عن أبيه كما سئل قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أتاني جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل ، فحملني عليه ، ثم انطلق
يهوي بنا كلما صعد عقبة استوت رجلاه كذلك مع يديه ، وإذا هبط استوت يداه مع رجليه
، حتى مررنا برجل طوال سبط آدم ، كأنه من رجال أزد شنوءة ، وهو يقول - فيرفع (10)
صوته يقول - أكرمته وفضلته". قال : "فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام
، فقال : من هذا معك يا جبريل ؟ قال : هذا أحمد (11) ، قال : مرحبًا بالنبي الأمي
العربي ، الذي بلغ رسالة ربه ، ونصح لأمته". قال : "ثم اندفعنا فقلت :
من هذا يا جبريل ؟ قال : هذا موسى بن عمران". قال :
__________
(1) في ت : "أخرجه".
(2) المسند (1/309) وسنن النسائي الكبرى برقم (11285) ودلائل النبوة للبيهقي
(2/363).
(3) زيادة من ف ، أ ، والدلائل.
(4) زيادة من ف ، أ ، والدلائل.
(5) في ت : "صلى الله عليه وسلم تسليما".
(6) في ت : "بالله من أمتي" ، وفي ف : "بالله شيئا".
(7) دلائل النبوة (2/372) وصحيح مسلم برقم (173).
(8) دلائل النبوة (2/373).
(9) في ت ، ف ، أ : "التيمي".
(10) في ف : "فرفع".
(11) في ت : "محمد".
(5/30)
قلت
: ومن يعاتب ؟ قال : يعاتب ربه فيك! قلت : فيرفع صوته على ربه ؟! قال : إن الله
[عز وجل] (1) قد عرف له حدته". قال : "ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن
ثمرها السُّرُج تحتها شيخ وعياله". قال : "فقال لي جبريل : اعمد إلى
أبيك إبراهيم. فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام ، فقال إبراهيم : من هذا معك يا
جبريل ؟ قال : هذا ابنك أحمد". قال : "فقال : مرحبًا بالنبي الأمي الذي
بلغ رسالة ربه ونصح لأمته ، يا بني ، إنك لاق ربك الليلة ، وإن أمتك آخر الأمم
وأضعفها ، فإن استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل". قال : "ثم
اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى ، فنزلت فربطت الدابة بالحلقة التي في باب
المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها. ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين راكع
وقائم وساجد". قال : "ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن فأخذت اللبن فشربت
فضرب جبريل عليه السلام منكبي وقال : أصبت الفطرة ورب محمد". قال : "ثم
أقيمت الصلاة فأممتهم ، ثم انصرفنا فأقبلنا" (2).
إسناد غريب ولم يخرجوه ، فيه من الغرائب (3) سؤال الأنبياء عنه عليه السلام ابتداء
، ثم سؤاله عنهم (4) بعد انصرافه. والمشهور في الصحاح كما تقدم : أن جبريل [عليه
السلام] (5) كان يعلمه بهم أولا ليسلم عليهم سلام معرفة. وفيه (6) أنه اجتمع
بالأنبياء عليهم (7) السلام قبل دخوله المسجد (8) ، والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في
السموات ، ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيًا وهم معه ، وصلى بهم فيه ، ثم إنه ركب
البراق وكر راجعًا إلى مكة ، والله أعلم.
طريق أخرى :
قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم ، أخبرنا العوام ، عن جبلة بن سُحَيْم ، عن مُوثَر
(9) بن عفارة ، عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لقيت ليلة
أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى ، فتذاكروا أمر الساعة" قال : "فردوا أمرهم
إلى إبراهيم عليه السلام (10) فقال : لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى. فقال :
لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله
، عز وجل ، وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج". قال : "ومعي قضيبان ،
فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص". قال : "فيهلكه الله إذا رآني ، حتى إن
الحجر والشجر يقول : يا مسلم إن تحتي كافرًا ، فتعال فاقتله". قال :
"فيهلكهم الله ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم (11) ". قال :
"فعند (12) ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطؤون بلادهم ، فلا
يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه" قال : "ثم
يرجع الناس إليّ فيشكونهم. فأدعو الله عليهم ، فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من
نتن ريحهم - أي : تنتن" قال : "فينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى
يقذفهم في البحر. ففيما عهد إلي ربي : أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل
المتم ، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ، ليلا أو نهارًا".
وأخرجه ابن ماجه ، عن بُنْدار ، عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حوشب (13).
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) جزء الحسن بن عرفة برقم (69).
(3) في ت ، ف : "من الغرابة".
(4) في ت : "ثم سؤالهم له".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "وقيل".
(7) في ت : "عليه".
(8) في ف ، أ : "المسجد الأقصى".
(9) في ت ، ف : "مرثد".
(10) في ت : "عليه الصلاة والسلام".
(11) في ت : "وأقطانهم".
(12) في ت : "فبعد".
(13) المسند (1/375) ، وسنن ابن ماجه برقم (4081) وقال البوصري في الزوائد (3/261)
: "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ، مؤثر ابن عفارة ذكره ابن حبان في الثقات ،
وباقي رجال الإسناد ثقات".
(5/31)
رواية
عبد الرحمن بن قرط ، أخي عبد الله بن قرط الثمالي :
قال سعيد بن منصور : حدثنا مسكين بن ميمون - مؤذن (1) مسجد الرملة - حدثني عُروة
بن رُوَيْم ، عن عبد الرحمن بن قُرط ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري
به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كان بين زمزم (2) والمقام ، جبريل عن يمينه
وميكائيل عن يساره ، فطارا به حتى بلغ السموات العلى ، فلما رجع قال : "سمعت
تسبيحًا في السموات العلى مع تسبيح كثير (3) ، سبحت السموات العلى من ذي المهابة
مشفقات من ذي العلو بما علا سبحان العلي الأعلى ، سبحانه وتعالى" (4).
ويذكر هذا الحديث عند قوله تعالى من هذه السورة : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ
السَّبْعُ } الآية [ الإسراء : 44 ].
رواية عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن
عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب ؛ أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان
بالجابية ، فذكر فتح بيت المقدس قال : قال أبو سلمة : فحدثني أبو سنان ، عن عبيد
بن آدم قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب : أين ترى أن أصلي ؟ قال (5) إن أخذت
عني صليت خلف الصخرة ، فكانت القدس كلها بين يديك ، فقال عمر رضي الله عنه : ضاهيت
اليهودية ، [لا] (6) ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم إلى
القبلة ، فصلى ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه ، وكنس الناس (7).
فلم يعظم الصخرة تعظيما يصلي وراءها وهي بين يديه ، كما أشار كعب الأحبار وهو من
قوم يعظمونها حتى جعلوها قبلتهم. ولكن منّ الله عليه بالإسلام ، فهُدي إلى الحق ؛
ولهذا لما أشار بذلك قال له أمير المؤمنين : ضاهيت اليهودية ، ولا أهانها إهانة
النصارى الذين كانوا قد جعلوها مزبلة من أجل أنها قبلة اليهود ، ولكن أماط الأذى ،
وكنس عنها الكناس بردائه. وهذا شبيه بما جاء في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغَنَوِي
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا
إليها" (8).
رواية أبي هريرة ، رضي الله عنه :
وهي مطولة جدًا وفيها غرابة. قال الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير "سورة
سبحان" : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا حجاج ، حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع
بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي هريرة أو غيره - شك أبو جعفر - في قول
الله عز وجل : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ
مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } قال : جاء جبريل [إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل ، فقال جبريل] (9) لميكائيل : ائتني بطَسْت من
ماء زمزم ، كيما أطهر قلبه وأشرح له صدره. قال : فشق عنه بطنه ، فغسله ثلاث مرات.
واختلف إليه
__________
(1) في ت ، أ : "مؤدب".
(2) في ت ، ف : "من بين زمزم".
(3) في ت : "كبير".
(4) سيأتي من رواية الطبراني من طريق سعيد بن منصور ، وانظر تخريجه هناك عند الآية
: 44 من هذه السورة.
(5) في ف : "فقال".
(6) زيادة من ت ، ف ، والمسند.
(7) المسند (1/38).
(8) صحيح مسلم برقم (972).
(9) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(5/32)
ميكائيل
بثلاث طساس من ماء زمزم ، فشرح صدره ونزع ما كان فيه من غل ، وملأه حلمًا وعلمًا ،
وإيمانًا ويقينًا وإسلامًا ، وختم بين كتفيه بخاتم النبوة.
ثم أتاه بفرس فحمل (1) عليه ، كل خطوة منه منتهى بصره - أو : أقصى بصره - قال :
فسار وسار معه جبريل عليهما (2) السلام قال : فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون
في يوم ، كلما حصدوا عاد كما كان ، فقال النبي (3) صلى الله عليه وسلم : "يا
جبريل ، ما هذا ؟" قال : هؤلاء المجاهدون في سبيل الله ، تضاعف لهم الحسنة
بسبعمائة ضعف ، وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه ، وهو خير الرازقين.
ثم أتى على قوم تُرضَخ رءوسهم بالصخر ، كلما رُضخت عادت كما كانت ، ولا يفتر عنهم
من ذلك شيء ، فقال : "ما هؤلاء يا جبريل ؟" قال : هؤلاء الذين تتثاقل
رءوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع ، وعلى أدبارهم رقاع
يسرحون كما تسرح الإبل والنعم ، ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها ، قال
(4) : " ما هؤلاء يا جبريل ؟" قال : هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم
، وما ظلمهم الله شيئًا وما الله بظلام للعبيد.
ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر (5) ولحم نيئ في قدر خبيث ، فجعلوا
يأكلون من النيئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب ، فقال : "ما هؤلاء يا جبريل
؟" فقال : هذا الرجل من أمتك ، تكون عنده المرأة الحلال الطيبة ، فيأتي امرأة
خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح ، [والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبًا ، فتأتي
رجلا خبيثًا فتبيت معه حتى تصبح] (6).
قال : ثم أتى على خشبة على الطريق ، لا يمر بها ثوب إلا شقته ، ولا شيء إلا خرقته
، قال : "ما هذا يا جبريل ؟" قال : هذا مثل أقوام من أمتك ، يقعدون على
الطريق يقطعونه (7) ثم تلا { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ
[وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] (8) } [ الأعراف : 86 ].
قال : ثم أتى على رجل قد جمع (9) حزمة [حطب] (10) عظيمة لا يستطيع حملها ، وهو
يزيد عليها ، فقال : "ما هذا يا جبريل ؟" فقال (11) هذا الرجل من أمتك
يكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها.
ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا
يفتر عنهم من ذلك شيء ، قال : "ما هؤلاء يا جبريل ؟" قال : هؤلاء خطباء
الفتنة.
ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم ، فجعل الثور يريد أن يرجع من [حيث] (12)
خرج ، فلا يستطيع ، فقال : "ما هذا يا جبريل ؟" فقال : هذا الرجل يتكلم
بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها.
ثم أتى على واد فوجد ريحًا طيبة باردة ، وريح مسك ، وسمع صوتًا ، فقال : "يا
جبريل ، ما هذه (13) الريح الطيبة الباردة ؟ وما هذا المسك ؟ وما هذا الصوت
؟" قال : هذا صوت الجنة تقول : يا رب آتني ما وعدتني ، فقد كثرت غرفي ،
وإستبرقي وحريري وسندسي ، وعبقريي ولؤلؤي ومرجاني ، وفضتي
__________
(1) في ف ، أ : "فحمله".
(2) في ت ، ف ، أ : "عليه".
(3) في ف : "فقال رسول الله".
(4) في ف : "فقال".
(5) في ت ، ف : "قدور".
(6) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(7) في ت ، ف : "فيقطعونه".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ت : "حمل".
(10) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(11) في ف : "قال".
(12) في ت ، هـ : "موضع" والمثبت من الطبري.
(13) في ت ، ف ، أ : "ما هذا".
(5/33)
وذهبي
وأكوابي وصحافي ، وأباريقي ومراكبي ، وعسلي ومائي ، وخمري ولبني فآتني ما (1)
وعدتني. فقال : لك كل مسلم ومسلمة ، ومؤمن ومؤمنة ، ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحًا
ولم يشرك بي ، ولم يتخذ من دوني أندادًا ، ومن خشيني فهو آمن ، ومن سألني أعطيته ،
ومن أقرضني جزيته ، ومن توكل عليّ كفيته ، إني أنا الله لا إله إلا أنا ، لا أخلف
الميعاد ، وقد أفلح المؤمنون ، وتبارك الله أحسن الخالقين ، قالت : قد رضيت.
قال : "ثم أتى على واد فسمع صوتًا منكرًا ، ووجد ريحًا منتنة ، فقال : ما هذه
(2) الريح يا جبريل ؟ وما هذا الصوت ؟" فقال : هذا صوت جهنم تقول : يا رب
آتني ما وعدتني ، فقد كثرت سلاسلي وأغلالي ، وسعيري وحميمي ، وضريعي ، وغساقي
وعذابي ، وقد بعد قعري ، واشتد حري ، فآتني كل ما وعدتني ، فقال : لك كل مشرك
ومشركة ، وكافر وكافرة ، وكل خبيث وخبيثة ، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب. قالت :
قد رضيت.
قال : ثم سار حتى أتى بيت المقدس ، فنزل فربط فرسه إلى صخرة ، ثم دخل فصلى مع
الملائكة ، فلما قضيت الصلاة قالوا : يا جبريل ، من هذا معك ؟ قال : محمد صلى الله
عليه وسلم. قالوا : أوقد أرسل محمد ؟ قال : نعم. قالوا : حياه الله من أخ ومن
خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء.
قال : ثم لقي أرواح الأنبياء ، فأثنوا على ربهم ، فقال إبراهيم : الحمد لله الذي
اتخذني خليلا وأعطاني ملكًا عظيمًا ، وجعلني أمة قانتًا يؤتم بي ، وأنقذني من
النار ، وجعلها عليّ بردًا وسلامًا. ثم (3) إن موسى ، عليه السلام (4) ، أثنى على
ربه ، عز وجل ، فقال : الحمد لله الذي كلمني تكليمًا ، وجعل هلاك آل فرعون ونجاة
بني إسرائيل على يدي ، وجعل من أمتي قومًا يهدون بالحق وبه يعدلون. ثم إن داود ،
عليه السلام (5) أثنى على ربه [عز وجل] (6) ، فقال : الحمد لله الذي جعل لي ملكًا
عظيمًا ، وعلمني الزبور ، وألان لي الحديد ، وسخر لي الجبال يسبحن والطير ،
وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب. ثم إن سليمان ، عليه السلام ، أثنى على ربه [عز وجل]
(7) فقال : الحمد لله الذي سخر لي الرياح ، وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من
محاريب وتماثيل ، وجفان كالجواب وقدور راسيات ، وعلمني منطق الطير ، وآتاني من كل
شيء فضلا وسخر لي جنود الشياطين والإنس والطير ، وفضلني على كثير من عباده
المؤمنين ، وآتاني ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحد من بعدي ، وجعل ملكي ملكًا طيبًا
ليس فيه حساب. ثم إن عيسى ، عليه السلام ، أثنى على ربه ، عز وجل ، فقال : الحمد
لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم ، خلقه من تراب ثم قال له :
"كن" فيكون ، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، وجعلني أخلق من
الطين كهيئة الطير ، فأنفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله ، وجعلني أبرئ الأكمه
والأبرص وأحيي الموتى بإذنه (8) ، ورفعني وطهرني ، وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم
، فلم يكن للشيطان علينا سبيل. قال : ثم إن محمدًا (9) صلى الله عليه وسلم أثنى
على ربه ، عز وجل ، فقال : "فكلكم أثنى على ربه ، وإني مثن على ربي [عز وجل]
(10) فقال : الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين ، وكافة للناس بشيرًا ونذيرًا ،
وأنزل عليّ الفرقان (11) فيه بيان لكل شيء ، وجعل
__________
(1) في ت : "بما".
(2) في أ : "ما هذا".
(3) في ف ، أ : "قال : ثم".
(4) في ت : "عليه الصلاة والسلام".
(5) في ت : "عليه الصلاة والسلام".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) في ف ، أ : "بإذن الله".
(9) في أ : "محمدا رسول الله".
(10) زيادة من ف ، أ.
(11) في ت ، ف : "القرآن".
(5/34)
أمتي
خير أمة أخرجت للناس ، وجعل أمتي أمة وسطًا ، وجعل أمتي هم الأولين وهم الآخرين ،
وشرح لي صدري ، ووضع عني وزري ، ورفع لي ذكري ، وجعلني فاتحًا وخاتمًا" فقال
إبراهيم [عليه السلام] (1) : بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم.
قال أبو جعفر الرازي : خاتم النبوة ، فاتح بالشفاعة يوم القيامة.
ثم أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها ، فأتي بإناء منها فيه ماء فقيل : اشرب. فشرب منه
يسيرًا ، ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن ، فقيل له : اشرب ، فشرب منه حتى روي. ثم
دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له : اشرب فقال : "لا أريده قد رويت".
فقال له جبريل [عليه السلام] (2) : أما إنها ستحرم على أمتك ، ولو شربت منها لم
يتبعك من أمتك إلا قليل.
قال : ثم صعد به إلى السماء فاستفتح ، فقيل : من هذا يا جبريل ؟ فقال : محمد ،
فقالوا : أوقد أرسل ؟ قال : نعم. قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ
ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء. فدخل فإذا هو برجل تام الخلق (3) لم ينقص من خلقه
شيء كما ينقص من خلق الناس ، عن (4) يمينه باب يخرج منه ريح طيبة ، وعن شماله باب
يخرج منه ريح خبيثة ، إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر ، وإذا نظر إلى
الباب الذي عن يساره بكى وحزن ، فقلت : "يا جبريل من هذا الشيخ التام الخلق
الذي لم ينقص من خلقه شيء ؟ وما هذان البابان ؟ " فقال : هذا أبوك آدم [عليه
السلام] (5) ، وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة ، إذا نظر إلى من يدخل (6) من
ذريته ضحك واستبشر ، والباب الذي عن شماله باب جهنم ، إذا نظر إلى من يدخله من
ذريته بكى وحزن.
ثم صعد به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح ، فقيل : من هذا معك ؟ فقال : محمد
رسول الله. قالوا : أوقد أرسل محمد ؟ قال : نعم. قالوا : حياه الله من أخ ومن
خليفة ، فلنعم الأخ ولنعم الخليفة ونعم المجيء جاء. قال : فدخل فإذا هو بشابين
فقال : "يا جبريل ، من هذان الشابان ؟" قال : هذا عيسى ابن مريم ، ويحيى
بن زكريا ، ابنا الخالة عليهما السلام.
قال : فصعد به إلى السماء الثالثة فاستفتح ، فقالوا : من هذا ؟ قال : جبريل. قالوا
: ومن معك ؟ قال : محمد. قالوا : أوقد أرسل ؟ قال : نعم. قالوا : حياه الله من أخ
ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء. قال : فدخل فإذا هو برجل
قد فضل على الناس في الحسن كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، قال :
"من هذا يا جبريل الذي قد فضل على الناس في الحسن ؟" قال : هذا أخوك
يوسف ، عليه السلام (7).
قال : ثم صعد به إلى السماء (8) الرابعة فاستفتح ، فقالوا (9) من هذا ؟ قال :
جبريل. قالوا : ومن معك ؟ قال : محمد. قالوا : أوقد أرسل ؟ (10) قال : نعم. قالوا
: حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء. قال :
فدخل ، فإذا هو برجل ، قال : "من هذا يا جبريل ؟" قال : هذا إدريس رفعه
الله [تعالى] (11) مكانًا عليًا.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "تام الخلقة".
(4) في ف : "على".
(5) زيادة من أ
(6) في ت ، ف : "يدخله".
(7) في ت : "عليه الصلاة والسلام".
(8) في ف : "ثم صعدت إلى السماء".
(9) في ف : "فقيل".
(10) في ف ، أ : "أرسل إليه".
(11) زيادة من ت.
(5/35)
ثم
صعد به إلى السماء الخامسة فاستفتح ، فقالوا : من هذا ؟ قال : جبريل. قالوا : ومن
معك ؟ قال : محمد. قالوا : أوقد أرسل (1) إليه ؟ قال : نعم. قالوا : حياه (2) الله
من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء. ثم دخل فإذا هو برجل
جالس وحوله قوم يقص عليهم ، قال : "من هذا يا جبريل ؟ ومن هؤلاء حوله ؟"
قال : هذا هارون المحبب [في قومه] (3) وهؤلاء بنو إسرائيل.
ثم صعد به إلى السماء السادسة فاستفتح ، قيل : (4) من هذا ؟ قال : جبريل. قالوا :
ومن معك ؟ قال : محمد ، قالوا : أوقد أرسل ؟ (5) قال : نعم. قالوا : حياه الله من
أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء (6). فإذا هو برجل جالس
فجاوزه فبكى الرجل ، فقال : "يا جبريل ، من هذا ؟" قال : موسى ، قال :
"فما باله (7) يبكي ؟" قال : زعم (8) بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على
الله عز وجل ، وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا ، وأنا في أخرى ، فلو أنه
بنفسه لم أبال ، ولكن مع كل نبي أمته.
قال : ثم صعد به إلى السماء السابعة فاستفتح ، فقيل له : من هذا ؟ قال : جبريل.
قيل : ومن معك ؟ قال : محمد. قالوا : أوقد أرسل إليه ؟ قال : نعم. قالوا : حياه
الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء. قال : فدخل
فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي ، وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال
القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ، فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهرًا
فاغتسلوا فيه ، فخرجوا وقد (9) خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا
فيه ، فخرجوا وقد خلص [من] (10) ألوانهم [شيء ثم دخلوا نهرًا آخر فاغتسلوا فيه ،
فخرجوا وقد خلصت ألوانهم] (11) فصارت مثل ألوان أصحابهم ، فجاءوا فجلسوا إلى
أصحابهم ، فقال : "يا جبريل من هذا الأشمط ؟ ثم من هؤلاء البيض الوجوه ؟ ومن
هؤلاء الذين في ألوانهم شيء ؟ وما هذه الأنهار التي دخلوا فيها فجاءوا وقد صَفَت
ألوانهم ؟" قال : هذا أبوك إبراهيم [عليه السلام] (12) أول من شمط على الأرض.
وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم. وأما هؤلاء الذين في
ألوانهم شيء ، فقوم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا ، فتابوا فتاب الله عليهم. وأما
الأنهار فأولها رحمة الله ، والثاني نعمة الله ، والثالث سقاهم ربهم شرابًا
طهورًا.
قال : ثم انتهى إلى السدرة فقيل له : هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك
على سنتك. فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن ، وأنهار من لبن لم
يتغير طعمه ، وأنهار من خمر لذّة للشاربين ، وأنهار من عسل مصفى ، وهي شجرة يسير
الراكب في ظلها سبعين عامًا لا يقطعها. والورقة منها مغطية للأمة كلها. قال :
فغشيها نور الخلاق ، عز وجل ، وغشيتها (13) الملائكة أمثال الغربان حين يقعن (14)
على الشجرة قال : فكلمه الله عند ذلك (15)
__________
(1) في ف ، أ : "أرسل إليه".
(2) في ف ، أ : "قالوا : مرحبا به حياه".
(3) زيادة من ف ، ت ، أ ، والطبري.
(4) في ف : "فقيل".
(5) في ف ، أ : "أرسل إليه".
(6) في ت ، ف ، أ : "المجيء جاء".
(7) في ت : "فما له".
(8) في ت ، أ : "يزعم".
(9) في ت : "قد".
(10) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(11) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(12) زيادة من ف ، أ.
(13) في ت : "وغشيها".
(14) في ت ، ف ، أ : "حتى تقع".
(15) في ت : "فكلمه يعني عند ذلك".
(5/36)
قال
له : سل (1) ، قال : "إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكًا عظيمًا ، وكلمت
موسى تكليمًا ، وأعطيت داود ملكًا عظيمًا ، وألنت له الحديد ، وسخرت له [الجبال ،
وأعطيت سليمان ملكًا عظيمًا ، وسخرت له الجن والإنس والشياطين ، وسخرت له] (2)
الرياح ، وأعطيت له ملكًا عظيمًا لا ينبغي لأحد من بعده ، وعلمت عيسى التوراة
والإنجيل ، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك ، وأعذته وأمه من
الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل". فقال له ربه عز وجل : وقد
اتخذتك خليلا - وهو مكتوب في التوراة : حبيب الرحمن (3) - وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرًا
ونذيرًا ، وشرحت لك صدرك ، ووضعت عنك وزرك ، ورفعت لك ذكرك ، فلا أذكر إلا ذكرت
معي ، وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس ، وجعلت أمتك أمة وسطًا ، وجعلت أمتك هم
الأولين والآخرين ، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ،
وجعلت من أمتك أقوامًا قلوبهم أناجيلهم ، وجعلتك أول النبيين خلقًا ، وآخرهم بعثًا
، وأولهم يقضى له ، وأعطيتك سبعًا من المثاني لم يعطها نبي قبلك ، وأعطيتك خواتيم
سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبيًا قبلك ، وأعطيتك الكوثر ، وأعطيتك
ثمانية أسهم : الإسلام ، والهجرة ، والجهاد ، والصدقة ، والصلاة ، وصوم رمضان ،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلتك فاتحًا وخاتمًا. فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : " فضلني ربي بست : أعطاني فواتح الكلام (4) وخواتيمه وجوامع
الحديث ، وأرسلني إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا وقذف في قلوب عدوي الرعب من مسيرة
شهر ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض كلها طهورًا
ومسجدًا".
قال : وفرض عليه خمسين صلاة. فلما رجع إلى موسى قال : بم أمرت يا محمد ؟ قال :
"بخمسين صلاة" قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم
، فقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ،
عز وجل ، فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرًا. ثم رجع إلى موسى فقال : بكم أمرت ؟ قال
: "بأربعين" قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن أمتك أضعف الأمم ،
وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه [عز
وجل] (5) فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرًا ، فرجع إلى موسى فقال : بكم أمرت ؟ قال :
"أمرت بثلاثين" ، فقال له موسى : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن
أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع إلى ربه [عز وجل] (6)
فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرا ، فرجع إلى موسى فقال (7) بكم أمرت ؟ قال :
"أمرت بعشرين". قال : ارجع إلى ربك [عز وجل] (8) فاسأله التخفيف ، فإن
أمتك أضعف الأمم ، وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع إلى ربه [عز وجل] (9)
فسأله التخفيف ، فوضع عنه عشرًا. فرجع إلى موسى فقال : بكم أمرت ؟ قال :
"أمرت بعشر" ، قال : ارجع إلى ربك [عز وجل] (10) فاسأله التخفيف ، فإن
أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : فرجع على حياء إلى ربه [عز
وجل] (11) فسأله التخفيف فوضع عنه خمسًا. فرجع إلى موسى ، عليه السلام ، فقال (12)
بكم أمرت ؟ قال : "بخمس" فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ، فإن
__________
(1) في ف : "فقال".
(2) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(3) في ت : "محمد حبيب الرحمن".
(4) في ف : "الكلم".
(5) زيادة من ف.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ت : "قال".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) زيادة من ف ، أ.
(11) زيادة من ف ، أ.
(12) في ف : "قال".
(5/37)
أمتك
أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة ، قال : "قد رجعت إلى ربي حتى
استحييت ، فما أنا براجع إليه" ، قيل : أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات
، فإنهن يجزين عنك خمسين صلاة ، فإن كل حسنة بعشر أمثالها. قال : فرضي محمد صلى
الله عليه وسلم كل الرضا ، قال : وكان موسى ، عليه السلام ، من أشدهم عليه حين مرّ
به وخيرهم له حين رجع إليه (1).
ثم رواه ابن جرير ، عن محمد بن عبيد الله ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، عن أبى
جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية أو غيره - شك أبو جعفر - عن أبي
هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه (2).
وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن أبي سعيد الماليني ، عن ابن عدي ، عن محمد
بن الحسن السَّكُوني البالسي بالرملة ، حدثنا علي بن سهل ، فذكر مثل ما رواه ابن
جرير عنه (3) ، وذكر البيهقي أن الحاكم أبا عبد الله رواه عن إسماعيل بن محمد بن
الفضل بن محمد الشعراني ، عن جده ، عن إبراهيم بن حمزة الزبيري ، عن حاتم بن
إسماعيل ، حدثني عيسى بن ماهان - يعني أبا جعفر الرازي - عن الربيع بن أنس ، عن
أبي العالية ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره (4).
وقال : ابن أبي حاتم : ذكر أبو زُرْعَة ، حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا
يونس بن بكير ، حدثنا عيسى بن عبد الله التميمي (5) - يعني : أبا جعفر الرازي - عن
الربيع بن أنس البكري ، عن أبي العالية أو غيره - شك عيسى - ، عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى] (6)
} فذكر الحديث بطوله كنحو مما سقناه.
قلت : "أبو جعفر الرازي" قال فيه الحافظ أبو زرعة : "الرازي يهم في
الحديث كثيرًا" وقد ضعفه غيره أيضًا ، ووثقه بعضهم ، والأظهر أنه سيئ الحفظ
ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة ، وفيه (7) شيء
من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري ، ويشبه أن
يكون مجموعًا من أحاديث شتى ، أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء ، والله أعلم.
وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَرُ ، عن
الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه
وسلم حين أسري به : "لقيت موسى" قال : فنعته فإذا رجل - حسبته قال : -
مضطرب ، رَجْل الرأس ، كأنه من رجال شنوءة. قال : "ولقيت عيسى" - فنعته
النبي صلى الله عليه وسلم - ربعة (8) أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني حمام. قال :
"ورأيت إبراهيم ، وأنا أشبه ولده به". قال : "وأتيت بإناءين في
أحدهما لبن وفي الآخر خمر ، قيل لي : خذ أيهما شئت ، فأخذت اللبن ، فشربت ، فقيل
لي : هديت الفطرة - أو : أصبت الفطرة - أما إنك لو
__________
(1) تفسير الطبري (15/6).
(2) تفسير الطبري (15/10).
(3) دلائل النبوة (2/296 ، 297).
(4) دلائل النبوة (2/397).
(5) في ت : "اليمني".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت : "فيه".
(8) في ت ، أ : "قال : ربعة".
(5/38)
أخذت
الخمر غوت أمتك" وأخرجاه من وجه آخر. عن الزهري - به نحوه (1).
وفي صحيح مسلم ، عن محمد بن رافع ، عن حُجَيْن بن المثنى ، عن عبد العزيز بن أبي
سلمة ، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ،
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني
عن مسراي (2) فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربت كربًا ما كربت
مثله قط ، فرفعه الله لي أنظر إليه ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به ، وقد رأيتني
في جماعة من الأنبياء ، وإذا موسى قائم يصلي ، وإذا هو رجل ضربٌ جعد كأنه من رجال
شنوءة ، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي ،
وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم
، فلما فرغت قال قائل : يا محمد ، هذا مالك صاحب النار ، [فسلم عليه] (3) فالتفت
إليه فبدأني بالسلام " (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن
علي بن زيد ، عن أبي الصلت ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "رأيت ليلة أسري بي لما انتهينا إلى السماء السابعة ،
فنظرت فوق (5) فإذا رعد وبرق وصواعق". قال : "وأتيت على قوم بطونهم
كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء
أكلة الربا ، فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا بِرَهَج ودخان
وأصوات ، فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذه الشياطين يحرفون على أعين بني آدم
ألا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض ، ولولا ذلك لرأوا العجائب".
ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، به. ورواه ابن ماجه من
حديث حماد ، به (6).
رواية جماعة من الصحابة [رضي الله عنهم] (7) ممن تقدم وغيرهم :
قال الحافظ البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله - يعني الحاكم - أخبرنا عبدان بن يزيد
بن يعقوب الدقاق بهمذان ، حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني ، حدثنا أبو محمد هو
إسماعيل بن موسى الفزاري ، حدثنا عمر بن سعد النصري (8) من بني نصر (9) بن قُعَين
، حدثني عبد العزيز ، وليث بن أبي سليم (10) وسليمان الأعمش ، وعطاء بن السائب -
بعضهم يزيد في الحديث على بعض - عن علي بن أبي طالب وعبد الله (11) بن عباس -
ومحمد بن إسحاق بن يسار ، عمن حدثه عن ابن عباس -
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3394) وصحيح مسلم برقم (168).
(2) في ت : "عن أمري".
(3) زيادة من ف ، أ ، ومسلم.
(4) صحيح مسلم برقم (172).
(5) في ف ، أ : "فوق رأسي".
(6) المسند (2/353 - 363) وسنن ابن ماجة برقم (2273). وسبق الحديث من رواية أحمد
عند تفسير الآية : 185 من سورة الأعراف ، وعقب عليه الحافظ ابن كثير بقوله :
"علي بن زيد بن جدعان له منكرات".
(7) زيادة من أ.
(8) في ف : "النضري".
(9) في ف : "من بني نضرة".
(10) في أ : "سلمة".
(11) في ت ، ف : "وعن عبد الله".
(5/39)
وعن
سليم بن مسلم العقيلي ، عن عامر الشعبي ، عن عبد الله بن مسعود - وجويبر ، عن
الضحاك ، ابن مزاحم قالوا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ
راقدًا ، وقد صلى العشاء الآخرة. قال أبو عبد الله الحاكم : قال لنا هذا الشيخ...
وذكر الحديث ، فكتب (1) المتن من نسخة مسموعة منه ، فذكر حديثًا طويلا يذكر فيه
عدد الدرج والملائكة وغير ذلك مما لا ينكر شيء منها في قدرة الله إن صحت الرواية.
قال البيهقي : فيما ذكرنا قبل في حديث أبي هارون العبدي في إثبات الإسراء والمعراج
كفاية ، وبالله التوفيق (2).
قلت : وقد أرسل هذا الحديث غير واحد من التابعين وأئمة المفسرين ، رحمة الله عليهم
أجمعين.
رواية عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها :
قال [الإمام] (3) البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني مكرم بن أحمد
القاضي ، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي (4) ، حدثنا محمد بن كثير الصَّنْعاني ،
حدثنا معمر بن راشد ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت :
لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ، أصبح يحدث الناس بذلك ،
فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه ، وسعوا بذلك إلى أبي بكر ، فقالوا : هل لك
في صاحبك ؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس! فقال : أوقال ذلك ؟ قالوا :
نعم. قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا : تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس
، وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم ، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر
السماء في غَدْوة أو رَوْحة. فلذلك سمي أبو بكر : الصديق ، رضي الله عنه (5).
رواية أم هانئ بنت أبي طالب ، رضي الله عنها :
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح باذان ، عن أم
هانئ بنت أبي طالب [رضي الله عنها] (6) في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها
كانت تقول : ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي ، نائم عندي
تلك الليلة ، فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا ، فلما كان قبيل الفجر أهبنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه قال : "يا أم هانئ ، لقد
صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ، ثم
صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين" (7).
الكلبي : متروك بمرة ساقط ، لكن رواه أبو يعلى في مسنده عن محمد بن إسماعيل
الأنصاري ، عن ضَمْرَة بن ربيعة ، عن يحيى بن أبي عمرو السيباني (8) ، عن أبي صالح
، عن أم هانئ بأبسط من هذا
__________
(1) في ت : "فثبت".
(2) دلائل النبوة (2/404).
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ت : "البكري".
(5) دلائل النبوة (2/360) وهو في المستدرك (3/62) وقال : "هذا حديث صحيح
الإسناد ولم يخرجاه".
(6) زيادة من أ.
(7) رواه الطبري في تفسيره (15/3) من طريق محمد بن إسحاق.
(8) في ت ، ف ، أ : "الشيباني"
(5/40)
السياق
، فليكتب هاهنا (1).
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المُسَاور ، عن عكرمة
، عن أم هانئ قالت : بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به في بيتي ،
ففقدته من الليل ، فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إن جبريل ، عليه السلام ، أتاني فأخذ بيدي
فأخرجني ، فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار ، فحملني عليها ، ثم انطلق
حتى انتهى بي إلى بيت المقدس ، فأراني إبراهيم يشبه خلقه خلقي ، ويشبه خلقي خلقه ،
وأراني موسى آدم طويلا سبط الشعر ، شبهته برجال أزد شنوءة ، وأراني عيسى ابن مريم
رَبْعة أبيض يضرب إلى الحمرة ، شبهته بعروة بن مسعود الثقفي ، وأراني الدجال ممسوح
العين اليمنى ، شبهته بقطن بن عبد العزى"
__________
(1) كذا ولم أجد فى النسخ إثباته ، وقد رواه أبو يعلى فى معجم شيوخه برقم (10) قال
: "حدثنا محمد بن إسماعيل الوساوسي ، حدثنا ضمرة بن ربيعة ، حدثنا يحيى بن
أبى عمرو السيباني ، عن أبى صالح مولى أم هانئ ، عن أم هانئ قالت : دخل عليّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم بغلس ، فجلس ، وأنا على فراشي ، فقال : "شعرت أنى بت
الليلة فى المسجد الحرام ، فأتاني جبريل ، فذهب بى إلى باب المسجد ، فإذا بدابة
أبيض ، فوق الحمار ، ودون البغل ، مضطرب الأذنين ، فركبت وكان يضع حافره مد بصره ،
إذا أخذني فى هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه ، وإذا أخذني في صعود طالت رجلاه وقصرت
يداه ، وجبريل لا يفوتني ، حتى انتهينا إلى بيت المقدس ، فأوثقته بالحلقة التى
كانت الأنبياء توثق بها ، فنشر لي رهط من الأنبياء ، منهم إبراهيم ، وموسى ، وعيسى
، فصليت بهم ، وكلمتهم ، وأتيت بإناءين أحمر وأبيض ، فشربت الأبيض ، فقال لي جبريل
: شربت اللبن ، وتركت الخمر ، لو شربت الخمر لارتدت أمتك. ثم ركبته ، فأتيت المسجد
الحرام وصليت به الغداة" قالت : فعلقت بردائه : أنشدك الله يا ابن عمى! أن
تحدث بهذا قريشا ، فيكذبك من صدقك. فضرب بيده على ردائه ، فانتزعه من يدى ، فارتفع
عن بطنه ، فنظرت إلى عكنه ، فوق إزاره كأنها طى القراطيس ، فإذا نور ساطع عند
فؤاده ، كاد يخطف بصري ، فخررت ساجدة ، فلما رفعت رأسي إذا هو قد خرج ، فقلت
لجاريتي نبعة : ويحك اتبعيه ، فانظرى ماذا يقول ، وماذا يقال له ؟ فلما رجعت نبعة
، أخبرتني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش ، فى الحطيم ،
فيهم المطعم بن عدي ، وعمرو بن هشام ، والوليد بن المغيرة ، فقال : "إنى صليت
الليلة العشاء فى هذا المسجد ، وصليت به الغداة ، وأتيت فيما دون ذلك بيت المقدس ،
فنشر لي رهط من الأنبياء منهم إبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وصليت بهم وكلمتهم".
فقال عمرو بن هشام كالمستهزئ به : صفهم لي ، فقال : "أما عيسى ، ففوق الربعة
، ودون الطول ، عريض الصدر ، ظاهر الدم ، جعد ، أشعر تعلوه صهبة ، كأنه عروة بن
مسعود الثقفي. وأما موسى ، فضخم آدم ، طوال ، كأنه من رجال شنوءة ، متراكب الأسنان
، مقلص الشفة ، خارج اللثة ، عابس. وأما إبراهيم فوالله إنه لأشبه الناس بي ، خلقا
، وخلقا". قال : فضجوا ، وأعظموا ذلك ، فقال المطعم بن عدي : كل أمرك كان قبل
اليوم ، كان أمما غير قولك اليوم ، أما أنا ، فأشهد أنك كاذب ، نحن نضرب أكباد
الإبل إلى بيت المقدس ، نصعد شهرا ، ونحدر شهرا ، تزعم أنك أتيته فى ليلة ، واللات
والعزى لا أصدقك ، وما كان الذى تقول قط. وكان للمطعم بن عدي حوض على زمزم أعطاه
إياه عبد المطلب ، فهدمه وأقسم باللات والعزى لا يسقى قطرة أبدا ، فقال أبو بكر :
يا مطعم ، بئس ما قلت لابن أخيك جبهته وكذبته ، أنا أشهد أنه صادق ، فقالوا : يا
محمد ، فصف لنا بيت المقدس ، قال : "دخلت ليلا وخرجت منه ليلا". فأتاه
جبريل بصورته فى جناحه ، فجعل يقول : "باب منه كذا ، فى موضوع كذا ، وباب منه
كذا ، فى موضع كذا" ، وأبو بكر يقول : صدقت ، قالت نبعة : فسمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ : "يا أبا بكر ، إنى قد سميتك (الصديق)".
قالوا : يا مطعم ، دعنا نسأله عما هو أغنى لنا من بيت المقدس. يا محمد ، أخبرنا عن
عيرنا ، فقال : "أتيت على عير بنى فلان بالروحاء ، قد أضلوا ناقة لهم ،
فانطلقوا فى طلبها ، فانتهيت إلى رحالهم ، ليس بها منهم أحد ، وإذا قدح ماء ، فشربت
منه ، فاسألوهم عن ذلك " قالوا : هذه والإله آية. "ثم انتهيت إلى عير
بنى فلان ، فنفرت منى الإبل ، وبرك منها جمل أحمر ، عليه جوالق محيط ببياض ، لا
أدرى أكسر البعير ، أم لا ، فاسألوهم عن ذلك" قالوا : هذه والإله آية
"ثم انتهيت إلى عير بنى فلان فى التنعيم ، يقدمها جمل أورق ، وها هى ذه يطلع
عليكم من الثنية". فقال الوليد بن المغيرة : ساحر ، فانطلقوا فنظروا ، فوجدوا
الأمر كما قال. فرموه بالسحر ، وقالوا : صدق الوليد بن المغيرة فيما قال ، فأنزل
الله عز وجل : "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة
في القرآن" (الإسراء : 60) قلت لأم هانئ : ما الشجرة الملعونة فى القرآن ؟
قالت : الذين خوفوا فلم يزدهم التخويف إلا طغيانا وكفرا".
(5/41)
قال
: "وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت". فأخذت بثوبه فقلت :
إني أذكرك (1) الله ، إنك تأتي قوما يكذبونك وينكرون مقالتك ، فأخاف أن يسطوا بك.
قالت : فضرب ثوبه من يدي ، ثم خرج إليهم فأتاهم وهم جلوس ، فأخبرهم ما أخبرني ،
فقام جبير بن مطعم فقال : يا محمد لو كنت شابا (2) كما كنت ، ما تكلمت بما تكلمت
به وأنت بين ظهرانينا. فقال رجل من القوم : يا محمد ، هل مررت بإبل لنا في مكان
كذا وكذا ؟ قال : "نعم ، والله قد وجدتهم أضلوا بعيرًا لهم فهم في
طلبه".
قال : فهل مررت بإبل لبني فلان ؟ قال : "نعم ، وجدتهم في مكان كذا وكذا ، وقد
انكسرت (3) لهم ناقة حمراء ، وعندهم قصعة من ماء ، فشربت ما فيها". قالوا :
فأخبرنا عدتها وما فيها من الرعاة [قال : "قد كنت عن عدتها مشغولا".
فنام فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة] (4) ثم أتى قريشا فقال لهم :
"سألتموني عن إبل بني فلان ، فهي كذا وكذا ، وفيها من الرعاة فلان وفلان ،
وسألتموني عن إبل بني فلان ، فهي كذا وكذا ، وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان
وفلان ، وهي مصبحتكم من الغداة (5) على الثنية". قال : فقعدوا (6) على الثنية
ينظرون أصدقهم ما قال ؟ فاستقبلوا الإبل فسألوهم : هل ضل لكم بعير ؟ قالوا : نعم.
فسألوا الآخر : هل انكسرت لكم ناقة حمراء ؟ قالوا : نعم. قالوا : فهل كان عندكم
قصعة ؟ قال : أبو بكر : أنا والله وضعتها فما شربها أحد ، ولا أهراقوه في الأرض.
فصدقه أبو بكر [رضي الله عنه] (7) وآمن به ، فسمي يومئذ الصديق (8).
فصل
وإذا (9) حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها ، يحصل مضمون
ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ، وأنه
مرة واحدة ، وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه ، أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه ،
فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء ، عليهم السلام. ومن جعل من الناس كل رواية
خالفت الأخرى مرة على حدة ، فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب ، وهرب إلى غير
مهرب ولم يحصل على مطلب.
وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه ، عليه السلام (10) أسري به مرة من مكة إلى بيت
المقدس فقط ، ومرة من مكة إلى السماء فقط ، ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء.
وفرح بهذا المسلك ، وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات. وهذا بعيد جدًا ، ولم
ينقل هذا عن أحد من السلف ، ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم
به أمته ، ولنقلته (11) الناس على التعدد والتكرر.
قال موسى بن عقبة ، عن الزهري : كان الإسراء قبل الهجرة بسنة. وكذا قال عروة. وقال
السدي : بستة عشر شهرًا.
والحق أنه ، عليه السلام (12) أسري به يقظة لا منامًا من مكة إلى بيت المقدس ،
راكبًا البراق ،
__________
(1) في ت : "أذكر".
(2) في ت ، ف : "أن لو كنت لك شابا".
(3) في ت : "وقد كسرت".
(4) زيادة من الخصائص الكبرى للسيوطي (1/439).
(5) في ف : "بالغداة".
(6) في ت ، ف : "فغدوا".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) المعجم الكبير (24/432) وعبد الأعلى بن أبي المساور كذاب.
(9) في ف : "فإذا".
(10) في ف : "بأنه صلى الله عليه وسلم".
(11) في ت : "ولتعلمه".
(12) في ف : "أنه صلى الله عليه وسلم".
(5/42)
فلما
انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ، ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد
ركعتين. ثم أتى المعراج (1) - وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها - فصعد فيه إلى السماء
الدنيا ، ثم إلى بقية السماوات السبع ، فتلقاه من كل سماء مقربوها ، وسلم عليه
الأنبياء [عليهم السلام] (2) الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم ، حتى مرّ
بموسى الكليم في السادسة ، وإبراهيم الخليل في السابعة ، ثم جاوز منزلتهما صلى
الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء ، حتى انتهى إلى مستوى يسمع (3) فيه
صريف الأقلام ، أي : أقلام القدر بما هو كائن ، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر
الله ، تعالى ، عظمة عظيمة ، من فراش من ذهب ، وألوان متعددة ، وغشيتها الملائكة ،
ورأى هنالك جبريل على صورته ، وله ستمائة جناح ، ورأى رفرفًا أخضر قد سد الأفق ،
ورأى البيت المعمور (4) وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندًا ظهره إليه ؛
لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبدون فيه ، ثم لا
يعودون إليه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة والنار ، وفرض الله [عز وجل] (5) عليه
هنالك الصلوات خمسين ، ثم خففها إلى خمس ؛ رحمة منه ولطفًا بعباده. وفي هذا اعتناء
عظيم بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس ، وهبط معه الأنبياء فصلى بهم
فيه لما حانت الصلاة ، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ. ومن الناس من يزعم أنه أمهم في
السماء. والذي تظاهرت به الروايات أنه بيت المقدس ، ولكن في بعضها أنه كان أول (6)
دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه ؛ لأنه لما مرّ بهم في منازلهم جعل يسأل
عنهم جبريل واحدًا واحدًا وهو يخبره بهم ، وهذا هو اللائق ؛ لأنه كان أولا مطلوبًا
إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله ، تعالى. ثم لما فرغ من الذي
أريد به ، اجتمع هو وإخوانه من النبيين [صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين]
(7) ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة ، وذلك عن إشارة جبريل عليه
السلام (8) له في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس ،
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما عرض الآنية عليه من اللبن والعسل ، أو اللبن والخمر ، أو اللبن والماء ، أو
الجميع - فقد ورد أنه في بيت المقدس ، وجاء أنه في السماء. ويحتمل أن يكون هاهنا
وهاهنا ؛ لأنه كالضيافة للقادم ، والله أعلم.
ثم اختلف الناس : هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام (9) وروحه ؟ أو بروحه فقط ؟
على قولين ، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا منامًا ، ولا
ينكر أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك منامًا ، ثم رآه بعده يقظة
؛ لأنه عليه السلام (10) كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ؛ والدليل على
هذا قوله [عز وجل] (11) { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } فالتسبيح إنما
يكون عند الأمور العظام ، ولو كان منامًا لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظمًا ،
ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه ، ولما ارتد جماعة ممن كان قد أسلم. وأيضًا فإن
العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ،
__________
(1) في ت ، ف : "بالمعراج".
(2) زيادة من ف.
(3) في ت : "سمع" ، وفي ف ، أ : "فسمع".
(4) في ت ، ف ، أ : "المعمور الذي".
(5) زيادة من ف.
(6) في ف ، أ : "كان في أول".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ت : "عليه الصلاة والسلام"
(9) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(10) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(11) زيادة من : ف ، أ.
(5/43)
وقد
قال [عز شأنه] (1) { أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا } وقد قال تعالى : { وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } [ الأسراء :
60 ] قال ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله
عليه وسلم [ليلة أسري به ، والشجرة الملعونة : شجرة الزقوم] (3) رواه البخاري.
وقال تعالى : { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [ النجم : 17 ] ، والبصر من
آلات الذات لا الروح. وأيضًا فإنه حمل على البراق ، وهو دابة بيضاء براقة لها
لمعان ، وإنما يكون هذا للبدن لا للروح ؛ لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب
(4) عليه ، والله أعلم.
وقال آخرون : بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده. قال محمد بن
إسحاق بن يسار في السيرة : حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ؛ أن معاوية
بن أبي سفيان [رضي الله عنهما] (5) كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : كانت رؤيا من الله صادقة.
وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول : ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، ولكن أسري بروحه.
قال ابن إسحاق : فلم ينكر ذلك من قولها ، لقول الحسن : إن هذه الآية نزلت { وَمَا
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } ولقول (6)
الله في الخبر عن إبراهيم : { إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } [ الصافات : 102 ] ، ثم مضى على ذلك. فعرفت أن الوحي
يأتي للأنبياء من الله أيقاظًا ونياما.
فكان (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "تنام عيناي ، وقلبي
يقظان" فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه ، وعاين فيه من الله ما عاين ، على أي
حالاته كان ، نائمًا أو يقظان ، كل ذلك حق وصدق. انتهى كلام ابن إسحاق (8).
وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع ، بأن هذا خلاف (9)
ظاهر سياق القرآن ، وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم (10) والله أعلم.
فائدة حسنة جليلة :
روى الحافظ أبو نُعَيم الأصبهاني في كتاب "دلائل النبوة" من طريق محمد
بن عمر الواقدي : حدثني مالك بن أبي الرجال ، عن عمرو بن عبد الله ، عن محمد بن
كعب القرظي ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دَحْية بن خليفة إلى قيصر -
فذكر وروده عليه وقدومه إليه. وفي السياق دلالة عظيمة على وُفُور عقل هرقل - ثم
استدعى من بالشام من التجار ، فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) في ف : "يركب".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "وكقول".
(7) في ف : "وكان".
(8) ذكره الطبري في تفسيره (15/13) بإسناده إلى ابن إسحاق.
(9) في ف : "اختلاف".
(10) تفسير الطبري (15/13 ، 14)
(5/44)
وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
وأصحابه
، فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم ، كما سيأتي بيانه ،
وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده. قال في هذا السياق عن أبي سفيان :
والله ما يمنعني أن أقول عليه قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة
يأخذها عليّ ، ولا يصدقني بشيء. قال : حتى ذكرت قوله ليلة أسري به قال : فقلت :
أيها الملك ، ألا أخبرك خبرًا تعرف أنه قد كذب ؟ قال : وما هو ؟ قال : قلت : إنه
يزعم لنا أنه خرج من أرضنا - أرض الحرم - في ليلة فجاء مسجدكم هذا - مسجد إيلياء ،
ورجع (1) إلينا تلك الليلة قبل الصباح. قال : وبَطْرِيقُ إيلياء عند رأس قيصر ،
فقال : بَطْرِيق إيلياء : قد علمت تلك الليلة ، قال : فنظر (2) قيصر ، وقال : وما
علمك بهذا ؟ قال : إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد ، فلما كان تلك
الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني ، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني
كلهم فعالجته فغلبني ، فلم نستطع أن نحركه ، كأنما نزاول به جبلا فدعوت إليه
النجاجرة ، فنظروا إليه فقالوا : إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا
نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى. قال : فرجعت وتركت البابين مفتوحين.
فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي في زاوية الباب (3) مثقوب ، وإذا فيه أثر
مربط الدابة قال : فقلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي ، وقد صلى
الليلة في مسجدنا. وذكر تمام الحديث (4).
فائدة :
قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دَحْيَة في كتابه "التنوير في مولد السراج
المنير" وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس ، وتكلم عليه فأجاد وأفاد - ثم قال
: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب ، وعلي [بن أبي طالب] (5)
وابن مسعود ، وأبي ذر ، ومالك بن صعصعة ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وابن عباس ،
وشداد بن أوس ، وأبي بن كعب ، وعبد الرحمن بن قُرْط ، وأبي حبة وأبي ليلى
الأنصاريين (6) ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وحذيفة ، وبريدة ، وأبي أيوب ، وأبي
أمامة ، وسمرة بن جُنْدُب ، وأبي الحمراء ، وصهيب الرومي ، وأم هانئ ، وعائشة
وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق ، رضي الله عنهم أجمعين. منهم من ساقه بطوله ، ومنهم
من اختصره على ما وقع في المسانيد ، وإن لم تكن (7) رواية بعضهم على شرط الصحة ،
فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون ، واعترض فيه الزنادقة الملحدون (8) {
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } [ الصف : 8 ].
{ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا
تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ
إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) }.
لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد ، صلوات الله وسلامه عليه (9) ، عطف بذكر موسى
عبده
__________
(1) في ف : "فرجع".
(2) في ف ، أ : "فنظر إليه".
(3) في ف ، هـ : "المسجد".
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (5/224) وعزاه لأبي نعيم في الدلائل ، ولم أجده
في المطبوع من الدلائل.
(5) زيادة من ف.
(6) في ت ، ف : "الأنصاري".
(7) في ف : "يكن".
(8) في ف : "والملحدون".
(9) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(5/45)
وكليمه
[عليه السلام] (1) أيضًا ، فإنه تعالى كثيرًا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما
السلام (2) وبين ذكر التوراة والقرآن ؛ ولهذا قال بعد ذكر الإسراء : { وَآتَيْنَا
مُوسَى الْكِتَابَ } يعني التوراة { وَجَعَلْنَاهُ } أي الكتاب { هُدًى } أي
هاديًا { لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا } أي لئلا تتخذوا { مِنْ دُونِي
وَكِيلا } أي وليًا ولا نصيرًا ولا معبودًا دوني ؛ لأن الله تعالى أنزل على كل نبي
أرسله (3) أن يعبده وحده لا شريك له.
ثم قال : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } تقديره : يا ذرية من حملنا مع
نوح. فيه تهييج وتنبيه على المنة ، أي : يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في
السفينة ، تشبهوا بأبيكم ، { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } فاذكروا أنتم نعمتي
عليكم بإرسالي إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن
السلف : أن نوحًا ، عليه السلام ، كان يحمد الله [تعالى] (4) على طعامه وشرابه
ولباسه وشأنه كله; فلهذا سمي عبدًا شكورًا.
قال : الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبي
حُصَين ، عن عبد الله بن سنان ، عن سعد بن مسعود الثقفي قال : إنما سمي نوح عبدًا
شكورًا ؛ لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله (5).
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو أسامة ، حدثنا زكريا بن أبي زائدة ، عن سعيد بن
أبي بُرْدَة ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله
عليها".
وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة ، به (6).
وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : كان يحمد الله على كل حال.
وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زُرْعَة ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (7) ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أنا سيد الناس يوم القيامة - بطوله ، وفيه -
: فيأتون نوحًا فيقولون : يا نوح ، أنت (8) أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك
الله عبدًا شكورًا ، اشفع لنا إلى ربك" وذكر الحديث بكماله (9).
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ت : "عليهما الصلاة والسلام". وفي ف ، أ : "عليهما من الله
الصلاة والسلام".
(3) في ت : "أرسل".
(4) زيادة من أ.
(5) المعجم الكبير (6/32).
(6) المسند (3/117) ، وصحيح مسلم برقم (2734) وسنن الترمذي برقم (1816) وسنن
النسائي الكبرى برقم (6899).
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف ، أ : "يانوح ، إنك أنت".
(9) صحيح البخاري برقم (4712).
(5/46)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) }
(5/47)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ
لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) }
يقول تعالى : إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ، أي : تقدم إليهم وأخبرهم في
الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون (1) علوًا كبيرًا ،
أي : يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كما قال تعالى : { وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ
ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] أي
: تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به.
وقوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } أي : أولى الإفسادتين { بَعَثْنَا
عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي : سلطنا عليكم جندًا من
خلقنا أولي بأس شديد ، أي : قوة وعدة وسلطة (2) شديدة { فَجَاسُوا خِلالَ
الدِّيَارِ } أي : تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم ، أي : بينها ووسطها ،
وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا { وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا }
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم : من هم ؟ فعن ابن
عباس وقتادة : أنه جالوت الجَزَريّ وجنوده ، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد
ذلك. وقتل داود جالوت ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ
عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ
نَفِيرًا }
وعن سعيد بن جبير : أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده. وعنه أيضًا ، وعن غيره : أنه
بختنصر ملك بابل.
وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال ، إلى أن ملك
البلاد ، وأنه كان فقيرًا مقعدًا ضعيفًا يستعطي الناس ويستطعمهم ، ثم آل به الحال
إلى ما آل ، وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس ، فقتل بها خلقًا كثيرًا من بني
إسرائيل.
وقد روى ابن جرير في هذا المكان حديثًا أسنده عن حذيفة مرفوعًا مطولا (3) وهو حديث
موضوع لا محالة ، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث! والعجب كل العجب
كيف راج عليه مع إمامته وجلالة قدره! وقد صرح شيخنا الحافظ العلامة أبو الحجاج
المزي ، رحمه الله ، بأنه موضوع مكذوب ، وكتب ذلك على حاشية الكتاب.
وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها ؛ لأن منها ما هو
موضوع ، من وضع [بعض] (4) زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحًا ، ونحن في
غُنْيَة عنها ، ولله الحمد. وفيما قص الله تعالى علينا في كتابه غنية عما سواه من
بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبر الله تعالى أنهم لما
بغوا وطغوا سلط الله عليهم عدوهم ، فاستباح بَيْضَتَهم ، وسلك خلال بيوتهم وأذلهم
وقهرهم ، جزاء وفاقًا ، وما ربك بظلام للعبيد ؛ فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا
من الأنبياء والعلماء.
__________
(1) في ف ، أ : "ولتعلن".
(2) في ف : "وسلطنة".
(3) تفسير الطبري (15/17)
(4) زيادة من ف ، أ.
(5/47)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
وقد
روى ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن
بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بُختنَصَّر على
الشام ، فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دمًا يغلي على كِبًا ،
فسألهم : ما هذا الدم ؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر.
قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفًا من المسلمين وغيرهم ، فسكن (1).
وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب ، وهذا هو المشهور ، وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم ،
حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة ، وأخذ معه خلقًا منهم أسرى من أبناء الأنبياء
وغيرهم ، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها. ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه ، لجاز
كتابته وروايته ، والله أعلم.
ثم قال تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ
فَلَهَا } أي : فعليها ، كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ].
وقوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } أي : المرة الآخرة (2) أي : إذا
أفسدتم المرة الثانية وجاء أعداؤكم { لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ } أي : يهينوكم
ويقهروكم { وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ } أي بيت المقدس { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ
مَرَّةٍ } أي : في التي جاسوا فيها خلال الديار { وَلِيُتَبِّرُوا } أي : يدمروا
ويخربوا { مَا عَلَوْا } أي : ما ظهروا عليه { تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ
يَرْحَمَكُمْ } أي : فيصرفهم عنكم { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } أي : متى عدتم إلى
الإفساد { عُدْنَا } إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من
العذاب والنكال ، ولهذا قال [تعالى] (3) { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ
حَصِيرًا } أي : مستقرًا ومحصرًا وسجنًا لا محيد لهم عنه.
قال ابن عباس [رضي الله عنهما] (4) : { حَصِيرًا } أي : سجنًا.
وقال مجاهد : يحصرون فيها. وكذا قال غيره.
وقال الحسن : فراش ومهاد.
وقال قتادة : قد عاد بنو إسرائيل ، فسلط الله عليهم هذا الحي ، محمد صلى الله عليه
وسلم وأصحابه ، يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
{ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا
كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا (10) }
يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن
، بأنه يهدي لأقوم الطرق ، وأوضح السبل { وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } به {
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ } على مقتضاه { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا
كَبِيرًا } أي : يوم القيامة.
{ وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } أي : ويبشر الذين لا يؤمنون
بالآخرة أن { لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي : يوم القيامة ، كما قال تعالى : {
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ].
__________
(1) تفسير الطبري (15/24).
(2) في ت : "الأخرى".
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5/48)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{
وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا
(11) }
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ، ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله {
بِالشَّرِّ } أي : بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك ، فلو استجاب له ربه
لهلك بدعائه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ
اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } [ يونس : 11 ] ،
وكذا فسره ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وقد تقدم في الحديث : "لا تدعوا على
أنفسكم ولا على أموالكم ، أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها".
وإنما يحمل ابن آدم على ذلك عجلته وقلقه ؛ ولهذا قال تعالى { وَكَانَ الإنْسَانُ
عَجُولا }
وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس - رضي الله عنهما - هاهنا قصة آدم ، عليه السلام
، حين همّ بالنهوض قائمًا قبل أن تصل الروح إلى رجليه ، وذلك أنه جاءته النفخة من
قبل رأسه ، فلما وصلت إلى دماغه عطس ، فقال : الحمد لله. فقال الله : يرحمك ربك يا
آدم. فلما وصلت إلى عينيه فتحهما ، فلما سرت إلى أعضائه وجسده جعل ينظر إليه
ويعجبه ، فهمّ بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطع (1) وقال : يا رب عجل (2)
قبل الليل.
{ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ
وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ
تَفْصِيلا (12) }
يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام ، فمنها مخالفته بين الليل والنهار ، ليسكنوا
في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصناعات (3) والأعمال والأسفار ، وليعلموا
عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام ، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون
والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك ؛ ولهذا قال : { لِتَبْتَغُوا فَضْلا
مِنْ رَبِّكُمْ } أي : في معايشكم (4) وأسفاركم ونحو ذلك { وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } فإنه لو كان الزمان كله نسقًا واحدًا وأسلوبًا متساويًا
لما عرف شيء من ذلك ، كما قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ
عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ
اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ
اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ
غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ
رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ القصص : 71 - 73 ] ،
وقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا
سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } [ الفرقان : 61
، 62 ] وقال تعالى : { وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [ المؤمنون : 80
] ، وقال : { يُكَوِّرُ (5) اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ
عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى
أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } [ الزمر : 5 ] ، وقال تعالى : { فَالِقُ
الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ الأنعام : 96 ] ، وقال
__________
(1) في ت : "قبل أن يستطيع".
(2) في ت ، ف : "اعجل".
(3) في ت ، ف ، أ : "والصنائع".
(4) في ت ، ف : "معاشكم".
(5) في ت : "ويكور" وهو خطأ.
(5/49)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
تعالى
: { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ
مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ
الْعَلِيمِ } [ يس : 37 ، 38 ].
ثم إنه تعالى جعل لليل آية ، أي : علامة يعرف بها (1) وهي الظلام وظهور القمر فيه
، وللنهار علامة ، وهي النور وظهور (2) الشمس النيرة فيه ، وفاوت بين ضياء القمر
وبرهان الشمس ليعرف هذا من هذا ، كما قال تعالى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ
ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ } إلى قوله : { لآيَاتٍ
(3) لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [ يونس : 5 ، 6 ] ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ
عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } الآية [ البقرة :
189 ].
قال ابن جُرَيْج ، عن عبد الله بن كثير في قوله : { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ
وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } قال : ظلمة الليل وسُدفة (4) النهار.
وقال ابن جريج عن مجاهد : الشمس آية النهار ، والقمر آية الليل { فَمَحَوْنَا
آيَةَ اللَّيْلِ } قال : السواد الذي في القمر ، وكذلك (5) خلقه الله تعالى.
وقال ابن جريج : قال ابن عباس : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس ، والقمر آية الليل
، والشمس آية النهار { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } السواد الذي في القمر.
وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة : أن ابن الكَوَّاء سأل [أمير
المؤمنين] (6) علي ابن أبي طالب فقال : يا أمير المؤمنين ، ما هذه اللطخة التي في
القمر ؟ فقال : ويحك أما تقرأ القرآن ؟ { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } فهذه
محوه.
وقال قتادة في قوله : { فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ } كنا نحدث أن (7) محو آية
الليل سواد القمر الذي فيه ، وجعلنا آية النهار مبصرة ، أي : منيرة ، خلق الشمس
أنور من القمر وأعظم.
وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ
} قال : ليلا ونهارًا ، كذلك خلقهما الله ، عز وجل (8).
{ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى
بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) }
يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم : { وَكُلَّ
إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } وطائره : هو ما طار عنه من عمله
، كما قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : من خير وشر ، يُلزم به ويجازى عليه {
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 5 ، 6 ] ، وقال تعالى : { عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ } [ ق : 17 ، 18 ] ،
__________
(1) في ت : "يعرفونها".
(2) في ت ، ف : "وطلوع".
(3) في ف ، أ : (إن في ذلك لآيات) وهو خطأ.
(4) في ت ، ف ، أ : "وسدف".
(5) في ف : "ولذلك".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ت : "ما نجد كان".
(8) في ف : "الله تعالى".
(5/50)
وقال
تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا
تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }
[ الانفطار : 10 - 14 ] ، قال : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
[الطور : 16] وقال : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ].
والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه ، قليله وكثيره ، ويكتب عليه ليلا ونهارًا ،
صباحًا ومساء.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن أبى الزبير ، عن جابر :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لَطَائر كل إنسان في عنقه".
قال ابن لهيعة : يعني الطيرة (1).
وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث ، غريب جدًا ، والله أعلم.
وقوله [تعالى] (2) { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ
مَنْشُورًا } أي : نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة ، إما بيمينه إن
كان سعيدًا ، أو بشماله إن كان شقيًا { مَنْشُورًا } أي : مفتوحًا يقرؤه هو وغيره
، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا
قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى
مَعَاذِيرَهُ } [ القيامة : 13 - 15 ] ، ولهذا قال تعالى : { اقْرَأْ كِتَابَكَ
كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } أي : إنك (3) تعلم أنك لم تظلم
ولم يكتب عليك غير ما عملت ؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك ، ولا ينسى أحد شيئًا مما
كان منه ، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي.
وقوله [تعالى] (4) { أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } إنما ذكر العنق ؛
لأنه عضو لا نظير له في (5) الجسد ، ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه ، كما قال
الشاعر : (6).
اذهب بها اذهب بها... طوقتها طوق الحمامة...
قال قتادة ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه (7) عن نبي الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال : "لا عَدْوَى ولا طيرَة وكل إنسان ألزمناه طائره في
عنقه". كذا رواه ابن جرير (8).
وقد رواه الإمام عبد بن حميد ، رحمه الله ، في مسنده متصلا فقال : حدثنا الحسن بن
موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر [رضي الله عنه] (9) قال : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "طير كل عبد في عنقه" (10).
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله ، حدثنا ابن لهيعة ،
حدثني يزيد : أن أبا الخير حدثه : أنه سمع عقبة بن عامر [رضي الله عنه] (11) يحدث
، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه ،
فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة : يا ربنا ، عبدك فلان ، قد حبسته ؟ فيقول الرب جل
جلاله : اختموا له على مثل عمله ، حتى يبرأ أو يموت" (12).
__________
(1) المسند (3/360) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/49) : "فيه ابن لهيعة وحديثه
حسن وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت ، ف : "أي أنت".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت ، أ : "من".
(6) هو أبو أحمد بن جحش ، والأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (1/500).
(7) في ف ، أ : "عنهما".
(8) تفسير الطبري (15/39).
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1053).
(11) زيادة من ف ، أ.
(12) المسند (4/146).
(5/51)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
إسناده
جيد قوي ، ولم يخرجوه.
وقال مَعْمَر ، عن قتادة : { أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } قال : عمله.
{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قال : نخرج ذلك العمل { كِتَابًا
يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } قال معمر : وتلا الحسن البصري { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ
الشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ ق : 17 ] يا ابن آدم ، بسطت لك صحيفتك (1) ووكل بك ملكان
كريمان ، أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما
الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل (2) ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا مت طويت
صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة كتابًا تلقاه منشورًا {
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } قد عدل - والله
(3) - عليك من جعلك حسيب نفسك.
هذا من حسن (4) كلام الحسن ، رحمه الله.
{ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ
عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولا (15) }
يخبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق واقتفى آثار النبوة ، فإنما يحصل عاقبة ذلك
الحميدة (5) لنفسه { وَمَنْ ضَلَّ } أي : عن الحق ، وزاغ عن سبيل الرشاد ، فإنما
يجني على نفسه ، وإنما يعود وبال ذلك عليه.
ثم قال : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } أي : لا يحمل أحد ذنب أحد ،
ولا يجني جانٍ إلا على نفسه ، كما قال تعالى : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى
حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } [ فاطر : 18 ].
ولا منافاة بين هذا وبين قوله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ
وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13] ، وقوله [تعالى] (6) { وَمِنْ
أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] ، فإن
الدعاة عليهم إثم ضلالهم في أنفسهم ، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن
ينقص من أوزار أولئك ، ولا يحملوا عنهم شيئًا. وهذا من عدل الله ورحمته بعباده.
وكذا قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } إخبار
عن عدله تعالى ، وأنه لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسول إليه ،
كما قال تعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا
مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ } [ الملك :
8 ، 9 ] ، وكذا قوله [تعالى] (7) : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ
زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ
كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الزمر : 71 ] ، وقال تعالى : {
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ
الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ }
[ فاطر : 37 ]
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "صحيفة".
(2) في ت ، ف ، أ : "فاملك".
(3) في ت ، ف ، أ : "الله".
(4) في ف : "أحسن".
(5) في ف : "الحمد".
(6) زيادة من ت.
(7) زيادة من ت.
(5/52)
إلى
غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدًا النار إلا بعد إرسال
الرسول إليه ، ومن ثم طعن جماعة من العلماء في اللفظة التي جاءت مقحمة في صحيح
البخاري عند قوله تعالى : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }
[ الأعراف : 56 ].
حدثنا عبيد الله بن سعد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن صالح بن كَيْسَان ، عن
الأعرج بإسناده إلى (1) أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"اختصمت الجنة والنار" فذكر الحديث إلى أن قال : "وأما الجنة فلا
يظلم الله من خلقه أحدًا ، وأنه ينشئ للنار خلقًا فيلقون فيها ، فتقول : هل من
مزيد ؟ (2) ثلاثا ، وذكر تمام الحديث (3).
فإن هذا إنما جاء في الجنة لأنها دار فضل ، وأما النار فإنها دار عدل ، لا يدخلها
أحد إلا بعد الإعذار إليه وقيام الحجة عليه. وقد تكلم جماعة من الحفاظ في هذه
اللفظة (4) وقالوا : لعله انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ
للبخاري من حديث عبد الرزاق (5) عن مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة قال : قال
النبي (6) صلى الله عليه وسلم : "تحاجت الجنة والنار" فذكر الحديث إلى
أن قال : "فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه ، فتقول : قط ، قط ،
فهنالك تمتلئ ويزوي (7) بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله من خلقه أحدًا ، وأما الجنة
فينشئ الله لها خلقًا" (8).
بقي هاهنا مسألة قد اختلف الأئمة (9) رحمهم الله تعالى ، فيها (10) قديمًا وحديثًا
وهي : الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار ، ماذا حكمهم ؟ وكذا المجنون
والأصم والشيخ الخرف ، ومن مات في الفَتْرة ولم تبلغه (11) الدعوة. وقد ورد في
شأنهم أحاديث أنا ذاكرها لك بعون الله [تعالى] (12) وتوفيقه ثم نذكر فصلا ملخصًا
من كلام الأئمة في ذلك ، والله (13) المستعان.
فالحديث الأول : عن الأسود بن سَريع :
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن
قتادة ، عن الأحنف بن قيس ، عن الأسود بن سريع [رضي الله عنه] (14) أن نبي الله
صلى الله عليه وسلم قال : "أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئًا
، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب ، قد (15) جاء
الإسلام وما أسمع شيئًا ، وأما الأحمق فيقول : رب ، قد جاء الإسلام والصبيان
يحذفوني (16) بالبعر ، وأما الهَرَمُ فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئًا
،
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "عن".
(2) في ت ، ف ، أ : "هل من مزيد ؟ ويلقون فيها فتقول : هل من مزيد".
(3) صحيح البخاري برقم (7449)
(4) في ت : "الفظلة" وهو خطأ.
(5) في ت : "وعبد الرزاق".
(6) في ف : "قال رسول الله".
(7) في ف : "وينزوي".
(8) صحيح البخاري برقم (4850) وصحيح مسلم برقم (2846).
(9) في أ : "العلماء".
(10) في ف : "اختلف العلماء فيها".
(11) في ت : "ومن لم تبلغه".
(12) زيادة من ت ، ف.
(13) في ت ، ف ، أ : "وبالله".
(14) زيادة من ف ، أ.
(15) في ف : "لقد".
(16) في ت : "يقذفوني".
(5/53)
وأما
الذي مات في الفترة فيقول : رب ، ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليُطِعنّه (1)
فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردًا
وسلامًا" (2).
وبالإسناد عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي رافع ، عن أبى هريرة ، مثل هذا الحديث غير
أنه قال في آخره : "من (3) دخلها كانت عليه بردًا وسلامًا ، ومن لم يدخلها
يسحب إليها" (4).
وكذا رواه إسحاق بن راهويه ، عن معاذ بن هشام ، ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد ،
من حديث حنبل (5) بن إسحاق ، عن علي بن عبد الله المديني ، به (6) وقال : هذا
إسناد صحيح ، وكذا رواه حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي رافع ، عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أربعة كلهم يدلي على الله
بحجة" فذكر نحوه (7).
ورواه ابن جرير ، من حديث مَعْمَر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، فذكره موقوفًا ، ثم
قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولا } (8).
وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة موقوفًا.
الحديث الثاني : عن أنس بن مالك :
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا الربيع ، عن يزيد بن أبان (9) قال : قلنا لأنس : يا
أبا حمزة ، ما تقول في أطفال المشركين ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "لم يكن لهم سيئات فيعذبوا (10) بها فيكونوا من أهل النار ، ولم يكن لهم
حسنات فيجازوا بها فيكونوا من ملوك أهل الجنة هم من خدم أهل الجنة" (11).
الحديث الثالث : عن أنس أيضًا :
قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ ، حدثنا جرير ، عن لَيْث ، عن عبد
الوارث ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يؤتى بأربعة يوم
القيامة : بالمولود ، والمعتوه ، ومن مات في الفَتْرَة ، والشيخ الفاني الهرم ،
كلهم يتكلم بحجته ، فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار : أبرز. ويقول لهم :
إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم ، وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه. قال :
فيقول من كتب عليه الشقاء : يا رب ، أنى ندخلها ومنها كنا نفر ؟ قال : ومن كتبت
عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعًا ، قال : فيقول الله تعالى : أنتم لرسلي أشد
تكذيبًا ومعصية ، فيدخل هؤلاء الجنة ، وهؤلاء النار".
__________
(1) في ت ، ف : "لتطيعنه".
(2) المسند (4/24) وقال الهيثمي في المجمع (7/216) : "رجاله رجال
الصحيح".
(3) في ف : "فمن".
(4) المسند (4/24) وقال الهيثمي في المجمع (7/216) : "رجاله رجال
الصحيح".
(5) في ف ، أ : "أحمد".
(6) الاعتقاد (ص169).
(7) رواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (404) من طريق الحسن بن موسى ، عن حماد بن
سلمة به.
(8) تفسير الطبري (15/41).
(9) في ف : "زيد هو أبان".
(10) في ت : "ليعذبوا".
(11) رواه أبو نعيم في الحلية (6/308) من طريق سفيان الثوري ، عن الربيع بن صبيح
به ، وضعفه الحافظ ابن حجر في الفتح (3/246) وله شواهد من حديث أبي سعيد الخدري ،
وسمرة بن جندب رضي الله عنهما. وكأن في متن الحديث نكاره لمخالفته ما ورد في
الصحيحين أولا ، ولأن الله وصف خدم أهل الجنة بالخلود فقال : (ويطوف عليهم ولدان
مخلدان) [الإنسان : 19] وسيأتي تضعيف الحافظ ابن كثير له ، والله تعالى أعلم.
(5/54)
وهكذا
رواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن يوسف بن موسى ، عن جرير بن عبد الحميد ، بإسناده
مثله (1).
الحديث الرابع : عن البراء بن عازب ، رضي الله عنه :
قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أيضًا : حدثنا قاسم بن أبي شيبة ، حدثنا عبد
الله.
- يعني ابن داود - عن عمر بن ذر ، عن يزيد بن أمية ، عن البراء قال : سُئل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين قال : "هم مع آبائهم". وسئل
عن أولاد المشركين فقال : "هم مع آبائهم". فقيل : يا رسول الله ، ما
يعملون ؟ قال : "الله أعلم بهم" (2).
ورواه عمر بن ذر ، عن يزيد بن أمية ، عن رجل ، عن البراء ، عن عائشة ، فذكره (3).
الحديث الخامس : عن ثوبان :
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم
بن سعيد الجوهري ، حدثنا ريحان بن سعيد ، حدثنا عباد بن منصور ، عن أيوب ، عن أبي
قِلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم عظَّم شأن
المسألة ، قال : "إذا كان يوم القيامة ، جاء أهل الجاهلية يحملون أوثانهم على
ظهورهم فيسألهم ربهم ، فيقولون : ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر ، ولو
أرسلت إلينا رسولا لكنا أطوع عبادك ، فيقول لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر
تطيعوني ؟ فيقولون : نعم ، فيأمرهم (4) أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها ، فينطلقون
حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظًا وزفيرًا ، فرجعوا إلى ربهم فيقولون : ربنا
أخرجنا - أو : أجرنا - منها ، فيقول لهم : ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني
؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم. فيقول : اعمدوا إليها ، فادخلوها.
فينطلقون حتى إذا رأوها فَرِقوا ورجعوا ، فقالوا : ربنا فَرِقنا منها ، ولا نستطيع
أن ندخلها فيقول : ادخلوها داخرين". فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم :
"لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردًا وسلامًا". ثم قال البزار : ومتن
هذا الحديث غير معروف إلا من هذا الوجه ، لم يروه عن أيوب إلا عباد ، ولا عن عباد
إلا ريحان بن سعيد (5).
قلت : وقد ذكره ابن حبان في ثقاته ، وقال يحيى بن معين والنسائي : لا بأس به ، ولم
يرضه أبو داود. وقال أبو حاتم : شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا يحتج به.
الحديث السادس : عن أبي سعيد - سعد بن مالك بن سنان الخدري :
قال الإمام محمد بن يحيى الذُّهَلي : حدثنا سعيد بن سليمان ، عن فضيل بن مرزوق ،
عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الهالك في
الفترة والمعتوه والمولود : يقول الهالك
__________
(1) مسند أبي يعلى (7/225) ومسند البزار برقم (2177) "كشف الأستار" وليث
بن أبي سليم ضعيف ، وعبد الوارث قال عنه البخاري : "منكر الحديث".
(2) وذكره المؤلف في جامع المسانيد والسنن (37/87) من مسند أبي يعلى ، ولم أقع
عليه في المطبوع من المسند.
(3) لم أقع على هذا الطريق ، ولعلي أستدركه فيما بعد - إن شاء الله. وروى الإمام
أحمد في مسنده (6/84) من طريق بهية عن عائشة نحوه.
(4) في ت : "فأمرهم".
(5) مسند البزار برقم (3433) "كشف الأستار".
(5/55)
في
الفترة : لم يأتني كتاب ، ويقول المعتوه : رب ، لم تجعل لي عقلا أعقل به خيرًا ولا
شرًا ، ويقول المولود : رب لم أدرك العقل فترفع (1) لهم نار فيقال لهم (2) :
ردوها" ، قال : فيردها من كان في علم الله سعيدًا لو أدرك العمل ، ويمسك عنها
من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل ، فيقول : إياي عصيتم ، فكيف لو أن رسلي
أتتكم ؟".
وكذا رواه البزار ، عن محمد بن عمر بن هَيَّاج الكوفي ، عن عبيد الله (3) بن موسى
، عن فضيل بن مرزوق ، به (4) ثم قال : لا يعرف من حديث أبي سعيد إلا من طريقه ، عن
عطية عنه ، وقال في آخره : "فيقول الله : إياي عصيتم فكيف برسلي بالغيب
؟"
الحديث السابع : عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه :
قال هشام بن عَمَّار ومحمد بن المبارك الصوري (5) حدثنا عمر بن واقد ، عن يونس بن
حلبس ، عن أبي إدريس (6) الخولاني ، عن معاذ بن جبل ، عن نبي الله صلى الله عليه
وسلم قال : "يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة ، وبالهالك
صغيرًا. فيقول الممسوخ : يا رب ، لو آتيتني عقلا ما كان (7) من آتيته عقلا بأسعد
مني - وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك - فيقول الرب عز وجل : إني آمركم
بأمر فتطيعوني ؟ فيقولون : نعم ، فيقول : اذهبوا فادخلوا النار - قال : ولو دخلوها
ما ضرّتهم - فتخرج عليهم قوابص ، فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شيء ،
فيرجعون سراعًا ، ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك ، فيقول الرب عزّ وجل : قبل أن
أخلقكم علمت ما أنتم عاملون ، وعلى علمي خلقتكم ، وإلى علمي تصيرون ، ضميهم ،
فتأخذهم النار" (8).
الحديث الثامن : عن أبي هريرة ، رضي الله عنه :
قد تقدم روايته مندرجة مع رواية الأسود بن سريع ، رضي الله عنه :
وفي الصحيحين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرَانه
ويُمَجِّسانه ، كما تنتج (9) البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء
؟" (10).
وفي رواية قالوا : يا رسول الله ، أفرأيت من يموت صغيرا ؟ قال : "الله أعلم
بما كانوا عاملين" (11).
وقال الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ، عن عطاء بن
قُرَّة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله
عليه وسلم - فيما أعلم ، شك موسى - قال :
__________
(1) في ف : "فرفع".
(2) في ت : "فيقول لهم".
(3) في ت : "عبد الله".
(4) مسند البزار برقم (2176) وقال الهيثمي في المجمع (7/216) "فيه عطية وهو
ضعيف".
(5) في ت : "الغوري".
(6) في ت : "عن أبي ذر".
(7) في ت : "ما مات".
(8) ورواه ابن عدي في الكامل (5/118) من طريق عبد الصمد بن عبد الله ، عن هشام بن
عمار ، عن عمرو بن واقد به. وقال بعد أن ساق أحاديث عمرو بن واقد عن يونس :
"كلها غير محفوظة إلا من رواية عمرو بن واقد عن يونس ، عن أبي إدريس ، عن
معاذ ابن جبل وهو من الشاميين ممن يكتب حديثه ولا يحتج به".
(9) في ت ، ف : "تولد".
(10) صحيح البخاري برقم (1385) وصحيح مسلم برقم (2658).
(11) الرواية في صحيح مسلم برقم (2658).
(5/56)
"ذراري
المسلمين في الجنة ، يكفلهم إبراهيم عليه السلام (1) " (2).
وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الله ،
عز وجل ، أنه قال : "إني خلقت عبادي حنفاء" (3) وفي رواية لغيره
"مسلمين".
الحديث التاسع : عن سمرة ، رضي الله عنه :
رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه "المستخرج على البخاري" من حديث
عوف الأعرابي ، عن أبي رجاء العطاردي ، عن سَمُرَة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "كل مولود يولد على الفطرة" فناداه الناس : يا
رسول الله ، وأولاد المشركين ؟ قال : "وأولاد المشركين" (4).
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا عقبة بن مكرم الضَّبِّي ، عن عيسى
بن شعيب ، عن عباد بن منصور ، عن أبي رَجَاء ، عن سمرة قال : سألنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال : "هم خدم أهل الجنة" (5).
الحديث العاشر : عن عم حسناء (6).
قال [الإمام] (7) أحمد : [حدثنا إسحاق ، يعني الأزرق] (8) ، أخبرنا رَوْح ، حدثنا
عوف ، عن حسناء (9) بنت معاوية من بني صريم قالت : حدثني عمي قال : قلت : يا رسول
الله ، من في الجنة ؟ قال : "النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود
في الجنة ، والوئيد في الجنة" (10).
فمن العلماء من ذهب إلى التوقف (11) فيهم لهذا الحديث ، ومنهم من جزم لهم بالجنة ،
لحديث سَمُرَة بن جندب في صحيح البخاري : أنه عليه الصلاة والسلام (12) قال في
جملة ذلك المنام ، حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان ، فقال له جبريل
: هذا إبراهيم ، عليه السلام ، وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين ، قالوا :
يا رسول الله ، وأولاد المشركين ؟. قال "نعم ، وأولاد المشركين" (13).
ومنهم من جزم لهم بالنار ، لقوله عليه السلام (14) : "هم مع آبائهم".
ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العَرَصَات ، فمن أطاع دخل الجنة
وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة ، ومن عصى دخل النار داخرًا ، وانكشف علم الله
فيه بسابق (15) الشقاوة.
__________
(1) في ت : "عليه الصلاة والسلام".
(2) المسند (2/326) وقال الهيثمي في المجمع (7/219) : "فيه عبد الرحمن بن
ثابت وثقه ابن المديني وجماعة ، وضعفه ابن معين وغيره ، وبقية رجاله ثقات".
(3) صحيح مسلم برقم (2865).
(4) أصله في صحيح البخاري برقم (7047) من طريق عوف به نحوه.
(5) المعجم الكبير (7/244) وقال الهيثمي في المجمع (7/219) : "وفيه عبادة بن
منصور وثقة يحيى القطان وفيه ضعف".
(6) في ت ، ف ، أ : "خنساء".
(7) زيادة من ت ، أ.
(8) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(9) في ت ، ف ، أ : "خنساء".
(10) المسند (5/58) وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (3/246) : "إسناده
حسن".
(11) في ت ، ف ، أ : "الوقف".
(12) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(13) صحيح البخاري برقم (7047).
(14) في ت : "عليه الصلاة والسلام" ، وفي ف ، أ : "صلى الله عليه
وسلم".
(15) في ت ، ف ، أ : "بتقدم".
(5/57)
وهذا
القول يجمع بين الأدلة كلها ، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد
بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ،
رحمه الله ، عن أهل السنة والجماعة ، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في
"كتاب الاعتقاد" وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ النقاد.
وقد ذكر الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمَري بعد ما تقدم من أحاديث الامتحان ، ثم
قال : وأحاديث هذا الباب ليست قوية ، ولا تقوم بها حجة وأهل العلم ينكرونها ؛ لأن
الآخرة دار جزاء وليست دار عمل ولا ابتلاء ، فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في
وسع المخلوقين ، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها ؟!
والجواب عما قال : أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح ، كما قد نص على ذلك غير
واحد من أئمة العلماء ، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو ضعيف يقوى (1) بالصحيح
والحسن. وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متعاضدة على هذا النمط ، أفادت الحجة عند
الناظر فيها ، وأما قوله : "إن الآخرة دار جزاء". فلا شك أنها دار جزاء
، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار ، كما حكاه الشيخ أبو
الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة ، من امتحان الأطفال ، وقد قال الله
تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ } [ ن : 42 ]
وقد ثبتت السنة في الصحاح (2) وغيرها : أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة ، وأما
المنافق فلا يستطيع ذلك ويعود ظهره طبقًا واحدًا كلما أراد السجود (3) خَرَّ لقفاه
(4).
وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجًا منها أن الله يأخذ عهوده
ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه ، ويتكرر ذلك مرارًا ، ويقول الله تعالى : يا ابن
آدم ، ما أغدرك! ثم يأذن له في دخول الجنة (5).
وأما قوله : "وكيف يكلفهم (6) دخول النار ، وليس ذلك في وسعهم ؟" فليس
هذا بمانع من صحة الحديث ، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط ،
وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف وأدق من الشعرة ، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم
، كالبرق ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل والركاب ، ومنهم الساعي ومنهم الماشي ، ومنهم
من يحبو حبوًا ، ومنهم المكدوش على وجهه في النار ، وليس ما ورد في أولئك بأعظم من
هذا بل هذا أطم وأعظم ، وأيضًا فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار ، وقد
أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار ، فإنه يكون
عليه بردًا وسلامًا ، فهذا نظير ذلك ، وأيضًا فإن الله تعالى [قد] (7) أمر بني
إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ، فقتل بعضهم بعضًا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة
سبعين ألفًا ، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم ، وذلك
عقوبة لهم على عبادتهم العجل ، وهذا أيضًا شاق على النفوس جدًا لا يتقاصر (8) عما
ورد في الحديث المذكور ، والله أعلم.
__________
(1) في ف ، أ : "يتقوى".
(2) في ت : "والصحاح".
(3) في ف : "سجودا".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (4919) من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.
(5) صحيح البخاري برقم (806) وصحيح مسلم برقم (182) من حديث أبي هريرة ، رضي الله
عنه.
(6) في ت ، ف : "كلفهم الله" ، وفي أ : "يكفهم الله النار".
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(8) في ف : "لا تتقاصر".
(5/58)
فصل
فإذا تقرر هذا ، فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال :
أحدها : أنهم في الجنة ، واحتجوا بحديث سَمُرَة أنه ، عليه السلام (1) رأى مع
إبراهيم أولاد المسلمين وأولاد المشركين وبما تقدم في (2) رواية أحمد عن حسناء (3)
عن عمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "والمولود في الجنة".
وهذا استدلال صحيح ، ولكن أحاديث الامتحان أخص منه. فمن علم الله [عز وجل] (4) منه
أنه يطيع جعل (5) روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا على الفطرة
، ومن علم منه أنه لا يجيب ، فأمره إلى الله تعالى ، ويوم القيامة يكون في النار
كما دلت عليه أحاديث الامتحان ، ونقله الأشعري عن أهل السنة [والجماعة] (6) ثم من
هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة من يجعلهم مستقلين فيها ، ومنهم من يجعلهم خدمًا
لهم ، كما جاء في حديث علي بن زيد ، عن أنس ، عند أبي داود الطيالسي (7) وهو ضعيف
، والله أعلم.
القول الثاني : أنهم مع آبائهم في النار ، واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن
حنبل عن أبي المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة (8) بن حبيب ، حدثني عبد الله بن أبى قيس
مولى غُطَيْف ، أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار فقالت : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "هم تبع لآبائهم". فقلت : يا رسول الله ، بلا عمل ؟
فقال : "الله أعلم بما كانوا عاملين" (9).
وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن حرب ، عن محمد بن زياد الألهاني ، سمعت عبد الله
بن أبي قيس سمعت ، عائشة تقول : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري
المؤمنين قال (10) : "هم من آبائهم". قلت : فذراري المشركين ؟ قال :
"هم مع آبائهم" قلت : بلا عمل ؟ قال : "الله أعلم بما كانوا
عاملين" (11).
ورواه [الإمام] (12) أحمد أيضا ، عن وكيع ، عن أبي عَقِيل يحيى بن المتوكل - وهو
متروك - عن مولاته بُهَيَّة عن عائشة ؛ أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
أطفال المشركين فقال : "إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار" (13).
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، عن محمد بن فضيل بن
(14) غزوان ، عن محمد بن عثمان ، عن زاذان عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سألت
خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا في الجاهلية فقال :
"هما في النار". قال : فلما رأى الكراهية في وجهها [قال] (15) لو رأيت
مكانهما لأبغضتهما". قالت : فولدي منك ؟ قال : [قال : "في الجنة".
قال : ثم قال رسول الله
__________
(1) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(2) في ت ، ف : "من".
(3) في ت ، ف ، أ : "خنساء".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ت ، ف ، أ : "جعل الله".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) سبق الحديث والكلام عليه عند هذه الآية.
(8) في ف : "حمزة".
(9) المسند (6/84).
(10) في ف ، أ : "فقال".
(11) سنن أبي داود برقم (4712).
(12) زيادة من ف ، أ.
(13) المسند (6/208).
(14) في ت : "عن".
(15) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5/59)
صلى
الله عليه وسلم] (1).
"إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار" ثم
قرأ : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ
[أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ] (2) } [ الطور : 21 ] (3).
وهذا حديث غريب ؛ فإن محمد بن عثمان هذا مجهول الحال ، وشيخه زاذان لم يدرك عليًا
، والله أعلم.
وروى أبو داود من حديث ابن أبي زائدة ، عن أبيه ، عن الشعبي قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "الوائدة والموءودة في النار". ثم قال الشعبي :
حدثني به علقمة ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود (4).
وقد رواه جماعة عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن علقمة ، عن سلمة بن قيس
الأشجعي قال : أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا : إن أمنا ماتت في
الجاهلية ، وكانت تقري الضيف وتصل الرحم ، وأنها وأدت أختًا لنا في الجاهلية لم
تبلغ الحنث. فقال : "الوائدة والموءودة في النار ، إلا أن تدرك الوائدة
الإسلام ، فتسلم". وهذا إسناد حسن (5).
والقول الثالث : التوقف فيهم ، واعتمدوا على قوله صلى الله عليه وسلم : "الله
أعلم بما كانوا عاملين". وهو في الصحيحين من حديث جعفر بن أبي إياس ، عن سعيد
بن جبير ، عن ابن عباس : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال
(6) : الله أعلم بما كانوا عاملين" (7) وكذلك هو في الصحيحين ، من حديث
الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، وعن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم : أنه سئل عن أطفال المشركين ، فقال : "الله أعلم بما كانوا
عاملين" (8).
ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف. وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل
الجنة ؛ لأن الأعراف ليس دار قرار ، ومآل أهلها إلى الجنة كما تقدم تقرير ذلك في
"سورة الأعراف" ، والله أعلم.
فصل
وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين ، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين
العلماء كما حكاه القاضي أبو يعلى بن الفرّاء الحنبلي ، عن الإمام أحمد أنه قال :
لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة. وهذا هو المشهور بين الناس ، وهو الذي نقطع (9)
به إن شاء الله ، عز وجل. فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر ، عن بعض
العلماء : أنهم توقفوا في ذلك ، وأن الولدان كلهم تحت شيئة (10) الله ، عز وجل
(11). قال أبو عمر : ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل الفقه والحديث
__________
(1) زيادة من ف ، أ
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زوائد المسند (1/134).
(4) سنن أبي داود برقم (4717).
(5) أخرجه أحمد في مسنده (3/478) من طريق ابن أبي عدي ، عن داود بن أبي هند به.
(6) في ت ، ف : "فقال".
(7) صحيح البخاري برقم (1383) وصحيح مسلم برقم (2660).
(8) صحيح البخاري برقم (1384) وصحيح مسلم برقم (2659)
(9) في ف : "يقطع".
(10) في ت ، ف ، أ : "مشيئة".
(11) في أ : "تعالى".
(5/60)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
منهم
: حماد بن زيد ، وحماد بن سلمة ، وابن المبارك ، وإسحاق بن راهويه وغيرهم قالوا :
وهو يشبه ما رسم مالك في موطئه في أبواب القدر ، وما أورده من الأحاديث في ذلك ،
وعلى ذلك أكثر أصحابه. وليس عن مالك فيه شيء منصوص ، إلا أن المتأخرين من أصحابه
ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة في المشيئة (1) انتهى
كلامه وهو غريب جدًا.
وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب "التذكرة" (2) نحو ذلك أيضًا ،
والله أعلم.
وقد ذكروا في ذلك حديث عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : دعي النبي
(3) صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله ، طوبى له
عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه ، فقال : "أو غير ذلك يا
عائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق
لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم". رواه أحمد مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه
(4).
ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة ، وقد يتكلم فيها من
لا علم عنده عن الشارع ، كره جماعة من العلماء الكلام فيها ، روي ذلك عن ابن عباس
، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، ومحمد بن الحنفية وغيرهم. وأخرج ابن حبان
في صحيحه ، عن جرير بن حازم سمعت أبا رجاء العُطَاردي ، سمعت ابن عباس وهو على
المنبر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يزال أمر هذه الأمة مواتيًا
- أو مقاربًا - ما لم يتكلموا في الوِلْدان والقَدَر".
قال ابن حبان : يعني أطفال المشركين.
وهكذا رواه أبو بكر البزار من طريق جرير بن حازم ، به (5). ثم قال : وقد رواه
جماعة عن أبي رجاء ، عن ابن عباس موقوفًا.
{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا
فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) }
اختلف القراء في قراءة قوله : { أَمَرْنَا } فالمشهور قراءة التخفيف ، واختلف
المفسرون في معناها ، فقيل : معناها أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمرًا قدريًا ،
كقوله تعالى : { أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا } [ يونس : 24 ] ، فإن
الله لا يأمر بالفحشاء ، قالوا : معناه : أنه سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا
العذاب.
وقيل : معناه : أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة. رواه ابن جريج
(6) عن ابن عباس ، وقاله سعيد بن جبير أيضًا.
__________
(1) في ف : "وأطفال الكفار تحت المشيئة".
(2) التذكرة : (ص511 - 517)
(3) في ف ، أ : "رسول الله".
(4) المسند (6/41) وصحيح مسلم برقم (2662) وسنن أبي داود برقم (4713) وسنن النسائي
(4/57) وسنن ابن ماجة برقم (82).
(5) صحيح ابن حبان برقم (1824) "موارد" ، ومسند البزار برقم (2180)
"كشف الأستار".
(6) في أ : "ابن جرير".
(5/61)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
وقال
ابن جرير : وقد يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء.
قلت : إنما يجيء هذا (1) على قراءة من قرأ "أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا"
قال علي بن طلحة ، عن ابن عباس قوله : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا
} يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم (2) بالعذاب ، وهو
قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا
لِيَمْكُرُوا فِيهَا } [ الأنعام : 123 ] ، وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع
بن أنس.
وقال العَوْفِي عن ابن عباس : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا } يقول : أكثرنا عددهم ، وكذا قال عكرمة
، والحسن ، والضحاك ، وقتادة ، وعن مالك عن الزهري : { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } :
أكثرنا.
وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا روح بن عبادة ،
حدثنا أبو نعامة العدوي ، عن مسلم بن بُدَيْل ، عن إياس بن زهير ، عن سُوَيْد بن
هُبَيْرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة
مأبورة".
قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله ، في كتابه "الغريب" :
المأمورة : كثيرة النسل. والسّكة : الطريقة المصطفة من النخل ، والمأبورة : من
التأبير ، وقال بعضهم : إنما جاء هذا متناسبًا كقوله : "مأزورات غير
مأجورات" (3).
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ
بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) }
يقول تعالى منذرًا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد
أهلك أممًا من المكذبين للرسل من بعد نوح ، ودل هذا على (4) أن القرون التي كانت
بين آدم ونوح على الإسلام ، كما قاله (5) ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة (6)
قرون كلهم على الإسلام.
ومعناه : أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم ، وقد كذبتم أشرف الرسل
وأكرم الخلائق ، فعقوبتكم أولى وأحرى.
وقوله [تعالى] (7) { وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا }
أي : هو عالم بجميع أعمالهم ، خيرها وشرها ، لا يخفى عليه منها خافية [سبحانه
وتعالى] (8).
__________
(1) في ت ، ف : "هذا إنما يجيء".
(2) في أ : "أهلكناهم".
(3) ذكره الزيلعي في تخريج الكشاف (2/262) وزاد : "لأنه من التأبيد وهو ما
يصلح النخل من سقي وغيره".
(4) في ت : "ودل على هذا".
(5) في ت : "كما قال".
(6) في ت ، ف : "عشر".
(7) زيادة من ت.
(8) زيادة من ف ، أ.
(5/62)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
{
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ
نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ
كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) }.
يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له ، بل إنما يحصل
لمن أراد الله
(5/62)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
ما
يشاء.
وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات (1) فإنه قال : { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا
مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا } أي : في
الآخرة { يَصْلاهَا } أي : يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه { مَذْمُومًا } أي :
في حال كونه مذمومًا على سوء تصرفه وصنيعه (2) إذ اختار الفاني على الباقي {
مَدْحُورًا } : مبعدًا مقصيًا حقيرًا ذليلا مهانًا.
قال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا ذويد (3) ، عن أبي إسحاق ، عن زُرْعَة ، عن
عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الدنيا
دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له" (4).
وقوله : { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ } أي : أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم
والسرور { وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا } أي : طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول {
وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي : وقلبه مؤمن ، أي : مصدق بالثواب والجزاء { فَأُولَئِكَ
كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا }
{ كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ
رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ
وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا (21) }
[يقول تعالى : { كُلا } أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا
الآخرة ، نمدهم فيما هم فيه { مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ } أي : هو المتصرف الحاكم الذي
لا يجور ، فيعطي كلا ما يستحقه من الشقاوة والسعادة ولا راد لحكمه ولا مانع لما
أعطى ، ولا مغير لما أراد ؛ ولهذا قال : { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا
} أي : ممنوعا ، أي : لا يمنعه أحد ولا يرده راد.
قال قتادة : { وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } أي : منقوصًا.
وقال الحسن وابن جريج وابن زيد : ممنوعًا.
ثم قال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } في الدنيا
، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك ، والحسن والقبيح وبين ذلك ، ومن يموت صغيرًا ،
ومن يعمر حتى يبقى شيخًا كبيرًا ، وبين ذلك { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ
وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } أي : ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا ؛ فإن منهم
من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها ، ومنهم من يكون في الدرجات العُلَى
ونعيمها وسرورها ، ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه ، كما أن أهل الدرجات
يتفاوتون ، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي
الصحيحين : "إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين ، كما ترون الكوكب الغابر
في أفق السماء" (5) ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ
وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } ] (6).
__________
(1) في ت : "الإيمان".
(2) في ت : "وصنعه".
(3) في ت ، ف : "حسين بن دويل".
(4) المسند (6/71) وقال الهيثمي في المجمع (10/288) : "رجاله رجال الصحيح غير
دويد وهو ثقة".
(5) تقدم تخريجه عند تفسير الآية : 69 من سورة النساء من حديث أبي سعيد ، رضي الله
عنه ، وفي لفظه اختلاف عن هذا اللفظ. ورواه بهذا اللفظ الحميدي في مسنده برقم
(775) من حديث أبي سعيد ، رضي الله عنه.
(6) زيادة من ف ، أ.
(5/63)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
{ لا
تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا (22) }
يقول تعالى : والمراد المكلفون من الأمة ، لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له
شريكًا { فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا } على إشراكك (1) { مَخْذُولا } لأن الرب تعالى لا
ينصرك ، بل يكلك إلى الذي عبدت معه ، وهو لا يملك لك (2) ضرًا ولا نفعًا ؛ لأن
مالك الضر والنفع (3) هو الله وحده لا شريك له. وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا بشير بن سلمان ، عن سَيَّار أبي الحكم ، عن طارق
بن شهاب ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن أنزلها بالله أوشك الله
له بالغنى ، إما أجَلٌ [عاجل] (4) وإما غنى عاجل".
ورواه أبو داود ، والترمذي من حديث بشير بن سلمان ، به (5) ، وقال الترمذي : حسن
صحيح غريب.
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا
رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) }
يقول تعالى آمرًا بعبادته وحده لا شريك له ؛ فإن القضاء هاهنا بمعنى الأمر.
قال مجاهد : { وَقَضَى } يعني : وصى ، وكذا قرأ أبيّ بن كعب ، وعبد الله بن مسعود
، والضحاك بن مزاحم : "ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه" ولهذا قرن بعبادته
بر الوالدين فقال : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : وأمر بالوالدين
إحسانًا ، كما قال في الآية الأخرى : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ
الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ].
وقوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا
تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } أي : لا تسمعهما قولا سيئًا ، حتى ولا التأفيف الذي هو
أدنى مراتب القول السيئ { وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي : ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح
، كما قال عطاء بن أبي رباح في قوله : { وَلا تَنْهَرْهُمَا } أي : لا تنفض (6)
يدك على والديك.
ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح ، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال :
{ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا } أي : لينًا طيبًا حسنًا بتأدب وتوقير وتعظيم.
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي : تواضع لهما بفعلك {
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أي : في كبرهما وعند وفاتهما { كَمَا رَبَّيَانِي
صَغِيرًا }
__________
(1) في ف : "شركك".
(2) في ت : "له".
(3) في ف : "النفع واالضر".
(4) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5) سنن أبي داود برقم (1645) وسنن الترمذي برقم (2326).
(6) في ف : "ولا تنفض".
(5/64)
قال
ابن عباس : ثم أنزل الله [تعالى] (1) : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [
التوبة : 113 ].
وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة ، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال : "آمين آمين آمين"
: فقالوا : يا رسول الله ، علام أمنت ؟ قال : "أتاني جبريل فقال : يا محمد
رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك ، فقل : آمين. فقلت : آمين. ثم قال : رغم أنف
امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له ، قل : آمين. فقلت آمين. ثم قال : رغم
أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، قل : آمين. فقلت : آمين"
(2).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا علي بن زيد ، أخبرنا زُرَارَة
بن أَوْفَى ، عن مالك بن الحارث - رجل منهم - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
يقول : "من ضَمَّ يتيمًا بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه ،
وجبت له الجنة البتة ، ومن أعتق امرأ (3) مسلمًا كان فَكَاكه من النار ، يجزى بكل
عضو منه عضوًا منه".
ثم قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت علي بن زيد - فذكر معناه ، إلا
أنه قال : عن رجل من قومه يقال له : مالك أو ابن مالك ، وزاد : "ومن أدرك
والديه أو أحدهما فدخل النار ، فأبعده الله" (4).
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا علي بن
زيد ، عن زرارة بن أوفى (5) عن مالك بن عمرو القشيري : سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول : "من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار ، مكان كل عَظْم من
عظامه مُحَرّره بعظم من عظامه ، ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز
وجل ، ومن ضم يتيمًا بين (6) أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله ، وجبت
له الجنة" (7).
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا حدثنا شعبة ، عن
قتادة سمعت زرارة بن أوفى (8) يحدث عن أبي بن مالك القشيري قال : قال النبي صلى
الله عليه وسلم : "من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك ،
فأبعده الله وأسحقه".
ورواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة به (9) وفيه زيادات أخر.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) رواه البزار في مسنده برقم (3168) "كشف الأستار" من طريق جعفر بن
عون ، عن سلمة بن وردان ، عن أنس ، رضي الله عنه ، وقال : وسلمة صالح وله أحاديث
يستوحش منها ولا نعلم روى أحاديث بهذه الألفاظ غيره. وجاء من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه ، أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2551) وسيأتي. ومن حديث كعب بن عجرة رضي
الله عنه ، رواه الحاكم في المستدرك (4/153). ومن حديث عمار بن ياسر وجابر بن سمرة
وابن مسعود وعبد الله بن الحارث رواها البزار في مسنده برقم (3164 - 3167).
(3) في ت : "رجلا".
(4) المسند (4/344).
(5) في ت : "زراة بن أبي أوفى".
(6) في ف ، أ : "من".
(7) المسند (4/344).
(8) في ت : "زرارة بن أبي أوفى".
(9) المسند (4/344).
(5/65)
حديث
آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا سهيل (1) بن أبي
صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: "رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عند
الكبر ولم يدخل الجنة".
صحيح من هذا الوجه ، ولم يخرجه سوى مسلم ، من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن
بلال ، عن سهيل ، به (2).
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا رِبعيّ بن إبراهيم - قال أحمد : وهو أخو
إسماعيل بن عُلَيَّة ، وكان يفضل على أخيه - عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن
أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رغم أنف
رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ ! ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ، فانسلخ قبل يغفر
له! ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه (3) الكبر فلم يدخلاه الجنة" قال ربعي : لا
أعلمه (4) إلا قال : "أحدهما".
ورواه الترمذي ، عن أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي ، عن ربعي بن إبراهيم ، ثم قال :
غريب من هذا الوجه (5).
حديث آخر : وقال (6) الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا عبد الرحمن بن
الغَسِيل ، حدثنا أسيد بن علي ، عن أبيه ، علي بن عبيد ، عن أبي أسيد وهو مالك بن
ربيعة الساعدي ، قال : بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه
رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، هل بقي عليّ من برّ أبويّ شيء بعد موتهما
أبرهما به ؟ قال : "نعم ، خصال أربع : الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ،
وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما ، فهو
الذي بقي عليك بعد موتهما من برهما" (7).
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن سليمان - وهو ابن الغسيل - به
(8).
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني محمد بن طلحة
بن عبد الله (9) بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن معاوية بن جاهمة السلمي ؛ أن جاهمة
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أردت الغزو ، وجئتك
أستشيرك ؟ فقال : "فهل لك من أم ؟" قال (10).
نعم. فقال : "الزمها. فإن الجنة عند رجليها (11) ثم الثانية ، ثم الثالثة في
مقاعد شتى ، كمثل هذا القول.
ورواه النسائي وابن ماجه ، من حديث ابن جريج ، به (12).
__________
(1) في ت : "إسماعيل".
(2) المسند (2/364) وصحيحح مسلم برقم (2551)
(3) في ت : "أدرك أبواه عنده".
(4) في ف : "ولا علم".
(5) المسند (2/254) وسنن الترمذي برقم (3545).
(6) في ت : "قال".
(7) في ف : "من برهما بعد موتهما".
(8) المسند (3/497) وسنن أبي داود برقم (5142) وسنن ابن ماجة برقم (3664).
(9) في أ : "عبيد الله".
(10) في ت ، ف : "فقال".
(11) في ف : "عند رجلها".
(12) المسند (3/429) وسنن النسائي (6/11) وسنن ابن ماجة برقم (2781).
(5/66)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
حديث
آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش ، عن بَحِير بن سعد
، عن خالد بن معدان ، عن المقدام بن معد يكرب (1) الكندي ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "إن الله يوصيكم بآبائكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله
يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب".
وقد أخرجه ابن ماجه ، من حديث [عبد الله] (2) بن عياش ، به (3).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن الأشعث بن سليم
، عن أبيه ، عن رجل من بني يربوع قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو
يكلم الناس يقول : "يد المعطي [العليا] (4) أمك وأباك وأختك وأخاك ، ثم أدناك
أدناك" (5).
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده :
حدثنا إبراهيم ابن المستمر العُرُوقي ، حدثنا عمرو بن سفيان ، حدثنا الحسن بن أبي
جعفر ، عن ليث بن أبي سليم ، عن علقمة بن مرثد (6) عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه
؛ أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : هل
(7) أديت حقها ؟ قال : "لا ولا بزفرة واحدة" أو كما قال. ثم قال البزار
: لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه (8).
قلت : والحسن بن أبي جعفر ضعيف ، والله أعلم.
{ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ
كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا (25) }
قال سعيد بن جبير : هو الرجل تكون (9) منه البادرة إلى أبويه ، وفي نيته وقلبه أنه
لا يؤخذ به - وفي رواية : لا يريد إلا الخير بذلك - فقال : { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ }
وقوله [تعالى] (10) : { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا } قال قتادة :
للمطيعين أهل الصلاة.
وعن ابن عباس : المسبحين. وفي رواية عنه : المطيعين المحسنين.
وقال بعضهم : هم الذين يصلون بين العشاءين. وقال بعضهم : هم الذين يصلون الضحى
(11).
وقال شعبة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في قوله : { [فَإِنَّهُ] (12)
كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا } قال : الذي يصيب الذنب ثم يتوب ، ويصيب الذنب ثم
يتوب.
وكذا رواه عبد الرزاق ، عن الثوري ومعمر ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن المسيب نحوه ،
وكذا رواه الليث وابن جريج ، عن يحيى بن سعيد ، عن ابن] (13) المسيب ، به وكذا قال
عطاء بن يسار.
__________
(1) في ت ، ف : "معدى كرب".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) المسند (4/132) وسنن ابن ماجة برقم (3661).
(4) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5) المسند (4/64).
(6) في ف ، أ : "يزيد".
(7) في ت : "فسأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : هل".
(8) مسند البزار برقم (1872)"كشف الأستار" ووقع فيه : "ولا
بركزة" وفي مجمع الزوائد : "ولا بركة".
(9) في ت ، ف : "يكون".
(10) زيادة من ت.
(11) في ت : "الصبح".
(12) في ت ، ف : "إنه" وهو خطأ.
(13) زيادة من ف.
(5/67)
وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
وقال
مجاهد ، وسعيد بن جبير : هم الراجعون إلى الخير.
وقال مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله : { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا }
قال : هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها. ووافقه على ذلك مجاهد
(1).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن عبيد بن عمير ، في
قوله : { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُورًا } قال : كنا نعد الأواب الحفيظ ،
أن يقول : اللهم اغفر لي ما أصبت (2) في مجلسي هذا (3).
وقال ابن جرير : والأولى في ذلك قول من قال : هو التائب من الذنب ، الراجع عن
المعصية إلى الطاعة ، مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه (4).
وهذا الذي قاله هو الصواب ؛ لأن الأواب مشتق من الأوب وهو الرجوع ، يقال : آب فلان
إذا رجع ، قال الله تعالى : { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ } [ الغاشية : 25 ] ،
وفي الحديث الصحيح ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر قال (5)
: آيبون تائبون عابدون ، لربنا حامدون" (6).
{ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ
تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ
الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) }.
__________
(1) في ف : "ووافقه مجاهد في ذلك".
(2) في ت : "ما أحببت".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/320).
(4) تفسير الطبري (15/52).
(5) في ف ، أ : "يقول".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (1797) من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما
(5/68)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
{
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا
فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا (28) }
لما ذكر تعالى بر الوالدين ، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام ، كما
تقدم في الحديث : "أمك وأباك ، ثم أدناك أدناك" وفي رواية : "ثم
الأقرب فالأقرب".
وفي الحديث : "من أحب أن يبسط له رزقه (1) وينسأ له في أجله ، فليصل
رحمه" (2).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن يعقوب ، حدثنا أبو يحيى التيمي (3)
حدثنا فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال لما نزلت ، هذه الآية { وَآتِ
ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها
"فدك". ثم قال : لا نعلم حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التيمي
(4) وحميد بن حماد بن أبي الخوار (5) (6).
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "له في رزقه".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5986) ومسلم في صحيحه برقم (2557).
(3) في ت : أبو نجي التمي" ، وفي ف : "التميمي".
(4) في ت : "أبو نجي التميمي".
(5) في ت ، ف ، أ : "الجوزاء".
(6) مسند البزار برقم (2223) "كشف الأستار" وعطية العوفي متروك.
(5/68)
وهذا
الحديث مشكل لو صح إسناده ؛ لأن الآية مكية ، وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من
الهجرة فكيف يلتئم هذا مع هذا ؟!
وقد تقدم الكلام على المساكين وابن السبيل في "سورة براءة" بما أغنى عن
إعادته هاهنا.
قوله [تعالى] (1) { وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } لما أمر بالإنفاق نهى عن الإسراف
فيه ، بل يكون وسطًا ، كما قال في الآية الأخرى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا
لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [ الفرقان :
67 ].
ثم قال : منفرًا عن التبذير والسرف : { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ
الشَّيَاطِينِ } أي : أشباههم في ذلك.
وقال ابن مسعود : التبذير : الإنفاق في غير حق. وكذا قال ابن عباس.
وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في الحق ، لم يكن مبذرًا ، ولو أنفق مدًا في
غير حقه كان تبذيرًا.
وقال قتادة : التبذير : النفقة (2) في معصية الله تعالى ، وفي غير الحق وفي
الفساد.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا لَيْث ، عن خالد بن يزيد ، عن
سعيد بن أبى هلال ، عن أنس بن مالك أنه قال : أتى رجل من بني تميم إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني ذو مال كثير ، وذو أهل وولد وحاضرة
، فأخبرني كيف أنفق وكيف أصنع ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تخرج
الزكاة من مالك ، فإنها طهرة تطهرك ، وتصل أقرباءك ، وتعرف حق السائل والجار
والمسكين (3) ". فقال : يا رسول الله ، أقلل (4) لي ؟ فقال : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى
حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } فقال :
(5) : حسبي يا رسول الله ، إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى
رسوله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم ، إذا أديتها إلى رسولي
فقد برئت منها ، فلك أجرها ، وإثمها على من بدلها" (6).
وقوله [تعالى] (7) { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } أي
: في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته ؛ ولهذا قال : { وَكَانَ
الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } أي : جحودًا ؛ لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم
يعمل بطاعته ؛ بل أقبل على معصيته ومخالفته.
وقوله [تعالى] (8) { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ
رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا } أي : وإذا سألك أقاربك ومن
أمرنا بإعطائهم وليس عندك شيء ، وأعرضت عنهم لفقد النفقة { فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا
مَيْسُورًا } أي : عدهم وعدًا بسهولة ، ولين إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله
، هكذا فسر قوله { فَقُلْ لَهُمْ قَوْلا مَيْسُورًا } بالوعد : مجاهد ، وعكرمة ،
وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة وغير واحد.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ف ، أ : "الإنفاق".
(3) في ت : "حق المسكين السائل والجار والمسكين".
(4) في ت : "أتلك".
(5) في ف : "قال"
(6) المسند (3/136).
(7) زيادة من ت
(8) زيادة من ت
(5/69)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
{
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ
الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) }.
يقول تعالى آمرًا بالاقتصاد في العيش ذامّا للبخل ناهيًا عن السَّرَف : { وَلا
تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } أي : لا تكن بخيلا منوعًا ، لا تعطي
أحدًا شيئًا ، كما قالت اليهود عليهم لعائن الله : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [
المائدة : 64 ] أي نسبوه إلى البخل ، تعالى وتقدس الكريم الوهاب.
وقوله : { وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } أي : ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق
طاقتك ، وتخرج أكثر من دخلك ، فتقعد ملومًا محسورًا.
وهذا من باب اللف والنشر أي : فتقعد إن بخلت ملومًا ، يلومك الناس ويذمونك
ويستغنون عنك كما قال زهير بن أبي سُلمى في المعلقة :
ومن كان ذا مال ويبخل بماله... على قومه يستغن عنه ويذمم (1)
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك ، قعدت بلا شيء تنفقه ، فتكون كالحسير ، وهو : الدابة
التي قد عجزت عن السير ، فوقفت ضعفًا وعجزًا (2) فإنها تسمى الحسير ، وهو مأخوذ من
الكلال ، كما قال تعالى : { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ
ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ
حَسِيرٌ } [ الملك : 3 ، 4 ] أي : كليل عن أن يرى عيبًا. هكذا فسر هذه الآية - بأن
المراد هنا البخل والسرف - ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم.
وقد جاء في الصحيحين ، من حديث أبي الزِّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ؛ أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "مثل البخيل والمنفق ، كمثل رجلين
عليهما جبتان من حديد من ثدييهما (3) إلى تراقيهما. فأما المنفق فلا ينفق إلا
سَبَغَت - أو : وفرت - على جلده ، حتى تُخفي بنانه وتعفو (4) أثره. وأما البخيل
فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقة مكانها ، فهو يوسعها فلا (5) تتسع".
هذا لفظ البخاري في الزكاة (6).
وفي الصحيحين من طريق هشام بن عُرْوَةَ ، عن زوجته فاطمة بنت المنذر ، عن جدتها
أسماء بنت أبي بكر قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنفقي هكذا
وهكذا وهكذا ، ولا تُوعِي فَيُوعي الله عليك ، ولا توكي فيوكي الله عليك" وفي
لفظ : "ولا تُحصي فيحصي الله عليك" (7).
وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق ، عن معمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله قال لي : أنفق أنفق
عليك" (8).
وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي مُزَرِّد ، عن سعيد بن يسار ، عن أبي هريرة
رضي
__________
(1) البيت في ديوانه (ص30).
(2) في ت ، ف : "عجزا وضعفا".
(3) في أ : "من يديهما".
(4) في ت ، ف : "يخفى بنانه ويعفو".
(5) في ف : "ولا".
(6) صحيح البخاري برقم (1443) وليس في صحيح مسلم من طريق أبي الزناد ، وإنما هو
فيه من طريق الحسن بن مسلم وعبد الله بن طاوس ، عن طاوس ، عن أبي هريرة برقم
(1021).
(7) صحيح البخاري برقم (1433) وصحيح مسلم برقم (1029)
(8) صحيح مسلم برقم (993).
(5/70)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
الله
عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من يوم يصبح العباد فيه
إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما : اللهم أعط منفقًا خلفًا ، ويقول الآخر
: اللهم أعط ممسكًا تلفًا" (1).
وروى مسلم ، عن قتيبة ، عن إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء (2) عن أبيه ، عن أبي
هريرة مرفوعًا : "ما نقص مال من صدقة ، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا (3)
ومن تواضع لله رفعه الله" (4).
وفي حديث أبي كثير ، عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا : "إياكم والشُّح ، فإنه
أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم
بالفجور ففجروا" (5).
وروى البيهقي من طريق سعدان بن نصر ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، [عن ابن بريدة]
(6) عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما يخرج رجل صدقة ،
حتى يفك لَحْيَى سبعين شيطانا" (7).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبيدة الحداد ، حدثنا سُكَين (8) بن عبد العزيز ،
حدثنا إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعوده قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "ما عال من اقتصد" (9).
وقوله [تعالى] (10) { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ
} إخبار أنه تعالى هو الرزاق ، القابض الباسط ، المتصرف في خلقه بما يشاء ، فيغني
من يشاء ، ويفقر من يشاء ، بما له في ذلك من الحكمة ؛ ولهذا قال : { إِنَّهُ كَانَ
بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي : خبير بصير بمن يستحق الغنى ومن يستحق الفقر
(11) ، كما جاء في الحديث : "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته
لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه
دينه".
وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجًا ، والفقر عقوبة عياذًا بالله من هذا
وهذا.
{ وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) }
هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده ؛ لأنه
ينهى [تعالى] (12)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1442) وصحيح مسلم برقم (1010).
(2) في ف : "عن العلاء بن عبد الرحمن".
(3) في ت ، ف ، أ : "إلا غنى".
(4) صحيح مسلم برقم (2588).
(5) رواه أحمد في المسند (2/159) وأبو داود في السنن برقم (1698) وابن حبان في
صحيحه برقم (1580) "موارد" من طرق عن شعبة عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله
بن الحارث ، عن أبي كثير الزبيدي به.
(6) زيادة من ف ، أ ، والسنن الكبرى ، وصحيح ابن خزيمة.
(7) السنن الكبرى (4/187) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2457) من طريق محمد
المخزومي ، عن أبي معاوية ، به ، وقال : "إن صح الخبر ، فإني لا أقف هل سمع
الأعمش من ابن بريدة أم لا".
(8) في ت : "مسكين" ، وفي ف ، أ : "سكن".
(9) المسند (1/447) وقال الهيثمي في المجمع (10/252) : "فيه إبراهيم بن مسلم
الهجري وهو ضعيف".
(10) زيادة من ت.
(11) في ف ، أ : "بمن يستحق الفقر ومن يستحق الغنى".
(12) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5/71)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
عن
قتل الأولاد ، كما أوصى بالأولاد في الميراث ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات
، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته ، فنهى الله [تعالى] (1) عن ذلك فقال
: { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } أي : خوف أن تفتقروا في
ثاني الحال ؛ ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال : { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ } وفي الأنعام (2) { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ }
أي : من فقر { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (3) } [ الأنعام : 151].
وقوله : { إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } أي : ذنبًا عظيمًا.
وقرأ بعضهم : "كان خَطَأً كبيرًا" وهو بمعناه.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال :
"أن تجعل لله ندًا وهو خلقك". قلت : ثم أي ؟ قال : "أن تقتل ولدك
خشية أن يَطْعَمَ معك". قلت : ثم أي ؟ قال : "أن تزاني بحليلة (4)
جارك" (5).
{ وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا (32) }.
يقول تعالى ناهيًا عباده عن الزنا وعن مقاربته ، وهو مخالطة أسبابه (6) ودواعيه {
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي : ذنبًا عظيمًا { وَسَاءَ
سَبِيلا } أي : وبئس طريقًا ومسلكًا.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا جرير ، حدثنا سليم بن عامر ،
عن أبي أمامة قال : إن فتى شابًا أتى النبي (7) صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول
الله ، ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مًهْ مَهْ. فقال :
"ادنه". فدنا منه قريبًا (8) فقال (9) اجلس". فجلس ، قال :
"أتحبه لأمك ؟" قال : لا والله ، جعلني الله فداك. قال : "ولا
الناس يحبونه لأمهاتهم". قال : "أفتحبه لابنتك" ؟ قال : لا والله
يا رسول الله ، جعلني الله فداك. قال : "ولا الناس يحبونه لبناتهم" ،
قال : "أتحبه لأختك" ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك. قال :
"ولا الناس يحبونه لأخواتهم" ، قال : "أفتحبه لعمتك" ؟ قال :
لا والله جعلني الله فداك. قال : "ولا الناس يحبونه لعماتهم" قال :
"أفتحبه لخالتك" ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك. قال : "ولا
الناس يحبونه لخالاتهم" قال : فوضع يده عليه وقال : "اللهم اغفر ذنبه
وطهر قلبه وحصن (10) فرجه" قال : فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (11).
وقال (12) ابن أبي الدنيا : حدثنا عمار بن نصر ، حدثنا بَقيَّةُ ، عن أبي بكر بن
أبي مريم ، عن الهيثم بن مالك الطائي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ت ، ف ، أ : "وقال في سورة الأنعام".
(3) في ت : "نرزقهم وإياكم" وهو خطأ.
(4) في ف : "خليلة" ، وفي أ : "حليلة".
(5) صحيح البخاري برقم (4477) وصحيح مسلم برقم (68).
(6) في ت : "أشباهه".
(7) في ت : "أتى إلى النبي".
(8) في ف : "قريبا منه".
(9) في ت : "فقال له".
(10) في ف : "وأحصن"
(11) المسند (5/356).
(12) في ف ، أ : "قال".
(5/72)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
وضعها
رجل في رحم لا يحل له" (1).
{ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي
الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) }
يقول تعالى ناهيًا عن قتل النفس بغير حق شرعي ، كما ثبت في الصحيحين ؛ أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك
لدينه المفارق للجماعة" (2).
وفي السنن : "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم (3) ".
وقوله : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } أي
: سلطة على القاتل ، فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قَودًا ، وإن شاء عفا عنه على
الدية ، وإن شاء عفا عنه مجانًا ، كما ثبتت السنة بذلك. وقد أخذ الإمام الحبر ابن
عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطنة ، وأنه سيملك ؛ لأنه كان ولي
عثمان ، وقد قتل عثمان مظلومًا ، رضي الله عنه ، وكان معاوية يطالب عليًا ، رضي
الله عنه ، أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم ؛ لأنه أموي ، وكان علي ، رضي الله عنه ،
يستمهله في الأمر (4) حتى يتمكن ويفعل ذلك ، ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام
فيأبى (5) معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة ، وأبى أن يبايع عليًا هو وأهل الشام ، ثم
مع المطاولة تمكن معاوية وصار الأمر إليه كما تفاءل (6) ابن عباس واستنبط من هذه
الآية الكريمة. وهذا من الأمر العجب وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال :
حدثنا يحيى بن عبد الباقي ، حدثنا أبو عمير بن النحاس ، حدثنا ضَمْرَةُ بن ربيعة ،
عن ابن شوذب ، عن مطر الوراق ، عن زَهْدَم الجَرْمي قال : كنا في سمر ابن عباس
فقال : إني محدثكم حديثا ليس بسر ولا علانية ؛ إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما
كان - يعني عثمان - قلت لعلي : اعتزل فلو كنت في جحر طلبت حتى تستخرج ، فعصاني ،
وايم الله ليتأمرن عليكم معاوية ، وذلك أن الله تعالى يقول : { وَمَنْ قُتِلَ
مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ
} الآية (7) وليحملنكم (8) قريش على سنة فارس والروم وليقيمن عليكم النصارى
واليهود والمجوس ، فمن أخذ منكم يومئذ بما يُعْرَف نجا ، ومن ترك وأنتم تاركون ،
كنتم كقرن من القرون ، هلك فيمن هلك (9).
وقوله [تعالى] (10) { فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } قالوا : معناه : فلا يسرف
الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل.
__________
(1) الورع لابن أبي الدنيا برقم (137) وفيه ثلاث علل : الأولى : تدليس بقية.
الثانية : ابن أبي مريم ضعيف. الثالثة : الإرسال. أ. هـ مستفادا من حاشية الأستاذ
محمد الحمود ، وسيأتي الحديث عند تفسير الآية : 68 من سورة الفرقان.
(2) صحيح البخاري برقم (6878) وصحيح مسلم برقم (1676) من حديث ابن مسعود ، رضي
الله عنه.
(3) في أ : "المسلم".
(4) في ت : "الأمور".
(5) في ف : "فأبى".
(6) في ت ، ف ، أ : "قال".
(7) في ت ، ف ، أ : (إنه كان منصورا) "
(8) في ت : "يتحملنكم".
(9) المعجم الكبير (10/320) وقال الهيثمي في المجمع (7/235) : "وفيه من لم
أعرفهم".
(10) زيادة من ت.
(5/73)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
وقوله
: { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } أي أن الولي منصور على القاتل شرعًا ، وغالبًا
قدرًا.
{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا (34)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (35) }.
يقول تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
أي : لا تتصرفوا له إلا بالغبطة { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى
أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } [ النساء : 2 ] و { لا
تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } [ النساء :
6 ].
وقد جاء في صحيح مسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : "يا
أبا ذر ، إني أراك ضعيفًا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي : لا تَأَمَّرَن على اثنين ،
ولا تولين مال يتيم (1) " (2).
وقوله [تعالى] (3) : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ } أي الذي تعاهدون عليه الناس
والعقود التي تعاملونهم بها ، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه { إِنَّ
الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولا } أي : عنه.
وقوله [تعالى] (4) : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ } أي : من غير تطفيف ،
ولا تبخسوا الناس أشياءهم. { وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ } قرئ بضم القاف وكسرها ،
كالقرطاس وهو الميزان. وقال مجاهد : هو العدل بالرومية.
وقوله : { الْمُسْتَقِيمِ } أي : الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب.
{ ذَلِكَ خَيْرٌ } أي : لكم في معاشكم ومعادكم ؛ ولهذا قال : { وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلا } أي : مآلا ومنقلبًا في آخرتكم.
قال : سعيد ، عن قتادة : { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي : خير ثوابًا
وعاقبة. وأما ابن عباس كان يقول : يا معشر الموالي ، إنكم وليتم أمرين بهما هلك
الناس قبلكم : هذا المكيال ، وهذا الميزان. قال وذكر لنا أن نبي الله صلى الله
عليه وسلم كان يقول : "لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ، ليس به إلا مخافة الله
، إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك" (5).
{ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا (36) }.
__________
(1) في ت : "بخيل".
(2) صحيح مسلم برقم (1826).
(3) زيادة من ت.
(4) زيادة من ت.
(5) وقد جاء في مسند أحمد (5/78) عن أبي قتادة وأبي الدهماء عن رجل من أهل البادية
، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال : "إنك لا تدع شيئا اتقاء الله
، عز وجل ، إلا أعطاك الله خيرا منه".
(5/74)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
قال
علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يقول : لا تقل.
وقال العوفي عنه : لا تَرْم أحدًا بما ليس لك به علم.
وقال محمد بن الحَنفية : يعني شهادة الزور.
وقال قتادة : لا تقل : رأيت ، ولم تر ، وسمعت ، ولم تسمع ، وعلمت ، ولم تعلم ؛ فإن
الله سائلك عن ذلك كله.
ومضمون ما ذكروه : أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم ، بل بالظن الذي هو التوهم
والخيال ، كما قال تعالى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ } [ الحجرات : 12 ] ، وفي الحديث : "إياكم والظن ؛ فإن الظن
أكذبُ الحديث" (1). وفي سنن أبي داود : "بئس مطيةُ الرجل : زعموا"
(2) ، وفي الحديث الآخر : "إن أفرى الفِرَى أن يُرِي (3) عينيه ما لم
تريا" (4). وفي الصحيح : "من تحلم حلما كُلف يوم القيامة أن يعقد بين
شَعيرتين ، وليس بعاقد (5) (6).
وقوله : { كُلُّ أُولَئِكَ } أي : هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد { كَانَ
عَنْهُ مَسْئُولا } أي : سيسأل العبد عنها يوم القيامة ، وتُسأل (7) عنه وعما عمل
فيها. ويصح استعمال "أولئك" مكان "تلك" ، كما قال الشاعر (8).
ذُمَّ المَنَازلَ بَعْدَ مَنزلة اللِّوَى... وَالْعَيْش بَعْدَ أولئِكَ الأيّام...
{ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ
الْجِبَالَ طُولا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا
(38) }.
يقول تعالى ناهيًا عباده ، عن التَّجَبّر والتبختر في المشية : { وَلا تَمْشِ فِي
الأرْضِ مَرَحًا } أي : متبخترًا متمايلا مشي الجَبَّارين { إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ
الأرْضَ } أي : لن تقطع الأرض بمشيتك (9) قاله ابن جرير ، واستشهد عليه بقول رُؤبة
بن العَجَّاج :
وقَاتِم الأعْمَاق خَاوي المُخترقْ (10)
وقوله [تعالى] (11) : { وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا } أي : بتمايلك وفخرك
وإعجابك بنفسك ، بل قد
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (6066) ومسلم في صحيحه برقم (2563) من حديث أبي
هريرة ، رضي الله عنه.
(2) برقم (4972).
(3) في ف ، أ : "يرى الرجل".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (7043) من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما.
(5) في ف : "بفاعل".
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (7042) معلقا ، ووصله النسائي في السنن (8/215) من
حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(7) في ت : "ويسأل".
(8) هو جرير بن عطية ، والبيت في تفسير الطبري (15/62).
(9) في ت ، ف : "بمشيك".
(10) تفسير الطبري (15/63).
(11) زيادة من ت.
(5/75)
يجازى
فاعل ذلك بنقيض (1) قصده. كما ثبت في الصحيح : "بينما رجل يمشي فيمن كان
قبلكم ، وعليه بُرْدَان يتبختر فيهما ، إذ خُسِف به الأرض ، فهو يتجلجل (2) فيها
إلى يوم القيامة" (3).
وكذلك (4) أخبر الله [تعالى] (5) عن قارون أنه خرج على قومه في زينته ، وأن الله
تعالى خسف به وبداره الأرض ، وفي الحديث : "من تواضع لله رفعه الله ، فهو في
نفسه حقير وعند الناس كبير ، ومن استكبر وضعه الله ، فهو في نفسه كبير وعند الناس
حقير ، حتى لهو أبغض إليهم من الكلب أو الخنزير" (6).
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب "الخمول والتواضع" : حدثنا أحمد بن
إبراهيم بن كثير ، حدثنا حجاج بن محمد ، بن أبي بكر الهذلي قال : بينما نحن مع
الحسن ، إذ مَر عليه ابن الأهتم (7) - يريد المنصور - وعليه جبَابُ خَزّ قد نُضّد
(8) بعضها فوق بعض على ساقه ، وانفرج عنها قباؤه ، وهو يمشي ويتبختر ، إذ نظر إليه
الحسن نظرة فقال : أف أف ، شامخ بأنفه ، ثان عطفه ، مصعر خده ، ينظر في عطفيه ،
أيّ حُمَيْق ينظر في عطفه في نِعَم غير مشكورة ولا مذكورة ، غير المأخوذ بأمر الله
فيها ، ولا المؤدّى حقّ الله منها! والله إن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج
المجنون ، في كل عضو منه نعمة ، وللشيطان به لعنة ، فسمعه ابن الأهتم (9) فرجع
يعتذر إليه ، فقال : لا تعتذر إلي ، وتب إلى ربك ، أما سمعت قول الله تعالى : {
وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ
الْجِبَالَ طُولا } (10).
ورأى البختريّ العابدُ رجلا من آل علي يمشي وهو يخطِر في مشيته ، فقال له : يا هذا
، إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته! قال : فتركها الرجل بعد.
ورأى ابن عمر رجلا يخطر في مشيته ، فقال : إن للشياطين إخوانًا.
وقال : خالد بن مَعْدان : إياكم والخَطْر ، فإن الرّجل يَدُه من سائر (11) جسده.
رواهما ابن أبي الدنيا.
وقال : ابن أبي الدنيا : حدثنا خلف بن هشام البزار ، حدثنا حماد بن زيد ، عن (12)
يحيى ، عن سعيد ، عن يُحَنَّس قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذا مشت أمتي المطيطاء ، وخدمتهم فارس والروم ،
__________
(1) في ت : "ببعض".
(2) في ت : "يتخلل".
(3) صحيح البخاري برقم (5789) وصحيح مسلم برقم (2088) من حديث أبي هريرة ، رضي
الله عنه.
(4) في أ : "ولذلك".
(5) زيادة من ف.
(6) رواه أبو نعيم في الحلية (7/129) والخطيب في تاريخ بغداد (2/110) من طريق سعيد
بن سلام ، عن الثوري عن الأعمش ، عن إبراهيم بن عابس ، عن ربيعة ، عن عمر بن
الخطاب بنحوه وقال : "غريب من حديث الثوري ، تفرد به سعيد بن سلام ، وهو كذاب".
(7) في هـ ، ت ، ف : "ابن الأهيم" ، والصواب ما أثبتناه من الخمول
والتواضع لابن أبي الدنيا.
(8) في ت ، ف : "فضل".
(9) في هـ ت ، ف : "ابن الأهيم" ، والصواب ما أثبتناه من الخمول
والتواضع.
(10) الخمول والتواضع برقم (237).
(11) في ت ، ف ، أ : "من دون سائر".
(12) في ف : "بن".
(5/76)
سلط
بعضهم على بعض" (1).
وقوله تعالى : { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا } أما من
قرأ "سيئة" أي : فاحشة. فمعناه عنده : كل هذا الذي نهينا عنه ، من قوله
: { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } إلى هاهنا ، فهو سيئة مؤاخذ
عليها { مَكْرُوهًا } عند الله ، لا يحبه ولا يرضاه.
وأما من قرأ { سَيِّئُهُ } على الإضافة فمعناه عنده : كل هذا الذي ذكرناه من قوله
: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ } إلى هاهنا فسيئه ، أي :
فقبيحه مكروه (2) عند الله ، هكذا وجَّه ذلك ابن جرير ، رحمه الله (3).
__________
(1) الخمول والتواضع برقم (249) وهو مرسل ، وجاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ،
رواه الترمذي في السنن برقم (2261) من طريق زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة عن عبد
الله بن دينار عنه ، ولفظ آخره "سلط الله شرارها على خيارها" وقال
الترمذي : "هذا حديث غريب"
(2) في ت ، ف ، أ : "قبيحه مكروها".
(3) تفسير الطبري (15/63).
(5/77)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
{
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) }.
يقول تعالى : هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة ، ونهيناك عنه من الصفات
الرذيلة ، مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس.
{ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا }
أي : تلومك نفسك [ويلومك الله] (1) والخلق. { مَدْحُورًا }. قال ابن عباس وقتادة :
مطرودًا.
والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه صلوات الله
وسلامه عليه معصوم.
{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا
إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا (40) }.
يقول تعالى رادًا على المشركين الكاذبين (2) الزاعمين - عليهم لعائن الله - أن
الملائكة بناتُ الله ، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا ، ثم ادّعوا
أنهم بنات الله ، ثم عبدوهم فأخطئوا في كل من المقامات الثلاث (3) خطأ عظيمًا ،
قال تعالى منكرًا عليهم : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ } أي : خصصكم
بالذكور { وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا } أي : اختار لنفسه على زعمكم
البنات ؟ ثم شدد الإنكار عليهم فقال : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا }
أي : في زعمكم لله ولدًا ، ثم جعْلكم ولده الإناث التي تأنفون (4) أن يَكُنّ لكم ،
وربما قتلتموهُن بالوأد ، فتلك إذا قسْمة ضِيزَى. وقال [الله] (5) تعالى : {
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا*
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ
الْجِبَالُ هَدًّا* أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا* وَمَا يَنْبَغِي
لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا* إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا* لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا*
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [ مريم : 88 - 95 ].
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) في ف : "المكذبين".
(3) في ت ، ف : "الثلاث المقامات".
(4) في ت : "تألفون".
(5) زيادة من ف.
(5/77)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
{
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا
نُفُورًا (41) }.
يقول تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا (1) فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا (2)
} أي : صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ ،
فينزجروا (3) عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك ، { وَمَا يَزِيدُهُمْ } أي :
الظالمين منهم { إِلا نُفُورًا } أي : عن الحق ، وبعدًا منه.
{ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي
الْعَرْشِ سَبِيلا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا
كَبِيرًا (43) }.
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه ،
العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفى : لو كان الأمر كما تقولون ، وأن معه آلهة
تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه - لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون
إليه الوسيلة والقربة ، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه ، ولا حاجة
لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه ، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه ، بل يكرهه
ويأباه. وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه.
ثم نزه نفسه الكريمة وقدّسها فقال : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ }
أي : هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى { عُلُوًّا
كَبِيرًا } أي : تعاليًا كبيرا ، بل هو الله الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ،
ولم يكن له كُفُوًا أحد.
{ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ
شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ
كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) }.
يقول تعالى : تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن ، أي : من المخلوقات ، وتنزهه
وتعظمه وتجِّلّه وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون ، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته
وإلهيته :
فَفي كُلّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ... تَدُلُّ عَلى أنَّه واحد...
كما قال : تعالى : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ (4) مِنْهُ وَتَنْشَقُّ
الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا *
[وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا] (5) } [ مريم : 90 - 92 ].
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا سعيد بن منصور ،
حدثنا مسكين (6) ابن ميمون مؤذّن مسجد الرملة ، حدثنا عروة بن رُوَيم ، عن عبد
الرحمن بن قرط ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "صرفنا للناس" وهو خطأ.
(2) في ت ، ف : "القرآن من كل مثل" وهو خطأ.
(3) في ف : "فينزجزن".
(4) في ت ، ف : "ينفطرن" وهو خطأ.
(5) زيادة من أ.
(6) في ت : "أن".
(5/78)
ليلة
أسري إلى المسجد الأقصى ، كان (1) بين المقام وزمزم ، جبريل عن يمينه وميكائيل عن
يساره ، فطار به حتى بلغ السماوات السبع (2) ، فلما رجع قال : سمعت تسبيحًا في
السماوات العلى مع تسبيح كثير : سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي
العلو بما علا سبحان العليّ الأعلى ، سبحانه وتعالى (3).
وقوله : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } أي : وما من شيء من
المخلوقات إلا يسبح بحمد الله (4) { وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي :
لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس ؛ لأنها بخلاف لغتكم. وهذا عام في الحيوانات (5)
والنبات والجماد ، وهذا أشهر القولين ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن ابن مسعود
أنه قال : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يُؤكل (6).
وفي حديث أبي ذر : أن النبي (7) صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات ، فسمع لهن
تسبيح كحنين النحل ، وكذا يد أبي بكر وعمر وعثمان ، رضي الله عنهم [أجمعين] (8) ،
وهو حديث مشهور في المسانيد (9).
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن لَهيعة ، حدثنا زَبَّان ، عن سهل بن معاذ بن أنس ،
عن أبيه رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مَرّ على قوم وهم
وقوف على دوابّ لهم ورواحل ، فقال لهم : "اركبوها سالمة ، ودعوها سالمة ، ولا
تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق ، فرب مركوبة خير من راكبها ، وأكثر ذكرا
لله منه" (10).
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
قتل الضفدع ، وقال : "نقيقها تسبيح" (11).
وقال قتادة ، عن عبد الله بن بَابِي (12) ، عن عبد الله بن عمرو : أن الرجل إذا
قال : "لا إله إلا الله" ، فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد
عملا حتى يقولها. وإذا قال : "الحمد لله" فهي كلمة الشكر التي لم يشكر
الله عبد قط حتى يقولها ، وإذا قال : "الله أكبر" فهي تملأ (13) ما بين
السماء والأرض ، وإذا قال : "سبحان الله" ، فهي صلاة الخلائق التي لم
يَدْع الله أحدًا من خلقه إلا قَرّره بالصلاة والتسبيح. وإذا قال : "لا حول
ولا قوة إلا بالله (14) " ، قال : أسلم عبدي واستسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، سمعت الصَّقْعَبَ بن زُهير
[يحدث] (15) عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : أتى النبي
صلى الله عليه وسلم أعرابيّ عليه جبة
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "الأقصى ، فلما رجع كان".
(2) في ت : "السبع السموات".
(3) المعجم الأوسط برقم (58) "مجمع البحرين" وقال " لا يروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد ، تفرد به سعيد". وذكر الذهبي هذا
الحديث في الميزان (4/101) في ترجمة مسكين بن أبي ميمون وقال : "منكر".
(4) في ف : "بحمده".
(5) في ت ، ف : "الحيوان".
(6) صحيح البخاري برقم (3579).
(7) في ت ، ف ، أ : "أن رسول الله ".
(8) زيادة من ف.
(9) رواه أحمد في المسند (4/415).
(10) المسند (3/439).
(11) سنن النسائي (7/210) من حديث عبد الرحمن بن عثمان ، رضي الله عنه.
(12) في ت : "باني" ، وفي ف : "أبي".
(13) في ت : "الله أكبر ملأ".
(14) في أ : "بالله العلي العظيم".
(15) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5/79)
من
طيالسة مكفوفة (1) بديباج - أو : مزورة بديباج - فقال : إن صاحبكم هذا يريد أن
يرفع كل راع ابن راع ، ويضع كل رأس ابن رأس. فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم
مغضبًا ، فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه ، فقال : "لا أرى عليك ثياب من لا
يعقل". ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس فقال : "إن نوحًا ،
عليه السلام ، لما حضرته الوفاة ، دعا ابنيه (2) فقال : إني قاص عليكما الوصية :
آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين : أنهاكما عن الشرك بالله والكبر ، وآمركما بلا
إله إلا الله ، فإن السماوات والأرض وما بينهما لو وضعت في كفة الميزان ، ووضعت
"لا إله إلا الله" في الكفة الأخرى ، كانت أرجح ، ولو أن السماوات
والأرضِ كانتا (3) حلقة ، فوضعت "لا إله إلا الله" عليهما لفصمتهما أو
لقصمتهما. وآمركما بسبحان الله وبحمده ، فإنها صلاة كل شيء ، وبها يرزق كل
شيء" (4).
ورواه الإمام أحمد ، أيضا ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، عن الصَّقْعَب (5)
بن زهير ، به أطول من هذا. تفرد به (6).
وقال ابن جرير : حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ ، حدثنا محمد بن يَعْلى ، عن
موسى بن عبيدة ، عن زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه (7) قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه ؟ إن
نوحا ، عليه السلام ، قال لابنه : يا بني ، آمرك أن تقول : "سبحان الله"
، فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق ، وبها يرزق الخلق ، قال الله تعالى : { وَإِنْ
مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } (8) إسناده فيه ضعف ، فإن الرّبذي (9)
ضعيف عند الأكثرين.
وقال عكرمة في قوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قال
: الأسطوانة تسبح ، والشجرة تسبح (10) - الأسطوانة : السارية.
وقال بعض السلف : إن صرير الباب تسبيحه ، وخرير الماء تسبيحه ، قال الله تعالى : {
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ }
وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : الطعام يسبح.
ويشهد لهذا القول آية السجدة أول [سورة] (11) الحج.
وقال آخرون : إنما يسبح ما كان فيه روح. يعنون من حيوان أو نبات.
وقال قتادة في قوله : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قال : كل
شيء فيه الروح يسبح من شجر (12) أو شيء فيه.
__________
(1) في ت ، ف : "ملفوفة".
(2) في ت : "بنيه".
(3) في ت : "كانت".
(4) المسند (2/225).
(5) في ف : "الصعقب".
(6) المسند (2/169).
(7) في ف : "عنهما".
(8) تفسير الطبري (15/65).
(9) في ت : "الزيدي" ، وفي ف : "الأودي".
(10) في ت ، ف : "والشجر يسبح".
(11) زيادة من ف.
(12) في ف : "من شجرة".
(5/80)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
وقال
الحسن ، والضحاك في قوله : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قالا
كل شيء فيه الروح.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب قالا حدثنا
جرير أبو الخطاب قال : كنا مع يزيد الرَّقاشي ، ومعه الحسن في طعام ، فقدموا
الخوان ، فقال يزيد الرقاشي : يا أبا سعيد ، يسبح هذا الخِوَان ؟ فقال : كان يسبح
مرة (1).
قلت : الخِوَان هو المائدة من الخشب. فكأن الحسن ، رحمه الله ، ذهب إلى أنه لما
كان حيا فيه خضرة ، كان يسبح ، فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه. وقد يستأنس
لهذا القول بحديث ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر
بقبرين فقال : "إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير (2) ، أما أحدهما فكان لا
يَسْتَتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي (3) بالنميمة". ثم أخذ جريدة رطبة
، فشقها نصفين ، ثم غرز في كل قبر واحدة ، ثم قال : "لعله يخفف عنهما ما لم
ييبسا". أخرجاه في الصحيحين (4).
قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء : إنما قال : "ما لم ييبسا"
لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة ، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما ، والله أعلم.
وقوله [تعالى] (5) { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } أي : أنه [تعالى] (6) لا
يعاجل من عصاه بالعقوبة ، بل يؤجله وينظره ، فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ
عزيز مقتدر ، كما جاء في الصحيحين : "إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم
يفلته". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (7) [
هود : 102 ] الآية ، و قال [الله] (8) تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [
الحج : 48 ]. ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان ، ورجع إلى الله وتاب إليه ،
تاب عليه ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 110 ].
وقال هاهنا : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } كما قال في آخر فاطر : { إِنَّ
اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ
أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } إلى
أن قال : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى
ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا
جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا } [ فاطر : 41 - 45
].
{ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ
أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ
فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) }
__________
(1) تفسير الطبري (15/65).
(2) في ت : "كثير".
(3) في ت : "وأما الآخر فيمشي" ، وفي أ : "وكان الآخر يمشي".
(4) صحيح البخاري برقم (218) وصحيح مسلم برقم (292).
(5) زيادة من ت.
(6) زيادة من ت.
(7) صحيح البخاري برقم (4686) وصحيح مسلم برقم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري ،
رضي الله عنهما.
(8) زيادة من ف ، أ.
(5/81)
يقول
تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا قرأت - يا محمد - على هؤلاء المشركين
القرآن ، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورًا.
قال قتادة ، وابن زيد : هو الأكنّة على قلوبهم ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا
قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ
وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] أي : مانع حائل (1) أن يصل إلينا
مما تقول شيء.
وقوله : { حِجَابًا مَسْتُورًا } أي : بمعنى ساتر ، كميمون ومشئوم ، بمعنى : يامن
وشائم ؛ لأنه من يَمنهم وشَأمَهم.
وقيل : مستورًا عن الأبصار فلا تراه ، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى ، ومال
إلى ترجيحه ابن جرير ، رحمه الله.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا
سفيان ، عن الوليد بن كثير ، عن يزيد بن تدرس ، عن أسماء بنت أبي بكر [الصديق] (2)
رضي الله عنها (3) ، قالت : لما نزلت { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب وَتبٍٍَ } [
سورة المسد ] جاءت العوراء أم جميل ولها ولوَلة ، وفي يدها فِهْر وهي تقول :
مُدَمَّما أتينا - أو : أبينا ، قال أبو موسى : الشك مني - ودينه قَلَيْنَا ،
وأمره عصينا. ورسول الله جالس ، وأبو بكر إلى جنبه - أو قال : معه - قال : فقال
أبو بكر : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك ، فقال : "إنها لن تراني" ،
وقرأ قرآنا اعتصم به منها : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ
وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا }. قال :
فجاءت حتى قامت على أبي بكر ، فلم تر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا
بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني. فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال :
فانصرفت وهي تقول : لقد (4) علمت قريش أني بنت سيدها (5).
وقوله : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } : جمع "كنان" ،
الذي يغشى القلب { أَنْ يَفْقَهُوهُ } أي : لئلا يفهموا القرآن { وَفِي آذَانِهِمْ
وَقْرًا } وهو الثقْل الذي يمنعهم من سماع القرآن سماعًا ينفعهم ويهتدون به.
وقوله : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ } أي : إذا وحَّدت
الله في تلاوتك ، وقلت : "لا إله إلا الله" { وَلَّوْا } أي : أدبروا
راجعين { عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } ونفور : جمع نافر ، كقعود جمع قاعد ،
ويجوز أن يكون مصدرًا من غير الفعل ، والله أعلم ، كما قال تعالى : { وَإِذَا
ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }
[ الزمر : 45 ].
قال قتادة في قوله : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا
عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } إن المسلمين لما قالوا : "لا إله إلا
الله" ، أنكر ذلك المشركون ، وكبرت عليهم ، وضاقها إبليس وجنوده ، فأبى الله
إلا أن يمضيها وينصرها ويُفْلجها ويظهرها على من ناوأها ، إنها كلمة من خاصم بها
فلج ، ومن قاتل بها
__________
(1) في ف : "مانع وحائل".
(2) زيادة من ت.
(3) في ف ، أ : "عنهما".
(4) في ف : "قد".
(5) مسند أبي يعلى (1/53) وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (7/169).
(5/82)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
نصر
، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين ، التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ،
ويسير الدهر في فئام من الناس ، لا يعرفونها ولا يقرّون بها.
قول آخر في الآية :
وروى (1) ابن جرير : حدثني الحسين بن محمد الذارع (2) ، حدثنا روح بن المسيب أبو
رجاء الكلبي ، حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس في قوله : {
وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ
نُفُورًا } هم الشياطين.
هذا غريب جدًا في تفسيرها ، وإلا فالشياطين (3) إذا قرئ القرآن ، أو نودي بالأذان
، أو ذكر الله ، انصرفوا (4).
{ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ
هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا
مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا
يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا (48) }.
يخبر تعالى نبيه - صلوات الله [وسلامه] (5) عليه - بما تناجى به رؤساء كفار قريش ،
حين جاءوا يستمعون قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم سرًا من قومهم ، بما قالوا
من أنه رجل مسحور ، من السّحر على المشهور ، أو من "السَّحْر" ، وهو
الرئة ، أي : إن تتبعون - إن اتبعتم محمدًا - { إِلا بَشَرًا } يأكل [ويشرب] (6) ،
كما قال الشاعر (7) :
فَإن تَسألينا فيم نَحْنُ فَإنَّنا... عصافيرُ مِنْ هَذا الأنَام المُسَحَّر...
وقال الراجز (8)
ونُسْحَر (9) بالطَّعام وبالشراب
أي : نُغذى : وقد صوب هذا القول ابنُ جرير ، وفيه نظر ؛ لأنهم إنما أرادوا هاهنا
أنه مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه ومنهم من قال :
"شاعر" ، ومنهم من قال : "كاهن" ، ومنهم من قال :
"مجنون" ، ومنهم من قال : "ساحر" ؛ ولهذا قال تعالى : {
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا }
أي : فلا يهتدون إلى الحق ، ولا يجدون إليه مخلصًا.
قال محمد بن إسحاق في السيرة : حدثني محمد بن مسلم (10) بن شهاب الزهري ، أنه حُدث
أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شَرِيق بن عمرو بن وهب
الثقفي ، حليف ابن (11) زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد
__________
(1) في ت ، ف : "قال".
(2) في ت ، ف ، أ : "الذراع".
(3) في ف : "فالشيطان".
(4) في ف : "انصرف".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) هو لبيد بن ربيعة ، والبيت في ديوانه (ص57).
(8) هو امرؤ القيس ، والرجز في اللسان مادة "سحر".
(9) في ت : "تسحر" ، وفي أ : "تسحرنا".
(10) في ت : "سلام".
(11) في أ : "بني".
(5/83)
وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
منهم
مجلسًا يستمع فيه ، وكلُّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع
الفجر تفرّقوا. حتى إذا جمعتهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا ،
فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئًا ، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة
الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر
تفرقوا حتى إذا جمعتهم (1) الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم
انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة ، أخذ كل رجل (2) منهم مجلسه ، فباتوا
يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجَمعهم (3) الطريق فقال بعضهم لبعض : لا
نبرح حتى نتعاهد لا نعود ، فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا.
فلما أصبح الأخنس بن شَريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ،
فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبة ،
والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها ، وسمعتُ أشياء ما عرفتُ معناها
، ولا ما يراد بها. قال الأخنس : وأنا والذي حَلفت به. قال : ثم خرج من عنده حتى
أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد
؟ قال : ماذا سمعتُ ؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا
فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الرُّكب ، وكنا كفَرَسي رِهان
قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به (4)
أبدا ولا نصدقه. قال : فقام عنه الأخنس وتركه (5).
{ وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا
جَدِيدًا (49) }
__________
(1) في ف ، أ : "تفرقوا فجمعتهم".
(2) في ت : "كل واحد".
(3) في ت ، ف ، أ : "حتى إذا اجمعتهم".
(4) في ف : "بهذا".
(5) السيرة النبوية لابن هشام (1/315).
(5/84)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
{
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي
صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى
أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا (52) }.
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد ، القائلين استفهام إنكار
منهم لذلك : { أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا } أي : ترابًا. قاله مجاهد.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : غبارًا.
{ أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } أي : يوم القيامة { خَلْقًا جَدِيدًا } أي : بعد ما
بلينا وصرنا عدمًا لا يذكر. كما أخبر عنهم في الموضع الآخر : { يَقُولُونَ
أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ* أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً*
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } [ النازعات : 10 - 12 ] قال تعالى (1) :
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ
رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ
خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 78 ، 79 ].
__________
(1) في ف : "وقال تعالى".
(5/84)
وهكذا
أمر رسوله ههنا (1) أن يجيبهم فقال : { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا }
وهما (2) أشد امتناعا من العظام والرفات { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي
صُدُورِكُمْ }
قال ابن إسحاق عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : سألت ابن عباس عن ذلك فقال : هو
الموت.
وروى عطية ، عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية : لو كنتم موتى لأحييتكم. وكذا
قال سعيد بن جبير ، وأبو صالح ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك.
ومعنى ذلك : أنكم لو فرضتم أنكم لو (3) صِرْتُم مَوْتًا الذي هو ضد الحياة لأحياكم
الله إذا شاء ، فإنه لا يمتنع (4) عليه شيء إذا أراده.
وقد ذكر بن جرير [هاهنا] (5) حديث : "يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كَبْش
أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، أتعرفون هذا ؟ فيقولون
: نعم. ثم يقال : يا أهل النار ، أتعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم. فيذبح بين الجنة
والنار ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، خلود بلا موت ، ويا أهل النار ، خلود بلا
موت" (6).
وقال مجاهد : { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } يعني : السماء
والأرض والجبال.
وفي رواية : ما شئتم فكونوا ، فسيعيدكم الله بعد موتكم.
وقد وقع في التفسير المروي عن الإمام مالك ، عن الزهري في قوله { أَوْ خَلْقًا
مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } قال : النبي صلى الله عليه وسلم ، قال مالك :
ويقولون : هو الموت.
وقوله [تعالى] (7) { فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا } أي : من يعيدنا إذا كنا
حجارة أو حديدًا أو خلقًا آخر شديدًا { قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ }
أي : الذي خلقكم ولم تكونوا شيئًا مذكورًا ، ثم صرتم بشرًا تنتشرون ؛ فإنه قادر
على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ].
وقوله [تعالى] (8) : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } : قال ابن عباس
وقتادة : يحركونها استهزاء.
وهذا الذي قالاه هو الذي تفهمه العرب من لغاتها ؛ لأن (9) الإنغاض هو : التحرك من
أسفل إلى أعلى ، أو من أعلى إلى أسفل ، ومنه قيل للظليم - وهو ولد النعامة - :
نغضًا ؛ لأنه إذا مشى عَجل (10) في مشيته وحَرَك رأسه. ويقال : نَغَضَت (11) سنُه
إذا تحركت وارتفعت من مَنْبَتها ؛ قال : الراجز (12).
ونَغَضَتْ مِنْ هَرَم أسنانها...
وقوله : { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ } إخبار عنه بالاستبعاد منهم لوقوع (13) ذلك ،
كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
[ الملك : 25 ]
__________
(1) في ف : "هنا".
(2) في ف : "إذا هما".
(3) في ف : "قد".
(4) في ت : "إذا شاء فلا".
(5) زيادة من أ.
(6) تفسير الطبري (15/69) من طريق العوفيين عن ابن عمر ، رضي الله عنه ، وإسناده
مسلسل بالضعفاء وأصله في صحيح مسلم برقم (2849) من جديث أبي سعيد الخدري ، رضي
الله عنه.
(7) زيادة من ت.
(8) زيادة من ت.
(9) في ت ، ف : "فإن".
(10) في ت ، ف : "أعجل".
(11) في ت : "نغض".
(12) الرجز في تفسير الطبري (15/70).
(13) في ت : "وقوع".
(5/85)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
،
وقال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى :
18 ].
وقوله : { قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا } أي : احذروا ذلك ، فإنه قريب إليكم
، سيأتيكم لا محالة ، فكل ما هو آت آت.
وقوله [تعالى] (1) : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } أي : الرب تعالى { إِذَا دَعَاكُمْ
دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 25 ] أي : إذا
أمركم بالخروج منها فإنه لا يُخالَف ولا يُمَانع ، بل كما قال [تعالى] (2) { وَمَا
أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ]{ إِنَّمَا
قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل
: 40 ] وقال { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ. فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ }
[ النازعات : 13 ، 14 ] أي : إنما هو أمر واحد بانتهار ، فإذا الناس قد خرجوا من
باطن الأرض إلى ظاهرها (3) كما قال : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ
بِحَمْدِهِ } أي : تقومون (4) كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي : بأمره.
وكذا قال ابن جريج.
وقال قتادة : بمعرفته وطاعته.
وقال بعضهم : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } أي : وله الحمد
في كل حال ، وقد جاء في الحديث : "ليس على أهل "لا إله إلا الله"
وحشة في قبورهم ، وكأني (5) بأهل "لا إله إلا الله" يقومون من قبورهم
ينفضون التراب عن رءوسهم ، يقولون : لا إله إلا الله". وفي رواية يقولون : {
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } [ فاطر : 34 ] وسيأتي في
سورة فاطر [إن شاء الله تعالى] (6).
وقوله : { وَتَظُنُّونَ } أي : يوم تقومون من قبوركم { إِنْ لَبِثْتُمْ } [أي] (7)
: في الدار الدنيا { إِلا قَلِيلا } ، وكما قال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ]
وقال تعالى : { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ
يَوْمَئِذٍ زُرْقًا * يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا *
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا } [ طه : 102 - 104 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا
يُؤْفَكُونَ } [ الروم : 55 ] ، وقال تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ
عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ
الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ } [ المؤمنون : 112 - 114 ].
{ وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ
بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) }.
يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين ، أن يقولوا في
مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام
__________
(1) زيادة من ت.
(2) زيادة من ت.
(3) في ت : "ظهرها".
(4) في ت ، ف : "تقولون".
(5) في ت ، ف : "فكأني".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) زيادة من ف.
(5/86)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
الأحسن
والكلمة الطيبة ؛ فإنه إذ لم يفعلوا ذلك ، نزغ الشيطان بينهم ، وأخرج الكلام إلى
الفعال ، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة ، فإن الشيطان عدو لآدم وذريته من حين
امتنع من السجود لآدم ، فعداوته ظاهرة بينة ؛ ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه
المسلم بحديدة ، فإن الشيطان ينزغ في يده ، أي : فربما أصابه بها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمر ، عن همام ، عن أبي هريرة ،
رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يشيرنّ أحدكم
إلى أخيه بالسلاح ، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزع في يده ، فيقع في حفرة
من نار (1).
أخرجاه من حديث عبد الرزاق (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أنبأنا علي بن زيد ، عن الحسن قال :
حدثني رجل من بني سَلِيط قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أزْفَلَة من
الناس ، فسمعته يقول : "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ، التقوى هاهنا
- [قال حماد : وقال بيده إلى صدره - ماتواد رجلان في الله فتفرَّق بينهما إلا بحدث
يحدثه أحدهما] (3) والمحدث شَر ، والمحدث شر ، والمحدث شر" (4).
{ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ
يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ
عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (55) }.
يقول الله تعالى : { رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } أيها الناس ، من يستحق منكم
الهداية ومن لا يستحق { إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } بأن يوفقكم لطاعته والإنابة
إليه { أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ } [يا محمد] (5) {
عَلَيْهِمْ وَكِيلا } أي : إنما أرسلناك نذيرًا ، فمن أطاعك دخل الجنة ، ومن عصاك
دخل النار.
وقوله : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : بمراتبهم
في الطاعة والمعصية { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ } ، كَمَا قَالَ :
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [ البقرة : 253 ].
وهذا لا ينافي ما [ثبت] (6) في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
: "لا تفضلوا بين الأنبياء" (7) ؛ فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد
التشهي والعصبية (8) ، لا بمقتضى الدليل ، [فإنه إذا دل الدليل] (9) على شيء وجب
اتباعه ، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء ، وأن أولي العزم منهم أفضلهم ،
وهم الخمسة المذكورون نصا (10) في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب : { وَإِذْ
أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ]
__________
(1) في ف ، أ : "النار".
(2) المسند (2/317) وصحيح البخاري برقم (7073) وصحيح مسلم برقم (2617).
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) المسند (5/71).
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ف.
(7) صحيح البخاري برقم (3414) وصحيح مسلم برقم (2373) من حديث أبي هريرة ، رضي
الله عنه.
(8) في ت : "والمعصية".
(9) زيادة من ف ، وفي ت : "فإنه إذا كان".
(10) في ت : "قصا".
(5/87)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
،
وفي الشورى [في قوله] (1) : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [ الشورى : 13 ].
ولا خلاف أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضلهم ، ثم بعده إبراهيم ، ثم موسى على
المشهور ، وقد بسطنا هذا بدلائله في غير هذا الموضع ، والله الموفق.
وقوله : { وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا } تنبيه على فضله وشرفه.
قال البخاري : حدثنا إسحاق بن نصر ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمر ، عن
هَمَّام ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"خُفف على داود القرآن ، فكان يأمر بدابته لتُسْرج ، فكان يقرأ قبل أن
يَفْرغ". يعني القرآن (2).
{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ
الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ
إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ
وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57) }.
يقول تعالى : { قُلِ } يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله : { ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ } من الأصنام والأنداد ، فارغبوا إليهم ، فإنهم
" لا يملكون كشف الضر عنكم" أي : بالكلية ، { وَلا تَحْوِيلا } أي : أن
يحولوه إلى غيركم.
والمعنى : أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر.
قال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ
دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلا } قال : كان
أهل الشرك يقولون : نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا ، وهم الذين يدعون ، يعني
الملائكة والمسيح وعزيرًا.
وقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }. روى البخاري ، من حديث سليمان بن مِهْران
الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي مَعْمر ، عن عبد الله في قوله : { أُولَئِكَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } قال : ناس من
الجن ، كانوا يعبدون ، فأسلموا. وفي رواية قال : كان ناس من الإنس ، يعبدون ناسًا
من الجن ، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم (3).
وقال قتادة ، عن معبد (4) بن عبد الله الزِّمَّاني (5) ، عن عبد الله بن عتبة بن
مسعود ، عن ابن مسعود في قوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ
إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } قال : نزلت في نفر من العرب ، كانوا يعبدون نفرًا
من الجن ، فأسلم الجِنِّيُّون ، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم ،
__________
(1) زيادة من ف.
(2) صحيح البخاري برقم (4713).
(3) صحيح البخاري برقم (4714 ، 4715).
(4) في ت : "سعيد".
(5) في ت ، ف : "الرماني".
(5/88)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
فنزلت
هذه الآية.
وفي رواية عن ابن مسعود : كانوا يعبدون صنفًا من الملائكة يقال لهم : الجن ،
فذكره.
وقال السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } قال :
عيسى وأمه ، وعُزير.
وقال مغيرة ، عن إبراهيم : كان ابن عباس يقول في هذه الآية : هم عيسى ، وعُزير ،
والشمس ، والقمر.
وقال مجاهد : عيسى ، والعُزير ، والملائكة.
واختار ابن جرير قول ابن مسعود ؛ لقوله : { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ } ، وهذا لا يعبر به (1) عن الماضي ، فلا يدخل فيه عيسى والعُزير.
قال : والوسيلة هي القربة ، كما قال قتادة ؛ ولهذا قال : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ }
وقوله : { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } : لا تتم العبادة إلا
بالخوف والرجاء ، فبالخوف ينكف (2) عن المناهي ، وبالرجاء ينبعث على (3) الطاعات.
وقوله : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } أي : ينبغي أن يحذر منه ،
ويخاف من وقوعه وحصوله ، عياذًا بالله منه.
{ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ
مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) }.
هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتَمَ وقضى بما قد كتبه عنده في اللوح المحفوظ :
أنه ما من قرية إلا سيهلكها ، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم { عَذَابًا
شَدِيدًا } إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء ، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم ،
كما قال عن الأمم الماضين : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
} [ هود : 101 ] وقال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا
نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا } [
الطلاق : 7 ، 8 ].
__________
(1) في ت : "لا يغن به".
(2) في ف ، أ : "ينكشف".
(3) في ف : "إلى".
(5/89)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
{
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ
بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا (59) }.
قال سُنَيْد ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : قال المشركون
: يا محمد ، إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء ، فمنهم من سُخّرت له الريح ، ومنهم من
كان يحيي الموتى ، فإن سَرّك أن نؤمن بك ونصدقك ، فادع ربك أن يكون لنا الصفا
ذهبًا. فأوحى الله إليه : "إني قد سمعت الذي
(5/89)
قالوا
، فإن شئت أن نفعل الذي قالوا ، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب ؛ فإنه ليس بعد نزول
الآية مناظرة ، وإن شئت أن نَستأني بقومك استأنيتُ بهم ؟" قال : "يا رب
، استأن بهم".
وكذا قال قتادة ، وابن جريج ، وغيرهما.
قال (1) الإمام أحمد : حدثنا عثمان بن محمد ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن جعفر بن
إياس (2) ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه
وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا ، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا ، فقيل له : إن شئت
أن نستأني بهم ، وإن شئت أن نُؤتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكتُ من
كان قبلهم من الأمم : قال : "لا بل استأن بهم". وأنزل الله : { وَمَا
مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً } رواه (3) النسائي من حديث جرير ، به
(4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن سَلَمة بن كُهيل ، عن
عمران أبى الحكيم (5) ، عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم :
ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ، ونؤمن بك. قال : "وتفعلون ؟"
قالوا : نعم. قال : فدعا فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن
شئت أصبح الصفا لهم ذهبًا ، فمن كفر منهم بعد ذلك عَذّبته عذابًا لا أعذبه أحدًا
من العالمين ، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. فقال : "بل باب التوبة
والرحمة" (6).
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري ، حدثنا
خلف ابن تميم المصيصي ، عن عبد الجبار بن عمار الأيلِيّ ، عن عبد الله بن عطاء بن
إبراهيم ، عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت : سمعت الزبير يقول : لما
نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] صاح رسول الله
صلى الله عليه وسلم على أبي قَبِيس : "يا آل عبد مناف ، إني نذير!"
فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم ، فقالوا : تزعم أنك نبي يوحى إليك ، وأن سليمان سخر
له الريح والجبال ، وأن موسى سخر له البحر ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، فادع الله
أن يسير عنا هذه الجبال ، ويفجر (7) لنا الأرض أنهارًا ، فنتخذها محارث فنزرع
ونأكل ، وإلا فادع الله أن يحيي لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا ، وإلا فادع الله أن
يصير لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهبًا ، فننحت منها ، وتغنينا عن رحلة الشتاء
والصيف ، فإنك تزعم أنك كهيئتهم! قال : فبينا نحن حوله ، إذ نزل عليه الوحي ، فلما
سري عنه قال : "والذي نفسي بيده ، لقد أعطاني ما سألتم ، ولو شئت لكان ،
ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة ، فيؤمن مؤمنكم ، وبين أن يكلكم إلى ما
اخترتم لأنفسكم ، فتضلوا عن باب الرحمة ، فلا يؤمن منكم أحد ، فاخترت باب الرحمة ،
فيؤمن مؤمنكم. وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم ، أنه يعذبكم عذابًا لا يعذبه
أحدًا من العالمين" ونزلت : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا
أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ }
__________
(1) في ف : "وقال".
(2) في ف ، أ : "ابن أبي إياس".
(3) في أ : "قد رواه".
(4) المسند (1/258) وسنن النسائي الكبرى برقم (11290).
(5) في هـ : "عمران بن حكيم" ، والتصويب من أطراف المسند وكتب الرجال.
(6) المسند (1/242).
(7) في ف : "وتفجر".
(5/90)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
وحتى
قرأ ثلاث آيات ونزلت : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ
قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } [ الرعد : 31 ] (1).
ولهذا قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ } أي : نبعث الآيات
ونأتي بها على ما سأل قومك منك ، فإنه سهل علينا يسير لدينا ، إلا أنه قد كذب بها
الأولون بعدما سألوها ، وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إذا كذبوا بها
بعد نزولها ، كما قال الله تعالى في المائدة : : { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا
عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا
أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [ المائدة : 115 ] وقال تعالى عن ثمود ،
حين سألوا آية : ناقة تخرج (2) من صخرة عَيَّنُوها ، فدعا صالح ربه ، فأخرج له
منها ناقة على ما سألوا " فظلموا بها" (3) أي : كفروا بمن خلقها ،
وكذبوا رسوله وعقروا الناقة فقال : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ
ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَآتَيْنَا
ثَمُودَ النَّاقَةَ } أي : دالة على وحدانية من خلقها وصدق الرسول الذي أجيب دعاؤه
فيها { فَظَلَمُوا بِهَا } أي : كفروا بها ومنعوها شِرْبها وقتلوها ، فأبادهم الله
عن آخرهم ، وانتقم منهم ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وقوله : { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } قال قتادة : إن الله خوف
الناس بما يشاء (4) من آياته لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون ، ذُكر لنا أن الكوفة
رجفت على عهد ابن مسعود فقال : يا أيها الناس ، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.
وهكذا رُوي أن المدينة زُلزلت على عهد عمر بن الخطاب مرات ، فقال عمر : أحدثتم ،
والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث
المتفق عليه : "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، وإنهما لا ينكسفان لموت
أحد ولا لحياته ، ولكن الله ، عز وجل ، يرسلهما يخوف بهما (5) عباده ، فإذا رأيتم
ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره". ثم قال : " يا أمة محمد ،
والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته ، يا أمة محمد ، والله لو
تعلمون ما أعلم ، لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا" (6).
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا
كَبِيرًا (60) }.
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرّضًا له على إبلاغ رسالته ، ومخبرًا له
بأنه قد عصمه من الناس ، فإنه القادر عليهم ، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته.
قال مجاهد ، وعروة بن الزبير ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم في قوله : { وَإِذْ
قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ }
__________
(1) مسند أبي يعلى (2/40) وقال الهيثمي في المجمع (7/85) : "رواه أبو يعلى من
طريق عبد الجبار بن عمر الأيلي ، عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم ، وكلاهما وثق ،
وقد ضعفهما الجمهور".
(2) في ف ، أ : "أن يخرج لهم ناقة".
(3) في أ : "فلما ظلموا بها" وهو خطأ.
(4) في ف : "بأشياء".
(5) في ف ، أ : "ولكن يخوف الله بهما".
(6) صحيح البخاري برقم (1044) وصحيح مسلم برقم (901).
(5/91)
أي :
عصمك منهم.
وقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ } قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن
عكرمة ، عن ابن عباس : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ } قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
ليلة أسري به { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ } شجرة الزقوم (2).
وكذا رواه أحمد ، وعبد الرزاق ، وغيرهما ، عن سفيان بن عيينة به (3) ، وكذا رواه
العوفي ، عن ابن عباس ، وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء : مجاهد ، وسعيد بن جبير ،
والحسن ، ومسروق ، وإبراهيم ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد ، وغير واحد. وقد تقدمت
أحاديث الإسراء في أول السورة مستقصاة ، ولله (4) الحمد والمنة. وتقدم أن ناسًا رجعوا
عن دينهم بعدما كانوا على الحق ؛ لأنه لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك ، فكذبوا بما لم
يحيطوا بعلمه ، وجعل الله ذلك ثباتًا ويقينًا لآخرين ؛ ولهذا (5) قال : { إِلا
فِتْنَةً } أي : اختبارًا وامتحانًا. وأما "الشجرة الملعونة" ، فهي شجرة
الزقوم ، كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار ، ورأى
شجرة الزقوم ، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل لعنه الله (6) [بقوله] (7) هاتوا لنا
تمرًا وزبدًا ، وجعل يأكل هذا بهذا ويقول : تَزَقَّموا ، فلا نعلم الزقوم غير هذا.
حكى ذلك ابن عباس ، ومسروق ، وأبو مالك ، والحسن البصري ، وغير واحد ، وكل من قال
: إنها ليلة الإسراء ، فسره كذلك (8) بشجرة الزقوم.
وقد قيل : المراد بالشجرة الملعونة : بنو أمية. وهو غريب ضعيف.
قال ابن جرير : حدثت عن محمد بن الحسن بن زَبَالة ، حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن
سهل بن سعد ، حدثني أبي عن جدي قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان
ينزون على منبره نزو القرود (9) فساءه ذلك ، فما استجمع ضاحكًا حتى مات. قال :
وأنزل (10) الله في ذلك : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ } الآية (11).
وهذا السند ضعيف جدًا ؛ فإن "محمد بن الحسن بن زَبَالة" متروك ، وشيخه
أيضًا ضعيف بالكلية. ولهذا اختار ابن جرير : أن المراد بذلك ليلة الإسراء ، وأن
الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم ، قال : لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك ، أي
: في الرؤيا والشجرة.
وقوله : { وَنُخَوِّفُهُمْ } أي : الكفار بالوعيد والعذاب والنكال { فَمَا
يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا } أي : تماديا فيما هم فيه من الكفر
والضلال. وذلك من خذلان الله لهم.
__________
(1) في ف : "النبي صلى الله عليه وسلم".
(2) صحيح البخاري برقم (4716).
(3) المسند (1/221).
(4) في ت : "فلله".
(5) في ت : "فلهذا".
(6) في ف ، أ : "عليه لعائن الله".
(7) زيادة من ت.
(8) في ف : "فسر ذلك".
(9) في أ : "القردة".
(10) في ف : "فأنزل".
(11) تفسير الطبري (15/77).
(5/92)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
{
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ قَالَ
أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي
كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ
ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا (62) }
يذكر تعالى عَدَاوَةَ إبليس - لعنه الله - لآدم ، عليه السلام ، وذريته ، وأنها
عداوة قديمة منذ خلق آدم ، فإنه تعالى أمرالملائكة بالسجود ، فسجدوا كلهم إلا
إبليس استكبر وأبى أن يسجد له ؛ افتخارًا عليه واحتقارًا له { قَالَ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } كما قال في الآية الأخرى : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ الأعراف : 12 ].
وقال أيضًا : { أَرَأَيْتَكَ } ، يقول للرب جراءة وكفرًا ، والرب يحلم (1) وينظر {
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول : لأستولين على ذريته إلا قليلا.
وقال مجاهد : لأحتوين. وقال ابن زيد : لأضلنهم.
وكلها متقاربة ، والمعنى : أنه يقول : أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته عليّ ، لئن
أنظرتني لأضلن ذرّيته إلا قليلا منهم.
{ قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً
مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ
وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا (65) }.
لما سأل إبليس [عليه اللعنة] (2) النظرة قال الله له : { اذْهَبْ } فقد أنظرتك.
كما قال في الآية الأخرى : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } [ الحجر : 37 ، 38 ] ثم أوعده ومن تَبِعه من ذرية آدم
جهنم ، فقال : { فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ } أي :
على أعمالكم { جَزَاءً مَوْفُورًا }
قال مجاهد : وافرا. وقال قتادة : مُوَفّرا عليكم ، لا ينقص لكم منه.
وقوله : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قيل : هو الغناء.
قال مجاهد : باللهو والغناء ، أي : استخفهم بذلك.
وقال ابن عباس في قوله : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ }
قال : كل داع دعا إلى معصية الله ، عز وجل ، وقال قتادة ، واختاره ابن جرير.
__________
(1) في ت ، أ : "يحكم".
(2) زيادة من ف ، أ.
(5/93)
وقوله
: { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } يقول : واحمل عليهم بجنودك
خَيَّالتهم ورَجْلتَهم (1) ؛ فإن "الرّجْل" جمع "راجل" ، كما
أن "الركب" جمع "راكب" و"صحب" جمع
"صاحب".
ومعناه : تسلط عليهم بكل ما تقدرعليه. وهذا أمر قدري ، كما قال تعالى : { أَلَمْ
تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا }
[ مريم : 83 ] أي : تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا ، وتسوقهم إليها (2) سوقًا. وقال
ابن عباس ، ومجاهد في قوله : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } قال
: كل راكب وماش في معصية الله.
وقال قتادة : إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس ، وهم الذين يطيعونه.
وتقول العرب : "أجلب فلان على فلان" : إذا صاح عليه. ومنه : "نهى
في المسابقة عن الجَلَب والجَنَب" ومنه اشتقاق "الجلبة" ، وهي
ارتفاع الأصوات.
وقوله : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ } قال ابن عباس ومجاهد : هو ما
أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله.
وقال عطاء : هو الربا. وقال الحسن : [هو] (3) جمعها من خبيث ، وإنفاقها في حرام.
وكذا قال قتادة.
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما : أما مشاركته إياهم في أموالهم ، فهو
ما حرموه من أنعامهم ، يعني : من البحائر والسوائب ونحوها. وكذا قال الضحاك
وقتادة.
[ثم] (4) قال ابن جرير : والأولى أن يقال : إن الآية تعم ذلك كله.
وقوله : { وَالأولادِ } قال العوفي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك : يعني أولاد
الزنا.
وقال علي ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهًا بغير
علم.
وقال قتادة ، عن الحسن البصري : قد والله شاركهم في الأموال والأولاد مَجَّسُوا
وهودوا ونَصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام ، وجَزَّؤوا من أموالهم جزءًا للشيطان
(5) وكذا قال قتادة سواء.
وقال أبو صالح ، عن ابن عباس : هو تسميتهم أولادهم "عبد الحارث"
و"عبد شمس" و"عبد فلان".
قال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصواب أن يقال : كل مولود ولدته أنثى ، عصى الله
فيه ، بتسميته ما (6) يكرهه الله ، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله ، أو
بالزنا بأمه ، أو بقتله ووأده ، وغير ذلك من الأمور التي يعصي (7) الله بفعله به
أو فيه ، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه ؛ لأن الله لم
يخصص بقوله : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ } معنى الشركة فيه بمعنى
دون معنى ، فكل ما عصي الله فيه - أو به ، وأطيع فيه الشيطان - أو به ، فهو
مشاركة.
__________
(1) في ت ، ف : "ورجالتهم".
(2) في ت : "إلينا".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "الشيطان".
(6) في ف : "بما".
(7) في ت : "يعفى".
(5/94)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
وهذا
الذي قاله مُتَّجه ، وكل (1) من السلف ، رحمهم الله ، فسر بعض المشاركة ، فقد ثبت
في صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار (2) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"يقول الله عز وجل : إني خلقت عبادي حُنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم (3)
عن دينهم ، وحَرّمت عليهم ما أحللت لهم" (4).
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لو أن أحدهم إذا أراد
أن يأتي أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه
إن يُقَدّر بينهما ولد في ذلك ، لم يضره الشيطان أبدًا" (5).
وقوله : { وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } كما أخبر
تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق : { إِنَّ اللَّهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا
تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُصْرِخِيَّ } الآية[ إبراهيم : 22 ].
وقوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } : إخبار بتأييده
تعالى عباده المؤمنين ، وحفظه إياهم ، وحراسته لهم من الشيطان الرجيم ؛ ولهذا قال
: { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } أي : حافظًا ومؤيدًا وناصرًا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهيعة ، عن موسى بن وَرْدَان ، عن
أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن
المؤمن ليُنْضي شياطينه (6) كما ينضي أحدكم بَعيرَه في السفر" (7).
ينضي ، أي : يأخذ بناصيته ويقهره.
{ رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) }.
يخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر ، وتسهيلها (8) لمصالح
عباده لابتغائهم من فضله (9) في التجارة من إقليم إلى إقليم ؛ ولهذا قال : {
إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } أي : إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ، ورحمته
بكم.
__________
(1) في ت ، ف" "فكل".
(2) في ف ، أ : "عن ابن عباس عن عياض بن حمار". وفي ت :
"حماد" بدل "حمار".
(3) في ت : "واجتالتهم".
(4) صحيح مسلم برقم (2865).
(5) صحيح البخاري برقم (141) وصحيح مسلم برقم (1434).
(6) في ت : "شيطانه".
(7) المسند (2/380).
(8) في ت ، ف ، أ : "وتسهيله لها".
(9) في ف ، أ : "فضله لهم".
(5/95)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا (67) }
(5/95)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
.
يخبر تعالى أنه إذا مس الناس ضرّ ، دعوه منيبين إليه ، مخلصين له الدين ؛ ولهذا
قال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا
إِيَّاهُ } أي : ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله ، كما اتفق لعكرمة بن أبي
جهل لما ذهب فارًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة ، فذهب هاربًا ،
فركب في البحر ليدخل الحبشة ، فجاءتهم (1) ريح عاصف ، فقال القوم بعضهم لبعض : إنه
لا يغني عنكم إلا أن تدعو الله وحده. فقال عكرمة في نفسه : والله لئن كان لا ينفع
في البحر غيره ، فإنه لا ينفع في البر غيره ، اللهم لك عليّ عهد ، لئن أخرجتني منه
لأذهبن فَأضعن (2) يدي في يديه (3) ، فلأجدنه رءوفًا رحيمًا. فخرجوا من البحر ،
فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن (4) إسلامه ، رضي الله عنه
وأرضاه.
وقوله : { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } أي : نسيتم ما عرفتم
من توحيده في البحر ، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له.
{ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا } أي : سَجِيَّتُه هذا ، ينسى النعم ويجحدها ، إلا
من عصم الله.
{ أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا (68) }
يقول تعالى : أفحسبتم أن نخرجكم (5) إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه!
{ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } ،
وهو : المطر الذي فيه حجارة. قاله مجاهد ، وغير واحد ، كما قال تعالى : { إِنَّا
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ (6) حَاصِبًا إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ } [
القمر : 34 ] وقد قال في الآية الأخرى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ } (7) [ هود : 82 ] وقال : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي
السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [
الملك : 16 ، 17 ].
وقوله : { ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا } أي : ناصرًا يرد ذلك عنكم ، وينقذكم
منه [والله سبحانه وتعالى أعلم] (8).
{ أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ
عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) }.
يقول تعالى : { أَمْ أَمِنْتُمْ } أيها المعرضون عنا بعدما اعترفوا بتوحيدنا في
البحر ، وخرجوا إلى البر (9) { أَنْ يُعِيدَكُمْ } في البحر مرة ثانية {
فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ } أي : يقصف الصواري
__________
(1) في ف : "فجاءهم".
(2) في ت : "فأضع" ، وفي ف : "فلأضعن".
(3) في أ : "يدي محمد".
(4) في ت : " صلى الله عليه وسلم فأحسن".
(5) في ت ، "أن يخرجوكم" ، وفي ف ، أ : "أن يخرجكم".
(6) في ف : "عليكم" وهو خطأ.
(7) في ت ، ف ، أ : "من طين" وهو خطأ.
(8) زيادة من ف.
(9) في ت : "إلى التراب".
(5/96)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
ويغرق
المراكب.
قال ابن عباس وغيره : القاصف : ريح البحار (1) التي تكسر المراكب وتغرقها (2).
وقوله : { فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ } (3) أي : بسبب كفركم وإعراضكم عن
الله تعالى.
وقوله : { ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } قال ابن عباس :
نصيرًا.
وقال مجاهد : نصيرًا ثائرًا ، أي : يأخذ بثأركم بعدكم.
وقال قتادة : ولا نخاف أحدًا يتبعنا بشيء من ذلك.
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ
خَلَقْنَا تَفْضِيلا (70) }.
يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم ، وتكريمه إياهم ، في خلقه لهم على أحسن الهيئات
وأكملها (4) كما قال : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [
التين : 4 ] أي : يمشي قائمًا منتصبًا على رجليه ، ويأكل بيديه - وغيره من
الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه - وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا ، يفقه بذلك
كله وينتفع به ، ويفرق بين الأشياء ، ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور
الدنيوية والدينية.
{ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ } (5) أي : على الدواب من الأنعام والخيل والبغال
، وفي "البحر" أيضًا على السفن الكبار والصغار.
{ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } أي : من زروع وثمار ، ولحوم وألبان ، من
سائر أنواع الطعوم (6) والألوان ، المشتهاة اللذيذة ، والمناظر الحسنة ، والملابس
الرفيعة (7) من سائر الأنواع ، على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها ، مما
يصنعونه لأنفسهم ، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي.
{ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا } أي : من سائر
الحيوانات وأصناف المخلوقات.
وقد استُدل بهذه الآية على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة ، قال عبد الرزاق :
أخبرنا مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم قال : قالت الملائكة : يا ربنا ، إنك أعطيت بني
آدم الدنيا ، يأكلون منها ويتنعمون ، ولم تعطنا ذلك فأعطناه في الآخرة. فقال الله
: "وعزتي وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ، كمن قلت له : كن فكان"
(8).
وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه ، وقد روي من وجه آخر متصلا.
وقال (9) الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن صَدَقَة البغدادي ،
حدثنا إبراهيم
__________
(1) في ت : "البحارة".
(2) في ف : "يكسر المراكب ويغرقها".
(3) في ت : "فتغرقكم". وفي ف : "فيغرقكم".
(4) في أ : "وأجملها".
(5) في ت ، ف : "البر والبحر".
(6) في ت : "الأطعمة".
(7) في ت ، ف ، أ : "المرتفعة".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/325).
(9) في ف : "فقال".
(5/97)
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
بن
عبد الله بن خالد المِصِّيصِيّ ، حدثنا حجاج بن محمد ، حدثنا أبو غَسَّان محمد بن
مطرف ، عن صفوان بن سُليم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "إن الملائكة قالت : يا ربنا ، أعطيت بني آدم الدنيا ،
يأكلون فيها (1) ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ،
فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ،
كمن قلت له : كن ، فكان" (2).
وقد روى ابن عساكر من طريق محمد بن أيوب الرازي ، حدثنا الحسن بن علي بن خلف
الصيدلاني ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن ، حدثني عثمان بن حصن بن عبيدة بن عَلاق ،
سمعت عروة بن رُوَيْم اللخمي ، حدثني أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : "إن الملائكة قالوا : ربنا ، خلقتنا وخلقت بني آدم ، فجعلتهم
يأكلون الطعام ، ويشربون الشراب ، ويلبسون الثياب ، ويتزوجون النساء ، ويركبون
الدواب ، ينامون (3) ويستريحون ، ولم تجعل لنا من ذلك شيئًا ، فاجعل لهم الدنيا
ولنا الآخرة. فقال الله عز وجل : لا أجعل من خلقته بيدي ، ونفخت فيه من روحي ، كمن
قلت له : كن ، فكان" (4).
وقال الطبراني : حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا عمر (5) بن سهل ، حدثنا عبيد الله بن
تمام ، عن خالد الحذاء ، عن بشر بن شِغَاف (6) عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما شيء أكرم على الله يوم القيامة من
ابن آدم". قيل : يا رسول الله ولا الملائكة ؟ قال : "ولا الملائكة ،
الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر" (7). وهذا حديث غريب جدًا.
{ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (71)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا
(72) }.
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة : أنه يحاسب كل أمة بإمامهم.
وقد اختلفوا في ذلك ، فقال مجاهد وقتادة : أي بنبيهم. وهذا كقوله : { وَلِكُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ
لا يُظْلَمُونَ } [ يونس : 47 ].
__________
(1) في ت : "منها".
(2) وفي إسناده إبراهيم بن عبد الله المصيصي وهو كذاب ، ورواه في المعجم الأوسط
برقم (87) "مجمع البحرين" من طريق طلحة بن زيد عن صفوان بن سليم به ،
وقال : "لم يروه عن صفوان إلا طلحة ، وأبو غسان محمد بن مطرف" وفي
إسناده طلحة بن زيد وهو كذاب.
(3) في ت : "وينامون".
(4) وذكره الهندي في كنز العمال (12/191) وعزاه لابن عساكر من حديث أنس ، وقد جاء
من وجه آخر ؛ فرواه الطبراني في مسند الشاميين من طريق أحمد بن يعلى ، عن هشام بن
عمار ، عن عثمان بن علاق قال : سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر فذكره ، ورواه
البيهقي في الأسماء والصفات من طريق جنيد بن حكيم ، عن هشام بن عمار ، عن عبد ربه
بن صالح قال : سمعت عروة بن رويم يحدث عن جابر فذكره. أ. هـ. مستفادا ذلك الزيلعي
في كتابه تخريج الكشاف.
(5) في ت ، ف : "معمر".
(6) في ف : "شعاب".
(7) قال الهيثمي في المجمع (1/82) : "رواه الطبراني في الكبير ، وفيه عبيد
الله بن تمام وهو ضعيف".
(5/98)
وقال
بعض السلف : هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث ؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن زيد : بكتابهم الذي أنزل على نبيهم ، من التشريع.
واختاره ابن جرير ، وروي عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه قال : بكتبهم. فيحتمل
أن يكون أراد هذا ، وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { يَوْمَ
نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي : بكتاب أعمالهم ، وكذا قال أبو العالية
، والحسن ، والضحاك. وهذا القول هو الأرجح ؛ لقوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ
أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ } [يس : 12]. وقال تعالى : { وَوُضِعَ
الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا
وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا
أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف
: 49].
وقال تعالى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى
كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا
يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ } [الجاثية : 28 ، 29].
وهذا لا ينافي (1) أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته ، فإنه لا بد أن يكون
شاهدا عليها بأعمالها ، كما قال : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا
وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ } [الزمر : 69] ،
وقال { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلاءِ شَهِيدًا } [النساء : 41]..
ولكن المراد هاهنا بالإمام (2) هو كتاب الأعمال ؛ ولهذا قال تعالى : { يَوْمَ
نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ } أي : من فرحته وسروره بما فيه من العمل
الصالح ، يقرؤه ويحب قراءته ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي
مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } إلى أن قال : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ
فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ }
[الحاقة : 19 - 26]..
وقوله : { وَلا يُظْلَمُونَ (3) فَتِيلا } قد تقدم أن "الفتيل" هو الخيط
المستطيل في شق النواة.
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا في هذا فقال : حدثنا محمد بن يَعْمَر (4)
ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن
السُّدِّيّ ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم في قول الله : { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } قال :
"يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ، ويمد له في جسمه ، ويُبَيَّض وجهه ، ويجعل
على رأسه تاج من لؤْلؤة تَتَلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد ، فيقولون :
اللهم ائتنا (5) بهذا ، وبارك لنا في هذا. فيأتيهم فيقول لهم : أبشروا ، فإن لكل
رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فَيُسْود وجهه ، ويمدّ له في جسمه ، ويراه أصحابه
فيقولون : نعوذ بالله من هذا - أو : من شر هذا - اللهم لا تأتنا به. فيأتيهم
فيقولون : اللهم اخزه (6) فيقول : أبعدكم الله ، فإن لكل رجل منكم مثل هذا".
__________
(1) في ت ، ف : "لا ينفي".
(2) في ف : "بالإمام هاهنا".
(3) في ف : "تظلمون".
(4) في ت ، ف ، أ : "معمر".
(5) في هـ ، ت : "اعترينا" ، والمثبت من ف.
(6) في ت : "أجرنا".
(5/99)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
ثم
قال البزار : لا يروى إلا من هذا الوجه (1).
وقوله : { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى
وَأَضَلُّ سَبِيلا } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : { وَمَنْ كَانَ
فِي هَذِهِ } أي : في الحياة الدنيا { أَعْمَى } عن حجج الله وآياته وبيناته {
فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى } أي : كذلك يكون { وَأَضَلُّ سَبِيلا } أي : وأضل
منه كما كان في الدنيا ، عياذًا بالله من ذلك.
{ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ
عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ
لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ
الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) }.
يخبر تعالى عن تأييد (2) رسوله ، صلوات الله عليه وسلامه (3) ، وتثبيته ، وعصمته
وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار ، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره ، وأنه لا
يكله إلى أحد من خلقه ، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره ، ومظهر (4) دينه
على من عاداه وخالفه وناوأه ، في مشارق الأرض ومغاربها ، صلى الله عليه وسلم
تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.
__________
(1) ورواه الترمذي في السنن برقم (3136) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن ، عن عبيد
الله بن موسى به ، وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب".
(2) في ف : "تأييده".
(3) في ت : "صلوات الله وسلامه عليه".
(4) في ت : "فيظهر".
(5/100)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
{
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا
يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ
مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا (77) }.
قيل : نزلت في اليهود ، إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام
بلاد الأنبياء ، وترك سكنى المدينة.
وهذا القول ضعيف ؛ لأن هذه الآية مكية ، وسكنى المدينة بعد ذلك.
وقيل : إنها نزلت بتبوك. وفي صحته نظر.
قال البيهقي ، عن الحاكم ، عن الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار العُطاردي ، عن يونس
بن بُكيْر ، عن عبد الحميد بن بَهْرَام ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن عبد الرحمن بن
غَنْم ؛ أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا : يا أبا القاسم
، إن كنت صادقًا أنك نبي ، فالحق بالشام ؛ فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء.
فصدق (1) ما قالوا ، فغزا غزوة تبوك ، لا يريد إلا الشام. فلما بلغ تبوك ، أنزل
الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة : { وَإِنْ كَادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا } إلى قوله : { تَحْوِيلا
} فأمره الله بالرجوع إلى المدينة ، وقال : فيها محياك ومماتك ، ومنها تبعث (2).
__________
(1) في ت ، ف : "قال : فصدق".
(2) دلائل النبوة (5/254).
(5/100)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
وفي
هذا الإسناد نظر. والأظهر أن هذا ليس (1) بصحيح ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يغز تبوك عن قول اليهود ، إنما غزاها امتثالا لقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ } [التوبة :
123] ، وقوله (2) تعالى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة : 29]. وغزاها ليقتص وينتقم
ممن قتل أهل مؤتة ، من أصحابه ، والله أعلم. ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي
رواه الوليد بن مسلم ، عن عُفَير بن معدان ، عن سُلَيم بن عامر ، عن أبي أمامة ،
رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنزل القرآن في
ثلاثة أمكنة : مكة ، والمدينة ، والشام" (3). قال الوليد : يعني بيت المقدس.
وتفسير الشام بتبوك أحسن مما قال الوليد : إنه بيت المقدس والله أعلم.
وقيل : نزلت في كفار قريش ، هموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم ، فتوعدهم الله بهذه
الآية ، وأنهم لو أخرجوه (4) لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرًا. وكذلك وقع ؛ فإنه لم
يكن بعد هجرته من بين أظهرهم ، بعد ما اشتد أذاهم له ، إلا سنة ونصف. حتى جمعهم
الله وإياه ببدر على غير ميعاد ، فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم ، فقتل
أشرافهم (5) وسبى سراتهم (6) ؛ ولهذا قال : { سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا
قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا } أي : هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم : يخرج
الرسول من بين أظهرهم : ويأتيهم العذاب. ولولا أنه عليه [الصلاة و] (7) السلام
رسول الرحمة ، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ؛ ولهذا قال تعالى : {
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ
مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الأنفال : 33].
{ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ
الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ
فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا (79) }.
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرًا له بإقامة الصلوات المكتوبات في
أوقاتها : { أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } قيل (8) لغروبها. قاله ابن
مسعود ، ومجاهد ، وابن زيد.
وقال هُشَيْم ، عن مغيرة ، عن الشعبي ، عن ابن عباس : "دلوكها" :
زوالها. ورواه نافع ، عن ابن عمر. ورواه مالك في تفسيره ، عن الزهري ، عن ابن عمر.
وقاله أبو بَرْزَة الأسلمي وهو رواية أيضًا عن ابن مسعود. ومجاهد. وبه قال الحسن ،
والضحاك ، وأبو جعفر الباقر ، وقتادة. واختاره ابن جرير ، ومما استشهد عليه ما
رواه عن ابن حميد ، عن الحكم بن بشير ، حدثنا عمرو بن قيس ، عن ابن أبي ليلى ، [عن
رجل] (9) ، عن جابر بن عبد الله قال : دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء
من أصحابه فطعموا عندي ، ثم خرجوا حين زالت الشمس ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم
فقال : "اخرج يا أبا بكر ، فهذا حين دلكت الشمس" (10).
__________
(1) في ت : "ليس هذا".
(2) في ف : "ولقوله".
(3) رواه الطبراني في المعجم الكبير (8/201). من طريق هشام بن عمار ، عن الوليد بن
مسلم به ، وعفير بن معدان ضعيف.
(4) في ت : "خرجوه".
(5) في ت : "أشرارهم".
(6) في ف ، أ : "ذراريهم".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ت : "قبل".
(9) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(10) تفسير الطبري (15/93).
(5/101)
ثم
رواه عن سهل بن بكار ، عن أبي عَوَانة ، عن الأسود بن قيس ، عن نبيح العنزي ، عن
جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحوه. فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها
أوقات الصلاة الخمسة فمن قوله : { لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ }
وهو : ظلامه ، وقيل : غروب الشمس ، أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وقوله [تعالى]
(1) : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } يعني : صلاة الفجر.
وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترًا من أفعاله وأقواله (2)
بتفاصيل هذه الأوقات ، على ما عليه عمل أهل الإسلام (3) اليوم ، مما تلقوه خلفًا
عن سلف ، وقرنًا بعد قرن ، كما هو مقرر في مواضعه ، ولله الحمد.
{ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } قال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن
مسعود - وعن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه (4) ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم في هذه الآية : { إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } قال :
"تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار" (5).
وقال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن
الزهري ، عن أبي سلمة - وسعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : "فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، وتجتمع
ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر". ويقول أبو هريرة : اقرءوا إن
شئتم : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن ابن مسعود ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم - وحدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، عن
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } قال : "تشهده ملائكة الليل ، وملائكة
النهار".
ورواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، ثلاثتهم عن عُبَيْد بن أسباط بن محمد ، عن
أبيه ، به (7) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وفي لفظ في الصحيحين ، من طريق مالك ، عن أبي الزِّناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة
، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يتعاقبون فيكم ملائكة الليل وملائكة
النهار (8) ، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر ، فَيَعْرُجُ الذين باتوا
فيكم فيسألهم - وهو أعلم بكم - كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون ،
وتركناهم وهم يصلون" (9) وقال عبد الله بن مسعود : يجتمع الحرسان (10) في
صلاة الفجر ، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في ت : "أقواله وأفعاله".
(3) في ت : "السلام".
(4) في ت ، ف ، أ : "عنهما".
(5) رواه الطبري في تفسيره (15/94).
(6) صحيح البخاري برقم (4717).
(7) المسند (2/474) وسنن الترمذي برقم (3135) وسنن النسائي الكبرى برقم (11293)
وسنن ابن ماجة برقم (670) وهو عند أهل السنن من رواية الأعمش ، عن أبي صالح ، عن
أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(8) في ت : "بالليل وملائكة بالنهار".
(9) صحيح البخاري برقم (555) وصحيح مسلم برقم (632).
(10) في ت ، ف : "الحرستان".
(5/102)
وكذا
قال إبراهيم النَّخَعي ، ومجاهد ، وقتادة ، وغير واحد في تفسير هذه الآية.
وأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا - من حديث الليث بن سعد ، عن زيادة ، عن
محمد بن كعب القرظي ، عن فضالة بن عُبيد ، عن أبي الدرداء ، عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، فذكر حديث النزول وأنه تعالى يقول : "من يستغفرني أغفر له ، من
يسألني أعطه (1) ، من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر". فلذلك يقول : {
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } فيشهده الله ،
وملائكة الليل ، وملائكة النهار (2) - فإنه تفرد به زيادة ، وله بهذا حديث في سنن
أبي داود (3).
وقوله : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ } أمر له بقيام الليل
بعد المكتوبة ، كما ورد في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه سئل : أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة ؟ قال : "صلاة الليل" (4).
ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل ، فإن التهجد : ما كان بعد نوم.
قاله علقمة ، والأسود وإبراهيم النخعي ، وغير واحد وهو المعروف في لغة العرب.
وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يتهجد بعد نومه ،
عن ابن عباس ، وعائشة ، وغير واحد من الصحابة ، رضي الله عنهم ، كما هو مبسوط في
موضعه (5) ، ولله الحمد والمنة.
وقال الحسن البصري : هو ما كان بعد العشاء. ويحمل (6) على ما بعد النوم.
واختلف في معنى قوله : { نَافِلَةً لَكَ } فقيل : معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك
، فجعلوا قيام الليل واجبًا في حقه دون الأمة. رواه العوفي عن ابن عباس ، وهو أحد
قولي العلماء ، وأحد قولي الشافعي ، رحمه الله ، واختاره ابن جرير.
وقيل : إنما جعل قيام الليل (7) في حقه نافلة على الخصوص ؛ لأنه قد غفر له ما تقدم
من ذنبه وما تأخر ، وغيرهُ من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه
، قاله مجاهد ، وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي ، رضي الله عنه (8).
وقوله : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } أي : افعل هذا
الذي أمرتك به ، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحسدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم ، تبارك
وتعالى.
قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل : ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه
وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك
اليوم.
ذكر من قال ذلك : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن (9) أبي
إسحاق ، عن
__________
(1) في ف : "أعطيه".
(2) تفسير الطبري (15/94).
(3) سنن أبي داود برقم (3892) وأوله : "من اشتكى منكم شيئا أو اشتكاه أخ له
فليقل". وزيادة منكر الحديث.
(4) صحيح مسلم برقم (1163).
(5) في ف : "مواضعه".
(6) في ت : "ويحتمل".
(7) في ف ، أ : "قيام الليل واجبا".
(8) المسند (5/256).
(9) في ت : "ابن".
(5/103)
صلة
بن زُفَر ، عن حذيفة قال : يجمع الناس في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر
، حفاة عُراة كما خلقوا قيامًا ، لا تكلم نفس إلا بإذنه ، ينادى : يا محمد ، فيقول
: "لبيك وسعدَيك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهديّ من هَدَيْت ،
وعبدك بين يديك ، وبك وإليك ، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت ،
سبحانك رب البيت". فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل (1) (2).
ثم رواه عن بُنْدَار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، به (3). وكذا رواه
عبد الرزاق عن معمر والثوري ، عن أبي إسحاق ، به (4).
وقال ابن عباس : هذا المقام المحمود مقام الشفاعة. وكذا قال ابن أبي نَجِيح ، عن
مجاهد. وقاله الحسن البصري.
وقال قتادة : هو أول من تنشق عنه الأرض (5) ، وأول شافع ، وكان أهل العلم يرون أنه
المقام المحمود الذي قال الله : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا }
قلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا تشريفات [يوم القيامة] (6) لا يشركه
فيها (7) أحد ، وتشريفات لا يساويه فيها أحد ؛ فهو أول من تنشق عنه الأرض (8)
ويبعث راكبا إلى المحشر ، وله اللواء الذي آدم فمن دُونَه تحت لوائه ، وله الحوض
الذي ليس في الموقف أكثر واردًا منه ، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل
القضاء بين الخلائق ، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم
عيسى ، فكل يقول : "لست لها" حتى يأتوا إلى محمد (9) صلى الله عليه وسلم
فيقول : "أنا لها ، أنا لها" كما سنذكر ذلك مفصلا في هذا الموضع ، إن
شاء الله تعالى. ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار ، فيردون عنها.
وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته ، وأولهم إجازة على الصراط بأمته. وهو أول شفيع في
الجنة ، كما ثبت في صحيح مسلم. وفي حديث الصور : أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة
إلا بشفاعته وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم كلهم. ويشفع في رفع درجات أقوام
لا تبلغها أعمالهم. وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة ، لا تليق إلا
له. وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة (10) شفع (11) الملائكة والنبيون
والمؤمنون ، فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم (12) إلا الله ، ولا يشفع أحد مثله
ولا يساويه في ذلك. وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب "السيرة" في باب
الخصائص ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في أ ، ف : "الله تعالى".
(2) تفسير الطبري (15/97).
(3) تفسير الطبري (15/97) والرواية كما هي عند الطبري : حدثنا محمد بن المثنى قال
: حدثنا محمد بن جعفر "غندر" فلعله سبق نظر.
(4) تفسير الطبري (15/98).
(5) في ت : "تنشق الأرض عنه".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ت : "فينا".
(8) في ت : "الأرض عنه".
(9) في أ ، ف : "يأتوا محمدا".
(10) في ت ، ف : "في العصاة".
(11) في أ : "تشفع".
(12) في ت : "عددهم".
(5/104)
ولنذكر
الآن (1) الأحاديث الواردة في المقام المحمود ، وبالله المستعان :
قال البخاري : حدثنا إسماعيل بن أبان ، حدثنا أبو الأحوص ، عن آدم بن علي ، سمعت
ابن عمر [يقول] (2) : إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا ، كل أمة تتبع نبيها ،
يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه
وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقامًا محمودًا (3).
ورواه حمزة بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا (4) شعيب بن الليث ،
حدثنى (5) الليث ، عن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال : سمعت حمزة بن عبد الله بن
عمر يقول : سمعت عبد الله بن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إن الشمس لَتدنو حتى يبلغ (6) العَرَقُ نصفَ الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا
(7) بآدم ، فيقول : لست صاحب ذلك ، ثم بموسى فيقول كذلك ، ثم بمحمد فيشفع بين
الخلق (8) ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله مقامًا
محمودًا". [يحمده أهل الجنة كلهم] (9).
وهكذا رواه البخاري في "الزكاة" عن يحيى بن بُكَيْر ، وعبد الله بن صالح
، كلاهما عن الليث بن سعد ، به (10) ، وزاد "فيومئذ يبعثه الله مقامًا
محمودًا ، بحمده أهل الجمع كلهم".
قال البخاري : وحدثنا علي بن عَيَّاش ، حدثنا شعيب بن أبي حَمْزة ، عن محمد بن
المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ،
آت محمدا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته ، حَلَّت له شفاعتي
يوم القيامة". انفرد به دون مسلم (11).
حديث أبيّ :
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زهير بن محمد ، عن عبد الله بن
محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : "إذا كان يوم القيامة ، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم ، وصاحب شفاعتهم غير
فَخْر" (12).
وأخرجه الترمذي ، من حديث أبي عامر عبد الملك بن عَمْرو العَقَديّ ، وقال :
"حسن صحيح ". وابن ماجه من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به. وقد قدمنا
في حديث : "أبي بن كعب" في قراءة القرآن على سبعة أحرف ، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم في آخره : "فقلت : اللهم ، اغفر لأمتي ، اللهم اغفر لأمتي
، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق ، حتى إبراهيم عليه السلام" (13).
__________
(1) في ت : "الآية".
(2) زيادة من ت ، ف ، أ ، والبخاري.
(3) صحيح البخاري برقم (4718).
(4) في ت : "قال : حدثنا".
(5) في ت : "قال : حدثني".
(6) في ت : "تبلغ".
(7) في ت : "استغاث".
(8) في ت : "الخلائق".
(9) زيادة من أ.
(10) تفسير الطبري (15/98) وصحيح البخاري برقم (1475).
(11) صحيح البخاري برقم (4719).
(12) المسند (5/137).
(13) سنن الترمذي برقم (3613) وسنن ابن ماجة برقم (4314).
(5/105)
حديث
أنس بن مالك :
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة ، حدثنا قتادة
، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يجتمع (1) المؤمنون يوم
القيامة ، فيلهمون ذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا ، فأراحنا من مكاننا هذا.
فيأتون آدم فيقولون : يا آدم ، أنت أبو (2) البشر ، خلقك الله بيده ، وأسجد لك
ملائكته ، وعلمك أسماء كلّ شيء ، فاشفع لنا إلى ربك (3) حتى يريحنا من مكاننا هذا.
فيقول لهم آدم : لست هناكم ، ويذكر ذنبه الذي أصاب ، فيستحيي ربه ، عز وجل ، من
ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا نوحًا ، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون
نوحًا فيقول : لست هناكم ، ويذكر خطيئة (4) سؤاله ربه ما ليس له به علم ، فيستحيي
ربه من ذلك ، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. فيأتونه فيقول : لست هناكم ، ولكن
ائتوا موسى ، عبدًا كلمه الله ، وأعطاه التوراة. فيأتون موسى فيقول : لست هناكم ،
ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس (5) فيستحيي ربه من ذلك ، ولكن ائتوا عيسى عبد
الله ورسوله ، وكلمته وروحه ، فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا محمدًا
عبدًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني". قال الحسن هذا الحرف (6)
: "فأقوم فأمشي بين سِماطين من المؤمنين". قال أنس : "حتى أستأذن
على ربي ، فإذا رأيت ربي وقعت له - أو : خررت - ساجدًا لربي ، فيدعني ما شاء الله
أن يدعني". قال : "ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، واشفع تشفع ، وسل
تعطه. فأرفع رأسي ، فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ، ثم أشفع فيحدّ لي حدًا ، فأدخلهم
الجنة" : "ثم (7) أعود (8) إليه الثانية ، فإذا رأيت ربي وقعت (9) - أو
: خررت - ساجدًا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني. ثم يقال : ارفع محمد ، قل
يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ، ثم أشفع
فيحدّ لي حدًا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أعود في الثالثة ؛ فإذا رأيت ربي وقعت - أو :
خررت - ساجدًا لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : ارفع محمد ، قل
يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ثم أشفع
فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة. ثم أعود الرابعة فأقول : يا رب ، ما بقي إلا من حبسه
القرآن". فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "فيخرج
من النار من قال : "لا إله إلا الله" وكان في قلبه من الخير ما يزن
شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال : "لا إله إلا الله" وكان في قلبه من
الخير ما يزن بُرَّة ثم يخرج من النار من قال : "لا إله إلا الله" وكان
في قلبه من الخير ما يزن ذرة".
أخرجاه [في الصحيح] (10) من حديث سعيد ، به (11) وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عفان
، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بطوله (12).
__________
(1) في ف ، أ : "يجمع".
(2) في ت : "أول".
(3) في ت : "ربنا".
(4) في ت ، ف ، أ : "خطيئته".
(5) في ف : "بغير حق".
(6) في ت : "الخوف".
(7) في ف ، أ : "قال : ثم".
(8) في ت : "أدعو".
(9) في أ : "وقعت له".
(10) زيادة من أ.
(11) المسند (3/116) وصحيح البخاري برقم (4476) وصحيح مسلم برقم (193).
(12) المسند (3/244).
(5/106)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاري ، عن
النضر بن أنس ، عن أنس قال : حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "إني
لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط ، إذ جاءني عيسى ، عليه السلام ، فقال : هذه
الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون - أو قال : يجتمعون إليك - ويَدْعُون الله أن
يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله ، لغمّ (1) ما هم فيه ، فالخلق مُلجَمون
بالعرق ، فأما المؤمن فهو عليه كالزكْمَة ، وأما الكافر فيغشاه الموت ، فقال :
انتظر حتى أرجع إليك. فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش ، فلقي ما
لم يلق مَلَك مصطفى ولا نبي مرسل. فأوحى الله ، عز وجل ، إلى جبريل : أن اذهب إلى
محمد ، وقل له : ارفع رأسك ، وسل تُعطَه ، واشفع تشفع. فشفَعتُ (2) في أمتي : أن
أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانًا واحدًا. فما زلت أتردد إلى ربي ، عز وجل ، فلا
أقوم منه مقامًا إلا شفعت ، حتى أعطاني الله من ذلك ، أن قال : يا محمد ، أَدْخِلْ
[من أمتك] (3) من خلق الله ، عز وجل ، من شهد أن لا إله إلا الله يومًا واحدًا
مخلصًا ومات على ذلك " (4).
حديث بريدة ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر ، أخبرنا أبو إسرائيل ، عن الحارث
بن حَصِيرة ، عن ابن بُرَيْدة ، عن أبيه : أنه دخل على معاوية ، فإذا رجل يتكلم ،
فقال بريدة : يا معاوية ، تأذن لي في الكلام ؟ فقال : نعم - وهو يرى أنه يتكلم
بمثل (5) ما قال الآخر - فقال بريدة : سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة". قال :
فترجوها أنت يا معاوية ، ولا يرجوها عليّ ، رضي الله عنه ؟! (6).
حديث ابن مسعود :
قال الإمام أحمد : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا سعيد بن زيد ، حدثنا علي بن الحكم
البُنَاني ، عن عثمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة والأسود ، عن ابن مسعود قال : جاء
ابنا مُلَيْكَة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا إن أمَّنا [كانت] (7) تكرم
الزوج ، وتعطف على الولد - قال : وذكر الضيف - غير أنها كانت وأدت في الجاهلية ؟
فقال : "أمكما في النار". قال : فأدبرا والسوء يرى في وجوههما ، فأمر
بهما فَرُدَّا ، فَرَجَعَا والسرور (8) يرى في وجوههما ؛ رجاء أن يكون قد حدث شيء
، فقال : "أمي مع أمكما". فقال رجل من المنافقين : وما يغني هذا عن أمه
شيئًا! ونحن نطأ عقبيه. فقال رجل من الأنصار - ولم أر رجلا قط أكثر سؤالا منه - :
يا رسول الله ، هل وعدك ربك فيها أو فيهما ؟. قال : فظن أنه من شيء قد سمعه ، فقال
: "ما شاء الله ربي وما أطمعني (9) فيه ، وإني لأقوم المقام المحمود يوم
القيامة". فقالَ الأنصاري : يا رسول الله ، وما ذاك المقام المحمود ؟ قال :
" ذاك إذا
__________
(1) في ت ، "نعم".
(2) في ت : "فتشفعت".
(3) زيادة من ت ، أ ، والمسند.
(4) المسند (3/178) وقال الهيثمي في المجمع (10/374) : "رجاله رجال
الصحيح".
(5) في ت : "يميل".
(6) المسند (5/347) ، وأبو إسرائيل الملائي ضعيف.
(7) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(8) في ت : "والسوء".
(9) في ت : "وما طمعني".
(5/107)
جيء
بكم حفاة عراة غرلا فيكون أول من يكسى إبراهيم ، عليه السلام ، فيقول : اكسوا
خليلي. فيؤتى بريطتين بيضاوين ، فيلبسهما ثم يقعده مستقبل العرش ، ثم أوتي بكسوتي
فألبسها ، فأقوم عن يمينه مقامًا لا يقومه أحد ، فيغبطني فيه الأولون والآخرون.
ويفتح نهر (1) من الكوثر إلى الحوض". فقال المنافقون : إنه ما جرى ماء قط إلا
على حال أو رضراض. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حاله المسك ، ورضراضه
التُّوم". [قال المنافق : لم أسمع كاليوم. قلَّما جرى ماء قط على حال أو
رضراض ، إلا كان له نبتة. فقال الأنصاري : يا رسول الله ، هل له نبت ؟ قال
"نعم ، قضبان الذهب"] (2). قال المنافق : لم أسمع كاليوم ، فإنه قلما
ينبت قضيب إلا أورق ، وإلا كان له ثمر! قال الأنصاري : يا رسول الله ، هل له ثمرة
؟ قال : "نعم ، ألوان الجوهر ، وماؤه أشد بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ،
من شرب منه شربةً (3) لا يظمأ بعده ، ومن حرمه لم يَرْوَ بعده" (4).
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا يحيى بن سَلَمَة بن كُهَيْل ، عن أبيه ، عن أبي
الزّعْرَاء ، عن عبد الله قال : ثم يأذن الله ، عز وجل ، في الشفاعة ، فيقوم روح
القدس جبريل ، ثم يقوم إبراهيم خليل الله ، ثم يقوم عيسى أو موسى - قال أبو
الزعراء : لا أدري أيهما - قال : ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعًا ، فيشفع
لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع ، وهو المقام المحمود الذي قال الله عز وجل : {
عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } (5).
حديث كعب بن مالك ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا محمد بن حرب ، حدثنا الزبيدي ،
عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن عبد الله [بن كعب] (6) بن مالك ، عن كعب بن مالك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا
وأمتي على تل ، ويكسوني ربي ، عز وجل ، حلة خضراء (7) ثم يؤذن لي فأقول ما شاء
الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود" (8).
حديث أبي الدرداء ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن
عبد الرحمن ابن جُبَير ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: "أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة ، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع
رأسه ، فأنظر إلى ما بين يدي ، فأعرف أمتي من بين الأمم ، ومن خلفي مثل ذلك ، وعن
يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك". فقال رجل : يا رسول الله ، كيف تعرف
أمتك من بين الأمم ، فيما بين نوح إلى أمتك ؟ قال : "هم غرّ مُحَجَّلُون ، من
أثر الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يُؤتَونَ كتبهم بأيمانهم ،
وأعرفهم تسعى (9) بين أيديهم ذريتهم" (10).
__________
(1) في ت : "لهم".
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) في ت ، أ : "شرابا".
(4) المسند (1/398).
(5) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11296) من طريق بندار ، عن غندر ، عن
شعبة ، عن سلمة بن كهيل بنحوه.
(6) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(7) في ت : "حمراء".
(8) المسند (3/456).
(9) في ت ، أ : "يسعى".
(10) المسند (5/199).
(5/108)
حديث
أبي هريرة ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو حَيَّان ، حدثنا
أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، قال : أتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم بلحم ، فَرُفع إليه الذراع - وكانت تعجبه - فَنَهَسَ منها نَهْسة (1) ، ثم
قال : "أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون ممّ ذاك ؟ يجمع الله الأولين
والآخرين في صعيد واحد ، يُسْمعهم الداعي ويَنفذُهم البصر ، وتدنو الشمس فيبلغ
الناس من الغمّ (2) والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. فيقول بعض الناس لبعض : [ألا
ترون إلى ما أنتم فيه ؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى
ربكم عز وجل ؟ فيقول بعض الناس لبعض] (3) : أبوكم آدم!.
فيأتون آدم ، فيقولون : يا آدم ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من
روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ؛ فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا
ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن
يغضب بعده مثله ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته ، نفسي ، نفسي ، نفسي! اذهبوا إلى
غيري ، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحًا فيقولون : يا نوح ، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسماك الله عبدًا
شكورًا ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول
نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنه
كانت لي دعوة (4) على قومي ، نفسي ، نفسي ، نفسي! اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى
إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم ، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض ، [اشفع
لنا إلى ربك] (5) ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول : إن ربي قد
غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، فذكر كذباته نفسي ،
نفسي ، نفسي [اذهبوا إلى غيري] (6) اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه
على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول
لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ،
وإني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها ، نفسي ، نفسي ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا
إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى ، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه -
قال : هكذا هو - وكلمت الناس في المهد ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟
ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله
مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، ولم يذكر ذنبا ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد.
__________
(1) في أ : "فنهش منها نهشة".
(2) في ت : "الهم".
(3) زيادة من المسند
(4) في ت ، أ : "دعوة دعوتها"
(5) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(6) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5/109)
فيأتوني
فيقولون : يا محمد ، أنت رسول الله ، وخاتم الأنبياء ، غفر الله لك ما تقدم من
ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟
فأقوم فآتي تحت العرش ، فأقع ساجدًا لربي ، عز وجل ، ثم يفتح الله عليّ ، ويلهمني
من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي. فيقال : يا محمد ، ارفع
رأسك ، وسل تعطه ، واشفع تشفع. فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، يا رب أمتي أمتي ، يا
رب ، أمتي أمتي! فيقال : يا محمد : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن
من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب". ثم قال :
"والذي نفس محمد بيده لما بين مِصْراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وَهَجَر
، أو كما بين مكة وبُصْرَى". أخرجاه في الصحيحين (1).
وقال مسلم ، رحمه الله : حدثنا الحكم بن موسى ، حدثنا هِقْلُ بن زياد ، عن
الأوزاعي ، حدثني أبو عمار ، حدثني عبد الله بن فرُّوخ ، حدثني أبو هريرة قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ، وأول من
ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مُشَفَّع" (2).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن داود بن يزيد الزّعافري ،
عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { عَسَى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } ، سئل عنها فقال : "هي الشفاعة
" (3).
رواه الإمام أحمد عن وكيع وعن محمد (4) بن عبيد ، عن داود ، عن أبيه ، عن أبي
هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } قال : "هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه"
(5).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كان يوم القيامة ، مدّ الله الأرض مدّ الأديم
، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه (6). قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين الرحمن (7) والله ما رآه قبلها ، فأقول
(8) رب ، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي. فيقول الله تبارك وتعالى : صدق ، ثم أشفع.
فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض" ، قال : "فهو المقام
المحمود" (9) ، وهذا حديث مرسل.
__________
(1) المسند (2/435) وصحيح البخاري برقم (4712) وصحيح مسلم برقم (894).
(2) صحيح مسلم برقم (2278).
(3) تفسير الطبري (15/98).
(4) في هـ : "عن وكيع عن محمد بن عبيد" ، والمثبت من ت.
(5) المسند (2/441 ، 444).
(6) في ت ، ف : "قدميه".
(7) في ت : "الرحمن عز وجل" ، وفي ف ، أ : "الرحمن تبارك
وتعالى".
(8) في ت ، ف ، أ : "فأقول : أي".
(9) تفسير عبد الرزاق (1/328).
(5/110)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
{
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) }.
قال الإمام أحمد : حدثنا جرير ، عن قابوس بن (1) أبي ظَبْيَان ، عن أبيه ، عن ابن
عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله : {
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } (2).
وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية : إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله
صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه ، وأراد الله قتال أهل مكة ،
فأمره أن يخرج إلى (3) المدينة ، فهو الذي قال الله عز وجل : : { وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ }
وقال قتادة : { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } يعني : المدينة {
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } يعني : مكة.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول هو أشهر الأقوال.
وقال : العوفي عن ابن عباس : { أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } يعني : الموت {
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } يعني : الحياة بعد الموت. وقيل غير ذلك من
الأقوال. والأول أصح ، وهو اختيار ابن جرير.
وقوله : { وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } قال الحسن البصري في
تفسيرها : وعده ربه لينزعن ملك فارس ، وعز (4) فارس ، وليجعلنه له ، وملك الروم ،
وعز الروم ، وليجعلنه له.
وقال قتادة فيها إن نبي الله صلى الله عليه وسلم ، علم ألا طاقة له بهذا الأمر إلا
بسلطان ، فسأل سلطانًا نصيرًا لكتاب الله ، ولحدود الله ، ولفرائض الله ، ولإقامة
دين الله ؛ فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده ، ولولا ذلك لأغار بعضهم
على بعض ، فأكل شديدهم ضعيفهم.
قال مجاهد : { سُلْطَانًا نَصِيرًا } حجة بينة.
واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة ، وهو الأرجح ؛ لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن
عاداه وناوأه ؛ ولهذا قال [سبحانه و] (5) تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } [
الحديد : 25 ] وفي الحديث : "إن الله لَيَزَع بالسلطان ما لا يَزَعُ
بالقرآن" أي : ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ، ما لا يمتنع كثيرٌ
من الناس بالقرآن ، وما فيه من الوعيد الأكيد ، والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع.
وقوله : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ
زَهُوقًا } تهديد ووعيد لكفار قريش ؛ فإنه قد
__________
(1) في ف : "عن".
(2) المسند (1/223).
(3) في ت : "على".
(4) في ت : "وغير".
(5) زيادة من ف ، أ.
(5/111)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
جاءهم
من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به ، وهو ما بعثه الله به من القرآن
والإيمان والعلم النافع. وزَهَقَ باطلهم ، أي اضمحل وهلك ، فإن الباطل لا ثبات له
مع الحق ولا بقاء { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ
فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [ الأنبياء : 18 ].
وقال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن
أبي (1) مَعْمر ، عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة
وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصُبٍ ، فجعل يطعنها بعود في يده ، ويقول : { جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } ، جاء الحق وما
يبدئ الباطل وما يعيد" (2).
وكذا رواه البخاري أيضًا في غير هذا الموضع ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، كلهم
من طرق عن سفيان بن عيينة به. (3) [وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري عن ابن أبي
نجيح] (4).
وكذا رواه الحافظ أبو يعلى : حدثنا زهير ، حدثنا شَبَابة ، حدثنا المغيرة ، حدثنا
أبو الزبير ، عن جابر رضي الله عنه ، قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكة ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا (5) يعبدون من دون الله. فأمر بها رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها ، وقال : "جاء الحق وزهق الباطل ، إن
الباطل كان زهوقًا" (6).
{ وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا
يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا (82) }.
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم - وهو
القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد - إنه
: { شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي : يذهب ما في القلوب من أمراض ، من
شك ونفاق ، وشرك وزيغ وميل ، فالقرآن يشفي من ذلك كله. وهو أيضًا رحمة يحصل فيها
الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه ، وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه ،
فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة. وأما الكافر الظالم نفسه بذلك ، فلا يزيده سماعه
القرآن إلا بعدًا وتكذيبًا وكفرًا. والآفة من الكافر لا من القرآن ، كما قال تعالى
: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي
آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ
بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] وقال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ
مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ
كَافِرُونَ } [ التوبة : 124 ، 125 ]. والآيات في ذلك (7) كثيرة.
__________
(1) في ت : "ابن".
(2) صحيح البخاري برقم (4720).
(3) صحيح البخاري برقم (2478 ، 4287 ) ، وصحيح مسلم برقم (1781) وسنن الترمذي برقم
(3138) وسنن النسائي الكبرى برقم (11297).
(4) زيادة من أ.
(5) في ت : "نصبا".
(6) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (14/487) : حدثنا شبابة بن سوار به.
(7) في ت ، ف : "هذا".
(5/112)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
قال
قتادة في قوله : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ } إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه { وَلا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } إنه لا ينتفع به ولا يحفظه (1) ولا يعيه ، فإن الله
جعل هذا القرآن شفاء ، ورحمة للمؤمنين.
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا
مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا (84) }.
يخبر تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو ، إلا من عصم الله تعالى في حالتي سرائه
وضرائه ، بإنه إذا أنعم الله عليه بمال وعافية ، وفتح ورزق ونصر ، ونال ما يريد ،
أعرض عن طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه.
قال مجاهد : بَعُد عنا.
قلت : وهذا كقوله تعالى : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ
يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } [ يونس : 12 ] ، وقوله { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } [ الإسراء : 67 ].
وبأنه إذا مسه الشر - وهو المصائب والحوادث والنوائب - { كَانَ يَئُوسًا } أي :
قنط أن يعود يحصل له بعد ذلك خير ، كما قال تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ
نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي
إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ هود : 10 ، 11 ].
وقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } قال ابن عباس : على
ناحيته. وقال مجاهد : على حدته وطبيعته. وقال قتادة : على نِيَّته. وقال ابن زيد :
دينه.
وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى. وهذه الآية - والله أعلم - تهديد للمشركين
ووعيد لهم ، كقوله تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى
مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } [ هود :
121 ، 122 ] ولهذا قال : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا } أي : منا ومنكم ، وسيجزي كل عامل بعمله ،
فإنه لا تخفى عليه خافية.
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا (85) }
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عَلْقَمة ، عن عبد
الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه - قال : كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم
في حرث في المدينة ، وهو متوكئ على عَسِيب ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض
: سلوه عن الروح. فقال بعضهم : لا تسألوه. قال : فسألوه عن الروح فقالوا (2) يا
محمد ، ما الروح ؟ فما زال متوكئًا على العسيب ، قال : فظننت أنه يوحى إليه ، فقال
: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا }
__________
(1) في ف : "لا يحفظه ولا ينتفع به".
(2) في ت : "فقال بعضهم".
(5/113)
فقال
بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه.
وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش ، به (1). ولفظ البخاري عند تفسير هذه
الآية ، عن عبد الله بن مسعود قال : بينا أنا مع النبي (2) صلى الله عليه وسلم في
حَرْث ، وهو متوكئ (3) على عسيب ، إذ مر اليهود (4) فقال بعضهم لبعض : سلوه عن
الروح ، فقال : ما رابكم (5) إليه. وقال بعضهم : لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه.
فقالوا سلوه فسألوه عن الروح ، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئًا
، فعلمت أنه يوحى إليه ، فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : { وَيَسْأَلُونَكَ (6)
عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } الآية (7).
وهذا السياق يقتضي (8) فيما يظهر بادي الرأي : أن هذه الآية مدنية ، وأنها إنما
نزلت حين سأله اليهود ، عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن
هذا : بأنه قد يكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو
أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية
: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال
الإمام أحمد :
حدثنا قتيبة ، حدثنا يحيى بن زكريا ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قالت
قريش ليهود : أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل. فقالوا : سلوه عن الروح. فسألوه ،
فنزلت : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } قالوا : أوتينا علمًا كثيرًا ، أوتينا
التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا. قال : وأنزل الله : { قُلْ
لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ
تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } [ الكهف : 109 ]
(9).
وقد روى ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الأعلى ، عن داود ، عن عكرمة قال :
سأل أهلُ الكتاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله : {
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فقالوا يزعم (10) أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا
وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا } ؟ [ البقرة : 269 ] قال : فنزلت : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي
الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } [ لقمان : 27 ]. قال : ما أوتيتم من
علم ، فنجاكم الله به من النار ، فهو كثير طيب وهو في علم الله قليل (11).
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة : { وَمَا
أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود. وقالوا يا محمد ، ألم
__________
(1) المسند (1/389) وصحيح البخاري برقم (125 ، 7462) وصحيح مسلم برقم (2794).
(2) في ف : "مع رسول الله".
(3) في ت ، ف : "متكئ".
(4) في ت ، ف : "باليهود".
(5) في ت ، ف : "ما رأيكم".
(6) في ت ، ف : "يسألونك".
(7) صحيح البخاري برقم (4721).
(8) في ت : "تقضي".
(9) المسند (1/255).
(10) في ت ، ف : "تزعم".
(11) تفسير الطبري (15/104).
(5/114)
يبلغنا
عنك أنك تقول : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } أفَعَنَيْتَنَا
أم عنيت قومك ؟ فقال : "كلا قد عنيت". قالوا : إنك تتلو أنا أوتينا
التوراة ، وفيها تبيان كل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هي في
علم الله قليل ، وقد آتاكم ما إن عملتم به استقمتم" ، وأنزل الله : { وَلَوْ
أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ
سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
} [ لقمان : 27 ].
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال :
أحدها : أن المراد [بالروح] (1) : أرواح بني آدم.
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } الآية ،
وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أخبرنا عن (2) الروح ؟ وكيف تعذب
الروح التي في الجسد ، وإنما الروح من الله ؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فلم
يُحِرْ إليهم شيئًا. فأتاه جبريل فقال له : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم
بذلك ، فقالوا : من جاءك بهذا ؟ فقال : "جاءني به جبريل من عند الله ؟"
فقالوا له : والله ما قاله لك إلا عدو لنا. فأنزل الله : { قُلْ مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [مُصَدِّقًا
لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ] (3) } الآية [ البقرة : 97 ].
وقيل : المراد بالروح هاهنا : جبريل. قاله قتادة ، قال : وكان ابن عباس يكتمه.
وقيل : المراد به هاهنا : ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها. قال (4) علي بن أبي طلحة
، عن ابن عباس قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } يقول : الروح : ملك.
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله بن عُرْس (5) المصري ، حدثنا وهب بن رزق
أبو هريرة (6) حدثنا بشر بن بكر ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا عطاء ، عن عبد الله بن
عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن لله ملكًا ، لو قيل
له : التقم السماوات السبع والأرضين (7) بلقمة واحدة ، لفعل ، تسبيحه : سبحانك حيث
كنت" (8).
وهذا حديث غريب ، بل منكر.
وقال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثني علي ، حدثني عبد الله ، حدثني أبو
نِمْران يزيد بن سَمُرَة صاحب قيسارية ، عمن حدثه عن علي بن أبي طالب ، رضي الله
عنه ، أنه قال في قوله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ } قال : هو مَلَك من
الملائكة ، له سبعون ألف وجه ، لكل وجه منها سبعون ألف لسان ، لكل لسان منها
[سبعون] (9) ألف لغة ، يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ، يخلق الله من كل تسبيحة
مَلَكًا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة (10).
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) في ت ، ف ، أ : "ما".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ت ، ف : "قاله".
(5) في ت : "ابن عباس".
(6) في هـ ، ف ، أ : "روق أبو هبيرة" ، والمثبت من الطبراني.
(7) في ف : "والأرض".
(8) المعجم الكبير (11/195) وقال الهيثمي في المجمع (1/80) : "وهب بن رزق لم
أر من ذكر له ترجمة".
(9) زيادة من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(10) تفسير الطبري (15/105).
(5/115)
وهذا
أثر غريب عجيب ، والله أعلم.
وقال السهيلي : روي عن عليّ أنه قال : هو ملك ، له مائة ألف رأس ، لكل رأس مائة
ألف وجه ، في كل وجه مائة ألف فم ، في كل فم مائة ألف لسان ، يسبح الله تعالى
بلغات مختلفة.
قال السهيلي : وقيل المراد بذلك : طائفة من الملائكة على صور بني آدم.
وقيل : طائفة يرون الملائكة ولا تراهم (1) فهم للملائكة كالملائكة لبني آدم.
وقوله : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي : من شأنه ، ومما استأثر بعلمه
دونكم ؛ ولهذا قال : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } أي : وما
أطلعكم من علمه إلا على القليل ، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك
وتعالى.
والمعنى : أن علمكم في علم الله قليل ، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما
استأثر به تعالى ، ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه
تعالى. وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر : أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على
حافة السفينة ، فنقر في البحر نقرة ، أي : شرب منه بمنقاره ، فقال : يا موسى ، ما
علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر. أو
كما قال صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا قال تبارك وتعالى : { وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا }
وقال السهيلي : قال بعض الناس : لم يجبهم عما سألوا ؛ لأنهم سألوا على وجه التعنت.
وقيل : أجابهم ، وعول السهيلي على أن المراد بقوله : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي } أي : من شرعه ، أي : فادخلوا فيه ، وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة
هذا من طبع ولا فلسفة ، وإنما ينال من جهة الشرع. وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه
نظر ، والله أعلم.
ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس ، أو غيرها ، وقرر أنها
ذات لطيفة كالهواء ، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر. وقررّ أن الروح
التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن ، واكتسابها بسببه صفات
مدح أو ذم ، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء. قال : كما أن الماء هو حياة
الشجر ، ثم يكسب (2) بسبب اختلاطه معها اسمًا خاصًا ، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها
صار إما مُصْطَارًا أو خمرًا ، ولا يقال له : "ماء" حينئذ إلا على سبيل
المجاز ، وهكذا لا يقال للنفس : "روح" إلا على هذا النحو ، وكذلك لا
يقال للروح : نفس (3) إلا باعتبار ما تئول إليه. فحاصل ما يقول أن الروح أصل النفس
ومادتها ، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن ، فهي هي من وجه لا من كل وجه (4)
وهذا معنى حسن ، والله أعلم.
قلت : وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها وصنفوا في ذلك كتبًا. ومن أحسن من
تكلم على ذلك الحافظ ابن منده ، في كتاب سمعناه في : الروح (5).
__________
(1) في أ : "ولا تراهم الملائكة".
(2) في ت ، ف : "يكتسب".
(3) في ت ، ف : "نفسا" وهو خطأ.
(4) الروض الأنف (1/ 198 ، 199).
(5) وللإمام ابن القيم ، رحمه الله ، كتاب الروح مطبوع بتحقيق بسام العموش ، أكثر
النقل فيه عن كتاب ابن مندة هذا وذكر خلاصته فيه.
(5/116)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
{ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا (86) }
(5/117)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
{
إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا
الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا
(88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى
أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا (89) }.
يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم ، فيما أوحاه إليه من
القرآن المجيد ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم
حميد.
قال ابن مسعود ، رضي الله عنه : يطرق الناس ريح حمراء - يعني في آخر الزمان - من
قبل الشام ، فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية ، ثم قرأ ابن مسعود : {
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية.
ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم ، فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم ،
واتفقوا (1) على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله ، لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه
، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا ، فإن هذا أمر لا يستطاع ، وكيف يشبه كلام
المخلوقين (2) كلام الخالق ، الذي لا نظير له ، ولا مثال له ، ولا عديل له ؟!
وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد ، عن سعيد [بن جبير] (3) أو عكرمة ، عن
ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في نفر من اليهود ، جاءوا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقالوا له : إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به ، فأنزل الله هذه الآية.
وفي هذا نظر ؛ لأن هذه السورة مكية ، وسياقها كله مع قريش ، واليهود إنما اجتمعوا
به في المدينة. فالله أعلم.
وقوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ
} أي : بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة ، ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه ، ومع
هذا { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلا كُفُورًا } أي : جحودًا وردًا للصواب.
{ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا
(90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ
خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا
كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ
بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ
حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ
إِلا بَشَرًا رَسُولا (93) }
__________
(1) في ت : "والقول".
(2) في أ : "المخلوقين إلى".
(3) زيادة من ف ، أ ، والطبري (15/106).
(5/117)
.
قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، حدثنا محمد بن إسحاق
، حدثني شيخ من أهل مصر ، قدم منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن
عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، ورجلا من بني عبد الدار ، وأبا
البَخْتَري أخا بني أسد ، والأسود بن المطلب بن أسد ، وزمعة بن الأسود ، والوليد
بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام (1) وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية ابن خلف ،
والعاص بن وائل ، ونُبَيها ومُنَبِّها ابني الحجاج السَّهْمَيَّين ، اجتمعوا ، أو
: من اجتمع منهم ، بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى
محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه (2) فبعثوا إليه : أن أشراف قومك قد اجتمعوا
لك ليكلموك. فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعًا وهو يظن أنه قد بدا لهم
في أمره بداء ، وكان عليهم حريصًا ، يحب رُشْدَهم ، ويعز عليه عَنَتُهم ، حتى جلس
إليهم ، فقالوا : يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنُعْذرَ فيك ، وإنا والله ما نعلم
رجلا من العرب أدخل على قومه (3) ما أدخلت على قومك! لقد شتمت الآباء ، وعِبتَ
الدين ، وسَفَّهت الأحلام ، وشتمت الآلهة ، وفرقت الجماعة ، فما بقي من أمر قبيح
إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك! فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا
لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا ، سوّدناك علينا
، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيًا تراه
قد (4) غلب عليك - وكانوا (5) يسمون التابع من الجن : الرئي - فربما كان ذلك ،
بذلنا أموالنا في طلب الطب ، حتى نبرئك منه ، أو نُعذَر فيك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم
به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن بعثني (6) إليكم رسولا
وأنزل عليّ كتابًا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا ، فبلغتكم رسالة ربي ،
ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن
تردّوه عليّ أصبر (7) لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم". أو كما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا.
فقالوا : يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك ، فقد علمت أنه ليس أحد من
الناس أضيق منا بلادًا ، ولا أقل مالا ولا أشد عيشًا منا ، فاسأل لنا ربك الذي
بعثك بما بعثك به ، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضَيَّقت علينا ، وَلْيبسُط لنا
بلادنا ، وَلْيُفَجر (8) فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى
من آبائنا ، وليكن فيمن يُبْعث لنا قُصيّ بن كلاب ، فإنه كان شيخًا صدوقًا ،
فنسألهم عما تقول (9) حق هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك ، صدقناك ،
وعرفنا منزلتك عند الله ، وأنه بعثك رسولا كما تقول!
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما بهذا بعثت ، إنما جئتكم من عند
الله بما بعثني به ، فقد بلغتكم ما أرسلت به ، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا
والآخرة ، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله ، حتى يحكم
__________
(1) في ت : "هاشم" وهو خطأ.
(2) في ت : "إليه".
(3) في ت : "قومك".
(4) في ف : "وقد".
(5) في ت : "فكانوا".
(6) في ت : "بعثني الله".
(7) في ت : "أصير".
(8) في ت : "وليخرج" ، وفي ف : "وليجر".
(9) في ت : "ليسألهم عما يقول".
(5/118)
الله
بيني وبينكم".
قالوا : فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك ، فاسأل ربك أن يبعث ملكًا يصدقك بما تقول
(1) ويراجعنا عنك ، وتسأله فيجعل لك جنانًا ، وكنوزًا وقصورًا من ذهب وفضة ،
ويغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى
نعرف (2) فضل منزلتك من ربك ، إن كنت رسولا كما تزعم.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل
ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا ، فإن تقبلوا ما
جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم
الله بيني وبينكم".
قالوا : فأسقط السماء ، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك ، فإنا لن نؤمن لك إلا أن
تفعل.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم
ذلك".
فقالوا : يا محمد ، أما (3) علم ربك أنا سنجلس معك ، ونسألك عما سألناك عنه ،
ونطلب منك ما نطلب فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك
بنا ، إذا لم نقبل منك ما جئتنا به ، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة ،
يقال له : الرحمن ، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدًا ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ،
أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا. وقال قائلهم : نحن نعبد
الملائكة وهي بنات الله. وقال قائلهم : لن نؤمن لك حتى تأتي (4) بالله والملائكة
قبيلا.
فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وقام معه عبد الله بن أبي
أمية بن المغيرة بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم ، وهو ابن عمته ، ابن عاتكة ابنة
عبد المطلب ، فقال : يا محمد ، عرض عليك قومك ما عرضوا ، فلم تقبله منهم ، ثم
سألوك لأنفسهم أمورًا ليعرفوا بها منزلتك من الله ، فلم (5) تفعل ذلك ، ثم سألوك
أن تعجل لهم ما تخوفهم به من العذاب ، فوالله لا أؤمن بك أبدًا حتى تتخذ إلى
السماء سلمًا ، ثم ترقى فيه ، وأنا أنظر حتى تأتيها ، وتأتي معك بنسخة منشورة ،
معك أربعة من الملائكة ، يشهدون أنك كما تقول. وايم الله ، لو فعلت ذلك لظننت أني
لا أصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانصرف رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى أهله حزينًا أسفًا لما فاته ، مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ،
ولما رأى من مباعدتهم إياه (6).
وهكذا رواه زياد بن عبد الله البَكَّائي ، عن ابن إسحاق ، حدثني بعض أهل العلم ،
عن سعيد ابن جبير وعكرمة ، عن ابن عباس ، فذكر مثله سواء.
وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له ، لو (7) علم الله منهم أنهم يسألون ذلك
استرشادًا لأجيبوا
__________
(1) في ت : "يقول".
(2) في ت : "تعرف".
(3) في ت ، "لما".
(4) في ف : "تأتينا".
(5) في ت : "ثم لم".
(6) السيرة النبوية لابن هشام (1/296).
(7) في ف : "فلو".
(5/119)
إليه
، ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفرًا وعنادًا ، فقيل للرسول : إن شئت أعطيناهم
ما سألوا فإن كفروا عذبتهم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين ، وإن شئت فتحت
عليهم باب التوبة والرحمة ، فقال : "بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة"
كما تقدم ذلك في حديثي (1) ابن عباس والزبير بن العوام أيضًا ، عند قوله تعالى : {
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ
إِلا تَخْوِيفًا } [ الإسراء : 59 ] وقال تعالى : { وَقَالُوا مَا لِهَذَا
الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنزلَ إِلَيْهِ
مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنز أَوْ تَكُونُ لَهُ
جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا
مَسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا
يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ
ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا بَلْ
كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا } [
الفرقان : 7 - 11 ].
وقوله تعالى : { حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } الينبوع : العين
الجارية ، سألوه أن يجري لهم عينًا معينًا في أرض الحجاز هاهنا وهاهنا ، وذلك (2)
سهل يسير على الله تعالى ، لو شاء لفعله ولأجابهم إلى جميع ما سألوا وطلبوا ، ولكن
علم أنهم لا يهتدون ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ
كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا
الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 96 ، 97 ] وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا
إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ
شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111].
وقوله تعالى { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ } أي : أنك وعدتنا أن يوم
القيامة تنشق فيه السماء وتهي ، وتدلي أطرافها ، فعجل ذلك في الدنيا ، وأسقطها
كسفًا [أي : قطعًا ، كقولهم : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ } الآية [ الأنفال : 32 ] ، وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا : { أَسْقِطْ
عَلَيْنَا كِسَفًا ] (3) مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [
الشعراء : 187 ]. فعاقبهم الرب بعذاب يوم الظلة ، إنه كان عذاب يوم عظيم. وأما
نبيّ الرحمة ، ونبيّ التوبة المبعوث رحمة للعالمين ، فسأل إنظارهم وتأجيلهم ، لعل
الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئًا. وكذلك وقع ، فإن من هؤلاء
الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه (4) حتى "عبد الله بن أبي
أمية" الذي تبع النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قال ، أسلم إسلامًا
تامًا ، وأناب إلى الله عز وجل.
{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : هو
الذهب. وكذلك هو في قراءة ابن مسعود : "أو يكون لك بيت من ذهب" ، { أَوْ
تَرْقَى فِي السَّمَاءِ } أي : تصعد (5) في سلم ونحن ننظر إليك { وَلَنْ نُؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنزلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ } قال مجاهد : أي مكتوب
فيه إلى كل واحد واحد صحيفة : هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ، تصبح موضوعة عند رأسه
(6).
__________
(1) في ف : "حديث".
(2) في ت ، ف : "وهذا".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف : "وحسن إسلامه بعد ذلك".
(5) في ت : "يصعد".
(6) في ف : "يصبح عند رأسه موضوع".
(5/120)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
وقوله
: { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلا بَشَرًا رَسُولا } أي : سبحانه وتعالى
وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته ، بل هو الفعال لما
يشاء ، إن شاء أجابكم إلى ما سألتم ، وإن شاء لم يجبكم ، وما أنا إلا رسول إليكم
أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ، وقد فعلت ذلك ، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل.
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا يحيى
بن أيوب ، عن عبيد الله بن زَحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم (1) عن أبي أمامة ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "عرض ربي عز وجل ليجعل لي بطحاء مكة ذهبًا
، فقلت : لا يا رب ، ولكن أشبع يومًا ، وأجوع يومًا - أو نحو ذلك - فإذا جُعت
تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك".
ورواه الترمذي في "الزهد" عن سُوَيْد بن نصر (2) عن ابن المبارك ، به
(3) وقال : هذا حديث حسن. وعلي بن يزيد يُضَّعَّفُ في الحديث.
{ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ
قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ
مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ
مَلَكًا رَسُولا (95) }
يقول تعالى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ } أي : أكثرهم { أَنْ يُؤْمِنُوا } ويتابعوا
الرسل ، إلا استعجابهم من بعثته (4) البشر رسلا كما قال تعالى : { أَكَانَ
لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا } [ يونس : 2 ].
وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ
فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ
وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ التغابن : 6 ] ، وقال فرعون وملؤه : { أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [ المؤمنون : 47 ] ،
وكذلك قالت (5) الأمم لرسلهم : { إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ
أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ
} [ إبراهيم : 10 ] ، والآيات في هذا كثيرة.
ثم قال تعالى منبهًا على لطفه ورحمته بعباده : أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ،
ليفقهوا عنه ويفهموا منه ، لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته ، ولو بعث إلى البشر رسولا
من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه ، كما قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [
آل عمران : 164 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ }
[ التوبة : 128 ] ، وقال تعالى : { كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 151 ، 152 ] ؛ ولهذا
قال هاهنا : { لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ } أي :
كما أنتم فيها { لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا } أي : من
جنسهم ، ولما كنتم أنتم بشرًا ، بعثنا فيكم رسلنا (6) منكم لطفًا ورحمة.
__________
(1) في ت : "ألتم".
(2) في أ : "زهير".
(3) المسند (5/245) وسنن الترمذي برقم (2347) وعبد الله بن زحر وعلى بن يزيد
والقاسم ضعفاء.
(4) في ت : "بعثة".
(5) في ت : "قالوا".
(6) في ت : "رسلا".
(5/121)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
{
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ
خَبِيرًا بَصِيرًا (96) }
يقول تعالى مرشدًا نبيه إلى الحجة على قومه ، في صدق ما جاءهم به : أنه شاهد عليّ
وعليكم ، عالم بما جئتكم به ، فلو كنت كاذبًا [عليه] (1) انتقم مني أشد الانتقام ،
كما قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا
مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } [ الحاقة : 44 - 46
].
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } أي : عليم بهم بمن يستحق
الإنعام والإحسان والهداية ، ممن يستحق الشقاء والإضلال (2) والإزاغة ؛ ولهذا قال
:
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت : "الضلال".
(5/122)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
{
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ
عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ
سَعِيرًا (97)}.
يقول تعالى مخبرًا عن تصرفه في خلقه ، ونفوذ حكمه ، وأنه لا معقب له ، بأنه من
يهده فلا مضلّ له ( وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ
) أي : يهدونهم ، كما قال : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [ الكهف : 17 ].
وقوله : ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) قال الإمام
أحمد :
حدثنا ابن نمير ، حدثنا إسماعيل عن نُفَيْع قال (1) : سمعت أنس بن مالك يقول : قيل
: يا رسول الله ، كيف يحشر (2) الناس على وجوههم ؟ قال : "الذي أمشاهم على
أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم". وأخرجاه في الصحيحين (3).
وقال الإمام أحمد أيضًا : [حدثنا يزيد] (4) ، حدثنا الوليد بن جُمَيْع القرشي ، عن
أبيه ، حدثنا أبو الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد قال : قام أبو ذر فقال
: يا بني غفار ، قولوا ولا تحلفوا ، فإن الصادق المصدوق حدثني : أن الناس يحشرون
على ثلاثة أفواج : فوج راكبين طاعمين كاسين ، وفوج (5) يمشون ويسعون ، وفوج تسحبهم
الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار. فقال قائل منهم : هذان قد عرفناهما ، فما
بال الذين يمشون ويسعون (6) ؟ قال : يلقي الله ، عز وجل ، الآفة على (7) الظهر حتى
لا يبقى ظهر ، حتى إن الرجل لتكون له الحديقة المعجبة ، فيعطيها بالشارف ذات القتب
، فلا يقدر عليها (8).
__________
(1) في ت : "نفيع كذا قال".
(2) في ف : "تحشر".
(3) المسند (3/167) وصحيح البخاري برقم (4760) وصحيح مسلم برقم (2806).
(4) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(5) في ف : "وقوم".
(6) في ت : "ويسقون".
(7) في ت : "الأئمة هل" ، وفي ف : "الأئمة على".
(8) المسند (5/164).
(5/122)
وقوله
: ( عُمْيًا ) أي : لا يبصرون ( وَبُكْمًا ) يعني : لا ينطقون ( وَصُمًّا ) : لا
يسمعون. وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكمًا وعميًا
وصمًا عن الحق فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه ( مَأْوَاهُمْ ) أي :
منقلبهم (1) ومصيرهم ( جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ ) قال ابن عباس : سكنت (2). وقال
مجاهد : طفئت ( زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ) أي : لهبًا ووهجًا وجمرًا ، كما قال : {
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا } [ النبأ : 30 ].
{ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا
عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى
أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى
الظَّالِمُونَ إِلا كُفُورًا (99)}.
يقول تعالى : هذا الذي جازيناهم به ، من البعث على العمى والبكم والصمم ، جزاؤهم
الذي يستحقونه ؛ لأنهم كذبوا ( بِآيَاتِنَا ) أي بأدلتنا (3) وحججنا ، واستبعدوا
وقوع البعث ( وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ) بالية نخرة (
أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ) أي : بعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من
البلى والهلاك ، والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية ؟ فاحتج (4) تعالى عليهم
، ونبههم على قدرته على ذلك ، بأنه خلق السماوات والأرض ، فقدرته على إعادتهم أسهل
من ذلك كما قال : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ
النَّاسِ } [ غافر : 57 ] وقال { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ]
وقال{ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا
أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 81 ، 83 ].
وقال هاهنا : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) أي : يوم القيامة يعيد
أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى ، ويعيدهم كما بدأهم.
وقوله : ( وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلا لا رَيْبَ فِيهِ ) أي : جعل لإعادتهم وإقامتهم
من قبورهم أجلا مضروبًا ومدة مقدرة لا بد من انقضائها ، كما قال تعالى : { وَمَا
نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ } [ هود : 104 ].
وقوله : ( فَأَبَى الظَّالِمُونَ ) أي : بعد قيام الحجة عليهم ( إِلا كُفُورًا )
إلا تماديًا في باطلهم وضلالهم.
__________
(1) في أ : "مقبلهم".
(2) في ت : "ستكتب".
(3) في ت : "بآياتنا".
(4) في ف : "واحتج".
(5/123)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
{
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ
خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}
يقول تعالى لرسوله صلوات الله عليه وسلامه (1) قل لهم يا محمد : لو أنكم - أيها
الناس - تملكون التصرف في خزائن الله ، لأمسكتم خشية الإنفاق.
قال ابن عباس ، وقتادة : أي الفقر أي : خشية أن تذهبوها (2) ، مع أنها لا تفرغ ولا
تنفد أبدًا ؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم ؛ ولهذا قال : ( وَكَانَ الإنْسَانُ
قَتُورًا ) قال ابن عباس ، وقتادة (3) : أي بخيلا منوعًا. وقال الله تعالى : {
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } [
النساء : 53 ] أي : لو أن لهم نصيبًا في ملك الله لما أعطوا أحدًا شيئًا ، ولا
مقدار نقير ، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو ، إلا من وفقه الله وهداه ؛ فإن
البخل والجزع والهلع صفة له ، كما قال تعالى : { إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ
هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا
* إِلا الْمُصَلِّينَ } [ المعارج : 19 - 22 ]. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن
العزيز ، ويدل هذا على كرمه (4) وجوده وإحسانه ، وقد جاء في الصحيحين : "يد
الله ملأى لا يَغيضُها نفقة ، سَحَّاءُ الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق
السماوات والأرض فإنه لم يَغض ما في يمينه" (5).
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا
مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ
مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ
وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ
اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا
(104)}.
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات ، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته
وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون ، وهي : العصا ، واليد ، والسنين (6) ،
والبحر ، والطوفان (7) ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، آيات مفصلات. قاله
ابن عباس.
وقال محمد بن كعب : هي اليد ، والعصا ، والخمس في الأعراف ، والطَّمْسَة والحجر.
وقال : ابن عباس أيضًا ، ومجاهد ، وعكرمة والشعبي ، وقتادة : هي يده ، وعصاه ،
والسنين ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم.
وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي. وجعل الحسن البصري "السنين ونقص الثمرات"
واحدة ، وعنده أن التاسعة هي : تلقف العصا ما يأفكون. { فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا
قَوْمًا مُجْرِمِينَ } [ الأعراف : 133 ]
__________
(1) في ف : "صلى الله عليه وسلم".
(2) في أ : "تنبوها".
(3) في ف ، أ : "ومجاهد".
(4) في ف : "كرم الله".
(5) صحيح البخاري برقم (7419) وصحيح مسلم برقم (993)
(6) في ت ، ف ، أ : ولسانه".
(7) في ف ، أ : "والطوفان والبحر".
(5/124)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
أي :
ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها ، كفروا بها وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم ظلمًا
وعلوًا ، وما نجعت (1) فيهم ، فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك (2) سألوا ،
وقالوا : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا }
[ الإسراء : 90 ] إلى آخرها ، لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله ، كما قال
فرعون لموسى - وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات - : ( إِنِّي لأظُنُّكَ يَا
مُوسَى مَسْحُورًا ) قيل : بمعنى ساحر. والله تعالى أعلم.
فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة هاهنا ، وهي المعنية في
قوله تعالى : { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ
وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ
لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ * إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ
فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ
كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [ النمل : 10 - 12 ]. فذكر هاتين الآيتين : العصا
واليد ، وبين الآيات الباقيات في "سورة الأعراف" وفصلها.
وقد أوتي موسى ، عليه السلام ، آيات أخرَ كثيرة ، منها ضربُه الحجر بالعصا ، وخروج
الأنهار منه ، ومنها تظليلهم بالغمام ، وإنزال المنّ والسلوى ، وغير ذلك مما أوتوه
بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر ، ولكن ذكر هاهنا التسع الآيات التي شاهدها
فرعون وقومه من أهل مصر ، وكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرًا وجحودًا. فأما
الحديث الذي رواه الإمام [أحمد] (3) :
حدثنا يزيد ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مُرَّة قال : سمعت عبد الله بن سلمة (4)
يحدث ، عن صفوان بن عَسّال المرادي ، رضي الله عنه ، قال : قال يهودي لصاحبه :
اذهب بنا إلى هذا النبي [صلى الله عليه وسلم] (5) حتى نسأله عن هذه الآية : (
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ) فقال : لا تقل له : نبي فإنه
لو سمعك لصارت له أربع أعين. فسألاه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا
تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله
إلا بالحق ، ولا تسحروا ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله
، ولا تقذفوا محصنة - أو قال : لا تفروا من الزحف - شعبة الشاك - وأنتم يا يهود ،
عليكم (6) خاصة أن لا تعدوا في السبت". فقبلا يديه ورجليه ، وقالا نشهد أنك
نبي. [قال : "فما يمنعكما أن تتبعاني ؟" قالا لأن داود ، عليه السلام ،
دعا ألا يزال من ذريته نبي] (7) ، وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود.
فهذا الحديث رواه هكذا الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير في تفسيره من
طرق عن شعبة بن الحجاج ، به (8) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وهو حديث مشكل ، وعبد الله بن سلمة في حفظه شيء ، وقد تكلموا فيه ، ولعله اشتبه
عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات ، فإنها ، وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام
الحجة على فرعون ، والله أعلم.
__________
(1) في ت : "وما نجوت".
(2) في ت : "مثل".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف : "مسلم".
(5) زيادة من ت.
(6) في ت : "أيكم".
(7) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(8) المسند (4/239) وسنن الترمذي برقم (3144) وسنن النسائي (7/111) وسنن ابن ماجة
برقم (3705) وتفسير الطبري (15/115).
(5/125)
ولهذا
قال موسى لفرعون : ( لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ ) أي : حججًا وأدلة على صدق ما جئتك به (
وَإِنِّي لأظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ) أي : هالكًا. قاله مجاهد وقتادة.
وقال ابن عباس ملعونًا. وقال : أيضًا هو والضحاك : ( مَثْبُورًا ) أي : مغلوبًا.
والهالك - كما قال مجاهد - يشمل (1) هذا كله ، قال عبد الله بن الزبعري :
إذْ أجَارِي الشَّيطانَ في سَنن الغـ... يِّ وَمَنْ مَالَ مَيْلهُ مَثْبُور (2)
[بمعنى هالك] (3).
وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله : "علمت" وروي ذلك عن علي بن أبي طالب.
ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على الخطاب (4) لفرعون ، كما قال تعالى : {
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ *
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 13 ، 14 ].
فهذا كله مما يدل على (5) أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدّم ذكره (6) من
العصا ، واليد ، والسنين ، ونقص من الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقُمَّل ،
والضفادع ، والدم. التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه ، وخوارق ودلائل على صدق
موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله. وليس المراد منها كما ورد في هذا الحديث ،
فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه ، وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة
البراهين على فرعون ؟ وما جاء هذا الوهم إلا من قبل "عبد الله بن سلمة (7) فإن
له بعض ما يُنْكر. والله أعلم. ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن العشر الكلمات ،
فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات ، فحصل وَهْم في ذلك. والله أعلم.
وقوله : ( فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الأرْضِ ) أي : يخليهم منها
ويزيلهم (8) عنها ( فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ
بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ ) وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله
عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة نزلت قبل الهجرة ، وكذلك وقع ؛ فإن أهل مكة هموا
بإخراج الرسول منها ، كما قال تعالى : { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ
الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا *
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا
تَحْوِيلا } [ الإسراء : 76 ، 77 ] ؛ ولهذا أورث الله رسوله (9) مكة ، فدخلها عُنْوَة
على أشهر القولين ، وقهر أهلها ، ثم أطلقهم حلمًا وكرمًا ، كما أورث الله القوم
الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها ، وأورثهم بلاد فرعون
وأموالهم وزروعهم
__________
(1) في ت : "يشتمل".
(2) البيت في تفسير الطبري (15/117).
(3) زيادة من ت.
(4) في ف : "على الخطاب فتح التاء".
(5) في أ : "عليه".
(6) في ت ، ف : "ذكرها".
(7) في ف : "مسلم".
(8) في ت : "ويرسلهم".
(9) في ت : "ورسوله".
(5/126)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
وثمارهم
وكنوزهم ، كما قال : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء
: 59 ] وقال هاهنا ( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا
الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) أي : جميعكم
أنتم وعدوكم.
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك : ( لَفِيفًا ) أي : جميعًا.
(5/127)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آَمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
{
وَبِالْحَقِّ أَنزلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نزلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى
مُكْثٍ وَنزلْنَاهُ تَنزيلا (106) }.
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز ، وهو القرآن المجيد ، أنه بالحق نزل ، أي :
متضمنًا للحق ، كما قال تعالى : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ
أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] أي : متضمنا علم الله الذي أراد أن
يُطْلِعكم عليه ، من أحكامه وأمره ونهيه.
وقوله : { وَبِالْحَقِّ نزلَ } أي : ووصل إليك - يا محمد - محفوظًا محروسًا ، لم
يُشَب بغيره ، ولا زِيدَ فيه ولا نُقص منه ، بل وصل إليك بالحق ، فإنه نزل به شديد
القُوى ، [القَوِيّ] (1) الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى.
وقوله : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ } أي : يا محمد { إِلا مُبَشِّرًا } لمن أطاعك من
المؤمنين { وَنَذِيرًا } لمن عصاك من الكافرين.
وقوله : { وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ } أما قراءة من قرأ بالتخفيف ، فمعناه : فصلناه
من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مُفرقًا منجما على
الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة. قاله عكرمة عن ابن
عباس.
وعن ابن عباس أيضًا أنه قال { فَرَقْنَاهُ } بالتشديد ، أي : أنزلناه آية آية ،
مبينًا مفسرًا ؛ ولهذا قال : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ } أي : لتبلغه الناس
وتتلوه عليهم { عَلَى مُكْثٍ } أي : مَهَل { وَنزلْنَاهُ تَنزيلا } أي : شيئًا بعد
شيء.
{ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا (107)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا (108)
وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) }.
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء الكافرين بما
جئتهم به من هذا القرآن العظيم : { آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا } أي : سواء
آمنتم به أم لا فهو حق في نفسه ، أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان (2) في
كتبه المنزلة على رسله ؛ ولهذا قال : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ
قَبْلِهِ } أي : من صالح أهل الكتاب الذين يُمَسَّكون بكتابهم ويقيمونه ، ولم يبدلوه
ولا حرفوه { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } هذا
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) في أ : "الزمان".
(5/127)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
القرآن
، { يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ } جمع ذَقْن ، وهو أسفل الوجه { سُجَّدًا } أي : لله
عز وجل ، شكرًا على ما أنعم به عليهم ، من جعله إياهم أهلا إن أدركوا هذا الرسول
الذي أنزل عليه [هذا] (1) الكتاب ؛ ولهذا يقولون : { سُبْحَانَ رَبِّنَا } أي :
تعظيمًا وتوقيرًا على قدرته التامة ، وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم على ألسنة
الأنبياء [المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا قالوا : { سُبْحَانَ
رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } ] (2).
وقوله : { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ } أي : خضوعًا لله عز وجل وإيمانًا
وتصديقًا بكتابه ورسوله ، ويزيدهم الله خشوعًا ، أي : إيمانًا وتسليمًا كما قال :
{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17
].
وقوله : { وَيَخِرُّونَ } عطف صفة على صفة لا عطف سجود على سجود ، كما قال الشاعر
:
إلَى المَلك القَرْم وابن الهُمام... وَلَيْث الكَتِيبَة في المُزْدَحَمْ...
{ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الأسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ
وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ
مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) }.
يقول تعالى : قل يا محمد ، لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله ، عز وجل ،
المانعين من تسميته بالرحمن : { ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا
مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي : لا فرق بين دعائكم له باسم
"الله" أو باسم (3) " الرحمن " ، فإنه ذو الأسماء الحسنى ،
كما قال تعالى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } إلى أن قال : { لَهُ الأسْمَاءُ
الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ } [ الحشر : 22 - 24 ].
وقد روى مكحول (4) أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في
سجوده : "يا رحمن يا رحيم" ، فقال : إنه يزعم أنه يدعو واحدًا ، وهو
يدعو اثنين. فأنزل الله هذه الآية. وكذا روي عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير.
وقوله : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } الآية ، قال الإمام أحمد :
حدثنا هُشَيْم ، حدثنا أبو بشر ، عن (5) سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : نزلت
(6) هذه الآية وهو متوار بمكة { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا
[وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا] } (7) قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته
بالقرآن ، فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ، وسبوا من أنزله ، ومن جاء به. قال
: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } أي :
بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ت ، ف.
(3) في ت : "واسم".
(4) تفسير الطبري (15/121) وكأن الحافظ اختصره هنا.
(5) في ف : "حدثنا".
(6) في ت : "قرأت".
(7) زيادة من أ.
(5/128)
{
وَلا تُخَافِتْ بِهَا } عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك { وَابْتَغِ
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا }.
أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس ، به (1) وكذا روى (2) الضحاك عن
ابن عباس ، وزاد : "فلما هاجر إلى المدينة ، سقط ذلك ، يفعل أيّ ذلك
شاء" (3).
وقال محمد بن إسحاق : حدثني داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي ، تفرقوا عنه وأبوا أن
يسمعوا منه ، فكان الرجل إذا أراد أن يستمع (4) من رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعض ما يتلو وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقًا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه
يستمع (5) ، ذهب خشية أذاهم فلم يستمع (6) ، فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم (7)
لم يستمع الذين (8) يستمعون من قراءته شيئًا ، فأنزل الله { وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ } فيتفرقوا عنك { وَلا تُخَافِتْ بِهَا } فلا تُسمع من أراد أن يسمعها
ممن يسترق ذلك دونهم ، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع ، فينتفع به { وَابْتَغِ بَيْنَ
ذَلِكَ سَبِيلا }
وهكذا قال عكرمة ، والحسن البصري ، وقتادة : نزلت هذه الآية في القراءة في الصلاة.
وقال شعبة عن أشعث بن أبي سليم (9) عن الأسود بن هلال ، عن ابن مسعود : لم يُخافتْ
بها مَنْ أسمع أذنيه.
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن سلمة بن علقمة ، عن محمد بن
سيرين قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته ، وأن عمر كان يرفع صوته ،
فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا ؟ قال : أناجي ربي ، عز وجل ، وقد علم حاجتي. فقيل :
أحسنت. وقيل لعمر : لم تصنع هذا ؟ قال : أطرد الشيطان ، وأوقظ الوَسْنَان. قيل
أحسنت. فلما نزلت : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ
بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } قيل لأبي بكر : ارفع شيئًا ، وقيل لعمر : اخفض شيئًا
(10).
وقال أشعث بن سَوَّار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : نزلت في الدعاء. وهكذا روى
الثوري ، ومالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : نزلت في الدعاء. وكذا
قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبو عِياض ، ومكحول ، وعروة بن الزبير.
وقال الثوري عن [ابن] (11) عياش العامري ، عن عبد الله بن شداد قال : كان أعراب من
بني تميم إذا سلم النبي (12) صلى الله عليه وسلم قالوا : اللهم ارزقنا إبلا
وولدًا. قال : فنزلت هذه الآية : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا
}
__________
(1) المسند (1/23) وصحيح البخاري برقم (2722) وصحيح مسلم برقم (446).
(2) في ف : "رواه".
(3) رواه الطبري في تفسيره (15/123).
(4) في ت ، ف : "يسمع".
(5) في ت ، ف : "يسمع".
(6) في ت : "يسمع".
(7) في ف : "وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته".
(8) في ت : "ولم يسمع الذي".
(9) في هـ ، ت : "عن أبي سليم". والمثبت من الطبري
(10) تفسير الطبري (15/124).
(11) زيادة من ف.
(12) في ف ، أ : "رسول الله".
(5/129)
قول
آخر : قال ابن جرير : حدثنا أبو السائب ، حدثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن عروة ،
عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، نزلت (1) هذه الآية في التشهد : { وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا }
وبه قال حفص ، عن أشعث بن سوار ، عن محمد بن سيرين ، مثله.
قول آخر : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال : لا تصل مراءاة الناس ، ولا تدعها مخافة
الناس. وقال الثوري ، عن منصور ، عن الحسن البصري : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ
وَلا تُخَافِتْ بِهَا } قال : لا تحسن علانيتها وتسيء سريرتها. وكذا رواه عبد
الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن ، به. وهُشَيْم ، عن عوف ، عنه به. وسعيد ، عن قتادة
، عنه كذلك.
قول آخر : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ
سَبِيلا } قال : أهل الكتاب يخافتون ، ثم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح به ، ويصيحون هم
به وراءه ، فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء ، وأن يخافت كما يخافت القوم ، ثم كان
السبيل الذي بين ذلك ، الذي سن له جبريل من الصلاة.
وقوله : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } لما أثبت
تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى ، نزه نفسه عن النقائص فقال : { وَقُلِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ } بل هو الله الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوًا
أحد.
{ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } أي : ليس بذليل فيحتاج (2) أن يكون
له ولي أو وزير أو مشير ، بل هو تعالى [شأنه] (3) خالق الأشياء وحده لا شريك له ،
ومقدرها ومدبرها (4) بمشيئته وحده لا شريك له.
قال مجاهد في قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } لم يحالف أحدًا
ولا يبتغي (5) نصر أحد.
{ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } أي : عظِّمه وأَجِلَّه عما يقول الظالمون المعتدون
علوًا كبيرًا.
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني أبو صخر ، عن القرظي أنه كان
يقول في هذه الآية : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا }
الآية ، قال : إن اليهود والنصارى قالوا : اتخذ الله ولدًا ، وقال (6) العرب :
[لبيك] (7) لبيك ، لا شريك لك ؛ إلا شريكًا هو لك ، تملكه وما ملك. وقال الصابئون
والمجوس : لولا أولياء الله لذل. فأنزل الله هذه الآية : { وَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }
وقال أيضا : حدثنا بشر ، [حدثنا يزيد] (8) حدثنا سعيد ، عن قتادة : ذكر لنا أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان
__________
(1) في ت : "أنزلت".
(2) في أ : "فلا يحتاج".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت ، ف : "ومدبرها ومقدرها".
(5) في ف : "ولم يبتغ".
(6) في ت ، ف ، أ : "وقالت".
(7) زيادة من ف.
(8) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5/130)
يعلم
أهله هذه الآية { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ
يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } الصغير من أهله (1) والكبير.
قلت : وقد جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها آية العز (2) وفي
بعض الآثار : أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة. والله أعلم.
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا بشر بن سيحان البصري ، حدثنا حرب بن ميمون ، حدثنا
موسى ابن عبيدة الرَّبَذي ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، عن أبي هريرة قال : خرجت
أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويدي في يده ، فأتى على رجل رث الهيئة ، فقال :
"أي فلان ، (3) ما بلغ بك ما أرى ؟". قال : السقم والضرّ يا رسول الله.
قال : "ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر ؟". قال : لا قال : ما
يسرني بها (4) أن شهدت معك بدرًا أو أحدًا. قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال : "وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع ؟". قال
: فقال (5) أبو هريرة : يا رسول الله ، إياي فعلمني قال : فقل يا أبا هريرة :
"توكلت على (6) الحي الذي لا يموت ، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ، ولم يكن
له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرًا". قال : فأتى
عليّ رسول الله وقد حَسُنَت حالي ، قال : فقال لي : "مَهْيم". قال : قلت
: يا رسول الله ، لم أزل (7) أقول الكلمات التي علمتني (8).
إسناده ضعيف وفي متنه نكارة. [والله أعلم] (9).
__________
(1) في ف "منهم".
(2) رواه أحمد في مسنده (3/440) من حديث معاذ بن أنس مرفوعا : "آية العز :
(الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا). الآية كلها".
(3) في ت : "أني تلك".
(4) في ت : "لا يرى بها".
(5) في ت : "فقال قال".
(6) في ت : "صلى".
(7) في ت : "لم أنزل".
(8) مسند أبى يعلى (12/23) وقال الهيثمي في المجمع (7/52) : "وفيه موسى بن
عبيدة الربذي وهو ضعيف".
(9) زيادة من ف ، أ.
ووقع في ت : "آخر تفسير سورة الإسراء ، ولله الحمد والمنة ، وبه التوفيق
والعصمة ، غفر الله لكاتبه ولمن قرأ فيه ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين أجمعين
آمين".
(5/131)
[بسم
الله الرحمن الرحيم وبه نستعين] (1)
تفسير سورة الكهف
وهي مكية.
ذكر ما ورد في فضلها ، والعشر الآيات من أولها وآخرها ، وأنها عصمة من الدجال :
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت
البراء يقول : قرأ رجل الكهف ، وفي الدار دابة ، فجعلت تنفر ، فنظر فإذا ضبابة -
أو : سحابة - قد غشيته ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اقرأ
فلان ، فإنها السكينة تنزلت عند القرآن ، أو تنزلت للقرآن ".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة ، به (2). وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو :
أسَيْدُ بن الحُضَيْر ، كما تقدم في تفسير البقرة (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا هَمّام بن يحيى ، عن قتادة ، عن سالم بن
أبي الجعد ، عن مَعْدان بن أبي طلحة ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : " من حَفظ عَشْرَ آيات من أول سورة الكهف ، عُصِم من الدجال
".
رواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي (4) من حديث قتادة به (5). ولفظ
الترمذي : " من حفظ الثلاث الآيات من أول الكهف " وقال : حسن صحيح.
طريق أخرى : قال ]الإمام[ (6) أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة ، عن قتادة سمعت
سالم بن أبي الجعد يحدّث عن معدان ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : " من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عُصِم من فتنة الدجال ".
ورواه مسلم أيضا والنسائي ، من حديث قتادة ، به (7). وفي لفظ النسائي : " من
قرأ عشر آيات من الكهف " ، فذكره.
حديث آخر : وقد رواه النسائي في " اليوم والليلة " عن محمد بن عبد
الأعلى ، عن خالد ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثَوْبان عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من قرأ العشر الأواخر من سورة
الكهف ، فإنه عصمة له من الدجال " (8).
فيحتمل أن سالما سمعه من ثوبان ومن
__________
(1) زيادة من ت
(2) المسند (4/281) وصحيح البخاري برقم (3614) وصحيح مسلم برقم (795).
(3) في أول تفسير سورة البقرة ، في فضلها.
(4) في ف : "الترمذي والنسائي".
(5) المسند (5/196) وصحيح مسلم برقم (809) وسنن أبي داود برقم (4323) وسنن النسائي
الكبري برقم (8025) وسنن الترمذي برقم (2886).
(6) زيادة من ف.
(7) المسند (6/446) وصحيح مسلم برقم (809) وسنن النسائي الكبري برقم (10786).
(8) سنن النسائي الكبرى برقم (10784).
(5/133)
أبي
الدرداء.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا زبَّان بن فايد (1) عن
سهل بن معاذ بن أنس الجهني ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" من قرأ أول سورة الكهف وآخرها ، كانت له نورًا من قدمه إلى رأسه ، ومن قرأها
كلها كانت له نورًا ما بين الأرض إلى السماء " (2) انفرد به أحمد ولم يخرجوه
(3) (4)
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويْه [في تفسيره] (5) بإسناد له غريب ، عن خالد بن
سعيد بن أبي مريم ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان
السماء ، يضيء له يوم القيامة ، وغُفر له ما بين الجمعتين " (6).
وهذا الحديث في رفعه نظر ، وأحسن أحواله الوقف.
وهكذا روى (7) الإمام : " سعيد بن منصور " في سننه ، عن هُشَيْم بن
بشيرٍ (8) ، عن أبي هاشم (9) ، عن أبي مِجْلَز ، عن قيس بن عباد (10) عن أبي سعيد
الخدري ، رضي الله عنه ، أنه قال : من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، أضاء له
مِنَ النور ما بينه وبين البيت العتيق.
هكذا وقع موقوفا ، وكذا (11) رواه الثوري ، عن أبي هاشم (12) ، به (13). من حديث
أبي سعيد الخدري.
وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي بكر محمد بن المؤمل ، حدثنا الفضيل (14) بن
محمد الشَّعراني ، حدثنا نُعَيم بن حمَّاد ، حدثنا هُشَيْم ، حدثنا أبو هاشم ، عن
أبي (15) مِجْلَز ، عن قيس بن عُبَاد ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال : " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة ، أضاء له من النور ما بينه
وبين الجمعتين " ، ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.
وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه ، عن الحاكم (16) ، ثم قال البيهقي :
ورواه يحيى بن كثير ، عن شعبة ، عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : " من قرأ سورة الكهف كما أنزلت كانت
__________
(1) في ت : "زياد بن واقد" ، وفي ف : "ثوبان بن فايد".
(2) في ف : "السماء والأرض".
(3) في ت : "يخرجه".
(4) المسند (4/439).
(5) زيادة من ف.
(6) ذكره المنذرى في الترغيب (1/513) وقال : "رواه ابن مرديه بإسناد لا بأس
به".
(7) في ت : "رواه".
(8) في ت : "بشر".
(9) في ت ، أ : "هشام".
(10) في ف : "عبادة".
(11) في ت : "وهكذا".
(12) في ت : "هشام".
(13) وروراه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص131) قال : حدثنا هشيم به موقوفا. وسيأتي
الاختلاف على هشيم. أما رواية الثوري : فرواها النسائي في السنن الكبرى برقم
(10790) من طريق عبد الرحمن عن سفيان الثوري به موقوفا.. وقد حقق الفاضل محمد
طرهوني في كتابه "موسوعة فضائل القرآن" (1/337) روايتي الرفع والوقف
فأجاد وأفاد ، جزاه الله خيرا ، ثم رجح أنه موقوف في حكم المرفوع.
(14) في ت : "الفضل".
(15) في ت : "أبو".
(16) المستدرك (2/368) والسنن الكبرى للبيهقي (3/249).
(5/134)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
له
نورًا يوم القيامة ". (1) [والله أعلم] (2).
وفي " المختارة " للحافظ الضياء المقدسي من حديث عبد الله بن (3) مصعب
بن منظور بن زيد بن خالد الجهني ، عن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي مرفوعًا :
" من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ، فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة ،
وإن خرج الدجال عصم منه " (4) بسم الله الرحمن الرحيم
[رب وفقني] (5)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ
لَهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
(2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ
وَلَدًا (4) }
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (428) "مجمع البحرين" واختلف
فيه على شعبة ، فرواه غندر عن شعبة موقوفا.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "عن".
(4) المختارة برقم (430) وقال : "عبد الله بن مصعب لم يذكره البخاري ، ولا
ابن أبي حاتم في كتابيهما".
(5) زيادة من ت.
(5/135)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا (5) }.
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند (1) فواتح الأمور
وخواتيمها ، فإنه المحمود على كل حال ، وله الحمد في الأولى والآخرة ؛ ولهذا حمد
نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ؛
فإنه أعظم نعمة (2) أنعمها الله على أهل الأرض ؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى
النور ، حيث جعله كتابًا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ ، بل يهدي إلى صراط مستقيم
، بينا واضحا جليًا (3) نذيرًا للكافرين وبشيرًا للمؤمنين ؛ ولهذا قال : { وَلَمْ
يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } أي : لم يجعل فيه اعوجاجًا ولا زيغًا ولا ميلا بل جعله
معتدلا مستقيمًا ؛ ولهذا قال : { قَيِّمًا } أي : مستقيمًا.
{ لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ } أي : لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به
، ينذره بأسًا شديدًا ، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة { مِنْ لَدُنْهُ }
أي : من عند الله الذي لا يُعَذّب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد.
{ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ } أي : بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل
الصالح { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } أي : مثوبة عند الله جميلة
{ مَاكِثِينَ فِيهِ } في ثوابهم عند الله ، وهو الجنة ، خالدين فيه { أَبَدًا }
دائمًا لا زوال له ولا انقضاء.
{ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ (4) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا } قال ابن إسحاق :
وهم مشركو العرب في قولهم : نحن
__________
(1) في ت : "عن".
(2) في ف" "نعم".
(3) في ت : "جليل".
(4) في ت : "الذي" وهو خطأ.
(5/135)
نعبد
الملائكة ، وهم بنات الله.
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي : بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه من علم {
وَلا لآبَائِهِمْ } أي : أسلافهم.
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً } : نصب على التمييز ، تقديره : كبرت كلمتهم هذه كلمة.
وقيل : على التعجب ، تقديره : أعظم بكلمتهم كلمة ، كما تقول : أكرم بزيد رجلا قاله
بعض البصريين. وقرأ ذلك بعض قراء مكة : { كَبُرَتْ كَلِمَةً } كما يقال : عَظُم
قولُك ، وكبر (1) شأنُك.
والمعنى على قراءة الجمهور أظهر ؛ فإن هذا تبشيع لمقالتهم (2) واستعظام لإفكهم ؛
ولهذا قال : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي : ليس لها
مستند سوى قولهم ، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ؛ ولهذا قال : { إِنْ
يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا }.
وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة ، فقال : حدثني شيخ من أهل مصر
قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن
الحارث ، وعقبة بن أبي مُعَيط ، إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن
محمد ، وصفوا لهم صفته ، وأخبروهم بقوله ؛ فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس
عندنا من علم الأنبياء. فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألوا أحبار يهود (3) عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفوا لهم (4) أمره وبعض قوله ، وقالا (5) إنكم أهل
التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. قال : فقالت لهم : سلوه عن ثلاث
نأمركم بهن ، فإن أخبركم بِهِن ، فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل مُتَقَول
فَرَوا فيه رأيكم : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ، ما كان من أمرهم ؟ فإنهم
(6) قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ، ما كان
نبَؤه (7) ؟ [وسلوه عن الروح ، ما هو ؟] (8) فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه ،
وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما
بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور ، فأخبروهم بها ، فجاءوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد ، أخبرنا : فسألوه عما أمروهم به ،
فقال (9) لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أخبركم غدا بما سألتم
عنه". ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس
عشرة ليلة ، لا يُحدث الله إليه في ذلك وحيًا ، ولا يأتيه جبريل ، عليه السلام ،
حتى أرجف (10) أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدًا ، واليوم خمسَ عشرةَ قد أصبحنا
فيها ، لا يُخبرنا بشيء عما سألناه عنه. وحتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكثُ الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ، ثم جاءه جبريل ، عليه السلام ،
من عند الله ، عز وجل ، بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ،
وخَبَر ما سألوه عنه من أمر الفتية (11) والرجل الطواف ، وقول الله عز وجل : {
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 85] (12)
__________
(1) في ت : "وعظم".
(2) في ت : "لمقالهم".
(3) في ت : "يهودي".
(4) في أ : "له".
(5) في ت : "وقال".
(6) في أ : "فإنه".
(7) في ت ، أ : "بناؤه".
(8) زيادة من الطبري.
(9) في ت : فقالوا".
(10) في ت : "أوجب".
(11) في ت : "الفقيه".
(12) رواه الطبري في تفسيره (15/127).
(5/136)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا
عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) }.
يقول تعالى مسليًا رسوله صلى الله عليه وسلم (1) في حزنه على المشركين ، لتركهم
الإيمان وبعدهم عنه ، كما قال تعالى : { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَرَاتٍ } [فاطر : 8] ، وقال { وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [النحل : 127] ، وقال
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 3] (2) (3)
باخع : أي مهلك نفسك بحزنك عليهم ؛ ولهذا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ
عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ } يعني : القرآن {
أَسَفًا } يقول : لا تهلك نفسك أسفًا.
قال قتادة : قَاتِل نَفْسَكَ غضبًا وحزنًا عليهم. وقال مجاهد : جزعًا. والمعنى
متقارب ، أي : لا تأسف عليهم ، بل أبلغهم رسالة الله ، فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل
فإنما يضل عليها ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارًا فانية مُزيَّنة بزينة زائلة. وإنما جعلها دار
اختبار لا دار قرار ، فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا
لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا }.
قال قتادة ، عن أبي نَضْرة ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال : "إن الدنيا خضرة حلوة (4) وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ،
فاتقوا الدنيا (5) ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في
النساء" (6)
ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها ، وفراغها وانقضائها ، وذهابها وخرابها ، فقال : {
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } أي : وإنا لمصيروها بعد
الزينة إلى الخراب والدمار ، فنجعل كل شيء عليها هالكًا { صَعِيدًا جُرُزًا } : لا
يُنْبِت ولا ينتفع به ، كما قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى { وَإِنَّا
لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } يقول : يهلك كل شيء عليها ويبيد.
وقال مجاهد : { صَعِيدًا جُرُزًا } بلقعًا.
وقال قتادة : الصعيد : الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات.
وقال ابن زيد : الصعيد : الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : {
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ
بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ }
[السجدة : 27] (7).
وقال محمد بن إسحاق : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } يعني
الأرض ، إن ما عليها لفان وبائد ، وإن المرجع لإلى الله (8) فلا تأس ولا يحزنك ما
تسمع وترى.
__________
(1) في أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في ت : "ولعلك" ، وفي أ : "لعلكم" وهو خطأ.
(3) في ت ، أ : "على ألا" وهو خطأ.
(4) في ف ، أ : "حلوة خضرة".
(5) في أ : "يعلمون ، واتقوا الدنيا".
(6) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2742) من طريق أبي مسلمة عن أبي نضرة به.
(7) في أ : "أفلا تبصرون".
(8) في ت : "المرجع إلى الله" ، وفي ف ، أ : "إلى الله
المرجع".
(5/137)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا
عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا
مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا
عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ
لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) }
هذا إخبار عن قصة أصحاب (1) الكهف [والرقيم] (2) على سبيل الإجمال والاختصار ، ثم
بسطها بعد ذلك فقال : { أَمْ حَسِبْتَ } يعني : يا محمد { أَنَّ أَصْحَابَ
الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } أي : ليس أمرهم عجيبا
(3) في قدرتنا وسلطاننا ، فإن خلْق السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ،
وتسخير الشمس والقمر والكواكب ، وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله
تعالى ، وأنه على ما يشاء قادر (4) ولا يعجزه شيء أعجب من أخبار أصحاب الكهف
[والرقيم] (5) كما قال ابن جريج (6) عن مجاهد : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ
الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } يقول : قد كان من آياتنا
ما هو أعجب من ذلك!
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ
وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } يقول : الذي آتيتك من العلم والسنة
والكتاب ، أفضل من شأن أصحاب (7) الكهف والرقيم.
وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت (8) من حججي على العباد ، أعجب من شأن أصحاب الكهف
والرقيم.
[وأما "الكهف" فهو : الغار في الجبل ، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية
المذكورون. وأما "الرقيم"] (9) فقال العوفي ، عن ابن عباس : هو واد قريب
من أيلَة. وكذا قال عطية العوفي ، وقتادة.
وقال الضحاك : أما "الكهف" فهو : غار الوادي ، و "الرقيم" :
اسم الوادي.
وقال مجاهد : "الرقيم" : كان (10) بنيانهم (11) ويقول بعضهم : هو الوادي
الذي فيه كهفهم.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله :
"الرقيم" ، قال : يزعم كعب أنها القرية.
وقال ابن جريج عن ابن عباس : "الرقيم" الجبل الذي فيه الكهف.
وقال ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي نجيح ، عن [مجاهد عن] (12) ابن عباس قال :
اسم ذلك الجبل بنجلوس.
وقال ابن جريج : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي : أن اسم جبل الكهف
بنجلوس ، واسم الكهف حيزم ، والكلب حمران.
__________
(1) في أ : "أهل".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت ، ف ، أ : "عجيب".
(4) في ت : "قدير".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ت : "جرير".
(7) في ت : "أصحاب أهل".
(8) في ت : "ما أظهر".
(9) زيادة من ف.
(10) في أ : "كتاب".
(11) في ت : "كتابتهم بهم".
(12) زيادة من ف.
(5/138)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
وقال
عبد الرزاق : أنبأنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : القرآن
أعلمه إلا حَنَانًا ، والأواه ، والرقيم.
وقال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة يقول : قال ابن عباس : ما
أدري ما الرقيم ؟ أكتاب أم بنيان ؟
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الرقيم : الكتاب. وقال سعيد بن جبير :
[الرقيم] (1) لوح من حجارة ، كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف (2) ثم وضعوه على باب
الكهف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم : الكتاب. ثم قرأ : { كِتَابٌ مَرْقُومٌ
} [المطففين : 9]
وهذا هو الظاهر من الآية ، وهو اختيار ابن جرير قال : "الرقيم" فعيل
بمعنى (3) مرقوم ، كما يقول للمقتول : قتيل ، وللمجروح : جريح. والله أعلم.
وقوله : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } يخبر تعالى عن أولئك
الفتية ، الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه ، فَهَرَبوا منه فَلَجَؤُوا
إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته
ولطفه بهم : { رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً } أي : هب لنا من عندك رحمة
ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا { وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } أي :
وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا ، أي : اجعل عاقبتنا رشدًا (4) كما جاء في الحديث :
"وما قضيت لنا من قضاء ، فاجعل عاقبته رشدًا" ، وفي المسند من حديث
بُسْر بن أبي أرطاة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو : "اللهم
، أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة".
وقوله : { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا } أي :
ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف ، فناموا سنين كثيرة { ثُمَّ
بَعَثْنَاهُمْ } أي : من رقدتهم تلك ، وخرج أحدهم بدراهم معه (5) ليشتري لهم بها
طعامًا يأكلونه ، كما سيأتي بيانه وتفصيله ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ
لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ } أي : المختلفين فيهم { أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا
أَمَدًا } قيل : عددًا وقيل : غاية فإن الأمد الغاية كقوله (6)
سَبَقَ الجَوَاد إذَا اسْتَولى على الأمَد.
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا
بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا
فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ
إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) }
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في أ : "أهل الكتاب".
(3) في ت : "من".
(4) في ت : "عاقبته رشد" ، وفي ف ، أ : "عاقبته رشدا".
(5) في ف ، أ : "معينة".
(6) هو النابغة الذبيانى ، والبيت في تفسير الطبرى (15/137).
(5/139)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16)
{ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا (16) }
(5/139)
من
هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى أنهم فتية - وهم الشباب - وهم أقبل
للحق ، وأهدى للسبيل من الشيوخ ، الذين قد عتوا وعَسَوا (1) في دين الباطل ؛ ولهذا
كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابًا. وأما المشايخ من قريش
، فعامتهم بَقُوا على دينهم ، ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا (2) أخبر تعالى عن
أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابًا.
قال مجاهد : بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني : الحَلَق فألهمهم الله
رشدهم وآتاهم تقواهم. فآمنوا بربهم ، أي : اعترفوا له بالوحدانية ، وشهدوا أنه لا
إله إلا هو.
{ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } : استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري
وغيره (3) ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله ، وأنه يزيد وينقص ؛ ولهذا قال تعالى
: { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } كَمَا قَالَ { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى
وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد : 17] ، (4) وقال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا } [التوبة : 124] ، وقال { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ
إِيمَانِهِمْ } [الفتح : 4] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك.
وقد ذكر (5) أنهم كانوا على دين عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، والله أعلم -
والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية ، فإنه (6) لو كانوا على دين
النصرانية ، لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم ، لمباينتهم لهم. وقد تقدم
عن ابن عباس : أن قريشًا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء
يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء
، وعن خبر ذي القرنين ، وعن الروح ، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل
الكتاب ، وأنه متقدم على دين النصرانية ، والله أعلم.
وقوله : { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } يقول تعالى : وصَبَّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ،
ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ، فإنه قد ذكر غير واحد من
المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا
يومًا في بعض أعياد قومهم ، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ،
وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ، ويذبحون لها ، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له
: "دقيانوس" ، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه. فلما خرج
الناس لمجتمعهم ذلك ، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع
قومهم بعين بصيرتهم ، عرفوا (7) أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم
والذبح لها ، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض. فجعل كل واحد
__________
(1) في أ : "وغشوا".
(2) في ف : "وكذا".
(3) في ت : "ونحوه".
(4) في أ : "زدناهم" وهو خطأ.
(5) في ت : "ذكروا".
(6) في ف : "فإنهم".
(7) في ت ، ف : "فعرفوا".
(5/140)
منهم
يتخلص من قومه ، وينحاز منهم (1) ويتبرز عنهم ناحية. فكان (2) أول من جلس منهم
[وحده] (3) أحدهم ، جلس تحت ظل شجرة ، فجاء الآخر فجلس عنده ، وجاء الآخر فجلس
إليهما ، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، ولا
يعرف واحد منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان ، كما جاء
في الحديث الذي رواه البخاري تعليقًا ، من حديث يحيى بن سعيد ، عن عمرة ، عن عائشة
، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الأرواح جنود
مُجَنَّدة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف" (4). وأخرجه مسلم
في صحيحه من حديث سهيل (5) عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي (6) صلى الله عليه
وسلم (7).
والناس يقولون : الجنسية علة الضم.
والغرض أنه جعل كل (8) أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه ، خوفًا منهم ، ولا يدري
أنهم مثله ، حتى قال أحدهم : تعلمون - والله يا قوم - إنه ما (9) أخرجكم من قومكم
وأفردكم عنهم ، إلا (10) شيء فليظهر كل واحد منكم بأمره. فقال آخر : أما أنا فإني
[والله] (11) رأيت ما قومي عليه ، فعرفت أنه باطل ، وإنما الذي يستحق أن يعبد
[وحده] (12) ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء : السموات والأرض وما
بينهما. وقال الآخر : وأنا والله وقع لي كذلك. وقال الآخر كذلك ، حتى توافقوا كلهم
على كلمة واحدة ، فصاروا يدًا واحدة وإخوان صدق ، فاتخذوا لهم معبدًا يعبدون الله
فيه ، فعرف بهم قومهم ، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم ، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن
أمرهم وما هم عليه (13) فأجابوه بالحق ، ودعوه إلى الله عز وجل ؛ ولهذا أخبر تعالى
عنهم بقوله : { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا } ولن : لنفي
التأبيد ، أي : لا يقع منا هذا أبدًا ؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا ؛ ولهذا قال
عنهم : { لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } أي : باطِلا وكذبًا وبهتانًا.
{ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ
عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي : هَلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا
واضحًا صحيحًا ؟! { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }
يقولون : بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك ، فيقال : إن ملكهم لما دعوه إلى
الإيمان بالله ، أبى عليهم ، وتَهَدّدهم وتوعدهم ، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان
عليهم من زينة قومهم ، وأجَّلهم لينظروا في أمرهم ، لعلهم يراجعون دينهم الذي
كانوا عليه. وكان هذا من لطف الله بهم ، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب
منه. والفرار بدينهم من الفتنة.
وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس ، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه ،
كما جاء في
__________
(1) في ف ، أ : "عنهم".
(2) في ت ، ف : "وكان".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (3336).
(5) في أ : "سهل".
(6) في ف ، أ : "عن رسول الله".
(7) صحيح مسلم برقم (2638)..
(8) في ت : "وأنه جعل كل" ، وفي ف : "أنه كل".
(9) في ت : "إنما".
(10) في ت : "لا".
(11) زيادة من ف.
(12) زيادة من ف.
(13) في ت : "عليهم".
(5/141)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
الحديث
: "يوشك أن يكون خيرُ مال أحدكم غنمًا يتبع بها شغف الجبال ومواقع القَطْر ،
يفر بدينه من الفتن" (1) ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ، ولا تشرع فيما
عداها ، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.
فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم ، واختار الله تعالى لهم ذلك ، وأخبر
عنهم بذلك في قوله : { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ
} أي : وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ، ففارقوهم أيضًا
بأبدانكم { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ }
أي : يبسط عليكم رحمة (2) يستركم بها من قومكم { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ
أَمْرِكُمْ } [أي] (3) الذي أنتم فيه ، { مِرفَقًا } أي : أمرًا ترتفقون به. فعند
ذلك خرجوا هُرابًا إلى الكهف ، فأووا إليه ، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم ،
وتَطَلَّبهم الملك فيقال : إنه لم يظفر بهم ، وعَمَّى الله عليه خبرهم. كما فعل
بنبيه [محمد] (4) صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق ، حين لجأ إلى غار ثور ، وجاء
المشركون من قريش في الطلب ، فلم يهتدوا إليه مع (5) أنهم يمرون عليه ، وعندها قال
النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله : يا رسول الله ، لو أن
أحدهم نظر إلى موضع قدميه (6) لأبصرنا ، فقال : "يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين
الله ثالثهما ؟" ، وقد قال تعالى : { إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ
اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ
إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزلَ اللَّهُ
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ
الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 40] فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة
أصحاب (7) الكهف ، وقد قيل : إن قومهم ظفروا بهم ، وقفوا (8) على باب الغار الذي
دخلوه ، فقالوا : ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم. فأمر الملك
بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعل [لهم] (9) ذلك. وفي هذا نظر ، والله أعلم ؛
فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشية ، كما قال تعالى
:
{ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ
وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ
ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ
يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) }.
هذا دليل على أن باب هذا الكهف من نحو الشمال ؛ لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا
دخلته عند طلوعها تزاور عنه { ذَاتَ الْيَمِينِ } أي : يتقلص الفيء يمنة (10) كما
قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : { تَزَاوَرُ } أي : تميل ؛ وذلك أنها
كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في
مثل ذلك المكان ؛ ولهذا قال : { وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ }
أي : تدخل إلى غارهم من شمال بابه ، وهو من ناحية المشرق ، فدل على صحة ما قلناه ،
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (19) من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.
(2) في ت ، ف : "رحمته".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) زيادة من ف.
(5) في ت : "ثم".
(6) في أ : "قدمه".
(7) في ف ، أ : "أهل".
(8) في ت ، ف : "ووقفوا".
(9) زيادة من ف.
(10) في ت : "عنه" ، وفي أ : "يمينه".
(5/142)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
وهذا
بيّن لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة ، وسير الشمس والقمر والكواكب ، وبيانه
(1) أنه (2) لو كان باب الغار من ناحية الشرق (3) لما دخل إليه منها شيء عند
الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ،
ولا تزاور الفيء يمينًا ولا شمالا ولو كان من جهة الغرب (4) لما دخلته وقت الطلوع
، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب. فتعين (5) ما ذكرناه ولله الحمد.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : { تَقْرِضُهُمْ } تتركهم.
وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره ، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في
أي البلاد من الأرض ؛ إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد (6) شرعي. وقد تكلف بعض
المفسرين فذكروا فيه أقوالا فتقدم عن ابن عباس أنه قال : [هو] (7) قريب من أيلة.
وقال ابن إسحاق : هو عند نِينَوَى. وقيل : ببلاد الروم. وقيل : ببلاد البلقاء.
والله أعلم بأي بلاد الله هو. ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله ورسوله
إليه (8) فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تركت شيئًا يقربكم إلى
[الجنة] (9) ويباعدكم من النار ، إلا وقد أعلمتكم به". فأعلمنا تعالى بصفته ،
ولم يعلمنا بمكانه ، فقال { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ
كَهْفِهِمْ } قال مالك ، عن زيد بن أسلم : تميل { ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا
غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } أي : في
متسع منه داخلا بحيث لا تمسهم ؛ إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم (10) قاله
ابن عباس.
{ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } حيث أرشدهم تعالى إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه
أحياء ، والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ مِنْ
آيَاتِ اللَّهِ }
ثم قال : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ
لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } أي : هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين
قومهم ، فإنه من هداه الله اهتدى ، ومن أضله فلا هادي له.
{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ
وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ
اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ
رُعْبًا (18) }
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم ، لم تنطبق (11) أعينهم ؛
لئلا (12) يسرع إليها البلى ، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها ؛ ولهذا قال
تعالى : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } وقد ذكر عن الذئب أنه ينام
فيطبق عينًا ويفتح عينًا ، ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد ، كما قال الشاعر (13)
__________
(1) في ت : "فبانه".
(2) في ف : "أن".
(3) في ف ، أ : "المشرق".
(4) في أ : "المغرب".
(5) في ت : "فتعى".
(6) في ت : "ولا تضر".
(7) زيادة من ف.
(8) في ت : "الله".
(9) زيادة من ف ، وفي ت : "الله".
(10) في ت : "ثيابهم وأبدانهم" ، وفي ف ، أ : "ثيابهم
وأجسادهم".
(11) في ت : "تطبق".
(12) في ت : "كيلا".
(13) هو حميد بن ثور ، والبيت في ديوانه (ص104) أ. هـ مستفادا من حاشية ط الشعب.
(5/143)
يَنَامُ
بإحْدَى مُقْلتَيه وَيَتَّقِي... بأخْرَى الرزايا فَهْوَ يَقْظَانُ نَائِمُ...
وقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } قال بعض
السلف : يقلبون في العام مرتين. قال ابن عباس : لو لم يقلبوا (1) لأكلتهم الأرض.
وقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } قال ابن عباس ، وقتادة
ومجاهد وسعيد بن جبير (2) الوصيد : الفناء.
وقال ابن عباس : بالباب. وقيل : بالصعيد ، وهو التراب. والصحيح أنه بالفناء ، وهو
الباب ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ } [الهمزة : 8] أي :
مطبقة مغلقة. ويقال : "وَصِيد" و "أصيد".
ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب.
قال ابن جريج (3) يحرس عليهم الباب. وهذا من سجيته وطبيعته ، حيث يربض (4) ببابهم
كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب ؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب - كما
ورد في الصحيح (5) - ولا صورة ولا جُنُب ولا كافر ، كما ورد به الحديث الحسن (6)
وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال. وهذا فائدة صحبة
الأخيار ؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن.
وقد قيل : إنه كان كلب صيد لأحدهم ، وهو الأشبه. وقيل : كان كلب طباخ الملك ، وقد
كان وافقهم على الدين فصحبه كلبه فالله أعلم.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "همام بن الوليد الدمشقي" : حدثنا
صَدَقَة بن عمر الغَسَّاني ، حدثنا عباد المِنْقَري ، سمعت الحسن البصري ، رحمه
الله ، يقول : كان اسم كبش إبراهيم : جرير واسم هدهد سليمان : عَنْقَز ، واسم كلب
أصحاب الكهف : قطمير ، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه : بهموت. وهبط آدم ، عليه
السلام ، بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدست بيسان ، والحية بأصبهان (7)
وقد تقدم (8) عن شعيب الجبائي أنه سماه : حمران.
واختلفوا في لونه (9) على أقوال لا حاصل لها ، ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ،
ولا حاجة إليها ، بل هي مما ينهى عنه ، فإن مستندها رجم بالغيب.
__________
(1) في ت : "تتقلبون" ، وفي أ : "يتقلبوا".
(2) في ف : "ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة".
(3) في أ : "جرير".
(4) في ف : "ربض".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (3227) من حديث ابن عمر ، رضي الله عنهما.
(6) رواه أحمد في مسنده (1/80) وأبو داود في السنن برقم (227) والنسائي في السنن
(1/141) من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا : "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة
ولا كلب ولا جنب".
(7) انظر : مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/143).
(8) في ت : "وقيل".
(9) في ت : "كونه".
(5/144)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
وقوله
تعالى : { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ
مِنْهُمْ رُعْبًا } أي : أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم
إلا هابهم ؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر ، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم (1) يد
لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم ، لما له
في ذلك من الحجة والحكمة (2) البالغة ، والرحمة الواسعة.
{ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ
كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ
مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ
تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20) }
يقول تعالى : وكما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم ، لم يفقدوا
من أحوالهم وهيئاتهم شيئًا ، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين ؛ ولهذا تساءلوا
بينهم : { كَمْ لَبِثْتُمْ } ؟ أي : كم رقدتم ؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ
بَعْضَ يَوْمٍ } كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار ، واستيقاظهم (3) كان في آخر
نهار ؛ ولهذا استدركوا فقالوا : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِمَا لَبِثْتُمْ } أي : الله أعلم بأمركم ، وكأنه حصل لهم نوع تَرَدّد في كثرة
نومهم ، فالله أعلم ، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك (4) وهو احتياجهم إلى
الطعام والشراب ، فقالوا : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ } أي : فضتكم
هذه. وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها ، فتصدقوا
منها وبقي منها ؛ فلهذا قالوا : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ
إِلَى الْمَدِينَةِ } أي : مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد.
{ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا } أي : أطيب طعامًا ، كقوله : {
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ
أَبَدًا } [النور : 21] وقوله { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } [الأعلى : 14] ومنه
الزكاة التي تُطَيب (5) المال وتطهره. وقيل : أكثر طعامًا ، ومنه زكاة الزرع إذا
كثر ، قال الشاعر : (6)
قَبَاِئُلنا سَبْعٌ وَأَنْتُمْ ثَلاثَةٌ... وَللسَّبْعُ أزْكَى مِنْ ثَلاثٍ
وَأطْيَبُ...
والصحيح الأول ؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال ، سواء كان قليلا أو كثيرا.
وقوله { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي : في خروجه وذهابه ، وشرائه وإيابه ، يقولون :
وَلْيَتَخَفَّ (7) كل ما يقدر عليه { وَلا يُشْعِرَنَّ } أي : ولا يعلمن { بِكُمْ
أَحَدًا إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } أي : إن علموا
بمكانكم ، { يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } يعنون أصحاب
دقيانوس ، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم ، فلا يزالون يعذبونهم (8) بأنواع
العذاب إلى أن يعيدوهم (9) في ملتهم التي هم عليها أو
__________
(1) في أ : "أو يمسهم".
(2) في ف : " الحكمة والحجة ".
(3) في ف : "وإيقاظهم".
(4) في ت : "إن ذلك".
(5) في ت : "يطيب".
(6) البيت في تفسير الطبري (15/148) غير منسوب.
(7) في ف ، أ : "وليتخفف".
(8) في ف : "يزالون يعذبونكم".
(9) في ف : "يعيدوكم".
(5/145)
يموتوا
، وإن واتَوهم على العود (1) في الدين فلا فلاح لكم (2) في الدنيا ولا في الآخرة ،
ولهذا قال (3) { وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا }.
__________
(1) في ف : "وافوهم على العودة".
(2) في ت ، ف : "لهم".
(3) في ف : "قالوا".
(5/146)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ
فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ
الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) }
يقول تعالى : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي : أطلعنا عليهم الناس {
لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا }
ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر
القيامة. وقال عكرمة : كان منهم طائفة قد قالوا : تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد.
فبعث الله أهل الكهف حجة (1) ودلالة وآية على ذلك.
وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة ، في شراء شيء لهم ليأكلوه ،
تنكر وخرج يمشي في غير الجادة ، حتى انتهى إلى المدينة ، وذكروا أن اسمها دقسوس
(2) وهو يظن أنه قريب العهد بها ، وكان الناس قد تبدلوا قرنًا بعد قرن ، وجيلا بعد
جيل ، وأمة بعد أمة ، وتغيرت البلاد ومن عليها ، كما قال الشاعر :
أما الدّيارُ فَإنَّها كَديارهِم... وَأرَى رجالَ الحَي غَيْرَ رجَاله...
فجعل لا يرى شيئًا من معالم البلد التي يعرفها ، ولا يعرف أحدًا من أهلها ، لا (3)
خواصها ولا عوامها ، فجعل يتحير في نفسه ويقول : لعل بي جنونًا أو مسًا ، أو أنا
حالم ، ويقول : والله ما بي شيء (4) من ذلك ، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على
غير هذه الصفة. ثم قال : إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي. ثم عمد إلى رجل ممن
يبيع الطعام ، فدفع إليه ما معه من النفقة ، وسأله أن يبيعه بها طعامًا. فلما رآها
ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضَرْبها ، فدفعها إلى جاره ، وجعلوا يتداولونها بينهم
ويقولون : لعل هذا قد وجد كنزا. فسألوه عن أمره ، ومن أين له هذه النفقة ؟ لعله
وجدها من كنز. ومن أنت ؟ فجعل يقول : أنا من أهل هذه المدينة (5) وعهدي بها عشية
أمس وفيها دقيانوس. فنسبوه إلى الجنون ، فحملوه إلى وليّ أمرهم ، فسأله عن شأنه
وعن أمره حتى أخبرهم بأمره ، وهو متحير في حاله ، وما هو فيه. فلما أعلمهم بذلك
قاموا معه إلى الكهف : مُتَوَلّى البلد وأهلها ، حتى انتهى بهم إلى الكهف ، فقال :
دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي ،
__________
(1) في ت : "وحجة".
(2) في ت : "دقوس".
(3) في ت ، ف : "ولا".
(4) في ت : "شتى".
(5) في ت : "النفقة".
(5/146)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
فيقال
: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه ، وأخفى الله عليهم خبره (1) ويقال : بل دخلوا عليهم
، ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم ، وكان مسلمًا فيما قيل ، واسمه تيدوسيس (2)
ففرحوا به وآنسوه بالكلام ، ثم ودعوه (3) وسلموا عليه ، وعادوا إلى مضاجعهم ،
وتوفاهم الله ، عز وجل ، فالله أعلم.
قال قتادة : غزا (4) ابن عباس مع حبيب بن مسلمة ، فمروا بكهف في بلاد الروم ،
فرأوا فيه عظامًا ، فقال قائل : هذه عظام أهل الكهف ؟ فقال ابن عباس : لقد بليت
عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة. رواه ابن جرير.
وقوله : { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } (5) أي : كما أرقدناهم وأيقظناهم
بهيآتهم ، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان { لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ }
أي : في أمر القيامة ، فمن مثبت لها ومن منكر ، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف
حجة لهم وعليهم { فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ
بِهِمْ } أي : سدوا عليهم باب كهفهم ، وذروهم على حالهم { قَالَ الَّذِينَ
غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }
حكى ابن جرير في القائلين (6) ذلك قولين : أحدهما : إنهم المسلمون منهم. والثاني :
أهل الشرك منهم ، فالله أعلم (7)
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا ؟
فيه نظر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لعن الله اليهود والنصارى ،
اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" (8) يحذر ما فعلوا. وقد روينا عن أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق
، أمر أن يخفى عن الناس ، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده ، فيها شيء من
الملاحم وغيرها.
{ سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ
سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ
فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ
أَحَدًا (22) }
يقول تعالى مخبرًا عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف ، فحكى ثلاثة أقوال ، فدل
على أنه لا قائل برابع ، ولما ضَعَّف القولين الأولين بقوله : { رَجْمًا
بِالْغَيْبِ } أي : قولا بلا علم ، كمن (9) يرمي إلى مكان لا يعرفه ، فإنه لا يكاد
يصيب ، وإن أصاب فبلا قصد ، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله : {
وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } فدل على صحته ، وأنه هو الواقع في نفس الأمر.
__________
(1) في ت ، ف : "خبرهم".
(2) في ت : "تيدرسين" ، وفي ف : "بيدوسيس".
(3) في ت ، ف : "دعوه".
(4) في ت : "وعن".
(5) في ت : "أعثرناهم" وهو خطأ.
(6) في ت : "القائل".
(7) في ت : "والله أعلم".
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (1330) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
(9) في أ : "لمن".
(5/147)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
وقوله
: { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام
رد العلم إلى الله تعالى ، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم ، لكن إذا
أطلعنا على أمر قلنا به ، وإلا وَقَفْنَا حيث وقفنا.
وقوله : { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } أي : من الناس. قال قتادة : قال ابن
عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله ، عز وجل ، كانوا سبعة. وكذا روى ابن جريج
، عن (1) عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول : أنا ممن استثنى الله ، ويقول : عدتهم
سبعة.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار (2) حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا إسرائيل ، عن سِمَاك
، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ } قال : أنا من
القليل ، كانوا سبعة.
فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس : أنهم كانوا سبعة ، وهو موافق لما قدمناه.
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار عن عبد الله بن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قال : لقد
حُدّثتُ أنه كان على بعضهم من حداثة سنه وَضَح الوَرِق. قال ابن عباس : فكانوا
كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله ، يبكون (3) ويستغيثون بالله ، وكانوا ثمانية
نفر : مكسلمينا (4) وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم ، و مجسيميلنينا وتمليخا
(5) ومرطونس ، وكشطونس ، وبيرونس ، وديموس ، ويطونس وقالوش.
هكذا وقع في هذه الرواية ، ويحتمل (6) هذا من كلام ابن إسحاق ، ومن بينه وبينه ،
فإن الصحيح عن ابن عباس أنهم كانوا سبعة ، وهو ظاهر الآية. وقد تقدم عن شعيب
الجبائي أن اسم كلبهم حمران (7) ، وفي تسميتهم بهذه (8) الأسماء واسم كلبهم نظر في
صحته ، والله أعلم ؛ فإن غالب ذلك مُتَلَقَّى من أهل الكتاب ، وقد قال تعالى : {
فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا } أي : سهلا هينًا ؛ فإن الأمر في
معرفة (9) ذلك لا يترتب عليه كبير (10) فائدة { وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ
أَحَدًا } أي : فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب
، أي من غير استناد إلى كلام معصوم ، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه
ولا مرية ، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه (11) من الكتب والأقوال.
{ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي
لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) }
هذا إرشاد من الله لرسوله الله صلوات الله وسلامه عليه ، إلى الأدب فيما إذا عزم
على شيء ليفعله في المستقبل ، أن يرد ذلك إلى مشيئة الله ، عز وجل ، علام الغيوب ،
الذي يعلم ما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، كما ثبت في
الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
[قال] (12) قال سليمان بن داود عليهما السلام : لأطوفن الليلة على
__________
(1) في ت : "ابن".
(2) في ت : "يسار".
(3) في ت ، ، ف ، أ : "يتلون".
(4) في هـ : "مكيليممنينا" ، والمثبت من ت ، ف ، أ.
(5) في ف : "شمليخا".
(6) في ف ، أ : "ويحتمل أن يكون".
(7) في ت : "خمران".
(8) في ت : "بهذا".
(9) في ت : "معرفته".
(10) في ف : "كثير".
(11) في ف : "على من تقدمه".
(12) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5/148)
سبعين
امرأة - وفي رواية تسعين امرأة. وفي رواية : مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن
غلامًا يقاتل في سبيل الله ، فقيل له - وفي رواية : فقال له الملك - قل : إن شاء
الله. فلم يقل فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان" ، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، لو قال : "إن شاء
الله" لم يحنث ، وكان دركا لحاجته" ، وفي رواية : "ولقاتلوا في
سبيل الله فرسانًا أجمعون (1) (2)
وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم ،
لما سئل عن قصة أصحاب الكهف : "غدًا أجيبكم". فتأخر الوحي خمسة عشر
يومًا ، وقد ذكرناه بطوله في أول السورة ، فأغنى عن إعادته.
وقوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } قيل : معناه إذا نسيت الاستثناء ،
فاستثن عند ذكرك له. قاله أبو العالية ، والحسن البصري.
وقال هشيم ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في الرجل يحلف ؟ قال : له أن
يستثني ولو إلى سنة ، وكان يقول : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } في ذلك.
قيل للأعمش : سمعته عن مجاهد ؟ قال (3) حدثني به ليث بن أبي سليم ، يرى (4) ذهب
كسائي هذا.
ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، به (5).
ومعنى قول ابن عباس : "أنه يستثني ولو بعد سنة" أي : إذا نسي أن يقول في
حلفه أو كلامه "إن شاء الله" وذكر ولو بعد سنة ، فالسُّنة له أن يقول
ذلك ، ليكون آتيا بسُنَّة الاستثناء ، حتى ولو كان بعد الحنث ، قال ابن جرير ،
رحمه الله ، ونص على ذلك ، لا أن يكون [ذلك] (6) رافعًا لحنث اليمين ومسقطًا
للكفارة. وهذا الذي قاله ابن جرير ، رحمه الله ، هو الصحيح ، وهو الأليق بحمل كلام
ابن عباس عليه ، والله أعلم.
وقال عكرمة : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أي : إذا غضبت. وهذا تفسير
باللازم.
وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن يحيى الحُلْواني ، حدثنا سعيد بن سليمان ، عن عباد
بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس :
{ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أن تقول : إن شاء الله (7) [وهذا تفسير
باللازم] (8).
وقال الطبراني : حدثنا محمد بن الحارث الجُبيلي (9) حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا
الوليد بن
__________
(1) في ت ، ف : "أجمعين".
(2) صحيح البخاري برقم (5242) رواية المائة ، وبرقم (6720) رواية التسعين ، وصحيح
مسلم برقم (1654).
(3) في ف : "فقال".
(4) في ت : "ترى".
(5) تفسير الطبري (15/151) والمعجم الكبير للطبراني (11/68).
(6) زيادة من ف.
(7) المعجم الكبير (12/179).
(8) زيادة من ف.
(9) في ت ، ف : "الحبلى".
(5/149)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
مسلم
، عن عبد العزيز بن حُصَيْن ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله
: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أن تقول : إن شاء الله.
وروى الطبراني ، أيضًا عن ابن عباس في قوله : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }
الاستثناء ، فاستثن إذا ذكرت. وقال : هي خاصة برسول (1) الله صلى الله عليه وسلم ،
وليس لأحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه ثم قال : تَفَرَّد به الوليد ، عن
عبد العزيز بن الحصين (2) (3).
ويحتمل في الآية وجه آخر ، وهو أن يكون الله ، عز وجل ، قد أرشد من نسي الشيء في
كلامه إلى ذكر الله تعالى ؛ لأن النسيان منشؤه من الشيطان ، كما قال فتى موسى : {
وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [الكهف : 63] وذكر الله
تعالى يطرد الشيطان ، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان ، فذكر الله سبب للذكر (4) ؛
ولهذا قال : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ }.
وقوله : { وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا } أي
: إذا سئُلت عن شيء لا تعلمه ، فاسأل الله فيه ، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب
والرشد [في ذلك] (5) وقيل في تفسيره غير ذلك في تفسيره ، والله أعلم.
{ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي
حُكْمِهِ أَحَدًا (26) }
هذا خبَر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في
كهفهم ، منذ أرقدهم الله إلى أن بعثهم وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان ، وأنه كان
مقداره ثلاثمائة [سنة] (6) وتسع سنين بالهلالية ، وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية ، فإن
تفاوت ما بين كل مائة [سنة] (7) بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ؛ فلهذا قال بعد
الثلاثمائة : { وَازْدَادُوا تِسْعًا }
وقوله : { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } أي : إذا سئلت عن لبثهم وليس
عندك [علم] (8) في ذلك وتوقيف (9) من الله ، عز وجل (10) فلا تتقدم فيه بشيء ، بل
قل في مثل هذا : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ } أي : لا يعلم ذلك إلا هو أو من أطلعه الله عليه من خَلْقه ، وهذا الذي
قلناه ، عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد ، وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في قوله : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ
وَازْدَادُوا تِسْعًا } هذا قول أهل الكتاب ،
__________
(1) في ت : "يا رسول" ؟ ، وفي ف : "لرسول".
(2) في ف : "حصين".
(3) المعجم الأوسط برقم (3357) "مجمع البحرين".
(4) في ت : "سبب الذكر".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ف.
(8) زيادة من ف.
(9) في ت : "توفيق".
(10) في ت ، ف : "تعالى".
(5/150)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
وقد
رده الله تعالى بقوله : { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } قال : وفي (1)
قراءة عبد الله : "وقالوا : ولبثوا" ، يعني أنه قاله الناس (2)
وهكذا قال - كما قال قتادة - مُطرَف بن عبد الله.
وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر ، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة
من غير تسع ، يعنون بالشمسية ، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال : {
وَازْدَادُوا تِسْعًا } وظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله ، لا حكاية عنهم.
وهذا اختيار ابن جرير ، رحمه الله. ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة ، ثم هي
شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها ، والله أعلم.
وقوله : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي : إنه لبصير بهم سميع لهم.
قال ابن جرير : وذلك في معنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه ،
وتأويل الكلام : ما أبصر الله لكل موجود ، وأسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك
شيء.
ثم روي عن قتادة في قوله : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } فلا أحد أبصر (3) من الله
ولا أسمع.
وقال ابن زيد : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } يرى أعمالهم ، ويسمع ذلك منهم سميعًا
بصيرًا.
وقوله : { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ
أَحَدًا } أي : أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر ، الذي لا معقب لحكمه ، وليس له
وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير ، تعالى وتقدس.
{ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) }
__________
(1) في ت : "ومن".
(2) في أ : "ابن عباس".
(3) في ت : "أنصر".
(5/151)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) }
يقول تعالى آمرًا رسوله [عليه الصلاة والسلام] (1) بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه
(2) إلى الناس : { لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي : لا مغير (3) لها ولا محرف
ولا مؤوّل.
وقوله : { وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا } [عن مجاهد : { مُلْتَحَدًا }
قال : ملجأ. وعن قتادة : وليًا ولا مولى] (4) قال ابن جرير : يقول (5) إن أنت يا
محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ، فإنه لا ملجأ لك من الله". كما قال
تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ } [المائدة : 67] ، وقال تعالى { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [القصص : 85] أي : سائلك عما فرض عليك من إبلاغ
الرسالة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ت "وابتلاغه".
(3) في ت ، ف : "أي غير مغير".
(4) زيادة من أ.
(5) في ت : "ويقول".
(5/151)
وقوله
: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : اجلس (1) مع الذين يذكرون الله ويهللونه
، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ، ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد الله ، سواء كانوا
فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء. يقال : إنها نزلت في أشراف قريش ، حين طلبوا
من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده (2) ولا يجالسهم (3) بضعفاء أصحابه
كبلال وعمار وصهيب [وخباب] (4) وابن مسعود ، وليفرد أولئك بمجلس على حدة. فنهاه
الله عن ذلك ، فقال : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ
وَالْعَشِيِّ } الآية [الأنعام : 52] (5) الآية ، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس
(6) مع هؤلاء ، فقال : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي
، عن إسرائيل ، عن المقدام بن شُرَيْح ، عن أبيه ، عن سعد - هو ابن أبي وقاص - قال
: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه
وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا!. قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من هذيل ،
وبلال ورجلان نسيت اسميهما (7) فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء
الله أن يقع ، فحدّث نفسه ، فأنزل الله عز وجل : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } انفرد
بإخراجه مسلم دون البخاري (8)
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي التَّيَّاح قال :
سمعت أبا الجعد يحدّث عن أبي أمامة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على
قاص يقص ، فأمسك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قُص ، فلأن أقعد
غدوة إلى أن تشرق الشمس ، أحب إليَّ من أن أعتق أربع رقاب" (9)
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا هاشم (10) حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن مَيْسَرة
قال : سمعت كُرْدُوس بن قيس - وكان قاص العامة بالكوفة - يقول : أخبرني رجل من
أصحاب بدر : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "لأن أقعد في مثل هذا
المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب". قال شعبة : فقلت : أي مجلس ؟ قال :
كان قاصا (11) (12)
وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا محمد ، حدثنا يزيد بن أبان ، عن أنس قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لأن أجالس قومًا يذكرون الله من صلاة
الغداة (13) إلى طلوع الشمس ، أحَبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ، ولأن أذكر الله من
صلاة العصر إلى غروب الشمس أحبّ إلي من أن أعتق
__________
(1) في ت : "يجلس".
(2) في ت ، ف : "وحدهم".
(3) في ت : "تجالسهم".
(4) زيادة من ف.
(5) في ت : "يطرد".
(6) في ت : "في المجلس".
(7) في ت : ، ف : "اسمهما".
(8) صحيح مسلم برقم (2413).
(9) المسند (5/261).
(10) في ت : "هشام".
(11) في ت : "وقاص".
(12) المسند (3/474) وكردوس بن قيس لم يوثقه إلا ابن حبان.
(13) في ت : "الغد".
(5/152)
ثمانية
من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفًا". فحسبنا دياتهم ونحن في
مجلس أنس ، فبلغت ستة وتسعين (1) ألفًا ، وهاهنا من يقول : "أربعة من ولد
إسماعيل" والله ما قال إلا ثمانية ، دية كل واحد منهم اثنا (2) عشر ألفًا (3)
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا أبو أحمد
الزبيري ، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي (4) مسلم - وهو
الكوفي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يقرأ سورة الكهف ، فلما رأى
النبي صلى الله عليه وسلم سكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هذا
المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم".
هكذا رواه أبو أحمد ، عن عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر مرسلا.
وحدثناه يحيى بن المعلى ، عن (5) منصور ، حدثنا محمد (6) بن الصلت ، حدثنا عمرو بن
ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي مسلم (7) عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا جاء
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجل يقرأ سورة الحِجْر أو سورة الكهف ، فسكت ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي
معهم" (8).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر (9) حدثنا ميمون المَرئي ، حدثنا ميمون بن
سِيَاه ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله ، لا يريدون بذلك إلا وجهه ، إلا ناداهم مناد
من السماء : أن قوموا مغفورًا لكم ، قد بُدِّلت سيئاتُكُم حسنات" (10) تفرد
به أحمد ، رحمه الله.
وقال الطبراني : حدثنا إسماعيل بن الحسن ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ،
عن أسامة بن زيد (11) عن أبي حازم ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حُنيف قال : نزلت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في بعض أبياته : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ
الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }
فخرج يلتمسهم ، فوجد قومًا يذكرون الله تعالى ، منهم ثائر الرأس ، وجافي الجلد
(12) وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم وقال : "الحمد لله الذي جعل في
أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم" (13)
عبد الرحمن هذا ، ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة (14) وأما أبوه فمن سادات
الصحابة ،
__________
(1) في ت : "وسبعين".
(2) في ت : "اثنتا".
(3) مسند الطيالسى برقم (2104) ويزيد بن أبان ضعيف.
(4) في ت : "أي".
(5) في ت ، ف : "بن".
(6) في ت : "أحمد".
(7) في ت : "الأغر بن أبي مسلم".
(8) مسند البززار برقم (5232 ، 2326) "كشف الأستار" ، وقال الهيثمي في
المجمع (7/164) : "وفيه عمرو بن ثابت أبو المقدام وهو متروك".
(9) في ف ، أ : "بكير".
(10) المسند (3/142) وميمون المرئي ضعيف.
(11) في ت : "زيدى".
(12) في ف : "الجلود".
(13) ورواه ابن منده وأبو نعيم في الصحابة كما في أسد الغابة (3/353) من طريق أبي
حازم به.
(14) وتعقبه ابن الأثير بقوله : "ولا يصح ، وإنما الصحبة لأبيه ولأخيه أبي
أمامة ، وله رؤية".
(5/153)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
رضي
الله عنهم.
وقوله : { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
} قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم : يعني : تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة.
{ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } أي : شغل عن الدين
وعبادة ربه بالدنيا { [وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ] وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } (1) أي :
أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًا لطريقته ، ولا
تغبطه بما هو فيه ، كما قال تعالى : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا
مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه : 131]
{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ
فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ
سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي
الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) }
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : وقل يا محمد للناس : هذا الذي جئتكم
به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك { فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ
شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } هذا من باب التهديد والوعيد الشديد ؛ ولهذا قال : { إِنَّا
أَعْتَدْنَا } أي : أرصدنا { لِلظَّالِمِينَ } وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه {
نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي : سورها.
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لَهيعة ، حدثنا دَرَّاج ، عن أبي
الهيثم (2) عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"لسُرَادِق النار أربعة جُدُر ، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة".
وأخرجه الترمذي في "صفة النار" وابن جرير في تفسيره ، من حديث دراج أبي
السَّمح به (3)
[وقال ابن جريج : قال ابن عباس : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } قال : حائط من
نار] (4)
وقال ابن جرير : حدثني الحسين بن نصر والعباس بن محمد قالا حدثنا أبو عاصم ، عن
عبد الله بن أمية ، حدثني محمد بن حيي بن يعلى ، عن صفوان بن يعلى ، عن يعلى بن
أمية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "البحر هو جهنم" قال :
فقيل له : [كيف ذلك ؟] (5) فتلا هذه الآية - أو : قرأ هذه الآية - : { نَارًا
أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } ثم قال : "والله لا أدخلها أبدًا أو : ما دمت
حيًا - ولا تصيبني منها قطرة" (6).
وقوله : { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ
بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } قال ابن عباس : "المهل" :
ماء غليظ مثل (7) دردي الزيت.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ت : "هشيم".
(3) المسند (3/29) وسنن الترمذي برقم (2584) وتفسير الطبري (15/157). ودراج عن أبي
الهيثم ضعيف.
(4) زيادة من ف.
(5) زيادة من ف.
(6) تفسير الطبري (15/157).
(7) في ت : "قيل".
(5/154)
وقال
مجاهد : هو كالدم والقيح. وقال عكرمة : هو الشيء الذي انتهى حَرّه : وقال آخرون :
هو كل شيء أذيب.
وقال قتادة : أذاب ابنُ مسعود شيئًا من الذهب في أخدود ، فلما انماع وأزبد قال :
هذا أشبه شيء بالمهل.
وقال الضحاك : ماء جهنم أسود ، وهي سوداء وأهلها (1) سود.
وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر ، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها
، فهو أسود منتن غليظ حار ؛ ولهذا قال : { يَشْوِي الْوُجُوهَ } أي : من حره ، إذا
أراد الكافر أن يشربه وقَرّبه من وجهه ، شواه حتى يسقط جلد وجهه فيه ، كما جاء في
الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده المتقدم في سُرادِق النار عن أبي سعيد
الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ماء كالمهل". قال
(2) كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه" (3) وهكذا رواه الترمذي
في "صفة النار" من جامعه ، من حديث رِشْدِين بن سعد (4) عن عمرو بن
الحارث ، عن دراج ، به (5) ثم قال : لا نعرفه إلا من حديث "رشدين" ، وقد
تكلم فيه من قبل حفظه ، ، هكذا قال ، وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب
، عن ابن لَهِيعة ، عن دَرّاج ، والله أعلم (6).
وقال عبد الله بن المبارك ، وبَقِيَّة بن الوليد ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الله
بن بُسْر ، عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :
{ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ } [إبراهيم : 16 ، 17] قال :
"يقرب إليه فيَتَكرّهه ، فإذا قرب منه شَوَى وجهَه ووقعت فروةُ رأسه ، فإذا
شربه (7) قطع أمعاءه ، يقول الله تعالى : { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا
بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ }.
وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فأكلوا (8) منها
فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن مارًّا مرً بهم يعرفهم ، لعرف جلود وجوههم فيها. ثم
يصب عليهم العطش فيستغيثون. فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا
أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم (9) وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود.
ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه (10) الصفات [الذميمة] (11) القبيحة : {
بِئْسَ الشَّرَابُ } أي : بئس هذا الشراب (12) كما قال في الآية الأخرى : {
وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [محمد : 15] وقال تعالى : {
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [الغاشية : 5] (13) أي : حارة ، كما قال : {
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [الرحمن : 44]
__________
(1) في ف ، أ : "شجرها".
(2) في ت : "قال كالمهل".
(3) المسند (3/70).
(4) في ت : "بن الأسعد".
(5) سنن الترمذي برقم (2581).
(6) في ت : "فالله أعلم".
(7) في ت ، ف : "شرب".
(8) في ت ، ف : "فيأكلون".
(9) في ت : "جلود".
(10) في ت : "بهذا".
(11) زيادة من ف ، أ.
(12) في ف ، أ : "شرابا".
(13) في ف : "يسقى".
(5/155)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{
وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [أي : وساءت النار] (1) منزلا ومَقِيلا ومجتمعًا وموضعًا
للارتفاق (2) كما قال في الآية الأخرى : { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا
وَمُقَامًا } [الفرقان : 66]
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ
مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا
عَلَى الأرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) }
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ، ثنى بذكر السعداء ، الذين آمنوا بالله وصدقوا
المرسلين فيما جاؤوا به ، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة ، فلهم {
جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدن : الإقامة.
{ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } أي : من تحت غرفهم ومنازلهم ، قال [لهم]
(3) فرعون : { وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي } [الزخرف : 51].
{ يُحَلَّوْنَ } أي : من الحلية { فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } وقال في
المكان الآخر : { وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج : 23] وفصله
هاهنا فقال : { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ }
فالسندس : لباس (4) رقاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها ، وأما الإستبرق فغليظ
الديباج وفيه بريق.
وقوله : { مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ } الاتكاء قيل : الاضطجاع وقيل
التربع في الجلوس. وهو أشبه بالمراد هاهنا ومنه الحديث [في] (5) الصحيح :
"أما أنا فلا آكل متكئًا " (6) فيه القولان.
والأرائك : جمع أريكة ، وهي السرير تحت الحَجَلة ، والحجلة كما يعرفه (7) الناس في
زماننا هذا بالباشخاناه ، والله أعلم.
قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَرُ ، عن قتادة : { عَلَى الأرَائِكِ } قال : هي
الحجال. قال معمر : وقال غيره : السّرُر في الحجال (8)
وقوله : { نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } [أي : نعمت الجنة ثوابًا
على أعمالهم { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } أي : حسنت منزلا ومقيلا ومقامًا ، كما قال
في النار : { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [الكهف : 29] (9) ، وهكذا
قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله : { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا
وَمُقَامًا } [الفرقان : 66] ثم ذكر صفات المؤمنين فقال : { أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ
فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [الفرقان : 76 ، 75].
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ت : "للارتفاع".
(3) زيادة من ت.
(4) في ت ، ف ، أ : "ثياب".
(5) زيادة من ت ، ف.
(6) صحيح البخاري برقم (5398).
(7) في ت ، ف : "تعرفه".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/339).
(9) زيادة من ف.
(5/156)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) }
(5/157)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
{
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ
هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى
رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) }
يقول الله تعالى بعد ذكر (1) المشركين المستكبرين عن مجالسة (2) الضعفاء والمساكين
من المسلمين ، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم ، فضرب لهم (3) مثلا برجلين ، جعل
الله { لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } أي : بستانين من أعناب ، محفوفتين بالنخل (4)
المحدقة في جنباتهما ، وفي خلالهما الزروع ، وكل من الأشجار والزروع مثمر مُقبلٌ
في غاية الجود ؛ ولهذا قال : { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } أي :
خرجت ثمرها { وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا } أي : ولم تنقص منه شيئًا {
وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا } أي : والأنهار تتخرق فيهما هاهنا وهاهنا.
{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } قيل : المراد به : المال. رُوي عن ابن عباس ، ومجاهد ،
وقتادة. وقيل : الثمار وهو أظهر هاهنا ، ويؤيده القراءة الأخرى : "وكان له
ثُمْر" بضم الثاء وتسكين الميم ، فيكون (5) جمع ثَمَرَة ، كَخَشَبَة وخُشب ،
وقرأ آخرون : { ثَمَرٌ } بفتح الثاء والميم.
فقال - أي صاحب هاتين [الجنتين] (6) - { لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } أي :
يجادله ويخاصمه ، يفتخر عليه ويترأس : { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ
نَفَرًا } أي : أكثر خدمًا وحشمًا وولدًا.
قال قتادة : تلك - والله - أمنية الفاجر : كثرة المال وعزة النفر.
وقوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ } أي : بكفره وتمرده
وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد { قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا }
وذلك اغترار منه ، لما رأى فيها (7) من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة
في جوانبها وأرجائها ، ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف (8) وذلك لقلة
عقله ، وضعف يقينه بالله ، وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها ، وكفره بالآخرة (9) ؛
ولهذا قال : { وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } أي : كائنة { وَلَئِنْ
رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } أي : ولئن كان
معاد ورجعة وَمَرَدٌّ إلى الله ، ليكونَنّ لي هناك أحسن من هذا لأني مُحظى (10)
عند ربي ، ولولا كرامتي (11) عليه ما أعطاني هذا ، كما قال في الآية الأخرى : {
وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى } [فصلت : 50] ،
وقال { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا
وَوَلَدًا } [مريم : 77] أي : في الدار الآخرة ، تألى على الله ، عز
__________
(1) في ت ، ف : "ذكره".
(2) في ت : "مجالسهم".
(3) في ت ، ف ، أ : "لهم ولهم".
(4) في ف ، أ : "بالنخيل".
(5) في ت : "فيك".
(6) زيادة من ف.
(7) في ف : "فيهما".
(8) في ت : "و لايسلم".
(9) في ت : "بالأخرى".
(10) في ت ، ف : "محض".
(11) في ت : "إكرامى".
(5/157)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
وجل
، وكان سبب نزولها في العاص بن وائل ، كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى
، وبه الثقة.
{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ
رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ
قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ
مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ
جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا
زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
}
يقول تعالى مخبرًا عما أجابه صاحبه المؤمن ، واعظًا له وزاجرًا عما هو فيه من
الكفر بالله والاغترار : { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا } ؟ وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه ،
الذي خلقه وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين
، كما قال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا
فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة : 280] أي : كيف
تجحَدُون ربكم ، ودلالته عليكم ظاهرة جلية ، كل أحد يعلمها من نفسه ، فإنه ما من
أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدومًا ثم وجد ، وليس وجوده من نفسه ولا
مستندًا إلى شيء من المخلوقات ؛ لأنه بمثابته فعلم إسناد (1) إيجاده إلى خالقه ،
وهو الله ، لا إله إلا هو ، خالق كل شيء ؛ ولذا (2) قال : { لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ
رَبِّي } أي : أنا لا أقول بمقالتك ، بل أعترف لله بالربوبية والوحدانية { وَلا
أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } أي : بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ
إِلا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا } هذا تحضيض وحث
على ذلك ، أي : هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به
عليك ، وأعطاك من المال و الولد ما لم يعطه غيرك ، وقلت : { مَا شَاءَ اللَّهُ لا
قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } ؛ ولهذا قال بعض السلف : من أعجبه شيء من حاله أو ماله
أو ولده أو ماله ، فليقل : { مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } وهذا
مأخوذ من هذه الآية الكريمة. وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى
الموصلي في مسنده :
حدثنا جَرَّاح بن مَخْلَد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا عيسى بن عَوْن ، حدثنا عبد
الملك بن زُرَارَة ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد ، فيقول : { مَا
شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } فيرى فيه آفة دون الموت". وكان
يتأول هذه الآية : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ
لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } (3).
__________
(1) في ف : "استناد".
(2) في ف : "ولهذا".
(3) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (4525) من طريق الحسن بن صباح ، عن عمر بن
يونس به.
(5/158)
قال
الحافظ أبو الفتح الأزدي : عيسى بن عون ، عن عبد الملك بن زرارة ، عن أنس : لا يصح
حديثه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة وحجاج ، حدثني شعبة ، عن عاصم
بن عبيد الله ، عن عبيد مولى أبي رُهْم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال : "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا قوة إلا بالله".
تفرد به أحمد (1)
وقد ثبت في الصحيح (2) عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :
"ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا بكر (4) بن عيسى ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بَلَج ،
عن عَمْرو بن ميمون قال : قال أبو هريرة : قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم :
"يا أبا هريرة ، أدلك (5) على كنز من كنوز الجنة تحت العرش ؟". قال :
قلت : نعم ، فداك أبي وأمي. قال : "أن تقول لا قوة إلا بالله" قال أبو
بَلْج : وأحسب أنه قال : "فإن الله يقول : أسلم عبدي واستسلم". قال :
فقلت لعمرو - قال أبو بَلْج : قال عَمْرو : قلت لأبي هريرة : لا حول ولا قوة إلا
بالله ؟ فقال : لا إنها في سورة الكهف : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ
قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ } (6)
وقوله : { فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ } أي : في الدار
الآخرة { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا } أي : على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد
ولا تفنى { حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ } قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، ومالك
عن الزهري : أي عذابًا من السماء.
والظاهر أنه مطر عظيم مزعج ، يقلع زرعها وأشجارها ؛ ولهذا قال : { فَتُصْبِحَ
صَعِيدًا زَلَقًا } أي : بلقعًا ترابًا أملس ، لا يثبت فيه قَدم.
وقال ابن عباس : كالجُرز الذي لا ينبت شيئًا.
وقوله : { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } أي : غائرًا في الأرض ، وهو ضد النابع
الذي يطلب وجه الأرض ، فالغائر يطلب أسفلها (7) كما قال تعالى : { قُلْ
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ
} [الملك : 30] أي : جار وسائج. وقال هاهنا : { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا
فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } والغور : مصدر بمعنى غائر ، وهو أبلغ منه ، كما
قال الشاعر (8)
تَظَلّ جيّادُهُ نَوْحًا عَلَيه... تُقَلّدُهُ أعنَّتَها صُفُوفا...
بمعنى نائحات عليه.
__________
(1) المسند (2/469).
(2) في ف : "الصحيحين".
(3) صحيح البخاري برقم (6610) وصحيح مسلم برقم (2704).
(4) في ف ، أ : "بكير".
(5) في ت ، ف : "ألا أدلك".
(6) المسند (2/335).
(7) في ت ، ف : "أسفل".
(8) البيت في تفسير الطبري (15/163) غير منسوب.
(5/159)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا
وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ
بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ
هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44) }
يقول تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } بأمواله ، أو بثماره على القول الآخر.
والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر ، مما خَوَّفه به المؤمن من إرسال
الحسبان (1) على جنته ، التي اغتر بها (2) وألهته عن الله ، عز وجل { فَأَصْبَحَ
يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } وقال قتادة : يُصفّق كفيه
متأسفًا متلهفًا على الأموال التي أذهبها عليه { وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ
أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ } أي : عشيرة أو ولد ، كما
افتخر بهم واستعز { يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا
هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } اختلف القراء هاهنا ، فمنهم من يقف على
قوله : { وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا هُنَالِكَ } أي : في ذلك الموطن الذي حل به عذاب
الله ، فلا منقذ منه. ويبتدئ [بقوله] (3) { الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } ومنهم
من يقف على : { وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا } ويبتدئ بقوله : { هُنَالِكَ الْوَلايَةُ
لِلَّهِ الْحَقِّ }.
ثم اختلفوا في قراءة { الْوَلايَةُ } فمنهم من فتح الواو ، فيكون المعنى : هنالك
الموالاة (4) لله ، أي : هنالك (5) كل أحد (6) من مؤمن أو كافر (7) يرجع إلى الله
وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب ، كقوله : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا
قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ }
[غافر : 84] وكقوله إخبارًا عن فرعون : { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ
آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا
مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }
[يونس : 91 ، 90]
ومنهم من كسر الواو من { الْوَلايَةُ } أي : هنالك الحكم لله الحق.
ثم منهم من رفع { الْحَقِّ } على أنه نعت للولاية ، كقوله تعالى : { الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا }
[الفرقان : 26]
ومنهم من خفض القاف ، على أنه نعت لله عز وجل ، كقوله : { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }
[الأنعام : 62] ؛ ولهذا قال تعالى : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا } أي : جزاء {
وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي : الأعمال التي تكون لله ، عز وجل ، ثوابها خير ، وعاقبتها حميدة
رشيدة ، كلها خير.
{ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ
السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ
الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) }
__________
(1) في ت : "الحسنات".
(2) في ت : "اعتز".
(3) زيادة من أ.
(4) في ت : "الولاية".
(5) في ت : "هناك".
(6) في ف : "واحد".
(7) في ف : "وكافر".
(5/160)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا (46) }.
(5/160)
يقول
تعالى : { وَاضْرِبْ } يا محمد للناس { مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } في زوالها
وفنائها وانقضائها { كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الأرْضِ } أي : ما فيها من الحَبّ ، فشب وحسن ، وعلاه (1) الزهر والنور
والنضرة ثم بعد هذا كله { فَأَصْبَحَ هَشِيمًا } يابسا { تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ }
أي : تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال (2) { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } أي : هو قادر على هذه الحال ، وهذه الحال (3) وكثيرًا ما
يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما في سورة يونس : { إِنَّمَا مَثَلُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الأرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ
الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ } الآية [يونس : 24] ، وقال في سورة الزمر : {
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ
فِي الأرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى
لأولِي الألْبَابِ } [الزمر : 21] ، وقال في سورة الحديد : { اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي
الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد : 20].
وفي الحديث الصحيح : "الدنيا حلوة خضرة" (4)
وقوله : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } كقوله { زُيِّنَ
لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ
مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ
ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } [آل
عمران : 14] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التغابن : 15] أي : الإقبال عليه والتفرغ
لعبادته ، خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم ، والشفقة المفرطة عليهم ؛ ولهذا
قال : { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ
أَمَلا } قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف :
"الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" الصلوات الخمس.
وقال عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : "الْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ" سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر.
وهكذا سُئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، عن :
"الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" ما هي ؟ فقال : هي (5) لا إله إلا الله ،
وسبحان الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رواه الإمام أحمد :
حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، حدثنا حَيْوَة ، أنبأنا أبو عقيل ، أنه سمع الحارث
مولى عثمان ، رضي الله عنه ، يقول : جلس عثمان يومًا وجلسنا معه ، فجاءه المؤذن ،
فدعا بماء في إناء ، أظنه أنه سيكون فيه مُد ، فتوضأ ثم قال : رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ، ثم قال : "من توضأ وضوئي هذا ، ثم قام فصلى
(6) صلاة الظهر ، غُفر له ما كان بينها وبين الصبح ، ثم صلى العصر غفر له ما بينها
وبين الظهر ، ثم صلى المغرب غُفر له ما بينها وبين العصر ، ثم صلى العشاء غُفر له
ما
__________
(1) في ت : "وعلا".
(2) في ت : "ذات يمين وذات شمال".
(3) في ت : "هذه الحالة وهذه الحالة".
(4) سبق تخريجه عند تفسير الآية الثامنة من هذه السورة.
(5) في ت : "هن".
(6) في ت ، ف : "يصلى".
(5/161)
بينها
وبين المغرب ، ثم لعله يبيت يتمرغ (1) ليلته ، ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح ،
غُفر له ما بينها (2) وبين صلاة العشاء وهي الحسنات يذهبن السيئات" قالوا :
هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان ؟ قال : هي لا إله إلا الله ، وسبحان
الله ، والحمد لله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله (3) تفرد به (4).
وروى مالك ، عن عمارة بن عبد الله بن صياد (5) عن سعيد بن المسيب قال :
"الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا
الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال محمد بن عَجْلان ، عن عمارة قال : سألني سعيد بن المسيب عن
"الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ" فقلت : الصلاة والصيام. قال (6) لم تصب.
فقلت : الزكاة والحج. فقال : لم تصب ، ولكنهن الكلمات الخمس : لا إله إلا الله ،
والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن نافع عن سَرْجس ، أنه
أخبره أنه سأل ابن عمر عن : { الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } قال : لا إله إلا
الله ، والله أكبر ، [وسبحان الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال ابن جريج :
وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك.
وقال مجاهد : { الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله
إلا الله ، والله أكبر] (7).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمر ، عن الحسن وقتادة في قوله : "الْبَاقِيَاتُ
الصَّالِحَاتُ" قال : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله ، وسبحان
الله ، هُنّ الباقيات الصالحات.
قال ابن جرير : وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار ، عن أبي نصر التمار ، عن
عبد العزيز بن مسلم ، عن محمد بن عجلان ، عن سعيد المَقْبُرِي ، عن أبيه ، عن أبي
هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سبحان الله ، والحمد لله
، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، منَ الباقيات الصالحات" (8).
قال : وحدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث أن درّاجًا أبا السمح
حَدّثه ، عن ابن الهيثم ، عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"استكثروا من الباقيات الصالحات". قيل : وما هي (9) يا رسول الله ؟ قال
: "الملة". قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : "التكبير ، والتهليل
، والتسبيح ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
وهكذا رواه أحمد ، من حديث دراج ، به (10).
وبه قال ابن وهب : أخبرني أبو صَخْر أن عبد الله بن عبد الرحمن ، مولى سالم بن عبد
الله
__________
(1) في ف ، أ : "لعله يتمرغ".
(2) في ت : "بينهما".
(3) في أ : "بالله العلى العظيم".
(4) المسند (1/71).
(5) في ف : "جياد".
(6) في ف : "فقال".
(7) زيادة من ف.
(8) تفسير الطبري (15/167).
(9) في أ : "وما هن".
(10) تفسير الطبري (15/167) والمسند (3/75).
(5/162)
حَدّثه
قال : أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي ، فقال : قل له : القني عند زاوية القبر
فإن لي إليك حاجة. قال : فالتقيا ، فسلم أحدهما على الآخر ، ثم قال سالم : ما تعد
الباقيات الصالحات ؟ فقال : لا إله إلا الله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، ولا حول
ولا قوة إلا بالله ، فقال له سالم : متى جعلت فيها "لا حول ولا قوة إلا بالله
؟" فقال : ما زلت أجعلها. قال : فراجعه (1) مرتين أو ثلاثًا ، فلم ينزع ، قال
فأثبت (2) قال سالم : أجل فأثبت (3) فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم هو يقول : "عرج بي إلى السماء فأريت إبراهيم عليه
السلام ، فقال : يا جبريل من هذا معك ؟ فقال : محمد فرحب بي وسَهَّل ، ثم قال : مر
أمتك فلتكثر من غراس الجنة ، فإن تربتها طيّبة وأرضها واسعة. فقلت : وما غراس
الجنة ؟ قال : لا حول ولا قوة إلا بالله" (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن يزيد ، عن العوام ، حدثني رجل من الأنصار ، من
آل النعمان بن بشير ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونحن في
المسجد بعد صلاة العشاء ، فرفع بصره إلى السماء ثم خفض ، حتى ظننا أنه قد حدث في
السماء شيء ، ثم قال : "أما إنه سيكون بعدي أمراء ، يكذبون ويظلمون ، فمن
صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم ، فليس مني ولا أنا منه ، ومن لم يصدقهم بكذبهم
ولم يمالئهم (5) فهو مني وأنا منه. ألا وإن "سبحان الله ، والحمد لله ، ولا
إله إلا الله ، والله أكبر هُنّ الباقيات الصالحات" (6)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبان ، حدثنا يحيى بن كثير ، عن زيد ، عن
أبي سلام [عن] (7) مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم [أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم] (8) قال : "بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان : لا إله إلا الله ،
والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، والولد الصالح يتوفى فيحتسبه (9)
والده". وقال : "بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنًا بهن ، دخل الجنة :
يؤمن بالله ، واليوم الآخر ، وبالجنة وبالنار ، وبالبعث بعد الموت ، وبالحساب (10)
(11)
وقال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح ، حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال : كان
شداد بن أوس رضي الله عنه ، [في سفر] (12) فنزل منزلا فقال لغلامه : "ائتنا
بالشَّفرة نعبث بها". فأنكرت عليه ، فقال : ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا
وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه. فلا تحفظوها علي (13) واحفظوا ما أقول لكم :
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا كنز الناس الذهب والفضة
فاكنزوا (14) هؤلاء الكلمات : اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على
الرشد ، وأسألك (15) شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبًا سليمًا ،
وأسألك لسانًا صادقًا ، وأسألك من خير
__________
(1) في ف ، أ : "فراجعته".
(2) في ف ، أ : "فأبيت".
(3) في أ : "فأبيت".
(4) تفسير الطبري (15/166).
(5) في أ : "ولم يمالئهم على ظلمهم".
(6) المسند (4/267).
(7) زيادة من ف ، والمسند.
(8) زيادة من ف ، والمسند.
(9) في ت : "فيحتسبنه".
(10) في ت ، ف : "والحساب".
(11) المسند (4/237) ، وقال الهيثمي في المجمع (10/88) : "رجاله رجال
الصحيح".
(12) زيادة من ف ، والمسند
(13) في ت : "على ذلك".
(14) في أ : "فأكثروا".
(15) في ت : "وأشكرك".
(5/163)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
ما
تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب" (1)
ثم رواه أيضا النسائي (2) من وجه آخر عن شداد ، بنحوه (3)
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن ناجية ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثني أبي
، حدثنا عمر بن الحسين ، عن يونس بن نفيع الجدلي ، عن سعد بن جنادة ، رضي الله عنه
، قال : كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف ، فخرجت من
أهلى (4) من السراة غدوة ، فأتيت منى عند العصر ، فتصاعدت في الجبل ثم هبطت ،
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت ، وعلمني : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و
{ إِذَا زُلْزِلَتِ } وعلمني هؤلاء الكلمات : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله
إلا الله ، والله أكبر ، وقال : "هن الباقيات الصالحات". وبهذا الإسناد
: "من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه ، ثم قال : سبحان الله مائة مرة ، والحمد
لله مائة مرة ، والله أكبر مائة مرة ، ولا إله إلا الله مائة مرة ، غفرت ذنوبه إلا
الدماء فإنها لا تبطل" (5)
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } قال
: هي ذكر الله ، قول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ،
وتبارك الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأستغفر الله ، وصلى الله على رسول
الله ، والصيام ، والصلاة ، والحج ، والصدقة ، والعتق ، والجهاد ، والصلة ، وجميع
أعمال الحسنات. وهن الباقيات الصالحات ، التي تبقى لأهلها في الجنة ، ما دامت
السموات والأرض.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : هُنّ الكلام الطيب.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي الأعمال الصالحة كلها. واختاره ابن جرير ،
رحمه الله.
{ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ
فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ
جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ
نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ
مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا
يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا
حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) }.
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة ، وما يكون فيه من الأمور العظام ، كما قال تعالى
: { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } [الطور : 9
، 10] أي : تذهب من أماكنها وتزول ، كما قال
__________
(1) المسند (4/123).
(2) في ت : "فالنسائي".
(3) سنن النسائي الكبري برقم (1227).
(4) في ت ، ف ، أ : "من أهلي الطائفة".
(5) المعجم الكبير (6/51) وفيه الحسين العوفي ضعيف.
(5/164)
تعالى
: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ }
[النمل : 88] ، وقال تعالى : { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ }
[القارعة : 5] وقال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا
رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا
أَمْتًا } [طه : 105 - 107] يقول تعالى : إنه تذهب الجبال ، وتتساوى المهاد ،
وتبقى الأرض { قَاعًا صَفْصَفًا } أي : سطحًا مستويًا لا عوج فيه { وَلا أَمْتًا }
أي : لا وادي ولا جَبَل ؛ ولهذا قال تعالى : { وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } [أي :
بادية ظاهرة ، ليس فيها مَعْلَم لأحد ولا مكان يواري أحدًا ، بل الخلق كلهم ضاحون
لربهم لا تخفى عليه منهم خافية.
قال مجاهد ، وقتادة : { وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً } ] (1) لا خَمَرَ فيها ولا
غَيَابة. قال قتادة : لا بناءَ ولا شَجَر.
وقوله : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } أي : وجمعناهم ،
الأولين منهم والآخرين ، فلم نترك منهم أحدًا ، لا صغيرًا ولا كبيرًا ، كما قال :
{ قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ
مَعْلُومٍ } [الواقعة : 50 ، 49] ، وقال : { ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ
النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } [هود : 103] ،
وقوله : { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا } يحتمل أن يكون المراد : أن جميع
الخلائق يقومون بين يدي الله صفًا واحدًا ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ : 38] ويحتمل أنهم يقومون (2) صفوفًا صفوفا
، كما قال : { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } [الفجر : 22]
وقوله : { لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } هذا تقريع
للمنكرين للمعاد ، وتوبيخ لهم على رءوس الأشهاد ؛ ولهذا قال مخاطبا لهم : { بَلْ
زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا } أي : ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم
، ولا أن هذا كائن.
وقوله : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } أي : كتاب الأعمال ، الذي فيه الجليل والحقير ،
والفتيل والقطمير ، والصغير والكبير { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا
فِيهِ } أي : من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة ، { وَيَقُولُونَ يَا
وَيْلَتَنَا } أي : يا حسرتنا وويلنا (3) على ما فرطنا في أعمارنا { مَالِ هَذَا
الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا } أي : لا يترك
ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملا وإن صغر { إِلا أَحْصَاهَا } أي : ضبطها ،
وحفظها.
وروى الطبراني ، بإسناده المتقدم في الآية قبلها ، إلى سعد ابن جنادة قال : لما
فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حُنَيْن ، نزلنا قفرًا من الأرض ، ليس
فيه شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اجمعوا ، من وجد عُودًا فليأت به
، ومن وجد حطبًا أو شيئًا فليأت به. قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه رُكامًا ،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أترون هذا ؟ فكذلك تُجْمَع الذنوب على
الرجل منكم كما جَمَعْتُم هذا. فليتق الله رجل ولا
__________
(1) زيادة من ف.
(2) في ف ، أ : "أن يقوموا".
(3) في ت ، ف ، أ : "وويلتنا".
(5/165)
يذنب
صغيرة ولا كبيرة ، فإنها مُحْصَاة عليه " (1)
وقوله : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } أي : من خير أوشر كما قال تعالى : {
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } [آل عمران
: 30] ، وقال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ
} [القيامة : 13] وقال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [الطارق : 9] أي :
تظهر المخبآت والضمائر.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال : "لكل غادر لواء يومَ القيامة [يعرف به" (2).
أخرجاه في الصحيحين ، وفي لفظ : "يُرْفَع لكل غادر لواء يومَ القيامة] (3)
عند استه بقدر غَدْرته ، يقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان" (4)
وقوله : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } أي : فيحكم بين عباده في أعمالهم
جميعًا ، ولا يظلم أحدا من خلقه ، بل يعفر (5) ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء ، بقدرته
وحكمته وعدله ، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي ، [ثم ينجي أصحاب المعاصي]
(6) ويُخلَّد فيها الكافرون (7) وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم ، قال تعالى : {
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء : 40] وقال : { وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا
حَاسِبِينَ } [الأنبياء : 47] والآيات في هذا (8) كثيرة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن القاسم بن عبد الواحد
المكي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : بلغني
حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه
رَحْلى ، فسرت عليه شهرًا ، حتى قدمت عليه الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس (9) فقلت
للبواب : قل له : جابر على الباب. فقال : ابن عبد الله ؟ فقلت : نعم. فخرج يطأ
ثوبه ، فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى
الله عليه وسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسَمَعه فقال : سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يحشُر الله ، عز وجل الناس يوم القيامة
- أو قال : العبادَ - عُرَاةَ غُرْلا بُهْمًا" قلت : وما بهمًا ؟ قال :
"ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قَربَ : أنا
الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ، وله عند أحد من
أهل الجنة حق ، حتى أقصه (10) منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ،
وله عند رجل من أهل النار حق ، حتى أقصه (11) منه حتى اللطمة". قال : قلنا :
كيف ، وإنما نأتي الله ، عز وجل ، حفاة عُراة غُرْلا بُهْمًا ؟ قال :
__________
(1) المعجم الكبير (6/52).
(2) المسند (3/142).
(3) زيادة من ف.
(4) صحيح البخاري برقم (3186) وصحيح مسلم برقم (1737).
(5) في ت ، ف : "يعفو".
(6) زيادة من ف.
(7) في ف : "الكافرين".
(8) في ت : "في هذه" ، وفي ف : "فيهما".
(9) في ت : "أنس".
(10) في ت ، ف ، أ : "أقضيه".
(11) في ت ، ف ، أ : "أقضيه".
(5/166)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
بالحسنات
والسيئات" (1).
وعن شعبة ، عن العوام بن مُزَاحم ، عن أبي عثمان ، عن عثمان بن عفان ، رضي الله
عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء
يوم القيامة" (2) رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر ، وقد
ذكرناها عند قوله : { وَنَضَعُ (3) الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ
فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا } [الأنبياء : 47] وعند قوله تعالى : { إِلا أُمَمٌ
أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ
يُحْشَرُونَ } [الأنعام : 38]
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ
كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلا (50) }
يقول تعالى منبهًا بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم ، ومقرعًا لمن
اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه ، الذي أنشأه وابتداه ، وبألطاف رزقه وغذاه ، ثم
بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله ، فقال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ } أي : لجميع الملائكة ، كما تقدم تقريره في أول سورة
"البقرة" (4).
{ اسْجُدُوا لآدَمَ } أي : سجود تشريف وتكريم وتعظيم ، كما قال تعالى : { وَإِذْ
قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ
مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ
سَاجِدِينَ } [الحجر : 29 ، 28]
وقوله { فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } أي : خانه أصله ؛ فإنه
خلق من مارج من نار ، وأصل خلق الملائكة من نور ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة ،
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "خُلِقت الملائكة من نور ،
وخُلق إبليس من مارج من نار ، خُلق (5) آدم مما وصف لكم" (6). فعند الحاجة
نضح (7) كل وعاء بما فيه ، وخانه الطبع عند الحاجة ، وذلك أنه كان قد تَوَسَّم
بأفعال الملائكة وتشبه بهم ، وتعبد وتنسك ، فلهذا دخل في خطابهم ، وعصى بالمخالفة.
ونبه تعالى هاهنا على أنه { مِنَ الْجِنِّ } أي : إنه خُلِق من نار ، كما قال : {
أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [الأعراف :
12 ، ص : 76]
قال الحسن البصري : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط ، وإنه لأصل الجن ، كما
أن آدم ، عليه السلام ، أصل البشر. رواه ابن جرير بإسناد صحيح [عنه] (8) (9).
__________
(1) المسند (3/495).
(2) روائد المسند (1/12).
(3) في ت : "ويضع".
(4) عند تفسير الآية : 34.
(5) في ت ، ف ، ومسلم : "وخلق".
(6) صحيح مسلم برقم (2996).
(7) في أ : "نضح لكم".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) تفسير الطبري (15/170).
(5/167)
وقال
الضحاك ، عن ابن عباس : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة ، يقال لهم : الجن ،
خلقوا من نار السموم من بين الملائكة - قال : وكان اسمه الحارث ، وكان خازنًا من
خزان الجنة ، وخُلقت الملائكة من نور غير هذا الحي - قال : وخلقت الجن الذين
ذُكروا في القرآن من مارج من نار. وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت.
وقال الضحاك أيضًا ، عن ابن عباس : كان إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة ،
وكان خازنًا على الجنان ، وكان له سلطان [السماء] (1) الدنيا وسلطان الأرض ، وكان
مما سولت له نفسه ، من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفًا على أهل السماء ، فوقع
من ذلك في قلبه كبر (2) لا يعلمه إلا الله. فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين (3)
أمره بالسجود لآدم "فاستكبر ، وكان من الكافرين. قال ابن عباس : وقوله : {
كَانَ مِنَ الْجِنِّ } أي : من خزان [الجنان ، كما يقال للرجل : مكي ، ومدني ،
وبصري ، وكوفي. وقال ابن جريج ، عن ابن عباس ، نحو ذلك.
وقال سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : هو من خزان] (4) الجنة ، وكان يدبر أمر
السماء الدنيا ، رواه ابن جرير من حديث الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد ،
به.
وقال سعيد بن المسيب : كان رئيس ملائكة سماء (5) الدنيا.
وقال ابن إسحاق ، عن خَلاد بن (6) عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان إبليس -
قبل أن يركب المعصية - من الملائكة ، اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض. وكان من
أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا. فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حي يسمون
جنا.
وقال ابن جُرَيْج ، عن صالح مولى التَّوْأمة وشريك بن أبي نَمِر ، أحدهما أو
كلاهما عن ابن عباس قال : إن من الملائكة قبيلة من الجن ، وكان إبليس منها ، وكان
يسوس ما بين السماء والأرض. فعصى ، فسخط الله عليه ، فمسخه شيطانًا رجيمًا - لعنه
الله - ممسوخًا ، قال : وإذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر فلا تَرْجُه ، وإذا كانت
في معصية فارجه.
وعن سعيد بن جُبَيْر أنه قال : كان من الجنانين ، الذين يعملون في الجنة.
وقد رُوي في هذا آثار كثيرة عن السلف ، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر
فيها ، والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي
بأيدينا ، وفي القرآن غُنْيَةٌ عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة ؛ لأنها لا تكاد
تخلو من تبديل وزيادة ونقصان ، وقد وضع فيها أشياء كثيرة ، وليس لهم من الحفاظ
المتقنين الذين يَنْفُون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، كما لهذه [الأمة
من] (7) الأئمة والعلماء ، والسادة الأتقياء والأبرار والنجباء (8) من الجهابذة
النقاد ، والحفاظ
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) في ف : "كبر في قلبه".
(3) في ت : "حتى".
(4) زيادة من ف.
(5) في ت ، ف : "السماء".
(6) في ف : "عن".
(7) زيادة من ف.
(8) في أ : "البررة والنجباء".
(5/168)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
الجياد
، الذين دونوا الحديث وحرروه ، وبينوا صحيحه من حسنه ، من ضعيفه ، من منكره
وموضوعه ، ومتروكه ومكذوبه ، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين ، وغير ذلك من
أصناف الرجال ، كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي ، خاتم الرسل ، وسيد
البشر [عليه أفضل التحيات والصلوات والتسليمات] (1) ، أن ينسب إليه كذب ، أو يحدث
عنه بما ليس [منه] (2) ، فرضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم ، وقد
فعل.
وقوله : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } أي : فخرج عن طاعة الله ؛ فإن الفسق هو
الخروج ، يقال (3) فَسَقت الرُّطَبة : إذا خرجت من أكمامها (4) وفسقت الفأرة من
جُحْرها : إذا خرجت منه للعيث (5) والفساد.
ثم قال تعالى مقرعًا وموبخًا لمن اتبعه وأطاعه : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي } أي : بدلا عني ؛ ولهذا قال : { بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلا }
وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين السعداء
والأشقياء في سورة يس : { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ
لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ
أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [يس : 59 -
62].
{ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ
وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) }
يقول تعالى : هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم ، لا يملكون
شيئًا ، ولا أشهدتهم خلقي للسموات (6) والأرض ، ولا كانوا إذ ذاك موجودين ، يقول
تعالى : أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ، ومدبرها ومقدرها وَحْدي ، ليس معي في ذلك
شريك ولا وزير ، ولا مشير ولا نظير ، كما قال : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ } الآية [سبا : 23 ، 22] ؛ ولهذا قال : { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } قال مالك : أعوانًا.
{ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا
عَنْهَا مَصْرِفًا (53) }
يقول تعالى مخبرًا عما يُخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعًا
لهم وتوبيخًا :
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ف.
(3) في أ : "تقول".
(4) في أ : "كمامها".
(5) في أ : "للعنت".
(6) في ف ، أ : "خلق السموات".
(5/169)
{
نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } أي : في دار الدنيا ، ادعوهم اليوم ،
ينقذونكم مما (1) أنتم فيه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى
كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ
ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ
فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ } [الأنعام : 94].
وقوله : { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } ]كما قال : { وَقِيلَ
ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ (2) [ وَرَأَوُا
الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } [القصص : 64] ، وقال { وَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ
كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [الأحقاف : 5 ،
6] ، قال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ
عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا }
[مريم : 82 ، 81]
وقوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا } قال ابن عباس ، وقتادة وغير واحد :
مَهْلكًا (3).
وقال قتادة : ذكر لنا أن عمرا البكالي (4) حدث عن عبد الله بن عمرو قال : هو واد
عميق ، فُرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة.
وقال قتادة : { مَوْبِقًا } واديًا في جهنم.
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سِنان القزاز ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا يزيد بن
درهم سمعت أنس بن مالك يقول في قول الله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ
مَوْبِقًا } قال : واد في جهنم ، من قيح ودم.
وقال الحسن البصري : { مَوْبِقًا } : عداوة.
والظاهر من السياق هاهنا : أنه المهلك ، ويجوز أن يكون واديًا في جهنم أو غيره ،
إلا أن الله تعالى أخبر (5) أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ، ولا وصول لهم إلى
آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا ، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة ، فلا
خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر ، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.
وأما إن جعل الضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ } (6) عائدًا إلى المؤمنين والكافرين ،
كما قال عبد الله بن عمرو : إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به ، فهو كقوله تعالى
: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم : 14] ، وقال
{ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [الروم : 43] ، وقال تعالى : { وَامْتَازُوا
الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [يس : 59] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ
نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ
وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ
إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ
كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا
أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَفْتَرُونَ } [يونس : 28 - 30].
__________
(1) في ت : "بما".
(2) زيادة من ف.
(3) في ت : "هلكا".
(4) في أ : "البكائي".
(5) في أ : "خير".
(6) في ت : "بينهما".
(5/170)
وقوله
: { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ
يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } أي : إنهم لما عاينوا جهنم حين (1) جيء بها تقاد
بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، فإذا رأى المجرمون النار ، تحققوا
لا محالة أنهم مواقعوها ، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم ، فإن توقع
العذاب والخوف منه قبل وقوعه ، عذاب ناجز.
{ وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } أي : ليس (2) لهم طريق يعدل بهم عنها ولا
بد لهم منها.
قال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن دَرّاج
عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"إن الكافر يرى (4) جهنم ، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين (5) سنة"
(6)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن (7) لهيعة ، حدثنا دراج ، عن أبي الهيثم
، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ينصب الكافر
مقدار خمسين ألف سنة ، كما لم يعمل في الدنيا ، وإن الكافر ليرى جهنم ، ويظن أنها
مواقعته من مسيرة أربعين سنة" (8).
__________
(1) في ت : "حتى".
(2) في ت ، ف ، أ : "وليس".
(3) في ف ، أ : "عن النبي".
(4) في ف ، أ : "ليرى".
(5) في ف : "أربعمائة".
(6) تفسير الطبري (15/173) ودراج عن أبي الهيثم ضعيف.
(7) في ت : "أبي" و هو خطأ.
(8) المسند (3/75).
(5/171)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
{
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ
الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا (54) }.
يقول تعالى : ولقد بينا للناس في هذا القرآن ، ووضحنا لهم الأمور ، وفصلناها ،
كيلا (1) يضلوا عن الحق ، ويخرجوا عن طريق الهدى. ومع هذا البيان وهذا الفرقان ،
الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل ، إلا من هدى الله وبصره
لطريق النجاة.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني علي بن
الحسين ، أن حسين بن علي أخبره ، أن علي بن أبي طالب أخبره ، أن رسول الله (2) صلى
الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال :
"ألا تصليان ؟" فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء
أن يبعثنا بَعَثنا. فانصرف حين قلت ذلك ، ولم يَرْجع إلي شيئًا ، ثم سمعته وهو
مولّ (3) يضرب فخذه [ويقول] (4) { وَكَانَ الإنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا }
أخرجاه في الصحيحين (5).
__________
(1) في ف ، : "لئلا".
(2) في ف ، أ : "النبي".
(3) في ت ، ف ، أ : "يقول".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(5) المسند (1/112) وصحيح البخاري برقم (1227) وصحيح مسلم برقم (755).
(5/171)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا
رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذَابُ قُبُلا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ
الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) }.
يخبر تعالى عن تمرد (1) الكفرة في قديم الزمان وحديثه ، وتكذيبهم بالحق البين
الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات [والآثار] (2) والدلالات الواضحات ، وأنه ما منعهم
من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانًا ، كما قال أولئك
لنبيهم : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ } [الشعراء : 187] ، وآخرون قالوا : { ائْتِنَا (3) بِعَذَابِ
اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [العنكبوت : 29] ، وقالت قريش : {
اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأنفال : 32] ، {
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ *
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [الحجر : 7
، 6] إلى غير ذلك [من الآيات الدالة على ذلك] (4).
ثم قال : { إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ } من غشيانهم بالعذاب
وأخذهم عن آخرهم ، { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلا } أي : يرونه عيانًا
مواجهة [ومقابلة] (5) ، ثم قال : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ
لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا } أي :
قبل العذاب مبشرين (6) من صدقهم وآمن بهم ، ومنذرين (7) مَنْ كذبهم وخالفهم.
ثم أخبر عن الكفار بأنهم يجادلون بالباطل { لِيُدْحِضُوا بِهِ } أي : ليضعفوا به {
الْحَقَّ } الذي جاءتهم به الرسل ، وليس ذلك بحاصل لهم. { وَاتَّخَذُوا آيَاتِي
وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا } أي : اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث
(8) بها الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب { هُزُوًا } أي : سخروا منهم في
ذلك ، وهو أشد التكذيب.
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ
مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ
يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ
بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا
مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) }.
يقول تعالى : وأي عباد الله أظلم (9) ممن ذكر بآيات الله (10) فأعرض عنها ، أي :
تناساها وأعرض
__________
(1) في ت : "ثمود".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ت ، ف ، أ : "مبشرون".
(7) في ت ، ف ، أ : "ومنذرون".
(8) في ت ، أ : "أبعث".
(9) في أ : "وأي عبادى أظلم".
(10) في ف : "ربه".
(5/172)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
عنها
، ولم يصغ (1) لها ، ولا ألقى إليها بالا { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي :
من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة. { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي :
قلوب هؤلاء { أَكِنَّةً } أي : أغطية وغشاوة ، { أَنْ يَفْقَهُوهُ } أي : لئلا
يفهموا (2) هذا القرآن والبيان ، { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي : صمم معنوي عن
الرشاد ، { وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا }.
وقوله : { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } أي : ربك (3) - يا محمد - غفور
ذو رحمة واسعة ، { لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ
} ، كَمَا قَالَ : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ
عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [فاطر : 45] ، وقال : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو
مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ }
[الرعد : 6]. والآيات في هذا كثيرة.
ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر ، وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد ، ومن استمر
منهم فله يوم يشيب فيه الوليد ، وتضع كل ذات حمل حملها ؛ ولهذا قال : { بَلْ
لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا } أي : ليس لهم عنه محيد ولا
محيص ولا معدل.
وقوله : { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا } أي : الأمم
السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم { وَجَعَلْنَا
لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا } أي : جعلناه إلى مدة معلومة ووقت [معلوم] (4) معين ،
لا يزيد ولا ينقص ، أي : وكذلك أنتم أيها المشركون ، احذروا أن يصيبكم ما أصابهم ،
فقد كذبتم أشرف رسول (5) وأعظم نبي ، ولستم بأعز علينا منهم ، فخافوا عذابي ونذر.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ
الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا
نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) }
__________
(1) في ت : "يضع".
(2) في ت : "يفهم" ، وفي ف ، أ : "يفهموه".
(3) في ف ، أ : "وربك".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ت : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(5/173)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
{
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ
سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ
فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا
آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) }.
سبب قول موسى [عليه السلام] (1) لفتاه - وهو يُشوع بن نُون - هذا الكلام : أنه ذكر
له أن عبدًا من عباد الله بمجمع البحرين ، عنده من العلم ما لم يحط به موسى ، فأحب
الذهاب إليه ، وقال لفتاه ذلك : { لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ
الْبَحْرَيْنِ } أي لا أزال سائرًا حتى أبلغ هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين ،
قال الفرزدق :
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(5/173)
فَمَا
بَرحُوا حَتَّى تَهَادَتْ نسَاؤهُم... بِبَطْحَاء ذي قار عيابَ اللطَائم (1)
قال قتادة وغير واحد : وهما بحر فارس مما يلي المشرق ، وبحر الروم مما يلي المغرب.
وقال محمد بن كعب القُرظي : مجمع البحرين عند طنجة ، يعني في أقصى بلاد المغرب ،
فالله أعلم.
وقوله : { أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } أي : ولو أني أسير حقبًا من الزمان.
قال ابن جرير ، رحمه الله : ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحُقُب في لغة قيس
(2) : سنة. ثم قد روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : الحُقُب ثمانون سنة. وقال
مجاهد : سبعون خريفًا. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { أَوْ أَمْضِيَ
حُقُبًا } قال : دهرًا. وقال قتادة ، وابن زيد ، مثل ذلك.
وقوله : { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا } ، وذلك أنه
كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه ، وقيل له : متى فقدتَ الحوت فهو ثَمّة. فسارا حتى
بلغا مجمع البحرين ؛ وهناك عين يقال لها : "عين الحياة" ، فناما هنالك ،
وأصاب الحوت من رشاش ذلك الماء فاضطرب (3) ، وكان في مكتل مع يوشع [عليه السلام]
(4) ، وطَفَر من المَكْتل إلى البحر ، فاستيقظ يُوشع ، عليه السلام ، وسقط الحوت
في البحر وجعل يسير فيه ، والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده ؛ ولهذا قال : {
فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } أي : مثل السَرَب في الأرض.
قال ابن جريح (5) : قال ابن عباس : صار أثره كأنه حَجَر.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : جعل الحوت لا يمس شيئًا من البحر إلا يبس حتى يكون
صخرة (6).
وقال محمد - [هو] (7) بن إسحاق - عن الزهري ، عن عُبيد الله بن عبد الله ، عن ابن
عباس ، عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك :
"ما انجاب ماء منذ كان الناس غيره ثبت (8) مكان الحوت الذي فيه ، فانجاب
كالكُوّة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه" ، فقال : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ
}.
وقال قتادة : سَرب من البر (9) ، حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك فيه فجعل لا يسلك
فيه طريقًا إلا جعل (10) ماء جامدًا.
وقوله : { فَلَمَّا جَاوَزَا } أي : المكان الذي نسيا الحوت فيه ، ونُسب النسيان
إليهما وإن كان يُوشَع
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (15/176).
(2) في ف ، أ : "العرب".
(3) في ف ، أ : "فاضطربت".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) في ت : "جرير".
(6) في ت ، ف ، أ : "كصخرة".
(7) زيادة من أ.
(8) في أ : "غير مثبت".
(9) في ت ، أ : "الحر".
(10) في ت ، أ : "صار".
(5/174)
هو
الذي نسيه ، كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ }
[الرحمن : 22] ، وإنما يخرج من (1) المالح في أحد القولين.
فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه مَرْحَلَةً { قَالَ } موسى { لِفَتَاهُ آتِنَا
غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [ نَصَبًا ] (2) } أي :
الذي جاوزا فيه المكان { نَصَبًا } يعني : تعبًا. قال : { أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا
الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } قال قتادة : وقرأ ابن مسعود : ["وما أنسانيه
أن أذكره إلا الشيطان] (3) ، ولهذا قال : { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } أي : طريقه {
فِي الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي : هذا الذي نطلب {
فَارْتَدَّا } أي : رجعا { عَلَى آثَارِهِمَا } أي : طريقهما { قَصَصًا } أي :
يقصان أثر مشيهما ، ويقفوان أثرهما.
{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا
وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا } وهذا هو الخضر ، عليه السلام ، كما دلت
عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. بذلك قال البخاري :
حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرني سعيد بن جبير قال :
قلت لابن عباس : إن نوفًا البِكَالِيّ يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب
بني إسرائيل. قال ابن عباس : كذب عَدُوّ الله ، حدثنا أبي بن كعب ، رضي الله عنه ،
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن موسى قام خطيبًا في بني
إسرائيل فَسُئل : أي الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يَرُدّ العلم
إليه ، فأوحى الله إليه : إنّ لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى : يا
رب ، وكيف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتًا ، تجعله (4) بمكتل ، فحيثما فقدت الحوت
فهو (5) ثم. فأخذ حوتا ، فجعله بمكتل (6) ثم انطلق وانطلق معه بفتاه (7) يُوشع بن
نون عليهما (8) السلام ، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما ، واضطرب الحوت في
المكتل ، فخرج منه ، فسقط في البحر واتخذ (9) سبيله في البحر سربا ، وأمسك الله عن
الحوت جِريةَ الماء ، فصار عليه مثل الطاق. فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت
، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : { آتِنَا
غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } ولم يجد موسى النَّصَب
حتى جاوَزَا المكان الذي أمره الله به. قال له فتاه (10) : { أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا
الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا } قال :
"فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا ، فقال : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ
فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا }. قال : "فرجعا (11) يقصان أثرهما
حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مُسجّى بثوب ، فسلم عليه موسى ، فقال الخَضِر :
وَأنّى بأرضك السلام!. قال : أنا موسى. قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم ،
أتيتك لتعلمني مما عُلِّمت رشدا. { قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا
} ، يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم
الله عَلَّمَكَه الله لا
__________
(1) في ف ، أ : "على".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ ، وفي هـ : "أن أذكره".
(4) في أ : "فتجعله".
(5) في أ : "منهم".
(6) في ف : "في مكتل".
(7) في ف : "فتاه".
(8) في ت ، ف : "عليه".
(9) في ف : "فاتخذ".
(10) في ت : "قتادة" وهو خطأ.
(11) في ف : "فرجعان".
(5/175)
أعلمه.
فقال موسى : { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا
} قال له الخضر : { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى
أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا }.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوه (1) ، فعرفوا الخضر
، فحملوهم (2) بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحًا
من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول ، فعمدت (3) إلى
سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ؟ لقد جئت شيئًا إمرًا. { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ
وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } (4) قال : وقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "كانت الأولى من موسى نسيانًا". قال : وجاء عصفور فنزل (5) على
حرف السفينة فنقر في البحر نَقْرة ، [أو نقرتين] (6) فقال له الخضر : ما علمي
وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع
الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه [بيده] (7) فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى : {
أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا *
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } ؟! (8) قال :
"وهذه أشد من الأولى" ، { قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا
فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * (9) فَانْطَلَقَا حَتَّى
إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ (10) } قال :
مائل. فقال الخضر بيده : { فَأَقَامَهُ } ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا
ولم يضيفونا ، { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِرَاقُ
بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ
صَبْرًا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وددنا أن موسى كان صبر حتى
يقص الله علينا من خبرهما".
قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس يقرأ : "وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة
صالحة غصبًا" وكان يقرأ : "وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه
مؤمنين" (11).
ثم رواه (12) البخاري عن قتيبة ، عن سفيان بن عُيينة... فذكر نحوه (13) ، وفيه :
"فخرج موسى ومعه فتاه يُوشع بن نون ، ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة ،
فنزلا عندها - قال : فوضع موسى رأسه فنام - قال سفيان : وفي حديث غير (14) عمرو
قال : وفي أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة ، لا يصيب من مائها شيء إلا حيي :
فأصاب (15) الحوت من ماء تلك العين ، قال ، فتحرك وانسل من المكتل ، فدخل البحر ،
فلما استيقظ قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَاءَنَا } كذا قال : وساق (16) الحديث.
ووقع عصفور على حرف السفينة ، فغمس منقاره في البحر ، فقال الخضر لموسى : ما علمي
__________
(1) في ف ، أ : "يحملوهم".
(2) في ت : "فحملوه" ، وفي ف ، أ : "فحملوا".
(3) في ف ، أ : "عمدت".
(4) في ف ، أ : "أقل لك" وهو خطأ.
(5) في ف ، أ : "فوقع".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف ، أ : "زاكية".
(9) في ف : "قد بلغت مني" وهو خطأ.
(10) في ت : "ينقض فأقامه".
(11) صحيح البخاري برقم (4725).
(12) في أ : "ورواه".
(13) في ت ، ف ، أ : "فذكره بنحوه".
(14) في ت ، ف ، أ : "عن".
(15) في ت : "قال : فأصاب".
(16) في أ : "وسباق".
(5/176)
وعلمك
وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدارُ ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه
(1).
وقال البخاري أيضًا : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف ، أن ابن جُرَيج
أخبرهم قال : أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير - يزيد أحدهما
على صاحبه - وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعيد بن جبير قال : إنا لعند ابن عباس في
بيته ، إذ قال : سلوني. فقلت : أي أبا عباس ، جعلني الله فداك ، بالكوفة رجل قاص ،
يقال له : "نوف" يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل - أما عمرو فقال لي :
قال (2) : كذب عدو الله! وأما يعلى فقال لي : قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "موسى رسول الله ، ذكَّر الناس يومًا ،
حتى إذا فاضت العيون ، ورقت القلوب ، ولى فأدركه رجل فقال : أي رسول الله ، هل في
الأرض (3) أحد أعلم منك ؟ قال : لا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله ،
قيل : بلى قال : أي رب ، وأين ؟ قال : بمجمع البحرين. قال : أي رب ، اجعل لي علمًا
أعلم ذلك به". قال لي عمرو : قال : حيث يفارقك الحوت ، وقال لي يعلى : خذ
حوتًا ميتًا حيث ينفخ فيه الروح. فأخذ حوتًا فجعله في مكتل ، فقال لفتاه : لا
أكلفك إلا أن تخبرني حيث يفارقك الحوت ، قال ما كلفت كبيرًا. فذلك قوله : { وَإِذْ
قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ } يوشع بن نون ، ليست عند سعيد بن جبير ، قال :
"فبينا (4) هو في ظل صخرة في مكان ثريان (5) إذ تَضَرَّب (6) الحوت وموسى
نائم فقال فتاه : لا أوقظه ، حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ، وتضرب الحوت حتى دخل
البحر ، فأمسك الله عنه جَرْيَة الماء حتى كأن أثره في حجر". [قال : فقال لي
عمرو : هكذا كأن أثره في حجر] (7) ، وحلق بين إبهاميه والتي تليهما : { لَقَدْ
لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا } قال : "وقد قطع الله عنك
النصب" ليست هذه عند سعيد - أخبره ، فرجعا فوجدا خَضرًا. قال : قال (8) عثمان
بن أبي سليمان : على طِنْفِسَة خضراء على كبِد (9) البحر. قال سعيد بن جبير :
مُسَجى بثوب ، قد جعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه ، فسلم عليه موسى ، فكشف عن
وجهه ، وقال : هل بأرض من سلام ؟ من أنت ؟ قال أنا موسى. قال : موسى بني إسرائيل ؟
قال : نعم. قال : فما شأنك ؟ قال : جئتك لتعلمني مما علمت رشدًا. قال : يكفيك (10)
التوراة (11) بيدك ، وأن الوحي يأتيك!. يا موسى ، إن لي علمًا لا ينبغي لك أن
تعلمه ، وإن لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه. فأخذ طائر بمنقاره من البحر [فقال :
والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر]
(12) ، حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارًا تحمل (13) أهل هذا الساحل إلى
(14) هذا الساحل الآخر عرفوه ، فقالوا : عبد الله الصالح ؟. قال فقلنا لسعيد : خضر
؟ قال : نعم. لا نحمله بأجر. فخرقها ، وَوَتَدَ فيها وتدًا. قال موسى : {
أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا }.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4727).
(2) في أ : "فقال وقال".
(3) في ت : "هل على الأرض" ، وفي ف : "هل في الناس".
(4) في ت : "فبينما".
(5) في ف ، أ : "يريان".
(6) ف أ : "يضرب".
(7) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(8) في ف ، أ : "قال لى".
(9) في ت : "كبده".
(10) في أ : "أما يكفيك" ، وفي ت : "ألا تكفيك.
(11) في ف : "أما يكفيك أن التوراة".
(12) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(13) في ت : "فحمد".
(14) في ت ، أ : "إلى أهل".
(5/177)
قال
مجاهد : منكرًا. قال : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا }
كانت الأولى نسيانًا ، والوسطى شرطًا ، والثالثة عمدًا { قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي
بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا. فَانْطَلَقَا }. حتى لقيا
غلامًا فقتله. قال يعلى : قال سعيد ، وجد غلمانًا يلعبون ، فأخذ غلامًا كافرًا
ظريفًا فأضجعه ، ثم ذبحه بالسكين ، فقال : { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } لم
تعمل بالحنث (1). وابن عباس قرأها { زَكِيَّةً } - " زَاكِيَة "
مُسْلمَة ، كقولك (2) : غلامًا زكيا فانطلقا ، فوجدا جدارًا يريد أن ينقض فأقامه ،
قال [سعيد] (3) بيده هكذا ، ورفع يده فاستقام - قال يعلى : حسبت أن سعيدًا قال :
فمسحه بيده فاستقام - قال : { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } قال
سعيد : أجرًا نأكله { وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ } وكان أمامهم ، قرأها ابن عباس
: "أمامهم ملك" يزعمون عن غير سعيد أنه هُدَدُ بن بُدَدَ ، والغلام
المقتول (4) اسمه - يزعمون - جَيسُور (5) { مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ
غَصْبًا } فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها ، فإذا جاوزه (6) أصلحوها فانتفعوا
بها. ومنهم من يقول : سدوها بقارورة. ومنهم من يقول : بالقار. { فَكَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ } وكان كافرًا ، { فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا
وَكُفْرًا }. أن يحملهما حُبّه على أن يتابعاه (7) على دينه { فَأَرَدْنَا أَنْ
يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً } كقوله : { أَقَتَلْتَ نَفْسًا
زَكِيَّةً } ، { وَأَقْرَبَ رُحْمًا } : هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل (8)
خضر. وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية. وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير
واحد : إنها جارية (9).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن
عباس قال : خطب موسى ، عليه السلام ، بني إسرائيل فقال : ما أحد أعلم بالله وبأمره
مني. فَأمرَ أن يلقى هذا الرجل. فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان (10) ، والله
أعلم.
وقال محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة (11) ، عن سعيد بن
جبير قال : جلست عند ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب فقال بعضهم : يا أبا العباس
، إن نوفًا ابن امرأة كعب ، يزعم عن كعب أن موسى النبي الذي طلب العالم إنما هو
موسى بن ميشا ؟ قال سعيد : فقال ابن عباس : أنوفٌ يقول هذا ؟ قال سعيد : فقلت له :
نعم ، أنا سمعت نوفًا يقول (12) ذلك. قال : أنت سمعته يا سعيد ؟ قال : قلت : نعم.
قال : كذب نوف. ثم قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال : أي رب ، إن كان في عبادك أحد
(13) هو أعلم مني ، فدلني عليه. فقال له : نعم ، في عبادي من هو أعلم منك. ثم نعت
له مكانه (14) وأذن له في لقيه. فخرج موسى ومعه فتاه ، ومعه حوت مليح ، قد قيل له
: إذا (15) حيي هذا الحوت في مكان ، فصاحبك هنالك ، وقد أدركت حاجتك. فخرج موسى
ومعه فتاه ، ومعه ذلك الحوت يحملانه ، فسار حتى جهده السير ، وانتهى إلى الصخرة
وإلى ذلك الماء ، وذلك الماء ماء الحياة ، من
__________
(1) في ت : "لم تعلم بالحنث" ، وفي ف ، أ : "لم تعمل الحنث".
(2) في ت : "كقوله".
(3) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(4) في ت : "المقصود".
(5) في أ : "حيسون".
(6) في أ : "جاوزوا".
(7) في ت : "تبايعاه".
(8) في أ : "قتله".
(9) صحيح البخاري برقم (4726).
(10) تفسير عبد الرزاق (1/341 ، 342).
(11) في ف ، أ : "عيينة".
(12) في ت : "فيقول".
(13) في ت : "واحد".
(14) في ف ، أ : "بمكان".
(15) في أ : "إنه إذا".
(5/178)
شرب
منه خلد ، ولا يقاربه شيء ميت إلا حيي. فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي {
فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا } فانطلقا فلما جاوز مُنْقَلَبَه قال
: موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا
} قال الفتى - وذكر - : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي
نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا }. قال ابن عباس : فظهر موسى على
الصخرة حتى إذا انتهيا إليها ، فإذا رجل متلفف في كساء له ، فسلم موسى ، فردّ عليه
العالم ثم قال له : ما جاء بك إن كان لك في قومك لَشُغل ؟. قال له موسى : جئتك
لتعلمني مما علمت رشدًا { قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } وكان
رجلا يعلم علم الغيب قد عُلِّم ذلك - فقال موسى : بلى. قال : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ
عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } ؟ أي : إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل ،
ولم تحط من علم الغيب بما أعلم. { قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا
وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } وإن رأيتُ ما يخالفني ، قال : { فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي
فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ } [وإن أنكرته] (1) { حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ
ذِكْرًا } : فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرّضان الناس ، يلتمسان (2) من
يحملهما ، حتى مرت بهما سفينة جديدة وثيقة ، لم يمرّ بهما من السفن أحسن ولا أكمل
ولا أوثق منها. فسألا أهلها أن يحملوهما ، فحملوهما (3) ، فلما اطمأنا فيها
وَلجّجَت بهما مع أهلها ، أخرج منقارًا له ومطرقة ، ثم عمد إلى ناحية منها فضرب
فيها بالمنقار حتى خرقها. ثم أخذ لوحًا فطبقه عليها ، ثم جلس عليها يرقعها ، فقال
: له موسى - ورأى أمرًا أفظع به - : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ
جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ
صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } أي : بما تركت من عهدك ، { وَلا
تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا }. ثم خرجا (4) من السفينة فانطلقا ، حتى أتيا
(5) أهل قرية ، فإذا غلمان يلعبون خلفها ، فيهم غلام ليس في الغلمان غلام أظرف منه
ولا أثرى (6) ولا أوضأ (7) منه ، فأخذه بيده ، وأخذ (8) حجرًا فضرب به رأسه حتى
دمغه فقتله ، قال : فرأى موسى أمرًا فظيعًا لا صبر عليه ، صبي صغير قتله لا ذنب له
(9) قال : { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } (10) أي : صغيرة { بِغَيْرِ نَفْسٍ
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا
تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي (11) عُذْرًا } أي : قد أعْذرتَ (12) في
شأني. { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا
أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ } ، فهدمه ثم قعد يبنيه ، فضجر موسى مما يراه (13) يصنع من التكليف ،
وما ليس عليه صبر ، قال : { لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي : قد
استطعمناهم فلم يطعمونا ، وضفناهم فلم يُضَيّفونا ، ثم قعدت تعمل من غير صنيعة ،
ولو شئت لأعطيت عليه أجرًا في عمله ؟. قال : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا
السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا } - وفي
قراءة أبيّ بن كعب : "كل سفينة صالحة" - وإنما عبتها (14) لأرده عنها ،
فسلمت (15) حين رأى العيب الذي صنعت بها. { وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ
مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا
أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا *
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ
تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ
يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي : ما فعلته عن نفسي ، { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ
تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } وكان ابن عباس يقول : ما كان الكنز إلا علمًا (16).
وقال العوفي ، عن ابن عباس قال : لما ظهر موسى وقومه على مصر ، أنزل قومه (17) ،
فلما استقرت بهم الدار ، أنزل الله : أن ذكرهم بأيام الله فخطب قومه ، فذكر ما
آتاهم الله من الخير والنعمة ، وذكرهم إذ نجاهم الله من آل فرعون ، وذكرهم هلاك
عدوهم ، وما استخلفهم الله في الأرض ، وقال : كلم الله نبيكم تكليمًا ، واصطفاني
لنفسه ، وأنزل عليّ محبة منه ، وآتاكم الله من كل ما سألتموه ؛ فنبيكم أفضل أهل
الأرض ، وأنتم تقرؤون التوراة ، فلم يترك نعمة أنعمها عليهم إلا وعرفهم إياها.
فقال له رجل من بني إسرائيل : هم (18) كذلك يا نبي الله ، قد عرفنا الذي تقول ،
فهل على الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : لا. فبعث الله جبرائيل إلى موسى ،
عليهما السلام (19) ، فقال : إن الله [عز وجل] (20) يقول : وما يدريك أين أضع علمي
؟ بلى (21). إن على شط البحر رجلا هو أعلم منك - قال ابن عباس : هو الخضر - فسأل
موسى ربه أن يريه إياه ، فأوحى إليه : أن ائت البحر ، فإنك تجد على شط البحر حوتًا
، فخذه فادفعه إلى فتاك ، ثم الزم شط البحر ، فإذا نسيت الحوت وهلك منك ، فثم تجد
العبد الصالح الذي تطلب. فلما طال سفر موسى نبي الله ونصب فيه ، سأل فتاه عن الحوت
، فقال له فتاه وهو غلامه : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ
} لك ، قال الفتى : لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربًا فأعجب ذلك موسى
، فرجع حتى أتى الصخرة ، فوجد الحوت ، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى ،
وجعل موسى يقدم عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع (22) الحوت ، وجعل الحوت لا يمس
شيئًا من البحر إلا يبس ، حتى يكون صخرة (23) ، فجعل نبي الله يعجب من ذلك ، حتى
انتهى به الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر ، فلقي الخضر بها فسلم عليه ، فقال الخضر
: وعليك السلام ، وأنى يكون السلام بهذه (24) الأرض ؟ ومن أنت ؟ قال : أنا موسى.
فقال (25) الخضر : أصاحب بني إسرائيل ؟ [قال : نعم] (26) فرحب به وقال : ما جاء
(27) بك ؟ قال جئتك { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا قَالَ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } يقول : لا تطيق ذلك. قال موسى {
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } قال :
فانطلق به ، وقال له : لا تسألني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه ، فذلك قوله : {
حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا }
وقال الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود عن ابن عباس : أنه
تمارى هو
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(2) في ف ، أ : "يلتمسان".
(3) في ت : "فحملوها".
(4) في ت : "خرجاه".
(5) في ف ، أ : "حتى إذا أتيا".
(6) في ف ، أ : "ولا أبرأ".
(7) في أ : "ولا أضوأ".
(8) في ف : "فأخذ".
(9) في ف : "عليه".
(10) في أ : "زاكية".
(11) في ف : "قد بلغت منى". وهو خطأ.
(12) في ت : "عددت" ، وفي أ : "عذرت".
(13) في أ : "رآه".
(14) في أ : "عيبتها".
(15) في ف : "فسلمت منه".
(16) رواه الطبري في تفسيره (15/180).
(17) في ت ، ف ، أ : "قومه مصر".
(18) في أ : "هن".
(19) في ف : "جبريل عليه السلام إلى موسى عليه السلام" ، وفي أ :
"جبريل إلى موسى عليه السلام".
(20) زيادة من أ.
(21) في أ : "بل".
(22) في أ : "حتى يتتبع".
(23) في ت : "حتى يكون مثل الحجر".
(24) في أ : "وأني يكون هذا السلام بهذا".
(25) في ف ، أ : "فقال له".
(26) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(27) في أ : "ما حاجتك".
(5/179)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
والحر
بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى ، فقال ابن عباس : هو خضر. فمر بهما أبي بن
كعب فدعاه ابن عباس فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل
السبيل إلى لُقيه ، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه ؟ قال : إني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل
إذ جاءه رجل فقال : تعلم مكان رجل أعلم منك ؟ قال : لا ؛ فأوحى الله إلى موسى بلى
عبدنا خضر. فسأل موسى السبيل إلى لُقيّه فجعل الله له الحوت آية وقيل له : إذا
فَقَدت (1) الحوت [فهو ثمة] (2) فارجع ، فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في
البحر. فقال فتى موسى لموسى : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ } قَالَ مُوسَى { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا
عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا } فوجدا عبدنا (3) خضرًا فكان من شأنهما ما قص في الله كتابه
(4) (5)
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ
رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ
تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ
اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا
تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) }.
يخبر تعالى عن قيل موسى ، عليه السلام لذلك [الرجل] (6) العالم ، وهو الخضر ، الذي
خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى ، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر ،
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ } سؤال بتلطف (7) ، لا على وجه الإلزام
والإجبار. وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم. وقوله : { أَتَّبِعُكَ }
أي : أصحبك وأرافقك ، { عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا } أي :
مما علمك الله شيئًا ، أسترشد به في أمري ، من علم نافع وعمل صالح.
فعندها { قَالَ } الخضر لموسى : { إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } أي :
أنت لا تقدرأن تصاحبني لما ترى [منِّي] (8) من الأفعال التي تخالف شريعتك ؛ لأني
على علم من علم الله ، ما علمكه الله ، وأنت على علم من علم الله ، ما علمنيه الله
، فكل منا مكلف بأمور (9). من الله دون صاحبه ، وأنت لا تقدر على صحبتي.
{ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا } فأنا أعرف أنك ستنكر
علي ما أنت معذور فيه ، ولكنْ ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت أنا
عليها دونك.
{ قَالَ } له (10) موسى : { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } أي : على
ما أرى من أمورك ، { وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا } أي : ولا أخالفك في شيء. فعند
ذلك شارطه الخضر { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ } أي
: ابتداءً { حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } أي : حتى أبدأك أنا به قبل أن
تسألني.
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب ، عن هارون بن عنترة (11) ، عن أبيه
، عن ابن
__________
(1) في ت : "بعدت".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "عبدا".
(4) في ت : "كتابه العزيز".
(5) رواه الطبري في تفسيره (15/183).
(6) زيادة من أ.
(7) في ت ، ف ، أ : "تلطف".
(8) زيادة من أ.
(9) في أ : "مأمور".
(10) في أ : "أي".
(11) في ف : "عرة".
(5/181)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
عباس
قال : سأل موسى ربه ، عز وجل ، فقال (1) : رب ، أي عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي
يذكرني ولا ينساني. قال فأي عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى.
قال أي رب ، أي عبادك أعلم ؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب
كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. قال : أي رب هل في أرضك (2) أحد أعلم مني ؟
قال : نعم. قال : فمن هو ؟ قال الخضر. قال : فأين (3) أطلبه ؟ قال على الساحل عند
الصخرة ، التي ينفلت (4) عندها الحوت. قال : فخرج موسى يطلبه ، حتى كان ما ذكر
الله ، وانتهى موسى إليه عند الصخرة ، فسلم (5) كل واحد منهما على صاحبه. فقال له موسى
: إني أريد أن تصحبني (6) قال إنك لن تطيق (7) صحبتي. قال : بلى. قال : فإن صحبتني
{ فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } قال : فسار
به في البحر (8) حتى انتهى إلى مجمع البحور (9) ، وليس في الأرض (10) مكان أكثر
ماء منه. قال : وبعث الله الخطاف ، فجعل يستقي منه بمنقاره ، فقال لموسى : كم ترى
هذا الخطاف رزأ من هذا الماء ؟ قال : ما أقل ما رزأ! قال : يا موسى فإن علمي وعلمك
في علم الله كقَدْر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء. وكان موسى قد حدث نفسه أنه
ليس أحد أعلم منه ، أو تكلم به ، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر. وذكر تمام الحديث في
خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإصلاح الجدار ، وتفسيره له ذلك.
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ
أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ
أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لا
تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) }
يقول تعالى مخبرًا عن موسى وصاحبه ، وهو الخضر ، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا
، واشترط عليه ألا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه (11) من تلقاء نفسه
بشرحه وبيانه ، فركبا في السفينة. وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة ، وأنهم
عرفوا الخضر ، فحملوهما بغير نول - يعني بغير أجرة - تكرمة للخضر. فلما استقلت بهم
السفينة في البحر ، ولججت أي : دخلت اللجة ، قام الخضر فخرقها ، واستخرج لوحًا من
ألواحها (12) ثم رقعها. فلم يملك موسى ، عليه السلام ، نفسه أن قال منكرًا عليه :
{ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا }. وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل ،
كما قال الشاعر (13) لدُوا للْمَوت وابْنُوا للخَرَاب
{ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } قال مجاهد : منكرًا. وقال قتادة عجبًا. فعندها
قال له الخضر مذكرا (14) بما تقدم من الشرط : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } يعني وهذا الصنيع فعلته (15) قصدًا ،
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "فقال أي".
(2) في ت ف ، أ : "في الأرض".
(3) في ف ، أ : "وأين".
(4) في ت ، ف : "يتفلت".
(5) في ت : "وسلم".
(6) في ت : "تستصحبنى".
(7) في ت : "تستطيع".
(8) في ت : "فصار في البحر" ، وفي ف ، أ : "فسار به إلى
البحر".
(9) في ف ، أ : "البحرين".
(10) في ت : "في البحر".
(11) في ف ، أ : "يبتدئ به".
(12) في ت : "ألواح".
(13) هو أبو العتاهية ، والبيت في ديوانه (ص46) أ. هـ. مستفادا من ط - الشعب.
(14) في ت : "مذكورا".
(15) في ت : "عملته".
(5/182)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
وهو
(1) من الأمور التي اشترطت معك ألا تنكر عليّ فيها ، لأنك لم تحط بها خبرًا ، ولها
داخل هو مصلحة ولم تعلمه (2) أنت.
{ قَالَ } أي موسى : { لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ
أَمْرِي عُسْرًا } أي : لا تضيق عليّ وتُشدد (3) علىّ ؛ ولهذا تقدم في الحديث عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كانت الأولى من موسى نسيانًا".
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا
زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) }
__________
(1) في ف : "وهي".
(2) في ت : "تعلم".
(3) في ت ، ف : "ولا تشدد".
(5/183)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
{
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ
إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ
لَدُنِّي عُذْرًا (76) }
يقول تعالى : { فَانْطَلَقَا } أي : بعد ذلك ، { حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا
فَقَتَلَهُ } وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى ، وأنه عمد إليه
من بينهم ، وكان أحسنهم وأجملهم وأوضأهم (1) فقتله ، فروي أنه احتز رأسه ، وقيل :
رضخه بحجر. وفي رواية : اقتطفه بيده. والله أعلم.
فلما شاهد موسى ، عليه السلام ، هذا أنكره أشد من الأول ، وبادر فقال : {
أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً } (2) أي صغيرة لم تعمل الحنث (3) ، ولا حملت إثمًا
بعد ، فقتلته ؟! { بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي : بغير مستند لقتله { لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئًا نُكْرًا } أي : ظاهر النكارة.
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا } فأكد أيضًا
في التذكار بالشرط الأول ؛ فلهذا قال له موسى : { إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ
بَعْدَهَا } أي : إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة { فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ
بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا } أي : قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة.
قال ابن جرير : حدثنا عبد الله بن زياد ، حدثنا حجاج بن محمد ، عن حمزة الزيات ،
عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب قال : كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدًا فدعا له ، بدأ بنفسه ، فقال ذات يوم :
"رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو لبث (4) مع صاحبه لأبصر العجب ولكنه قال إن
سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرًا" [مثقلة] (5) (6).
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا
فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ
فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا
فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ
عَلَيْهِ صَبْرًا (78) }.
يقول تعالى مخبرا عنهما : إنهما انطلقا بعد المرتين الأوليين (7) { حَتَّى إِذَا
أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } روى
__________
(1) في ف : "وأضوأهم".
(2) في ت : "زاكية بغير نفس".
(3) في أ : "الخبث".
(4) في ف ، أ : "ثبت".
(5) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(6) تفسير الطبري (15/186) ورواه أبو داود في السنن برقم (3984) من طريق حمزة
الزيات به.
(7) في أ : "الأولتين".
(5/183)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
ابن
جرير (1) عن ابن سيرين أنها الأيلة (2) وفي الحديث : "حتى إذا أتيا أهل قرية
لئاما" (3) أي : بخلاء { فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا
جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل
الاستعارة ، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل. والانقضاض هو : السقوط.
وقوله : { فَأَقَامَهُ } أي : فردّه إلى حالة الاستقامة وقد تقدم في الحديث أنه
ردّه بيديه ، ودعمه حتى رد ميله. وهذا خارق فعند ذلك قال موسى له { لَوْ شِئْتَ
لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } (4) أي : لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي ألا تعمل
لهم مجانًا (5)
{ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } [أي : لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك
إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، فهو فراق بيني وبينك] (6) ، { ،
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ } أي : بتفسير { مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
}.
{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ
فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ
غَصْبًا (79) }.
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى ، عليه السلام ، وما كان أنكر ظاهره وقد أظهر
الله الخضر ، عليه السلام ، على (7) باطنة فقال إن : السفينة (8) إنما خرقتها
لأعيبها ؛ [لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ }
صالحة ، أي : جيدة { غَصْبًا } فأردت أن أعيبها] (9) لأرده عنها لعيبها (10) ،
فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها. وقد قيل :
إنهم أيتام.
و [قد] (11) روى ابن جريج (12) عن وهب بن سليمان ، عن شعيب الجبائي ؛ أن اسم ذلك
الملك هُدَدَ (13) بن بُدَدَ ، وقد تقدم أيضًا في رواية البخاري ، وهو مذكور في
التوراة في ذرية "العيص بن إسحاق" وهو من الملوك المنصوص عليهم في
التوراة ، والله أعلم (14)
{ وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ
يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا
رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) }
قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جَيْسُور. وفي الحديث عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب
، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع
كافرًا". رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، به ؛
ولهذا قال : { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا
طُغْيَانًا وَكُفْرًا }
__________
(1) في أ : "جريج".
(2) في ت : "الأيكة".
(3) رواه أحمد في مسنده (5/119) من طريق أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن
عباس ، عن أبي بن كعب ، رضي الله عنهما.
(4) في ت : "اتخذت" وهو خطأ.
(5) في ت : "يعمل مجانا".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ت ، ف ، أ : "على حكمة".
(8) في ت : "فقال له السفينة" ، وفي ف : "أما السفينة".
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) في ت : "لعينها".
(11) زيادة من ف ، أ.
(12) في ت : "جرير".
(13) في أ : "هود".
(14) في ف : "فالله أعلم".
(5/184)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
أي :
يحملهما حبه على متابعته على الكفر.
قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه
هلاكهما ، فليرض (1) امرؤ بقضاء الله ، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من
قضائه (2) فيما يحب.
وصح في الحديث : "لا يقضي الله للمؤمن قضاء (3) إلا كان خيرًا له". وقال
تعالى : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } [البقرة :
216].
وقوله [تعالى] (4) { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ
زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا } أي : ولدًا أزكى من هذا ، وهما أرحم به منه ، قاله
ابن جريج.
وقال قتادة : أبر بوالديه.
وقد تقدم أنهما بدلا جارية. وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم. قاله
ابن جريح (5)
{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ
تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ
يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا
(82) }.
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة ؛ لأنه قال أولا { حَتَّى إِذَا
أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } [الكهف : 77] وقال هاهنا : { فَكَانَ لِغُلامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } كما قال تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ
أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } [محمد : 13] ، { وَقَالُوا
لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }
[الزخرف : 31] يعني : مكة والطائف.
ومعنى الآية : أن هذا الجدار (6) إنما أصلحه (7) لأنه كان لغلامين يتيمين في
المدينة وكان تحته كنز لهما.
قال عكرمة ، وقتادة ، وغير واحد : كان تحته مال مدفون لهما. وهذا ظاهر السياق من
الآية ، وهو اختيار ابن جرير ، رحمه الله.
وقال العوفي عن ابن عباس : كان تحته كنز علم. وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال مجاهد
: صحف فيها علم ، وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك ، قال الحافظ أبو بكر أحمد بن
عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ،
حدثنا بشر بن المنذر ، حدثنا الحارث بن عبد الله الْيَحْصَبيّ عن عياش (8) بن عباس
القتباني (9) عن ابن حُجَيرة (10) ، عن
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "فرضى".
(2) في ف : "من قضائه له".
(3) في أ : "للمؤمنين قضاء".
(4) زيادة من ت.
(5) في ت : "ابن جرير".
(6) في ت : "الجار".
(7) في ف : "أصلحته".
(8) في ت ، ف ، أ : "عباس".
(9) في أ : "الغسانى".
(10) في هـ : "أبي حجيرة" والصواب ما أثبتناه من مسند البزار.
(5/185)
أبي
ذر رضي الله عنه ، [رفعه] (1) قال : "إن الكنز الذي ذكر (2) الله في كتابه :
لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه : عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب (3) ؟ وعجبت لمن ذكر
النار لم ضَحِك (4) ؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل ؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول
الله" (5).
بشر بن المنذر هذا يقال له : قاضي المصيصة. قال الحافظ أبو جعفر العقيلي : في
حديثه وهم (6).
وقد روي في هذا آثار عن السلف ، فقال ابن جرير في تفسيره : حدثني يعقوب ، حدثنا
الحسن بن حبيب بن ندبة (7) حدثنا سلمة (8) ، عن نعيم العنبري - وكان من جلساء
الحسن - قال : سمعت الحسن - يعني البصري - يقول في قوله : { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز
لَهُمَا } قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن
بالقدر كيف يحزن ؟ وعجبت لمن يوقن (9) بالموت كيف يفرح ؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا
وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ؟ لا إله إلا الله ، محمد رسول الله.
وحدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عياش (10) عن عُمَر (11) مولى
غُفْرَة (12) قال : إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف : {
وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } قال : كان لوحًا من ذهب مُصْمَت مكتوبا فيه : بسم
الله الرحمن الرحيم ، عجبٌ لمن عرف النار (13) ثم ضحك! عجبٌ (14) لمن أيقن بالقدر
ثم نصب! عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن! أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا
عبده ورسوله.
وحدثني أحمد بن حازم الغفاري ، حدثنا هَنَّادَة بنت مالك الشيبانية قالت : سمعت
صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى
(15) { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا } قال : سطران ونصف لم يتم الثالث : عجبت
للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبت للموقن (16) بالحساب كيف يغفل ؟ وعجبت للموقن (17)
بالموت كيف يفرح ؟ وقد قال تعالى : { وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ
أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء : 47] قالت : وذكر أنهما
حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به
سبعة آباء ، وكان نساجًا.
وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ، وورد به الحديث المتقدم وإن صح ، لا ينافي قول
عكرمة : أنه كان مالا لأنهم ذكروا أنه كان لوحًا من ذهب ، وفيه مال جزيل ، أكثر ما
زادوا أنه كان مودعًا فيه علم (18) ، وهو حكم ومواعظ ، والله أعلم.
وقوله : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في
ذريته ، وتشمل بركة
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) في ف ، أ : "ذكره".
(3) في ف ، أ : "ينصب".
(4) في ت ، ف : "يضحك" ، وفي أ : "ضحك".
(5) مسند البزار برقم (2229) "كشف الأستار" وقد روى موقوفا من طرق عن
ابن عباس وعلى ، رضي الله عنهما ، لكن أسانيدها ضعيفة.
(6) ميزان الاعتدال (2/325).
(7) في ف ، أ : : بدنة".
(8) في ت : "مسلم".
(9) في ت ، ف : "يؤمن".
(10) في أ ، ف : "بن عباس".
(11) في ف : "عن عمرو".
(12) في ف : "عفرة".
(13) في ت : "عجبت لمن عرف الموت".
(14) في ت : "عجبت".
(15) في ف : "عز وجل".
(16) في ت : "للموقف".
(17) في ت : "للموتى".
(18) في ف : "علما".
(5/186)
عبادته
لهم في الدنيا والآخرة ، بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر
عينه بهم ، كما جاء في القرآن ووردت السنة به (1). قال سعيد بن جبير عن ابن عباس :
حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر لهما صلاح ، وتقدم أنه كان الأب السابع. [فالله
أعلم] (2)
وقوله : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا
كَنزهُمَا } : هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى ؛ لأن بلوغهما الحلم (3) لا يقدر
عليه إلا الله ؛ وقال في الغلام : { فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا
خَيْرًا مِنْهُ } وقال في السفينة : { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا } ، فالله أعلم.
وقوله : { رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي : هذا الذي
فعلته في هذه الأحوال الثلاثة ، إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة
، ووالدي الغلام ، وولدي الرجل الصالح ، { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } لكني
أمرت به ووقفت عليه ، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر ، عليه السلام ، مع ما تقدم
من (4) قوله : { فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ
عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا }.
وقال آخرون : كان رسولا. وقيل بل كان ملكًا. نقله الماوردي في تفسيره.
وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيًا. بل كان وليًا. فالله أعلم.
وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بَلْيَا بن مَلْكان بن فالغ بن عامر بن
شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ، عليه السلام (5)
قالوا : وكان يكنى أبا العباس ، ويلقب بالخضر ، وكان من أبناء الملوك ، ذكره
النووي في تهذيب الأسماء ، وحكى هو وغيره في كونه باقيًا إلى الآن ثم إلى يوم
القيامة قولين ، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه ، وذكروا في ذلك حكايات وآثارًا عن
السلف وغيرهم وجاء ذكره في بعض الأحاديث. ولا يصح شيء من ذلك ، وأشهرها أحاديث (6)
التعزية وإسناده ضعيف.
ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك ، واحتجوا بقوله تعالى : { وَمَا
جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [الأنبياء : 34] وبقول النبي صلى
الله عليه وسلم يوم بدر : "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"
(7) ، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ولا حضر عنده ،
ولا قاتل معه. ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم] (8) وأصحابه ؛
لأنه عليه السلام (9) كان مبعوثًا إلى جميع الثقلين : الجنّ والإنس ، وقد قال :
"لو كان موسى وعيسى حَيَّيْن ما (10) وسعهما إلا اتباعي" (11) وأخبر قبل
موته بقليل : أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين
تَطْرفُ ، إلى غير ذلك من الدلائل.
__________
(1) في ف : "به السنة".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ت : "الحكم".
(4) في ف : "في".
(5) المعارف (ص42).
(6) في ت : "حديث".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (1763) من حديث عمر ، رضي الله عنه.
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(10) في ت ، ف : "لما".
(11) ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية في سياقه وعلق عليه الشيخ ناصر الألباني
في تخريج الطحاوية بقوله : "كذا الأصل ، وكأنه يشير إلى الحديث الذي ذكره
شيخه ابن كثير في تفسير سورة الكهف بلفظ : "لو كان موسى وعيسى حيين لما
وسعهما إلا اتباعى". وهو حديث محفوظ ، دون ذكر "عيسى" فيه ، فإنه
منكر عندى لم أره في شيء من طرقه ، وهي مخرجة في إراواء الغليل برقم (1589)".
(5/187)
قال
الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن مَعْمَر ، عن همام بن
مُنَبِّه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم [في الخَضر
قال] (1) إنما سمي "خضرًا" ؛ لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هي تحته
[تهتز] (2) خضراء" (3).
ورواه أيضًا عن عبد الرزاق. وقد ثبت أيضًا في صحيح البخاري ، عن همام ، عن أبي
هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنما سمي الخضِر ؛ لأنه جلس
على فَرْوَة ، فإذا هي تهتز [من خلفه] (4) خضراء" (5)
والمراد بالفروة هاهنا (6) الحشيش اليابس ، وهو الهشيم من النبات ، قاله عبد
الرزاق. وقيل : المراد بذلك وجه الأرض.
وقوله : { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا } أي : هذا تفسير
ما ضقت به ذرعًا ، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء ، ولما أن فسره له وبينه ووضحه
وأزال المشكل قال : { [ مَا لَمْ] تَسْطِعْ } (7) وقبل ذلك كان الإشكال قويًا
ثقيلا فقال : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا }
فقابل الأثقل بالأثقل ، والأخف بالأخف ، كما قال تعالى : { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ } وهو الصعود إلى أعلاه ، { وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا } [الكهف
: 97] ، وهو أشق من ذلك ، فقابل كلا بما يناسبه لفظًا ومعنى والله أعلم.
فإن قيل : فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك ؟
فالجواب : أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما ،
وفتى موسى معه تبع ، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن
نون ، وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى ، عليهما السلام. وهذا يدل على ضعف
ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال : حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة (8) ، حدثني
ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : قيل لابن عباس : لم
نسمع لفتى موسى بذكر من حديث وقد كان معه ؟ فقال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى
قال : شرب الفتى من الماء [فخلد ، فأخذه] (9) العالم ، فطابق به سفينة ثم أرسله في
البحر ، فإنها تموج به إلى يوم القيامة ؛ وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب
(10)
إسناد ضعيف ، والحسن متروك ، وأبوه غير معروف.
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) المسند (2/312).
(4) زيادة من ف ، أ ، والبخاري.
(5) صحيح البخاري برقم (3402).
(6) في ت : "ههنا بالفروة".
(7) زيادة من ف.
(8) في ف : "مسلم".
(9) زيادة من ف ، أ ، والطبري ، وفي هـ : "فحار".
(10) تفسير الطبري (15/182).
(5/188)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) }
(5/189)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
{
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
}.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَيَسْأَلُونَكَ } يا محمد { عَنْ ذِي
الْقَرْنَيْنِ } أي : عن خبره. وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون
(1) منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : سلوه عن رجل طواف في
الأرض ، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا ، وعن الروح ، فنزلت سورة الكهف.
وقد أورد ابن جرير هاهنا ، والأموي في مغازيه ، حديثا أسنده وهو ضعيف ، عن عقبة بن
عامر ، أن نفرًا من اليهود جاؤوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين ،
فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء ، فكان فيما أخبرهم به : "أنه كان شابا (2) من
الروم ، وأنه بنى الإسكندرية ، وأنه علا به ملك في السماء ، وذهب به إلى السد ،
ورأى أقوامًا وجوههم مثل وجوه الكلاب". وفيه طول ونكارة ، ورفعه لا يصح ،
وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل. والعجب أن أبا زُرْعَة الرازي ، مع جلالة
قدره ، ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة ، وذلك غريب منه ، وفيه من النكارة أنه
من الروم ، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ابن فيليبس المقدوني ، الذي
تؤرخ به الروم ، فأما الأول فقد ذكره الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم
الخليل ، عليه السلام ، أول ما بناه وآمن به واتبعه ، وكان معه (3) الخضر ، عليه
السلام ، وأما الثاني فهو ، إسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني ، وكان وزيره
أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور ، والله أعلم. وهو الذي تؤرخ به من مملكته ملة الروم.
وقد كان قبل المسيح ، عليه السلام ، بنحو من ثلثمائة سنة ، فأما الأول المذكور في
القرآن فكان في زمن الخليل ، كما ذكره الأزرقي وغيره ، وأنه طاف مع الخليل بالبيت
العتيق لما بناه إبراهيم ، عليه السلام ، وقرب إلى الله قربانًا ، وقد ذكرنا طرفًا
(4) من أخباره في كتاب "البداية والنهاية" (5) ، بما فيه كفاية ولله الحمد.
وقال وهب بن منبه : كان ملكًا ، وإنما سمي ذا القرنين لأن ؛ صفحتي رأسه كانتا من
نحاس ، قال : وقال بعض أهل الكتاب : لأنه ملك الروم وفارس. وقال بعضهم : كان في
رأسه شبه القرنين ، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل قال :
سئل علي ، رضي الله عنه ، عن ذي القرنين ، فقال : كان عبدًا ناصحَ الله فناصَحَه ،
دعا قومه إلى الله فضربوه (6) على قرنه فمات ، فأحياه الله ، فدعا قومه إلى الله
فضربوه على قرنه فمات ، فسمي ذا القرنين.
وكذا رواه شعبة ، عن القاسم بن أبي بَزَّة عن أبي الطفيل ، سمع عليًا يقول ذلك.
ويقال : إنه إنما سمي ذا القرنين ؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب ، من حيث يطلع (7)
قرن الشمس ويغرب.
وقوله { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ } أي : أعطيناه ملكًا عظيمًا متمكنًا ،
فيه له من جميع ما يؤتى (8) الملوك ، من التمكين والجنود (9) ، وآلات الحرب
والحصارات ؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض ، ودانت له البلاد ، وخضعت له
ملوك العباد ، وخدمته الأمم ، من العرب والعجم ؛ ولهذا ذكر
__________
(1) في ت : "يسألونك".
(2) في ت : "ماشيا".
(3) في أ : "وكان وزيره".
(4) في ف ، أ : "طرفا صالحا".
(5) البداية والنهاية (2/95).
(6) في ت ، ف ، أ : "فضرب".
(7) في ت ، ف : "تطلع".
(8) في ف : "تؤتى".
(9) في ف : "من الجنود والتمكن".
(5/189)
بعضهم
أنه إنما سمي ذا القرنين ؛ لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها.
وقوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } : قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد
بن جبير ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم : يعني علمًا.
وقال قتادة أيضًا في قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } قال :
منازل الأرض وأعلامها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
سَبَبًا } قال : تعليم الألسنة ، كان لا يغزو قومًا إلا كلمهم بلسانهم.
وقال ابن لَهيعة : حدثني سالم بن غَيْلان ، عن سعيد بن أبي هلال ؛ أن معاوية بن
أبي سفيان قال (1) لكعب الأحبار : أنت تقول : إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا
؟ فقال له كعب : إن كنت قلت ذلك ، فإن الله تعالى قال : { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ سَبَبًا }.
وهذا الذي أنكره معاوية ، رضي الله عنه ، على كعب الأحبار هو الصواب (2) ، والحق
مع معاوية في الإنكار ؛ فإن معاوية كان يقول عن كعب : "إن كنا لنبلو (3) عليه
الكذب" يعني : فيما ينقله ، لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحيفته (4) ،
ولكن الشأن في صحيفته (5) ، أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف
مختلق (6) ولا حاجة لنا مع خبر الله ورسول الله [صلى الله عليه وسلم] (7) إلى شيء
منها بالكلية ، فإنه دخل منها على الناس شر كثير (8) وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله
: { وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } واستشهاده في ذلك على ما يجده في
صحيفته من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق ؛ فإنه لا سبيل للبشر إلى
شيء من ذلك ، ولا إلى الترقي (9) في أسباب السموات. وقد قال الله في حق بلقيس : {
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } [النمل : 23] أي : مما يؤتى مثلها من الملوك ،
وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب ، أي : الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم
والرَّسَاتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء ، وكبت ملوك الأرض ، وإذلال أهل
الشرك. قد أوتي من كل شيء مما (10) يحتاج إليه مثله سببًا ، والله أعلم.
وفي "المختارة" للحافظ الضياء المقدسي ، من طريق قتيبة ، عن أبي عوانة
عن سماك بن حرب ، عن حبيب بن حماز (11) قال : كنت عند علي ، رضي الله عنه ، وسأله
رجل عن ذي القرنين : كيف بلغ المشارق والمغارب ؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب ،
وقَدَّر له الأسباب ، وبسط له اليد (12).
__________
(1) في ت : "يقول".
(2) في أ : "الطنوب".
(3) في أ : "لنتلو".
(4) في ف ، أ : "صحفه".
(5) في ف ، أ : "صحفه".
(6) في أ : "مخلق".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ت : "كبير".
(9) في ف : "الرقى".
(10) في أ : "ما".
(11) في ت ، ف ، أ : "حماد".
(12) المختارة برقم (409).
(5/190)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
{
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا
تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا
(86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ
فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) }.
قال ابن عباس : { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } يعني : بالسبب المنزل] (1). وقال مجاهد : {
فَأَتْبَعَ سَبَبًا } : منزلا وطريقًا ما بين المشرق والمغرب.
وفي رواية عن مجاهد : { سَبَبًا } قال : طريقا في (2) الأرض.
وقال قتادة : أي أتبع منازل الأرض ومعالمها (3).
وقال الضحاك : { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } أي : المنازل (4).
وقال سعيد بن جبير في قوله : { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } قال : علمًا. وهكذا قال عكرمة
وعبيد بن يعلى ، والسدي.
وقال مطر : معالم وآثار كانت قبل ذلك.
وقوله : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } أي : فسلك طريقًا حتى وصل إلى
أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب ، وهو مغرب الأرض. وأما الوصول إلى
مغرب الشمس من السماء فمتعذر ، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في
الأرض مدّة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له. وأكثر ذلك من خرافات أهل
الكتاب ، واختلاق (5) زنادقتهم وكذبهم (6)
وقوله : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } أي : رأى الشمس في منظره تغرب
في البحر المحيط ، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله ، يراها كأنها تغرب فيه ، وهي
لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه (7).
والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين (8) من "الحمأة" وهو الطين ، كما قال
تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ } [الحجر
: 28] أي : طين أملس (9). وقد تقدم بيانه.
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب (10) حدثنى نافع بن أبي نعيم ، سمعت
عبد الرحمن الأعرج يقول : كان ابن عباس يقول (11) { فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ثم
فسرها : ذات حمأة. قال نافع : وسئل عنها كعب الأحبار فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني
، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء (12).
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وغير واحد.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن دينار ، عن سعد (13) بن أوس ، عن مِصْدَع
، عن ابن
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في هـ ، ت ، ف : "طرفي" ، والمثبت من الطبري ، أ.
(3) في ت : "ومغاربها".
(4) في ت : "المنزل".
(5) في ت : "واختلاف".
(6) في ف : "وكذبتهم".
(7) في ت : "يفارقه".
(8) في ت : "على أحد الروايتين".
(9) في ت : "إبليس".
(10) في ت : "حدثنا وهب".
(11) في ف ، أ : "يقرأ".
(12) تفسير الطبري (16/10).
(13) في ت : "سعيد".
(5/191)
عباس
، عن أبيّ بن كعب ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه { حَمِئَةٍ } (1)
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : "وجدها تغرب في عين حامية" يعني :
حارة. وكذا قال الحسن البصري.
وقال ابن جرير : والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب (2).
قلت : ولا منافاة بين معنييهما ، إذ قد تكون حارة لمجاورتها وَهْج الشمس عند
غروبها ، وملاقاتها الشعاع بلا حائل و { حَمِئَةٍ } في ماء وطين أسود ، كما قال
كعب الأحبار وغيره.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا (3) العوام
، حدثني مولى لعبد الله بن عمرو ، عن عبد الله قال : نظر رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلى الشمس حين غابت ، فقال : "في نار الله الحامية [في نار الله
الحامية] (4) ، لولا ما يزعها من أمر الله ، لأحرقت ما على الأرض".
قلت : ورواه الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون (5). وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ،
ولعله من كلام عبد الله بن عمرو ، من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك ، والله
أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا محمد - يعني ابن بشر - حدثنا عمرو
بن ميمون ، أنبأنا ابن حاضر ، أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ
الآية التي في سورة الكهف "تغرب في عين حامية" قال ابن عباس لمعاوية ما
نقرؤها (6) إلا { حَمِئَةٍ } فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها : فقال عبد
الله : كما قرأتها. قال ابن عباس : فقلت لمعاوية : في بيتي نزل القرآن ؟ فأرسل إلى
كعب فقال له : أين تجد الشمس تغرب في التوراة ؟ [فقال له كعب : سل أهل العربية ،
فإنهم أعلم بها ، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة] (7) في ماء وطين.
وأشار بيده إلى المغرب. قال ابن حاضر : لو أني عندكما أفدتك (8) بكلام تزداد فيه
بصيرة في حمئة. قال ابن عباس : وإذًا ما هو ؟ قلت : فيما يؤثر من قول تُبَّع ،
فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه :
بَلَغَ المشَارقَ والمغَارِبَ يَبْتَغِي أسْبَابَ أمْرٍ مِنْ (9) حَكِيمٍ مُرْشِد
فَرَأى مَغِيبَ (10) الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبها... فِي عَيْنِ ذِي خُلب وَثأط (11)
حَرْمَدِ (12) (13)
قال (14) ابن عباس : ما الخُلَب ؟ قلت : الطين بكلامهم. [يعنى بكلام حمير] (15).
قال : ما الثاط ؟
__________
(1) مسند الطيالسى برقم (536).
(2) في ت : "المصيب".
(3) في ت : "حدثنا".
(4) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(5) المسند (2/207).
(6) في ت : "تقرأها".
(7) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(8) في أ : "لأفدتك".
(9) في ت : "من أمر".
(10) في ت أ : "فوجد مغاب". وفي ف : "فرأى مغاب".
(11) في أ : "وأناط".
(12) في ت : "وقاص" ، وفي ف : "وناط".
(13) البيتان في لسان العرب ، مادة (ثأط) وهما لأمية بن أبي الصلت.
(14) في ف : "فقال".
(15) زيادة من ت ، ف.
(5/192)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
قلت
: الحمأة. قال : فما الحرْمَد ؟ قلت : الأسود. قال : فدعا ابن عباس رجلا أو غلامًا
فقال : اكتب ما يقول هذا الرجل.
وقال سعيد بن جبير : بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ
فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } فقال كعب : والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدًا يقرؤها كما
أنزلت في التوراة غير ابن عباس ، فإنا نجدها في التوراة : تغرب في مدرة سوداء.
وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا هشام بن يوسف قال :
في تفسير ابن جريج { وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا } قال : مدينة لها اثنا عشر ألف
باب ، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وُجُوب الشمس حين تجب.
وقوله : { وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا } أي : أمة من الأمم ، ذكروا أنها كانت أمة
عظيمة من بني آدم.
وقوله : { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ
تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } معنى هذا : أن الله تعالى مكنه منهم (1) وحكمه فيهم ،
وأظفره بهم (2) وخيره : إن شاء قتل وسبى ، وإن شاء منّ أو فدى (3). فعرف عدله
وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه (4)
في قوله : { أَمَّا مَنْ ظَلَمَ } أي : من استمر على كفره وشركه بربه { فَسَوْفَ
نُعَذِّبُهُ } قال قتادة : بالقتل : وقال السدي : كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم
فيها (5) حتى يذوبوا. وقال وهب بن منبه : كان يسلط الظلمة ، فتدخل أفوافهم وبيوتهم
، وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم.
وقوله : (6) { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا } أي :
شديدًا بليغًا وجيعًا أليمًا. وفيه (7) إثبات المعاد والجزاء.
وقوله : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ } أي : تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله
وحده لا شريك له { فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى } أي : في الدار الآخرة عند الله ،
عز وجل ، { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } قال مجاهد : معروفًا.
{ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا
تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ
وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) }.
يقول : ثم سلك طريقًا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها (8) ، وكان كلما مرّ بأمة
قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عز وجل ، فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم ،
واستباح أموالهم ، وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما يستعين به مع جيوشه على أهل (9)
الإقليم المتاخم لهم. وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب
(10) الأرض طولها والعرض (11) حتى بلغ المشارق والمغارب. ولما انتهى إلى مطلع
الشمس من الأرض كما قال الله تعالى : { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ }
__________
(1) في ت : "فيهم".
(2) في ت : "وأظفره عليهم" ، وفي ف ، أ : "وأظهره عليهم".
(3) في ف ، أ : "وافتدى".
(4) في ت : "وثباته".
(5) في ف : "فيه".
(6) في ت : "فقوله".
(7) في أ : "زفي هذا".
(8) في ت : "من مطلع الشمس إلى مغربها".
(9) في أ : "قتال".
(10) في ف ، أ : "يخرب".
(11) في ف ، أ : "طولها وعرضها".
(5/193)
أي :
أمة { لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } أي : ليس لهم بناء يكنهم ،
ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس.
قال سعيد بن جبير : كانوا حُمرًا قصارًا ، مساكنهم الغيران ، أكثر معيشتهم من
السمك.
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا سهل (1) بن أبي الصلت ، سمعت الحسن وسئل عن قوله
تعالى : { لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } قال : إن أرضهم (2) لا
تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا (3) في المياه ، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما
ترعى البهائم. قال (4) الحسن : هذا حديث سمرة (5).
وقال قتادة : ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئًا ، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في
أسراب ، حتى إذا زالت (6) الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم.
وعن سلمة بن كُهَيْل أنه قال : ليس لهم أكنان ، إذا طلعت الشمس طلعت عليهم ،
فلأحدهم أذنان يفترش إحداهما (7) ويلبس الأخرى.
قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى
قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } قال : هم الزنج (8).
وقال ابن جريج في قوله : { وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ
مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } قال : لم يبنوا فيها بناء قط ، ولم يبن عليهم فيها بناء
قط ، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابًا لهم (9) حتى تزول الشمس ، أو دخلوا البحر
، وذلك أن أرضهم ليس فيها (10) جبل ، جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها : لا تطلعن
عليكم الشمس وأنتم بها. قالوا : لا نبرح حتى تطلع الشمس ، ما هذه العظام ؟ قالوا :
هذه جيفُ جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا. قال : فذهبوا هاربين في الأرض.
وقوله : { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا } قال مجاهد ، والسدي
: علمًا ، أي : نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه ، لا يخفى علينا منها شيء
، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض ، فإنه تعالى : { لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ
فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } [آل عمران : 5]
__________
(1) في أ : "سهيل".
(2) في ت : "أرضيكم".
(3) في ت : "فقعدوا" ، وفي أ : "يغوروا".
(4) في ت ، ف : "فقال".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (16/12) من طريق إبراهيم بن المستمر ، عن أبي داود به.
(6) في ت : "غربت".
(7) في ف ، أ : "واحدة".
(8) تفسير عبد الرزاق (1/346).
(9) في ت : "أسرابا بهم".
(10) في أ : "بها".
(5/194)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ
دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا (93) قَالُوا يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ
نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا
سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) }
يقول تعالى مخبرًا عن ذي القرنين : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا } أي : ثم سلك طريقًا
من مشارق الأرض. { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } وهما جبلان متناوحان
بينهما ثُغْرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك ، فيعيثون فيهم فسادًا ،
ويهلكون الحرث والنسل ، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم ، عليه السلام ، كما ثبت في
الصحيحين : "إن الله تعالى يقول : يا آدم. فيقول : لبيك وسعديك. فيقول : ابعث
بَعْثَ النار. فيقول : وما بَعْثُ النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون
إلى النار ، وواحد إلى الجنة ؟ فحينئذ يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ،
فيقال : إن فيكم أمّتين ، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج" (1).
وقد حكى النووي (2) ، رحمه الله ، في شرح "مسلم" عن بعض الناس : أن
يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب ، فخلقوا من ذلك (3) فعلى
هذا يكونون مخلوقين من آدم ، وليسوا من حواء. وهذا قول غريب جدًا ، [ثم] (4) لا
دليل عليه لا من عقل ولا [من] (5) نقل ، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض
أهل الكتاب ، لما عندهم من الأحاديث (6) المفتعلة ، والله أعلم.
وفي مسند (7) الإمام أحمد ، عن سَمُرَة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"وَلَدُ نوح ثلاثة : سام أبو العرب ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو
الترك" (8). قال بعض العلماء : هؤلاء من نسل يافث أبي الترك ، قال : [إنما
(9) سموا هؤلاء تركًا ؛ لأنهم تركوا من وراء السد من (10) هذه الجهة ، وإلا فهم
أقرباء أولئك ، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة (11). وقد ذكر ابن جرير هاهنا
عن وهب بن منبه أثرًا طويلا عجيبًا في سير ذي القرنين ، وبنائه السد ، وكيفية ما جرى
له ، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم ، [وطولهم] (12) وقصر بعضهم ،
وآذانهم (13). وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح (14) أسانيدها ،
والله أعلم.
وقوله : { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا }
[أي] (15) : لاستعجام كلامهم وبعدهم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6530) وصحيح مسلم برقم (222) من حديث أبي سعيد ، رضي الله
عنه.
(2) في أ : "النواوي".
(3) شرح النووي (3/97).
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) زيادة من ت ، ف.
(6) في ت : "من الأكاذيب".
(7) في ف ، أ : "المسند".
(8) المسند (5/9).
(9) في أ : "وإنما".
(10) في أ : "فمن".
(11) في أ : "وجرأة".
(12) زيادة من ف ، أ.
(13) تفسير الطبري (16/14).
(14) في ف ، أ : "لا يصح".
(15) زيادة من ف ، أ.
(5/195)
عن
الناس.
{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي
الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا } قال ابن جريج عن عطاء ، عن ابن عباس :
أجرًا عظيمًا ، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالا يعطونه إياه ، حتى
يجعل بينهم وبينهم سدًا. فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير : { مَا
مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي : إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين (1)
خير لي من الذي تجمعونه ، كما قال سليمان عليه السلام : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ
فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ
تَفْرَحُونَ } [النمل : 36] وهكذا قال ذو القرنين : الذي أنا فيه خير من الذي
تبذلونه ، ولكن ساعدوني { بِقُوَّةٍ } أي : بعملكم وآلات البناء ، { أَجْعَلْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } والزبر : جمع
زُبْرَة ، وهي القطعة منه ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة. وهي كاللبنة (2) ،
يقال : كل لبنة [زنة] (3) قنطار بالدمشقي ، أو تزيد عليه.
{ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } أي : وضع بعضه على بعض من الأساس
حتى إذا حاذى به رءوس الجبلين طولا وعرضًا. واختلفوا في مساحة عرضه وطوله على
أقوال. { قَالَ انْفُخُوا } أي : أجج (4) عليه النار حتى صار كله نارًا ، { قَالَ
آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ،
وقتادة ، والسُّدي : هو النحاس. وزاد بعضهم : المذاب. ويستشهد بقوله تعالى : {
وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } [سبأ : 12] ولهذا يشبه (5) بالبرد المحبر.
قال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن
رجلا قال : يا رسول الله ، قد رأيت سد يأجوج ومأجوج ، قال : "انعته لي"
قال : كالبرد المحبر ، طريقة سوداء. وطريقة حمراء. قال : "قد رأيته".
هذا حديث مرسل. (6)
وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه ، ووجه (7) معه جيشًا سرية ، لينظروا
إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا. فتوصلوا من بلاد إلى بلاد ، ومن مُلْك
إلى مُلْك ، حتى وصلوا إليه ، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس ، وذكروا أنهم
رأوا فيه بابًا عظيمًا ، وعليه (8) أقفال عظيمة ، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج
هناك. وأن عنده حرسًا (9) من الملوك المتاخمة له ، وأنه منيف عال (10) ، شاهق ، لا
يستطاع ولا ما حوله من الجبال. ثم رجعوا إلى بلادهم ، وكانت غيبتهم أكثر من سنتين
،
__________
(1) في أ : "والتمكن".
(2) في أ : "اللبنة".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف : "أججوا".
(5) في أ : "شبه".
(6) وقد روي موصولا من طرق : فرواه ابن مردويه في تفسيره كما في تخريج الكشاف
(2/312) من طريق أبي الجماهر - سعيد بن بشير - عن قتادة ، عن رجل ، عن أبي بكرة
الثقفى : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنى قد رأيته ، فذكر نحوه.
ورواه البزار في مسنده كما في تخريج الكشاف (2/313) من طريق عبد الملك بن أبي
نعامة عن يوسف بن أبي مريم ، عن أبي بكرة بنحوه مطولا. ورواه ابن مردويه أيضا من
طريق سفيان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن رجل من أهل المدينة أنه قال
للنبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه.
(7) في ف ، أ : "وجهز".
(8) في ت : "وعلى".
(9) في ف ، أ : "سرحا".
(10) في ت ، ف ، أ : "عال منيف".
(5/196)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
وشاهدوا
أهوالا وعجائب.
ثم قال الله تعالى :
{ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) }
(5/197)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
{
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ
وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي
بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) }.
يقول تعالى مخبرًا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا (1) فوق هذا السد
ولا قدروا على نقبه من أسفله. ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما
يناسبه فقال : { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ
نَقْبًا } وهذا دليل على أنهم لم (2) يقدروا على نقبه ، ولا على شيء منه.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا روح ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، حدثنا أبو رافع ، عن أبي
هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن يأجوج ومأجوج ليحفرون
السد كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه
غدًا فيعودون إليه كأشد ما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على
الناس (3) [حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس] (4) قال الذي عليهم : ارجعوا
فستحفرونه غدًا إن شاء الله. ويستثني ، فيعودون إليه وهو كهيئته (5) حين تركوه ،
فيحفرونه ويخرجون (6) على الناس ، فينشفون المياه ، ويتحصن الناس منهم في حصونهم ،
فيرمون بسهامهم إلى السماء ، [فترجع وعليها هيئة الدم ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض
وعلونا أهل السماء] (7). فيبعث الله عليهم نغفا (8) في أقفائهم ، فيقتلهم بها. قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، إن دواب الأرض لتسمن ،
وتشكر شكرًا من لحومهم ودمائهم" (9).
ورواه أحمد أيضًا عن حسن - هو ابن موسى الأشيب - عن سفيان ، عن قتادة ، به (10).
وكذا رواه (11) ابن ماجه ، عن أزهر بن مروان ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن أبي
عَرُوبَة ، عن قتادة قال : حدث رافع. وأخرجه الترمذي ، من حديث أبي عوانة ، عن
قتادة (12). ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
__________
(1) في ف ، أ : "يصعدوا من".
(2) في ت : "لا".
(3) في أ : "على النار".
(4) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5) في أ : "كهيئة".
(6) في ت : "ويخرجونهم".
(7) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(8) في أ : "نغيفا".
(9) المسند (2/510).
(10) المسند (2/511).
(11) في أ : "رواه الإمام".
(12) سنن ابن ماجة برقم (4080) وسنن الترمذي برقم (3153).
(5/197)
وهذا
إسناده قوي ، ولكن في (1) رفعه نكارة ؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من
ارتقائه ولا من نقبه ، لإحكام بنائه وصلابته وشدته. ولكن هذا قد روي عن كعب
الأحبار : أنهم قبل خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه (2) إلا القليل ،
فيقولون : غدًا نفتحه. فيأتون من الغد وقد عاد كما كان ، فيلحسونه حتى لا يبقى منه
(3) إلا القليل ، فيقولون كذلك ، ويصبحون وهو كما كان ، فيلحسونه ويقولون : غدًا
نفتحه. ويلهمون أن يقولوا : "إن شاء الله" ، فيصبحون وهو كما فارقوه ،
فيفتحونه. وهذا مُتَّجه ، ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب. فإنه كثيرًا ما كان يجالسه
(4) ويحدثه ، فحدث به أبو هريرة ، فتوهم (5) بعض الرواة عنه أنه مرفوع ، فرفعه ،
والله أعلم.
ويؤكد ما قلناه (6) - من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شيء منه ، ومن نكارة هذا
المرفوع - قول الإمام أحمد :
حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن [زينب بنت أبي سلمة ، عن حبيبة بنت أم
حبيبة بنت أبي سفيان ، عن أمها أم حبيبة ، عن] (7) زينب بنت جحش زوج النبي صلى
الله عليه وسلم - قال سفيان : أربع نسوة - قالت : استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم
من نومه. وهو محمر وجهه ، وهو يقول : "لا إله إلا الله! ويل للعرب (8) من شر
قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا". وحَلَّق. قلت : يا رسول
الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : "نعم إذا كثر الخبث".
هذا حديث صحيح ، اتفق البخاري ومسلم على إخراجه ، من حديث الزهري (9) ، ولكن سقط
في رواية البخاري ذكر حبيبة ، وأثبتها مسلم. وفيه أشياء (10) عزيزة نادرة قليلة
الوقوع في صناعة (11) الإسناد ، منها رواية الزهري عن عروة ، وهما تابعيان ومنها
(12) اجتماع أربع نسوة في سنده ، كلهن يروي بعضهن عن بعض. ثم كل منهن صحابية (13)
، ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان ، رضي الله عنهن.
وقد روي نحو هذا عن أبي هريرة أيضًا ، فقال البزار : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا
مُؤمَّل بن إسماعيل ، حدثنا وهيب (14) ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل
هذا" وعقد التسعين. وأخرجه البخاري ومسلم من حديث وهيب (15) ، به (16).
__________
(1) في ف ، أ : "ولكن متنه في".
(2) في ف : "فيه".
(3) في ف ، أ : "فيه".
(4) في ت : "كان كثيرا ما يجالسه".
(5) في ت : "فيقرهم".
(6) في أ : "قلنا".
(7) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(8) في ت : "للغريب".
(9) المسند (6/428) وصحيح البخاري برقم (7135) وصحيح مسلم برقم (2880).
(10) في أ : "منهم صاحبيه".
(11) في ت : "صياغة".
(12) في أ : "وفيما".
(13) في أ : "منهم صاحبية".
(14) في ت : "وهب".
(15) في ت : "وهب".
(16) صحيح البخاري برقم (7136) وصحيح مسلم برقم (2881).
(5/198)
وقوله
: { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي : لما بناه ذو القرنين { قَالَ هَذَا
رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } أي : بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم
من العيث (1) في الأرض والفساد. { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي } أي : إذا اقترب
الوعد الحق { جَعَلَهُ دَكَّاءَ } أي : ساواه (2) بالأرض. تقول العرب : ناقة دكاء
: إذا كان ظهرها مستويًا لا سنام لها. وقال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ
لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } [الأعراف : 143] أي : مساويًا للأرض (3).
وقال عكرمة في قوله : { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ } قال :
طريقًا كما كان.
{ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } أي : كائنًا لا محالة.
وقوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ [ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ] } (4) أي :
الناس يومئذ أي : يوم يدك (5) هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ويفسدون على
الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم ، وهكذا قال السدي في قوله : { وَتَرَكْنَا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال : ذاك حين يخرجون على الناس. وهذا
كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال ، كما سيأتي بيانه [إن شاء الله تعالى] (6) عند
قوله : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ
يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } [الأنبياْ : 96 ، 97] وهكذا قال
هاهنا : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } قال ابن زيد في قوله : { وَتَرَكْنَا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال : هذا أول يوم القيامة ، {
وَنُفِخَ (7) فِي الصُّورِ } على أثر ذلك { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا }.
وقال آخرون : بل المراد بقوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي
بَعْضٍ } أي : يوم القيامة يختلط الإنس والجن.
وروى ابن جرير ، عن محمد بن حميد ، عن يعقوب القمي (8) عن هارون بن عنترة ، عن شيخ
من بني فزارة (9) في قوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي
بَعْضٍ } قال : إذا ماج الإنس والجن قال إبليس : أنا أعلم لكم علم هذا الأمر.
فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد بطنوا (10) الأرض ، ثم يظعن إلى المغرب فيجد
الملائكة بطنوا (11) الأرض فيقول : "ما من محيص". ثم يظعن يمينًا وشمالا
إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة بطنوا (12) الأرض فيقول : "ما من محيص"
فبينما هو كذلك ، إذ عرض له طريق كالشراك ، فأخذ عليه هو وذريته ، فبينما هم عليه
إذ هجموا على النار ، فأخرج الله خازنًا من خزان النار ، فقال : يا إبليس ، ألم
تكن لك المنزلة عند ربك ؟! ألم تكن في الجنان ؟! فيقول : ليس هذا يوم عتاب ، لو أن
الله فرض عليّ فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من
__________
(1) في أ : "العبث".
(2) في ت ، أ : "واساه".
(3) في ت : "الأرض".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ت : "بذكر".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ت : "ينفخ".
(8) في أ : "العمى".
(9) في أ : "قرارة".
(10) في أ : "قد تطبقوا".
(11) في أ : "قد تطبقوا".
(12) في أ : "قد تطبقوا".
(5/199)
خلقه.
فيقول : فإن الله قد فرض عليك فريضة. فيقول : ما هي ؟ فيقول : يأمرك أن تدخل
النار. فيتلكأ عليه ، فيقول به وبذريته بجناحيه فيقذفهم في النار. فتزفر النار (1)
زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مُرسل إلا جثا لركبتيه (2)
وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. رواه من وجه آخر عن يعقوب ، عن
هارون عن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال : الجن الإنس ، يموج بعضهم في بعض.
وقال الطبراني : حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصفهاني (3) ، حدثنا أبو
مسعود أحمد بن الفرات ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا المغيرة بن مسلم ، عن أبي
إسحاق ، عن وهب بن جابر ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
: "إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ، ولن
يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا ، وإن من ورائهم ثلاث أمم : تاويل ،
وتايس (4) ومنسك". (5) هذا حديث غريب بل منكر ضعيف.
وروى النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبيه ، عن
جده أوس بن أبي أوس مرفوعًا : "إن يأجوج ومأجوج لهم نساء ، يجامعون ما شاؤوا
، وشجر يلقحون ما شاؤوا ، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا"
(6)
وقوله : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } : والصور كما جاء في الحديث : "قرن
ينفخ" فيه والذي ينفخ فيه إسرافيل ، عليه السلام ، كما قد تقدم في الحديث
بطوله ، والأحاديث فيه كثيرة.
وفي الحديث عن عطية ، عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعًا : "كيف أنعم ، وصاحب
القَرْن قد التقم القَرْن ، وحنى جبهته واستمع متى يؤمر". قالوا : كيف نقول ؟
قال : "قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا" (7)
وقوله { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا } أي : أحضرنا الجميع للحساب { قُلْ إِنَّ
الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ }
[الواقعة : 49 ، 50] ، { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا }
[الكهف : 47]
__________
(1) في أ : "جهنم".
(2) تفسير الطبري (16/23).
(3) في ف ، أ : "الأصبهاني".
(4) في ت ، ف : "تاريس".
(5) الحديث في مسند الطيالسى برقم (2282) وقال الهيثمي في المجمع (8 / 6) :
"رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات".
تنبيه : وقع في مجمع الزوائد "تاول وتاريس ومنسك" وعند الطسالسى
"تاويل وتاريس وتارليس ومنسك" وفي المطالب العالية "تاويل وتاريس
وناسك".
(6) سنن النسائي الكبرى برقم (11334).
(7) رواه الترمذي في السنن برقم (2431) وقال : "هذا حديث حسن".
(5/200)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
{
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ
أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ
إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نزلا (102) }
يقول تعالى مخبرًا عما يفعله بالكفار يوم القيامة : أنه يعرض عليهم جهنم ، أي :
يبرزها لهم ويظهرها ، ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها ، ليكون ذلك
أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم.
وفي صحيح مسلم ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زِمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك
[يجرونها] (1) (2)
ثم قال مخبرًا عنهم : { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي
} أي : تعاموا وتغافلوا وتصاموا (3) عن قبول الهدى واتباع الحق ، كما قال تعالى :
{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ } [الزخرف : 36] وقال هاهنا : { وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } أي
: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه.
ثم قال { أَفَحَسِبَ (4) الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ
دُونِي أَوْلِيَاءَ } أي : اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك ، وينتفعون بذلك ؟ { كَلا
سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم : 82] ؛
ولهذا أخبر أنه قد أعدّ لهم جهنم يوم القيامة منزلا.
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا (103) الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ
فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي
هُزُوًا (106) }.
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عَمْرو
، عن مُصْعَب قال : سألت أبي - يعني سعد بن أبي وقاص - : { قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا } أهم الحَرُورية ؟ قال : لا هم اليهود
والنصارى ، أما اليهود فكذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى كفروا
بالجنة ، وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب. والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد
ميثاقه. وكان سعد رضي الله عنه ، يسميهم الفاسقين (5).
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، ومسلم.
(2) صحيح مسلم برقم (2842).
(3) في أ : "تصامموا".
(4) في ت : "أفحسبتم" وهو خطأ.
(5) صحيح البخاري برقم (4728).
(5/201)
وقال
علي بن أبي طالب (1) والضحاك ، وغير واحد : هم الحرورية.
ومعنى هذا عن علي ، رضي الله عنه : أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل
اليهود والنصارى وغيرهم ، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء (2) بل هي
أعم من هذا ؛ فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل (3) وجود الخوارج
بالكلية ، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب
فيها ، وأن عمله مقبول ، وهو مخطئ ، وعمله مردود ، كما قال تعالى : { وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً } [الغاشية :
2 - 4] وقوله (4) تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان : 23] وقال تعالى : { وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى
إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا } [النور : 39].
وقال في هذه الآية الكريمة : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ } أي : نخبركم {
بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالا } ؟ ثم فسرهم فقال : { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي : عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية
مقبولة ، { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } أي" يعتقدون
أنهم على شيء ، وأنهم مقبولون محبوبون.
وقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } أي :
جحدوا آيات الله في الدنيا ، وبراهينه التي أقام على وحدانيته ، وصدق رسله ،
وكذبوا بالدار الآخرة ، { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } أي :
لا نثقل موازينهم ؛ لأنها خالية عن الخير (5).
قال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا المغيرة
، حدثني أبو الزَّنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال : "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين (6) يوم القيامة ، لا يزن عند
الله جناح بعوضة" وقال : "اقرؤوا إن شئتم : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا }.
وعن يحيى بن بُكَيْر ، عن مغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الزناد ، مثله (7).
هكذا ذكره عن يحيى بن بكير معلقا (8). وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق ،
عن يحيى بن بكير ، به (9).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي
الزناد ، عن صالح مولى التَّوْأمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم ، فيوزن بحبة
فلا يزنها". قال : وقرأ : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا
}
وكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن أبي الصلت ، عن أبي الزناد ، عن صالح مولى
__________
(1) في ت : "طلحة".
(2) في أ : "هو".
(3) في ت : "وقيل".
(4) في ت ، ف ، أ : "وقال".
(5) في ت : "من الخير".
(6) في ت : "السمين العظيم".
(7) صحيح البخاري برقم (4729).
(8) في ت : "مغلقا".
(9) صحيح مسلم برقم (2785).
(5/202)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
التوأمة
، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، مرفوعًا (1) فذكره بلفظ البخاري سواء.
وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا العباس بن محمد ، حدثنا عون بن
عُمَارة (2) حدثنا هشام بن حسان ، عن واصل ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال :
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له. فلما
قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يا بريدة ، هذا ممن لا يقيم الله له
يوم القيامة وزنًا" (3).
ثم قال : تفرّد به واصل مولى أبي عنبسة (4) وعون (5) بن عُمَارة (6) وليس بالحافظ
، ولم يتابع عليه. وقد قال ابن جرير أيضًا : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد
الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن شمر (7) عن أبي يحيى ، عن كعب قال : يؤتى
يوم القيامة برجل عظيم طويل ، فلا يزن عند الله جناح بعوضة ، اقرؤوا : { فَلا
نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } (8).
وقوله : { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا } أي : إنما جازيناهم بهذا
الجزاء جهنم ، بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوًا ، استهزءوا بهم ،
وكذبوهم أشد التكذيب.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ
الْفِرْدَوْسِ نزلا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا (108) }
يخبر تعالى عن عباده السعداء ، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله ، وصدقوهم فيما جاؤوا
به بأن لهم جنات الفردوس.
قال مجاهد : الفردوس هو : البستان بالرومية.
وقال كعب ، والسدي ، والضحاك : هو البستان الذي فيه شجر الأعناب.
وقال أبو أمامة (9) الفردوس : سرة (10) الجنة.
وقال قتادة : الفردوس : ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها.
وقد روي هذا مرفوعًا من حديث سعيد بن بشير (11) ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن
سَمُرَة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "الفردوس (12) ربوة الجنة ، أوسطها
وأحسنها" (13)
__________
(1) تفسير الطبري (16/29).
(2) في ت : "عامر".
(3) مسند البزار برقم (2956) "كشف الأستار".
(4) في ت : "مولى عن عبيد" ، وفي ف ، أ : "مولى أبي عيينة".
(5) في ف ، أ : "وعنه عون".
(6) في ت : "عامر".
(7) في ت : "سمرة".
(8) تفسير الطبري (16/29)".
(9) في ت : "أسامة".
(10) في ت : "شجرة".
(11) في ف ، أ : "بشر".
(12) في ت : "والفردوس".
(13) رواه الطبراني في المعجم الكبير (7/213) من طريق أبى الجماهر ، عن سعيد بن
بشير به.
(5/203)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
وهكذا
رواه إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن سمرة مرفوعًا. وروي عن قتادة ، عن أنس بن
مالك مرفوعًا بنحوه. وقد نقله (1) ابن جرير ، رحمه الله (2)
وفي الصحيحين : "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة
وأوسط (3) الجنة ، ومنه تُفَجَّرُ أنهار الجنة" (4)
وقوله : { نزلا } أي ضيافة ، فإن النزل هو الضيافة.
وقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : مقيمين ساكنين (5) فيها ، لا يظعنون عنها
أبدًا ، { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } أي : لا يختارون (6) غيرها ، ولا يحبون
سواها ، كما قال الشاعر (7)
فَحَّلْت سُوَيدا القَلْب لا أنَا بَاغيًا... سواها ولا عَنْ حُبّها أتَحوّلُ...
وفي قوله : { لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا } تنبيه على رغبتهم فيها ، وحبهم لها ،
مع أنه قد يتوهم (8) فيمن هو مقيم في المكان دائمًا أنه يسأمه أو يمله ، فأخبر
أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي ، لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا
انتقالا ولا ظعنًا (9) ولا رحلة (10) ولا بدلا (11)
{ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ
قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
}.
يقول تعالى : قل يا محمد : لو كان ماء البحر مدادًا للقلم الذي تكتب (12) به كلمات
ربى وحكمه وآياته الدالة (13) عليه ، { لَنَفِدَ الْبَحْرُ } أي : [لفرغ البحر]
(14) قبل أن يفرغ من كتابة ذلك { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } أي : بمثل البحر آخر
، ثم آخر ، وهلم جرا ، بحور تمده ويكتب بها ، لما نفدت كلمات الله ، كما قال تعالى
: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ
مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [لقمان : 27].
قال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور (15)
كلها ، وقد أنزل الله ذلك : { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ
رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا
بِمِثْلِهِ مَدَدًا }.
__________
(1) في أ : "ذكر ذلك كله".
(2) تفسير الطبري (16/30) ورواه الترمذي في السنن برقم (3174) من طريق روح بن
عبادة ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، رضي الله عنه ، وقال : "هذا حديث حسن
صحيح".
(3) في ت : "وأوسطه".
(4) صحيح البخاري برقم (7423).
(5) في ف ، أ : "ماكثين".
(6) في ت : "لا تختارون".
(7) هو النابغة الجعدي ، والبيت في مغني اللبيب (ص265) أ. هـ مستفادا من حاشية ط -
الشعب.
(8) في أ : "أنه قد توهم".
(9) في ت : "ضعفا".
(10) في أ : "رحيله".
(11) في ت ، ف ، أ : "بديلا".
(12) في ف : "يكتب".
(13) في ت ، ف ، أ : "والدلالات".
(14) زيادة من ت ، ف ، أ.
(15) في ت : "البحر".
(5/204)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
يقول
: لو كان البحر مدادا [لكلمات الله] (1) ، والشجر كله أقلام (2) ، لانكسرت الأقلام
وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ؛ لأن أحدًا لا يستطيع أن
يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي ، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه ، إن ربنا كما
يقول وفوق ما نقول (3) ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة (4) ،
كحبة من خردل في خلال الأرض [كلها] (5).
{ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ
إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا
صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) }.
روى الطبراني من طريق هشام بن عمار ، عن إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن قيس الكوفي
، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان أنه قال : هذه آخر آية أنزلت (6).
يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم (7) : { قُلْ } لهؤلاء المشركين المكذبين
برسالتك إليهم : { إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } فمن زعم (8) أني كاذب ،
فليأت بمثل ما جئت به ، فإني لا أعلم الغيب فيما (9) أخبرتكم به من الماضي ، عما
سألتم من قصة أصحاب الكهف ، وخبر ذي القرنين ، مما هو مطابق (10) في نفس الأمر ،
لولا ما أطلعني الله عليه ، وأنا أخبركم { أَنَّمَا إِلَهُكُمْ } الذي أدعوكم إلى
عبادته ، { إِلَهٌ وَاحِدٌ } لا شريك له ، { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ
} أي : ثوابه وجزاءه الصالح ، { فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا } ، ما كان موافقًا
لشرع الله { وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وهو الذي يراد به وجه
الله وحده لا شريك له ، وهذان ركنا العمل المتقبل. لا بد أن يكون خالصًا لله ،
صوابُا (11) على شريعة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (12). وقد روى ابن أبي حاتم
من حديث معمر ، عن عبد الكريم الجَزَري ، عن طاوس قال : قال رجل : يا رسول الله ،
إني أقف المواقف أريد وجه الله ، وأحب أن يرى موطني. فلم يرد عليه رسول الله صلى
الله عليه وسلم شيئًا. حتى نزلت هذه الآية : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ
رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا
}.
وهكذا أرسل هذا مجاهد ، وغير واحد.
وقال الأعمش : حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم ، عن شَهْر بن حَوْشَب قال :
جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال : أنبئني عما أسألك عنه : أرأيت رجلا يصلي ،
يبتغي وجه الله ، ويحب أن يُحْمَد ، ويصوم ويبتغي وجه الله ، ويحب أن يحمد ،
ويتصدق ويبتغي وجه الله ، ويحب أن يحمد ، ويحج ويبتغي وجه الله ، ويحب أن يحمد ،
فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله تعالى يقول : "أنا خير شريك ، فمن كان له
معي شريك (13) فهو له كله ، لا حاجة لي فيه". (14)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "والشجر أقلام كلها".
(3) في ت ، أ : "يقول".
(4) في أ : "الجنة".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) المعجم الكبير (19/392) وقال الهيثمي في المجمع (7/14) : "رجاله
ثقات".
(7) في ت ، ف ، أ : "صلوات الله وسلامة عليه".
(8) في ف ، أ : "يزعم".
(9) في أ : "مما".
(10) في ت ، أ : "المطابق".
(11) في ت : "صوابا حالصا له".
(12) زيادة من ف ، أ.
(13) في أ : "شرك".
(14) تفسير الطبري (16/32).
(5/205)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، ثنا كثير بن زيد ، عن ربيح بن
عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا نتناوب رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، فنبيت عنده ، تكون (1) له الحاجة ، أو يطرقه أمر من الليل ،
فيبعثنا. فكثر المحتسبون (2) وأهل النُّوب ، فكنا نتحدث ، فخرج علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال : "ما هذه النجوى ؟ [ألم أنهكم عن النجوى] (3). قال
: فقلنا : تبنا إلى الله ، أي نبيّ الله ، إنما كنا في ذكر المسيح ، وفرقنا منه ،
فقال : "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي ؟" قال : قلنا :
بلى. قال : "الشرك الخفي ، أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل". (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا عبد الحميد - يعني ابن بَهْرَام - قال
: قال شَهْر بن حَوْشَب : قال ابن غنم : لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء
، لقينا عبادة بن الصامت ، فأخذ يميني بشماله ، وشمال أبي الدرداء بيمينه ، فخرج
يمشي بيننا ونحن نتناجى ، والله أعلم بما نتناجى به ، فقال عبادة بن الصامت : إن
طال بكما عمر أحدكما أو كليكما ، لتوشكان (5) أن تريا الرجل من ثبج المسلمين -
يعني من وسط - قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه ، وأحل
حلاله وحرم (6) حرامه ، ونزل عند منازله ، لا يَحُورُ فيكم إلا كما يَحُور (7) رأس
الحمار الميت. قال : فبينما نحن كذلك ، إذ طلع شداد بن أوس ، رضي الله عنه ، وعوف
بن مالك ، فجلسا إلينا ، فقال شداد : إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من الشهوة الخفية والشرك". فقال
عبادة بن الصامت ، وأبو الدرداء : اللهم غفرًا. أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب. وأما الشهوة الخفية (8)
فقد عرفناها ، هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها ، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به
يا شداد ؟ فقال شداد : أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل ، أو يصوم لرجل ، [أو تصدق
له ، أترون أنه قد أشرك ؟ قالوا : نعم ، والله إنه من صلى لرجل أو صام له] (9) أو
تصدق له ، لقد أشرك. فقال شداد : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول]
(10) : من صلى يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدق يرائي فقد أشرك
؟" فقال (11) عوف بن مالك عند ذلك : أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من
ذلك العمل كله ، فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به ؟ فقال شداد عن ذلك : فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يقول : أنا خير قسيم لمن أشرك
بي ، من أشرك بي شيئًا فإن [حَشْده] (12) عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به ،
وأنا عنه غني" (13).
طريق [أخرى] (14) لبعضه : قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثني عبد
الواحد بن زياد ، أخبرنا عبادة بن نُسيّ ، عن شداد بن أوس ، رضي الله عنه ، أنه
بكى ، فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : شيء سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقوله [فذكرته] (15) فأبكاني ، سمعت رسول الله يقول : "أتخوف على أمتي الشرك
والشهوة الخفية". قلت : يا رسول الله ، أتشرك أمتك [من بعدك ؟] (16) قال :
"نعم ،
__________
(1) في ت ، ف : "تأذن" ، وفي أ : "نأذن".
(2) في أ : "المجسسون".
(3) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(4) المسند (3/30) وفي إسناده ربيح بن عبد الرحمن قال أحمد : ليس بمعروف ، وقال
البخاري : منكر الحديث.
(5) في أ : "ليوشكان".
(6) في ت : "فحرم".
(7) في ت ، ف ، أ : "لايجوز منكم إلا كما يجوز".
(8) في أ : "حفية".
(9) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(10) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(11) في ف ، أ : "قال".
(12) زيادة من ف ، أ.
(13) المسند (4/125).
(14) زيادة من ف ، أ.
(15) زيادة من ف ، أ.
(16) زيادة من ف ، أ.
(5/206)
أما
إنهم لا يعبدون شمسًا ولا قمرًا ، ولا حجرًا ولا وثنًا ، ولكن يراؤون بأعمالهم ،
والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائمًا فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه (1).
ورواه ابن ماجه من حديث الحسن بن ذَكْوَان ، عن عبادة بن نُسيّ ، به (2). وعبادة
فيه ضعف وفي سماعه من شداد نظر.
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا الحسين (3) بن عليّ بن جعفر الأحمر
، حدثنا عليّ بن ثابت ، حدثنا قيس بن (4) أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله يوم القيامة : أنا خير
شريك ، من (5) أشرك بي أحدًا فهو له كله".
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت العلاء يحدث عن أبيه ،
عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يرويه عن ربه ، عز وجل ، أنه قال :
"أنا خير الشركاء ، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري ، فأنا منه برئ ، وهو للذي
أشرك". تفرّد به من هذا الوجه (6).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا لَيْث ، عن يزيد - يعني ابن
الهاد - عن عمرو ، عن محمود بن لبيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". قالوا : وما الشرك الأصغر يا
رسول الله ؟ قال : "الرياء ، يقول الله يوم القيامة إذا جزي الناس بأعمالهم :
اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء" (7)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر (8) أخبرنا عبد الحميد - يعني ابن
جعفر - أخبرني أبي ، عن زياد بن ميناء ، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري - وكان
من الصحابة - أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا جمع
الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه ، نادى مناد : من كان أشرك في
عمل عمله لله أحدًا ، فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن
الشرك".
وأخرجه الترمذي وابن ماجه ، [من حديث محمد بن] (9) بكر (10) وهو البُرساني ، به
(11)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أحمد بن عبد الملك ، حدثنا بكار ، حدثني أبي -
يعني عبد العزيز بن أبي بكرة (12) - عن أبي بكرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "من سمَّع سمَّع الله به ، ومن راءى راءى الله
به" (13).
وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية ، حدثنا شيبان ، عن فراس ، عن عطية ، عن أبي سعيد
__________
(1) في أ : "صيامه".
(2) المسند (4/123) وسنن ابن ماجة برقم (4305).
(3) في ف ، أ : "الحسن".
(4) في أ : "عن".
(5) في أ : "فمن".
(6) المسند (2/301) ورواه ابن خزيمة في صحيحة برقم (938) من طريق محمد بن جعفر به.
(7) المسند (5/428) وقال الهيثمي في المجمع (1/102) : "رجاله رجال
الصحيح".
(8) في ف ، أ : "بكير".
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) في ف ، أ : بكير".
(11) المسند (4/215) وسنن الترمذي برقم (3154) وسنن ابن ماجة برقم (4203).
(12) في ف ، أ : "بكر".
(13) المسند (5/45).
(5/207)
الخدري
، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من يرائي يرائي الله به ، ومن يسمع
يسمع الله به" (1).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، حدثني عمرو بن مرة ،
قال : سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة ؛ أنه سمع (2) عبد الله بن عمرو يحدث ابن عمر
(3) ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من سَمَّع الناس بعمله
سَمَّع الله به ، سامع خلقه وصغره وحقره" [قال] (4) : فذرفت عينا عبد الله
(5).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن يحيى الأيلي ، حدثنا الحارث بن غسان ،
حدثنا أبو عمران الجوني ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله ، عز وجل ، يوم القيامة في صحف
مختومة (6) ، فيقول الله : ألقوا هذا ، واقبلوا هذا ، فتقول الملائكة : يا رب ،
والله ما رأينا منه إلا خيرًا. فيقول : إن عمله كان لغير وجهي ، ولا أقبل اليوم من
العمل إلا ما أريد به وجهي".
ثم قال الحارث بن غسان : روى عنه جماعة وهو بصري ليس به بأس (7)
وقال ابن وهب : حدثني يزيد بن عياض ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن عبد الله (8) بن
قيس الخزاعي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قام رياء وسمعة ،
لم يزل (9) في مقت الله حتى يجلس". (10)
وقال أبو يعلى : حدثنا محمد بن أبي بكر ، حدثنا محمد بن دينار ، عن إبراهيم الهجري
عن أبي الأحوص ، عن عوف (11) بن مالك ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث
يخلو ، فتلك (12) استهانة استهان بها ربه ، عز وجل". (13)
وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكوني ، حدثنا هشام بن عمار ،
حدثنا ابن عياش (14) ، حدثنا عمرو بن قيس الكندي ؛ أنه سمع معاوية بن أبي سفيان
تلا هذه الآية { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا
صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } وقال : إنها آخر آية نزلت
من القرآن. (15)
وهذا
__________
(1) المسند (3/40).
(2) في أ : "ليسمع".
(3) في أ : "عمرو".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) المسند (2/162).
(6) في أ : "مختمة".
(7) مسند البزار برقم (3435) "كشف الأستار".
(8) في أ : "غبد الرحمن".
(9) في ت ، أ : "يزد".
(10) قال الهيثمي في المجمع (10/223) : "رواه الطبراني وفيه يزيد بن عياض وهو
متروك". وله شاهد من حديث أبي هند الدارى رواه أحمد في مسنده (5/270).
(11) في ت ، ف ، أ : "عروة".
(12) في أ : "فذلك".
(13) مسند أبي يعلى (9/54) وحسنه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3/183) وقال
الهيثمي في المجمع (10/221) : "فيه إبراهيم ابن مسلم الهجرى وهو ضعيف".
(14) في ت ، أ : "ابن عباس".
(15) تفسير الطبري (16/32).
(5/208)
أثر
مشكل ، فإن هذه الآية [هي] (1) آخر سورة الكهف. والكهف كلها مكية ، ولعل معاوية
أراد أنه لم ينزل بعدها ما تنسخها (2) ولا يغير حكمها (3) بل هي مثبتة محكمة ،
فاشتبه ذلك على بعض الرواة ، فروى بالمعنى على ما فهمه ، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا النضر
بن شميل ، حدثنا أبو قُرَّرة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب ، رضي الله
عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ في ليلة : { فَمَنْ
كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } ، كان له من نور ، من عدن أبين إلى [مكة] (4) حشوه
الملائكة (5) غريب جدا.
آخر [تفسير] (6) سورة الكهف ولله الحمد
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "آية تنسخها".
(3) في ت ، ف : "بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) مسند البزار برقم (3108) "كشف الأستار" ، وأبو قرة الأسدى جهله
الذهبي وابن حجر ، وقال الذهبي : "نفرد عنه النضر بن شميل". وقال ابن
حجر : "أخرج ابن خزيمة حديثه في صحيحه وقال : لا أعرفه بعدالة ولا جرح".
(6) زيادة من ت.
(5/209)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
تفسير
سورة مريم [عليها السلام] (1)
وهي مكية.
وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة ، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في
قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة : أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، قرأ صدر
هذه السورة على النجاشي وأصحابه (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ
نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ
رَضِيًّا (6) }.
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة.
وقوله : { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ } أي : هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا.
وقرأ يحيى بن يعمر "ذَكَّرَ رحمة ربك عَبْدَهُ زَكَريَّا".
[و] (3) { زَكَرِيَّا } : يمد ويقصر قراءتان مشهورتان. وكان نبيًّا عظيمًا من
أنبياء بني إسرائيل. وفي صحيح البخاري : أنه كان نجارًا ، أي : كان يأكل من عمل
يديه في النجارة.
وقوله : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } : قال بعض المفسرين : إنما أخفى
دعاءه ، لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره. حكاه الماوردي.
وقال آخرون : إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله. كما قال قتادة في هذه الآية { إِذْ
نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } : إن الله يعلم القلب التقي (4) ، ويسمع الصوت
الخفي.
وقال بعض السلف : قام من الليل ، عليه السلام ، وقد نام أصحابه ، فجعل يهتف بربه
يقول خفية : يا رب ، يا رب ، يا رب فقال الله : لبيك ، لبيك ، لبيك.
{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } أي : ضعفت (5) وخارت القوى ، {
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } أي
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) رواه الإمام أحمد من حديث أم سلمة (5/290) ومن حديث ابن مسعود (1/461).
(3) زيادة من ت ، ف.
(4) في ت : "النقي".
(5) في ت ، ف : "ضعف".
(5/211)
اضطرم
المشيب في السواد ، كما قال ابن دُرَيد في مقصورته (1) :
إمَّا (2) تَرَى رأسِي حَاكى لونُهُ... طُرَّةَ صُْبحٍ تَحتَ أذْيَال الدُّجى...
واشْتَعَل المُبْيَض في مُسْوَدّه... مِثْلَ اشتِعَال النَّارِ في جمر (3)
الغَضَا...
والمراد من هذا : الإخبار عن الضعف والكبر ، ودلائله الظاهرة والباطنة.
وقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا } أي : ولم أعهد منك إلا
الإجابة (4) في الدعاء ، ولم تردني قط فيما سألتك.
وقوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي } : قرأ الأكثرون بنصب
"الياء" من { الْمَوَالِيَ } على أنه مفعول ، وعن الكسائي أنه سكن الياء
، كما قال الشاعر :
كَأنَّ أيْديهنّ في القَاع الفَرقْ... أيدي جَوَارٍ يَتَعَاطَينَ الوَرقْ (5)
وقال الآخر :
فَتَى لو يُبَاري الشَّمسَ ألْقَتْ قِنَاعَها... أو القَمَرَ السَّاري لألْقَى
المقَالدَا...
ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي :
تَغَاير الشَّعرُ فيه (6) إذ سَهرت لَهُ... حَتَّى ظَنَنْتُ قوافيه ستَقتتلُ (7)
وقال مجاهد ، وقتادة ، والسدي : أراد بالموالي العصبة. وقال أبو صالح : الكلالة.
وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه كان يقرؤها :
"وإني خَفَّت الموالي من ورائي" بتشديد الفاء بمعنى : قلت عصباتي (8) من
بعدي.
وعلى القراءة الأولى ، وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا [من] (9) بعده في الناس تصرفًا
سيئًا ، فسأل الله ولدا ، يكون نبيًّا من بعده ، ليسوسهم بنبوته وما يوحى إليه.
فأجيب في ذلك ، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله ، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرًا
من أن يشفق على ماله إلي ما هذا حده (10) أن يأنف (11) من وراثة عصباته (12) له ،
ويسأل أن يكون له ولد ، فيحوز (13) ميراثه دونه دونهم. هذا وجه.
الثاني : أنه لم يذكر أنه كان ذا مال ، بل كان نجارا يأكل من كسب (14) يديه ، ومثل
هذا لا يجمع مالا ولا سيما الأنبياء ، عليهم السلام ، فإنهم كانوا أزهد شيء في
الدنيا.
الثالث : أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "لا نُورَث ، ما
__________
(1) انظر : شرح مقصورة ابن دريد (ص2) أ.هـ. مستفادا من حاشية ط - الشعب.
(2) في أ : "ما".
(3) في ت ، ف ، أ : "جزل".
(4) في أ : "إجابة".
(5) الرجز في اللسان مادة (قرق) غير منسوب.
(6) في ت : "منه".
(7) البيت في ديوان أبي تمام (227) أ.هـ. مستفادا من حاشية ط - الشعب.
(8) في أ : "عصابتي".
(9) زيادة من ت ، ف.
(10) في أ : "حسده".
(11) في أ : "يأتنف".
(12) في أ : "عصابته".
(13) في ف ، أ : "ليجوز".
(14) في أ : "من عمل".
(5/212)
تركنا
فهو صدقة" (1) وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح : "نحن معشر الأنبياء
لا نورث" (2) وعلى (3) هذا فتعين حمل قوله : { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا * يَرِثُنِي } على ميراث النبوة ؛ ولهذا قال : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ
يَعْقُوبَ } ، كما قال تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } [ النمل : 16 ]
أي : في النبوة ؛ إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ، ولما كان في
الإخبار بذلك كبير فائدة ، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد
يرث أباه ، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها ، وكل هذا يقرره ويثبته (4) ما صح
في الحديث : "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة".
قال مجاهد في قوله : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [قال] (5) : كان
وراثته علمًا وكان زكريا من ذرية يعقوب.
وقال هشيم : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح في قوله : { يَرِثُنِي
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } قال : [قد] (6) يكون نبيًّا كما كانت آباؤه أنبياء.
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، عن الحسن : يرث نبوته وعلمه.
وقال السُّدِّي : يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب.
وعن مالك ، عن زيد بن أسلم : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } قال : نبوتهم.
وقال جابر بن نوح ويزيد بن هارون ، كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح
في قوله : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } قال : يرث مالي ، ويرث من آل
يعقوب النبوة.
وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا (7) معمر ، عن قتادة : أن رسول الله (8) صلى الله عليه
وسلم قال : "يرحم الله زكريا ، وما كان عليه من ورثة ، ويرحم الله لوطًا ، إن
كان ليأوي إلى ركن شديد" (9)
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا جابر بن نوح ، عن مبارك - هو (10) ابن
فضالة - عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رحم الله أخي
زكريا ، ما كان عليه من ورثة ماله حين يقول : { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا
* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } (11)
__________
(1) جاء من حديث عائشة ، وأبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وطلحة ، وعثمان بن
عفان ، والزبير بن العوام أما حديث عائشة فرواه البخاري : (6730) ومسلم برقم
(1758). وأما حديث أبو بكر فرواه البخاري برقم (1/37) ومسلم برقم (1759). وأما
حديث عمر بن الخطاب وعثمان وطلحة والزبير ، فرواه البخاري برقم (3094 ، 6728 ،
7305) ومسلم برقم (1757).
(2) لم أجده في سنن الترمذي المطبوع بهذا اللفظ ، وانظر كلام الحافظ ابن حجر عن
هذه الرواية والوجوه التي تحمل عليها في الفتح (12/8).
(3) في ف : "فعلى".
(4) في أ : "ونبينه".
(5) زيادة من ف.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ت : "حدثنا".
(8) في ف ، أ : "أن النبي".
(9) تفسير عبد الرزاق (2/5) وقد وصل طرفه الثاني : "يرحم الله لوطا لقد كان
يأوي إلى ركن شديد".
الإمام أحمد في مسنده (2/350) من طريق الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي
الله عنه.
(10) في ف : "وهو".
(11) تفسير الطبري (16/37).
(5/213)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
وهذه
مرسلات لا تعارض الصحاح ، والله أعلم.
وقوله : { وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا } أي مرضيا عندك وعند خلقك ، تحبه وتحببه
إلى خلقك في دينه وخلقه.
{ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ
مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) }.
هذا الكلام يتضمن محذوفًا ، وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل [له] (1) : {
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى } ، كما قال تعالى :
{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ
وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى
مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ
الصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 38 ، 39 ]
وقوله : { لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } قال قتادة ، وابن جريج ،
وابن زيد : أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم ، واختاره ابن جرير ، رحمه الله.
وقال مجاهد : { لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } أي : شبيهًا.
أخذه من معنى قوله : { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِيًّا } [ مريم : 65 ] أي : شبيهًا.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي لم تلد العواقر قبله مثله.
وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام ، كان لا يولد له ، وكذلك امرأته كانت عاقرا
من أول عمرها ، بخلاف إبراهيم وسارة ، عليهما السلام ، فإنهما إنما تعجبا من
البشارة بإسحاق على كبرهما (2) لا لعقرهما (3) ؛ ولهذا قال : { أَبَشَّرْتُمُونِي
عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونِ } [ الحجر : 54 ] مع أنه كان
قد ولد له قبله (4) إسماعيل بثلاث عشرة سنة. وقالت امرأته : { يَا وَيْلَتَى
أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ *
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ
عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [ هود : 72 ، 73 ].
{ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ
بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ
هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) }.
هذا تعجب من زكريا ، عليه السلام ، حين أجيب إلى ما سأل ، وبُشِّر بالولد ، ففرح
فرحًا شديدًا ، وسأل عن كيفية ما يولد له ، والوجه الذي يأتيه منه الولد ، مع أن
امرأته [كانت] (5) عاقرًا لم تلد من أول عمرها مع كبرها ، ومع أنه قد كبر وعتا ،
أي عسا عظمه ونحل (6) ولم يبق فيه لقاح ولا جماع.
تقول العرب للعود إذا يبس : "عَتا يَعْتو عِتيا وعُتُوا ، وعَسا يَعْسو عُسوا
وعِسيا".
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في أ : "لكبرهما".
(3) في أ : "لا لعقرها".
(4) في ت ، أ : "أنه قد كان ولد له قبل" ، وفي ف : "أنه كان ولد له
قبل".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في أ : "وقحل".
(5/214)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
وقال
مجاهد : { عِتِيًّا } بمعنى : نحول (1) العظم.
وقال ابن عباس وغيره : { عِتِيًّا } يعني : الكبر.
والظاهر أنه أخص من الكبر.
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا حُصَيْن ، عن عِكْرمة ، عن
ابن عباس قال : لقد علمت السنة كلها ، غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ؟ ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف : {
وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا } أو "عسيا".
ورواه الإمام أحمد عن سُرَيْج (2) بن النعمان ، وأبو داود ، عن زياد بن أيوب ،
كلاهما عن هشيم ، به.
{ قَالَ } أي الملك مجيبًا لزكريا عما استعجب منه : { كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ
عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي : إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها { هَيِّنٌ } أي
: يسير سهل على الله.
ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه ، فقال : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ
وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } كما قال تعالى : { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } [ الإنسان : 1]
{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ
لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى
إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) }.
يقول تعالى مخبرًا عن زكريا ، عليه السلام ، أنه { قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً
} أي : علامة ودليلا على وجود ما وعدتني ، لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني كما
قال إبراهيم ، عليه السلام : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } الآية [ البقرة :
260 ]. { قَالَ آيَتُكَ } أي : علامتك { أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ
سَوِيًّا } أي : أن تحبس (3) لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض
ولا علة (4)
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، ووهب [بن منبه] (5) ، والسدي وقتادة وغير واحد :
اعتقل لسانه من غير مرض.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان يقرأ ويسبح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلا
إشارة.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } أي : متتابعات.
والقول الأول عنه وعن الجمهور أصح (6) كما قال تعالى في [أول] (7) آل عمران : {
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ
أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ
وَالإبْكَارِ } [ آل عمران : 41 ]
__________
(1) في أ : "يعني قحول".
(2) في ف ، أ : "شريح".
(3) في ف : "تحتبس".
(4) في أ : "وعلامة".
(5) زيادة من ت ، ف ، أ.
(6) في ف ، أ : "واضح".
(7) زيادة من أ.
(5/215)
وقال
مالك ، عن زيد بن أسلم : { ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا } من غير خرس.
وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها { إِلا
رَمْزًا } أي : إشارة ؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريمة : { فَخَرَجَ عَلَى
قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ } أي : الذي بشر فيه بالولد ، { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ
} أي : أشار إشارة خفية سريعة : { أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أي :
موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله ، وشكرًا لله على
ما أولاه.
قال مجاهد : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } أي : أشار. وبه قال وهب ، وقتادة.
وقال مجاهد في رواية عنه : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } أي : كتب لهم في الأرض ، كذا
قال السدي.
(5/216)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
{
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ
وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ
يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) }.
وهذا أيضا تضمن (1) محذوفًا ، تقديره : أنه وجد هذا الغلام المبشر به ، وهو يحيى ،
عليه السلام ، وأن الله علمه الكتاب ، وهو التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم ،
ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار. وقد كان سنه إذ
ذاك صغيرًا ، فلهذا نوه بذكره ، وبما أنعم به عليه وعلى والديه ، فقال : { يَا
يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } أي : تعلم الكتاب { بِقُوَّةٍ } أي : بجد
وحرص واجتهاد { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } أي : الفهم والعلم والجد والعزم
، والإقبال على الخير ، والإكباب عليه ، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث [السن] (2).
قال عبد الله بن المبارك : قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا
نلعب. قال : ما للعب خلقت (3) ، قال : فلهذا أنزل الله : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ
صَبِيًّا }.
وقوله : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : {
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } يقول : ورحمة من عندنا ، وكذا قال عكرمة ، وقتادة ،
والضحاك وزاد : لا يقدر عليها غيرنا. وزاد قتادة : رُحِم بها زكريا.
وقال مجاهد : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } وتعطفًا من ربه عليه.
وقال عكرمة : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } [قال : محبة عليه. وقال ابن زيد : أما
الحنان فالمحبة. وقال عطاء بن أبي رباح : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ] (4) ،
قال : تعظيمًا من لدنا (5).
__________
(1) في أ : "يضمن".
(2) زيادة من أ.
(3) في ف ، أ : "خلقنا".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "الدنيا".
(5/216)
وقال
ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، أنه سمع عكرمة عن ابن عباس قال : لا والله ما
أدري (1) ما حنانًا.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور : سألت سعيد بن جبير عن
قوله : { وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا } ، فقال : سألت عنها عباس ، فلم يحر (2) فيها
شيئًا.
والظاهر من هذا السياق أن : { وَحَنَانًا [مِنْ لَدُنَّا] } (3) معطوف على قوله :
{ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } أي : وآتيناه الحكم وحنانا ، { وَزَكَاةً }
أي : وجعلناه ذا حنان وزكاة ، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب :
حنّت الناقة على ولدها ، وحنت المرأة على زوجها. ومنه سميت المرأة
"حَنَّة" من الحَنَّة ، وحن الرجل إلى وطنه ، ومنه التعطف والرحمة ، كما
قال الشاعر (4)
تَحنَّنْ (5) عَلَي هَدَاكَ المليكُ... فإنَّ لكُل مَقامٍ مَقَالا...
وفي المسند للإمام أحمد ، عن أنس ، رضي الله عنه ، أن (6) رسول الله صلى الله عليه
قال : "يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة : يا حنان يا منان" (7)
وقد يُثنَّي (8) ومنهم من يجعل ما ورد من (9) ذلك لغة بذاتها ، كما قال طرفة :
أَنَا مُنْذر أفنيتَ فاسْتبق بَعْضَنَا... حَنَانَيْك بَعْض الشَّر أهْونُ مِنْ
بَعْض (10)
وقوله : { وَزَكَاةً } معطوف على { وَحَنَانًا } فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام
والذنوب.
وقال قتادة : الزكاة (11) العمل الصالح.
وقال الضحاك وابن جريج : العمل الصالح الزكي.
وقال العوفي عن ابن عباس : { وَزَكَاةً } [قال : بركة] (12) { وَكَانَ تَقِيًّا }
طهر ، فلم يعمل بذنب.
وقوله : { وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا } لما ذكر
تعالى طاعته لربه ، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة وتقى ، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره
بهما ، ومجانبته (13) عقوقهما ، قولا وفعلا [وأمرًا] (14) ونهيًا ؛ ولهذا قال : {
وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا } ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على
ذلك : { وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ
حَيًّا } أي : له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.
وقال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد ، فيرى نفسه
خارجًا مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث ، فيرى نفسه
في محشر عظيم. قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه ، {
وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا }
__________
(1) في ت ، أ : "لا أدري".
(2) في ف ، أ : "يخبر".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) هو الحطيئة ، والبيت في اللسان ، مادة "حنن".
(5) في ف : "تعطف"
(6) في ت ، ف ، أ : "عن".
(7) المسند (3/230).
(8) في أ : "يعني".
(9) في أ : "في".
(10) البيت في ديوانه (ص208) أ. هـ مستفادا من حاشية ط - الشعب.
(11) في ت : "والزكاة".
(12) زيادة من ف ، أ.
(13) في ف : ""ومجانبة".
(14) زيادة من أ.
(5/217)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
رواه
ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { جَبَّارًا عَصِيًّا } ،
قال : كان ابن المسيب يذكر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما من أحد
يلقى الله يوم القيامة إلا ذا ذنب ، إلا يحيى بن زكريا". قال قتادة : ما أذنب
ولا همّ بامرأة ، مرسل (1)
وقال محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، حدثني ابن العاص أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (2) : "كل بني آدم يأتي يوم القيامة
وله ذنب ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا" (3) ابن إسحاق هذا مدلس ، وقد عنعن
هذا الحديث ، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، أخبرنا علي بن زيد ، عن يوسف بن
مِهْران ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من أحد
من ولد آدم إلا وقد أخطأ ، أو همَّ بخطيئة ، ليس يحيى بن زكريا ، وما ينبغي لأحد
أن يقول : أنا خير من يونس بن متى" (4)
وهذا أيضًا ضعيف ؛ لأن علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة ، والله أعلم.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة : أن حسن قال : إن يحيى وعيسى ، عليهما
السلام ، التقيا ، فقال له عيسى : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال له الآخر :
استغفر لي فأنت (5) خير مني. فقال له عيسى : أنت خير مني ، سَلَّمتُ على نفسي ،
وسلم الله عليك ، فَعرُف والله فضلهما.
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا
شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا
رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ
رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ
رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا
وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) }.
لما ذكر تعالى قصة زكريا ، عليه السلام ، وأنه أوجد منه ، في حال كبره وعقم زوجته
، ولدًا زكيًّا طاهرًا مباركًا - عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى ، عليهما
(6) السلام ، منها من غير أب ، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة (7) ؛ ولهذا ذكرهما
في آل عمران وهاهنا وفي سورة الأنبياء ، يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في
المعنى ، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه ، وأنه على ما يشاء
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (2/7).
(2) في ت : "أنه قال".
(3) رواه الطبري في تفسيره (16/44) والحاكم في المستدرك (2/373) من طريق محمد بن
إسحاق به ، وقال الحاكم : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"
ووفقه الذهبي ، ورجح أبو حاتم وقفه ، وقال لابنه : "لا يرفعون هذا
الحديث".
(4) المسند (1/254).
(5) في أ : "أنت".
(6) في ف ، أ : "عليه".
(7) في أ : "ومتشابهة".
(5/218)
قادر
(1) ، فقال : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } وهي مريم بنت عمران ، من
سلالة داود ، عليه السلام ، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل. وقد ذكر الله
تعالى قصة ولادة أمّها لها في "آل عمران" ، وأنها نذرتها محررة ، أي :
تخدم (2) مسجد بيت المقدس ، وكانوا يتقربون بذلك ، { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا
بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [آل عمران : 37] ونشأت في بني
إسرائيل نشأة عظيمة ، فكانت (3) إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة
(4) والتبتل والدءوب ، وكانت في كفالة زوج أختها - وقيل : خالتها - زكريا نبي بني
إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم ، الذي يرجعون إليه في دينهم. ورأى لها زكريا من الكرامات
الهائلة ما بهره { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ
عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37
] فذكر أنه كان يجد عندها ثمر (5) الشتاء في الصيف وثمر (6) الصيف في الشتاء ، كما
تقدم بيانه في "آل عمران". فلما أراد الله تعالى - وله الحكمة والحجة
البالغة - أن يُوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام ، أحد الرسل أولي العزم
الخمسة العظام ، { انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا } أي :
اعتزلتهم وتنحت عنهم ، وذهبت إلى شرق المسجد المقدس.
قال السدي : لحيض أصابها. وقيل لغير ذلك. قال أبو كُدَيْنَة ، عن قابوس بن أبي
ظِبْيان ، عن أبيه عن ابن عباس قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت
والحج إليه ، وما صرفهم عنه إلا قيل ربك : { انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا
شَرْقِيًّا } قال : خرجت مريم مكانًا شرقيًّا ، فصلوا قبل مطلع الشمس. رواه ابن
أبي حاتم ، وابن جرير.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا إسحاق بن شاهين ، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن داود ،
عن عامر ، عن ابن عباس قال : إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق
قبلة ؛ لقول الله تعالى (7) { انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا }
واتخذوا (8) ميلاد عيسى قبلة (9)
وقال قتادة : { مَكَانًا شَرْقِيًّا } شاسعًا متنحيًّا.
وقال محمد بن إسحاق : ذهبت بقلتها تستقي [من] (10) الماء.
وقال نَوْف البِكَالي : اتخذت لها منزلا تتعبد فيه. فالله (11) أعلم.
وقوله : { فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا } أي : استترت منهم وتوارت ،
فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا }
أي : على صورة إنسان تام كامل.
قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، وابن جُرَيْج (12) ووهب بن مُنَبِّه ، والسُّدِّي
، في قوله : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } يعني : جبريل ، عليه السلام.
__________
(1) في ت ، أ : "قدير".
(2) في أ : "لخدمة".
(3) في ت : "وكانت".
(4) في ت : "والعظمة".
(5) في أ : "ثمرة".
(6) في أ : "ثمرة".
(7) في ت : "لقول الله عز وجل" ، وفي ف : "لقوله".
(8) في أ : "فاتخذوا".
(9) تفسير الطبري (16/45).
(10) زيادة من ت ، ف ، أ.
(11) في ت : "والله".
(12) في ت : "وابن جرير".
(5/219)
وهذا
الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في الآية الأخرى : { نزلَ بِهِ
الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء :
193 ، 194 ].
وقال أبو جعفر الرازي (1) ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب
قال : إن روح عيسى ، عليه السلام ، من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان
آدم ، وهو الذي تمثل لها بشرا سويًّا ، أي : روح عيسى ، فحملت الذي خاطبها وحل في
فيها.
وهذا في غاية الغرابة والنكارة ، وكأنه إسرائيلي.
{ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي : لما
تَبَدى لها الملك في صورة بشر ، وهي (2) في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب ،
خافته وظنت أنه يريدها على نفسها ، فقالت : { إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ
إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا } أي : إن كنت تخاف الله. تذكير (3) له بالله ، وهذا هو
المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل ، فخوفته أولا بالله ، عز وجل.
قال ابن جرير : حدثني أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو بكر ، عن عاصم قال : قال أبو وائل -
وذكر قصة مريم - فقال : قد علمت أن التقي ذو نُهْيَة حين قالت : { إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
} أي : فقال لها الملك مجيبًا لها ومزيلا ما (4) حصل عندها من الخوف على نفسها :
لست مما تظنين ، ولكني رسول ربك ، أي : بعثني إليك ، ويقال : إنها لما ذكرت الرحمن
انتفض جبريل فرقا (5) وعاد إلى هيئته وقال : "إنما أنا رسول ربك ليهب لك
غلامًا زكيا".
[هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء. وقرأ الآخرون : { لأهَبَ لَكِ
غُلامًا زَكِيًّا } ] (6) وكلا القراءتين له وجه حسن ، ومعنى صحيح ، وكل تستلزم
(7) الأخرى.
{ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ
بَغِيًّا } أي : فتعجبت مريم من هذا وقالت : كيف يكون لي غلام ؟ أي : على أي صفة
يوجد هذا الغلام مني ، ولست بذات زوج ، ولا يتصور مني الفجور ؛ ولهذا قالت : {
وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا } والبغي : هي الزانية ؛ ولهذا
جاء في الحديث نهي عن مهر البغي.
{ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي : فقال لها الملك
مجيبًا لها عما سألت : إن الله قد قال : إنه سيوجد منك غلامًا ، وإن لم يكن لك بعل
ولا توجد (8) منك فاحشة ، فإنه على ما يشاء قادر (9) ؛ ولهذا قال : {
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي : دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم
وخالقهم ، الذي نوع (10) في خلقهم ، فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وخلق
حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى ، إلا عيسى فإنه أوجده من
أنثى بلا ذكر ، فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله
غيره ولا رب سواه.
وقوله : { وَرَحْمَةً مِنَّا } أي ونجعل (11) هذا الغلام رحمة من الله نبيًّا من
الأنبياء يدعو إلى عبادة
__________
(1) في أ : "وقال أبو جعفر الرازي عن أبيه".
(2) في ت ، ف ، أ : "وهو".
(3) في أ : "تذكر".
(4) في أ : "لما".
(5) في ف ، أ : "فزعا".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في أ : "يستلزم".
(8) في ت ، ف ، أ : "ولا يوجد".
(9) في أ : "قدير".
(10) في ت ، ف ، أ : "تنوع".
(11) في ت ، ف ، أ : "ويجعل".
(5/220)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
الله
تعالى وتوحيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ
يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ
الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ
الصَّالِحِينَ } [ آل عمران : 45 ، 46 ] أي : يدعو إلى عبادة الله ربه في مهده (1)
وكهولته.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم - دُحَيْم - حدثنا
مروان ، حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي ، عن مجاهد قال : قالت مريم ، عليها السلام
: كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس سبح في بطني
وكبر.
وقوله : { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم ،
يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته. ويحتمل أن يكون من خبر
الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها ، كما
قال تعالى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا
فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا } [ التحريم : 12 ] وقال { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ]
قال محمد بن إسحاق : { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } أي : أن الله قد عزم على هذا
، فليس منه بد ، واختار هذا أيضًا ابن جرير في تفسيره ، ولم يحك غيره ، والله
أعلم.
{ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا
الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا
وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) }
يقول تعالى مخبرًا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال ، أنها
استسلمت لقضاء الله تعالى (2) فذكر غير واحد من علماء السلف أن الملك - وهو جبريل
عليه السلام - عند ذلك نفخ في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج ، فحملت
بالولد بإذن الله تعالى. فلما حملت به ضاقت ذرعًا به (3) ولم تدر ماذا تقول (4)
للناس ، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به ، غير أنها أفشت سرها وذكرت
أمرها لأختها امرأة زكريا. وذلك أن زكريا عليه السلام ، كان قد سأل الله الولد ،
فأجيب إلى ذلك ، فحملت امرأته ، فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها ، وقالت :
أشعرت يا مريم أني حبلى ؟ فقالت لها مريم : وهل علمت أيضًا أني حبلى ؟ وذكرت لها
شأنها وما كان من خبرها وكانوا بيت إيمان وتصديق ، ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك
إذا واجهت (5) مريم تجد الذي في جوفها (6) يسجد للذي في بطن مريم ، أي : يعظمه
ويخضع له ، فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعًا ، كما سجد ليوسف أبواه
وإخوته ، وكما أمر الله الملائكة أن تسجد (7) لآدم ، عليه السلام ، ولكن حرم في
ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين قال : قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع
، قال : أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم قال : قال مالك رحمه الله : بلغني أن عيسى
ابن مريم ويحيى بن
__________
(1) في ت ، أ : "المهد".
(2) في ت : "الله عز وجل".
(3) في أ : "بهما".
(4) في ت : "يقول".
(5) في أ : "وجهت".
(6) في ف : "بطنها".
(7) في ف ، أ : "يسجدوا".
(5/221)
زكريا
ابنا خالة ، وكان حملهما جميعا معا ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى أن
ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام ؛ لأن
الله جعله يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص.
ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به
تسعة أشهر. وقال عكرمة : ثمانية أشهر - قال : ولهذا لا يعيش ولد لثمانية أشهر.
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني المغيرة بن عثمان (1) بن عبد الله الثقفي ، سمع ابن
عباس وسئل عن حَبَل مريم ، قال : لم يكن إلا أن حملت فوضعت (2).
وهذا غريب ، وكأنه أخذه من ظاهر قوله تعالى : { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ
مَكَانًا قَصِيًّا فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } فالفاء وإن
كانت للتعقيب ، ولكن تعقيب (3) كل شيء بحسبه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي
قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ
مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } [ المؤمنون : 12 - 14 ] فهذه الفاء
للتعقيب بحسبها. وقد ثبت في الصحيحين : أن بين كل صفتين أربعين يومًا (4) وقال
تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرْضُ
مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] فالمشهور الظاهر - والله على كل شيء قدير - أنها حملت
به كما تحمل النساء بأولادهن ؛ ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل عليها وكان معها في
المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس ، يقال له : يوسف النجار ،
فلما رأى ثقل بطنها وكبره ، أنكر ذلك من أمرها ، ثم صرفه ما (5) يعلم من براءتها
ونزاهتها ودينها وعبادتها ، ثم تأمّل ما هي فيه ، فجعل أمرها يجوس في فكره ، لا
يستطيع صرفه عن نفسه ، فحمل نفسه على أن عرض لها في القول ، فقال : يا مريم ، إني
سائلك عن أمر فلا تعجلي عليّ. قالت : وما هو ؟ قال : هل يكون قط شجر (6) من غير
حبّ ؟ وهل يكون زرع من غير بذر ؟ وهل يكون ولد من غير أب ؟ فقالت : نعم - فهمت (7)
ما أشار إليه - أما قولك : "هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر ؟"
فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ، ولا بذر "وهل خلق يكون
من غير أب ؟" (8) فإن الله قد خلق آدم من غير أب ولا أم. فصدقها ، وسلَّم لها
حالها.
ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة ، انتبذت منهم مكانًا قصيًّا ، أي :
قاصيًا منهم بعيدًا عنهم ؛ لئلا تراهم ولا يروها.
قال محمد بن إسحاق : فلما حملت به وملأت قلتها (9) ورجعت ، استمسك عنها الدم
وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والترحم وتغير اللون ، حتى فَطَرَ
لسانها ، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا ، وشاع الحديث في بني إسرائيل ،
فقالوا : "إنما صاحبها يوسف" ، ولم يكن معها في الكنيسة غيره ، وتوارت
من الناس ، واتخذت من دونهم حجابًا ، فلا (10) يراها أحد ولا
__________
(1) في أ : "بن عتبة".
(2) في ت ، أ : "وضعت".
(3) في أ : "تعقب".
(4) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وسيأتي عند تفسير الآية : 5 من سورة
الحج.
(5) في ف : "لما".
(6) في ف : "شجر قط".
(7) في أ : "وفهمت".
(8) في أ : "وهل يكون ولد من غير أب".
(9) في أ : "قلبها".
(10) في ف ، أ : "فلم".
(5/222)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
تراه.
وقوله : { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } [أي : فاضطرها
وألجأها الطلق إلى جذع النخلة] (1) وهي نخلة في المكان الذي تنحت إليه.
وقد اختلفوا فيه ، فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس.
وقال وهب بن مُنَبِّه : ذهبت هاربة ، فلما كانت بين الشام وبلاد مصر ، ضربها
الطلق. وفي رواية عن وهب : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس ، في قرية هناك
يقال لها : "بيت لحم".
قلت : وقد تقدم في حديث (2) الإسراء ، من رواية النسائي عن أنس ، رضي الله عنه ،
والبيهقي عن شدَّاد بن أوس ، رضي الله عنه : أن ذلك ببيت لحم ، فالله أعلم ، وهذا
هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم ،
وقد تلقاه الناس. وقد ورد به الحديث إن صح.
وقوله تعالى إخبارًا عنها : { قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ
نَسْيًا مَنْسِيًّا } فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها
ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ، ولا
يصدقونها في خبرها ، وبعدما كانت عندهم عابدة ناسكة ، تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة
زانية ، فقالت : { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا } أي قبل هذا الحال ، {
وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي لم أخلق ولم أك شيئًا. قاله ابن عباس.
وقال السدي : قالت وهي تطلق من الحبل - استحياء من الناس : يا ليتني مت قبل هذا
الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل { وَكُنْتُ نَسْيًا
مَنْسِيًّا } نُسِيَ فتُرِك طلبه ، كخِرَق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم
تذكر. وكذلك كل شيء نُسِيَ وترك فهو نَسِيّ.
وقال قتادة : { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } أي : شيئًا لا يعرف ، ولا يذكر ،
ولا يدرى من أنا.
وقال الربيع بن أنس : { وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } وهو (3) السقط.
وقال ابن زيد : لم أكن شيئًا قط.
وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلا عند الفتنة ، عند قوله : {
تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [ يوسف : 101 ]
{ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ
سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا
جَنِيًّا (25) }
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ت ، ف : "أحاديث"
(3) في ف ، أ : "أي".
(5/223)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) }
(5/223)
.
قرأ بعضهم { مَنْ تَحْتَهَا } بمعنى (1) الذي تحتها. وقرأ آخرون : { مِنْ
تَحْتِهَا } على أنه حرف جر.
واختلف المفسرون في المراد بذلك من هو ؟ فقال العوفي وغيره ، عن ابن عباس : {
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها ، وكذا قال
سعيد بن جبير ، والضحاك ، وعمرو بن ميمون ، والسدي ، وقتادة : إنه الملك جبريل
عليه الصلاة والسلام ، أي : ناداها من أسفل الوادي.
وقال مجاهد : { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا } قال : عيسى ابن مريم ، وكذا قال عبد
الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : قال الحسن : هو ابنها. وهو إحدى (2)
الروايتين عن سعيد بن جبير : أنه ابنها ، قال : أولم (3) تسمع الله يقول : {
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } [ مريم : 29 ] ؟ واختاره ابن زيد ، وابن جرير في تفسيره
(4)
وقوله : { أَلا تَحْزَنِي } أي : ناداها قائلا لا تحزني ، { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ
تَحْتَكِ سَرِيًّا } قال سفيان الثوري وشعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب :
{ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } قال : الجدول. وكذا قال علي بن أبي
طلحة ، عن ابن عباس : السريّ : النهر. وبه قال عمرو بن ميمون : نهر تشرب منه.
وقال مجاهد : هو النهر بالسريانية.
وقال سعيد بن جُبَيْر : السري : النهر الصغير بالنبطية.
وقال الضحاك : هو النهر الصغير بالسريانية.
وقال إبراهيم النَّخَعِي : هو النهر الصغير.
وقال قتادة : هو الجدول بلغة أهل الحجاز.
وقال وهب بن مُنَبِّه : السري : هو ربيع الماء.
وقال السدي : هو النهر ، واختار هذا القول ابن جرير. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع ،
فقال الطبراني :
حدثنا أبو شعيب الحَرَّاني : حدثنا يحيى بن عبد الله البَابلُتِّي (5) حدثنا أيوب
بن نَهِيك ، سمعت عكرمة مولى ابن عباس يقول : سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول : "إن السري الذي قال الله لمريم : { قَدْ جَعَلَ
رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } نهر أخرجه الله لتشرب منه" (6) وهذا حديث غريب
جدًّا من هذا الوجه. وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي (7) قال فيه أبو حاتم الرازي :
ضعيف. وقال أبو زُرْعَة : منكر الحديث. وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث.
__________
(1) في أ : "أي".
(2) في ت : "أحد".
(3) في ت ، أ : "ولم".
(4) تفسير الطبري (16/52).
(5) في أ : "يحيى بن عبد النابلتي".
(6) المعجم الكبير (12/346).
(7) في أ : "الحلبي".
(5/224)
وقال
آخرون : المراد بالسري : عيسى ، عليه السلام ، وبه قال الحسن ، والربيع بن أنس ،
ومحمد بن عَبَّاد بن جعفر. وهو إحدى الروايتين عن قتادة ، وقول عبد الرحمن بن زيد
بن أسلم ، والقول الأول أظهر ؛ ولهذا قال بعده : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
} أي : وخذي إليك بجذع النخلة. قيل : كانت يابسة ، قاله ابن عباس. وقيل : مثمرة.
قال مجاهد : كانت عجوة. وقال الثوري ، عن أبي داود (1) نُفَيْع الأعمى : كانت
صَرَفَانة (2)
والظاهر أنها كانت شجرة ، ولكن لم تكن في إبان ثمرها ، قاله وهب بن منبه ؛ ولهذا
امتن عليها بذلك ، أن جعل عندها طعامًا وشرابًا ، فقال : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ
رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا } أي : طيبي نفسًا ؛ ولهذا
قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ، ثم تلا هذه الآية
الكريمة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا شَيْبَان ، حدثنا مسرور بن سعيد
التميمي (3) حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، عن عُروة بن رُوَيْم ، عن علي بن
أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أكرموا عمتكم النخلة ،
فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام ، وليس من الشجر شيء (4)
يُلَقَّح غيرها". وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أطعموا نساءكم
الولدَ الرطَبَ ، فإن لم يكن رطب فتمر ، وليس من الشجرة شجرة أكرم على الله من
شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران".
هذا حديث منكر جدًّا ، ورواه أبو يعلى ، عن شيبان ، به (5)
وقرأ بعضهم قوله : "تساقط" بتشديد السين ، وآخرون بتخفيفها ، وقرأ أبو
نَهِيك : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } وروى أبو إسحاق عن البراء : أنه
قرأها : "تساقط" (6) أي : الجذع. والكل متقارب.
وقوله : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا } أي : مهما رأيت من أحد ، {
فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ
إِنْسِيًّا } المراد بهذا القول : الإشارة إليه بذلك. لا أن (7) المراد به القول
اللفظي ؛ لئلا ينافي : { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا }
قال أنس بن مالك في قوله : { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } أي : صمتًا
(8) وكذا قال ابن عباس ، والضحاك. وفي رواية عن أنس : "صومًا وصمتًا" ،
وكذا قال قتادة وغيرهما.
والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام ، نص على ذلك
السدي ،
__________
(1) في ت : "عن أبي الأسود".
(2) في ف ، أ : "صوفانة".
(3) في ت : "التيمي".
(4) في ف : "وليس شيء من الشجر".
(5) مسند أبي يعلى (1/353) ورواه أبو نعيم ف الحلية (6/123) وابن عدي في الكامل
(6/431) من طريق مسرور بن سعد التميمي به ، وقد ذكر له ابن عدي ثلاث علل :
1 - تفرد به مسرور عن الأوزاعي فهو منكر.
2 - أنه منقطع بين عروة بن رويم وعلي بن أبي طالب.
3 - أن مسور بن سعيد غير معروف. قلت : وضعفه ابن حبان والعقيلي.
(6) في أ : "يساقط".
(7) في ت : "لأن".
(8) في أ : "صوتا".
(5/225)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
وقتادة
، وعبد الرحمن بن زيد.
وقال أبو إسحاق ، عن حارثة قال : كنت عند ابن مسعود ، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم
يسلم الآخر ، فقال : ما شأنك ؟ قال أصحابه : حلف ألا يكلم الناس اليوم. فقال عبد
الله بن مسعود : كلِّم الناس وسلم عليهم ، فإنما تلك امرأة علمت أن أحدًا لا
يصدقها أنها حملت من غير زوج. يعني بذلك مريم ، عليها السلام ؛ ليكون عذرًا لها
إذا سئلت. ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، رحمهما الله.
وقال عبد الرحمن بن زيد : لما قال عيسى لمريم : { أَلا تَحْزَنِي } قالت : وكيف لا
أحزن وأنت معي ؟! لا ذاتُ زوج ولا مملوكة ، أي شيء عذري عند الناس ؟ يا ليتني مت
قبل هذا وكنت نسيًا منسيًّا ، قال لها عيسى : أنا أكفيك الكلام : { فَإِمَّا
تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا
فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } قال : هذا كله من كلام عيسى لأمه. وكذا
قال وهب.
{ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا
فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا
كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ
مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ
الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ
وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا
بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ
يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) }.
يقول تعالى مخبرًا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك ، وألا تكلم أحدًا من البشر
فإنها (1) ستكفى أمرها ويقام بحجتها (2) فسلمت لأمر الله ، عز وجل ، واستسلمت
لقضائه ، وأخذت ولدها { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } فلما رأوها كذلك ،
أعظموا أمرها واستنكروه جدًّا ، وقالوا : { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا
فَرِيًّا } أي : أمرًا عظيمًا. قاله مجاهد ، وقتادة والسدي ، وغير واحد.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد ، حدثنا سَيَّار (3)
حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا أبو عمران الجَوْني ، عن نوف البِكَاليّ قال : وخرج
قومها في طلبها ، وكانت من أهل بيت نبوة وشرف. فلم يحسوا (4) منها شيئًا ، فرأوا
(5) راعي بقر فقالوا : رأيت فتاة كذا وكذا نَعْتُها ؟ قال : لا ولكني رأيت الليلة
من بقري ما لم أره منها قط. قالوا : وما رأيت ؟ قال : رأيتها (6) سُجَّدا نحو هذا
الوادي. قال عبد الله بن أبي زياد : وأحفظ عن سيار أنه قال : رأيت نورًا ساطعًا.
فتوجهوا حيث قال لهم ، فاستقبلتهم مريم ، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها ،
فجاءوا حتى قاموا عليها ، { قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا
} أمرًا عظيمًا. { يَا أُخْتَ هَارُونَ } أي : يا شبيهة هارون في العبادة { مَا
كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } أي : أنت من بيت
طيب طاهر ، معروف بالصلاح
__________
(1) في ف ، أ : "فإنه".
(2) في ف : "وتقام حجتها".
(3) في ت : "سفيان" ، وفي أ : "شيبان".
(4) في ت : "يحسبوا".
(5) في أ : "فلقوا".
(6) في ف ، أ : "رأيتها الليلة".
(5/226)
والعبادة
والزهادة (1) ، فكيف صدر هذا منك ؟
قال علي بن أبي طلحة (2) ، والسدي : قيل لها : { يَا أُخْتَ هَارُونَ } أي : أخي
موسى ، وكانت من نسله (3) كما يقال للتميمي : يا أخا تميم ، وللمضري : يا أخا مضر.
وقيل : نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون ، فكانت تقاس (4) به في العبادة ،
والزهادة.
وحكى ابن جرير عن بعضهم : أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم. يقال له : هارون. ورواه
ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.
وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم.
حدثنا علي بن الحسين الهِسِنْجَاني (5) حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا المفضل بن
فَضَالة ، حدثنا أبو صخر ، عن القُرَظي في قول الله عز وجل : { يَا أُخْتَ
هَارُونَ } قال : هي أخت هارون لأبيه وأمه ، وهي أخت موسى أخي هارون التي قَصَّت
أثر موسى ، { فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } [ القصص : 11]
وهذا القول خطأ محض ، فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفَّى بعيسى بعد الرسل ،
فدل على أنه آخر الأنبياء بعثًا وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه (6) ؛
ولهذا ثبت في الصحيح عند البخاري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي (7)
صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أنا أولى الناس بابن مريم ؛ إلا أنه (8) ليس
بيني وبينه نبي" ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظي ، لم يكن متأخرًا
عن الرسل سوى محمد. ولكان قبل سليمان و (9) داود ؛ فإن الله قد ذكر أن داود بعد
موسى ، عليهما السلام في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا
مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسِيتُمْ إِنْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَالَنَا أَلا نُقَاتِلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ} [ البقرة : 246 ] فذكر القصة إلى أن قال : { وَقَتَلَ دَاوُدُ
جَالُوتَ } الآية [ البقرة : 251 ] ، والذي جرأ القرظي على هذه المقالة ما في
التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر ، وإغراق فرعون وقومه ، قال : وكانت
مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين ، تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله
ويشكرنه على ما أنعم به على بني إسرائيل ، فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى. وهي
(10) هفوة وغلطة شديدة ، بل هي باسم هذه ، وقد كانوا يسمون بأسماء (11) أنبيائهم
وصالحيهم ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الله بن إدريس ، سمعت أبي يذكره (12) عن سِمَاك ، عن علقمة بن وائل ، عن
المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران ، فقالوا :
أرأيت ما تقرءون : { يَا أُخْتَ هَارُونَ }
__________
(1) في ت : "والزهاد".
(2) في أ : "طالب".
(3) في ت : "قبيلته".
(4) في ت ، ف : "+تقاسي".
(5) في + : "الححستاني".
(6) في ف : عليه وسلامه".
(7) في ف ، أ : "عن رسول الله".
(8) في أ : "إن أولى الناس بابن مريم لأنا إن".
(9) في أ : "بن".
(10) في ف ، أ : "وهذه".
(11) في ف ، أ : "باسم".
(12) في أ : "يذكر".
(5/227)
،
وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ؟ قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال : "ألا أخبرتهم أنهم كانوا يَتَسَمّون (1) بالأنبياء والصالحين قبلهم
؟".
انفرد بإخراجه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث عبد الله بن إدريس ، عن أبيه
، عن سماك ، به (2) ، وقال الترمذي : حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن
إدريس.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن سعيد بن أبي صدقة ، عن
محمد بن سيرين قال نُبِّئت أن كعبًا قال : إن قوله : { يَا أُخْتَ هَارُونَ } :
ليس بهارون أخي موسى. قال : فقالت له عائشة : كذبت ، قال (3) يا أم المؤمنين ، إن
كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، فهو أعلم وأخبر ، وإلا فإني أجد بينهما
ستمائة سنة. قال : فسكتت (4) وفي هذا التاريخ نظر.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : {
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ
بَغِيًّا } قال : كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ، ولا يعرفون بالفساد ، [ومن
الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به ، وآخرون يعرفون بالفساد] (5) ويتوالدون به.
وكان هارون مصلحًا محببًا ، في عشيرته ، وليس بهارون أخي (6) موسى ، ولكنه هارون
آخر ، قال : وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفًا ، كلهم يسمى هارون ، من
بني إسرائيل.
وقوله : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي
الْمَهْدِ صَبِيًّا } أي : إنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها (7) ،
وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرْية ، وقد كانت يومها ذلك صائمة ،
صامتة فأحالت الكلام عليه ، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه ، فقالوا متهكمين بها ،
ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم : { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ
صَبِيًّا } ؟
قال ميمون بن مِهْران : { فَأَشَارَتْ [إِلَيْهِ] } (8) ، قالت : كلموه. فقالوا :
على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم من كان في المهد صبيا!
وقال السدي : لما أشارت إليه غضبوا ، وقالوا : لَسُخْريَتُها (9) بنا حين تأمرنا
أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها.
{ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا } أي : من هو موجود
في مهده في حال صباه وصغره ، كيف يتكلم ؟ قال : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } أول شيء
تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى (10) وبرأ الله عن الولد ، وأثبت لنفسه العبودية
لربه.
وقوله : { آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } : تبرئة لأمه مما نسبت إليه
من الفاحشة.
__________
(1) في ف ، أ : "يسمون".
(2) المسند (4/252) وصحيح مسلم برقم (2135) وسنن الترمذي برقم (3155) وسنن النسائي
الكبرى برقم (11315).
(3) في ف ، أ : "فقال".
(4) تفسير الطبري (16/58).
(5) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(6) في أ : "وليس أخي بهارون".
(7) في ف ، أ : "قصتها".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في أ : "لسخرتها".
(10) في ف ، أ : "عز وجل".
(5/228)
قال
نوف البكالي : لما قالوا لأمه ما قالوا ، كان يرتضع ثديه ، فنزع الثدي من فمه ،
واتكأ على جنبه الأيسر ، وقال : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ
وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } إلى قوله : { مَا دُمْتُ حَيًّا }
وقال حماد بن سلمة ، عن ثابت البُنَاني : رفع إصبعه السبابة فوق منكبه ، وهو يقول
: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } الآية.
وقال عكرمة : { آتَانِيَ الْكِتَابَ } أي : قضى أنه (1) يؤتيني الكتاب فيما قضى.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا يحيى بن سعيد (2)
عن عبد العزيز بن زياد ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : كان عيسى ابن مريم
قد درس الإنجيل وأحكمه (3) في بطن أمه فذلك قوله : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ
آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا }.
يحيى بن سعيد العطار الحمصي : متروك.
وقوله : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ } قال مجاهد ، وعمرو بن قيس ،
والثوري : وجعلني معلمًا للخير. وفي رواية عن مجاهد : نَفَّاعًا.
وقال ابن جرير : حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا محمد بن يزيد (4) بن خُنَيْس
المخزومي ، سمعت وُهَيْب بن الورد مولى بني مخزوم قال : لقي عالم عالمًا هو فوقه
في العلم ، فقال له : يرحمك الله ، ما الذي أعلن من عملي ؟ قال : الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ؛ فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده ، وقد أجمع
الفقهاء على قول الله : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ } ، وقيل : ما
بركته ؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أينما كان.
وقوله : { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } كقوله تعالى
لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [
الحجر : 99].
وقال عبد الرحمن بن القاسم ، عن مالك بن أنس في قوله : { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ
وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } قال : أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت
(5) ، ما أثبتها لأهل القدر.
وقوله : { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي } أي : وأمرني ببر والدتي ، ذكره بعد طاعة الله
ربه ؛ لأن الله تعالى كثيرًا ما يقرن (6) بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين ، كما
قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا } [ الإسراء : 23 ] وقال { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ
الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ].
وقوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } أي : ولم يجعلني جبارًا
مستكبرًا عن عبادته وطاعته وبر والدتي ، فأشقى بذلك.
قال سفيان الثوري : الجبار الشقي : الذي يقبل (7) على الغضب.
__________
(1) في ف ، أ : "أن".
(2) في أ : "يحيى بن سعيد العطار".
(3) في أ : "وأحكمها".
(4) في أ : "زيد".
(5) في أ : "أمره حتى يموت".
(6) في أ : "قرن كثيرا".
(7) في ف : "يقتل".
(5/229)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
وقال
بعض السلف : لا تجد أحدًا عاقًّا لوالديه إلا وجدته جبارًا شقيًّا ، ثم قرأ : {
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } ، قال : ولا تجد
سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورًا ، ثم قرأ : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } [ النساء : 36 ]
وقال قتادة : ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ،
في آيات سلطه الله عليهن ، وأذن له فيهن ، فقالت : طوبى للبطن الذي حملك وللثدي
الذي أرضعت به ، فقال نبي الله عيسى ، عليه السلام ، يجيبها : طوبى لمن تلا كلام
(1) الله ، فاتبع ما فيه ولم يكن جبارًا شقيًّا.
وقوله : { وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ
أُبْعَثُ حَيًّا } : إثبات منه لعبوديته لله عز وجل ، وأنه مخلوق من خلق الله يحيا
(2) ويموت ويبعث كسائر الخلائق ، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما
يكون على العباد ، [صلوات الله وسلامه عليه] (3)
{ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) }.
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : عليه ذلك الذي قصصنا (4) عليك من خبر
عيسى ، { قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي : يختلف المبطلون
والمحقون ممن آمن به وكفر به ؛ ولهذا قرأ الأكثرون : "قول الحق" برفع
قول. وقرأ عاصم ، وعبد الله بن عامر : { قَوْلَ الْحَقِّ }.
وعن ابن مسعود أنه قرأ : "ذلك عيسى ابن مريم قَالُ الحق" ، والرفع أظهر
إعرابًا ، ويشهد له قوله تعالى : { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
} [ آل عمران : 59 ، 60 ].
ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبدًا نبيًّا ، نزه نفسه المقدسة فقال : { مَا كَانَ
لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ } أي : عما يقول هؤلاء الجاهلون
الظالمون المعتدون علوًّا كبيرًا ، { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ } أي : إذا أراد شيئًا فإنما يأمر به ، فيصير (5) كما يشاء ، كما
قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ } [ آل عمران : 59 ، 60 ]
وقوله : { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ } أي : ومما (6) أمر عيسى به (7) قومه وهو في مهده ، أن أخبرهم إذ ذاك
أن الله ربهم وربه (8) ، وأمرهم بعبادته ، فقال : { فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ }
__________
(1) في أ : "كتاب".
(2) في أ : "يحيي ويميت".
(3) زيادة من أ.
(4) في ف : "قصصناه".
(5) في ت : "فتصير".
(6) في ت : "ربما".
(7) في ت ، ف ، أ : "به عيسى".
(8) في ت ، ف : "ربه وربهم".
(5/230)
أي :
هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم ، أي : قويم ، من اتبعه رشد وهدي ، ومن
خالفه ضل وغوى.
وقوله : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } أي : اختلفت (1) أقوال أهل
الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله ، وأنه عبده (2) ورسوله وكلمته ألقاها
إلى مريم وروح منه ، فصَمَّمَت طائفة - وهم جمهور اليهود ، عليهم لعائن الله - على
أنه ولد زنْيَة ، وقالوا : كلامه هذا سحر. وقالت طائفة أخرى : إنما تكلم (3) الله.
وقال آخرون : هو ابن الله ، وقال آخرون : ثالث ثلاثة. وقال آخرون : بل هو عبد الله
ورسوله. وهذا هو قول الحق ، الذي أرشد الله إليه (4) المؤمنين. وقد روي [نحو هذا]
(5) عن عمرو بن ميمون ، وابن جريج ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والخلف.
قال عبد الرزاق : أخبرنا (6) مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ } ، قال : اجتمع بنو إسرائيل
فأخرجوا منهم أربعة نفر ، أخرج كل قوم عالمهم ، فامتروا (7) في عيسى حين رفع ،
فقال أحدهم : هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا ، وأمات من أمات ، ثم صعد إلى
السماء - وهم اليعقوبية. فقال الثلاثة : كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث : قل (8)
أنت فيه ، قال : هو ابن الله - وهم النسطورية. فقال الاثنان : كذبت. ثم قال أحد
الاثنين للآخر : قل فيه. قال : هو ثالث ثلاثة : الله إله ، وهو إله ، وأمه إله -
وهم الإسرائيلية ملوك (9) النصارى ، عليهم لعائن الله. قال الرابع : كذبت ، بل هو
عبد الله ورسوله وروحه ، وكلمته ، وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما
قالوا ، فاقتتلوا فظُهِرَ على المسلمين ، وذلك قول الله تعالى : { وَيَقْتُلُونَ
الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ } [ آل عمران : 21 ] وقال (10)
قتادة : وهم الذين قال الله : { فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } قال :
اختلفوا فيه فصاروا أحزابًا (11)
وقد روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، وعن عروة بن الزبير ، وعن بعض أهل العلم ،
قريبًا من ذلك. وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم : أن
قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم ، فكان جماعة
الأساقفة (12) منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفًا ، فاختلفوا في عيسى ابن مريم ، عليه
السلام ، اختلافًا متباينًا ، فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه قولا (13)
وسبعون تقول (14) فيه قولا آخر ، وخمسون تقول (15) فيه شيئًا آخر ، ومائة وستون
تقول شيئًا ، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلاثمائة وثمانية منهم ، اتفقوا
على قول وصَمَّموا عليه (16) ومال (17) إليهم الملك ، وكان فيلسوفًا ، فقدمهم
ونصرهم وطرد من عداهم ، فوضعوا له الأمانة الكبيرة ، بل هي الخيانة العظيمة ،
ووضعوا له كتب القوانين ، وشرَّعوا له أشياء (18)
__________
(1) في أ : "اختلف".
(2) في ت : "عبد الله".
(3) في ف ، أ : "يكلم".
(4) في ت : "فيه".
(5) زيادة من أ.
(6) في ت : "حدثنا".
(7) في أ : "فامتتروا".
(8) في أ : "قلت".
(9) في ت : "ملك".
(10) في ت ، ف ، أ : "قال".
(11) تفسير عبد الرزاق (2/9).
(12) في ت : "الأساومة".
(13) في أ : "شيئا".
(14) في ف ، أ : "يقولون".
(15) في ف ، أ : "يقولون".
(16) في ت : "عليهم".
(17) في ف ، أ : "فمال".
(18) في أ : "شيئا".
(5/231)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
وابتدعوا
بدعًا كثيرة ، وحَرَّفوا دين المسيح ، وغيروه ، فابتنى حينئذ لهم (1) الكنائس
الكبار في مملكته كلها : بلاد الشام ، والجزيرة ، والروم ، فكان مبلغ الكنائس في
أيامه ما يقارب اثنتي عشرة (2) ألف كنيسة ، وبنت أمه هيلانة قُمَامة على المكان الذي
صلب فيه المصلوب (3) الذي تزعم اليهود والنصارى أنه المسيح ، وقد كذبوا ، بل رفعه
الله إلى السماء.
وقوله : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } تهديد
ووعيد شديد لمن كذب على الله ، وافترى ، وزعم أن له ولدا. ولكن أنظرهم تعالى إلى
يوم القيامة وأجلهم حلمًا وثقة بقدرته عليهم ؛ فإنه الذي لا يعجل على من عصاه ،
كما جاء في الصحيحين : "إن الله ليملي (4) للظالم حتى إذا أخذه لم
يفلته" ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ
إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود :
102 ] وفي الصحيحين أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا أحد
أصبر على أذى سمعه (5) من الله ، إنهم يجعلون له ولدا ، وهو يرزقهم ويعافيهم"
(6). وقد قال الله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ
ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ الحج : 48 ] وقال تعالى : {
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] ولهذا قال
هاهنا : { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : يوم
القيامة ، وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته ، عن عبادة بن الصامت ، رضي
الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من شهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله [ورسوله] (7)
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله الجنة
على ما كان من العمل" (8)
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ
فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) }
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "فابتنى لهم حينئذ".
(2) في أ : "اثنى عشر" ، وهو خطأ والصواب ما بالأصل.
(3) في ت : "المصلون".
(4) في ت : "إنه ليملي".
(5) في ت : "يسمعه".
(6) صحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804).
(7) زيادة من ف ، أ ، والبخاري ومسلم.
(8) صحيح البخاري برقم (3435) وصحيح مسلم برقم (29).
(5/232)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
{
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ
وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا
وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) }.
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار [يوم القيامة] (1) أنهم أسْمَعُ شيء وأبْصَرُه كما
قال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا
إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] أي : يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي (2)
عنهم شيئًا ، ولو كان هذا قبل معاينة العذاب ، لكان نافعًا لهم ومنقذًا من عذاب
الله ، ولهذا قال : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } (3) أي : ما أسمعهم وأبصرهم {
يَوْمَ يَأْتُونَنَا } يعني : يوم القيامة { لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ } أي
: في الدنيا { فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون ، فحيث
يطلب منهم الهدى لا يهتدون ، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك.
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ت : "يجزي".
(3) في أ : "به".
(5/232)
ثم
قال تعالى : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ } أي : أنذر الخلائق يوم الحسرة
، { إِذْ قُضِيَ الأمْرُ } أي : فصل بين أهل الجنة وأهل النار ، ودَخل كل إلى ما
صار إليه مخلدًا فيه ، { وَهُمْ } أي : اليوم { فِي غَفْلَةٍ } عما أنذروا به {
وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يُصَدقون به.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد
[الخدري] (1) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا دخل أهل الجنة
الجنة ، وأهل النار النار ، يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ،
فيقال : يا أهل الجنة ، هل تعرفون هذا ؟ قال : "فيشرئبون [فينظرون] (2)
ويقولون : نعم هذا الموت". قال : "فيقال : يا أهل النار ، هل تعرفون هذا
؟ قال : فيشرئبون فينظرون ويقولون : نعم ، هذا الموت" قال : "فيؤمر به
(3) فيذبح" قال : "ويقال : يا أهل الجنة ، خلود ولا موت ، ويا أهل النار
خلود ولا موت" قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } وأشار بيده (4) قال
: "أهل الدنيا في غفلة الدنيا".
هكذا رواه الإمام أحمد وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما ، من حديث الأعمش ، به
(5). ولفظهما قريب من ذلك. وقد روى هذا الحديث الحسن بن عرفة : حدثني أسباط بن محمد
، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعًا ، مثله. وفي سنن ابن ماجه وغيره
، من حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة بنحوه (6) وهو في الصحيحين
عن ابن عمر (7). ورواه ابن جُرَيْج قال : قال ابن عباس : فذكر من قبله نحوه (8).
ورواه أيضًا عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير يقول في قصصه : يؤتى بالموت كأنه دابة ،
فيذبح والناس ينظرون (9) وقال سفيان الثوري ، عن سلمة بن كُهَيل ، حدثنا أبو
الزعراء ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - في قصة ذكرها ، قال : فليس نفس إلا وهي
تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار ، وهو يوم الحسرة. [فيرى أهل النار البيت
الذي الذي كان قد أعده الله لهم لو آمنوا ، فيقال لهم : لو آمنتم وعملتم صالحا ،
كان لكم هذا الذي ترونه في الجنة ، فتأخذهم الحسرة] (10) قال : ويرى أهل الجنة
البيت الذي في النار ، فيقال : لولا أن مَنَّ الله عليكم... (11)
وقال السدي ، عن زياد ، عن زِرِّ بن حُبَيْش ، عن ابن مسعود في قوله : {
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأمْرُ } قال : إذا دخل أهل الجنة
الجنة ، وأهل النار النار ، أتي بالموت في صورة كبش أملح ، حتى يوقف بين الجنة
والنار ، ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة ، هذا الموت الذي كان يُميتُ الناس في
الدنيا ، فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه ، ثم
ينادى : يا أهل
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) في ت : "فيؤتى بهم".
(4) المسند (3/9).
(5) صحيح البخاري برقم (4730) وصحيح مسلم برقم (2849).
(6) سنن ابن ماجه برقم (4327).
(7) صحيح البخاري برقم (6548) وصحيح مسلم برقم (2850).
(8) أخرجه الطبري في تفسيره (16/66).
(9) أخرجه الطبري في تفسيره (16/67).
(10) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(11) رواه الطبري في تفسيره (16/66).
(5/233)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
النار
، هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا ، فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في
أسفل درك من جهنم ، إلا نظر إليه ، ثم يذبح بين الجنة والنار ، ثم ينادى : يا أهل
الجنة ، هو الخلود أبد الآبدين ، ويا أهل النار ، هو الخلود أبد الآبدين ، فيفرح
أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتًا من فرح ماتوا ، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد
ميتًا من شهقة ماتوا فذلك قوله : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ
الأمْرُ } يقول : إذا ذبح الموت. رواه ابن أبي حاتم في تفسيره.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ
الْحَسْرَةِ } من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ }
قال : يوم القيامة ، وقرأ : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } [ الزمر : 56 ]
وقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ
} يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف ، وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو ، تعالى
وتقدس ولا أحد يَدّعي مُلْكا ولا تصرفًا ، بل هو الوارث لجميع خلقه ، الباقي بعدهم
، الحاكم فيهم ، فلا تظلم نفس شيئًا ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة.
قال ابن أبي حاتم : ذكر هدبة بن خالد القيسي : حدثنا حزم بن أبي حزم القُطَعي قال
: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن صاحب الكوفة : أما بعد ،
فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت ، فجعل مصيرهم إليه ، وقال فيما أنزل من
كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه ، وأشهد ملائكته على خلقه : أنه يرث الأرض ومن عليها
، وإليه يرجعون.
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا
يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا
لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لا
تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا
أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ
لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) }.
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم (1) : واذكر في الكتاب إبراهيم واتلُه
على قومك ، هؤلاء الذين يعبدون الأصنام ، واذكر لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل
الرحمن الذين (2) هم من ذريته ، ويدعون أنهم على ملته ، وهو (3) كان صديقًا نبيًّا
- مع أبيه - كيف نهاه عن عبادة الأصنام فقال ، { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا
يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } أي : لا ينفعك ولا يدفع عنك
ضررًا.
{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ } : يقول :
فإن كنت من صلبك وترى أني أصغر منك ، لأني ولدك ، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من
الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعد ، { فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ
صِرَاطًا سَوِيًّا } أي : طريقًا مستقيمًا موصلا إلى نيل المطلوب ، والنجاة من
المرهوب.
__________
(1) في ف : "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في ف ، ت : "الذي".
(3) في : "وقد".
(5/234)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
{
يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ } أي : لا تطعه (1) في عبادتك هذه الأصنام ،
فإنه هو الداعي إلى ذلك ، والراضي به ، كما قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ
إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ } [ يس : 60 ] وقال :
{ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا
مَرِيدًا } [ النساء : 117 ]
وقوله : { إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا } أي : مخالفًا
مستكبرًا عن طاعة ربه ، فطرده وأبعده ، فلا تتبعه تصر مثله.
{ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ } أي : على
شركك وعصيانك لما آمرك به ، { فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا } (2) يعني : فلا
يكون لك مولى ولا ناصرًا ولا مغيثًا إلا إبليس ، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر
شيء ، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك ، كما قال تعالى : { تَاللَّهِ لَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل :
63 ].
{ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ
لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ
لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي
شَقِيًّا (48) }.
يقول تعالى مخبرًا عن جواب أبي إبراهيم [لولده إبراهيم] (3) فيما دعاه إليه أنه
قال : { أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ } يعني : [إن كنت لا]
(4) تريد عبادتها ولا ترضاها ، فانته عن سبها وشتمها وعيبها ، فإنك إن لم تنته عن
ذلك اقتصصتُ منك وشتمتك وسببتك ، وهو (5) قوله : { لأرْجُمَنَّكَ } ، قاله ابن
عباس ، والسدي ، وابن جريج ، والضحاك ، وغيرهم.
وقوله : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } : قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد
بن إسحاق : يعني دهرًا.
وقال الحسن البصري : زمانًا طويلا. وقال السدي : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } قال :
أبدًا.
وقال علي بن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس : { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } قال :
سويًّا سالمًا ، قبل أن تصيبك مني عقوبة. وكذا قال الضحاك ، وقتادة وعطية الجَدَلي
و[أبو] (6) مالك ، وغيرهم ، واختاره ابن جرير.
فعندها قال إبراهيم لأبيه : { سَلامٌ عَلَيْكَ } كما قال تعالى في صفة المؤمنين :
{ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا } [ الفرقان : 63 ] وقال
تعالى : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا
أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي
الْجَاهِلِينَ } [ القصص : 55].
__________
(1) في أ : "لا تطيعه" وهو خطأ ، والصواب ما بالأصل.
(2) في ت : "فيكون".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ ، وفي هـ : "أما".
(5) في أ : "وهي".
(6) زيادة من ف ، أ.
(5/235)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
ومعنى
قول إبراهيم لأبيه : { سَلامٌ عَلَيْكَ } يعني : أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا
أذى ، وذلك لحرمة الأبوة ، { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } أي : ولكن سأسال الله
تعالى فيك أن يهديك ويغفر ذنبك ، { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } قال ابن عباس
وغيره : لطيفًا ، أي : في أن هداني لعبادته والإخلاص له. وقال مجاهد وقتادة ،
وغيرهما : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا } قال (1) : [و] (2) عَوّدَه الإجابة.
وقال السدي : "الحفي" : الذي يَهْتَم بأمره.
وقد استغفر إبراهيم لأبيه مدة طويلة ، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام
، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق ، عليهما السلام ، في قوله : { رَبَّنَا (3)
اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } [
إبراهيم : 41 ].
وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام ، وذلك
اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ
لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } الآية [
الممتحنة : 4 ] ، يعني إلا في هذا القول ، فلا (4) تتأسوا به. ثم بين تعالى أن
إبراهيم أقلع عن ذلك ، ورجع عنه ، فقال (5) تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي
قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [
التوبة : 113 ، 114 ].
وقوله : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي
} أي : أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها [من دون الله] (6) ، {
وَأَدْعُو رَبِّي } أي : وأعبد ربي وحده لا شريك له ، { عَسَى أَلا أَكُونَ
بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا } و "عسى" هذه موجبة لا محالة ، فإنه عليه
السلام ، سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه سلم.
{ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ
رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) }.
يقول : فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله ، أبدله الله من هو خير منهم ، ووهب
له إسحاق ويعقوب ، يعني ابنه وابن إسحاق ، كما قال في الآية الأخرى : {
وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] ، وقال : { وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ
يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ].
ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب ، وهو نص القرآن في سورة البقرة : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ
إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ
بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ]. ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوب ، أي : جعلنا
له نسلا وعقبا أنبياء ، أقر الله بهم
__________
(1) في أ : "قالوا".
(2) زيادة من ت.
(3) في ت ، ف ، أ : "رب".
(4) في ت : "ولا".
(5) في ت : "وقال".
(6) زيادة من ف ، أ.
(5/236)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
عينه
في حياته ؛ ولهذا قال : { وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } ، فلو لم يكن يعقوب قد نُبئ
في حياة إبراهيم ، لما اقتصر عليه ، ولذكر ولده يوسف ، فإنه نبي أيضًا كما قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته ، حين سئل عن خير الناس ،
فقال : "يوسف نبي الله ، ابن يعقوب نبي الله ، ابن إسحاق نبي الله ، ابن
إبراهيم خليل الله" (1) وفي اللفظ الآخر : "إن الكريم ابن الكريم ابن
الكريم ابن الكريم : يوسفُ بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" (2)
وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ
عَلِيًّا } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني الثناء الحسن. وكذا قال
السدي ، ومالك بن أنس.
وقال ابن جرير : إنما قال : { عَلِيًّا } ؛ لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم
ويمدحونهم ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا
نَبِيًّا (51) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3374) وصحيح مسلم برقم (2378).
(2) صحيح البخاري برقم (4688).
(5/237)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
{
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) }.
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه ، عطف بذكر الكليم ، فقال : { وَاذْكُرْ
فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا } قرأ بعضهم بكسر اللام ، من
الإخلاص في العبادة.
قال الثوري (1) ، عن عبد العزيز بن رُفَيع (2) ، عن أبي لبابة (3) قال : قال
الحواريون : يا روح الله ، أخبرنا عن المخلص لله. قال : الذي يعمل لله ، لا يحب أن
يحمده الناس.
وقرأ الآخرون (4) بفتحها ، بمعنى أنه كان مصطفى ، كما قال تعالى : { إِنِّي
اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ } [ الأعراف : 144 ].
{ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا } ، جُمِع له بين الوصفين ، فإنه كان من المرسلين
الكبار أولي (5) العزم الخمسة ، وهم : نوح وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ،
صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين.
وقوله : { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ } أي : الجبل { الأيْمَنِ } أي :
من جانبه الأيمن من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة ، رآها تلوح فقصدها ،
فوجدها في جانب الطور الأيمن منه (6) ، عند شاطئ الوادي. فكلمه الله تعالى ، ناداه
وقربه وناجاه (7). قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار (8) ، حدثنا يحيى - هو القطان -
حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب (9) ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : {
وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } قال : أدني حتى سمع (10) صريف القلم.
__________
(1) في أ : "قال العوفي".
(2) في ت : "نفيع".
(3) في ت : "تمامة".
(4) في أ : "قرأ آخرون".
(5) في ت : "وأولي".
(6) في ت ، ف ، أ : "منه غربية".
(7) في ت : "ناداه أو قربه فناجاه".
(8) في ت : "ابن يسار".
(9) في ت : "ابن يساري" ، وفي أ : "ابن يسار".
(10) في ت : "يسمع".
(5/237)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
وهكذا
قال مجاهد ، وأبو العالية ، وغيرهم. يعنون صريف القلم بكتابة التوراة.
وقال السدي : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } قال : أدخل في السماء فكلم ، وعن مجاهد
نحوه.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } قال : نجا
بصدقه (1)
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الجبار بن عاصم ، حدثنا محمد بن سلمة الحراني ، عن
أبي الوصل ، عن شهر بن حَوْشَب ، عن عمرو بن معد يكرب قال : لما قرب الله موسى
نجيًا بطور سيناء ، قال : يا موسى ، إذا خلقت لك قلبًا شاكرًا ، ولسانًا ذاكرًا ،
وزوجة تعين على الخير ، فلم أخزن عنك من الخير شيئًا ، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح
له من الخير شيئًا.
وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا } أي :
وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه ، فجعلناه نبيًّا ، كما قال في الآية الأخرى : {
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا
يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ } [ القصص : 34 ] ، وقال (2) : {
قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } [ طه : 36 ] ، وقال : { فَأَرْسِلْ إِلَى
هَارُونَ. وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ } [ الشعراء : 13 ،
14 ] ؛ ولهذا قال بعض السلف : ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة
موسى في هارون أن يكون نبيًّا ، قال الله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ
رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا }.
قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن داود ، عن عكرمة قال : قال
ابن عباس : قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا
} ، قال : كان هارون أكبر من موسى ، ولكن أراد : وهب له نبوته.
وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقًا ، عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي ، به.
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ
رَسُولا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ
وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) }.
هذا (3) ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل ، عليهما السلام ، وهو
والد عرب الحجاز كلهم بأنه { كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ }
قال (4) ابن جريج : لم يَعدْ ربه عدة إلا أنجزها ، يعني : ما التزم قط عبادة (5)
بنذر إلا قام بها ، ووفاها حقها.
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن سهل بن
عقيل حدثه ، أن إسماعيل النبي ، عليه السلام ، وعد رجلا مكانًا أن يأتيه ، فجاء
ونسي الرجل ، فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد ، فقال : ما برحت من
هاهنا ؟ قال : لا. قال : إني نسيت. قال : لم أكن لأبرح حتى تأتيني. فلذلك { كَانَ
صَادِقَ الْوَعْدِ }.
__________
(1) في ت : "لصدقه".
(2) في ت ، ف : "إلى أن قال".
(3) في أ : "وهذا".
(4) في ت : "قالت".
(5) في ف ، أ : "عبادة قط".
(5/238)
وقال
سفيان الثوري : بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولا حتى جاءه.
وقال ابن (1) شَوْذَب : بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع سكنًا.
وقد روى أبو داود في سننه ، وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه "مكارم
الأخلاق" من طريق إبراهيم بن طَهْمَان ، عن عبد الله (2) بن مَيْسَرة ، عن
عبد الكريم - يعني : ابن عبد الله بن شَقيق - عن أبيه ، عن عبد الله بن أبي
الحمساء قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فبقيت له عليّ بقية
، فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك ، قال : فنسيت (3) يومي والغد ، فأتيته في
اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك ، فقال لي : "يا فتى ، لقد شققت (4) علي ، أنا
هاهنا منذ ثلاث أنتظرك" لفظ الخرائطي (5) ، وساق آثارًا حسنة في ذلك.
ورواه ابن مَنْده أبو عبد الله في كتاب "معرفة الصحابة" ، بإسناده (6)
عن إبراهيم بن طَهْمَان ، عن بُدَيْل بن ميسرة ، عن عبد الكريم ، به (7).
وقال بعضهم : إنما قيل له : { صَادِقَ الْوَعْدِ } ؛ لأنه قال لأبيه : {
سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } [ الصافات : 102 ] ، فصدق في
ذلك.
فصدق الوعد من الصفات الحميدة ، كما أن خُلْفَه من الصفات الذميمة ، قال الله
تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ،
3 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ،
وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان" (8)
ولما كانت هذه صفات المنافقين ، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين ، ولهذا أثنى
الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم صادق الوعد أيضًا ، لا يعد أحدًا شيئًا إلا وفّى له به ، وقد أثنى على أبي
العاص بن الربيع زوج ابنته زينب ، فقال : "حدثني فصدقني ، ووعدني فوفى
لي" (9). ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق :
من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدَةٌ أو دَيْن فليأتني أنجز له ،
فجاءه (10) جابر بن عبد الله ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قال :
"لو جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا" ، يعني : ملء كفيه ، فلما
جاء مال البحرين أمر الصديق جابرًا ، فغرف بيديه من المال ، ثم أمره بِعَدّه ،
فإذا هو خمسمائة درهم ، فأعطاه مثليها معها (11)
وقوله : { وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا } في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه
إسحاق ؛ لأنه إنما
__________
(1) في ت : "أبو".
(2) في سنن أبي داود : "بديل".
(3) في ت : "نسيت".
(4) في ت : "لو أشفقت".
(5) سنن أبي داود برقم (4996) ومكارم الأخلاق برقم (177).
(6) في ت ، أ : "إنه بإسناده".
(7) ورواه ابن الأثير في أسد الغابة (3/113) بإسناده إلى إبراهيم بن طهمان عن بديل
بن ميسرة مثله.
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (33) ومسلم في صحيحه برقم (59) من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه.
(9) رواه البخاري في صحيحه برقم (3729) ومسلم في صحيحه برقم (2449) من حديث المسور
بن مخرمة رضي الله عنه.
(10) في أ : "فجاء".
(11) رواه البخاري في صحيحه برقم (2683) ومسلم في صحيحه برقم (2314).
(5/239)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
وصف
(1) بالنبوة فقط ، وإسماعيل وصف (2) بالنبوة والرسالة. وقد ثبت في صحيح مسلم (3)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم
إسماعيل..." وذكر تمام الحديث ، فدل على صحة ما قلناه.
وقوله : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ
رَبِّهِ مَرْضِيًّا } : هذا أيضًا من الثناء الجميل ، والصفة الحميدة ، والخلة
السديدة (4) ، حيث كان مثابرًا على طاعة ربه آمرًا بها لأهله (5) ، كما قال تعالى
لرسوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ
رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [ طه : 132 ] ، وقال
تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ } الآية
[ التحريم : 6 ] أي : مروهم بالمعروف ، وانهوهم عن المنكر ، ولا تدعوهم هملا
فتأكلهم النار يوم القيامة ، وقد جاء في الحديث ، عن أبي هريرة قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "رحم الله رجلا قام من الليل فصلى ، وأيقظ امرأته
، فإن أبت نَضَح في وجهها الماء ، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ، وأيقظت
زوجها ، فإن أبى نضحت (6) في وجهه الماء" أخرجه أبو داود ، وابن ماجه (7).
وعن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته ، فصليا ركعتين ، كتبا من الذاكرين
الله كثيرًا والذاكرات". رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، واللفظ له
(8).
{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) }.
وهذا (9) ذكر إدريس ، عليه السلام ، بالثناء عليه ، بأنه (10) كان صديقًا نبيًّا ،
وأن الله رفعه مكانًا عليًّا. وقد تقدم في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم مر به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة.
وقد روى ابن جرير هاهنا أثرًا غريبًا عجيبًا ، فقال : حدثني يونس بن عبد الأعلى ،
أنبأنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم ، عن سليمان الأعمش ، عن شَمِر بن عطية ، عن
هلال بن يساف قال : سأل ابن عباس كعبًا ، وأنا حاضر ، فقال له : ما قول الله - عز
وجل - لإدريس : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } فقال كعب : أما إدريس فإن
الله أوحى إليه أني أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم ، فأحب أن يزداد عملا
(11) فأتاه خليل له من الملائكة فقال : إن الله أوحى إليّ كذا وكذا ، فكلم لي (12)
ملك الموت ، فَلْيؤخرني حتى أزداد عملا فحمله بين جناحيه ، حتى صعد به إلى السماء
، فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم مَلَك الموت منحدرًا ، فكلم ملك الموت في
الذي كلمه فيه إدريس ، فقال : وأين إدريس ؟ فقال : هو ذا على ظهري. قال ملك الموت
: فالعجب! بعثت وقيل لي : اقبض روح إدريس
__________
(1) في ف : "وصفه".
(2) في ف : "وصفه".
(3) لفظه عند مسلم في صحيحه برقم (2276) : "إن الله اصطفى كنانة من ولد
إسماعيل ، واصطفى من كنانة قريشا" ، والله أعلم.
(4) في ت : "الشديدة".
(5) في ف : "أهله".
(6) في ت : "فنضحت".
(7) سنن أبي داود برقم (1450) وسنن ابن ماجه برقم (1336).
(8) سنن أبي داود برقم (1451) وسنن النسائي الكبرى برقم (11406) وسنن ابن ماجه
برقم (1335).
(9) في ت : "وهكذا".
(10) في أ : "فإنه".
(11) في ف ، أ : "تزداد علما".
(12) في ت : "له".
(5/240)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
في
السماء الرابعة". فجعلت أقول : كيف (1) أقبض روحه في السماء الرابعة ، وهو في
الأرض ؟ فقبض روحه هناك ، فذلك (2) قول الله : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا
} (3).
هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات ، وفي بعضه نكارة ، والله أعلم.
وقد رواه (4) ابن أبي حاتم من وجه آخر ، عن ابن عباس : أنه سأل كعبًا ، فذكر نحو
ما تقدم ، غير أنه قال لذلك الملك : هل لك أن تسأله - يعني : ملك الموت - كم بقي
من أجلي لكي أزداد من العمل وذكر باقيه (5) ، وفيه : أنه لما سأله عما بقي من أجله
، قال (6) : لا أدري حتى أنظر ، ثم نظر ، قال : إنك تسألني (7) عن رجل ما بقي من
عمره إلا طرفة عين ، فنظر الملك (8) تحت جناحه إلى إدريس ، فإذا (9) هو قد قبض ،
عليه السلام ، وهو لا يشعر به.
ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس : أن إدريس كان خياطًا ، فكان (10) لا يغرز إبرة
إلا قال : "سبحان الله" ، فكان يمسي حين يمسي (11) وليس في الأرض أحد
أفضل عملا منه. وذكر بقيته كالذي قبله ، أو نحوه.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا }
قال : إدريس رفع ولم يمت ، كما رفع عيسى.
وقال سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } قال :
[رفع إلى] (12) السماء الرابعة.
وقال العوفي عن ابن عباس : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } قال : رفع إلى
السماء السادسة فمات بها. وهكذا قال الضحاك بن مُزَاحم.
وقال الحسن ، وغيره ، في قوله : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا } قال : الجنة.
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ
ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) }
يقول تعالى هؤلاء النبيون - وليس المراد [هؤلاء] (13) المذكورين في هذه السورة فقط
، بل جنس الأنبياء عليهم السلام ، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس - { الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ } الآية.
__________
(1) في ف : "فكيف".
(2) في ف : "فهذا".
(3) تفسير الطبري (16/72).
(4) في أ : "وقد روى".
(5) في أ : "وذكر ما فيه".
(6) في ف ، أ : "فقال".
(7) في ف ، أ : "لتسألني".
(8) في أ : "ملك الموت".
(9) في ت : "قال".
(10) في ف : "وكان".
(11) في أ : "وكان يمشي حين يمشي".
(12) زيادة من ف ، أ.
(13) زيادة من ف ، أ.
(5/241)
قال
السدي وابن جرير ، رحمه الله : [فالذي عنى به من ذرية آدم : إدريس ، والذي عنى به
من ذرية من حملنا مع نوح : إبراهيم] (1) والذي عنى به من ذرية إبراهيم : إسحاق
ويعقوب وإسماعيل ، والذي عنى به من ذرية إسرائيل : موسى ، وهارون ، وزكريا ويحيى
وعيسى ابن مريم.
قال ابن جرير : ولذلك (2) فرّق أنسابهم ، وإن كان يجمع جميعهم آدم ؛ لأن فيهم من
ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة ، وهو إدريس ، فإنه جد نوح.
قلت : هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح ، عليهما السلام. وقد قيل : إنه من
أنبياء بني إسرائيل ، أخذًا من حديث الإسراء ، حيث قال في سلامه على النبي صلى
الله عليه وسلم : "مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح" ، ولم يقل :
"والولد الصالح" ، كما قال آدم وإبراهيم (3) ، عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني ابن لَهِيعة ، عن يزيد
بن أبي حبيب ، عن عبد الله بن محمد (4) أن إدريس أقدم من نوح بعثه الله إلى قومه ،
فأمرهم أن يقولوا : "لا إله إلا الله" ، ويعملوا (5) ما شاءوا فأبوا ،
فأهلكهم الله عز وجل.
[ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنسُ الأنبياء ، أنها كقوله تعالى في سورة
الأنعام : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ
نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ] (6) إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ
قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ
كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا
فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ
وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
إلى أن قال : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ
لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } [
الأنعام 83 - 90 ] وقال تعالى : { مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ
مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ (7) } [ غافر : 78 ]. وفي صحيح البخاري ، عن مجاهد :
أنه سأل ابن عباس : أفي "ص" سجدة ؟ قال (8) نعم ، ثم تلا هذه الآية : {
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } ، فنبيكم ممن أُمِر
أن يقتدي بهم ، قال : وهو منهم ، يعني داود (9).
وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ
الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } أي : إذا سمعوا كلام الله المتضمن
حُجَجه ودلائله وبراهينه ، سجدوا لربهم خضوعًا واستكانة ، وحمدًا وشكرًا على ما هم
فيه من النعم العظيمة.
"والبُكِيّ" : جمع باك ، فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا ،
اقتداء بهم ، واتباعًا لمنوالهم (10)
قال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي مَعْمَر قال : قرأ عمر بن
الخطاب ، رضي
__________
(1) زيادة من ت.
(2) في أ : "وكذلك".
(3) في ت : "إبراهيم وآدم".
(4) في ف ، أ : "بن عمر".
(5) في ف ، أ : "ويعملون" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(6) زيادة من ت ، ف ، أ.
(7) في ت ، ف ، أ : "عليك وكلم الله موسى تكليما".
(8) في ف ، أ : "فقال".
(9) صحيح البخاري برقم (4807).
(10) في ف ، أ : "لمواليهم".
(5/242)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
الله
عنه ، سورة مريم ، فسجد وقال : هذا السجود ، فأين البكى ؟ يريد البكاء.
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وسَقَط من روايته ذكر "أبي معمر" فيما
رأيت (1) ، والله (2) أعلم.
{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) }.
لما ذكر تعالى حزْبَ السعداء ، وهم الأنبياء ، عليهم السلام ، ومن اتبعهم ، من
القائمين بحدود الله وأوامره ، المؤدين فرائض الله ، التاركين لزواجره - ذكر أنه {
خَلَفَ مِنْ بَعْدِهم خَلْفٌ } أي : قرون أخر ، { أَضَاعُوا الصَّلاةَ } - وإذا
أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع ؛ لأنها عماد الدين وقوامه ، وخير أعمال
العباد - وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ،
فهؤلاء سيلقون غيا ، أي : خَسَارًا يوم القيامة.
وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا ، فقال قائلون : المراد بإضاعتها
تَرْكُها بالكلية ، قاله محمد بن كعب القُرَظي ، وابن زيد بن أسلم ، والسدي ،
واختاره ابن جرير. ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن
الإمام أحمد ، وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة ، للحديث (3) : " بين
العبد وبين الشرك تَركُ الصلاة" (4) ، والحديث الآخر : "العهد الذي
بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر" (5). وليس هذا محل بسط هذه
المسألة.
وقال الأوزاعي ، عن موسى بن سليمان ، عن القاسم بن مُخَيمرة في قوله : { فَخَلَفَ
مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ } ، قال : إنما أضاعوا المواقيت ، ولو
كان تركًا كان كفرًا.
وقال وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، والحسن بن سعد ، عن ابن مسعود
أنه قيل له : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن : { الَّذِينَ هُمْ عَنْ
صَلاتِهِمْ سَاهُونَ } و { عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ } و { عَلَى صَلاتِهِمْ
يُحَافِظُونَ } ؟ قال ابن مسعود : على مواقيتها. قالوا : ما كنا نرى ذلك إلا على
الترك ؟ قال : ذاك (6) الكفر.
[و] (7) قال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس ، فيكتب من الغافلين ، وفي
إفراطهن الهلكة ، وإفراطهن : إضاعتهن عن وقتهن.
وقال الأوزاعي ، عن إبراهيم بن يزيد (8) : أن عمر بن عبد العزيز قرأ : { فَخَلَفَ
مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا } ، ثم قال : لم تكن (9) إضاعتهم تركها ، ولكن أضاعوا الوقت.
__________
(1) تفسير الطبري (16/73).
(2) في ف ، أ : "فالله".
(3) في أ : "الحديث".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (82) من حديث جابر رضي الله عنه.
(5) رواه الترمذي في السنن برقم (2621) والنسائي في السنن (1/231) من حديث بريدة
بن الحصيب رضي الله عنه وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح غريب".
(6) في ت ، ف ، أ : "ذلك".
(7) زيادة من ت ، ف.
(8) في أ : "زيد".
(9) في ت ، ف ، أ : "يكن".
(5/243)
وقال
ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا
الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } قال : عند قيام الساعة ، وذهاب صالحي أمة
محمد صلى الله عليه وسلم ، ينزو بعضهم على بعض في الأزقة ، وكذا روى ابن جُرَيج ،
عن مجاهد ، مثله (1).
وروى جابر الجُعْفي ، عن مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء بن أبي رباح : أنهم من هذه الأمة
، يعنون في آخر الزمان.
وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا الحسن الأشيب ، حدثنا شريك ، عن إبراهيم بن
مهاجر ، عن مجاهد : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } ، قال : هم في هذه الأمة (2) ، يتراكبون تراكب
الأنعام والحمر في الطرق ، لا يخافون الله في السماء ، ولا يستحيون الناس في
الأرض.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ،
حدثنا حيوة ، حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني : أن الوليد بن قيس حدثه ، أنه سمع
أبا سعيد الخدري يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يكون خلف
بعد ستين سنة ، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ، فسوف يلقون غيا. ثم يكون خلف
يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم. ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ، ومنافق ، وفاجر".
قال بشير (3) : قلت للوليد : ما هؤلاء الثلاثة ؟ قال : المؤمن مؤمن به ، والمنافق
كافر به ، والفاجر يأكل به.
وهكذا رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن ، المقرئ (4) ، به (5)
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثني أبي ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا عيسى بن
يونس ، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن مَوْهَب (6) ، عن مالك ، عن (7) أبي
الرجال ، أن عائشة كانت ترسل بالشيء صدقة لأهل الصُّفَّة ، وتقول : لا تعطوا منه
بربريا ولا بربرية ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "هم
الخلف الذين قال الله تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا
الصَّلاةَ }. هذا حديث غريب (8).
وقال أيضًا : حدثني أبي ، حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك ، حدثنا الوليد ، حدثنا
حَريز (9) ، عن شيخ من أهل المدينة ؛ أنه سمع محمد بن كعب القُرَظِي يقول في قوله
(10) : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } الآية ، قال : هم أهل الغرب (11) ،
يملكون وهم شر من ملك.
__________
(1) في ت : "منكم".
(2) في ت ، ف : "الآية".
(3) في ف ، أ : "بشر".
(4) في ف ، أ : "المقبري".
(5) المسند (3/38).
(6) في ف ، أ : "ابن وهب".
(7) في ف : "ابن".
(8) ورواه الحاكم في المستدرك (2/244) من طريق الحسن بن علي عن إبراهيم بن موسى
به.
وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ، وتعقبه الذهبي بقوله :
"عبيد الله مختلف في توثيقه ، ومالك لا أعرفه ثم هو منقطع".
(9) في ت ، ف ، أ : "ابن جرير".
(10) في ف : "قول الله عز وجل".
(11) في ت : "القرى" ، وفي أ : "المغرب".
(5/244)
وقال
كعب الأحبار : والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل : شرابين للقهوات
تراكين (1) للصلوات ، لعابين بالكعبات ، رقادين عن العتمات ، مفرطين في الغدوات ،
تراكين للجمعات (2) قال : ثم تلا هذه الآية : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ
أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا }.
وقال الحسن البصري : عطلوا المساجد ، ولزموا الضيعات.
وقال أبو الأشهب العُطَارِدي : أوحى الله - تعالى - إلى داود : يا داود ، حَذّر
وأنذر أصحابك أكل الشهوات ؛ فإن القلوب المعَلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة
، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته على (3) أن أحرمه
طاعتي.
وقال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب حدثنا أبو [السمح] (4) التميمي ، عن أبي
قبيل (5) ، أنه سمع عقبة (6) بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إني أخاف على أمتي اثنتين : القرآن [واللبن ، أما اللبن] (7) فيتبعون الرّيف
، ويتبعون الشهوات ويتركون الصلوات ، وأما القرآن فيتعلمه المنافقون ، فيجادلون به
المؤمنين" (8).
ورواه عن حسن بن موسى ، عن ابن (9) لهيعة ، حدثنا أبو قبيل ، عن عقبة ، به مرفوعًا
بنحوه تفرد به (10).
وقوله : { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : {
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } أي : خسرانا. وقال قتادة : شرًّا.
وقال سفيان الثوري ، وشعبة ، ومحمد بن إسحاق ، عن أبي إسحاق السَّبيعي ، عن أبي
عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود : { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } قال : واد في جهنم
، بعيد القعر ، خبيث الطعم.
وقال الأعمش ، عن زياد ، عن أبي عياض في قوله : { فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا }
قال : واد في جهنم من قيح ودم.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثني عباس بن أبي طالب ، حدثنا محمد بن زياد بن
زيان ، حدثنا شرقي بن قطامي ، عن لقمان بن عامر الخزاعي قال : جئت أبا أمامة
صُدَيّ بن (11) عَجْلان الباهلي فقلت : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله
عليه وسلم ، قال : فدعا بطعام ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو
أن صخرة زنة عشر (12) أواق قذف بها من شفير جهنم ، ما بلغت قعرها خمسين خريفًا ،
__________
(1) في أ : "تاركين".
(2) في أ : "للجماعات".
(3) في أ : "عليه".
(4) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(5) في أ : "عن ابن قنبل".
(6) في ت : "عبد الله".
(7) في هـ ، ، ت ف ، أ : "الكنى ، وأما الكنى" والمثبت في المسند.
(8) المسند (4/156) والمراد باللبن كما قال الحربي : "أظنه أراد يتباعدون عن
الأمصار وعن صلاة الجماعة ، ويطلبون مواضع اللبن في المراعي والبوادي".
(9) في ت : "أبي".
(10) المسند (4/146).
(11) في ت : "حدثني".
(12) في ف : "عشر عشر" ، وفي أ : "عشر عشراوات".
(5/245)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
ثم
تنتهي إلى غي وآثام". قال : قلت : وما غي وآثام ؟ قال : "بئران في أسفل
جهنم ، يسيل فيهما صديد أهل النار ، وهما اللتان (1) ذكر الله في كتابه : {
أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا }
وقوله في الفرقان : { وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا }
(2) هذا حديث غريب ورفعه منكر.
وقوله : { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا } ، أي : إلا من رجع
عن ترك الصلوات واتباع الشهوات ، فإن الله يقبل توبته ، ويحسن عاقبته ، ويجعله من
ورثة جنة النعيم ؛ ولهذا قال : { فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا
يُظْلَمُونَ شَيْئًا } وذلك ؛ لأن التوبة تُجُبُّ ما قبلها ، وفي الحديث الآخر :
"التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (3) ؛ ولهذا لا يُنْقص هؤلاء التائبون
من أعمالهم التي عملوها شيئًا ، ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص (4) لهم مما
عملوه بعدها ؛ لأن ذلك ذهب هَدَرًا وترك نسيا ، وذهب مَجَّانا ، من كرم الكريم ،
وحلم الحليم.
وهذا الاستثناء هاهنا كقوله في سورة الفرقان : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا
بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ
الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ الفرقان : 68 - 70 ]
{ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ
كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي
نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) }.
يقول تعالى : الجنات التي يدخلها (5) التائبون من ذنوبهم ، هي { جَنَّاتِ عَدْنٍ }
أي : إقامة { الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ } بظهر الغيب ، أي : هي من
الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه ؛ وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم.
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا } تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره
؛ فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله ، كقوله : { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا } [ المزمل
: 18 ] (6) أي : كائنا لا محالة.
وقوله هاهنا : { مَأْتِيًّا } أي : العباد صائرون إليه ، وسيأتونه.
ومنهم من قال : { مَأْتِيًّا } بمعنى : آتيا ؛ لأن كل ما أتاك فقد أتيته ، كما
تقول العرب : أتت عليّ خمسون سنة ، وأتيت على خمسين سنة ، كلاهما بمعنى [واحد] (7)
__________
(1) في ف : "اللذان".
(2) تفسير الطبري (16/75).
(3) جاء من حديث أنس بن مالك ، وابن مسعود ، وأبو سعيد الأنصاري ، وابن عباس ، رضي
الله عنهم ، وأجودها حديث ابن مسعود ، أخرجه ابن ماجه في السنن برقم (4250) لكنه
فيه انقطاع.
(4) في ف : "فنقص".
(5) في ت : "يدخل إليها".
(6) في ت : "إنه كان" وهو خطأ ، وفي أ : "كان وعده مفعولا"
وهو الصواب.
(7) زيادة من ف ، أ.
(5/246)
وقوله
: { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا } أي : هذه (1) الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه
لا معنى له ، كما قد يوجد في الدنيا.
وقوله : { إِلا سَلامًا } استثناء منقطع ، كقوله : { لا يَسْمَعُونَ فِيهَا
لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا } [ الواقعة : 25 ، 26 ] (2)
وقوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } أي : في مثل وقت
البُكُرات ووقت العَشيّات ، لا أن (3) هناك ليلا أو نهارًا (4) ولكنهم في أوقات
تتعاقب ، يعرفون مضيها بأضواء وأنوار ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معْمَر ، عن هَمَّام ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "أول زُمْرَة تلج الجنة صُورهم على صورة القمر ليلة
البدر ، لا يبصُقون فيها ، ولا يتمخطون (5) فيها ، ولا يَتَغَوّطون ، آنيتهم
وأمشاطهم الذهب والفضة ، ومجامرهم (6) الألْوّة ، ورَشْحُهم المسك ، ولكل واحد
منهم زوجتان ، يرى مُخّ ساقيهما (7) من وراء اللحم ؛ من الحسن ، لا اختلاف بينهم
ولا تباغض ، قلوبهم على قلب واحد ، يسبحون الله بكرة وعشيًّا".
أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به (8)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن (9) ابن إسحاق ، حدثني الحارث بن
(10) فضيل الأنصاري ، عن محمود بن لبيد الأنصاري ، عن ابن عباس قال : قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم : "الشهداء على بارق نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء
، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيًّا" (11) تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا }
قال : مقادير الليل والنهار.
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهم ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت زهير بن محمد
، عن قول الله تعالى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } قال :
ليس في الجنة ليل ، هم في نور أبدًا ، ولهم مقدار الليل والنهار ، يعرفون مقدار
الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب ، وبفتح
(12) الأبواب.
وبهذا الإسناد عن الوليد بن مسلم ، عن خُلَيْد ، عن الحسن البصري ، وذكر أبواب
الجنة ، فقال : أبواب (13) يُرى ظاهرها من باطنها ، فتكلم وتكلم ، فَتُهَمْهِم
(14) انفتحي انغلقي ، فتفعل.
__________
(1) في ت ، ف : "أي : في هذه".
(2) في ت : "تأثيم".
(3) في ت : "إلا أن".
(4) في ف : "ونهارا".
(5) في ف : "يمتخطون".
(6) في أ : "ومجامرهم من".
(7) في ف : "ساقها".
(8) المسند (2/316) وصحيح البخاري برقم (3225) وصحيح مسلم برقم (2834).
(9) في ت : "عن موسى بن إسحاق".
(10) في ت : "ثم".
(11) المسند (1/266) وقال الهيثمي في المجمع (5/294) : "إسناد رجاله
ثقات".
(12) في ت ، ف : "فتح".
(13) في ت : "أبواب الجنة".
(14) في ت : "فيفهمهم" ، وفي ف ، أ : "فتفهم".
(5/247)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
وقال
قتادة في قوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } : فيها
ساعتان : بكرة وعشي : ليس ثم (1) ليل ولا نهار ، وإنما هو ضوء ونور.
وقال مجاهد ليس [فيها] (2) بكرة ولا عشي ، ولكن يُؤتون به على ما كانوا يشتهون في
الدنيا.
وقال الحسن ، وقتادة ، وغيرهما : كانت العرب ، الأنْعَم فيهم ، من يتغدّى ويتعشى ،
ونزل (3) القرآن على ما في أنفسهم (4) من النعيم ، فقال تعالى : { وَلَهُمْ
رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا }
وقال ابن مهدي ، عن حماد بن زيد ، عن هشام ، عن الحسن : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ
فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } قال : البكور يرد على العشي ، والعشي يرد على البكور
، ليس فيها ليل.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا سليم (5) بن منصور بن عمار ،
حدثني أبي ، حدثنا محمد بن زياد قاضي أهل شَمْشَاط (6) عن عبد الله بن جرير (7) عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"ما من غداة من غدوات الجنة ، وكل الجنة غدوات ، إلا أنه يزف إلى ولي الله
فيها زوجة من الحور العين ، أدناهن التي خلقت من الزعفران" (8)
قال أبو محمد : هذا حديث منكر.
[وقوله تعالى] (9) { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ
كَانَ تَقِيًّا } أي : هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها
عبادنا المتقين ، وهم المطيعون لله - عز وجل - في السراء والضراء ، والكاظمون (10)
الغيظ والعافون (11) عن الناس ، وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنين : { قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } إلى أن قال
: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 1 - 11]
{ وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا
خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) }
__________
(1) في أ : "ثمت".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "فنزل".
(4) في ف : "نفوسهم".
(5) في جميع النسخ : "سليمان" والمثبت من الجرح والتعديل 4/1/176.
(6) في أ : "شمياط".
(7) في ت ، ف ، أ : "جدير".
(8) ورواه ابن عدي في الكامل (6/394) من طريق سليم بن منصور بن عمار به وقال :
"ولا يعرف هذا إلا لمنصور بهذا الإسناد". ومنصور بن عمار ضعفه العقيلي
وقال أبو حاتم : ليس بالقوي.
(9) زيادة من ت ، وفي أ : "وقوله".
(10) في ت ، ف : "والكاظمين".
(11) في ت ، ف : "والعافين".
(5/248)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ
لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) }.
قال الإمام أحمد : حدثنا يَعْلى ووكيع قالا حدثنا عمر بن ذَرّ ، عن أبيه ، عن سعيد
بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل :
"ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟" قال : فنزلت { وَمَا نَتَنزلُ
إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية.
انفرد بإخراجه البخاري ، فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم ، عن عمر بن ذر
به. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عمر بن ذر به (1) وعندهما زيادة في
آخر الحديث ، فكان
__________
(1) المسند (1/231) ، (1/233) وصحيح البخاري برقم (4731) وتفسير الطبري (16/78).
(5/248)
ذلك
الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال العَوْفي عن ابن عباس : احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحَزَن ، فأتاه جبريل وقال : يا محمد ، {
وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا
وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا }
وقال مجاهد : لبث جبريل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة ، ويقولون [قُلِيَ]
(1) فلما جاءه قال : يا جبريل لقد رِثْتَ عليّ حتى ظن المشركون كل ظن. فنزلت : {
وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ [لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا
خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ] (2) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال : وهذه
الآية كالتي في الضحى.
وكذلك قال الضحاك بن مُزَاحم ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد : إنها نزلت في احتباس
جبريل.
وقال الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال : أبطأ جبريل النزول على رسول الله صلى الله
عليه وسلم أربعين يومًا ، ثم نزل ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ما
نزلت حتى اشتقت إليك" فقال له جبريل : بل أنا كنت إليك أشوق ، ولكني مأمور ،
فأوحِيَ إلى جبريل أن قل له : { وَمَا نَتَنزلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية.
رواه ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، وهو غريب.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن
مجاهد قال : أبطأت الرسلُ على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه جبريل فقال له :
ما حبسك يا جبريل ؟ فقال له جبريل : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ، ولا
تُنْقُون براجمكم ، ولا تأخذون شواربكم ، ولا تستاكون ؟ ثم قرأ : { وَمَا نَتَنزلُ
إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ } إلى آخر الآية.
وقد قال الطبراني : حدثنا أبو عامر النحوي ، حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري ، حدثنا
سليمان بن عبد الرحمن [الدمشقي] (3) حدثنا إسماعيل بن عياش ، أخبرني ثعلبة بن مسلم
، عن أبي كعب مولى ابن عباس ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن جبريل
أبطأ عليه ، فذكر ذلك له فقال : وكيف وأنتم لا تَسْتَنّون ، ولا تُقَلّمُون
أظفاركم ، ولا تقصون شواربكم ، ولا تُنْقُون رواجبكم.
وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن أبي اليمان ، عن إسماعيل بن عياش ، به نحوه (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سَيَّار ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا المغيرة بن حبيب
- [ختن] (5) مالك بن دينار - حدثني شيخ من أهل المدينة ، عن أم سلمة قالت : قال لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أصلحي لنا المجلس ، فإنه ينزل (6) ملك إلى
الأرض ، لم ينزل إليها قط" (7)
وقوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } قيل : المراد ما بين
أيدينا : أمر الدنيا ، وما خلفنا : أمر الآخرة ، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } ما بين
النفختين. هذا قول أبي العالية ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن
__________
(1) زيادة من ت ، ف ، أ.
(2) في ت ، ف ، أ : "إلى قوله".
(3) زيادة من ت ، ف ، أ.
(4) المعجم الكبير (11/431) والمسند (1/243) وفي إسناده أبو كعب مولى ابن عباس ،
قال أبو زرعة : "لا يسمى ولا يعرف إلا في هذا الحديث".
(5) في هـ ، ت ، ف : "عن" ، والمثبت من أ ، والمسند.
(6) في ف ، أ : "يتنزل".
(7) المسند (6/296).
(5/249)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
جبير.
وقتادة ، في رواية عنهما ، والسدي ، والربيع بن أنس.
وقيل : { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } ما نستقبل من أمر الآخرة ، { وَمَا خَلْفَنَا }
أي : ما مضى من الدنيا ، { وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ } أي : ما بين الدنيا والآخرة.
يروى نحوه عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، وابن جريج ، والثوري.
واختاره ابن جرير أيضًا ، والله أعلم.
وقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال مجاهد [والسُّدِّيّ] (1) معناه : ما
نسيك ربك.
وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا
وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } [ الضحى : 1 - 3 ]
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد الدمشقي ، حدثنا محمد بن
عثمان (2) - يعني أبا الجماهر (3) - حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا عاصم بن رجاء
بن حيوة ، عن أبيه ، عن أبي الدرداء يرفعه قال : "ما أحل الله في كتابه فهو
حلال وما حرم فهو حرام وما سكت [عنه] (4) فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ،
فإن الله لم يكن لينسى (5) شيئا" ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا } (6)
وقوله : { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [أي : خالق ذلك
ومدبره ، والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه ، { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ
لِعِبَادَتِهِ] (7) هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن
عباس : هل تعلم للرب مثلا أو شبها.
وكذلك قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن جريج وغيرهم.
وقال عكرمة ، عن ابن عباس : ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك وتعالى ، وتقدس اسمه.
{ وَيَقُولُ الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا
يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ
جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ
عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ
أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) }.
يخبر تعالى عن الإنسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته ، كما قال تعالى : {
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ
جَدِيدٍ } [ الرعد : 5 ] ،
__________
(1) زيادة من ت ، ف.
(2) في ت : "ابن عباس".
(3) في أ : "أبا الجماهير".
(4) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5) في أ : "لينسنا".
(6) ورواه البزار في مسنده برقم (123) من طريق سليمان بن عبد الرحمن عن إسماعيل بن
عياش به وقال : "إسناده صالح".
ورواه الحاكم في المستدرك (2/375) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (10/12) عن
طريق أبي نعيم الفضل بن دكين عن عاصم بن رجاء عن أبيه به وقال الحاكم : "هذا
حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وله شاهد من حديث سلمان رضي الله عنه.
(7) زيادة من ت ، ف ، أ.
(5/250)
وقال
: { أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ
خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 77 - 79 ] ، وقال هاهنا : { وَيَقُولُ
الإنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلا يَذْكُرُ
الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } يستدل ، تعالى ،
بالبداءة على الإعادة ، يعني أنه ، تعالى [قد] (1) خلق الإنسان ولم يك شيئًا ،
أفلا يعيده وقد صار شيئًا ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ
ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، وفي الصحيح :
"يقول الله تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وآذاني ابن آدم ولم
يكن له أن يؤذيني ، أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق
بأهون عليّ من آخره ، وأما أذاه إياي فقوله : إن لي ولدًا ، وأنا الأحد الصمد ،
الذي لم يلد ولم يولد (2) ولم يكن له (3) كفوًا أحد" (4).
وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ } أقسم الرب ، تبارك
وتعالى ، بنفسه الكريمة ، أنه لا بد أن يحشرهم جميعًا وشياطينهم الذين كانوا
يعبدون من دون الله ، { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا }.
قال العَوْفي ، عن ابن عباس : يعني : قعودا كقوله : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ
جَاثِيَةً } [ الجاثية : 28 ].
وقال السدي في قوله : { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا } :
يعني : قيامًا ، وروي عن مرة ، عن ابن مسعود [مثله] (5).
وقوله : { ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ } يعني : من كل أمة قاله مجاهد ،
{ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا }.
قال الثوري ، عن [علي بن الأقمر] (6) ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : يحبس
الأول على الآخر ، حتى إذا تكاملت العدة (7) ، أتاهم جميعًا ، ثم بدأ بالأكابر ،
فالأكابر جرما ، وهو قوله : { ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ
أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا }.
وقال قتادة : { ثُمَّ لَنَنزعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى
الرَّحْمَنِ عِتِيًّا } قال : ثم لننزعن من أهل كل (8) دين قادتهم [ورؤساءهم] (9)
في الشر. وكذا قال ابن جريج ، وغير واحد من السلف. وهذا كقوله تعالى : { حَتَّى
إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا
هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ
ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ
لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ }
[ الأعراف : 38 ، 39 ]
وقوله : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا }
ثم" هاهنا لعطف الخبر على الخبر ، والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من
العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلَّد فيها ، وبمن (10) يستحق تضعيف
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ت ، ف ، أ : "ألد ولم أولد".
(3) في ف ، أ : "لي".
(4) صحيح البخاري برقم (4975).
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) زيادة من ت ، ف ، أ ، وفي هـ : "أبي" والمثبت من الطبري.
(7) في ت : "المغيرة".
(8) في ت ، ف : "من كل أهل".
(9) زيادة من ت ، ف ، أ.
(10) في ت ، ف ، أ : "ومن".
(5/251)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
العذاب
، كما قال في الآية المتقدمة : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ }
{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
}.
قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا خالد بن سليمان ، عن كثير بن زياد
البُرْساني ، عن أبي سُمَيَّة قال : اختلفنا في الورود ، فقال بعضنا : لا يدخلها
مؤمن. وقال بعضهم : يدخلونها جميعا ، ثم ينجي الله الذين اتقوا. فلقيت جابر بن عبد
الله فقلت له : إنا اختلفنا في الورود ، فقال : يردونها جميعًا - وقال سليمان
مَرَّةً (1) يدخلونها جميعًا - وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه ، وقال : صُمّتا ، إن لم
أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يبقى بر ولا فاجر إلا
دخلها ، فتكون على المؤمن (2) بردًا وسلامًا ، كما كانت على إبراهيم ، حتى إن
للنار ضجيجًا من بردهم ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ، ويذر الظالمين فيها
جثيًّا" (3) غريب ولم يخرجوه.
وقال الحسن بن عرفة : حدثنا مروان بن معاوية ، عن بكار بن (4) أبي مروان ، عن خالد
بن مَعْدَان قال : قال أهل الجنة بعدما دخلوا الجنة : ألم يعدنا ربنا الورود على
النار ؟ قال : قد مررتم عليها وهي خامدة.
وقال عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم
قال : كان عبد الله بن رَوَاحة واضعًا رأسه في حِجْر امرأته ، فبكى ، فبكت امرأته
فقال (5) ما يبكيك ؟ فقالت : (6) رأيتك تبكي فبكيت. قال : إني ذكرت قول الله عز
وجل : { وَإِنْ مِنْكُمْ (7) إِلا وَارِدُهَا } ، فلا أدري أنجو منها أم لا ؟ (8)
وفي رواية : وكان مريضًا.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن يَمَان ، عن مالك بن مِغْول ، عن
أبي إسحاق : كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال : يا ليت أمي لم تلدني ثم يبكي ،
فقيل : ما يبكيك يا أبا ميسرة ؟ فقال : أخبرنا أنا واردوها ، ولم نُخْبَرْ أنا
صادرون عنها (9).
وقال عبد الله بن المبارك ، عن الحسن البصري قال : قال رجل لأخيه : هل أتاك أنك
وارد النار ؟ قال : نعم. قال : فهل أتاك أنك صادر عنها ؟ قال : لا. قال : ففيم
الضحك ؟ [قال فما رُئي ضاحكًا حتى لحق بالله] (10).
__________
(1) في أ : "سليمان بن مرة".
(2) في ف : "المؤمنين".
(3) المسند (3/328) وقال المنذري في الترغيب (2/306) : "رجاله ثقات".
(4) في ف : "عن".
(5) في ف : "قال".
(6) في أ : قالت".
(7) في ت : "وما منكم".
(8) تفسير عبد الرزاق (2/11).
(9) تفسير الطبري (16/82).
(10) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(5/252)
وقال
عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا ابن عُيَيْنَة ، عن عمرو ، أخبرني من سمع ابن عباس
يخاصم نافع بن الأزرق ، فقال ابن عباس : الورود (1) الدخول ؟ فقال نافع : لا فقرأ
ابن عباس : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] وردوا أم لا ؟ وقال : { يَقْدُمُ
قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [ هود : 98 ] أورْدٌ هو
(2) أم لا ؟ أما أنا وأنت فسندخلها ، فانظر هل نخرج منها أم لا ؟ وما أرى الله
مخرجك منها بتكذيبك فضحك نافع (3).
وروى ابن جريج ، عن عطاء قال : قال أبو راشد الحَرُوري - وهو نافع بن الأزرق - : {
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } [ الأنبياء : 102] فقال ابن عباس : ويلك : أمجنون أنت
؟ أين قوله : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ }
[ هود : 98 ] ، { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } [ مريم : 86
] ، { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } ؟ والله إن كان دعاء من مضى : اللهم
أخرجني من النار سالمًا ، وأدخلني الجنة غانمًا (4).
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، حدثنا أسباط ، عن عبد الملك ، عن
عبيد الله ، عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس ، فأتاه رجل يقال له : أبو راشد ،
وهو نافع بن الأزرق ، فقال له : يا ابن عباس ، أرأيت قول الله : { وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } ؟ قال : أما أنا وأنت
يا أبا راشد فسنردها ، فانظر : هل نصدر عنها أم لا (5).
وقال أبو داود الطيالسي : قال شعبة ، أخبرني عبد الله بن السائب ، عمن سمع ابن
عباس يقرؤها [كذلك] (6) : "وإن منهم إلا واردها" يعني : الكفار (7)
وهكذا روى عمرو بن الوليد الشَّنِّي (8) ، أنه سمع عكرمة يقرؤها كذلك : "وإن
منهم إلا واردها" ، قال : وهم الظلمة. كذلك كنا نقرؤها. رواه ابن أبي حاتم
وابن جرير.
وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى
رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } يعني : البر والفاجر ، ألا تسمع إلى قول الله لفرعون
: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ
الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } ،
فسمى الورود في النار دخولا وليس بصادر.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن مُرَّة ، عن
عبد الله - هو ابن مسعود - { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "يرد الناس [النار] (9) كلهم ، ثم يصدرون عنها
بأعمالهم".
__________
(1) في ت : "المورود".
(2) في ت : "أوردهم" ، وفي أ : "أوردوها".
(3) تفسير عبد الرزاق (2/11).
(4) رواه الطبري في تفسيره (16/82).
(5) تفسير الطبري (16/84).
(6) زيادة من ت ، ف ، أ
(7) رواه الطبري في تفسيره (16/83).
(8) في أ : "السني".
(9) زيادة من ت ، ف ، أ ، والمسند.
(5/253)
ورواه
الترمذي عن عبد بن حميد ، عن عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي به (1). ورواه من
طريق شعبة ، عن السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود موقوفا (2) (3).
هكذا وقع هذا الحديث هاهنا مرفوعًا. وقد رواه أسباط ، عن السدي ، عن مُرّة عن عبد
الله بن مسعود قال : يرد الناس جميعًا الصراط ، وورودهم قيامهم حول النار ، ثم
يصدرون عن الصراط بأعمالهم ، فمنهم من يمر مثل البرق (4) ، ومنهم من يمر مثل الريح
، ومنهم من يمر مثل الطير ، ومنهم من يمر كأجود الخيل ، ومنهم من يمر كأجود الإبل ،
ومنهم من يمر كعدو الرجل ، حتى إن آخرهم مرًّا رجل نوره على موضعي (5) إبهامي
قدميه ، يمر يتكفأ (6) به الصراط ، والصراط دَحْضُ مَزَلّة ، عليه حَسَك كَحَسك
القَتَاد ، حافتاه ملائكة ، معهم كلاليب من نار ، يختطفون بها الناس. وذكر تمام
الحديث. رواه (7) ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا خلاد بن أسلم ، حدثنا النضر ، حدثنا إسرائيل ، أخبرنا أبو
إسحاق ، عن أبي الأحوص (8) عن عبد الله : قوله : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا
وَارِدُهَا } قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف ، فتمر الطبقة الأولى كالبرق ،
والثانية كالريح ، والثالثة كأجود الخيل ، والرابعة كأجود البهائم ، ثم يمرون
والملائكة يقولون : اللهم سَلّم سَلّم.
ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما ، من رواية أنس ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة ، وجابر
، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم (9).
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة عن الجُرَيري ، عن [أبي السليل]
(10) عن غُنَيْم بن قيس قال : ذكروا ورود النار ، فقال كعب : تمسك النار للناس
(11) كأنها مَتْن (12) إهالة حتى يستوي عليها أقدام الخلائق ، برهم وفاجرهم ، ثم
يناديها مناد : أن امسكي أصحابك ، ودعي أصحابي ، قال : فتخسف بكل ولي لها ، ولهي
أعلم بهم (13) من الرجل بولده ، ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم. قال كعب : ما بين
منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة ، مع كل واحد منهم عمود ذو شعبتين (14) ، يدفع
به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف (15).
__________
(1) المسند (1/434) وسنن الترمذي برقم (3159) وقال : "حديث حسن ، ورواه شعبة
عن السدي فلم يرفعه".
(2) في ت ، ف : "مرفوعا".
(3) سنن الترمذي برقم (3160).
(4) في ف ، أ : "البرق الخاطف".
(5) في أ : "موضع".
(6) في أ : "فيمر فيكفأ".
(7) في ت ، ف : "ورواه".
(8) في ت : "مولى الأحوص".
(9) أما حديث أنس فرواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (367) وضعف إسناده.
وأما حديث أبي هريرة فهو في صحيح البخاري برقم (6573) وصحيح مسلم برقم (182).
وأما حديث أبي سعيد فهو في صحيح البخاري برقم (6574) وصحيح مسلم برقم (183).
(10) في هـ : "ابن أبي ليلى" والمثبت من ت ، ف ، أ ، والطبري.
(11) في ف ، أ : "الناس".
(12) في أ "بين".
(13) في أ : "فتخسف بكل وليها وهي أعلم بهم".
(14) في ت ، ف ، أ : "عمود وشعبتين".
(15) تفسير الطبري (16/82).
(5/254)
وقال
الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي سفيان (1) ، عن جابر ، عن
أم مُبَشِّر ، عن حفصة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لأرجو
ألا يدخل النار - إن شاء الله - أحد شهد بدرًا والحديبية" قالت (2) فقلت :
أليس الله يقول { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } ؟ قالت (3) : فسمعته يقول : {
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا }
(4).
وقال [الإمام] (5) أحمد أيضًا : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا الأعمش ، عن أبي سفيان
(6) ، عن جابر ، عن أم مبشر - امرأة زيد بن حارثة - قالت : كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم في بيت حفصة ، فقال : "لا يدخل النار أحد شهد بدرًا
والحديبية" قالت حفصة : أليس الله يقول : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا
} ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا }
(7).
وفي الصحيحين ، من حديث الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من
الولد تمسه النار ، إلا تَحِلَّة القسم". (8)
وقال عبد الرزاق : قال معمر : أخبرني الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من مات له ثلاثة لم تمسه النار إلا تحلة
القسم" يعني الورود (9).
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا زَمْعَة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي
هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يموت لمسلم ثلاثة
من الولد ، تمسه النار إلا تحلة القسم". قال الزهري : كأنه يريد هذه الآية :
{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا }
(10).
وقال ابن جرير : حدثني عمران بن بكار الكلاعي (11) ، حدثنا أبو المغيرة (12) ،
حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، حدثنا إسماعيل بن عبيد الله ، عن أبي صالح ،
عن أبي هريرة ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه
وعِكًا ، وأنا معه ، ثم قال : "إن الله تعالى يقول : هي ناري أسلطها على عبدي
المؤمن ؛ لتكون حظه من النار في الآخرة" غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه (13).
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد قال : الحمى حظ
كل مؤمن من النار ، ثم قرأ : "وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا".
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا زَبَّان بن فائد ، عن
سهل بن معاذ بن أنس الجهني ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"من قرأ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } حتى يختمها عشر
__________
(1) في ت : "شقيق".
(2) في ت : "قال".
(3) في أ : "قال".
(4) المسند (6/285).
(5) زيادة من ت.
(6) في ت : "شقيق".
(7) المسند (6/362).
(8) صحيح البخاري برقم (6656) وصحيح مسلم برقم (2632).
(9) تفسير عبد الرزاق (2/11).
(10) مسند الطيالسي برقم (2304).
(11) في ت : "الخلاعي".
(12) في ت : "أبو شعبة".
(13) تفسير الطبري (6/831) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (3/382) من طريق محمد بن
يحيى عن أبي المغيرة به.
(5/255)
مرات
، بنى الله له قصرًا في الجنة". فقال عمر : إذا نستكثر يا رسول الله ، فقال
رسول الله [صلى الله عليه وسلم : "لله] (1) أكثر وأطيب" (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قرأ ألف آية في سبيل الله ، كُتب
يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، إن شاء
الله. ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعًا لا بأجرة (3) سلطان ، لم ير
النار بعينيه إلا تحلة القسم ، قال الله تعالى : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا
وَارِدُهَا } وإن الذكر في سبيل [الله] (4) يُضْعفُ فوق النفقة بسبعمائة
ضعف". وفي رواية : "بسبعمائة ألف ضعف" (5)
وروى أبو داود ، عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن يحيى بن أيوب [وسعيد بن أبي
أيوب] (6) كلاهما عن زبان (7) ، عن سهل ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم : "إن الصلاة والصيام والذكر تضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة
ضعف" (8).
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قوله : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا
وَارِدُهَا } قال : هو الممر عليها (9)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } ،
قال : ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها ، وورود المشركين : أن يدخلوها ،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "الزالون والزالات يومئذ كثير ، وقد أحاط
بالجسر يومئذ سِمَاطان من الملائكة ، دعاؤهم : يا ألله سلم سلم" (10).
وقال السدي ، عن مرة ، عن ابن مسعود في قوله : { كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا
مَقْضِيًّا } قال : قسمًا واجبًا. وقال مجاهد : [حتمًا] (11) ، قال : قضاء. وكذا
قال ابن جريج (12)
وقوله : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } أي : إذا مرّ الخلائق كلهم على
النار ، وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي ، بحسبهم ، نجى الله
تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم. فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر
أعمالهم التي كانت في الدنيا ، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين ، فيشفع
الملائكة والنبيون والمؤمنون (13) ، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أكلتهم النار ، إلا
دارات وجوههم - وهي مواضع السجود - وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من
الإيمان ، فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان ، ثم الذي يليه ، ثم
الذي يليه ، [ثم الذي يليه] (14) حتى يخرجوا من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال
ذرة من إيمان ثم يخرج الله من النار
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(2) المسند (3/437).
(3) في ت ، ف ، : "بأجر".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) رواه أحمد في مسنده (3/437) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في أ : "ريان".
(8) سنن أبي داود برقم (2498).
(9) تفسير عبد الرزاق (2/11).
(10) تفسير الطبري (16/83)
(11) زيادة من ف ، أ.
(12) في ت : "ابن جرير".
(13) في ت : "فيشفع الله الملائكة والنبيين والمؤمنين
(14) زيادة من ف ، أ.
(5/256)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
من
قال يومًا من الدهر : "لا إله إلا الله" (1) وإن لم يعمل خيرًا قط ، ولا
يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود ، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ
اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا }
{ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا
(73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا
(74) }.
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى (2) عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة
واضحة البرهان : أنهم يصدون عن ذلك ، ويعرضون ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين
عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم : { خَيْرٌ مَقَامًا
وأَحْسَنُ نَدِيًّا } [أي : أحسن منازل وأرفع دورًا وأحسن نديا] (3) ، وهو مجمع
الرجال للحديث ، أي : ناديهم أعمر وأكثر واردًا وطارقًا ، يعنون : فكيف نكون ونحن
بهذه المثابة على باطل ، وأولئك [الذين هم] (4) مختفون مستترون في دار الأرقم بن
أبي الأرقم ونحوها من (5) الدور على الحق ؟ كما قال تعالى مخبرًا عنهم : { وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا
إِلَيْهِ } [الأحقاف : 11]. وقال قوم نوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ
الأرْذَلُونَ } [ الشعراء : 111 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } [ الأنعام : 53 ] ؛
ولهذا قال تعالى رادًّا عليهم شبهتهم : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ
} أي : وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم ، { هُمْ أَحْسَنُ
أَثَاثًا وَرِئْيًا } أي : كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا.
[و] (6) قال الأعمش ، عن أبي ظَبْيَان ، عن ابن عباس : { خَيْرٌ مَقَامًا
وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } قال : المقام : المنزل ، والندي : المجلس ، والأثاث :
المتاع ، والرئي : المنظر.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : المقام : المسكن ، والندي : المجلس والنعمة والبهجة
التي كانوا فيها ، وهو كما قال الله لقوم فرعون حين (7) أهلكهم وقص شأنهم في
القرآن : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ (8) وَمَقَامٍ
كَرِيمٍ } [ الدخان : 25 ، 26 ] ، فالمقام : المسكن والنعيم ، والندي : المجلس
والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه ، وقال [الله] (9) فيما قص على رسوله من أمر قوم
لوط (10) : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } [ العنكبوت : 29 ] ،
والعرب تسمي المجلس : النادي.
وقال قتادة : لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة ، وفيهم
قشافة ، تَعَرّض (11) أهل الشرك بما تسمعون (12) : { أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ
مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } وكذا قال مجاهد ، والضحاك.
ومنهم من قال في الأثاث : هو المال. ومنهم من قال : المتاع. ومنهم من قال : الثياب
، والرئي : المنظر كما قال ابن عباس ، ومجاهد وغير واحد.
__________
(1) في ف : "من قال : لا إله إلا الله يوما من الدهر".
(2) في ف : "يتلى".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ت : "في".
(6) زيادة من ت.
(7) في ت : "حتى".
(8) في ت ، ف ، أ : "وكنوز".
(9) زيادة من ت ، ف.
(10) في أ : "لوط إذ قال".
(11) في ت : "وفيهم".
(12) في ت ، ف ، أ : "يسمعون"
(5/257)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
وقال
الحسن البصري : يعني الصور ، وكذا قال مالك : { أَثَاثًا وَرِئْيًا } : أكثر
أموالا وأحسن صورًا. والكل متقارب صحيح.
{ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى
إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) }.
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد ، لهؤلاء المشركين بربهم المدعين ، أنهم على الحق
وأنكم على الباطل : { مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ } أي : منا ومنكم ، {
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } أي : فأمهله الرحمن (1) فيما هو فيه ، حتى
يلقى ربه وينقضي (2) أجله ، { إِمَّا الْعَذَابَ } يصيبه ، { وَإِمَّا السَّاعَةَ
} بغتة تأتيه ، { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذ { مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ
جُنْدًا } [أي] (3) : في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي.
قال مجاهد في قوله : { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } فليدعه الله في
طغيانه. هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله.
وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه (4) ، كما ذكر تعالى
مباهلة اليهود في قوله : { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ
أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ الجمعة : 6 ] أي : ادعوا على المبطل منا ومنكم بالموت (5)
إن كنتم تدعون أنكم على الحق ، فإنه لا يضركم الدعاء ، فنكلوا عن ذلك ، وقد تقدم
تقرير ذلك في سورة "البقرة" مبسوطا ، ولله الحمد. وكما ذكر تعالى
المباهلة مع النصارى في سورة "آل عمران" حين (6) صمموا على الكفر ،
واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد الله ، وقد ذكر الله حُجَجه
وبراهينه على عبودية عيسى ، وأنه مخلوق كآدم ، قال (7) بعد ذلك : { فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ
أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا
وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ
} [ آل عمران : 61 ] فنكلوا أيضًا عن ذلك.
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ
خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) }.
لما ذكر [الله] (8) تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو
عليه ، أخبر بزيادة المهتدين هُدى كما قال تعالى : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ
كَافِرُونَ } [ التوبة : 124 ، 125 ].
__________
(1) في ت ، ف ، أ : "الله".
(2) في أ : "ويقضي".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون على هدى قيامهم".
(5) في ف : "أي ادعوا بالموت على المبطل منا ومنكم" ، وفي أ : "أي
ادعوا بالموت على المبطل منا أو منكم".
(6) في أ : "حتى".
(7) في ت : "وقال".
(8) زيادة من ت.
(5/258)
وقوله
: { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } قد تقدم تفسيرها ، والكلام عليها ، وإيراد
الأحاديث المتعلقة بها في سورة "الكهف".
{ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا } أي : جزاء { وَخَيْرٌ مَرَدًّا } أي : عاقبة
ومردا على صاحبها.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا عمر بن راشد ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فأخذ عودًا يابسًا
فَحَطَّ ورقة ثم قال : "إن قول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، والحمد لله
، وسبحان الله ، تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح (1) ، خذهن يا أبا
الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن ، هن الباقيات الصالحات ، وهن (2) من كنوز الجنة"
قال أبو سلمة : فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال : لأهللنّ الله ، ولأكبرن
الله ، ولأسبحن الله ، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون (3)
وهذا ظاهره (4) أنه مرسل ، ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة ، عن أبي الدرداء ،
والله أعلم. وهكذا وقع في سنن ابن ماجه ، من حديث أبي معاوية ، عن عُمر (5) بن
راشد ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن أبي الدرداء ، فذكر نحوه (6)
__________
(1) في أ : "كما يحط ورق هذا الشجر الريح".
(2) في أ : "وهو".
(3) تفسير عد الرزاق (2/12).
(4) في أ : "وهذا ظاهر".
(5) في ت : "عمرو".
(6) سنن ابن ماجه برقم (3813) وقال البوصيري في الزوائد (3/194) : "هذا إسناد
ضعيف".
(5/259)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
{
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا (77)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلا سَنَكْتُبُ
مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ
وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) }.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن
خباب بن الأرت قال : كنت رجلا قينًا ، وكان لي على العاص بن وائل دين ، فأتيته
أتقاضاه. فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد (1) [فقلت : لا والله لا أكفر
بمحمد صلى الله عليه وسلم] (2) حتى تموت ثم تبعث. قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني
ولي ثم مال وولد ، فأعطيتك ، فأنزل الله : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ
بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } إلى قوله : { وَيَأْتِينَا
فَرْدًا }.
أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما ، من غير وجه ، عن الأعمش به (3) ، وفي لفظ البخاري :
كنت قينًا بمكة ، فعملت للعاص بن وائل سيفًا ، فجئت أتقاضاه. فذكر الحديث وقال : {
أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } قال : موثقًا.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق قال :
قال خَبَّاب
__________
(1) في ت : "محمد".
(2) زيادة من ف ، أ ، والمسند.
(3) المسند (4/111) وصحيح البخاري برقم (2091) ، (4734 ، 4735) وصحيح مسلم برقم (2795).
(5/259)
بن
الأرت ، كنت قينًا بمكة ، فكنت أعمل للعاص بن وائل ، قال : فاجتمعت لي عليه دراهم
، فجئت لأتقاضاه (1) ، فقال لي : لا أقضيك (2) حتى تكفر بمحمد. فقلت : لا أكفر
بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال : فإذا بعثت كان لي مال وولد. قال : فذكرت ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا
وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } إلى قوله : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } (3).
وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس : إن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين ، فأتوه يتقاضونه ، فقال : ألستم تزعمون
أن في الجنة ذهبًا وفضة وحريرًا ، ومن كل الثمرات ؟ قالوا : بلى. قال : فإن موعدكم
(4) الآخرة ، فوالله لأوتين مالا وولدًا ، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به. فضرب
الله مثله في القرآن فقال (5) { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا } إلى
قوله : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا }
وهكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهم : إنها نزلت في العاص بن وائل.
وقوله : { لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } قرأ بعضهم بفتح "الواو" من
"ولدا" وقرأ آخرون بضمها ، وهو بمعناه ، قال رؤبة :
الحمْدُ للهِ العزيز فَرْدًا... لَمْ يتخذ مِنْ وُلْد شيء وُلْدا (6)
وقال الحارث بن حلزة :
وَلَقَد رأيتُ معَاشرًا... قد تمرُوا مالا وَولْدا (7)
وقال الشاعر :
فَلَيت فُلانًا كانَ في بَطْن أمه... وَليتَ فُلانًا كان وُلْد حِمَار (8)
وقيل : إن "الوُلْد" بالضم جمع ، "والوَلَد" بالفتح مفرد ،
وهي لغة قيس ، والله أعلم.
وقوله : { أَطَّلَعَ الْغَيْبَ } : إنكار على هذا القائل ، { لأوتَيَنَّ مَالا
وَوَلَدًا } يعني : يوم القيامة ، أي : أعلم ما له في الآخرة حتى تَألى (9) وحلف
على ذلك ، { أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } : أم له عند الله عهد
سيؤتيه ذلك ؟ وقد تقدم عند البخاري : أنه الموثق.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ
الرَّحْمَنِ عَهْدًا } قال : لا إله إلا الله ، فيرجو بها (10). وقال محمد بن كعب
القرظي : { أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } (11) قال : شهادة أن لا
إله إلا الله ، ثم قرأ : { أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا }.
__________
(1) في ف ، أ : "أتقاضاه".
(2) في أ : "فقال لي أقضيك".
(3) تفسير عبد الرزاق "2/13".
(4) في ت : "قال فموعدكم".
(5) في ت : "فقالوا".
(6) الرجز في تفسير الطبري (16/92).
(7) البيت في تفسير الطبري (16/92).
(8) البيت في تفسير الطبري (16/92) واللسان مادة "ولد" غير منسوب.
(9) في أ : "حتى مالأ".
(10) في أ : "فيرجونها".
(11) في ف : "أم اتخذ" ، وفي هـ : "إلا من اتخذ" ، وهو خطأ ،
والصواب ما أثبتناه.
(5/260)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
وقوله
: { كَلا } : هي حرف رَدْع لما قبلها وتأكيد لما بعدها ، { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ
} أي : من طلبه ذلك وحُكْمه لنفسه بما تمناه ، وكفره بالله العظيم { وَنَمُدُّ
لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا } أي : في الدار الآخرة ، على قوله ذلك ، وكفره
[بالله] (1) في الدنيا.
{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي : من مال وولد ، نسلبه منه ، عكس ما قال : إنه
يُؤْتى في الدار الآخرة مالا وولدا ، زيادة على الذي له في الدنيا ؛ بل في الآخرة
يُسلَب من الذي كان له في الدنيا ، ولهذا قال : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } أي : من
المال والولد.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } ، [قال : نرثه]
(2)
وقال مجاهد : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } : ماله وولده ، وذلك الذي قال العاص بن
وائل.
وقال عبد الرزاق ، عن مُعْمَر ، عن قتادة : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } قال : ما
عنده ، وهو قوله : { لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا } وفي حرف ابن مسعود :
"ونرثه ما عنده".
وقال قتادة : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } : لا مال له ، ولا ولد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } قال : ما جمع من الدنيا
، وما عمل فيها ، قال : { وَيَأْتِينَا فَرْدًا } قال : فردًا من ذلك ، لا يتبعه
قليل ولا كثير.
{ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلا
سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ
أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) }.
يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم : أنهم اتخذوا من دونه آلهة ، لتكون تلك
الآلهة { عِزًّا } يعتزون بها ويستنصرونها.
ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا ، ولا يكون ما طمعوا ، فقال : { كَلا
سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } أي : يوم القيامة { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ
ضِدًّا } أي : بخلاف ما ظنوا فيهم ، كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ. وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ
أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (3) } [ الأحقاف : 5 ، 6 ]
وقرأ أبو نَهِيك : "كلّ سيكفرون بعبادتهم".
وقال السدي (4) : { كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } أي : بعبادة الأوثان.
وقوله : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } أي : بخلاف ما رَجَوا منهم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } قال :
أعوانًا.
قال مجاهد : عونًا عليهم ، تُخَاصِمُهم وتُكَذّبهم.
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) في ت : "كافرون" ، وهو خطأ.
(4) في ت : "السندي".
(5/261)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
وقال
العوفي ، عن ابن عباس : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } قال : قرناء.
وقال قتادة : قرناء في النار ، يلعن بعضهم بعضًا ، ويكفر بعضهم ببعض.
وقال السدي : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } قال : الخصماء الأشداء في
الخصومة.
وقال الضحاك : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } قال : أعداء.
وقال ابن زيد : الضد : البلاء.
وقال عكرمة : الضد : الحسرة.
وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ
تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : تغويهم إغواء.
وقال العوفي عنه : تحرضهم على محمد وأصحابه.
وقال مجاهد : تُشليهم إشلاء (1).
وقال قتادة : تزعجهم إزعاجا إلى معاصي الله.
وقال سفيان الثوري : تغريهم إغراء وتستعجلهم استعجالا.
وقال السدي : تطغيهم طغيانا.
وقال عبد الرحمن بن زيد : هذا كقوله تعالى : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ
الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ].
وقوله : { فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا } أي : لا
تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم ، { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا }
أي : إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط ، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله ،
{ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا
يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] ، {
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [ الطارق : 17 ]{ إِنَّمَا
نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } [ آل عمران : 178 ] ، { نُمَتِّعُهُمْ
قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] ، { قُلْ
تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ } [ إبراهيم : 30 ].
قال السدي : { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا } السنين ، والشهور ، والأيام ،
والساعات.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا } قال :
نعد أنفاسهم في الدنيا.
{ يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ
الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا
مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) }.
__________
(1) في ف : "تمليهم إملاء".
(5/262)
يخبر
تعالى عن أوليائه المتقين ، الذين خافوه في الدار الدنيا (1) واتبعوا رسله وصدقوهم
فيما أخبروهم ، وأطاعوهم فيما أمروهم به ، وانتهوا عما عنه زجروهم : أنه (2)
يحشرهم يوم القيامة وفدًا إليه. والوفد : هم القادمون ركبانًا ، ومنه الوفود
وركوبهم على نجائب من نور ، من مراكب الدار الآخرة ، وهم قادمون على خير موفود
إليه ، إلى دار كرامته ورضوانه. وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم ،
فإنهم يساقون عنفا إلى النار ، { وِرْدًا } عطاشًا ، قاله [عطاء] (3) ، وابن عباس
، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد. وهاهنا يقال : { أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ
خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } [ مريم : 73 ].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن خالد (4) ، عن عمرو بن قيس
الملائي ، عن ابن مرزوق : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ
وَفْدًا } قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها ، وأطيبها ريحًا
، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن
وجهك. فيقول : أنا عملك الصالح ، وهكذا كنت في الدنيا ، حسن العمل طيبه ، فطالما
ركبتك في الدنيا ، فهلم اركبني ، فيركبه. فذلك قوله : { يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا }.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : ركبانًا.
وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى ، حدثنا ابن مهدي ، عن شعبة (5) ، عن إسماعيل ،
عن رجل ، عن أبي هريرة : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ
وَفْدًا } قال : على الإبل.
وقال ابن جُريج : على النجائب.
وقال الثوري : على الإبل النوق.
وقال قتادة : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال :
إلى الجنة.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا سُوَيْد بن سعيد ، أخبرنا علي
بن مُسْهِر ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، حدثنا النعمان بن سعد قال : كنا جلوسًا عند
عليّ ، رضي الله عنه ، فقرأ هذه الآية : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى
الرَّحْمَنِ وَفْدًا } قال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون ، ولا يحشر الوفد على
أرجلهم ، ولكن بنوق لم ير (6) الخلائق مثلها ، عليها رحائل من ذهب ، فيركبون عليها
حتى يضربوا أبواب الجنة (7).
وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني ، به.
وزاد : "عليها رحائل الذهب ، وأزمتها الزبرجد" والباقي مثله.
وروى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبًا جدًّا مرفوعًا ، عن علي فقال :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا مسلمة بن جعفر
البَجَلي ،
__________
(1) في ف : "الآخرة".
(2) في أ : "أن".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف : "أبو خالد".
(5) في أ : "سعيد".
(6) في ف ، أ : "لم تر".
(7) زوائد المسند (1/155) وتفسير الطبري (16/96).
(5/263)
سمعت
أبا معاذ البصري قال : إن عليا كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ
هذه الآية : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا } فقال :
ما أظن الوفد إلا الركب (1) يا رسول الله. فقال رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم
: "والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون - أو : يؤتون - بنوق
بيض لها أجنحة ، وعليها رحال الذهب ، شُرُك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد
البصر ، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان ، فيشربون من إحداهما ، فتغسل ما في
بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدًا ،
وتجري عليهم نضرة النعيم ، فينتهون أو : فيأتون باب الجنة ، فإذا حلقة من ياقوتة
حمراء على صفائح الذهب ، فيضربون بالحلقة على الصفيحة (3) فيسمع (4) لها طنين يا
علي ، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل ، فتبعث قيمها فيفتح له ، فإذا رآه خرّ له
- قال مسلمة (5) أراه قال : ساجدًا - فيقول : ارفع رأسك ، فإنما أنا قيمك ، وكلت
بأمرك. فيتبعه ويقفو أثره ، فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت
حتى تعتنقه ، ثم تقول : أنت - حِبّي ، وأنا حبّك ، وأنا الخالدة التي لا أموت ،
وأنا الناعمة التي لا أبأس ، وأنا الراضية التي لا أسخط ، وأنا المقيمة التي لا
أظعن. فيدخل بيتًا من أسّه إلى سقفه مائة ألف ذراع ، بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق
: أصفر وأحمر وأخضر ، ليس منها طريقة تشاكل صاحبتها. وفي البيت سبعون سريرًا ، على
كل سرير سبعون حشية ، على كل حشية سبعون زوجة ، على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ
ساقها من وراء الحلل ، يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه. الأنهار من
تحتهم تطرد ، أنهار من ماء غير آسن - قال : صاف لا كَدَر فيه (6) - وأنهار من لبن
لم يتغير طعمه ، لم يخرج من ضروع الماشية ، وأنهار من خمر لذة للشاربين ، لم
يعتصرها (7) الرجال بأقدامهم (8) وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل ،
فيستحلي (9) الثمار ، فإن شاء أكل قائمًا ، وإن شاء قاعدًا ، وإن شاء متكئًا ، ثم
تلا { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا } [
الإنسان : 14 ] ، فيشتهي الطعام ، فيأتيه طير أبيض ، وربما قال : أخضر (10) فترفع
أجنحتها ، فيأكل من جنوبها أي الألوان شاء ، ثم تطير فتذهب ، فيدخل الملك فيقول :
سلام عليكم : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ } [ الزخرف : 72 ] ولو أن شعرة من شعر الحوراء (11) وقعت لأهل الأرض ،
لأضاءت الشمس معها سواد في نور" (12).
هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعًا ، وقد رويناه في المقدمات من كلام علي ، رضي الله
عنه ، بنحوه ، وهو أشبه بالصحة ، والله أعلم.
وقوله : { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا } أي : عطاشا.
{ لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ } أي : ليس لهم من يشفع لهم ، كما يشفع المؤمنون
بعضهم لبعض ، كما قال تعالى مخبرًا عنهم : { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا
صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100 ، 101 ]
__________
(1) في أ : "الركوب".
(2) في أ : "النبي".
(3) في ف : "الصفحة".
(4) في أ : "فلو تسمع".
(5) في ف ، أ : "سلمة".
(6) في ف : "فيها".
(7) في ف ، أ : "يعصرها".
(8) في أ : "بأقدامها".
(9) في ف ، أ : "فيستميل".
(10) في ف ، أ : "خضر".
(11) في ف : "الحور العين" ، وفي أ : "من شعر الحور".
(12) ورواه ابن أبي الدنيا في صفة الجنة برقم (7) من طريق الضحاك بن مزاحم ، عن
الحارث ، عن علي أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : (يوم يحشر
المتقين إلى الرحمن وفدا) فذكر نحوه.
(5/264)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
وقوله
: { إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } : هذا استثناء منقطع ، بمعنى
: لكن من اتخذ عند الرحمن عهدًا ، وهو شهادة أن لا إله إلا الله ، والقيام بحقها.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ
عَهْدًا } قال : العهد : شهادة أن لا إله إلا الله ، ويبرأ إلى الله من الحول
والقوة ، ولا يرجو إلا الله ، عز وجل.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عثمان بن خالد الواسطي ، حدثنا محمد بن الحسن الواسطي ،
عن المسعودي ، عن عون بن عبد الله ، عن أبي فاخِتَةَ ، عن الأسود بن يزيد قال :
قرأ عبد الله - يعني ابن مسعود - هذه الآية : { إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ
الرَّحْمَنِ عَهْدًا } ثم قال : اتخذوا عند الله عهدًا ، فإن الله يقول يوم
القيامة : "من كان له عند الله عهد فليقم" قالوا : يا أبا عبد الرحمن ،
فَعلمنا. قال : قولوا : اللهم ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ،
فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى عمل تقربني من الشر
وتباعدني (1) من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعل (2) لي عندك عهدًا
تُؤدّيه إلي يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد.
قال المسعودي : فحدثني زكريا ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، أخبرنا ابن مسعود : وكان
يُلْحِقُ بهن : خائفًا مستجيرًا مستغفرًا ، راهبًا راغبًا إليك (3).
ثم رواه من وجه آخر ، عن المسعودي ، بنحوه.
{ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا
(89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ
الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي
لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا
(94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) }.
لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى ، عليه السلام ، وذكر خلقه من
مريم بلا أب ، شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولدا - تعالى وتقدّس وتنزه عن
ذلك علوًّا كبيرًا - فقال : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ
جِئْتُمْ } أي : في قولكم هذا ، { شَيْئًا إِدًّا } (4) قال ابن عباس ، ومجاهد ،
وقتادة ، ومالك : أي عظيمًا.
ويقال : { إِدًّا } بكسر الهمزة وفتحها ، ومع مدها أيضا ، ثلاث لغات ، أشهرها
الأولى.
__________
(1) في ف ، أ : "ويباعوني".
(2) في أ : "فاجعله".
(3) ورواه الحاكم في المستدرك (2/377) من طريق عبد الرحمن بن سعد عن المسعودي عن
عون عن الأسود بن يزيد عن ابن مسعود بنحوه ، ولم يذكر أبا فاختة ، وقال :
"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
(4) في ف : (شيئا إدا) : أي : في قولكم هذا.
(5/265)
وقوله
: { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ
الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } أي : يكاد يكون ذلك عند
سماعهن (1) هذه المقالة من فجرة بني آدم ، إعظامًا للرب وإجلالا ؛ لأنهن مخلوقات
ومؤسسات على توحيده ، وأنه لا إله إلا هو ، وأنه لا شريك له ، ولا نظير له ولا ولد
له ، ولا صاحبة له ، ولا كفء له ، بل هو الأحد الصمد :
وفي كُلّ شَيءٍ له آيةٌ... تَدُل على أنه واحِدُ...
قال ابن جرير : حدثني علي ، حدثنا عبد الله ، حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن
عباس ، في قوله : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ
الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } قال :
إن الشرك (2) فزعت منه السماوات والأرض والجبال ، وجميع الخلائق إلا الثقلين ،
فكادت أن تزول منه لعظمة الله ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك ، كذلك نرجو
أن يغفر الله ذنوب الموحدين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقنوا
موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله ، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة". قالوا
: يا رسول الله ، فمن قالها في صحته ؟ قال : "تلك أوجب وأوجب". ثم قال :
"والذي نفسي بيده ، لو جيء بالسماوات والأرضين (3) وما فيهن ، وما بينهن ،
وما تحتهن ، فوضعن في كفة الميزان ، ووضعت شهادة أن لا إله إلا الله في الكفة
الأخرى ، لرجحت بهن" (4)
هكذا رواه ابن جرير ، ويشهد له حديث البطاقة ، والله أعلم.
وقال الضحاك : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } أي : يتشققن
فَرَقًا (5) من عظمة الله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَتَنْشَقُّ الأرْضُ } أي : غضبًا لله ، عز
وجل.
{ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا } قال ابن عباس : هدمًا.
وقال سعيد بن جبير : { هَدًّا } ينكسر بعضها على بعض متتابعات.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن سُوَيْد المقبري ، حدثنا سفيان بن
عيينة ، حدثنا مسعر ، عن عون بن (6) عبد الله قال : إن الجبل لينادي الجبل باسمه :
يا فلان ، هل مر بك اليوم ذاكرُ الله عز وجل (7) ؟ فيقول : نعم ، ويستبشر. قال عون
: لهي (8) للخير أسمع ، أفيسمعن (9) الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن (10) غيره ،
ثم قرأ : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ
وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا } (11)
__________
(1) في ف ، أ : "سماعهم".
(2) في أ : "الشريك".
(3) في أ : "والأرض".
(4) تفسير الطبري (16/98).
(5) في ف : "فرعا" ، وفي أ : "أي ينشق فزعا".
(6) في ف : "ابن".
(7) في ف ، أ : "ذاكر الله تعالى".
(8) في أ : "فهي".
(9) في ف ، أ : "أفيستمعن".
(10) في ف ، أ : "يستمعن".
(11) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1176) من طريق ابن أبي عمر ، عن سفيان ، عن
مسعر به ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (9/107) من طريق سعيد بن منصور ، عن
سفيان ، عن مسعر ، عن عون ، عن ابن مسعود ، بنحوه. وقال الهيثمي في المجمع (10/79)
: "رجاله رجال الصحيح".
(5/266)
وقال
ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا هَوْذَة ، حدثنا عوف ، عن
غالب بن عَجْرَد ، حدثني رجل من أهل الشام في مسجد مِنَى قال : بلغني أن الله لما
خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر ، لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا
أصابوا منها منفعة - أو قال : كان لهم فيها منفعة - ولم تزل الأرض والشجر بذلك ،
حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة ، قولهم : { اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ
وَلَدًا } فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض ، وشكاك الشجر.
وقال كعب الأحبار : غضبت الملائكة ، واستعرت النار (1) ، حين قالوا ما قالوا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي
عبد الرحمن السلمي ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : " ما أحد (2) أصبر على أذى يسمعه (3) من الله ، إنه يشرك به ،
ويجعل له ولدًا ، وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم".
أخرجاه في الصحيحين (4) وفي لفظ : "إنهم يجعلون له ولدًا ، وهو يرزُقُهم
ويعافيهم".
وقوله : { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا } أي : لا يصلح له
، ولا يليق به لجلاله وعظمته ؛ لأنه لا كفء له من خلقه (5) ؛ لأن جميع الخلائق
عبيد له ؛ ولهذا قال : { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي
الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا } أي : قد علم
عَدَدَهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ذَكَرهم وأنثاهم وصغيرهم وكبيرهم ،
{ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } أي : لا ناصر له ولا مجير إلا
الله وحده لا شريك له ، فيحكم في خلقه بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يظلم مثقال
ذَرّة ، ولا يظلم أحدا.
__________
(1) في ف ، أ : "وأسعرت جهنم".
(2) في ف : "لا أحد".
(3) في ف ، أ : "سمعه".
(4) المسند (4/405) وصحيح البخاري برقم (6099) وصحيح مسلم برقم (2804).
(5) في ف ، أ : "الخلق".
(5/267)
إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ
وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ
وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ
هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98) }.
يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، وهي الأعمال التي
ترضي الله ، عز وجل ، لمتابعتها الشريعة المحمدية - يغرس لهم في قلوب عباده
الصالحين مودة ، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد (1) عنه. وقد وردت بذلك الأحاديث
الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، حدثنا سُهَيْل ، عن أبيه ، عن
أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله إذا أحب عبدًا دعا
جبريل فقال : يا جبريل ، إني أحب فلانًا فأحبه. قال : فيحبه جبريل". قال :
"ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يحب فلانًا". قال : "فيحبه أهل
السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبدًا دعا جبريل فقال :
يا جبريل ، إني أبغضُ فلانًا
__________
(1) في أ : "فلا محيد".
(5/267)
فأبغضه".
قال : "فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلانًا
فأبغضوه". قال : "فيُبْغضُه أهل السماء ، ثم يوضع له البغضاء في
الأرض".
ورواه مسلم من حديث سُهَيْل (1). ورواه أحمد والبخاري ، من حديث ابن جُرَيْج ، عن
موسى بن عتبة (2) عن نافع مولى ابن عمر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ،
صلى الله عليه وسلم بنحوه (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر (4) ، حدثنا ميمون أبو محمد المرئي ، حدثنا
محمد بن عباد المخزومي ، عن ثوبان ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : (5) إن العبد ليلتمس مرضات (6) الله ، فلا يزال كذلك (7) فيقول الله ، عز
وجل ، لجبريل : إن فلانًا عبدي يلتمس أن يرضيني ؛ ألا وإن رحمتي عليه ، فيقول
جبريل : "رحمة الله على فلان" ، ويقولها (8) حملة العرش ، ويقولها من
حولهم ، حتى يقولها أهل السماوات السبع ، ثم يهبط إلى الأرض" (9)
غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك ، عن محمد بن سعد الواسطي ،
عن أبي ظَبْيَة ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن
المقة من الله - قال شريك : هي المحبة - والصيت من السماء ، فإذا أحب الله عبدًا
قال لجبريل ، عليه السلام : إني أحب فلانًا ، فينادي جبريل : إن ربكم يمق (10) -
يعني : يحب - فلانا ، فأحبوه - وأرى شريكًا قد قال : فتنزل له المحبة في الأرض -
وإذا أبغض عبدًا قال لجبريل : إني أبغض فلانًا فأبغضه" ، قال : "فينادي
جبريل : إن ربكم يبغض فلانا فأبغضوه". قال : أرى شريكًا قد قال : فيجري له
البغض في الأرض" (11). غريب ولم يخرجوه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو داود الحَفَريّ ، حدثنا عبد العزيز -
يعني ابن محمد ، وهو الدَّرَاوَرْدي - عن سهيل بن (12) أبي صالح ، عن أبيه ، عن
أبي هريرة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أحب الله عبدًا نادى
جبريل : إني قد أحببت فلانًا ، فأحبه ، فينادي في السماء ، ثم ينزل له المحبة في
أهل الأرض ، فذلك قول الله ، عز وجل : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا }
__________
(1) المسند (2/413) وصحيح مسلم برقم (2637).
(2) في ف ، أ : "ابن عيينة".
(3) المسند (2/4/5) وصحيح البخاري برقم (6040).
(4) في ف ، أ : "ابن بكير".
(5) في ف ، أ : "أنه قال".
(6) في أ : "فرحات".
(7) في أ : "بذلك".
(8) في ت : "ويقول".
(9) المسند (5/279).
(10) في أ : "يمقه".
(11) المسند (5/263).
(12) في ف : "عن".
(5/268)
رواه
مسلم والترمذي كلاهما عن قتيبة ، عن الدراوردي ، به (1). وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ
وُدًّا } قال : حبًّا.
وقال مجاهد ، عنه : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } قال : محبة في الناس
في الدنيا.
وقال سعيد بن جبير ، عنه : يحبهم ويُحببهم ، يعني : إلى خلقه المؤمنين. كما قال
مجاهد أيضًا ، والضحاك وغيرهم.
وقال العوفي ، عن ابن عباس أيضًا : الود من المسلمين في الدنيا ، والرزق الحسن ،
واللسان الصادق.
وقال قتادة : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ
لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا } إي والله ، في قلوب أهل الإيمان ، ذكر (2) لنا أن
هَرِم بن حَيَّان كان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب
المؤمنين إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم.
وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، يقول : ما من عبد يعمل خيرًا ،
أو شرًّا ، إلا كساه الله ، عز وجل ، رداء عمله.
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا عبد الرحمن بن
مَهْدِي ، عن الربيع بن صَبِيح ، عن الحسن البصري ، رحمه الله قال : قال رجل :
والله لأعبدن الله عبادة أذكر بها ، فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائما يصلي ،
وكان أول داخل إلى المسجد وآخر خارج ، فكان لا يعظم ، فمكث بذلك سبعة أشهر ، وكان
لا يمر على قوم إلا قالوا : "انظروا إلى هذا المرائي" فأقبل على نفسه
فقال : لا أراني أذكر إلا بِشَرّ ، لأجعلن عملي كله لله ، عز وجل ، فلم يزد على أن
(3) قلب نيته ، ولم يزد على العمل الذي كان يعمله ، فكان يمر بعد بالقوم ، فيقولون
: رحم الله فلانا الآن ، وتلا الحسن : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا }
وقد روى ابن جرير أثرًا أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد الرحمن بن عوف. وهو خطأ ،
فإن هذه السورة بتمامها (4) مكية لم ينزل منها شيء بعد الهجرة ، ولم يصح سند ذلك ،
والله أعلم.
وقوله : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ } يعني : القرآن ، { بِلِسَانِكَ } أي : يا
محمد ، وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل ، { لِتُبَشِّرَ بِهِ
الْمُتَّقِينَ } أي : المستجيبين لله المصدقين لرسوله ، { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا
لُدًّا } أي : عوجًا عن الحق مائلين إلى الباطل.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { قَوْمًا لُدًّا } لا يستقيمون.
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2637) وسنن الترمذي برقم (3161).
(2) في أ : "وذكر".
(3) في أ : "أنه".
(4) في أ : "بكمالها"
(5/269)
وقال
الثوري ، عن إسماعيل - وهو السُّدِّي - عن أبي صالح : { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا
لُدًّا } عوجًا عن الحق.
[وقال الضحاك : هو الخصم ، وقال القرظي : الألد : الكذاب] (1)
وقال الحسن البصري : { قَوْمًا لُدًّا } صمًّا.
وقال غيره صم آذان القلوب (2)
وقال قتادة : { قَوْمًا لُدًّا } يعني قريشًا.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { قَوْمًا لُدًّا } فجارًا ، وكذا روى ليث بن أبي
سليم عن مجاهد.
وقال ابن زيد : الألد : الظلوم ، وقرأ قول الله : { وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ } [
البقرة : 204 ].
وقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ } أي : من أمة كفروا بآيات
الله وكذبوا رسله ، { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ
رِكْزًا } أي : هل ترى منهم أحدًا ، أو تسمع لهم ركزًا.
قال ابن عباس ، وأبو العالية ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وسعيد بن جُبَير ،
والضحاك ، وابن زيد : يعني : صوتًا.
وقال الحسن ، وقتادة : هل ترى عينًا ، أو تسمع صوتًا.
والركز في أصل اللغة : هو الصوت الخفي ، قال الشاعر (3) :
فَتَوجست (4) رِكْز الأنيس فَرَاعَها... عَنْ ظَهْر غَيب والأنيسُ سَقَامُها...
آخر تفسير "سورة مريم" ولله الحمد والمنة. ويتلوه إن شاء الله تعالى
تفسير "سورة طه" والحمد لله.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "وقال غيرهم آذان القلوب".
(3) البيت في تفسير الطبري (16/102) غير منسوب ، وهو للبيد بن ربيعة من معلقته في
ديوانه (ص311) ا.هـ. مستفادا من حاشية ط - الشعب.
(4) في ف : "فتوحشت".
(5/270)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
تفسير
سورة طه
هي مكية.
روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب " التوحيد " ، عن زياد
بن أيوب ، عن إبراهيم بن المنذر الحِزَامي ، حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار ، عن
عمر بن حفص بن ذَكْوَان ، عن مولى الحُرقة - يعني عبد الرحمن بن يعقوب - عن أبي
هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قرأ " طه
" و " يس " قبل أن يخلق آدم بألف عام ، فلما سمعت الملائكة قالوا :
طوبى لأمة ينزل عليهم هذا (1) وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسن تتكلم (2) بهذا
" (3).
هذا حديث غريب ، وفيه نكارة ، وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تُكلِّم فيهما.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ طه (1) مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ
يَخْشَى (3) تَنزيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا (4)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ
فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ
الأسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) }
تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة "البقرة" بما أغنى عن
إعادته.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة (4) الواسطي ، حدثنا أبو أحمد -
يعني : الزبيري - أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس
قال : طه : يا رجل. وهكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، و[عطاء] (5)
ومحمد بن كعب ، وأبي مالك ، وعطية العوفي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ،
وابن أبزى أنهم قالوا : "طه" بمعنى : يا رجل.
وفي رواية عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير والثوري أنها (6) كلمة بالنبطية معناها :
يا رجل. وقال أبو صالح هي مُعَرّبة.
وأسند القاضي عياض في كتابه "الشفاء" من طريق عبد بن حميد في تفسيره :
حدثنا هاشم بن
__________
(1) في ف : "هذا عليهم".
(2) في أ : "تكلم".
(3) التوحيد (ص 109) ورواه ابن أبي عاصم في السنة برقم (607) واللالكائي في شرح
السنة برقم (368) من طريق إبراهيم بن المنذر به.
قال ابن حبان : "هذا متن موضوع" ، وقال ابن عدي : "لم أجد لإبراهيم
- أي : ابن مهاجر - حديثا أنكر من هذا ؛ لأنه لا يرويه غيره".
(4) في ف : "شيبة".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في أ : "أنه".
(5/271)
[القاسم]
(1) عن ابن جعفر ، عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى
قام على رجل ورفع الأخرى ، فأنزل الله تعالى { طه } ، يعني : طأ الأرض يا محمد ، {
مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى }. ثم قال : ولا خفاء بما في هذا من
الإكرام وحسن (2) المعاملة (3).
وقوله { مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } قال جويبر ، عن الضحاك :
لما أنزل الله القرآن على رسوله ، قام به هو وأصحابه ، فقال المشركون من قريش : ما
أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى! فأنزل الله تعالى : { طه مَا أَنزلْنَا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى }.
فليس الأمر كما زعمه المبطلون ، بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيرًا كثيرًا ،
كما ثبت في الصحيحين ، عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"من يُرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". (4).
وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال :
حدثنا أحمد بن زهير ، حدثنا العلاء بن سالم ، حدثنا إبراهيم الطالقاني ، حدثنا ابن
المبارك ، عن سفيان ، عن سِمَاك بن حرب ، عن ثعلبة بن الحكم قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : "يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على
كرسيه لقضاء عباده : إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم (5) إلا وأنا أريد أن أغفر لكم
على ما كان منكم ، ولا أبالي" (6).
إسناده جيد وثعلبة بن الحكم هذا [هو الليثي] (7) ذكره أبو عمر في استيعابه ، وقال
: نزل البصرة ، ثم تحول إلى الكوفة ، وروى عنه سماك بن حرب (8).
وقال مجاهد في قوله : { مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } : هي كقوله
: { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ } [المزمل : 20] وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم
في الصلاة.
وقال قتادة : { مَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } : لا والله ما جعله
شقاء ، ولكن جعله رحمة ونورًا ، ودليلا إلى الجنة.
{ إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } : إن الله أنزل كتابه ، وبعث رسله (9).
رحمة ، رحم بها العباد ، ليتذكر ذاكر ، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله ، وهو ذكر
أنزل الله فيه حلاله وحرامه.
وقوله : { تَنزيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا } (10) أي :
هذا القرآن الذي جاءك يا محمد
__________
(1) زيادة من ف ، أ ، والشفا.
(2) في ف : "أو حسن" ، وفي أ : "وأحسن".
(3) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (1/26).
(4) صحيح البخاري برقم (71) وصحيح مسلم برقم (1037).
(5) في ف : "علمي فيكم وحكمتي".
(6) المعجم الكبير (2/84) وقال الهيثمي في المجمع (1/126) : "رجاله
موثقون".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) الاستيعاب (1/204).
(9) في أ : "رسوله".
(10) في ف : "تنزيل".
(5/272)
[هو]
(1) تنزيل من [ربك] (2) رب كل شيء ومليكه ، القادر على ما يشاء ، الذي خلق الأرض
بانخفاضها وكثافتها ، وخلق السموات العلى في ارتفاعها ولطافتها. وقد جاء في الحديث
الذي صححه الترمذي وغيره. أن سُمْك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وبُعْد ما بينها
والتي (3) تليها [مسيرة] (4) خمسمائة عام (5).
وقد أورد (6) ابن أبي حاتم هاهنا حديث الأوعال (7) من رواية العباس عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه.
وقوله { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } : تقدم الكلام على ذلك في سورة
الأعراف ، بما أغنى عن إعادته أيضًا ، وأن المسلك الأسلم في (8) ذلك طريقة السلف ،
إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ، ولا تشبيه ، ولا
تعطيل ، ولا تمثيل.
وقوله : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا
تَحْتَ الثَّرَى } أي : الجميع ملكه وفي قبضته ، وتحت تصريفه ومشيئته وإرادته
وحكمه ، وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه ، لا إله سواه ، ولا رب غيره.
وقوله : { وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } قال محمد بن كعب : أي ما تحت الأرض السابعة.
وقال الأوزاعي : إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعبًا سُئِل فقيل له : ما تحت هذه
الأرض ؟ فقال : الماء. قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض. قيل : وما تحت الأرض ؟
قال : الماء. قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض ، قيل : وما تحت الأرض ؟ قال :
الماء. قيل : وما تحت الماء ؟ قال : الأرض ، قيل : وما تحت الأرض ؟ قال الماء. قيل
: وما تحت الماء ؟ قال : الأرض ، قيل : وما تحت الأرض ؟ قال : صخرة. قيل : وما تحت
الصخرة ؟ قال : ملك. قيل : وما تحت الملك ؟ قال : حوت معلق طرفاه بالعرش ، قيل :
وما تحت الحوت ؟ قال : الهواء والظلمة وانقطع العلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب ، حدثنا عمي ، حدثنا عبد
الله بن عَيَّاش ، حدثنا عبد الله بن سليمان عن دَرَّاج ، عن عيسى بن هلال الصَّدَفي
، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الأرضين
بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، والعليا منها على ظهر حوت ، قد التقى
طرفاه في السماء ، والحوت على صخرة ، والصخرة بيد الملك ، والثانية سجن (9) الريح
، والثالثة فيها حجارة جهنم ، والرابعة فيها كبريت جهنم ، والخامسة فيها حيات جهنم
والسادسة فيها عقارب جهنم ، والسابعة فيها سَقَر ، وفيها إبليس مُصَفّد بالحديد ،
يد أمامه ويد خلفه ،
__________
(1) زيادة من ف ، وفي أ : "يا محمد تنزيل من ربك".
(2) زيادة من ف ، وفي أ : "يا محمد تنزيل من ربك".
(3) في أ : "وبين التي".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) سنن الترمذي برقم (3298) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه ، وقال : "هذا
حديث غريب من هذا الوجه".
(6) في ف : "روى".
(7) سيأتي حديث الأوعال بطوله عند تفسير الآية : 7 من سورة غافر.
(8) في أ : "من".
(9) في أ : "مسجن".
(5/273)
فإذا
أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه" (1).
هذا حديث غريب جدًا ورفعه فيه نظر.
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده : حدثنا أبو موسى الهروي ، عن العباس بن الفضل
[قال] : (2) قلت : ابن الفضل الأنصاري ؟ قال : نعم ، [عن القاسم] (3) بن عبد
الرحمن ، عن محمد بن علي ، عن جابر بن عبد الله قال : كنت مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في غزوة تبوك ، فأقبلنا راجعين في حر شديد ، فنحن متفرقون بين واحد
واثنين ، منتشرين ، قال : وكنت في أول العسكر : إذ عارضنا رجل فَسَلّم ثم قال :
أيكم محمد ؟ ومضى أصحابي ووقفت معه ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل
في وسط العَسْكَر على جمل أحمر ، مُقَنَّع بثوبه على رأسه من الشمس ، فقلت : أيها
السائل ، هذا رسول الله قد أتاك. فقال : أيهم هو ؟ فقلت : صاحب البَكْر الأحمر.
فدنا منه ، فأخذ بخطام راحلته ، فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال (4)
: أنت محمد ؟ قال : "نعم". قال : إني أريد أن أسألك عن خصال ، لا يعلمهن
أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"سل عما شئت". فقال : يا محمد ، أينام النبي ؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : "تنام عيناه ولا ينام قلبه". قال : صدقت. ثم قال : يا محمد
، مِنْ أين يشبه الولد أباه وأمه ؟ قال (5) ماء الرجل أبيض غليظ ، وماء المرأة
أصفر رقيق ، فأيّ الماءين غلب على الآخر نزع الولد". فقال (6) صدقت. فقال :
ما للرجل من الولد وما للمرأة منه ؟ فقال : "للرجل العظام والعروق والعصب ،
وللمرأة اللحم والدم والشعر (7) قال : صدقت. ثم قال : يا محمد ، ما تحت هذه ، يعني
الأرض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خلق". فقال : فما تحتهم ؟
قال : "أرض". قال : فما تحت الأرض ؟ قال "الماء" قال : فما
تحت الماء ؟ قال : "ظلمة". قال : فما تحت الظلمة ؟ قال :
"الهواء". قال : فما تحت الهواء ؟ قال : "الثرى". قال : فما
تحت الثرى ؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ، وقال :
"انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق ، أيها السائل ، ما المسئول عنها بأعلم
من السائل". قال : فقال : صدقت ، أشهد أنك رسول الله. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : "أيها الناس ، هل تدرون من هذا ؟ " قالوا : الله
ورسوله أعلم. قال : "هذا جبريل صلى الله عليه وسلم (8) (9).
هذا حديث غريب جدًا ، وسياق عجيب ، تفرد به القاسم بن عبد الرحمن هذا ، وقد قال
فيه يحيى بن معين : "ليس يساوي شيئًا" وضعفه أبو حاتم الرازي ، وقال ابن
عدي : لا يعرف.
__________
(1) ورواه ابن منده في كتاب التوحيد برقم (63) من طريق حرملة بن يحيى عن عبد الله
بن وهب بنحوه. ورواه الحاكم في المستدرك (4/594) من طريق بحر بن نصر عن عبد الله
بن وهب عن عبد الله بن عياش عن عبد الله بن سليمان ، عن دراج عن أبي الهيثم عن
عيسى بن هلال عن عبد الله بن عمرو بمثله ، فزاد أبو الهيثم في إسناده. وقال :
"صحيح ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي. قلت : "بلى منكر فيه عبد الله بن
عياش ضعفه أبو داود وعند مسلم أنه : ثقة ، ودراج وهو كثير المناكير".
(2) في ف ، أ : "ابن عباس".
(3) زيادة من ف.
(4) في ف : "قال".
(5) في أ : : فقال".
(6) في ف ، أ : "قال".
(7) في ف ، أ : "والكبد"
(8) في ف : "عليه السلام".
(9) ورواه ابن مردوية في تفسيره كما في الدر المنثور (5/552) من حديث جابر رضي
الله عنه.
(5/274)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
قلت
: وقد خلط في هذا الحديث ، ودخل عليه شيء في شيء ، وحديث في حديث. وقد يُحْتَمل
أنه تَعَمَّد ذلك ، أو أدخل عليه فيه ، فالله أعلم.
وقوله : { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }
أي : أنزل هذا القرآن الذي خلق [الأرض والسموات العلى ، الذي يعلم السر وأخفى ،
كما قال تعالى : { قُلْ أَنزلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي ] (1)
السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [الفرقان : 6].
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } قال : السر
ما أسرّ ابن آدم في نفسه ، { وَأَخْفَى } : ما أخفى على ابن آدم مما هو فاعله قبل
أن يعلمه فالله يعلم ذلك كله ، فَعلْمه فيما مضى من ذلك وما بقي عِلْم واحد ،
وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة ، وهو قوله : { مَا خَلْقُكُمْ وَلا
بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [لقمان : 28 ].
وقال الضحاك : { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } قال : السر : ما تحدث به نفسك ،
وأخفى : ما لم تحدث به نفسك بعد.
وقال سعيد بن جبير : أنت تعلم ما تسر اليوم ، ولا تعلم ما تسر غدًا ، والله يعلم
ما تسر اليوم ، وما تسر غدًا.
وقال مجاهد : { وَأَخْفَى } يعني : الوسوسة.
وقال أيضًا هو وسعيد بن جبير : { وَأَخْفَى } أي : ما هو عامله مما لم يحدث به
نفسه.
وقوله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى } [أي : الذي
أنزل القرآن عليك هو الله الذي لا إله إلا هو ذو الأسماء الحسنى] (2) والصفات
العلى.
وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة "الأعراف"
ولله الحمد والمنة.
{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ
امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ
عَلَى النَّارِ هُدًى (10) }
من هاهنا شَرَعَ ، تبارك وتعالى ، في ذكر قصة موسى [عليه السلام ] (3) وكيف كان
ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه ، وذلك بعد ما قضى موسى الأجَل الذي كان بينه وبين
صهْره في رعاية الغنم وسار بأهله قيل : قاصدًا بلاد مصر بعدما طالت الغيبة عنها
أكثر من عشر سنين ، ومعه زوجته ، فأضل الطريق ، وكانت ليلة شاتية ، ونزل منزلا بين
شعاب وجبال ، في برد وشتاء ، وسحاب وظلام
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) زيادة من ف.
(5/275)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
وضباب
، وجعل يقدح بزند معه (1) ليُوريَ نارًا ، كما جرت له العادة به ، فجعل لا يقدح
شيئًا ، ولا يخرج منه شرر ولا شيء. فبينا هو كذلك ، إذ آنس من جانب الطور نارًا ،
أي : ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه ، فقال لأهله يبشرهم : {
إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ } أي : شهاب (2) من
نار. وفي الآية الأخرى : { أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ } [القصص : 29] وهي الجمر
: الذي معه لهب ، { لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [القصص : 29] دلّ على وجود البرد ،
وقوله : { بِقَبَسٍ } دلّ على وجود الظلام.
وقوله : { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } أي : من يهديني الطريق ، دلّ على
أنه قد تاه عن الطريق ، كما قال الثوري ، عن أبي سعد الأعور ، عن عكرمة عن ابن
عباس في قوله : { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } قال : من يهديني إلى الطريق.
وكانوا شاتين وضلوا الطريق ، فلما رأى النار قال : إن لم أجد أحدًا يهديني إلى
الطريق آتكم (3) بنار توقدون بها.
{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ
نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) }
__________
(1) في ف : "له".
(2) في ف : "بشهاب".
(3) في أ : "آتيتكم".
(5/276)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
{
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا
إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ
السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى
(16) }
يقول تعالى : { فَلَمَّا أَتَاهَا } أي : النار واقترب (1) منها ، { نُودِيَ يَا
مُوسَى } وفي الآية الأخرى : { نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأيْمَنِ فِي
الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا
اللَّهُ } [القصص : 30] وقال هاهنا { إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } أي : الذي يكلمك
ويخاطبك ، { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } قال علي بن أبي طالب ، وأبو ذر ، وأبو أيوب ،
وغير واحد من السلف : كانتا من جلد حمار غير ذكيّ.
وقيل : إنما أمره بخلع نعليه تعظيمًا للبقعة.
قال سعيد بن جبير : كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل (2) الكعبة.
وقيل : ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافيًا غير منتعل. وقيل : غير ذلك ، والله أعلم.
وقوله : { طُوًى } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو اسم للوادي.
وكذا قال غير واحد ، فعلى هذا يكون عطف بيان.
وقيل : عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه.
__________
(1) في ف : "وقرب" ، وفي أ : "وأقرب".
(2) في ف ، أ : "أراد دخول".
(5/276)
وقيل
: لأنه قُدّس مرتين ، وطوى له البركة وكررت : والأول أصح ، كقوله (1) { إِذْ
نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } [النازعات : 16].
وقوله : { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } كقوله { إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ
بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي } [الأعراف : 144] أي : على جميع الناس من الموجودين في
زمانه.
و[قد] (2) قيل : إن الله تعالى قال : يا موسى ، أتدري لم خصصتك بالتكليم من بين
الناس ؟ [قال : لا. قال : ] (3) لأني لم يتواضع لي أحد تواضعك.
وقوله : { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } أي : اسمع الآن ما أقول لك وأوحيه إليك
{ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا } هذا أول واجب على المكلفين أن
يعلموا أنه لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له.
وقوله : { فَاعْبُدْنِي } أي : وحدّني وَقُم بعبادتي من غير شريك ، { وَأَقِمِ
الصَّلاةَ لِذِكْرِي } قيل : معناه : صَلِّ لتذكرني. وقيل : معناه : وأقم الصلاة
عند ذكرك لي.
ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا المثنى
بن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا رَقَد
أحدكم عن الصلاة ، أو غفل عنها ، فليصلها إذا ذكرها ؛ فإن الله تعالى قال : {
وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } (4).
وفي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من نام عن
صلاة أو نسيها ، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك" (5).
وقوله : { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ } أي : قائمة لا محالة ، وكائنة لا بد منها.
وقوله : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } قال الضحاك ، عن ابن عباس : أنه كان يقرؤها :
"أكاد أخفيها من نفسي" ، يقول : لأنها لا تخفى من نفس الله أبدًا.
وقال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : من نفسه. وكذا قال مجاهد ، وأبو صالح ، ويحيى
بن رافع.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } يقول : لا أطلع
عليها أحدًا غيري.
وقال السدي : ليس أحد من أهل السموات والأرض إلا قد أخفى الله عنه علم الساعة ،
وهي في قراءة ابن مسعود : "إني أكاد أخفيها من نفسي" ، يقول : كتمتها عن
الخلائق ، حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت.
وقال قتادة : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } وهي في بعض القراءة أخفيها من نفسي ، ولعمري
لقد أخفاها الله من
__________
(1) في ف : "لقوله".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) المسند (3/184).
(5) صحيح البخاري برقم (597) وصحيح مسلم برقم (684).
(5/277)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
الملائكة
المقربين ، ومن الأنبياء والمرسلين.
قلت : وهذا كقوله تعالى : { قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ
الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ } [النمل : 65] وقال : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } [الأعراف : 187] أي : ثقل علمها على أهل
السموات والأرض.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة حدثنا مِنْجَاب ، حدثنا أبو نُمَيْلة ،
حدثني محمد بن سهل الأسدي ، عن وِقَاء قال : أقرأنيها سعيد بن جبير(أكاد أَخْفيها)
، يعني : بنصب (1) الألف وخفض الفاء ، يقول : أظهرها ، ثم [قال] (2) أما سمعت قول
الشاعر (3).
دَأبَ شَهْرَين ، ثم شهرًا دَمِيكًا... بأريكَين يَخْفيان غَميرًا...
وقال الأسدي : الغمير : نبت رطب ، ينبت في خلال يبس. والأريكين : موضع ، والدميك :
الشهر التام. وهذا الشعر لكعب بن زهير.
وقوله سبحانه وتعالى : { لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } أي : أقيمها لا
محالة ، لأجزي كل عامل بعمله ، { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة : 7 ، 8] و {
إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور : 16].
وقوله : { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
فَتَرْدَى } المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين ، أي : لا تتبعوا [سبيل] (4) من كذب
بالساعة ، وأقبل على ملاذه في دنياه ، وعصى مولاه ، واتبع هواه ، فمن وافقهم على
ذلك فقد خاب وخسر { فَتَرْدَى } أي : تهلك وتعطب (5) قال الله تعالى : { وَمَا
يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } [الليل : 11].
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ
عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى (21) }.
هذا برهان من الله تعالى لموسى ، عليه السلام ، ومعجزة عظيمة ، وخرق للعادة باهر ،
دال (6) على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل ، وأنه لا يأتي به إلا نبي
مرسل ، وقوله : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } قال بعض المفسرين : إنما
قال له ذلك على سبيل الإيناس له. وقيل : إنما قال له
__________
(1) في أ : "ونصب".
(2) زيادة من ف.
(3) هو كعب بن زهير ، والبيت في ديوانه (ص174) أ.هـ مستفادا من حاشية الشعب.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف ، أ : "وتردى أي هلك وعطب" وفي أ : "ردى".
(6) في ف ، أ : "باهرة دالة".
(5/278)
ذلك
على وجه التقرير ، أي : أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها ، فسترى ما نصنع
بها الآن ، { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } استفهام تقرير.
{ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أي : أعتمد عليها في حال المشي {
وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } أي : أهز بها الشجرة ليسقط ورقها ، لترعاه غنمي.
قال عبد الرحمن بن القاسم : عن الإمام مالك : والهش : أن يضع الرجل المحْجَن في
الغصن ، ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثَمَره ، ولا يكسر العود ، فهذا الهش ، ولا يخبط.
وكذا قال ميمون بن مهران أيضًا.
وقوله : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } أي : مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك.
وقد تكلف (1) بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت ، فقيل : كانت تضيء له
بالليل ، وتحرس له الغنم إذا نام ، ويغرسها فتصير شجرة تظله ، وغير ذلك من الأمور
الخارقة للعادة.
والظاهر أنها لم تكن كذلك ، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى صيرورتها ثعبانًا ، فما
كان يفر منها هاربًا ، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية (2) وكذا قول بعضهم :
إنها كانت لآدم ، عليه السلام. وقول الآخر : إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم
القيامة. وروي عن ابن عباس أنه قال : كان اسمها ماشا. والله أعلم بالصواب.
وقوله تعالى : { [ قَالَ ] (3) أَلْقِهَا يَا مُوسَى } أي : هذه العصا التي في يدك
يا موسى ، ألقها { فَأَلْقَاهَا (4) فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } أي : صارت في
الحال حَيَّة عظيمة ، ثعبانًا طويلا يتحرك حركة سريعة ، فإذا هي تهتز كأنها جان ،
وهو (5) أسرع الحيات حركة ، ولكنه صغير ، فهذه في غاية الكبر ، وفي غاية سرعة
الحركة ، { تَسْعَى } أي : تمشي وتضطرب.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عَبْدَة ، حدثنا حفص بن جُمَيْع ،
حدثنا سِمَاك ، عن عكرمة ، عن [ابن عباس] (6) { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ
تَسْعَى } ولم تكن قبل ذلك حية ، فمرت بشجرة فأكلتها ، ومرت بصخرة فابتلعتها ،
فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها ، فولى مدبرًا ، فنودي أن : يا موسى ، خذها.
فلم يأخذها ، ثم نودي الثانية أن : خذها ولا تخف. فقيل له في الثالثة : إنك من
الآمنين. فأخذها.
وقال وهب بن مُنَبّه في قوله : { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } قال
: فألقاها على وجه الأرض ، ثم حانت نظرة فإذا بأعظم (7) ثعبان نظر إليه الناظرون ،
فَدَبّ يلتمس كأنه يبتغى شيئًا يريد أخْذَه ، يمر بالصخرة مثل الخَلِفَة من الإبل
فيلتقمها ، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها ، عيناه توقدان
نارا ، وقد عاد المحْجَن منها عُرفًا. قيل : شعر مثل النيازك ، وعاد الشعبتان منها
مثل القليب الواسع ، فيه أضراس وأنياب ، لها صريف ، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرًا
ولم يُعَقِّب ،
__________
(1) في أ : "تكلم".
(2) في أ : "الإسرائيليات".
(3) زيادة من ف
(4) في ف : "فألقيها"
(5) في ف : "وهي".
(6) زيادة من ف.
(7) في ف : "بأعظم".
(5/279)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
فذهب
حتى أمعن ، ورأى أنه قد أعجَز الحية ، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ، ثم نودي : يا
موسى أنْ : ارجع حيث كنت. فرجع موسى وهو شديد الخوف. فقال : { خُذْهَا } بيمينك {
وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولَى } وعلى موسى حينئذ مِدْرَعة من صوف ،
فدخلها بخلال من عيدان ، فلما أمره بأخذها أدلى طرف المدرعة على يده ، فقال له ملك
(1) أرأيت يا موسى ، لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئًا ؟ قال :
لا ولكني ضعيف ، ومن ضَعْف خلقت. فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية ، حتى سمع حسّ
الأضراس والأنياب ، ثم قَبض فإذا هي عصاه التي عهدها ، وإذا يده في موضعها الذي
كان يضعها إذا توكأ بين الشعبتين ؛ ولهذا قال تعالى : { سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا
الأولَى } أي : إلى حالها (2) التي تعرف قبل ذلك.
{ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً
أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي
(26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ
لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ
كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) }.
وهذا بُرهان ثان لموسى ، عليه السلام ، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه ،
كما صرح به في الآية الأخرى ، وهاهنا عبر عن ذلك بقوله : { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى
جَنَاحِكَ } وقال في مكان آخر : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ
فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } [القصص : 32].
وقال مجاهد : { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } كفه تحت عضده.
وذلك أن موسى ، عليه السلام ، كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها ، تخرج تتلألأ
كأنها فلقة قمر.
وقوله : { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي : من غير بَرَص ولا أذى ،
ومن غير شين. قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، والسدي ،
وغيرهم.
وقال الحسن البصري : أخرجها - والله - كأنها مصباح ، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز
وجل ؛ ولهذا قال تعالى : { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى }.
وقال وهب : قال له ربه : ادْنُهْ : فلم يزل يدنيه حتى شدّ ظهره بجذع الشجرة ،
فاستقر وذهبت عنه الرعدة ، وجمع يده في العصا ، وخضع برأسه وعنقه.
وقوله { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } أي : اذهب إلى فرعون ملك مصر ،
الذي خَرَجت فارًا منه
__________
(1) في ف : "مالك".
(2) في ف : "حالتها".
(5/280)
وهاربًا
، فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ومره فَلْيُحْسِن إلى بني إسرائيل ولا
يعذبهم ، فإنه قد طغى وبَغَى ، وآثر الحياة الدنيا ، ونسي الرب الأعلى.
قال وهب بن مُنَبِّه : قال الله لموسى : انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي ، وإني
(1) معك أيدي ونَصْري ، وإني قد ألبستك جُنَّةً من سلطاني لتستكمل بها القوة في
أمري ، فأنت جند عظيم من جندي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ، بطر نعمتي ، وأمن
مكري ، وغرته الدنيا عني ، حتى جحد حقي ، وأنكر ربوبيتي ، وزعم أنه لا يعرفني ،
فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي ، لبطشت به بطشة جبار ، يغضب
لغضبه السموات والأرض ، والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض
ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته ، وإن أمرت البحار غرقته ، ولكنه هان عليّ ، وسقط
من عيني ، ووسعه حلمي ، واستغنيت بما عندي ، وحقي إني أنا الغنيّ لا غنيّ غيري ،
فبلغه رسالتي ، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي ، وذكره أيامي (2) وحذره نقمتي
وبأسي ، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي ، وقل له فيما بين ذلك قولا لينًا لعله
يتذكر أو يخشى ، وخَبّره (3) أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة
، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ، ليس ينطق ولا يطرف ولا
يتنفس إلا بإذني ، وقل له : أجب ربك فإنه واسع المغفرة ، وقد أمهلك أربعمائة سنة ،
في كلها أنت مبارزه بالمحاربة ، تسبه وتتمثل به وتصدّ عباده عن سبيله وهو يمطر
عليك السماء ، وينبت لك الأرض ، [و] (4) لم تسقم ولم تهرم ولم تفتقر [ولم تغلب]
(5) ولو شاء الله أن يعَجِّل لك العقوبة لفعل ، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم. وجاهده
بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده (6) فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها
لفعلت ، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة
- ولا قليل مني - تغلب الفئة الكثيرة بإذني ، ولا تعجبنكما (7) زينته ، ولا ما
مَتّع به ، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما ، فإنها زهر (8) الحياة الدنيا ، وزينة
المترفين. ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ، ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن
مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما ، فعلت ، ولكني أرغب بكما عن ذلك ، وأزويه عنكما.
وكذلك أفعل بأوليائي ، وقديمًا ما جرت عادتي في ذلك. فإني لأذودُهم عن نعيمها
ورخائها ، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة ، وما ذاك لهوانهم عليّ ،
ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفرًا لم تكْلَمْه الدنيا.
واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ مما (9) عندي من الزهد في الدنيا ،
فإنها زينة المتقين ، عليهم منها لباس يُعْرَفون به من السكينة والخشوع ، سيماهم
في وجوههم من أثر السجود ، أولئك أوليائي حقًا حقًا ، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك
، وذلل قلبك ولسانك ، واعلم أنه من أهان لي
__________
(1) في ف : "وإن".
(2) في أ : "وذكره. آياتي".
(3) في ف : "وأخبره".
(4) زيادة من ف.
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "وإنما يحتسب أن يجاهده".
(7) في ف ، أ : "يعجبكما".
(8) في ف ، أ : "زهرة".
(9) في ف ، أ "فيما".
(5/281)
وليًا
أو أخافه ، فقد بارزني بالمحاربة ، وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها ، وأنا أسرع
شيء إلى نصرة أوليائي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ، أم يظن الذي يعاديني أن
يعجزني ، أم (1) يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني. وكيف وأنا الثائر لهم في
الدنيا والآخرة ، لا أَكِلُ مضطرهم (2) إلى غيري.
رواه ابن أبي حاتم.
{ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي } هذا سؤال من موسى ،
عليه السلام ، لربه عز وجل ، أن يشرح له صدره فيما بعثه به ، فإنه قد أمره بأمر
عظيم ، وخطب جسيم ، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك ، وأجبرهم ، وأشدهم
كفرًا ، وأكثرهم جنودًا ، وأعمرهم ملكًا ، وأطغاهم وأبلغهم تمردًا ، بلغ من أمره
أن ادعى أنه لا يعرف الله ، ولا يعلم لرعاياه إلهًا غيره.
هذا وقد مكث موسى في داره مدة وليدًا عندهم ، في حجر فرعون ، على فراشه ، ثم قتل
منهم نفسا فخافهم أن يقتلوه ، فهرب منهم هذه المدة بكمالها. ثم بعد هذا بعثه ربه
عز وجل إليهم نذيرًا يدعوهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له ؛ ولهذا
قال : { رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي } أي : إن لم تكن أنت
عوني ونصيري ، وعضدي وظهيري ، وإلا فلا طاقة لي بذلك.
{ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } وذلك لما كان أصابه من
اللثغ ، حين عرض عليه التمرة والجمرة ، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه ، كما سيأتي بيانه
، وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل بحيث (3) يزول العي ، ويحصل لهم فهم ما يريد
منه وهو قدر الحاجة. ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب
الحاجة ، ولهذا بقيت بقية ، قال الله تعالى إخبارًا عن فرعون أنه قال : { أَمْ
أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف 52]
أي : يفصح بالكلام.
وقال الحسن البصري : { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي } قال : حل عقدة واحدة ،
ولو سأل أكثر من ذلك أعطى.
وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ،
فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون
يكون له ردءًا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه سؤله ، فحل عقدة من
لسانه.
وقال ابن أبي حاتم : ذُكِرَ عن عَمْرو بن عثمان ، حدثنا بَقِيّة ، عن أرطاة بن
المنذر ، حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب ، عنه قال : أتاه ذو قرابة له. فقال له : ما
بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك ، ولست تعرب في قراءتك ؟ فقال القرظي : يا ابن أخي
، ألست أفهمك إذا حدثتك (4) ؟. قال :
__________
(1) في أ : "أو".
(2) في ف ، أ : "نصرتهم".
(3) في أ : "بحيث ما".
(4) في أ : "حدثت"
(5/282)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
نعم.
قال : فإن موسى ، عليه السلام ، إنما سأل ربه أن يحل (1) عقدة من لسانه كي يفقه
بنو إسرائيل كلامه ، ولم يزد عليها. هذا لفظه.
وقوله : { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي } : وهذا أيضًا
سؤال من موسى في أمر خارجي عنه ، وهو مساعدة أخيه هارون له.
قال الثوري ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : فَنُبّئ هارون
ساعتئذ حين نبئ موسى ، عليهما السلام.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن نُمَير ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة (2)
عن أبيه ، عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر ، فنزلت ببعض الأعراب ، فسمعت رجلا
يقول : أيّ أخ كان في الدنيا (3) أنفع لأخيه ؟ قالوا : ما ندري. قال : والله أنا
أدري (4) قالت : فقلت في نفسي : في حلفه لا يستثنى ، إنه ليعلم أي أخ كان في
الدنيا أنفع لأخيه. قال : موسى حين سأل لأخيه النبوة. فقلت : صدق والله. قلت : وفي
(5) هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى ، عليه السلام : { وَكَانَ عِنْدَ
اللَّهِ وَجِيهًا } [الأحزاب : 69].
وقوله : { اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } قال مجاهد : ظهري.
{ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي }
أي : في مشاورتي.
{ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا } قال مجاهد : لا يكون العبد
من الذاكرين الله كثيرًا ، حتى يذكر الله قائما وقاعدًا ومضطجعًا.
وقوله : { إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا } أي : في اصطفائك لنا ، وإعطائك إيانا
النبوة ، وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون ، فلك الحمد على ذلك.
{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ
مَرَّةً أُخْرَى (37) }
__________
(1) في ف ، أ : "يحلل".
(2) في أ : "هشام بن عون".
(3) في ف ، أ : "في الدنيا كان".
(4) في ف ، أ : "وتذكيرا".
(5) في أ : "ومن".
(5/283)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
{
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ
فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ
لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ
يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ
وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا (40) }
هذه (1) إجابة من الله لرسوله موسى ، عليه السلام ، فيما سأل من ربه عز وجل ،
وتذكير (2) له بنعمه السالفة عليه ، فيما كان ألهم أمه حين كانت ترضعه ، وتحذر
عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه ؛ لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان.
فاتخذت له تابوتا ، فكانت (3) ترضعه ثم تضعه فيه ، وترسله في البحر - وهو النيل -
وتمسكه إلى منزلها بحبل فذهبت مرة لتربطه (4) فانفلت منها
__________
(1) في ف ، أ : "هذا".
(2) في ف ، أ : "وتذكيرًا".
(3) في ف ، أ : "وكانت".
(4) في ف ، أ : "لتربط الحبل".
(5/283)
وذهب
به البحر ، فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله : { وَأَصْبَحَ
فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا
عَلَى قَلْبِهَا } [القصص : 10] فذهب به البحر إلى دار فرعون { فَالْتَقَطَهُ آلُ
فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } [القصص : 8] أي قدرًا مقدورًا
(1) من الله ، حيث كانوا هم يقتلون الغلمان (2) من بني إسرائيل ، حذرًا من وجود
موسى ، فحكم الله - وله السلطان العظيم ، والقدرة التامة - ألا يربى إلا على فراش
فرعون ، ويغذى بطعامه وشرابه ، مع محبته وزوجته له ؛ ولهذا قال : { يَأْخُذْهُ
عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } [أي : عند
عدوك ، جعلته يحبك. قال سلمة بن كُهَيْل : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً
مِنِّي } ] (3) قال : حببتك إلى عبادي.
{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } قال أبو عمران الجوني : تربى بعين الله.
وقال قتادة : تغذى على عيني.
وقال معمر بن المثنى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } بحيث أرى.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف ، غذاؤه
عندهم غذاء الملك ، فتلك الصنعة.
وقوله : { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ
يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } وذلك أنه لما
استقر عند آل فرعون ، عرضوا عليه المراضع ، فأباها ، قال الله عز وجل : {
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ } فجات أخته وقالت (4) { هَلْ
أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ }
[القصص : 12]. تعني (5) هل أدلكم على من ترضعه (6) لكم بالأجرة ؟ فذهبت به وهم
معها إلى أمه ، فعرضت عليه ثديها ، فقبله ، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا ، واستأجروها
على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة (7) أغنم وأجزل ؛
ولهذا جاء في الحديث : "مثل الصانع الذي يحتسب (8) في صنعته الخير ، كمثل أم
موسى ، ترضع ولدها وتأخذ أجرها" (9).
وقال تعالى هاهنا : { فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا
تَحْزَنَ } أي : عليك ، { وَقَتَلْتَ نَفْسًا } يعني : القبطي ، { فَنَجَّيْنَاكَ
مِنَ الْغَمِّ } وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله (10) ففر منهم هاربًا ،
حتى ورد ماء مدين ، وقال له ذلك الرجل الصالح : { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ } [القصص : 25].
وقوله : { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب
النسائي ، رحمه الله ، في كتاب التفسير من سننه ، قوله : { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا
} :
__________
(1) في أ : "أي قدرا مقدرا".
(2) في أ : "العلماء"
(3) زيادة من أ.
(4) في ف ، أ : "فقالت".
(5) في ف ، أ : "يعني".
(6) في ف : "يرضعه".
(7) في أ : "الأخرى".
(8) في ف ، أ : "يحسب".
(9) روى أبو داود في المراسيل برقم (332) من طريق جبير بن نفير نحوه ولفظه
"مثل الذين يغزون من أمتي ويأخذون الجعل ويتقوون على عدوهم به مثل أم موسى
ترضع ولدها وتأخذ أجرها".
(10) في ف : "آل فرعون ليقتلوه" وفي أ : "ليقتله".
(5/284)
حديث
الفتون
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا أصبغ بن زيد ، حدثنا
القاسم بن أبي أيوب ، أخبرني سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول
الله ، عز وجل ، لموسى ، عليه السلام : { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } فسألته عن
الفتون ما هو ؟ فقال : استأنف النهار يا بن جبير ، فإن لها حديثًا طويلا. فلما
أصبحت غدوت إلى (1) ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذاكر
فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم ، عليه السلام (2) أن يجعل في ذريته أنبياء
وملوكًا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ، ما (3) يشكون فيه وكانوا
يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم ، فقال
فرعون : فكيف ترون ؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار ،
يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلا ذبحوه. ففعلوا ذلك ، فلما
رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون ، قالوا : يوشك أن
تفنوا بني إسرائيل ، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي (4) كانوا
يكفونكم ، فاقتلوا عامًا كل مولود ذكر ، فيقل أبناؤهم (5) ودعوا عامًا فلا تقتلوا
منهم أحدًا ، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار ؛ فإنهم لن يكثروا (6) بمن
تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم ، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم ،
فأجمعوا أمرهم على ذلك.
فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة.
فلما كان من قابل حملت بموسى ، عليه السلام ، فوقع في قلبها الهَمّ والحزن ، وذلك
من الفتون - يا بن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه ، مما يراد به ، فأوحى الله [جل
ذكره] (7) إليها أن { لا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ
وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [القصص : 7] فأمرها إذا ولدت أن تجعله في
تابوت ثم تلقيه (8) في اليم. فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنُها أتاها
الشيطان ، فقالت في نفسها : ما فعلت با بني ، لو ذبح عندي فواريته وكفنته ، كان
أحب إليّ من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه.
فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فُرْضَة مستقى جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه
أخذنه فهممن أن يفتحن التابوت ، فقال بعضهن (9) إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم
تصدقنا امرأة الملك بما وجدناه فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئًا حتى رفعنه
(10) إليها. فلما فتحته رأت فيه غلامًا ، فألقى عليه منها (11) محبة لم يلق منها
على أحد قط. وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا من ذكر كل شيء ، إلا من ذكر موسى.
فلما سمع الذباحون بأمره ، أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه ، وذلك من
الفتون يا بن
__________
(1) في ف ، أ : "على".
(2) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(3) في ف : "ما كانوا".
(4) في أ : "الذي".
(5) في أ : "بناتهم".
(6) في أ : "يكبروا".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) في ف ، أ : "وتلقيه".
(9) في أ : "بعضهم".
(10) في ف ، أ : "دفعنه".
(11) في ف ، أ : "عليها منه".
(5/285)
جبير
، فقالت لهم : أقروه ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتى فرعون
فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم.
فأتت فرعون فقالت : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ } [القصص : 9] فقال فرعون : يكون
لك ، فأما لي فلا حاجة لي فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي
يُحْلَف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له (1) كما أقرت امرأته ، لهداه الله كما
هداها ، ولكن (2) حرمه ذلك". فأرسلت إلى من حولها ، إلى كل امرأة لها لبن
لتختار له ظئرًا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت
امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك ، فأمرت به فأخرج إلى السوق
ومجمع الناس ، ترجو أن تجد له ظئرًا تأخذه منها ، فلم يقبل ، وأصبحت أم موسى
والهًا ، فقالت لأخته : قصى أثره واطلبيه ، هل تسمعين له ذكرًا ، أحيّ ابني أم قد
أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون
- والجُنُب : أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد (3) وهو إلى جنبه (4) وهو لا يشعر
به - فقالت من الفرح حين أعياهم الظُّؤُرات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم
وهم له ناصحون. فأخذوها فقالوا : ما يدريك ؟ ما نصحهم له ؟ هل يعرفونه (5) ؟ حتى
شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا بن جبير. فقالت : نصحهم (6) له وشفقتهم عليه
رغبتهم في ظؤرة الملك ، ورجاء منفعة الملك. فأرسلوها فانطلقت إلى أمها (7)
فأخبرتها الخبر. فجاءت أمه ، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصَّه ، حتى
امتلأ جنباه ريًا ، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك
ظئرًا. فأرسلت إليها. فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي ترضعي ابني
هذا ، فإني لم أحب شيئًا حبه قط. قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي
فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي ، فيكون معي لا آلوه خيرًا
[فعلت ، وإلا] (8) فإني غير تاركة بيتي وولدي. وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها
فيه ، فتعاسرت على امرأة فرعون ، وأيقنت أن الله منجز وعده (9) فرجعت به إلى بيتها
من يومها ، [وأنبته] (10) الله نباتا حسنا وحفظه (11) لما قد قضى فيه.
فلم يزل بنو إسرائيل ، وهم في ناحية القرية ، ممتنعين من السخرة والظلم ما كان
فيهم ، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أتريني (12) ابني ؟ فَوَعَدَتْها
يومًا (13) تريها إياه فيه ، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظُؤُرها وقهارمتها : لا
يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك (14) وأنا باعثة
أمينا يحصي (15) ما يصنع كل إنسان منكم ، فلم تزل الهدايا والنحل
__________
(1) في ف ، أ : "أن يكون له قرة عين".
(2) في أ : "ولكن الله حرمه".
(3) في ف ، أ : "الشيء البعيد".
(4) في ف ، أ : "ناحية".
(5) في ف ، أ : "تعرفونه".
(6) في ف ، أ : "نصيحتهم".
(7) في ف ، أ : "أمه".
(8) زيادة من ف ، أ ، والطبري.
(9) في ف ، أ : "موعوده".
(10) في ف : "فأنبته".
(11) في أ : "حفظ"
(12) في أ : "تريني".
(13) في أ : "يوما أن".
(14) في أ : "ذلك فيه".
(15) في ف : "يحصي كل".
(5/286)
والكرامة
(1) تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلما دخل عليها
نحلته (2) وأكرمته ، وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ، ثم قالت : لآتين به
فرعون فَلَيَنْحَلَنَّهُ (3) وليكرمنه ، فلما دخلت به عليه جعله في حجره ، فتناول
موسى لحية فرعون يمدها (4) إلى الأرض ، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا
ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه ، إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك ، فأرسل إلى
الذباحين ليذبحوه. وذلك من الفتون يا بن جبير بعد كل بلاء ابتلي به ، وأريد به
(5).
فجاءت امرأة فرعون فقالت (6) ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال (7)
ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني! فقالت : اجعل بيني وبينك أمرًا يعرف فيه الحق
، ائت بجمرتين ولؤلؤتين ، فَقَرِّبْهُنَّ إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين (8) واجتنب
الجمرتين فاعرف (9) أنه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين ، علمت أن
أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل. فقرب إليه فتناول الجمرتين ،
فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد
ما كان قد همّ به ، وكان الله بالغا فيه أمره.
فلما بلغ أشده وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني
إسرائيل معه بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعوا كل الامتناع ، فبينما موسى ، عليه السلام
، يمشي في ناحية المدينة ، إذا (10) هو برجلين يقتتلان ، أحدهما فرعوني والآخر
إسرائيلي ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى غضبًا شديدًا ؛ لأنه
تناوله وهو يعلم منزلته (11) من بني إسرائيل وحفظه لهم ، لا يعلم الناس إلا أنما
ذلك من الرضاع ، إلا أم موسى ، إلا أن يكون الله [سبحانه] (12) أطلع موسى من ذلك
على ما لم يطلع عليه غيره. فوكز (13) موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلا
الله عز وجل والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : { هَذَا مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } [القصص : 15]. ثم قَالَ { رَبِّ
إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ } [القصص : 16] فأصبح في المدينة خائفًا يترقب الأخبار ، فأتى فرعون ،
فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا (14) ولا ترخص
لهم. فقال : ابغوني قاتله ، ومن يشهد عليه ، فإن الملك وإن كان صَغْوه مع قومه لا
يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت ، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم. فبينما
هم يطوفون ولا (15) يجدون ثبتًا ، إذا بموسى (16) من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي
يقاتل رجلا من آل فرعون آخر. فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف موسى قد
ندم على ما كان منه وكره الذي رأى ، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ،
فقال :
__________
(1) في ف : "والكرامة والنحل".
(2) في أ : "بجلته".
(3) في أ : "فليبجلنه".
(4) في ف ، أ : "فمدها".
(5) في ف ، أ : "به فتونا".
(6) في أ : "فجاءت امرأة فرعون تسعى إلى فرعون فقالت".
(7) في ف : "فقالت".
(8) في ف : "باللؤلؤ".
(9) في أ : "فعرفت".
(10) في ف : "إذا".
(11) في ف : "منزله".
(12) زيادة من أ.
(13) في ف ، أ : "فوكزه".
(14) في ف ، أ : "بحقك".
(15) في ف : "لا".
(16) في ف : "موسى".
(5/287)
للإسرائيلي
لما فعل بالأمس واليوم : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } فنظر الإسرائيلي إلى موسى
بعد ما قال له ما قال ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني فخاف أن
يكون بعد ما قال له : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } [القصص : 18] أن يكون إياه
أراد ، ولم يكن أراده ، وإنما أراد الفرعوني. فخاف الإسرائيلي وقال : { يَا مُوسَى
أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ } [القصص : 19]
وإنما قاله (1) مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا ، وانطلق الفرعوني
فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : { أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي
كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ } فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى ، فأخذ رسل
فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى ، وهم لا يخافون أن يفوتهم ،
فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى ،
فأخبره (2) وذلك من الفتون يا بن جبير.
فخرج موسى متوجهًا نحو مدين ، لم يلق بلاء قبل ذلك ، وليس له بالطريق علم إلا حسن
ظنه بربه عز وجل ، فإنه قال : { عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ
وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَان } [القصص : 22 ، 23].
يعني بذلك حابستين غنمهما ، فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟
قالتا (3) ليس لنا قوة نزاحم القوم ، إنما ننتظر فضول حياضهم. فسقى لهما ، فجعل
يغترف في الدلو ماء كثيرا ، حتى كان أول الرعاء ، فانصرفتا (4) بغنمهما إلى أبيهما
، وانصرف موسى ، عليه السلام ، فاستظل بشجرة ، وقال : { رَبِّ إِنِّي لِمَا
أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [القصص : 24]. واستنكر أبوهما سرعة
صدورهما بغنمهما حُفَّلا بطانًا فقال : إن لكما اليوم لشأنا ، فأخبرتاه بما صنع
موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى فدعته ، فلما كلمه قال : { لا تَخَفْ
نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص : 25]. ليس لفرعون ولا لقومه
علينا سلطان ولسنا في مملكته ، فقالت إحداهما : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ
خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ } [ القصص : 26 ] فاحتملته الغيرة
على أن قال لها : ما يدريك ما قوته ؟ وما أمانته ؟ فقالت : أما قوته ، فما رأيت
منه في الدلو حين سقى لنا ، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما الأمانة
فإنه نظر إليّ حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه
، حتى بلغته رسالتك. ثم قال لي : امشي خلفي ، وانعتي لي الطريق. فلم يفعل هذا إلا
وهو أمين ، فسرى عن أبيها وصدقها ، وظن به الذي قالت.
فقال له : هل لك { أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا
أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ
} [القصص : 27] ففعل فكانت على نبي الله موسى ثماني سنين واجبة ، وكانت سنتان عدة
منه ، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرًا.
قال سعيد - وهو ابن جبير - : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال : هل
تدري أيّ
__________
(1) في ف ، أ : "قال له".
(2) في ف ، أ : "فأخبره الخبر".
(3) في ف : "فقالتا".
(4) في ف : "وانصرفتا".
(5/288)
الأجلين
قضى موسى ؟ قلت : لا. وأنا يومئذ لا أدري. فلقيت ابن عباس ، فذكرت له ذلك ، فقال :
أما علمت أن ثمانيًا كانت على نبي الله واجبة ، لم يكن لنبي الله أن ينقص (1) منها
شيئًا ، ويعلم أن الله كان قاضيًا عن موسى عدته التي وعده فإنه قضى عشر سنين.
فلقيت النصراني فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك. قلت : أجل
، وأولى.
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن ،
فشكا إلى الله تعالى (2) ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه ، فإنه كان
في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون ، يكون له
ردءًا ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه. فآتاه الله سؤله ، وحل عقدة من
لسانه ، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه. فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون ،
عليهما (3) السلام. فانطلقا جميعًا إلى فرعون ، فأقاما على بابه حينًا لا يؤذن
لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا { إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ } [طه : 47].
قال : فمن ربكما ؟ فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن ؟ قال : فما تريدان ؟
وذكره القتيل ، فاعتذر بما قد سمعت. قال : أريد أن تؤمن بالله ، وترسل معي بنى
إسرائيل ؟ فأبى عليه وقال : { فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }
[الشعراء : 154]. فألقى عصاه [فإذا هي] (4) حية تسعى عظيمة فاغرة فاها ، مسرعة إلى
فرعون. فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها ، فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن
يكفها عنه. ففعل ، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء - يعني من غير برص
- ثم ردها فعادت إلى لونها الأول. فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا (5) له :
هذان ساحران { يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا
وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } [طه : 63] يعني : ملكهم الذي هم فيه
والعيش ، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئًا مما طلب ، وقالوا له : اجمع السحرة (6)
فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما. فأرسل إلى (7) المدائن فحشر له كل ساحر
متعالم ، فلما أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا : يعمل بالحيات.
قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصى الذي نعمل.
فما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي ، وأنا صانع إليكم كل شيء
أحببتم ، فتواعدوا يوم الزينة ، وأن يحشر الناس ضحى.
قال سعيد بن جبير : فحدثني ابن عباس : أن يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على
فرعون والسحرة ، هو يوم عاشوراء.
فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر ، {
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } [الشعراء :
40] يعنون موسى وهارون استهزاء بهما ، فقالوا : يا موسى - لقُدْرتهم بسحرهم - {
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ } [الأعراف :
115]{ قَالَ بَلْ أَلْقُوا } [طه : 66]{ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ
وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } [الاشعراء : 44]
فرأى
__________
(1) في ف : "نبي الله صلى الله عليه وسلم لينقص".
(2) في ف ، أ : "الله سبحانه".
(3) في ف : "عليه".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف : "فقالا".
(6) في ف : "اجمع السحرة لهما".
(7) في ف ، أ : "في".
(5/289)
موسى
من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة فأوحى الله إليه أن ألق عصاك ، فلما ألقاها صارت
ثعبانًا عظيمة فاغرة فاها ، فجعلت العصى تلتبس بالحبال حتى صارت جَزرًا إلى
الثعبان ، تدخل فيه ، حتى ما أبقت عصا ولا حبالا (1) إلا ابتلعته ، فلما عرفت (2)
السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحرًا لم يبلغ من سحرنا كل هذا ، ولكنه أمر من الله
عز وجل ، آمنا بالله (3) وبما جاء به موسى ، ونتوب إلى الله مما كنا عليه. فكسر
الله ظهر فرعون في ذلك (4) الموطن وأشياعه ، وظهر الحق ، وبطل ما كانوا يعملون {
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ } [الأعراف : 119] وامرأة فرعون
بارزة متبذلة (5) تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل
فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه ، وإنما كان حزنها وهمها
لموسى.
فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة ، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه
بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟. فأرسل
الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ، كل ذلك يشكو
إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ، ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا
كف ذلك أخلف موعده ، ونكث عهده.
حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا
أرسل في المدائن حاشرين ، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة ، وأوحى الله إلى البحر : إذا
ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة ، حتى يجوز موسى ومن معه ، ثم التق
على من بقي بعد من فرعون وأشياعه. فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى
البحر وله قصيف ، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيًا لله.
فلما تراءى الجمعان وتقاربا ، قال أصحاب موسى : إنا لمدركون ، افعل ما أمرك به ربك
، فإنه لم يكذب ولم تكذب. قال وعدني (6) أن إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة
، حتى أجاوزه. ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من
أواخر جند موسى ، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى ، فلما أن جاز موسى
وأصحابه كلهم البحر ، ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر ، فلما جاوز
موسى البحر قال أصحابه : إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه. فدعا ربه
فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه.
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم : { قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ
لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ
هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف
: 138 ، 139]. قد رأيتم من العِبَر وسمعتم ما يكفيكم ومضى. فأنزلهم موسى منزلا
وقال (7) أطيعوا هارون ، فإني قد استخلفته عليكم ، فإني ذاهب إلى ربي. وأجلهم
ثلاثين يومًا أن يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه وأراد
__________
(1) في ف ، أ : "حبلا".
(2) في ف : "عرف" وفي أ : "علم".
(3) في أ : "به".
(4) في ف ، أ : "هذا".
(5) في ف : "مبتذلة".
(6) في ف : "وعدني ربي".
(7) في ف ، أ : "وقال لهم".
(5/290)
أن
يكلمه في ثلاثين يومًا وقد صامهن ، ليلهن ونهارهن ، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح
فم الصائم ، فتناول موسى من نبات الأرض شيئًا فمضغه ، فقال له ربه حين أتاه : لم
أفطرت ؟ وهو أعلم بالذي كان ، قال : يا رب ، إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب
الريح. قال : أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك ، ارجع فصم
عشرًا ثم ائتني. ففعل موسى ، عليه السلام ، ما أمر (1) به ، فلما رأى قوم موسى أنه
لم يرجع إليهم في الأجل ، ساءهم ذلك. وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم قد خرجتم من
مصر ، ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ، ولكم فيهم مثل ذلك وأنا (2) أرى أنكم
تحتسبون (3) ما لكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ، ولسنا
برادين إليهم شيئًا (4) من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا ، فحفر حفيرا ، وأمر كل قوم
عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد عليه النار فأحرقه
، فقال (5) لا يكون لنا ولا لهم.
وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل ،
فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا ، فقضي له أن رأى أثرًا فقبض (6) منه
قبضة ، فمر بهارون ، فقال له هارون ، عليه السلام : يا سامري ، ألا تلقي ما في يدك
؟ وهو قابض عليه ، لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي
جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد.
فألقاها ، ودعا له هارون ، فقال : أريد أن يكون عجلا. فاجتمع ما كان في الحفيرة من
متاع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلا أجوف. ليس فيه روح ، وله خوار.
قال ابن عباس : لا والله ، ما كان له صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل في (7) دبره
وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك.
فتفرق بنو إسرائيل فرقًا ، فقالت فرقة : يا سامري ما هذا ؟ وأنت أعلم به. قال :
هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق. وقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى ،
فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع
قول موسى. وقالت فرقة : هذا عمل الشيطان ، وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق ،
وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل ، وأعلنوا التكذيب به ، فقال
لهم هارون : { يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ
} [طه : 90]. قالوا (8) فما بال موسى وعدنا ثلاثين يومًا ثم أخلفنا ، هذه أربعون
يومًا قد مضت ؟ وقال (9) سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه.
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال ، أخبره بما لقي قومه من بعده ، { فَرَجَعَ
مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا } [طه : 86] فقال لهم ما سمعتم في القرآن
، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى
__________
(1) في ف ، أ : "أمره".
(2) في ف : "وإني".
(3) في ف : "تحتسبوا".
(4) في ف : "شيئا إليهم".
(5) في ف : "وقال".
(6) في ف ، أ : "فأخذ".
(7) في ف ، أ : "من".
(8) في أ : "هكذا قالوا".
(9) في ف : "فقال".
(5/291)
الألواح
من الغضب ، ثم إنه عذر أخاه بعذره ، واستغفر له وانصرف (1) إلى السامري فقال له :
ما حملك على ما صنعت ؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول ، وفطنت لها (2) وعميت عليكم
فقذفتها { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي
الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ
وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ
ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } [طه : 96 ، 97] ولو كان إلها لم
يخلص إلى ذلك منه. فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل
رأي هارون ، فقالوا لجماعتهم : يا موسى ، سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها
، فيكفر عنا ما عملنا. فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك ، لا يألو الخير ، خيار
بني إسرائيل ، ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة ، فرجفت بهم
الأرض ، فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال : { رَبِّ
لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ
السُّفَهَاءُ مِنَّا } [الأعراف : 155] وفيهم من كان اطلع الله منه (3) على ما
أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به ، فلذلك رجفت بهم الأرض ، فقال : { وَرَحْمَتِي
وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ
الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي
التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيل } [الأعراف : 156 ، 157]. فقال : يا رب ، سألتك التوبة
لقومي ، فقلت : إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي ، هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك
الرجل المرحومة ؟ فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم (4) من لقي من والد
وولد ، فيقتله بالسيف ، ولا (5) يبالي من قتل في ذلك الموطن ، وتاب أولئك الذين
كان خفي على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا ،
وغفر الله للقاتل والمقتول.
ثم سار بهم موسى ، عليه السلام (6) متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد
ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف ، فثقل ذلك عليهم ،
وأبوا أن يقروا بها ، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن
يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل ، والكتاب بأيديهم ،
وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم. ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة ، فوجدوا
مدينة فيها قوم جبارون خَلْقُهُم خَلْق منكر - وذكروا من ثمارهم أمرًا عجيبًا من
عظمها - فقالوا : يا موسى إن فيها قومًا جبارين ، لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما
داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يُخَافُون - قيل
ليزيد : هكذا قرأه ؟ قال : نعم من الجبارين ، آمنا بموسى ، وخرجا إليه ، فقالوا :
نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم ، فإنهم لا قلوب
لهم ولا مَنَعَة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون - ويقول
أناس : إنهم (7) من قوم موسى. فقال الذين يخافون ، بنو إسرائيل : { [ قَالُوا ]
(8) يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ
أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة : 24] فأغضبوا
موسى ، فدعا عليهم وسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك ، لما رأى
__________
(1) في ف : "فانصرف".
(2) في ف : "إليها".
(3) في ف : "الله اطلع منه".
(4) في ف : "منهم كل".
(5) في ف : "لا".
(6) في ف ، أ : "صلى الله عليه وسلم".
(7) في ف ، أ : : إنهما".
(8) زيادة من أ.
(5/292)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
منهم
من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم (1) فاسقين ،
فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، يصبحون كل يوم فيسيرون ، ليس لهم قرار
، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وجعل لهم ثيابًا لا
تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم (2) حجرًا مربعًا ، وأمر موسى فضربه بعصاه. فانفجرت
منه اثنتا عشرة عينًا ، في كل ناحية ثلاث (3) أعين ، وأعلم كل سِبْط عينهم (4)
التي يشربون منها ، فلا يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان
الذي كان فيه بالأمس.
رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وصَدَّقَ ذلك عندي أن معاوية
سمع ابن عباس يحدث (5) هذا الحديث ، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على
موسى أمر القتيل الذي قتل ، فقال : كيف يُفْشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه
إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك ؟. فغضب ابن عباس ، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى
سعد بن مالك الزهري ، فقال له : يا أبا إسحاق ، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون ؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم
الفرعوني ؟ قال : إنما أفشى عليه الفرعوني ، بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على
ذلك وحضره.
هكذا رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى ، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي
حاتم في تفسيريهما (6) كلهم من حديث يزيد بن هارون به (7) وهو موقوف من كلام ابن
عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، وكأنه تلقاه ابن عباس ، رضي الله عنه (8)
مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره ، والله أعلم. وسمعت شيخنا
الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضًا.
{ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى
(40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا
تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا
لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) }
يقول تعالى مخاطبًا لموسى ، عليه السلام : إنه لبث مقيمًا في أهل "مدين"
فارًا من فرعون وملئه ، يرعى على صهره ، حتى انتهت المدة وانقضى الأجل ، ثم جاء موافقًا
لقدر الله وإرادته من غير ميعاد ، والأمر كله لله (9) تبارك وتعالى ، وهو المسير
عباده وخلقه فيما يشاء ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا [مُوسَى ] }
(10) قال مجاهد : أي على موعد.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ
يَا مُوسَى } قال : على قدر
__________
(1) في ف ، أ : "كما سماهم موسى".
(2) في ف : "أظهرهم".
(3) في ف : "ثلاثة".
(4) في أ : "منهم".
(5) في أ : "حدث".
(6) في أ : "في تفسيرهما".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (11326) وتفسير الطبري (16/125).
(8) في ف ، أ : "عنهما".
(9) في ف : "له".
(10) زيادة من ف ، أ.
(5/293)
الرسالة
والنبوّة.
وقوله : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } أي : اصطفيتك واجتبيتك رَسُولا لنفسي ، أي
: كما أريد وأشاء.
وقال البخاري عند تفسيرها : حدثنا الصَّلْتُ بن محمد ، حدثنا مهديّ بن ميمون ،
حدثنا محمد ابن سِيرين عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"التقى آدم وموسى ، فقال موسى : أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ؟
فقال آدم : وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه ، وأنزل عليك التوراة ؟
قال : نعم. قال : فوجدتَه قد كتب عَليّ قبل أن يخلقني ؟ قال : نعم. فحَجّ آدم
موسى" أخرجاه (1).
{ اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي } أي : بحُجَجي وبراهيني ومعجزاتي ، { وَلا
تَنِيَا فِي ذِكْرِي } قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تُبْطئا.
وقال مجاهد ، عن ابن عباس : لا تَضْعُفا.
والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله ، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ،
ليكون ذكرُ الله عونًا لهما عليه ، وقوّة لهما وسلطانًا كاسرًا له ، كما جاء في
الحديث : "إن عبدي كل عبدي للذي (2) يذكرني وهو مُنَاجِز قِرْنه". (3)
{ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } أي : تمرّد وعتا وتَجَهْرم على الله
وعصاه ،
{ فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } هذه الآية
فيها عبرة عظيمة ، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار ، وموسى صفوة الله من
خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين ، كما قال يزيد
الرقاشي عند قوله : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } : يا من يتحبب إلى من يعاديه
فكيف بمن يتولاه ويناديه ؟
وقال وهب بن مُنَبه : قولا له : إني إلى العفو والمغفرة أقربُ مني إلى الغضب
والعقوبة.
وعن عكرمة في قوله : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } قال : لا إله إلا الله ،
وقال (4) عمرو بن عبيد ، عن الحسن البصري : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا }
أعْذرا إليه ، قولا له : إن لك ربًا ولك معادًا ، وإن بين يديك جنة ونارا.
وقال بقيَّة ، عن علي بن هارون ، عن رجل ، عن الضحاك بن مُزَاحم ، عن النزال بن
سَبْرَة ، عن علي في قوله : { فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } قال : كَنِّه.
وكذا روي عن سفيان الثوري : كَنّه بأبي مُرَّة.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4736).
(2) في أ : "الذي".
(3) رواه الترمذي في السنن برقم (3580) من حديث عمارة بن زعكرة رضي الله عنه. وقال
الترمذي "هذا حديث غريب ولا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده
بالقوى".
(4) في أ : "وعن".
(5/294)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
والحاصل
من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل ، ليكون أوقع في النفوس
وأبلغ وأنجع ، كما قال تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } الآية
[النحل : 125].
[قوله] (1) { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } أي : لعله يرجع عما هو فيه من
الضلال والهلكة ، { أَوْ يَخْشَى } أي : يُوجد طاعة من خشية ربه ، كما قال تعالى :
{ لمن أراد أن يذكر أو يخشى } (2) فالتذكر : الرجوع عن المحذور ، والخشية : تحصيل
الطاعة.
وقال الحسن البصري [في قوله] (3) { لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } يقول :
لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون : أهْلكْه قبل أن أعذر (4) إليه.
وهاهنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل ، ويروى لأمَيّة بن أبي الصَّلْت فيما ذكره
ابن إسحاق :
وأنت الذي من فضل مَنٍّ ورحمة... بعثت إلى موسى رسولا مناديا...
فقلت له يا اذهب وهارون فادعُوَا... إلى الله فرعون الذي كان باغيا...
فقولا له هل أنت سوّيت هذه... بلا وتد حتى استقلت كما هيا...
وقولا له آأنت رَفَّعت هذه... بلا عمد? أرفق إذن بك بانيا...
وقولا له آأنت سويت وسطها... منيرًا إذا ما جَنَّه الليل هاديا...
وقولا له من يخرج الشمس بكرةً... فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا...
وقولا له من ينبت الحب في الثرى... فيصبح منه البقل يهتز رابيا...
ويخرج منه حبه في رءوسه (5) ففي ذاك آيات لمن كان واعيا (6)
{ قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى
(45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ
فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا
تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ
الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ
وَتَوَلَّى (48) }
يقول تعالى إخبارًا عن موسى وهارون ، عليهما السلام ، أنهما قالا مستجيرين بالله
تعالى شاكيَيْن
__________
(1) زيادة من ف ، وفي أ : "وقوله".
(2) هكذا في كل النسخ ، وليست آية.
(3) زيادة من أ.
(4) في ف : "تعذرا" ، وفي أ : "يعذر".
(5) في أ : "دويبة".
(6) السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
(5/295)
إليه
: { إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى } يعنيان أن
يَبْدُر إليهما بعقوبة ، أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك.
قال عبد الرحمن بن زيد : { أَنْ يَفْرُطَ } يعجل.
وقال مجاهد : يبسط علينا.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { أَوْ أَنْ يَطْغَى } : يعتدي.
{ قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } أي : لا تخافا منه ،
فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه ، وأرى مكانكما ومكانه ، لا يخفى عليّ من أمركم
شيء ، واعلما أن ناصيته بيدي ، فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني وبعد أمري
، وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسيّ ، حدثنا أبو
معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما
بعث اللهُ عزّ وجل موسى إلى فرعون قال : رب ، أيّ شيء أقول ؟ قال قل : هيا شراهيا.
قال الأعمش : فَسَّرَ ذلك : الحي قبل كل شيء ، والحي بعد كل شيء.
إسناد جيد ، وشيء غريب.
{ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ } ، قد تقدم في حديث
"الفتون" عن ابن عباس أنه قال : مكثا (1) على بابه حينًا لا يؤذن لهما ،
ثم أذن لهما بعد حجاب شديد.
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار : أن موسى وأخاه هارون خرجا ، فوقفا بباب فرعون
يلتمسان الإذن عليه وهما يقولان : إنا رسل (2) رب العالمين ، فآذنوا بنا هذا الرجل
، فمكثا فيما بلغني سنتين يَغْدوان ويروحان ، لا يعلم بهما ولا يجترئ أحد على أن
يخبره بشأنهما ، حتى دخل عليه بَطَّال له يلاعبه ويُضْحكه ، فقال له : أيها الملك
، إن على بابك رجلا يقول قولا عجيبًا ، يزعم أن له إلهًا (3) غيرك أرسله إليك. قال
: ببابي ؟ قال : نعم. قال : أدخلوه ، فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصاه ، فلما
وقف على فرعون قال : إني رسول رب العالمين. فعرفه فرعون.
وذكر السّدّي أنه لما قدم بلاد مصر ، ضاف أمّه وأخاه وهما لا يعرفانه ، وكان
طعامهما (4) ليلتئذ الطعثلل (5) وهو اللفت ، ثم عرفاه وسلما عليه ، فقال له موسى :
يا هارون ، إن ربي قد أمرني أن آتي هذا الرجل فرعون فأدعوه إلى الله ، وأمر (6) أن
تعاونني. قال : افعل ما أمرك ربك. فذهبا ، وكان ذلك ليلا فضرب موسى باب القصر
بعصاه ، فسمع فرعون فغضب وقال (7) من يجترئ على هذا
__________
(1) في ف : "عن ابن عباس أنهما مكثا في بابه" ، وفي أ : عن ابن عباس أنه
قال : مكثا في بابه".
(2) في أ : "رسول".
(3) في أ : "أن له إله" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(4) في أ : "وكان طعامهم".
(5) في أ : "الطفسل".
(6) في ف ، أ : "وأمرك".
(7) في ف ، أ : "فقال".
(5/296)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
الصنيع
؟ فأخبره السدنة والبوابون (1) بأن هاهنا رجلا مجنونًا يقول : إنه رسول الله. فقال
: عليّ به. فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر (2) الله في كتابه.
وقوله : { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ } أي : بدلالة ومعجزة من ربك ، {
وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } أي : والسلام عليك إن اتبعت الهدى.
ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم [كتابًا ، كان
أوله : "بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم]
(3) سلام على من اتبع الهدى. أما بعد ، [فإني أدعوك بدعاية الإسلام] (4) فأسلم
تسلم يؤتك الله أجرك مرتين".
وكذلك لما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا صُورَتُه :
"من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، سلام عليك. أما بعد ، فإني قد
أشركت (5) في الأمر مَعَكَ ، فلك المدر (6) ولي الوبر ، ولكن قريش (7) قوم
يعتدون". فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من محمد رسول الله
إلى مسيلمة الكذاب ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من
يشاء من عباده والعاقبة للمتقين" (8).
ولهذا قال موسى وهارون ، عليهما السلام ، لفرعون : { وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ
اتَّبَعَ الْهُدَى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ
كَذَّبَ وَتَوَلَّى } أي : قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم أن
العذاب متحمض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا
مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى
} [النازعات : 37 - 39] وقال تعالى : { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا
يَصْلاهَا إِلا الأشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [الليل : 14 - 16] وقال
تعالى : { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [القيامة :
31 ، 32]. أي : كذب بقلبه وتولى بفعله.
{ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى (51) }
__________
(1) في أ : "والبوابين" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(2) في ف : "ذكره".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف ، أ : "اشتركت".
(6) في أ : "فلك الدر".
(7) في ف ، أ : "قريشا".
(8) السيرة النبوية لابن هشام (2/600).
(5/297)
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
{
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى (52)
}.
يقول تعالى مخبرًا عن فرعون أنه قال لموسى منكرًا وجود الصانع الخالق ، إله كل شيء
وربه ومليكه ، قال : { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى } أي : الذي بعثك وأرسلك مَنْ
هو ؟ فإني لا أعرفه ، وما علمت لكم من إله غيري ، { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي
أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }. قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس
يقول : خلق لكل شيء زَوْجة.
(5/297)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
وقال
الضحاك عن ابن عباس : جعل الإنسان إنسانًا ، والحمار حمارًا ، والشاة شاةً.
وقال ليث بن أبي سُلَيم ، عن مجاهد : أعطى كل شيء صورته.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : سَوّى خلق كل دابة.
وقال سعيد بن جبير في قوله : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } قال :
أعطى كل ذي خَلْق ما يصلحه من خَلْقه ، ولم يجعل للإنسان من خَلْق الدابة ، ولا
للدابة من خلق الكلب ، ولا للكلب (1) من خلق الشاة ، وأعطى كل (2) شيء ما ينبغي له
من النكاح ، وهيّأ كلّ شيء على ذلك ، ليس شيء منها يشبه شيئًا من أفعاله (3) في
الخَلْق والرزق والنكاح.
وقال بعض المفسرين : { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } كقوله تعالى :
{ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [الأعلى : 3] أي : قدر قدرًا ، وهدى الخلائق إليه ،
أي : كَتَب الأعمال والآجال والأرزاق ، ثم الخلائق ماشون على ذلك ، لا يحيدون عنه
، ولا يقدر أحد على الخروج منه. يقول : ربنا الذي خلق [الخلق] (4) وقدر القَدَر ،
وجَبَل الخليقة على ما أراد.
{ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى } أصح الأقوال في معنى ذلك : أن فرعون لما
أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى ، شرع يحتج بالقرون
الأولى ، أي : الذين لم يعبدوا الله ، أي : فما بالهم إذا كان الأمر كما تقول ، لم
يعبدوا ربك (5) بل عبدوا غيره ؟ فقال له موسى في جواب ذلك : هم وإن لم يعبدوه فإن
عملهم (6) عند الله مضبوط عليهم ، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله ، وهو اللوح
المحفوظ وكتاب الأعمال ، { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } أي : لا يشذ عنه (7)
شيء ، ولا يفوته صغير ولا كبير ، ولا ينسى شيئًا. يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء
محيط ، وأنه لا ينسى شيئًا ، تبارك وتعالى وتقدس ، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان
(8) أحدهما : عدم الإحاطة بالشيء ، والآخر نسيانه بعد علمه ، فنزه نفسه عن ذلك.
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزلَ
مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى (54)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً
أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) }.
هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه ، عز وجل ، حين سأله فرعون عنه ، فقال : {
الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } ، ثم اعترض الكلام بين ذلك ،
ثم قال : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مِهَادًا }
__________
(1) في أ : "ولا للخلق".
(2) في ف ، أ : "كل ذي".
(3) في ف : "من فعاله".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف ، أ : "لم يعبدوه".
(6) في ف ، أ : "علمهم".
(7) في ف : "عليه".
(8) في ف ، أ : "نقصان".
(5/298)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
وفي
قراءة بعضهم "مهدا" أي : قرارا تستقرون (1) عليها وتقومون وتنامون عليها
(2) وتسافرون (3) على ظهرها ، { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا } أي : جعل لكم
طرقا تمشون في مناكبها ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [الأنبياء : 31].
{ وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ
شَتَّى } أي : [من] (4) ألوان النباتات من زروع وثمار ، ومن حامض وحلو ، وسائر
الأنواع.
{ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ }
أي : شيء لطعامكم وفاكهتكم ، وشيء لأنعامكم لأقواتها خضرا ويابسًا.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي : لدلالات وحججا (5) وبراهين { لأولِي النُّهَى }
أي : لذوي العقول السليمة المستقيمة ، على أنه لا إله إلا الله ، ولا رب سواه.
{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً
أُخْرَى }
أي : من الأرض مبدؤكم ، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض ، { وَفِيهَا
نُعِيدُكُمْ } أي : وإليها تصيرون إذا متم وبليتم ، ومنها نخرجكم تارة أخرى. {
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلا قَلِيلا } [الإسراء : 52].
وهذه الآية كقوله تعالى : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ
وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [الأعراف : 25].
وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة ، فلما دفن
الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر ثم قال (6) { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ }
ثم [أخذ] (7) أخرى وقال : { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ }. ثم أخذ أخرى وقال : {
وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى }.
وقوله { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } ، يعني :
فرعون ، أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات وعاين ذلك وأبصره ، فكذب بها
وأباها كفرا وعنادا وبغيا ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُوا بِهَا
وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [النمل : 14].
{ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا
نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ
الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) }.
يقول تعالى مخبرًا عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى ، وهي إلقاء عصاه
فصارت ثعبانًا عظيما ونزع يده من تحت جناحه فخرجت (8) بيضاء من غير سوء فقال : هذا
سحر ، جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس ، فيتبعونك وتكاثرنا بهم ، ولا يتم هذا
معك ، فإن عندنا سحرًا مثل
__________
(1) في ف : "يستقرون".
(2) في ف : "ويقومون وينامون عليها".
(3) في ف : "ويسافرون".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في أ : "وحجج" وهو خطأ والصواب ما أثبتناه.
(6) في أ ، : "وقال".
(7) زيادة من ، ف ، أ.
(8) في أ : "فتخرج.
(5/299)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
سحرك
، فلا يغرنك ما أنت فيه { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا } أي : يومًا
نجتمع نحن وأنت فيه ، فنعارض ما جئت به بما عندك من السحر في مكان معين ووقت معين
فعند ذلك { قال } لَهُمْ مُوسَى { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ } وهو يوم عيدهم
ونَوروزُهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماعهم جميعهم ؛ ليشاهد الناس قدرة الله على ما
يشاء ، ومعجزات الأنبياء ، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية ، ولهذا
قال : { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ } أي : جميعهم { ضُحًى } أي : ضحوة من النهار
ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح ، وهكذا شأن الأنبياء ، كل أمرهم واضح ، بيّن ، ليس
فيه خفاء ولا ترويج ؛ ولهذا لم يقل "ليلا" ولكن نهارًا ضحى.
قال ابن عباس : وكان يوم الزينة يوم عاشوراء.
وقال السدي ، وقتادة ، وابن زيد : كان يوم عيدهم.
وقال سعيد بن جبير : يوم سوقهم.
ولا منافاة. قلت : وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده ، كما ثبت في الصحيح.
وقال وهب بن مُنَبِّه : قال فرعون : يا موسى ، اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه.
قال موسى : لم أومر بهذا ، إنما أمرت بمناجزتك ، إن أنت لم تخرج دخلت إليك. فأوحى
الله إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلا وقل له أن يجعل هو. قال فرعون : اجعله إلى
أربعين يومًا. ففعل.
وقال مجاهد ، وقتادة : { مَكَانًا سُوًى } (1) مَنْصَفًا. وقال السدي : عدلا. وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { مَكَانًا سُوًى } [مستوى] (2) يتبين الناس ما (3) فيه
، لا يكون صَوَب (4) ولا شيء يتغيب بعض ذلك عن بعض مستوٍ حتى (5) يُرى.
{ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ
خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ
مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ
اسْتَعْلَى (64) }
يقول تعالى مخبرًا عن فرعون أنه لما تواعد هو بموسى (6) عليه السلام ، إلى وقت
ومكان معلومين ، تولى ، أي : شرع في جمع السحرة من مدائن مملكته ، كل من ينسب (7)
إلى سحر في ذلك الزمان. وقد كان السحر فيهم كثيرًا نافقًا جدًا ، كما قال تعالى :
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } [يونس : 79].
__________
(1) في أ : "سويا".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في أ : "وما".
(4) في أ ، و : "لا صوت".
(5) في ف ، أ : "مستوى".
(6) في أ : "تواعد هو وموسى".
(7) في أ : "كل من يسب".
(5/300)
{
ثُمَّ أَتَى } أي : اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة ، وجلس فرعون على
سرير مملكته ، واصطف له أكابر دولته ، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة وأقبل موسى ، عليه
السلام ، يتوكأ على عصاه ، ومعه أخوه هارون ، ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفًا ،
وهو يحرضهم ويحثهم ، ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم ، ويتمنون عليه ، وهو
يعدهم ويمنيهم ، فيقولون : { أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ (1) إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }
[الشعراء : 41 ، 42]. { قَالَ (2) لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا } أي : لا تُخَيّلُوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها ،
وأنها مخلوقة ، وليست مخلوقة ، فتكونون قد كذبتم على الله ، { فَيُسْحِتَكُمْ
بِعَذَابٍ } أي : يهلككم بعقوبة هلاكًا لا بقية له ، { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى
* فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } قيل : معناه : أنهم تشاجروا فيما بينهم
فقائل يقول : ليس هذا بكلام ساحر ، إنما هذا كلام نبي. وقائل يقول : بل هو ساحر.
وقيل غير ذلك ، والله أعلم.
وقوله : { وَأَسَرُّوا النَّجْوَى } أي : تناجوا فيما بينهم ، { قَالُوا إِنْ
هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } هذه لغة لبعض العرب ، جاءت هذه القراءة على إعرابها ،
ومنهم من قرأ : "إنْ هَذَينِ لَسَاحِرَانِ" وهذه اللغة المشهورة ، وقد
توسع النحاة في الجواب عن القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه.
والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم : تعلمون (3) أن هذا الرجل وأخاه - يعنون :
موسى وهارون - ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر ، يريدان في هذا اليوم أن
يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس ، وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده ،
فينتصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم.
وقوله : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أي : ويستبدا بهذه الطريقة ،
وهي السحر ، فإنهم كانوا معظَّمين بسببها ، لهم أموال وأرزاق عليها ، يقولون : (4)
إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض ، وتفردا بذلك ، وتمحضت لهما الرياسة بها
دونكم.
وقد تقدم في حديث الفتون عن (5) ابن عباس [قال] (6) في قوله : { وَيَذْهَبَا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } يعني : ملكهم الذي هم فيه والعيش.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا هُشَيْم ، عن عبد
الرحمن بن إسحاق ، سمع الشعبي يحدث عن علي في قوله : { وَيَذْهَبَا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } قال : يصرفا (7) وجوه الناس إليهما.
وقال مجاهد : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } قال : أولي الشرف والعقل
والأسنان.
وقال أبو صالح : { بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أشرافكم وسرواتكم. وقال عكرمة :
بخيركم. وقال قتادة : وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل ، كانوا أكثر القوم عددا
وأموالا فقال عدو الله : يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما.
__________
(1) في ف : "إنكم".
(2) في أ : "فقال".
(3) في ف أ : "يعلمون".
(4) في ف : "يقولان".
(5) في ف ، أ : "أن".
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف ، أ : "يصرفان".
(5/301)
وقال
عبد الرحمن بن زيد : { بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } بالذي أنتم عليه.
وقوله { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا } أي اجتمعوا كلكم (1)
صفًّا واحدًا ، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة ، لتبهروا الأبصار ، وتغلبوا هذا
وأخاه ، { وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } أي : منا ومنه ، أما نحن
فقد وعدنا هذا الملك العطاء الجزيل ، وأما هو فينال الرياسة العظيمة.
__________
(1) في أ : "كلهم".
(5/302)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
{
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ
أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ
إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً
مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي
يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا
بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) }.
يقول تعالى مخبرًا عن السحرة حين توافقوا هم وموسى ، عليه السلام ، أنهم قالوا
لموسى : { إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ } أي : أنت أولا { إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا
أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا } أي : أنتم أولا ليُرى
ماذا تصنعون من السحر ، وليظهر للناس جلية أمرهم ، { فَإِذَا حِبَالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى }. وفي الآية الأخرى
أنهم لما ألقوا { وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ }
[الشعراء : 44] وقال تعالى : { سَحَرُوا (1) أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ
وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [الأعراف : 116] ، وقال هاهنا { فَإِذَا حِبَالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى }.
وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه وتضطرب وتميد ، بحيث يخيل للناظر
(2) أنها تسعى باختيارها ، وإنما كانت حيلة ، وكانوا جمًّا غفيرًا وجمعًا كبيرًا
(3) فألقى كل منهم عصا وحبلا حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضها بعضًا.
وقوله : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } أي خاف على الناس أن
يَفْتَتِنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه ، فأوحى الله تعالى إليه
في الساعة الراهنة أن { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } يعني : عصاه ، فإذا هي {
تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } وذلك أنها صارت تِنِّينًا (4) عظيما هائلا ذا عيون وقوائم
وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق (5) منها شيئًا إلا
تلقفته وابتلعته ، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عيانًا جَهْرة ، نهارًا ضحوة.
فقامت المعجزة ، واتضح البرهان ، وبطل ما كانوا يعملون (6) ؛ ولهذا قال تعالى : {
إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى }.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن موسى الشيباني (7) حدثنا حماد بن
خالد ، حدثنا ابن معاذ - أحسبه الصائغ - عن الحسن ، عن جُنْدَب بن عبد الله البجلي
قال : قال رسول الله
__________
(1) في ف : "فسحروا".
(2) في ف ، أ : "للناظرين".
(3) في ف ، أ : "كثيرا".
(4) في ف ، أ : ثعبانا".
(5) في ف : "لم يبق".
(6) في ف ، أ : "ووقع الحق وبطل السحر".
(7) في ف : "ابن الشيباني".
(5/302)
صلى
الله عليه وسلم "إذا أخذتم - يعني الساحر - فاقتلوه" ثم قرأ : { وَلا
يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } قال : "لا يؤمن به حيث وجد".
وقد روى أصله الترمذي موقوفًا ومرفوعًا. (1)
فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه ، ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه ووجوهه ، علموا علم
اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل ، وأنه حق لا مرية فيه ،
ولا يقدر على هذا إلا الذي يقول للشيء كن فيكون ، فعند ذلك وقعوا سُجَّدًا لله
وقالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } [الشعراء :
47 ، 48].
ولهذا قال ابن عباس ، وعُبَيد بن عُمَير : كانوا أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار
شهداء بررة.
قال محمد بن كعب : كانوا ثمانين ألفًا ، وقال القاسم بن أبي بزَّة : كانوا سبعين
ألفًا.
وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفًا.
وقال الثوري : عن عبد العزيز بن رُفَيْع ، عن أبي ثمامة : كان (2) سحرة فرعون تسعة
عشر ألفًا.
وقال محمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر ألفًا.
وقال كعب الأحبار كانوا اثني عشر ألفًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن حمزة ، حدثنا (3)
علي بن الحسين بن واقد ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال :
كانت السحرة سبعين رجلا أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المسيب بن واضح بمكة ، حدثنا ابن المبارك
قال : قال الأوزاعي : لما خرَّ السحرة سُجَّدًا رُفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها.
قال : وذُكر عن سعيد بن سلام : حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سليمان ، عن سالم
الأفطس ، عن سعيد بن جبير قوله : { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا } قال : رأوا
منازلهم تبني لهم وهم في سجودهم. وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بَزَّة.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (1460) من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب رضي الله
عنه وقال : "هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وإسماعيل بن مسلم
المكي يضعف في الحديث ، وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع : هو ثقة ويروى
عن الحسن أيضا والصحيح عن جندب موقوف ، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب
النبي صلى الله عليه ومسلم وغيرهم". تنبيه : ذكر الحافظ المزي هذا الحديث في
كتابه تحفة الأشراف (2/446) من مسند جندب الخير الأزدي لا من مسند جندب بن عبد
الله البجلي رضي الله عنهما فليتنبه".
(2) في أ : "كانوا".
(3) في أ : "حدثنا محمد بن موسى حدثني علي بن الحسين".
(5/303)
قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
{
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ
وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ
عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي
هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا
خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى (73) }.
يقول تعالى مخبرًا عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل ، حين رأى ما
رأى من المعجزة الباهرة والآية العظيمة ، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة
الناس كلهم وغُلِب كل الغلب - شرع في المكابرة والبهت ، وعدل إلى استعمال جاهه
وسلطانه في (1) السحرة ، فتهددهم وأوعدهم (2) وقال { آمَنْتُمْ لَهُ } أي :
صدقتموه { قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } أي : وما أمرتكم بذلك ، وافتتم (3) عليّ في
ذلك. وقال قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بَهْت وكذب : { إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى
، واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي ، لتظهروه ، كما قال في الآية الأخرى : {
إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا
أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [الأعراف 123].
ثم أخذ يتهددهم فقال : { فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ
وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي : لأجعلنكم مثلة [ولأقتلنكم] (4)
ولأشهرنكم.
قال ابن عباس : فكان أول من فعل ذلك. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } أي أنتم تقولون
: إني وقومي على ضلالة ، وأنتم مع موسى وقومه على الهدى. فسوف تعلمون من يكون له
العذاب ويبقى فيه.
فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم ، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل ، و { قَالُوا
لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ } أي : لن نختارك على ما
حصل لنا من الهدى واليقين. { وَالَّذِي فَطَرَنَا } يحتمل أن يكون قسمًا ، ويحتمل
أن يكون معطوفًا على البينات.
يعنون : لا (5) نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم ، المبتدئ خلقنا
من الطين ، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت.
{ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } أي : فافعل ما شئت وما وَصَلَت إليه يدك ، {
إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي : إنما لك تَسَلُّط في هذه
الدار ، وهي دار الزَّوال ونحن قد رغبنا في دار القرار. (6)
__________
(1) في ف : "إلى".
(2) في ف : "وتوعدهم" وفي أ : "فهددهم وتوعدهم".
(3) في ف : "وأقسم" وفي أ : "وأقشم".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف ، أ : "لن".
(6) في أ : "البقاء"
(5/304)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
{
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا } أي : ما كان منا من
الآثام ، خصوصًا ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة ،
عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ
مِنَ السِّحْرِ } قال : أخذ فرعون أربعين غلامًا من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا
السحر بالفَرَمَا ، وقال : علموهم تعليمًا لا يعلمه (1) أحد في الأرض.قال ابن عباس
: فهم من الذين آمنوا بموسى ، وهم من الذين قالوا : { [ إِنَّا ] (2) آمَنَّا
بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ
السِّحْرِ }.
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقوله : { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي : خير لنا منك { وَأَبْقَى } أي : أدوم
ثوابًا مما كنت وعدتنا ومنيتنا. وهو رواية عن ابن إسحاق ، رحمه الله.
وقال محمد بن كعب القُرَظِي : { وَاللَّهُ خَيْرُ } أي : لنا منك إن أطيع ، {
وَأَبْقَى } أي : منك عذابًا إن عُصِيَ.
وروي نحوه عن ابن إسحاق أيضًا :
والظاهر أن فرعون - لعنه الله - صمم على ذلك وفعله بهم ، رحمهم الله ؛ ولهذا قال
ابن عباس وغيره من السلف : أصبحوا سحرة ، وأمسَوْا شهداء.
{ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ
فِيهَا وَلا يَحْيَا (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ
فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) }.
الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون ، يحذرونه من نقمة الله
وعذابه الدائم السرمدي ، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد ، فقالوا : { إِنَّهُ
مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا } أي : يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم ، { فَإِنَّ
لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } كقوله : { لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ
} [فاطر : 36] ، وقال : { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ
الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } [الأعلى : 11 - 13] ، وقال
تعالى : { وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ
مَاكِثُونَ } [الزخرف : 77].
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا إسماعيل ، أخبرنا سعيد بن يزيد ، عن أبي نَضْرَة
، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما أهل
النار الذين هم أهلها ، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن [الناس] (3) تصيبهم
النار بذنوبهم ، فتميتهم إماتة ، حتى إذا صاروا فحمًا ، أذن في الشفاعة ، جيء بهم
ضبائر ، ضبائر ، فبُثُّوا على أنهار الجنة ، فيقال : يا أهل الجنة ، أفيضوا عليهم
(4) فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل"
__________
(1) في أ : "يغلبهم".
(2) زيادة من ف.
(3) زيادة من ف ، والمسند.
(4) في ف ، أ : "علينا".
(5/305)
فقال
رجل من القوم : كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية.
وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر بن المفضل ، كلاهما عن أبي
مَسْلَمة (1) سعيد بن يزيد به (2).
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال : حدثنا
أبي حدثنا حيان ، سمعت سليمان التيمي ، عن أبي نَضْرَة ، عن أبي سعيد ؛ أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم خَطَبَ فأتى على هذه الآية : { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا } ، قال
النبي صلى الله عليه وسلم : "أما أهلها الذين هم أهلها ، فلا يموتون فيها ولا
يحيون ، وأما الذين ليسوا من أهلها ، فإن النار تمسهم ، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون ،
فتجعل الضبائر ، فيؤتى (3) بهم نهرا يقال له : الحياة - أو : الحيوان - فينبتون
كما ينبت القثَّاء في حميل السيل".
وقوله : { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ } أي : ومن لقي
ربه يوم المعاد مؤمن القلب ، قد صدق ضميره بقوله وعمله ، { فَأُولَئِكَ لَهُمُ
الدَّرَجَاتُ الْعُلا } أي : الجنة ذات الدرجات العاليات ، والغرف الآمنات ،
والمساكن الطيبات.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، أنبأنا هَمَّام ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن عطاء بن
يسار ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الجنة مائة
درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ومنها تخرج
(4) الأنهار الأربعة ، والعرش فوقها ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس".
ورواه الترمذي ، من حديث يزيد بن هارون ، عن همام ، به (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ، أخبرنا
خالد بن يزيد بن أبي مالك ، عن أبيه قال : كان يقال : الجنة مائة درجة ، في كل
درجة مائة درجة ، بين (6) كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فيهن الياقوت والحلي
، في كل درجة أمير ، يرون له الفضل والسؤدد.
وفي الصحيحين : "أن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق
السماء ، لتفاضل ما بينهم". قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء ؟ قال
: "بلى والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" (7).
__________
(1) في ف ، أ : "سلمة".
(2) المسند (3/11) ، وصحيح مسلم برقم (185).
(3) في ف : "فيؤتون".
(4) في ف : "يخرج"
(5) المسند (5/316) ، وسنن الترمذي برقم (2531).
(6) في ف ، أ : "ما بين".
(7) صحيح البخاري برقم (6555) وصحيح برقم (2830) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
(5/306)
وفي
السنن : "وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما" (1).
وقوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي } أي : إقامة وهو بدل من الدرجات العلى ، {
[تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ] خَالِدِينَ فِيهَا } (2) أي : ماكثين أبدا ،
{ وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } أي : طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك ، وعبد
الله وحده لا شريك له ، وصدق (3) المرسلين فيما جاءوا به من خَبَر وطلب.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (3987) وسنن ابن ماجه برقم (96).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "واتبع".
(5/307)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
{
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ
طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى (77)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ
(78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) }.
يقول تعالى مخبرًا أنه أمر موسى ، عليه السلام ، حين أبى فرعون أن يرسل معه بني
إسرائيل ، أن يسري بهم في الليل ، ويذهب بهم من قبضة فرعون. وقد بسط الله هذا
المقام في غير هذه السورة الكريمة. وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس
منهم بمصر لا داع ولا مجيب ، فغضب فرعون غضبًا شديدًا وأرسل في المدائن حاشرين ،
أي من يجمعون له الجند من بلدانه ورَسَاتيقه ، يقول : { إِنَّ هَؤُلاءِ
لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } [الشعراء : 54 ، 55] ثم
لما جمع جنده واستوثق له جيشه ، ساق في طلبهم { فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ }
[الشعراء : 60] أي : عند طلوع الشمس { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ } أي : نظر
كل من الفريقين إلى الآخر { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ
كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء : 61 ، 62] ، ووقف موسى ببني
إسرائيل ، البحر أمامهم ، وفرعون وراءهم ، فعند ذلك أوحى الله إليه أن { اضْرِبْ
لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا } فضرب البحر بعصاه ، وقال : "انفلق
(1) بإذن الله" { فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ }
[الشعراء : 63] أي : الجبل العظيم. فأرسل الله الريح على أرض البحر فلفحته حتى صار
يابسا كوجه الأرض ؛ فلهذا قال : { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ
يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا } أي : من فرعون ، { وَلا تَخْشَى } يعني : من البحر
أن يغرق قومك.
ثم قال تعالى : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ
الْيَمِّ } (2) أي : البحر { مَا غَشِيَهُمْ } أي : الذي هو معروف ومشهور. وهذا
يقال عند الأمر المعروف المشهور ، كما (3) قال تعالى : { وَالْمُؤْتَفِكَةَ
أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } [النجم : 53 ، 54] ، وكما قال الشاعر :
أنَا أبُو النَّجْم وشِعْري شِعْري
أي : الذي يعرف ، وهو مشهور.
__________
(1) في أ : "على".
(2) في ف ، أ : "اليم ما غشيهم".
(3) في ف : "وكما".
(5/307)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
وكما
تقدمهم (1) فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد ، كذلك {
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ
الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } [هود : 98].
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ
جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ
عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي
لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) }.
يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام ، ومننه الجسام ، حيث نَجَّاهم من عدوهم
فرعون ، وأقر أعينهم منه ، وهم ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة ،
لم ينج منهم أحد ، كما قال [تعالى] : (2) { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [البقرة : 50].
وقال البخاري : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا رَوْح بن عبادة ، حدثنا شعبة ،
حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما قدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم المدينة واليهود تصوم عاشوراء ، فسألهم فقالوا : هذا اليوم الذي أظفر
الله فيه موسى على فرعون ، فقال : " نحن أولى بموسى فصوموه " رواه مسلم
أيضًا في صحيحه (3).
ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن ، وهو
الذي كلمه تعالى عليه ، وسأل فيه الرؤية ، وأعطاه التوراة هناك. (4) وفي غُضُون
ذلك عَبَدَ بنو إسرائيل العجل ، كما يقصه تعالى قريبا.
وأما المن والسلوى ، فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة "البقرة" (5)
وغيرها. فالمن : حلوى كانت تنزل عليه من السماء. والسّلوى : طائر يسقط عليهم ،
فيأخذون من كل ، قدر الحاجة إلى الغد ، لطفًا من الله ورحمة بهم ، وإحسانًا إليهم
؛ ولهذا قال تعالى : { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ
فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } أي : كلوا من هذا [الرزق] (6) الذي رزقتكم ، ولا
تطغوا في رزقي ، فتأخذوه من غير حاجة ، وتخالفوا ما آمركم به ، { فَيَحِلَّ
عَلَيْكُمْ غَضَبِي } أي : أغضب عليكم { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ
هَوَى } قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أي : فقد شقي.
وقال شُفَيّ بن ماتع : إن في جهنم قصرًا يُرمى الكافر من أعلاه ، فيهوي في جهنم
أربعين خريفًا قبل أن يبلغ الصلصال ، وذلك قوله : { وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ
غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : كل
من تاب إليّ تبتُ عليه من أي ذنب كان ، حتى إنه تعالى تاب (7) على من عبد العجل من
بني إسرائيل.
__________
(1) في ف : "يقدمهم".
(2) زيادة من ف.
(3) صحيح البخاري برقم (4737) ، وصحيح مسلم برقم (1130).
(4) في ف ، أ : "هنالك".
(5) عند تفسير الآية 57 وما بعدها.
(6) زيادة من ف ، أ.
(7) في ف ، أ : "أنه تاب تعالى".
(5/308)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
وقوله
: { تَابَ } أي : رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو نفاق أو معصية.
وقوله : { وَآمَنَ } أي : بقلبه (1) { وَعَمِلَ صَالِحًا } أي : بجوارحه.
وقوله : { ثُمَّ اهْتَدَى } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي ثم لم يشكك.
وقال سعيد بن جبير : { ثُمَّ اهْتَدَى } أي : استقام على السنة والجماعة. ورُوي
نحوه عن مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد من السلف.
وقال قتادة : { ثُمَّ اهْتَدَى } أي : لزم الإسلام حتى يموت.
وقال سفيان الثوري : { ثُمَّ اهْتَدَى } أي : علم أن لهذا (2) ثوابًا.
وثم هاهنا لترتيب الخبر على الخبر ، كقوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ } [البلد : 17].
{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى
أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا
قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى
قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا
حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ
غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا
مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ
فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) }
__________
(1) في ف : "قلبه".
(2) في ف : "هذا".
(5/309)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
{
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ
وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا
وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (89) }.
لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون ، وافوا (1) { عَلَى قَوْمٍ
يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا
كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ
مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأعراف : 138 ،
139] وواعده ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها (2) له عشرًا ، فتمت [له] (3) أربعين ليلة
، أي : يصومها ليلا ونهارًا. وقد تقدم في حديث "الفتون" بيان ذلك. فسارع
موسى عليه السلام مبادرًا إلى الطور ، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون ؛ ولهذا
قال تعالى : { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولاءِ
عَلَى أَثَرِي } أي : قادمون ينزلون قريبًا من الطور ، { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ
رَبِّ لِتَرْضَى } أي : لتزداد عني رضا ، { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ
مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } أخبر تعالى نبيه موسى بما كان بعده
من الحدث في بني إسرائيل ، وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك
__________
(1) في ف ، أ : "وأتوا".
(2) في ف ، أ : "أتمها".
(3) زيادة من ف ، أ.
(5/309)
السامري.
وفي الكتب الإسرائيلية : أنه كان اسمه هارون أيضًا ، وكتب الله تعالى له في هذه
المدة الألواح المتضمنة للتوراة ، كما قال تعالى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي
الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا
بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ
الْفَاسِقِينَ } [الأعراف : 145] أي : عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لأمري.
وقوله : { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا } أي : بعد ما أخبره
تعالى بذلك ، في غاية الغضب والحَنَق عليهم ، هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم ،
وتَسَلّم التوراة التي فيها شريعتهم ، وفيها شرف لهم. وهم قوم قد عبدوا غير الله
ما يَعْلَمُ كل عاقل له لب [وحزم] (1) بطلان (2) [ما هم فيه] (3) وسخافة عقولهم
وأذهانهم ؛ ولهذا رجع إليهم غضبان أسفًا ، والأسف : شدة الغضب.
وقال مجاهد : { غَضْبَانَ أَسِفًا } أي : جزعًا. وقال قتادة ، والسدي : { أَسِفًا
} أي : حزينًا على ما صنع قومه من بعده.
{ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا } أي : أما وعدكم
على لساني كل خير في الدنيا والآخرة ، وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على
عدوكم ، وإظهاركم عليه ، وغير ذلك من أياديه عندكم ؟ { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ
الْعَهْدُ } أي : في انتظار ما وعدكم الله. ونسيان ما سلف من (4) نعمه ، وما
بالعهد من قدم. { أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ
} "أم" هاهنا بمعنى "بل" وهي للإضراب عن الكلام الأول ، وعدول
إلى الثاني ، كأنه يقول : بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم {
فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا } أي : بنو إسرائيل في جواب ما أنبهم (5) موسى
وقرعهم : { مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } أي : عن قدرتنا واختيارنا.
ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد ، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حُلي
القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم ، حين خرجوا من مصر ، { فَقَذَفْنَاهَا } أي :
ألقيناها عنا. وقد تقدم في حديث "الفتون" أن هارون عليه السلام هو الذي
كان أمرهم بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار.
وفي رواية السُّدِّيّ ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : إنما أراد هارون أن يجتمع
الحُلي كله في تلك الحفيرة (6) ويجعل حجرًا واحدًا. حتى إذا رجع موسى يرى (7) فيه
ما يشاء. ثم جاء [بعد] (8) ذلك السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر
الرسول ، وسأل هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في دعوته ، فدعا له هارون - وهو لا
يعلم ما يريد - فأجيب له (9) فقال السامري عند ذلك : أسأل الله أن يكون عجلا. فكان
عجلا له خُوار ، أي : صوت ، استدراجًا وإمهالا ومحنة واختبارًا ؛ ولهذا قالوا : {
فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ
خُوَارٌ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبادة بن البَخْتَريّ (10) حدثنا يزيد بن هارون
أخبرنا حَمَّاد
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "بضلال".
(3) زيادة من ف ، أ وفي هـ : "ما لقيه".
(4) في ف : "في".
(5) في أ : "نبيهم".
(6) في ف : "الحفرة".
(7) في ف ، أ : "رأى".
(8) زيادة من ف ، أ.
(9) في ف ، أ : "فيه".
(10) في ف : "البحتري".
(5/310)
عن
سماك ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ؛ أن هارون مَرَّ بالسامري وهو ينحت العجل ،
فقال له : ما تصنع ؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع فقال هارون : اللهم اعطه ما سأل
على ما في نفسه ومضى هارون ، فقال (1) السامري : اللهم إني أسألك أن يَخُور فَخَار
، فكان إذا خار سجدوا له ، وإذا خار رفعوا رؤوسهم.
ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال : [أعمل] (2) ما ينفع ولا يضر.
وقال السدي : كان يخور ويمشي.
فقالوا - أي : الضُّلال منهم ، الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه - : { هَذَا
إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي : نسيه هاهنا ، وذهب يتطلبه. كذا تقدم
في حديث "الفتون" عن ابن عباس. وبه قال مجاهد.
وقال سِماك عن عكرمة عن ابن عباس : { فَنَسِيَ } أي : نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم.
وقال محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فقالوا : {
هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى } قال : فعكفوا عليه وأحبوه حبًّا لم يحبوا شيئًا
قط يعني مثله ، يقول الله : { فَنَسِيَ } أي : ترك ما كان عليه من الإسلام يعني :
السامري.
قال الله تعالى ردًّا عليهم ، وتقريعًا لهم ، وبيانًا لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما
ذهبوا إليه : { أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ
لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } أي : العجل { أَفَلا يَرَوْنَ } أنه لا يجيبهم إذا
سألوه ، ولا إذا خاطبوه ، { وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } أي : في
دنياهم ولا في أخراهم.
قال ابن عباس رضي الله عنه (3) لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره
فيخرج فيه ، فيسمع له صوت.
وقد تقدم في متون الحديث (4) عن الحسن البصري : أن هذا العجل اسمه بهموت.
وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط ، فألقوها عنهم ،
وعبدوا العجل. فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير ، كما جاء في الحديث الصحيح
عن ابن عمر : أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب - يعني : هل
يصلي فيه أم لا ؟ - فقال ابن عمر ، رضي الله عنه : (5) انظروا إلى أهل العراق ،
قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني : الحسين - وهم يسألون عن دم
البعوض ؟ (6).
__________
(1) في ف : "وقال".
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف ، أ : "عنهما".
(4) في ف ، أ : "حديث الفتون".
(5) في ف ، أ : "عنهما".
(6) صحيح البخاري برقم (5994).
(5/311)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا
لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) }.
يخبر تعالى عما كان من نَهْي هارون ، عليه السلام ، لهم عن عبادة العجل ، وإخباره
إياهم : إنما هذا فتنة لكم { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } الذي خلق كل شيء
فقدره تقديرًا ، ذو العرش المجيد ، الفعال لما يريد { فَاتَّبِعُونِي } أي : فيما
آمركم به ، واتركوا ما أنهاكم عنه.
{ قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى }
أي : لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه. وخالفوا هارون في ذلك وحاربوه وكادوا
أن يقتلوه.
{ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلا
تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) }.
يقول مخبرًا عن موسى ، عليه السلام ، حين رجع إلى قومه ، فرأى ما قد حدث فيهم من
الأمر العظيم ، فامتلأ عند ذلك غيظًا ، (1) وألقى ما كان في يده من الألواح
الإلهية ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وقد قدمنا في "الأعراف" بسط ذلك ،
وذكرنا هناك حديث "ليس الخبر كالمعاينة".
وشرع يلوم أخاه (2) هارون فقال : { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلا
تَتَّبِعَنِ } أي : فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } أي :
فيما كنت تقدمت إليك ، وهو قوله : { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } [الأعراف : 142]. قال : { يَا ابْنَ أُمَّ }
ترفق له بذكر الأم مع أنه شقيقه لأبويه ؛ لأن ذكر الأم هاهنا أرق وأبلغ ، أي : في
الحنو والعطف ؛ ولهذا قال : { يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ
قَوْلِي }.
هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه ، حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من
هذا الخطب الجسيم قال { إِنِّي خَشِيتُ } أن أتبعك فأخبرك بهذا ، فتقول لي : لم تركتهم
وحدهم وفرقت بينهم { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } أي : وما راعيت ما أمرتك به حيث
استخلفتك فيهم.
قال ابن عباس : وكان هارون هائبًا له مطيعًا.
__________
(1) في ف : "غضبا".
(2) في ف : "أخوه".
(5/312)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
{
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا
بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ
سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ
تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى
إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ
لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي
لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) }.
يقول موسى ، عليه السلام ، للسامري : ما حملك على ما صنعت ؟ وما الذي عرض لك حتى
فعلت ما فعلت ؟
قال محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان
السامري رجلا من أهل بَاجَرْمَا ، وكان من قوم يعبدون البقر ، وكان حُبُّ عبادة
البقر في نفسه ، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل. وكان اسم السامري : موسى بن
ظفر.
وفي رواية عن ابن عباس : [إنه] (1) كان من كرمان.
وقال قتادة : كان من قرية اسمها سامرا.
{ قال بصرت بما لم يبصروا به } أي : رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون ، {
فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } أي : من أثر فرسه. وهذا هو المشهور
عند كثير من المفسرين أو أكثرهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، أخبرنا عبيد الله بن موسى ،
أخبرنا إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي بن عمارة ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : إن
جبريل ، عليه السلام ، لما نزل فصعد بموسى إلى السماء ، بصر به السامري من بين
الناس ، فقبض قبضة من أثر الفرس قال : وحمل جبريل موسى خلفه ، حتى إذا دنا من باب
السماء ، صعد وكتب الله الألواح (2) وهو يسمع صرير الأقلام في الألواح. فلما أخبره
أن قومه قد فتنوا من بعده قال : نزل موسى ، فأخذ العجل فأحرقه. غريب. وقال مجاهد :
{ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } قال : من تحت حافر فرس (3) جبريل
، قال : والقبضة ملء الكف ، والقبضة بأطراف الأصابع.
قال مجاهد : نبذ السامري ، أي : ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل ، فانسبك
عجلا جسدًا له خُوار حفيف الريح فيه ، فهو خواره.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن يحيى ، أخبرنا علي بن المديني ، حدثنا يزيد بن
زُرَيْع ، حدثنا عمارة ، حدثنا عكرمة ؛ أن السامري رأى الرسول ، فألقي في روعه أنك
إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء ، فقلت له : "كن فكان"
فقبض قبضة من أثر الرسول ، فيبست أصابعه على القبضة ، فلما ذهب موسى للميقات وكان
بنو إسرائيل استعاروا حلي آل فرعون ، فقال لهم السامري : إنما أصابكم من أجل هذا
الحلي ، فاجمعوه. فجمعوه ، فأوقدوا عليه ، فذاب ، فرآه السامري فألقي في روعه أنك
لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت : "كن" كان. فقذف القبضة وقال : "كن"
، فكان عجلا له خوار ، فقال : { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى }.
ولهذا قال : { فَنَبَذْتُهَا } أي : ألقيتها مع من ألقى ، { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ
لِي نَفْسِي } أي : حَسَّنَتْهُ وأعجبها إذ ذاك.
{ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ } أي :
كما أخذت ومَسَسْتَ ما لم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ف : "وكتب الله الأقلام في الألواح".
(3) في ف : "فرس حافر".
(5/313)
يكن
أخذه ومسه من أثر الرسول ، فعقوبتك في الدنيا أن تقول : "لا مساس" أي :
لا تماسّ الناس ولا يمسونك.
{ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا } أي : يوم القيامة ، { لَنْ تُخْلَفَهُ } أي : لا محيد
لك عنه.
وقال قتادة : { أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ } قال : عقوبة لهم ، وبقاياهم اليوم
يقولون : لا مساس.
وقوله : { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ } قال الحسن ، وقتادة ، وأبو
نَهِيك : لن تغيب عنه.
وقوله : { وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ } أي : معبودك ، { الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ
عَاكِفًا } أي : أقمت على عبادته ، يعني : العجل { لنحرقنه } قال الضحاك عن ابن
عباس ، والسدي : سَحَله (1) بالمبارد ، وألقاه على النار.
وقال قتادة : استحال العجل من الذهب لحمًا ودمًا ، فحرقه بالنار ، ثم ألقاه ، أي :
رماده (2) في البحر ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا
}.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، أنبأنا إسرائيل ، عن
أبي إسحاق ، عن عمارة بن (3) عبد وأبي عبد الرحمن ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال :
إن موسى لما تعجل إلى ربه ، عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل
، ثم صوره عجلا قال : فعمد موسى إلى العجل ، فوضع عليه المبارد ، فبرّده بها ، وهو
على شط نهر ، فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب.
فقالوا لموسى : ما توبتنا (4) ؟ قال : يقتل بعضكم بعضًا.
وهكذا قال السدي : وقد تقدم في تفسير سورة "البقرة" ثم في حديث
"الفتون" بسط ذلك.
وقوله : { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ [وَسِعَ كُلَّ
شَيْءٍ عِلْمًا } يقول لهم موسى ، عليه السلام : ليس هذا إلهكم ، إنما إلهكم الله
الذي لا إله إلا هو] (5) أي : لا يستحق ذلك على العباد إلا هو ، ولا تنبغي العبادة
إلا له ، فإن كل شيء فقير إليه ، عبد لربه.
وقوله : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } نصب على التمييز ، أي : هو عالم بكل شيء
، { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق : 12] ، { وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ
عَدَدًا } [الجن : 28] ، فلا { يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } [سبأ : 3] ، {
وَمَا (6) تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ
الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام : 59] ، {
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ
مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود : 6] والآيات
في هذا كثيرة جدًّا.
__________
(1) في ف : "ينتحله".
(2) في ف : "ثم ألقى رماده".
(3) في ف : "عن".
(4) في ف ، أ : "ما يريد منا".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف : "ولا".
(5/314)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
{
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ
لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا (101)
}.
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : كما قَصَصْنَا عليك خبر موسى ، وما
جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع ، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية
كما وقعت من غير زيادة ولا نقص ، هذا { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا } أي :
عندنا { ذِكْرًا } وهو القرآن العظيم ، الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42] ،
الذي لم يعط نبي من الأنبياء [منذ بعثوا إلى أن ختموا] (1) بمحمد صلى الله عليه
وسلم تسليما ، كتابًا مثله ولا أكمل منه ، ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن ،
وحكم الفصل بين الناس منه ؛ ولهذا قال تعالى : { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ } أي : كذب
به وأعرض عن اتباعه أمرًا وطلبًا ، وابتغى الهدى في غيره ، فإن الله يضله ويهديه
إلى سواء الجحيم ؛ ولهذا قال : { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وِزْرًا } أي : إثمًا ، كما قال [الله] (2) تعالى : { وَمَنْ
يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود : 17].
وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم ، أهل الكتاب وغيرهم ، كما قال
تعالى : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام : 19]. فكل من بلغه القرآن
فهو نذير له وداع ، فمن اتبعه هدي ، ومن خالفه وأعرض عنه ضَلَّ وشقي في الدنيا ،
والنار موعده يوم القيامة ؛ ولهذا قال : { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ
يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا * خَالِدِينَ فِيهِ } أي : لا مَحِيد لهم
عنه ولا انفكاك { وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا } أي : بئس الحمل
حملهم. (3)
{ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا
(102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا (103) نَحْنُ
أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلا يَوْمًا (104) }.
ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الصُّور ، فقال :
"قَرنٌ يُنفَخ فيه" (4).
وقد جاء في حديث "الصور" من رواية أبي هريرة : أنه قرن عظيم ، الدَّارة
منه بقدر السماوات والأرض ، ينفخ فيه إسرافيل ، عليه السلام. وجاء في الحديث :
"كيف أنعَمُ وصاحب القَرْن قد التقم القَرْن ، وحنى جبهته ، وانتظر أن يؤذن
له" فقالوا : يا رسول الله ، كيف نقول ؟ قال : "قولوا : حسبنا الله ونعم
الوكيل ، على الله توكلنا" (5).
وقوله : { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا } قيل : معناه زُرْق
العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال.
{ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } قال ابن عباس : يتسارّون (6) بينهم ، أي : يقول
بعضهم لبعض : { إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا }
__________
(1) زيادة من ف.
(2) زيادة من ف.
(3) في ف : "عليهم".
(4) رواه أحمد في مسنده (2/192) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(5) سبق الحديث في الكلام عن الصور عند الآية : 73 من تفسير سورة الأنعام.
(6) في ف : "يتشاورون".
(5/315)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
أي :
في الدار الدنيا ، لقد كان لبثكم فيها قليلا عشرة أيام أو نحوها.
قال الله تعالى : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } أي : في حال تناجيهم بينهم
{ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي : العاقل الكامل فيهم ، { إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا } أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم [يوم المعاد ؛ لأن الدنيا
كُلَّها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها] (1) وساعاتها كأنها يوم واحد
؛ ولهذا تستقصر مدة (2) الحياة الدنيا يوم القيامة : وكان غرضهم في ذلك [درء] (3)
قيام الحجة عليهم ، لقصر المدة ؛ ولهذا قال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ
يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا
يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ
فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ
وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [الروم : 55 ، 56] ، وقال تعالى : {
أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ
النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [فاطر : 37] ، وقال
تعالى : { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا
يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا
قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [المؤمنون : 112 - 114] أي : إنما كان
لُبثكم فيها قليلا لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني ، ولكن تصرفتم فأسأتم
التصرف ، قَدَّمتُم الحاضر الفاني على الدائم الباقي.
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ
لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108) }
يقول تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } أي : هل تبقى يوم القيامة أو
تزول ؟ { فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا } أي : يذهبها عن أماكنها ويمحقها
ويسيرها تسييرًا.
{ فَيَذَرُهَا } أي : الأرض { قَاعًا صَفْصَفًا } أي : بساطًا واحدًا.
والقاع : هو المستوي من الأرض. والصفصف تأكيد لمعنى ذلك ، وقيل : الذي لا نبات
فيه. والأول أولى ، وإن كان الآخر مرادًا أيضًا باللازم ؛ ولهذا قال : { لا تَرَى
فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } أي : لا ترى في الأرض يومئذ واديًا ولا رابية ، ولا
مكانًا منخفضًا ولا مرتفعًا ، كذلك (4) قال ابن عباس ، وعكرمة ، ومجاهد ، والحسن
البصري ، والضحاك ، وقتادة ، وغير واحد من السلف.
{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ } أي : يوم يرون هذه الأحوال
والأهوال ، يستجيبون مسارعين إلى الداعي ، حيثما أمروا بادروا إليه ، ولو كان هذا
في الدنيا لكان أنفع لهم ، ولكن حيث (5) لا ينفعهم ، كما قال تعالى : { أَسْمِعْ
بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [مريم : 38] ، وقال : { مُهْطِعِينَ
إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر : 8].
قال محمد بن كعب القُرَظِي : يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة ، وتطوي (6)
السماء ،
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) في ف : "يستقصر الكافرون مدة".
(3) زيادة من ف ، أ".
(4) في أ : "وكذا".
(5) في ف : "حيث كان".
(6) في ف : "ويطوى".
(5/316)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
وتتناثر
(1) النجوم ، وتذهب (2) الشمس والقمر ، وينادي مناد ، فيتبع الناس الصوت [فيأتونه]
(3) فذلك قوله : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ }.
وقال قتادة : { لا عِوَجَ لَهُ } لا يميلون عنه.
وقال أبو صالح : { لا عِوَجَ لَهُ } لا عوج عنه.
وقوله : { وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } : قال ابن عباس : سكنت : وكذا قال
السدي.
{ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : يعني : وطء
الأقدام. وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، وقتادة ، وابن زيد
، وغيرهم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } : الصوت
الخفي. وهو رواية عن عكرمة ، والضحاك.
وقال سعيد بن جبير : { فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا } : الحديث ، وسره ، ووطء
الأقدام. فقد جمع سعيد كلا القولين وهو محتمل ، أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس
إلى المحشر ، وهو مشيهم في سكون وخضوع. وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال
، فقد قال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [هود : 105].
{ يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ
وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ
وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112) }.
يقول تعالى : { يَوْمَئِذٍ } أي : يوم القيامة { لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ } أي :
عنده { إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا } كقوله : { مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ } [البقرة : 255] ، وقوله : {
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ
بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } [النجم : 26] ، وقال : {
وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء : 28] وقال : { وَلا تَنْفَعُ
الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [سبأ : 23] ، وقال : { يَوْمَ
يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ : 38].
وفي الصحيحين ، من غير وجه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم ،
وأكرم الخلائق على الله عز وجل أنه قال : "آتي تحت العرش ، وأخر (4) لله
ساجدًا ، ويَفْتَح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن ، فيدعني (5) ما شاء الله أن يدعني
، ثم يقول : يا محمد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع (6) واشفع تشفع". قال :
"فيحد لي حدًّا ، فأدخلهم الجنة ، ثم أعود" ، فذكر أربع مرات ، صلوات الله
وسلامه عليه
__________
(1) في ف : "ويتناثر".
(2) في ف : "ويذهب".
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف ، أ : "فأخر".
(5) في ف : "ويدعني".
(6) في ف : "تسمع".
(5/317)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
وعلى
سائر الأنبياء.
وفي الحديث [أيضًا] (1) يقول تعالى : أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من
إيمان ، فَيُخْرِجُون خلقا كثيرا ، ثم يقول : أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف
مثقال من إيمان ، أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرّة ، من كان في قلبه
أدنى أدنى أدنى مثقال ذرّة من إيمان" الحديث. (2)
وقوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي : يحيط علما
بالخلائق كلهم ، { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } كقوله : { وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } [البقرة : 255].
وقوله : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } قال ابن عباس ، وغير واحد
: خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت ، القيوم : الذي لا ينام
، وهو قيم على كل شيء ، يدبره ويحفظه ، فهو الكامل في نفسه ، الذي كل شيء فقير
إليه ، لا قوام له إلا به.
وقوله : { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا } أي : يوم القيامة ، فإن الله سيؤدي
كل حق إلى صاحبه ، حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء.
وفي الحديث : "يقول الله تعالى : وعزتي وجلالي ، لا يجاوزني اليوم ظلم
ظالم" (3).
وفي الصحيح : "إياكم والظلم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" (4).
والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو مشرك به ؛ فإن الله تعالى يقول : { إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13]
وقوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ
ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } لما ذكر الظالمين ووعيدهم ، ثنى بالمتقين وحكمهم ، وهو
أنهم لا يُظْلَمُون ولا يُهضَمون ، أي : لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم
(5). قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد. فالظلم :
الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره ، والهضم : النقص.
{ وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) }
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) انظر : أحاديث الشفاعة عند تفسير الآية : 79 من سورة الإسراء.
(3) في ف ، أ : "الظالم".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (2390) من حديث جابر بلفظ : "اتقوا الظلم فإن
الظلم ظلمات يوم القيامة".
(5) في ف : "سيئاته ولا ينقص من حسناته".
(5/318)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) }
يقول : ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقعا لا محالة ، أنزلنا القرآن
بشيرًا ونذيرًا ، بلسان
(5/318)
عربي
مبين فصيح (1) لا لبس فيه ولا عيّ ، { وَصَرَّفْنَا (2) فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : يتركون المآثم والمحارم والفواحش ، { أَوْ يُحْدِثُ
لَهُمْ ذِكْرًا } وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات. { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ
الْحَقُّ } أي : تنزه وتقدس (3) الملك الحق ، الذي هو حق ، ووعده حق ، ووعيده حق ،
ورسله حق ، والجنة حق ، والنار حق ، وكل شيء منه حق. وعدله تعالى ألا يعذب أحدًا
قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه ؛ لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
وقوله : { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ
} كقوله تعالى في سورة "لا أقسم بيوم القيامة" { لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا
قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة :
16 - 19] ، وثبت في الصحيح عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يعالج من الوحي شدّة ، فكان مما يحرّك لسانه ، فأنزل (4) الله هذه الآية (5) يعني
: أنه ، عليه السلام ، كان إذا جاءه جبريل بالوحي ، كلما قال جبريل آية قالها معه
، من شدّة حرصه على حفظ (6) القرآن ، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف
في حقه ؛ لئلا يشق عليه. فقال : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } أي : أن نجمعه في صدرك ، ثم تقرأه على
الناس من غير أن تنسى منه شيئًا ، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وقال في هذه الآية : { وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي : بل أنصت ، فإذا
فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده ، { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } أي :
زدني منك علمًا.
قال ابن عُيَيْنَة ، رحمه الله : ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة [من العلم]
(7) حتى توفاه الله عز وجل.
ولهذا جاء في الحديث : "إن الله تابع الوحي على رسوله ، حتى كان الوحي أكثر
ما كان يوم تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم (8) وقال ابن ماجه : حدثنا أبو
بكر بن أبى شيبة ، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن
ثابت ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
: "اللهم انفعني بما علَّمتني ، وعلمني ما ينفعني ، وزدني علمًا ، والحمد لله
على كل حال" (9).
وأخرجه الترمذي ، عن أبي كُرَيْب ، عن عبد الله بن نُمَيْر ، به. وقال : غريب من
هذا الوجه. ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس ، عن أبي عاصم ، عن موسى بن عبيدة
، به. وزاد في آخره : "وأعوذ بالله من حال أهل النار".
__________
(1) في ف : "فصيح اللسان".
(2) في أ : "وصرفنا ما فيه" وهو خطأ.
(3) في ف : "تقدس وتنزه".
(4) في ف : "فنزل".
(5) صحيح البخاري برقم (5) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(6) في ف ، أ : "تحفظ".
(7) زيادة من ف.
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (4982) من حديث أنس رضي الله عنه.
(9) سنن ابن ماجه برقم (251) وسنن الترمذي برقم (3599).
(5/319)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
{
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا
(115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ
أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا
يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا
وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ
إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ
وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا
وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ،
عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي. وكذا
رواه علي بن أبي طلحة ، عنه.
وقال مجاهد والحسن : تَرَكَ.
وقوله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ } يذكر تعالى تشريف آدم
وتكريمه ، وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلا.
وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة "البقرة" وفي
"الأعراف" وفي "الحجر" و"الكهف" (1) وسيأتي في آخر
سورة "ص" (2) [إن شاء الله تعالى ]. (3) يذكر فيها تعالى خَلْقَ آدم وأَمْرَه
الملائكة بالسجود له تشريفًا وتكريمًا ، ويبين (4) عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم
قديمًا ؛ ولهذا قال تعالى : { فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى } أي : امتنع
واستكبر. { فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ } يعني :
حواء ، عليهما السلام { فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } أي :
إياك أن يسعى (5) في إخراجك منها ، فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك ، فإنك هاهنا في
عيش رغيد هنيء ، لا (6) كلفة ولا مشقة.
{ إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى } إنما قرن بين الجوع والعُرْي ؛ لأن
الجوع ذُلّ الباطن ، والعري ذُلّ الظاهر.
{ وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } وهذان أيضًا متقابلان ، فالظمأ :
حر الباطن ، وهو العطش. والضحى : حر الظاهر.
وقوله : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى
شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } قد تقدم أنه (7) { دَلاهُمَا بِغُرُور }
[الأعراف : 22] ؛ { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ }
[الأعراف : 21]. وقد
__________
(1) انظر : تفسير سورة البقرة ، الآيات : 30 - 38 ، وتفسير سورة الأعراف ، الآيات
: 11 - 24 ، وتفسير سورة الحجر ، الآيات : 28 - 40 ، وتفسير سورة الكهف ، الآية :
50.
(2) عند تفسير الآيات : 71 - 85.
(3) زيادة من ف ، أ.
(4) في ف : "وبين".
(5) في ف : "تسعى".
(6) في ف ، أ : "بلا".
(7) في ف : "أنهما".
(5/320)
تقدم
أن الله تعالى أوحى إلى آدم وزوجته أن يأكلا من كل الثمار ، ولا يقربا هذه الشجرة
المعينة في الجنة. فلم يزل بهما إبليس حتى أكلا منها ، وكانت شجرةَ الخلد - يعني :
التي من أكل منها خلد ودام مكثه. وقد جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد ، فقال أبو
داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن أبي الضحاك (1) سمعت أبا هريرة يحدث ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ، ما
يقطعها وهي شجرة الخلد". ورواه الإمام أحمد. (2).
وقول : { فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } قال ابن أبي حاتم :
حدثنا علي بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا علي بن عاصم ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن
قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر (3) الرأس ، كأنه نخلة سَحُوق. فلما
ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته. فلما نظر إلى عورته جعل
يَشْتَد في الجنة ، فأخذتْ شعرَه شجرة ، فنازعها ، فنادى الرحمن : يا آدم ، منِّي
تفر ؟ فلما سمع كلام الرحمن قال : يا رب ، لا ولكن استحياء (4) أرأيت إن تبت ورجعت
، أعائدي إلى الجنة ؟ قال : نعم" فذلك قوله : { فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } (5)
وهذا منقطع بين الحسن وأُبيّ بن كعب ، فلم يسمعه منه ، وفي رفعه نظر أيضًا.
وقوله : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } قال مجاهد
: يرقعان كهيئة الثوب. وكذا قال قتادة ، والسدي.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر ، عن (6) عون ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي ليلى ،
عن المِنْهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ
عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } قال : ينزعان ورق التين ، فيجعلانه على
سوآتهما.
وقوله : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ
عَلَيْهِ وَهَدَى } قال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا أيوب بن النجار ، عن يحيى
بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"حاجّ موسى آدم ، فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم ؟
قال آدم : يا موسى ، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه ، أتلومني على أمر قد
كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني - أو : قدره الله عليّ قبل أن يخلقني - " قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فحج آدم موسى". (7)
__________
(1) في ف ، أ : "أبي الضحى".
(2) مسند الطياليسي برقم (2547) والمسند للإمام أحمد (2/455).
(3) في ف : "الشعر".
(4) في ف ، أ : "أستحيي"
(5) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية : 37 من سورة البقرة.
(6) في ف ، أ : "ابن".
(7) صحيح البخاري برقم (4738).
(5/321)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
وهذا
الحديث له طرق في الصحيحين ، وغيرهما من المسانيد (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني أنس بن
عياض ، عن الحارث بن أبي ذُبَابَ ، عن يزيد بن هرمز قال : سمعت أبا هريرة يقول :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حَجَّ آدمُ وموسى عند ربهما ، فحج آدم
موسى ، قال موسى : أنت الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته
، وأسكنك في جنته ، ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك ؟ قال آدم : أنت موسى الذي
اصطفاك الله برسالته وكلامه ، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ، وقربك نَجِيًّا
، فبكم وجدتَ الله كتب التوراة [قبل أن أخلق] (2) قال موسى : بأربعين عامًا. قال
آدم : فهل وجدتَ فيها { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } قال : نعم. قال :
أفتلومني على أن عملتُ عملا كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فحج آدم موسى".
قال الحارث : وحدثني عبد الرحمن بن هُرْمزُ بذلك ، عن أبى هريرة ، عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم. (3).
{ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى
(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ
كُنْتُ بَصِيرًا (125) }
__________
(1) انظر : صحيح البخاري برقم (4736) وصحيح مسلم برقم (2652).
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (2652) من طريق أنس بن عياض عن الحارث بن أبي ذياب عن
يزيد بن هرمز وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5/322)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
{
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى
(126) }.
يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس : اهبطوا منها جميعًا ، أي : من الجنة كلكم. وقد
بسطنا ذلك في سورة البقرة".
{ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } قال : آدم وذريته ، وإبليس وذريته.
وقوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى } قال أبو العالية : الأنبياء
والرسل والبيان.
{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } قال ابن عباس : لا يضل في
الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة.
{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي } أي : خالف أمري ، وما أنزلته على رسولي ، أعرض
عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } أي : في الدنيا
، فلا طمأنينة له ، ولا انشراح لصدره ، بل صدره [ضيق] (1) حَرَج لضلاله ، وإن
تَنَعَّم ظاهره ، ولبس ما شاء وأكل ما شاء ، وسكن حيث شاء ، فإن قلبه
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(5/322)
ما
لم يخلص إلى اليقين والهدى ، فهو في قلق وحيرة وشك ، فلا يزال في ريبة يتردد. فهذا
من ضنك المعيشة.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال :
الشقاء.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : كل مال (1)
أعطيته عبدًا من عبادي ، قل أو كثر ، لا يتقيني فيه ، فلا خير فيه ، وهو الضنك في
المعيشة. ويقال : إن قومًا ضُلالا أعرضوا عن الحق ، وكانوا في سعة من الدنيا
متكبرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ؛ [و] (2) ذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفًا
لهم معايشهم ، من سوء ظنّهم بالله والتكذيب ، فإذا كان العبد يكذب بالله ، ويسيء
الظن به والثقة به اشتدت عليه معيشته ، فذلك الضنك.
وقال الضحاك : هو العمل السيئ ، والرزق الخبيث ، وكذا قال عكرمة ، ومالك بن دينار.
وقال سفيان بن عيينة ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد في قوله : {
مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : يضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه فيه. قال أبو حاتم
الرازي : النعمان بن أبي عياش (3) يكنى أبا سلمة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا صفوان ، حدثنا الوليد ، حدثنا عبد
الله بن لهيعة ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال
: "ضمة القبر" الموقوف أصح. (4)
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا
ابن لهيعة ، حدثنا دراج أبو السمح ، عن ابن حُجَيْرة - اسمه عبد الرحمن - عن أبي
هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : المؤمن في قبره في روضة خضراء ،
ويرحب له في قبره سبعون ذراعا ، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر ، أتدرون فيم
أنزلت هذه الآية : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } ؟ أتدرون ما المعيشة الضنك
؟" قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده ،
إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تِنِّينًا ، أتدرون ما التنين ؟ تسعة وتسعون حية ، لكل
حية سبعة رؤوس ، ينفخون في جسمه ، ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون". (5).
رفعه منكر جدًا.
وقال البزار : حدثنا محمد بن يحيى الأزدي ، حدثنا محمد بن عمرو (6) حدثنا هشام بن
سعد ، عن سعيد بن أبي هلال ، [عن أبي حُجَيْرة] (7) عن أبي هريرة ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم في قول الله عز وجل : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال :
"المعيشة الضنك الذي قال الله تعالى : أنه يسلط عليه تسعة وتسعون
__________
(1) في هـ : "ما" والمثبت من ف ، أ.
(2) زيادة من ف.
(3) في ف : "عياض".
(4) والمرفوع في إسناده دراج عن أبي الهيثم وهو ضعيف.
(5) ورواه أبو يعلى في مسنده (11/521) من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج
به.
(6) في ف : "محمد بن عمر".
(7) زيادة من ف ، أ.
(5/323)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
حية ،
ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة" (1).
وقال أيضًا : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن
محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : {
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قال : "عذاب القبر". إسناد جيد (2).
وقوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } قال مجاهد ، وأبو صالح ،
والسدي : لا حجة له.
وقال عكرمة : عُمِّي عليه كل شيء إلا جهنم.
ويحتمل أن يكون المراد : أنه يُحشَر أو يبعث (3) إلى النار أعمى البصر والبصيرة
أيضًا ، كما قال تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ
عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ
سَعِيرًا } [الإسراء : 97]. ولهذا يقول : { رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ
كُنْتُ بَصِيرًا } أي : في الدنيا.
{ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى }
أي : لما أعرضت عن آيات الله ، وعامَلْتها معاملة من لم يذكرها ، بعد بلاغها إليك
تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها ، كذلك نعاملك [اليوم] (4) معاملة من ينساك (5) {
فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [الأعراف : 51]
فإن الجزاء من جنس العمل ، فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه ،
فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص ، وإن كان مُتَوَعدًا عليه من جهة أخرى ، فإنه قد
وردت السنة بالنهي الأكيد ، والوعيد الشديد في ذلك ، قال الإمام أحمد :
حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا خالد ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عيسى بن فائد ، عن
رجل ، عن سعد بن عبادة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ما من رجل قرأ القرآن فنسيه ، إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم" (6).
ثم رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد ، عن عيسى بن فائد ، عن عبادة بن
الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله سواء (7).
{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) }
يقول تعالى : وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة ، {
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا
لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ } [الرعد : 34] ولهذا قال : { وَلَعَذَابُ
الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } أي : أشد ألمًا من عذاب الدنيا ، وأدوم عليهم ، فهم
مخلدون فيه ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين : "إن عذاب
الدنيا أهون من عذاب الآخرة".
__________
(1) مسند البزار برقم (2233) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع
(7/67) "فيه من لم أعرفه".
(2) وروي من حديث أبي سعيد مثله ، ورواه الحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة في
المصنف.
(3) في ف : "أن يبعث أو يحشر".
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف ، أ : "نسيك".
(6) المسند (5/285).
(7) المسند (5/323).
(5/324)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ
فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى (128) وَلَوْلا
كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ
النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) }.
يقول تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ } لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به : يا محمد ، كم
أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم ، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر ،
كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها ، يمشون فيها ، { إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى } أي : العقول الصحيحة والألباب المستقيمة ، كما
قال تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ
يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى
الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج : 46] ،
وقال في سورة "الم السجدة" : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا
مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ
لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ } [السجدة : 26].
قال تعالى : { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ
مُسَمًّى } أي : لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه (1) لا يعذب أحدًا إلا بعد
قيام الحجة عليه ، والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة
معينة لجاءهم العذاب بغتة ؛ ولهذا قال لنبيه مسليًا له : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا
يَقُولُونَ } أي : من تكذيبهم لك ، { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ } يعني : صلاة الفجر ، { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } يعني : صلاة العصر ، كما
جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله البَجَليّ رضي الله عنه قال : كنا جلوسًا عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر ، فقال : " إنكم
سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تُضَامُّون في رؤيته ، فإن استطعتم ألا تغلبوا
على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، فافعلوا" ثم قرأ هذه الآية (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عمارة بن
رُوَيْبة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لن يَلجَ النار
أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ".
رواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير ، به (3).
وفي المسند والسنن ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "
إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألف سنة ، ينظر إلى أقصاه كما ينظر
إلى أدناه ، وإن أعلاهم منزلة لَمَنْ ينظر إلى الله عز وجل في اليوم مرتين "
(4).
__________
(1) في ف : "أن".
(2) صحيح البخاري برقم (554) وصحيح مسلم برقم (633).
(3) المسند (4/136) ، وصحيح مسلم برقم (634).
(4) المسند (2/13) وسنن الترمذي برقم (3330) وقال : "هذا حديث غريب".
(5/325)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
وقوله
: { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ } أي : من ساعاته فتهجد به. وحمله بعضهم
على المغرب والعشاء ، { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } في مقابلة آناء الليل ، {
لَعَلَّكَ تَرْضَى } كما قال تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }
[الضحى : 5].
وفي الصحيح : " يقول الله : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك.
فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى ، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من
خلقك ؟ فيقول : إني أعطيكم أفضل من ذلك. فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول :
أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبدًا " (1).
وفي الحديث [الآخر] (2) يقال : " يا أهل الجنة ، إن لكم (3) عند الله موعدا
يريد أن يُنْجزكُمُوه. فيقولون : وما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا
ويزحزحنا عن النار ، ويدخلنا (4) الجنة ؟ فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما
أعطاهم خيرًا من النظر إليه ، وهي (5) الزيادة " (6).
{ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ
وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا
نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) }
يقول تعالى لنبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه : لا تنظر إلى هؤلاء المترفين (7)
وأشباههم ونظرائهم ، وما فيه من النعم (8) فإنما هو زهرة زائلة ، ونعمة حائلة ،
لنختبرهم بذلك ، وقليل من عبادي الشكور.
وقال مجاهد : { أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } يعني : الأغنياء فقد آتاك [الله] (9) خيرًا
مما آتاهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ
الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا
مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ } [الحجر : 87 ، 88] ، وكذلك (10) ما ادخره
الله تعالى لرسوله في الدار الآخرة أمر عظيم لا يُحَدّ ولا يوصف ، كما قال تعالى :
{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [الضحى : 5] ولهذا قال : { وَرِزْقُ
رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى }.
وفي الصحيح : أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك
المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه ، حين آلى منهم فرآه متوسدًا مضطجعًا على
رمال حصير وليس في البيت إلا صُبْرَة من قَرَظ ، وأهَب (11) معلقة ، فابتدرت عينا
عمر بالبكاء ، فقال رسول الله : " ما يبكيك (12) ؟ ".
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6549) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(2) زيادة من ف ، أ.
(3) في ف : "بكم".
(4) في ف : "تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا وتزحزحنا عن النار وتدخلنا".
(5) في أ : "وهو".
(6) رواه مسلم في صحيحه برقم (181) من حديث صهيب رضي الله عنه.
(7) من أ : "إلى ما متعنا به هؤلاء المسرفين".
(8) في ف ، أ : "النعيم".
(9) زيادة من ف ، أ.
(10) في ف : "ولذلك".
(11) في أ : "واهية".
(12) في ف : "ما يبكيك يا عمر ؟".
(5/326)
فقال
: يا رسول الله ، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه ، وأنت صفوة الله من خلقه ؟ فقال :
"أوفي شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في حياتهم
الدنيا ". (1)
فكان صلوات الله وسلامه عليه (2) أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها ، إذا حصلت
له ينفقها هكذا وهكذا ، في عباد الله ، ولم يدخر لنفسه شيئًا لغد.
قال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس ، أخبرني ابن وهب ، أخبرني مالك ، عن زيد بن أسلم
، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سعيد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله (3) من زهرة (4) الدنيا ". قالوا
: وما زهرة الدنيا يا رسول الله ؟ قال : " بركات الأرض " (5).
وقال قتادة والسدي : زهرة الحياة الدنيا ، يعني : زينة الحياة الدنيا.
وقال قتادة { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } لنبتليهم.
وقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } أي : استنقذهم
من عذاب الله بإقام الصلاة ، واصطبر أنت على فعلها كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } [التحريم : 6].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب أخبرني هشام
بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه : أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ ،
وكان له ساعة من الليل يصلي فيها ، فربما لم يقم (6) فنقول : لا يقوم الليلة كما
كان يقوم ، وكان إذا [استيقظ أقام] (7) - يعني أهله - وقال : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } (8).
وقوله : { لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ } يعني (9) إذا أقمت الصلاة
أتاك الرزق من حيث لا تحتسب ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ
لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب } [الطلاق : 2 ، 3] ، وقال
تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ
مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } [الذاريات : 56 - 58] ولهذا قال : { لا
نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ } وقال الثوري : { لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا }
أي : لا نكلفك الطلب. وقال ابن أبي حاتم [أيضًا] (10) حدثنا أبو سعيد الأشج ،
حدثنا حفص بن غياث ، عن هشام ، عن أبيه ؛ أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا ، فرأى من
دنياهم طرفًا فإذا رجع إلى أهله ، فدخل الدار
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4913).
(2) في ف ، أ : "عليه وسلامه".
(3) في أ : "يفتح الله لكم".
(4) في أ : "زهرة الحياة الدنيا".
(5) أصله في صحيح البخاري برقم (2842) وصحيح مسلم برقم (1052) من طريق عطاء عن أبي
سعيد الخدري ولفظه : "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من زهرة
الدنيا".
(6) في ف ، أ : "لم ينم".
(7) زيادة من ف ، أ.
(8) ورواه مالك في الموطأ (1/119) عن زيد بن أسلم عن أبيه بنحوه.
(9) في ف : "أي".
(10) زيادة من ف ، أ.
(5/327)
قرأ
: { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } إلى قوله : { نَحْنُ نَرْزُقُكَ } ثم يقول :
الصلاة الصلاة ، رحمكم الله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن أبي زياد القَطَوَاني ، حدثنا
سَيَّار ، حدثنا جعفر ، عن ثابت قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه
خصاصة نادى أهله : " يا أهلاه ، صلوا ، صلوا ". قال ثابت : وكانت (1)
الأنبياء إذا نزل بهم (2) أمر فزعوا إلى الصلاة. (3)
وقد روى الترمذي وابن ماجه ، من حديث عمران بن زائدة ، عن أبيه ، عن أبي خالد
الوالبي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول
الله تعالى : يا ابن آدم تَفَرَّغ لعبادتي أمْلأ صدرك غنى ، وأسدّ فقرك ، وإن لم
تفعل ملأتُ صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك " (4).
وروى ابن ماجه من حديث الضحاك ، عن الأسود ، عن ابن مسعود : سمعت نبيكم صلى الله
عليه وسلم يقول : " من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله هَمّ دنياه.
ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك " (5).
وروي أيضًا من حديث شعبة ، عن عُمَر بن سليمان (6) عن عبد الرحمن بن أبان ، عن
أبيه ، عن زيد بن ثابت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كانت
الدنيا هَمَّه فرَّق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا
إلا ما كُتِبَ له. ومن كانت الآخرة نيَّته ، جمع له أمره ، وجعل غناه في قلبه ،
وأتته الدنيا وهي راغمة " (7).
{ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } أي : وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، وهي الجنة
، لمن اتقى الله.
وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت الليلة كأنا في
دار عقبة بن رافع وأنا أتينا برطب [من رطب] (8) ابن طاب ، فأولت ذلك أن العاقبة
لنا في (9) الدنيا والرفعة وأن ديننا قد طاب " (10).
__________
(1) في ف : "وكان".
(2) في أ : "بها".
(3) ورواه الإمام أحمد في الزهد برقم (48) عن سيار به ، دون قول ثابت.
(4) سنن الترمذي برقم (2466) وسنن ابن ماجه برقم (4107) وقال الترمذي : "هذا
حديث حسن غريب".
(5) سنن ابن ماجه برقم (4106).
(6) في ف : "عمرو بن سليم".
(7) سنن ابن ماجه برقم (4105). وقال البوصيري في الزوائد (3/271) : "هذا
إسناد صحيح ، رجاله ثقات".
(8) زيادة من ف ، أ ، ومسلم.
(9) في ف : "في الدار الدنيا".
(10) صحيح مسلم برقم (2270) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(5/328)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{
وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ
مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ
قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ
آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ
فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ
اهْتَدَى (135) }.
يقول تعالى مخبرًا عن الكفار في قولهم : { لَوْلا } أي : هلا { يَأْتِينَا } محمد
{ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ } أي : بعلامة دالة على صدقه في أنه رسول الله ؟ قال الله
تعالى : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى } يعني :
القرآن العظيم الذي أنزله عليه الله (1) وهو أمي ، لا يحسن الكتابة ، ولم يدارس
أهل الكتاب ، وقد جاء فيه أخبار الأولين ، بما كان منهم (2) في سالف الدهور ، بما
يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها ؛ فإن القرآن مهيمن عليها ، يصدق الصحيح
، ويُبَيّن خطأ المكذوب فيها وعليها. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة
"العنكبوت" : { وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ (3) عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ
رَبِّهِ قُلْ (4) إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ
مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى
عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
[العنكبوت : 50 ، 51] وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي
أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة
" (5).
وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها ، عليه السلام ، وهو القرآن ، وله من
المعجزات ما لا يحد ولا يحصر ، كما هو مودع في كتبه ، ومقرر في مواضعه.
ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ
لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا } أي : لو أنا أهلكنا
هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل (6) إليهم هذا الرسول الكريم ، وننزل عليهم هذا الكتاب
العظيم لكانوا قالوا : { رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا } قبل أن
تهلكنا ، حتى نؤمن به ونتبعه ؟ كما قال : { فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَذِلَّ وَنَخْزَى } ، يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون {
وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 97]
، كما قال تعالى : { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ
وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ
عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ
لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا
أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي
الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ
} [الأنعام : 155 - 157] وقال : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ
جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ
نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا } [فاطر : 42] وقال : { وَأَقْسَمُوا
بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا
قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ
لا يُؤْمِنُونَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا
بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام :
109 ، 110].
__________
(1) في ف : "أنزله الله عليه".
(2) في ف ، أ : "فيهم".
(3) في ف : "نزل".
(4) في ف : "فقل".
(5) صحيح البخاري برقم (4981) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) في ف ، أ : "يرسل".
(5/329)
ثم
قال تعالى { قُلْ } أي : يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده { كُلٌّ
مُتَرَبِّصٌ } أي : منا ومنكم { فَتَرَبَّصُوا } أي : فانتظروا ، {
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ } أي : الطريق المستقيم ، {
وَمَنِ اهْتَدَى } إلى الحق وسبيل الرشاد ، وهذا كقوله (1) تعالى { وَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا } [الفرقان : 42] ، {
سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ } [القمر : 26].
آخر تفسير سورة طه ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في هـ : "قوله" والمثبت من ف ، أ.
(5/330)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
سورة
الأنبياء
وهي مكية.
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غُنْدَر ، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق :
سمعت عبد الرحمن بن يزيد (1) ، عن عبد الله قال : بنو إسرائيل ، والكهف ، ومريم ،
وطه ، والأنبياء ، هن من العتاق الأول ، وهن من تلادي (2).
بسم الله الرحمن الرحيم
{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ
يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ
تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ
هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) }
هذا تنبيه من الله ، عز وجل ، على اقتراب الساعة ودنوها ، وأن الناس في غفلة عنها
، أي : لا يعملون لها ، ولا يستعدون من أجلها.
وقال النسائي : حدثنا أحمد بن نصر ، حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي
، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى
الله عليه وسلم { فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } قال : "في الدنيا" (3) ،
وقال تعالى : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] ، وقال
[تعالى] (4) : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا
آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } [ القمر : 1 ، 2 ]
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانئ أبي نُوَاس الشاعر أنه قال :
أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث يقول :
النَّاس في غَفَلاتِهِمْ... وَرَحا المِنيَّة تَطْحَنُ...
فقيل له : من أين أخذ (5) هذا ؟ قال (6) : من قوله تعالى : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } (7).
__________
(1) في أ : "زيد".
(2) صحيح البخاري برقم (4739).
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (11332).
(4) زيادة من ف ، أ.
(5) في ف ، أ : "أخذت".
(6) في ف ، أ : "فقال".
(7) تاريخ دمشق (4/611 "المخطوط").
(5/331)
[وروى
في ترجمة "عامر بن ربيعة" ، من طريق موسى بن عبيدة الآمدي ، عن عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن عامر ابن ربيعة : أنه نزل به رجل من العرب ،
فأكرم عامر مثواه ، وكلّم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه الرجل فقال :
إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم واديًا في العرب ، وقد أردت أن أقطعَ
لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك. فقال عامر : لا حاجة لي في قطيعتك ، نزلت
اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي
غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } ] (1) (2).
ثم أخبر تعالى أنهم لا يُصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله ، والخطاب مع
قريش ومن شابههم من الكفار ، فقال : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ
مُحْدَثٍ } أي : جديد إنزاله { إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } كما قال
ابن عباس : ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حَرفوه وبدلوه وزادوا فيه
ونقصوا منه ، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرءونه محضًا لم يشب. ورواه البخاري بنحوه
(3).
وقوله : { وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : قائلين فيما بينهم
خفْيَةً { هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ } يعنونَ رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، يستبعدون كونه نبيًا ؛ لأنه بَشَرٌ مثلهم ، فكيف اختص بالوحي دونهم ؛ ولهذا
قال : { أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ } ؟ أي : أفتتبعونه
فتكونون كمن أتى (4) السحر وهو يعلم أنه سحر. فقال تعالى مجيبًا لهم عما افتروه
واختلقوه من الكذب.
{ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ } أي : الذي يعلم ذلك
، لا يخفى عليه خافية ، وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين
والآخرين ، الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ، إلا الذي يعلم السر في السموات
والأرض.
وقوله : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [أي : السميع] (5) لأقوالكم ، { الْعَلِيم
} بأحوالكم. وفي هذا تهديد لهم ووعيد.
وقوله : { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ } هذا إخبار عن تعنت
الكفار وإلحادهم ، واختلافهم فيما يصفون به (6) القرآن ، وحيرتهم فيه ، وضلالهم
عنه. فتارة يجعلونه سحرًا ، وتارة يجعلونه شعرًا ، وتارة يجعلونه أضغاث أحلام ،
وتارة يجعلونه مفتري ، كما قال : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ
فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } [ الإسراء : 48 ، والفرقان : 9 ].
وقوله : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ } : يعنون ناقة صالح
، وآيات موسى وعيسى. وقد قال الله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ
بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ
مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } [الآية] (7) [ الإسراء : 59 ] ؛ ولهذا قال تعالى :
{ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } أي
: ما آتينا قرية من القرى الذين بعث فيهم الرسل آية على يَدَيْ نبيها فآمنوا بها ،
بل كذبوا ، فأهلكناهم
__________
(1) زيادة من ف ، أ.
(2) تاريخ دمشق (8/680 "المخطوط").
(3) صحيح البخاري برقم (7522).
(4) في أ : "يأتي".
(5) زيادة من ف ، أ.
(6) في ف ، أ : " فيه".
(7) زيادة من ف.-----------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق